تفسير سورة ق

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة ق من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا قوله تعالى ﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض ﴾ الآية مدنية، وهي خمس وأربعون آية وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفاً
﴿ بسم الله ﴾ أي : الذي أحاط علمه بجميع خلقه العاكف منهم والبادي ﴿ الرحمن ﴾ أي الذي عمّ خلقه برحمته حين أرسل إليهم بشرائعه أصدق العباد ﴿ الرحيم ﴾ أي : الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرشاد.

واختلف في تفسير قوله عز من قائل :﴿ ق ﴾ فقال ابن عباس : هو قسم. وقيل : هو اسم للسورة. وقيل : اسم من أسماء القرآن. وقال القرطبي : هو مفتاح اسمه قدير وقادر وقاهر وقريب وقابض. وقال عكرمة والضحاك : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ومنه خضرة السماء والسماء مقيبة عليه وعليه كنفاها ويقال هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة قيل : متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كنفاها. قال الرازي : وهذا القول ضعيف لوجوه : أحدها : أنّ أكثر القرّاء يقف عليها ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأنّ من قال ذلك قال : إنّ الله تعالى أقسم به. ثانيها : أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب عين جارية ويكتب ﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾ [ الزمر : ٣٦ ]
وفي جميع المصاحف تكتب حرف ق. ثالثها : أنّ الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في ص ون وحم وهي حروف لا كلمات فكذلك في ق فإن قيل : هو منقول عن ابن عباس نقول : المنقول عنه أنّ القاف اسم جبل، وأمّا أنّ المراد هاهنا ذلك فلا ا. ه.
وقيل : معناه قضى الأمر وقضى ما هو كائن كما قالوا في ﴿ حم ﴾ وفي ﴿ ص ﴾ صدق الله. قال الرازي : وقد ذكرنا أنّ الحروف تنبيهات قدّمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الإسماع فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق وذكرنا أيضاً أنّ العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ظاهرة ووجد في الجارحية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعقل معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر وصفات الله تعالى وصدق الرسل ووجد فيها ما لم يعقل ولا يمكن التصديق به لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر. والميزان الذي توزن به الأعمال.
فكذلك ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية فيها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلاً منه وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كل حروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد للأمر لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولك : ربنا اغفر لنا وارحمنا بل يكون النطق به تعبداً محضاً.
ويؤيد هذا وجه آخر : وهو أنّ هذه الحروف مقسم بها لأنّ الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفاً لهما فإذا أقسم بالحروف التي هل أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى، وإذا عرفت هذا فنقول القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى :﴿ والعصر ﴾ [ العصر : ١ ]
وقوله تعالى :﴿ والنجم ﴾ [ النجم : ١ ] بحرف واحد كما في قوله تعالى :﴿ ص ﴾ و﴿ ن ﴾ ووقع بأمرين كما في قوله تعالى :﴿ والضحى١ والليل إذا سجى ﴾ [ الضحى : ١ ] وفي قوله تعالى :﴿ والسماء والطارق ﴾ [ الطارق : ١ ] وبحرفين كما قال في قوله تعالى :﴿ طه ﴾ [ طه : ١ ] و﴿ طس ﴾ [ النمل : ١ ] و﴿ حم ﴾ [ غافر : ١ ] ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى :﴿ والصافات صفا ١ فالزاجرات زاجرا ٢ فالتاليات ﴾ [ الصافات : ١ ٣ ] وقوله تعالى :﴿ والسماء ذات البروج ١ واليوم الموعود ٢ وشاهد ومشهود ﴾ [ البروج : ١ ٣ ] بثلاثة أحرف كما في قوله تعالى :﴿ ألم ﴾ [ البقرة : ١ ] و﴿ طسم ﴾ [ الشعراء : ١ ] ﴿ الر ﴾ [ يونس : ١ ] ووقع بأربعة أمور كما في قوله تعالى :﴿ والذاريات ذروا ١ فالحاملات وقرا ٢ فالجاريات يسرا ٣ فالمقسمات أمرا ﴾ [ الذاريات : ١ - ٤ ] وفي قوله تعالى :﴿ والتين والزيتون ١ وطور سنين ٢ وهذا البلد الأمين ﴾ [ التين : ١ ٣ ] وبأربعة أحرف كما في قوله تعالى :﴿ المص ﴾ [ الأعراف : ١ ] و﴿ المر ﴾ [ الرعد : ١ ] ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى :﴿ والطور ١ وكتاب مسطور ٢ رق منشور ٣ والبيت المعمور ٤ والسقف المرفوع ٥ والبحر المسجور ﴾ [ الطور : ١ ٦ ] وفي قوله تعالى :﴿ والمرسلات عرفا ١ فالعاصفات عصفا ٢ والناشرات نشرا ٣ فالفارقات فرقا ٤ فالملقيات ﴾ [ المرسلات : ١ ٥ ] وفي النازعات وفي الفجر وبخمسة أحرف كما في قوله تعالى :﴿ كهيعص ﴾ [ مريم : ١ ]
و﴿ حم ١ عسق ﴾ [ الشورى : ١ ٢ ] ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي ﴿ والشمس وضحاها ﴾ [ الشمس : ١ ] ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال :﴿ والطور والنجم والشمس ﴾ وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل وحم وق لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً به فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحرف وغيره ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخل بالنظم.
وقوله تعالى :﴿ والقرآن ﴾ أي : الكتاب الجامع الفارق ﴿ المجيد ﴾ أي : الذي له العلوّ والشرف والكرم والعظمة على كل كلام قسم وفي جوابه أوجه :
أحدها : قوله تعالى ﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ﴾ ثانيها ﴿ ما يبدل القول لديّ ﴾ ثالثها :﴿ ما يلفظ من قول ﴾ رابعها ﴿ إنّ في ذلك لذكرى ﴾ خامسها ﴿ بل عجبوا ﴾ وهو قول كوفيّ قالوا لأنّ معناه قد عجبوا. سادسها : أنه محذوف قدّره الزجاج والمبرد والأخفش لتبعثنّ وغيرهم لقد جاءكم منذر وقدره الجلال المحلي بقوله ما آمن كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
تنبيه : جوابات القسم سبعة أنّ المشدّدة كقوله تعالى :﴿ والعصر ١ إنّ الإنسان لفي خسر ﴾ [ العصر : ١ ٢ ]
وما النافية كقوله تعالى :﴿ والضحى ١ والليل إذا سجى ٢ ما ودّعك ربك ﴾ [ الضحى : ١ ٣ ] واللام المفتوحة كقوله تعالى :﴿ فو ربك لنسألنهم أجمعين ﴾ [ الحجر : ٩٢ ] وإن الخفيفة كقوله تعالى ﴿ تالله إن كنا لفي ضلال مبين ﴾ [ الشعراء : ٩٧ ] ولا النافية كقوله تعالى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ﴾ [ النحل : ٣٨ ] وقد كقوله تعالى ﴿ والشمس وضحاها ﴾ [ الشمس : ١ ] ﴿ قد أفلح من زكاها ﴾ [ الشمس : ٩ ] وبل كقوله تعالى ﴿ والقرآن المجيد ﴾ ﴿ بل ﴾ أي أنّ تكذيبهم ليس لإنكار شيء من مجدك ولا إنكار صدقك.
﴿ بل ﴾ لأنهم ﴿ عجبوا ﴾ أي : الكفار وأضمرهم قبل الذكر إشارة إلى أنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة انصرف إليهم العجب تغير النفس لأمر خارج عن العادة ﴿ أن جاءهم منذر منهم ﴾ أي : رسول من أنفسهم يخوّفهم بالنار بعد البعث واقتصر على الإنذار لأنّ المقام لتخويف من قدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو منّ عليه بإسلام أو غيره ولتخويف من أنكر البعث والعجب منهم هو العجب لأنّ العادة عندهم وعند جميع الناس أنه إذا كان لنذير منهم لم يداخلهم في إنذاره شك بوجه من الوجوه وهؤلاء خالفوا عادة الناس في تعجبهم من كون النذير وهو أحدهم خص بالرسالة دونهم ولم يدركوا وجه الخصوصية لكونه مثلهم فلذلك أنكروا رسالته وفضل كتابه بألسنتهم تعانداً وحسداً لأنهم كانوا معترفين بخصائصه التي رفعه الله تعالى بها عليهم قبل الرسالة فحطهم عجبهم ذلك إلى الحضيض من دركات السفه وخفة الأحلام، لأنهم عجبوا أن كان الرسول بشراً وأوجبوا أن يكون الإله حجراً، وعجبوا أن يعادوا من تراب لم يكن له أصل في الحياة ولذلك سبب عنه قوله تعالى :﴿ فقال ﴾ أي : بسبب إنذاره بالبعث ﴿ الكافرون ﴾ وصرح به في موضع الإضمار إيذاناً بأنهم لم يخف عليهم شيء من أمره ولكنهم ستروا تعدّياً برأي عقولهم الدالة على جميع أمره دلالة ظاهرة وعبر بما دل على النذارة لأنها المقصود الأعظم من هذه السورة وجميع سياق الحجرات ظاهر فيها ﴿ هذا ﴾ أي كون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا وكون ما أنذر به هو البعث بعد الموت ﴿ شيء عجيب ﴾ أي : بليغ في الخروج عن عادة أشكاله وقد كذبوا في ذلك أما من جهة النذير فإن أكثر الرسل من الطوائف الذين أرسلوا إليهم وقليل منهم من كان غريباً ممن أرسل إليه وأمّا من جهة البعث فإن أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه وإحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك مما هو ظاهر جداً.
ولما كان المتعجب منه مجملاً أوضحه بقوله تعالى حكاية عنهم مبالغين في الإنكار بافتتاح إنكارهم باستفهام إنكاري. ﴿ أئذا متنا ﴾ ففارقت أرواحنا أبداننا ﴿ وكنا تراباً ﴾ لا فرق بينه وبين تراب الأرض ولما كان العامل في الظرف ما تقديره نرجع دل عليه بقوله تعالى دالاً بالإشارة بأداة البعد إلى عظيم استبعادهم ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر الذي في غاية البعد وهو مضمون الخبر برجوعنا ﴿ رجع ﴾ أي : ردّ إلى ما كنا عليه ﴿ بعيد ﴾ جدّاً لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب وقرأ قالون وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وهي المكسورة وإدخال ألف بينها وبين الهمزة الأولى المفتوحة وقرأ ورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وقرأ الباقون بتحقيقهما وأدخل هشام بينهما ألفاً بخلاف عنه والباقون بغير إدخال وكسر الميم من متنا نافع وحفص وحمزة والكسائي والباقون بالضم.
وقوله تعالى :﴿ قد علمنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ ما تنقص الأرض منهم ﴾ أي : تأكل من أجزائهم المتحللة من أبدانهم بعد الموت. وقبله رد لاستبعادهم لأنّ من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجزاء الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياءً كما كانوا وعنه عليه الصلاة والسلام «كل ابن آدم يبلي إلا عجب الذنب » وعن السدّي ما تنقص الأرض منهم من يموت منهم ومن يبقى. وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه لأنّ الله تعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر قادر على الجمع والتأليف فليس الرجع منه ببعيد وهذا كقوله تعالى :﴿ وهو الخلاق العليم ﴾ [ يس : ٨١ ] حيث جعل للعلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب ما كانوا يقولون أئذا ضللنا في الأرض أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعيدهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون ﴿ وعندنا ﴾ أي : على مالنا من الغنى من كل شيء ﴿ كتاب ﴾ أي : جامع لكل شيء ﴿ حفيظ ﴾ أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء جل أو دق وقيل محفوظ من الشياطين ومن أن يندرس أو يغير وعلى الحالين الحفيظ هو اللوح المحفوظ. قال الرازي : والأوّل هو الأصح لأنّ الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال الله تعالى :﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ [ الأنعام : ١٠٤ ] وقال تعالى ﴿ حفيظ عليهم ﴾ [ الشورى : ٦ ] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه العلم عندي كما يكون في الكتاب فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ.
وقوله تعالى :﴿ بل كذبوا بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت الذي لا أثبت منه إضراب ثان قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأوّل للدّلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحقّ ﴿ لما ﴾ أي : حين ﴿ جاءهم ﴾ أي : لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس حسداً منهم من غير تأمّل لما قالوه ولا تدبر ولا نظر فيه ولا تذكر فلذلك قالوا ما لا يعقل من أنّ من قدر على إيجاد شيء من العدم وإبدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه له ﴿ فهم ﴾ أي : لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف ﴿ في أمر مريج ﴾ أي : مضطرب جدّاً مختلط من المرج الذي هو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة فهم تارة يقولون سحر وتارة كهانة وتارة شعر وتارة كذب وتارة غير ذلك، لا يثبتون على شيء واحد. والاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على الإبطال كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقية قال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم.
ثم ذكر تعالى الدليل الذي يدفع قولهم ذلك رجع بعيد بقوله تعالى :﴿ أفلم ينظروا ﴾ أي : بعين البصر والبصيرة ﴿ إلى السماء ﴾ أي : المحيطة بهم ﴿ فوقهم ﴾ فإن غيرها إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل ﴿ كيف بنيناها ﴾ أي : أوجدناها على مالنا من المجد والعز مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد ﴿ وزيناها ﴾ أي بما فيها من الكواكب الكبار والصغار السيارة والثابتة ﴿ وما ﴾ أي : والحال أن ما ﴿ لها ﴾ وأكد النفي بقوله تعالى :﴿ من فروج ﴾ أي : فتوق وطاقات وشقوق بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء.
﴿ والأرض ﴾ أي : المحيطة بهم التي هم عليها ﴿ مددناها ﴾ أي : بسطناها بما لنا من العظمة ﴿ وألقينا ﴾ أي : بعظمتنا ﴿ فيها رواسي ﴾ أي جبالاً ثوابت كانت سبباً لثباتها وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق والمراسي التي تعالجونها أنتم من تحت ﴿ وأنبتنا ﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿ فيها ﴾ أي الأرض وعظم قدرته بالتبعيض فقال تعالى :﴿ من كل زوج ﴾ أي صنف من النبات تزاوجت أشكاله ﴿ بهيجٍ ﴾ أي هي في غاية الرونق والإعجاب فكان مع كونه رزقاً منتزهاً.
﴿ تبصرةً ﴾ أي : جعلنا هذه الأشياء كلها لأجل أن تنظروا بأبصاركم وتتفكروا ببصائركم فتعبروا منها إلى صانعها فتعلموا ما له من العظمة ﴿ وذكرى ﴾ أي : ولتذكروا بها تذكراً عظيماً بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أنّ صانعها لا يعجزه شيء وأنه محيط بجميع صفات الكمال وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : بالإمالة محضة. وقرأ ورش : بالإمالة بين بين والباقون بالفتح.
تنبيه : قال الرازي : يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى السماء والأرض أي خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ويدل على ذلك أنّ السماء وزينتها غير مستجدّة في كل عام فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان. وأمّا الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفها فتذكر فالسماء تبصرة والأرض تذكرة ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك.
والفرق بين التذكرة والتبصرة هو أنّ فيهما آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجدّدة مذكرة عند التناسي ﴿ لكل عبدٍ ﴾ أي : لتبصر وتذكر كل عبد بماله من النقص وبما دل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه ﴿ منيبٍ ﴾ أي : رجاع عما خطه إليه طبعه إلى ما يغلبه عليه عقله فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود الصفات إلى علم الذات.
ثم ذكر تعالى دليلاً بقوله تعالى :﴿ ونزلنا من السماء ﴾ أي : المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر ﴿ ماء ﴾ أي شيئاً فشيئاً في أوقات وعلى سبيل التقاطر ولولا عظمتنا التي لا تضاهي لغلب بما له من الثقل والميوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المسرّة وعادت المنفعة مضرّة ﴿ مباركاً ﴾ أي : نافعاً جدّاً كثير لبركة وفيه حياة كل شيء، وهو المطر فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت ﴿ فأنبتنا ﴾ أي : بما لنا من القدرة الباهرة ﴿ به جناتٍ ﴾ من الشجر والثمر والزرع والريحان وغيره مما تجمعه البساتين فتجن أي تستر الداخل فيها ﴿ وحب الحصيد ﴾ أي : النجم الذي من شأنه أنه يحصد كالبر والشعير ونحوهما.
وقوله تعالى :﴿ والنخل ﴾ منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل وقوله تعالى ﴿ باسقات ﴾ أي : طوالاً حال مقدّرة لأنها وقت الإثبات لم تكن طوالاً والبسوق الطول يقال بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ومنه قول أبي نوفل في ابن هبيرة :
يا ابن الذين بمجدهم *** بسقتهم قيس فزاره
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقاً أي طالت قال الشاعر :
لنا خمر وليست خمر كرم *** ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا *** وفات ثمارها أيدي الجناة
وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبن قبل النتاج. وقال سعيد بن جبير : باسقات : مستويات وأفردها بالذكر لفرط ارتفاعها ﴿ لها طلع ﴾ يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في باسقات ويجوز أن يكون الحال وحده لها وطلع فاعل به وقوله تعالى :﴿ نضيد ﴾ بمعنى منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبلة الزرع وهو عجيب فإنّ الأشجار الطوال ثمارها بارزة بعضها على بعض لكل واحدة منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز والطلع كالسنبلة الواحدة تكون على أصل واحد.
وقوله تعالى :﴿ رزقا ﴾ يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً ﴿ للعباد ﴾ ويجوز أن يكون مفعولاً له وللعباد إمّا صفة وإمّا متعلق بالمصدر، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى عند ذكر خلق السماء والأرض تبصرة وذكرى وفي الثمار قال رزقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة.
أجيب : بأنّ الاستدلال وقع لوجود أمرين :
أحدهما : الإعادة. والثاني : البقاء بعد الإعادة فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فقال : أما الأوّل فالله القادر على خلق السماوات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأنّ البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأولّ تبصرة وتذكرة بالخلق. والثاني : تذكرة بالبقاء والرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى ﴿ تبصرة وذكرى ﴾ حيث ذكر ذلك بين الآيتين ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإثبات النبات.
تنبيه : لم يقيد هنا العباد بالإنابة وقيده في قوله تعالى :﴿ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾ لأنّ التذكرة لا تكون إلا للمنيب والرزق يعمّ كل أحد غير أنّ المنيب يأكل ذاكراً أو شاكراً للأنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص بقيد ولما كان في ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث وبجميع صفات الكمال أتبعه ماله من التذكير بالبعث بخصوصية فقال تعالى ﴿ وأحيينا به ﴾ أي : الماء بعظمتنا ﴿ بلدةً ﴾ بالتأنيث إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى النبات والخلوّ عنه وذكر ﴿ ميتاً ﴾ للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها أو حملاً على معنى المكان فإن قيل : ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى :﴿ وآية لهم الأرض الميتة ﴾ [ يس : ٣٣ ] حيث أثبت الهاء هناك أجيب : بأنّ الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة : لأنّ معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأنّ الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأنّ معنى الفاعلية غير ظاهر فتثبت فيه الهاء وإذا كان معنى الفاعل لم يظهر لا تثبت فيه الهاء.
ويحقق هذا القول قوله تعالى ﴿ بلدة طيبةً ﴾ [ سبأ : ١٥ ] حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعل ولم يثبت حيث لم يظهر ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل الإخراج العظيم ﴿ الخروج ﴾ من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا إذ لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم وتفتت في الأرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأزرقه إلى غير ذلك وبين إخراج ما تفتت من الموتى كما كانوا في الدنيا
تنبيه : قال أبو حيان : ذكر تعالى في السماء ثلاثة البناء والتزيين ونفي الفروج وفي الأرض ثلاثة المدّ وإلقاء الرواسي والإنبات فقابل المدّ بالبناء لأنّ المدّ وضع والبناء رفع وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب لارتكاب كل واحد منها أي على سطح ما هو فيه والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج فلا شق فيها ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة وعلى ما اختلط من جنسين فبعض الثمار فاكهة لا قوت وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت.
وقوله تعالى :﴿ كذبت قبلهم ﴾ الآية فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتنبيه بأنّ حاله كحال من تقدّمه من الرسل كذبوا وصبروا فأهلك الله تعالى مكذبيهم ونصرهم. ولما لم يكن لهؤلاء المكذبين شهرة يعرفون بها قال تعالى :﴿ قوم نوح ﴾ الذين كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان نزل عليهم ماء السماء وطلع عليهم ماء الأرض فأغرقهم ووسم الفعل بالتاء إشارة إلى هو أنهم في جنب هذا المجد وأسقط الجار من قوله تعالى :﴿ قبلهم ﴾ إشارة إلى أنّ هؤلاء الأحزاب لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل الأرض قد استغرقوا مكانها وزمانها ثم أتبع قوم نوح بمشابهيهم بقوله تعالى :﴿ وأصحاب الرس ﴾ أي : البئر كانوا مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام، ونبيهم قيل : حنظلة بن صفوان وقيل غيره فخسفت تلك البئر مع ما حولها فذهبت بهم وبكل مالهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان.
ثم أتبع أصحاب الرس بقوم صالح عليه السلام فقال ﴿ وثمود ﴾ لأنّ الرجفة التي أخذتهم مبدأ الخسف ثم أتبع ثمود بقوم هود عليه السلام فقال تعالى :﴿ وعادٌ وفرعون وإخوان لوط ﴾.
﴿ وعادٌ ﴾ لأنّ الريح التي أهلكتهم أثرت بها صيحة ثمود وقال تعالى :﴿ وفرعون ﴾ ولم يقل قوم فرعون لأنه ليس في قادة هذه الفرق كافر غيره والنص عليه يفهم عظمته وأنه استخف قومه فأطاعوه ﴿ وإخوان لوط ﴾ أي : أصهاره الذين صار بينه وبينهم مع المصاهرة المناصرة بملوكهم على من قاواهم بنفسه وعمه خليل الله إبراهيم عليهما السلام ومع ذلك عاملوه بالخيانة والتكذيب.
﴿ وأصحاب الأيكة ﴾ أي : الغيضة. وهم قوم شعيب، والغضة الشجرة الملتف بعضه على بعض ولما كان تبع الحميري واسمه سعد وكنيته أبو كرب مع كونه في قومه ملكاً قاهراً وخالفوه مع ذلك، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم ختم بهم فقال تعالى :﴿ وقوم تبع ﴾ مع كونه ملكاً وهو يدعوهم إلى الله تعالى فلا يظنّ أنّ التكذيب مخصوص بمن كان قوياً لمن كان مستضعفاً بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف لا يخرج شيء عن مرادنا ﴿ كلٌ ﴾ أي من هذه الفرق ﴿ كذب الرسل ﴾ أي كلهم بتكذيب رسولهم فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار المعجز والدعاء إلى الله تعالى ﴿ فحق ﴾ أي : فتسبب عن تكذيبهم لهم أن ثبت عليهم ووجب ﴿ وعيد ﴾ أي : الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه فجعلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عامّاً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى يوم البعث فثبت بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلّ بإخوانك المرسلين وتأس بهم وليحذر قومك ما حل بمن كذبهم أن أصرّوا.
﴿ أفعيينا بالخلق ﴾ أي : أحصل لنا مع ما لنا من العظمة الإعياء وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده أو إعدامه ﴿ الأوّل ﴾ أي : من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدّداً في كل أوان في الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة، ومن إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم ﴿ بل هم في لبسٍ ﴾ أي : شك شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى بل السكوت عنه أجمل ﴿ من ﴾ أي : لأجل ﴿ خلقٍ جديدٍ ﴾ أي : بالإعادة.
ولما ذكر الخافقين أتبعه خلق ما هو جامع لجميع ما هو فيهما. فقال تعالى :﴿ ولقد ﴾ أي : والحال أنا قد ﴿ خلقنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ الإنسان ﴾ وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان والذكر والنسيان والجهل والعرفان والطاعة والعصيان وغير ذلك من عجيب الشان. ووكلنا به من جنودنا من يحفظ فيضبط حركاته وسكناته وجميع أحواله ﴿ ونعلم ﴾ والحال أنا نعلم بما لنا من الإحاطة ﴿ ما توسوس ﴾ أي : تكلم على وجه الخفاء ﴿ به ﴾ أي : الآن وفيما بعد ذلك ﴿ نفسه ﴾ مما لم نقدح بعد من خزائن الغيب إلى سرّ النفس كما علمنا ما تكلم نفسه وهي الخواطر التي تعرض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد وبصحة القرآن وإعجازه وصدق الرسول به صلى الله عليه وسلم وامتيازه وإنما حملهم الحسد والنفاسة والكبر والرياسة على الإنكار باللسان، حتى صار لهم ذلك خلقاً وتمادوا فيه، حتى غطى على عقولهم فصاروا في لبس محيط بهم من جميع الجوانب ونحن أي بما لنا من العظمة ﴿ أقرب إليه ﴾ أي : قرب علم وشهود من غير مسافة ﴿ من حبل الوريد ﴾ لأنّ أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علم الله تعالى شيء والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمها متصلان من الرأس إلى الوتين وهو عرق متصل بالقلب إذا قطع مات صاحبه. وهذا مثل في فرط القرب وإضافته مثل مسجد الجامع أي حبل العرق الوريد أو لأن الحبل أعمّ فأضيف للبيان نحو بئر ساقية أو يراد حبل العاتق وأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما ما في عضو واحد. وقال البغوي : حبل الوريد : عرق الفرق وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين يتفرّق في البدن والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. قال القشيري : وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم وروح وأنس وسكون قلب لقوم.
وقوله تعالى :﴿ إذ يتلقى ﴾ ظرف لأقرب ويجوز أن يكون منصوباً باذكر أي واذكر إذ يتلقى أي بغاية الاجتهاد والمراقبة والمراعاة من كل إنسان خلقناه وأبرزناه إلى هذا الوجود ﴿ المتلقيان ﴾ أي : الملكان الموكلان بعمل الإنسان ومنطقه يحفظانه ويكتبانه حال كونهما ﴿ عن اليمين ﴾ لكل إنسان ﴿ وعن الشمال ﴾ أي : أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وقوله تعالى :﴿ قعيد ﴾ أي : قاعدان. مبتدأ وخبره ما قبله لأنّ فعيلاً يطلق على الواحد والمتعدّد كقوله تعالى :﴿ بعد ذلك ظهير ﴾ [ التحريم : ٤ ] قال ابن عادل : والأجود أن يدع حذف إما من الأوّل أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأوّل ومثله قوله :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
وقال مجاهد : القعيد المرصد. ونحن أعلم منهما وأقرب وإنما استحفظناهما لإقامة الحجة بهما على مجاري عاداتكم وغير ذلك من الحكم.
﴿ ما يلفظ ﴾ أي : يرمي ويخرج المكلف من فيه وعمم في النفي بقوله تعالى ﴿ من قول ﴾ جل أو قل ﴿ إلا لديه ﴾ أي : الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة من أغرب المستغرب ﴿ رقيب ﴾ من حفظتنا شديد المراعاة في كل من أحواله ﴿ عتيد ﴾ أي : حاضر مراقب غير غافل بوجه قال الجلال المحلي : وكل منهما بمعنى المثنى أي رقيبان عتيدان. روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ».
تنبيه : اختلف فيما يكتبان فقال مجاهد : يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه. وقال عكرمة : لا يكتبان إلا ما يؤجر أو يوزر فيه.
فائدتان : إحداهما : قال الحسن : إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند حالتين عند غائطه وعند جماعه.
الثانية : قال الضحاك : مجلسهما تحت الشعر على الحنك ومثله عن الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.
﴿ وجاءت ﴾ أي : أتت وحضرت ﴿ سكرة الموت ﴾ أي : حالته عند النزع وشدّته وغمرته يصير المريض بها السكران لا يعي وتخرج بها أقواله وأفعاله عن قانون الاعتدال مجيئاً ملتبساً ﴿ بالحق ﴾ أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا حيلة في الاحتراس منه. وقيل : للميت بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال ﴿ ذلك ﴾ أي : هذا الأمر العظيم العالي الرتبة الذي يحق لكل أحد الاعتداد له بغاية الجهد ﴿ ما ﴾ أي : الأمر الذي ﴿ كنت ﴾ أي : جبلةً وطبعاً ﴿ منه تحيد ﴾ أي : تميل وتنفر وتروغ وتهرب.
تنبيه : قيل الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الرازي : وهو منكر وقيل مع الكافر قال ابن عادل : والأقوى أن يقال هو خطاب عام مع السامع وهذا أولى.
وقوله تعالى :﴿ ونفخ في الصور ﴾ عطف على قوله تعالى :﴿ وجاءت سكرة الموت ﴾ وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للموت العامّ والبعث العامّ عند التكامل وانقطاع أوان التعامل وهو بحيث لا يعلم قدر عظمه واتساعه إلا الله تعالى وهو عليه السلام قد التقم الصور من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر فيا لها من عظمة ما أغفلنا وعنها أنساناً لها والمراد بهذه نفخة البعث وقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله نفخ لأنّ الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه تعالى قال ذلك الزمان العظيم الأهوال والأوجال ﴿ يوم الوعيد ﴾ أي : للكفار بالعذاب.
﴿ وجاءت ﴾ أي : فيه ﴿ كل نفس ﴾ أي مكلفة ﴿ معها سائق ﴾ أي ملك يسوقها إليه ﴿ وشهيد ﴾ يشهد عليها بعملها. قال الضحاك : السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم وهو الأيدي والأرجل وغيرها وهي رواية العوفي عن ابن عباس رضى الله عنهما وقيل : هما جميعاً من الملائكة، فالسائق كما قيل لا تعلق له بالشهادة لئلا تقول تلك النفس أنه خصم والخصم لا تقبل شهادته وقيل السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنه إلى مقعده. والشهيد هو الكاتب والسائق لازم للبرّ والفاجر أما البر فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار قال تعالى :﴿ وسيق الذين كفروا ﴾ [ الزمر : ٧١ ] وقال تعالى :﴿ وسيق الذين اتقوا ﴾ [ الزمر : ٧٣ ] والشهيد يشهد عليها بما عملت. تنبيه : يجوز في جملة معها سائق وشهيد أن تكون في موضع جر صفة لنفس، وأن تكون في موضع رفع صفة لكل، وأن تكون في موضع نصب على الحال من كل.
ويقال للكافر :﴿ لقد كنت ﴾ أي : كوناً كأنه جبلة لك ﴿ في غفلة ﴾ أي : عظيمة محيطة بك ناشئة لك ﴿ من هذا ﴾ أي : من تصوّر هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدّة جلائه خفي على من اتبع الشهوات ﴿ فكشفنا ﴾ بعظمتنا بالموت ثم البعث ﴿ عنك غطاءك ﴾ الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك من الغفلة بالآمال في الحال والمآل وسائر الحظوظ والشهوات ﴿ فبصرك اليوم ﴾ أي بعد البعث ﴿ حديد ﴾ أي في غاية الحدّة والنفوذ فلذا تقرّ بما كنت تنكر في الدنيا. وقال مجاهد : يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك. والمعنى : أزلنا غفلتك فبصرك اليوم جديد وكان من قبل كليلاً.
واختلف في القرين في قوله تعالى :﴿ وقال قرينه ﴾ فأكثر المفسرين على أنه الملك الموكل به فيقول ﴿ هذا ما ﴾ أي : الذي ﴿ لدي عتيد ﴾ أي : حاضر ونقل الكرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد فزين له الكفر والعصيان. ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وقيضنا لهم قرناء ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] وقال تعالى :﴿ نقيض له شيطاناً فهو له قرين ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ] وقال تعالى ﴿ فبئس القرين ﴾ فالإشارة بهذا إلى المسوق المرتكب الفجور والفسوق. والعتيد معناه المعتدّ للنار ومعناه أن الشيطان يقول هذا العاصي هو شيء عندي معتدّ لجهنم أعددته لها بالإغواء والإضلال.
وقوله تعالى :﴿ ألقيا في جهنم ﴾ أي : النار التي تلقى الملقي فيها بما كان يعامل به عباد الله تعالى من الكبر والعبوسة ﴿ كل كفار ﴾ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد أو للملكين من خزنة النار أو الواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كأنه قيل ألق ألق وقيل : أراد ألقيا بالنون الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مجرى الوقف وقيل العرب : تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين تأكيداً كقوله :
فإن تزجراني يا ابن عفان أزدجر وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا
قال ابن عادل وقيل المأمور مثنى وهذا هو الحق لأنّ المراد ملكان يفعلان ذلك ا. ه وهو القول المتقدّم ﴿ عنيد ﴾ وهو المبالغ في ستر الحق والمعاداة لأهله بغير حجة حمية وأنفة نظراً إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبراً وتكبراً على ما عند غيره ازدراء له كائناً من كان.
﴿ مناعٍ ﴾ أي : كثير المنع ﴿ للخير ﴾ من المال وغيره من كل معروف يعلق بالمال والمقال والفعال. وقيل المراد الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه ﴿ معتدٍ ﴾ أي : مجاوز للحدود ﴿ مريبٍ ﴾ أي : داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أهل الدين.
وقوله تعالى :﴿ الذي جعل مع الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿ إلهاً آخر ﴾ يجوز أن يكون منصوباً على الذمّ أو على البدل من كل وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار أو مرفوعاً بالابتداء والخبر ﴿ فألقياه في العذاب ﴾ أي : الذي يزيل كل عذوبة ﴿ الشديد ﴾ ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هو الذي جعل ويكون فألقياه تأكيداً.
﴿ قال قرينه ﴾ منادياً بإسقاط الأداة كدأب أهل القرب إيهاماً أنه منهم ﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم ﴿ ما أطغيته ﴾ أي : ما أوقعته فيما كان فيه من الطغيان فإني لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك ﴿ ولكن كان ﴾ أي : بجبلته وطبعه ﴿ في ضلال بعيد ﴾ أي : محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله تعالى.
تنبيه : هذا جواب لكلام مقدّر فإن الكافر حينما يلقى في النار يقول ربنا أطغاني شيطاني فيقول ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى :﴿ لا تختصموا لدي ﴾ لأنّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة ص ﴿ قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم ﴾ [ ص : ٦٠ ] إلى قوله تعالى ﴿ إنّ ذلك لحق تخاصم أهل النار ﴾ [ ص : ٦٤ ] قال الزمخشري : وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدّمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد.
قال الرازي : وجاءت هذه الآية بلا واو وفي الأولى بواو عاطفة لأن الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين فإن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول وفي الثانية لم يجد هنا معنيان مجتمعان حتى تذكر الواو فإن الفاء في قوله تعالى :﴿ فألقياه في العذاب ﴾ لا تناسب قوله تعالى :﴿ قال قرينه ربنا ما أطغيته ﴾ فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف.
فإن قيل : كيف قال ما أطغيته مع أنه قال لأغوينهم أجمعين. أجيب : بأن المراد من قوله لأغوينهم أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة فلا تتركها يقال أنه يضله كذا هنا فقوله ما أطغيته أي ما كان ابتداء الغي مني.
وقوله تعالى :﴿ قال ﴾ أي : الله تعالى المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم بذلك في الأزل ﴿ لا تختصموا ﴾ أي : لا توقعوا الخصومة بهذا الجدّ والاجتهاد استئناف كان قائلاً يقول فماذا قال الله تعالى. فأجيب : يقال لا تختصموا وقوله تعالى :﴿ لدي ﴾ أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يديّ. وقوله تعالى :﴿ وقد قدّمت إليكم بالوعيد ﴾ أي : التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفر والعدوان جملة حالية ولا بدّ من تأويلها وذلك أن النهي في الآخرة وتقدّمه الوعيد في الدنيا. فاختلف الزمان فكيف يصح جعلها حالية وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قدّمت وزمان الصحة وزمان النهي واحد وقدّمت يجوز أن يكون بمعنى تقدمت فتكون الواو للحال ولا بدّ من حذف مضاف أي : وقد تقدّم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ويجوز أن يكون قدمت على حاله تعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد. كقوله تعالى :﴿ تنبت بالدهن ﴾ [ المؤمنون : ٢ ] على قول من قال بزيادتها هناك وقيل الباء هنا للمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بلجامه أي معه فكأنه قال تعالى قدّمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه والإنذار.
﴿ ما يبدّل ﴾ أي : يغير بوجه من الوجوه ﴿ القول لدّي ﴾ أي : الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحيط بها أحد من خلقي وعبر بما التي هي للحاضر دون لا التي للمستقبل لأن الأوقات كلها عنده حاضرة ﴿ وما أنا ﴾ وأكد النفي بقوله تعالى :﴿ بظلام للعبيد ﴾ فأعذبهم بغير ظلم.
فإن قيل : الظلام مبالغة في الظلم ويلزم من انتفائه إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كثير الكذب، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب، لجواز أن يقال ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً. فقوله تعالى ﴿ ما أنا بظلام ﴾ لا يفهم منه نفي أصل الظلم وأنّ الله ليس بظالم. أجيب بأربعة أجوبة :
أحدها : أنّ الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر فتكون اللام في قوله تعالى ﴿ للعبيد ﴾ لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم لقوله تعالى :﴿ لا ظلم اليوم ﴾ [ غافر : ١٧ ].
ثانيها : قال الزمخشري : إن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم وما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال الله تعالى :﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ أي : في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق فيّ طاقة بهم ولم يبق فيّ موضع لهم فهل من مزيد استفهام استنكار.
ثالثها : أنه لمقابلة الجمع بالجمع والمعنى أنّ ذلك اليوم مع أني ألقي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم لأنه تعالى قال :﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾.
﴿ يوم نقول ﴾ أي على مالنا من العظمة ﴿ لجهنم ﴾ ولم يقل ما أنا بظلام في جميع الأزمان وخصص بالعبيد ولم يطلق فلذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت لأنّ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه لأنه نفي كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونه ظالماً ونفي كونه ظلاماً للعبيد ولم يلزم منه كونه ظلاماً لغيرهم.
تنبيه : يحتمل أن يكون المراد بالعبيد الكفار كقوله تعالى :﴿ يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول ﴾ [ يس : ٣٠ ] الآية والمعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين.
والمعنى أنّ الله تعالى يقول : لو بدّلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأت بما أتى به المؤمن ما يناله المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد وهذا معنى قوله تعالى :﴿ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ﴾ [ الحشر : ٢٠ ] ويحتمل أن يكون المراد التعميم وهذا أظهر. وقوله تعالى لجهنم أي التي هي دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم ﴿ هل امتلأت ﴾ استفهام تحقيق لوعده عليها وهو قوله تعالى ﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ [ هود : ١١٩ ] ﴿ وتقول ﴾ بصورة الاستفهام كالسؤال ﴿ هل من مزيد ﴾ أي : قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكار. وقيل بمعنى الاستزادة رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله تعالى هل امتلأت قبل دخول جميع أهلها فيها.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنّ الله تعالى سبقت كلمته لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت فتقول هل من مزيد قط قط قد امتلأت وليس فيّ مزيد » وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش وفي رواية رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض وتقول : قط قط بعد ذلك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله تعالى لها خلقاً فيسكنهم فضول الجنة » ولأبي هريرة رضي الله عنه نحوه ولا يظلم الله تعالى من خلقه أحداً.
تنبيه : هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان :
أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نفوّض بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها أولها معنىً يليق بها وظاهرها غير مراد.
المذهب الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين أنها تؤوّل بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل الحديث فقيل المراد بالقدم التقدّم وهو شائع في اللغة والمعنى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل : المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل : يحتمل أن في المخلوقات من يسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض أظهر التأويلات أنهم استحقوها وخلقوا لها.
قال المتكلمون : ولا بدّ من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل العقلي القطعي على استحالة الجارحة على الله تعالى وقولها قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت وفيها ثلاث لغات إسكان الطاء وكسرها منوّنة وغير منوّنة.
ولما ذكر النار التي هي دار الفجار وقدّمها لأنّ المقام للإنذار اتبعها دار الأبرار. فقال تعالى سارّاً لهم بإسقاط مؤنة المسير وطي مشقة البعد :﴿ وأزلفت الجنة ﴾ أي : قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة ﴿ للمتقين ﴾ أي : الغريقين في هذا الوصف فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه في الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا. وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم غير هذا الوصف فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. وقوله تعالى :﴿ غير بعيد ﴾ يجوز أن يكون حالاً من الجنة ولم يؤنث لأنها بمعنى البستان أو لأنّ فعيلاً لا يؤنث لأنه بزنة المصادر قاله الزمخشري. ومنعه أبو حيان وتقدّم الكلام على ذلك في قوله تعالى :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ] ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني أي مكاناً غير بعيد ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد وظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال أو شيئاً غير بعيد فإن قيل : ما وجه التقريب والجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب. أجيب : من أوجه. أوّلها : أنّ الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانتقام إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل : فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة فما فائدة قوله تعالى :﴿ أزلفت الجنة ﴾ أجيب بأن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه وأنه ممن يمشي إليه ثانيها : قريب من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني. ثالثها : أنّ الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن. ويحتمل أنها أزلفت بمعنى جمعت محاسنها لأنها مخلوقة وأما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحق بها.
وقوله تعالى :﴿ هذا ﴾ أي : الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم ﴿ ما ﴾ أي : الأمر الذي ﴿ توعدون ﴾ أي : وقع الوعد لكم به في الدنيا يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معترضاً بين البدل والمبدل منه وذلك أنّ ﴿ لكل أوّاب ﴾ أي : رجاع إلى طاعة الله تعالى بدل من المتقين بإعادة العامل.
ثانيهما : أن يكون منصوباً بقول مضمر ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم. وقرأ ابن كثير : بالياء على الغيبة. والباقون : بالتاء على الخطاب ونسب أبو حيان قراءة الياء لابن كثير ولأبي عمرو وإنما هي لابن كثير فقط. وقال سعيد بن المسيب : الأوّاب هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال الشعبيّ ومجاهد هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء : هو المسبح من قوله تعالى ﴿ يا جبال أوّبي معه ﴾ [ سبأ : ١٠ ] وقال قتادة : هو المصلي. وقوله تعالى ﴿ حفيظ ﴾ اختلف فيه. فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً : الحفيظ لأمر الله. وقال قتادة : الحفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه. والأوّاب والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ.
ثم أبدل من كلٍ تتميماً لبيان المتقين قوله تعالى :﴿ من خشي ﴾ أي : خاف ونبه على كثرة خشيته بقوله تعالى :﴿ الرحمن ﴾ لأنه إذا خافه مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى وقال القشيري : التعبير بذلك للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع، قال : ولذلك لم يقل الجبار أو القهار. ويقال الخشية ألطف من الخوف فكأنها قريبة من الهيبة وقوله تعالى :﴿ بالغيب ﴾ حال أي غائباً عنه فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما. وقيل الباء للمصاحبة أي مصاحب له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة بل استغنى بالبراهين القطيعة التي منها أنه مربوب وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشي أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب ومعنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب ولم يره.
وقال الضحاك والسدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. وقال الحسن : إذا أرخى الستور وأغلق الباب. وقوله تعالى ﴿ وجاء ﴾ أي : بعد الموت ﴿ بقلب منيب ﴾ أي : راجع إلى الله تعالى صفة مدح لأنّ شأن الخائف أن يهرب فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفرار منه والباء في ﴿ بقلب ﴾ إما للتعدية وإما للمصاحبة وإما للسببية، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى :﴿ إذ جاء ربه بقلب سليم ﴾ [ الصافات : ٨٤ ] من الشرك والضمير في قوله تعالى :﴿ ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ﴾.
﴿ ادخلوها ﴾ عائد إلى الجنة وقوله تعالى :﴿ بسلام ﴾ حال من فاعل ادخلوها أي سالمين من العذاب والهموم فهي حال مقارنة أو بسلام من الله تعالى وملائكته عليهم فهي حال مقدرة كقوله تعالى ﴿ فادخلوها خالدين ﴾ [ الزمر : ٧٣ ] كذا قيل. قال ابن عادل : وفيه نظر إذ لا مانع من مقارنة تسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فادخلوها خالدين فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول ﴿ ذلك ﴾ أي : اليوم الذي حصل فيه الدخول ﴿ يوم الخلود ﴾ أي : الدوام في الجنة الذي لا آخر له ولا نفاد لشيء من لذاته أصلاً ولذلك وصل به قوله تعالى جواباً لمن قال على أيّ وجه خلودهم.
﴿ لهم ﴾ بظواهرهم وبواطنهم ﴿ ما يشاؤون ﴾ أي : تتجدد مشيئتهم أو يمكن مشيئتهم له ﴿ فيها ﴾ أي : الجنة ﴿ ولدينا ﴾ أي : عندنا من الأمور التي هي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم مستغرباً ﴿ مزيد ﴾ أي : مما لا يدخل تحت أوهامهم ليشاؤوه فإن سياق الامتنان يدل على أنّ تنوينه للتعظيم والتعبير ب﴿ لدي ﴾ يؤكد ذلك فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى قال :﴿ ادخلوها بسلام ﴾ على المخاطبة ثم قال لهم ولم يقل لكم أجيب : من وجوه أولها : أن قوله تعالى :﴿ ادخلوها ﴾ فيه مقدر أي فيقال لهم ادخلوها فلا يكون التفاتاً.
ثانيها : أنه التفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول غير مخلّ بهم في غيبتهم وحضورهم ففي حضورهم الحبور في غيبتهم الحور والقصور.
ثالثها : أنه يجوز أن يكون قوله تعالى لهم كلاماً مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أنّ لهم ما يشاءون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاؤون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه. والمزيد يحتمل أن يكون معناه الزيادة كقوله تعالى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ [ يونس : ٢٦ ] ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون ويأملون. قال أنس وجابر : وهو النظر إلى وجه الله الكريم. قيل يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته فهذا هو المزيد.
ولما ذكر تعالى أوّ ل السورة تكذيب الأمم السابقة ذكر هنا إهلاك قرون ماضية بقوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ قبلهم من قرن ﴾ أي : جيل هم في غاية القوة وزاد في بيان القوّة قوله تعالى :﴿ هم أشدّ منهم ﴾ أي : من قريش ﴿ بطشاً ﴾ أي : قوّة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة.
تنبيه : كم منصوب بما بعده وقدم إما لأنه استفهام وإما لأن كم الخبرية تجري مجرى كم الاستفهامية في التصدير ومن قرن تمييز هم أشد صفة إمّا لكم وإما لقرن والفاء في قوله تعالى :﴿ فنقبوا ﴾ عاطفة على المعنى كأنه قيل اشتدّ بطشهم فنقبوا :﴿ في البلاد ﴾ والضمير في نقبوا ما للقرن المتقدّم وهو الظاهر وإما لقريش والتنقيب التنقير والتفتيش ومعناه التطواف في البلاد قال الحارث بن حلزة :
نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال
وقال امرؤ القيس :
وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
ولما كان التقدير ولم يسلموا مع كثرة تنقيبهم توجه سؤال تنبيه للغافل الذاهل وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل بقوله تعالى ﴿ هل من محيص ﴾ أي : معدل ومحيد ومهرب وإن دق من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في ردّ أمرنا.
﴿ إن في ذلك ﴾ أي : فيما ذكر في هذه السورة من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة ﴿ لذكرى ﴾ أي : تذكيراً عظيماً جدّاً ﴿ لمن كان ﴾ أي : كوناً عظيماً ﴿ له قلب ﴾ أي عقل في غاية العظمة فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتبر به ومن لم يكن كذلك فلا قلب له سليم بل له قلب لاه ﴿ أو ألقى السمع ﴾ أي : استمع الوعظ بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه في حال إلقائه ﴿ شهيد ﴾ أي : حاضر بكليته فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه فيتذكر.
وعطف على قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ﴾ قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا ﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها ﴿ السماوات والأرض ﴾ أي : على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع ﴿ وما بينهما ﴾ من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها ﴿ في ستة أيام ﴾ الأرض في يومين. ومنافعها في يومين والسماوات في يومين ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ولكنه تعالى سنّ لنا التأنّي بذلك ﴿ وما مسنا ﴾ لأجل مالنا من العظمة أدنى مس. وعمم في النفي فقال تعالى :﴿ من لغوب ﴾ أي : إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه فكأن تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرّف.
﴿ فاصبر ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ على ما يقولون ﴾ أي : اليهود وغيرهم من إنكار البعث والتشبيه وغير ذلك فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على البعث وغيره ﴿ وسبح ﴾ أي : أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص ملتبساً ﴿ بحمد ربك ﴾ أي : بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها مفضلاً لك على جميع الخلق وقوله تعالى :﴿ قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ إشارة إلى طرفي النهار.
وقوله تعالى :﴿ ومن الليل فسبحه ﴾ إشارة إلى زلفى من الليل وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان مشتغلاً بأمرين أحدهما عبادة الله تعالى والثاني هداية الخلق فإذا لم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة قبل الطلوع وقبل الغروب، لأنهما وقتا اجتماعهم ويكون المراد بقوله تعالى : ومن الليل أوّله لأنه أيضاً وقت اجتماعهم وقال أكثر المفسرين قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان والتهجد ﴿ وأدبار السجود ﴾ التنقل بعد المكتوبات وقيل : الوتر بعد العشاء وقال مجاهد ومن الليل : يعني صلاة الليل أيّ وقت صلى. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسر الهمزة على أنه مصدر قام مقام ظرف الزمان كقولهم آتيك خفوق النجم وخلافة الحجاج ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انقضائها وتمامها والباقون بالفتح جمع دبر وهو آخر الليل وعقبها ومنه قول أوس :
على دبر الشهر الحرام بأرضنا وما حولها جدب سنون تلمع
ولم يختلفوا في وأدبار النجوم وقوله تعالى : وأدبار معطوف إما على قبل الغروب وإما على من الليل وقال عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما : إدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي عنه مرفوعاً. قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين عن عائشة رضي الله عنها قالت :«ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح » وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها » يعني بذلك سنة الفجر وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد » وعن مجاهد وأدبار السجود : هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وكبر ثلاثاً وثلاثين وحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين فذاك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر » وعنه أيضاً «أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال صلى الله عليه وسلم وما ذاك فقالوا : صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد مثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً ».
وقوله تعالى :﴿ واستمع ﴾ أي : لما أخبرك به من أحوال القيامة فيه تهويل وتعظيم للمخبر به والمحدّث عنه. كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل «يا معاذ اسمع ما أقول ثم حدّثه بعد ذلك » وقوله تعالى ﴿ يوم ﴾ ظرف لاستمع أي استمع ذلك في يوم ﴿ ينادي المنادي ﴾ أي : إسرافيل يقف على صخرة ببيت المقدس فينادي بالحشر فيقول : أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
وقيل : المنادي جبريل ﴿ من مكان قريب ﴾ بحيث يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب يكونون في السماع سواء، لا تفاوت بينهم أصلاً. واختلف في ذلك المكان القريب. فأكثر المفسرين : أنه صخرة بيت المقدس فإنها أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض. وقيل : من تحت أقدامهم. وقيل : من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية.
وقوله تعالى :﴿ يوم يسمعون الصيحة ﴾ بدل من يوم ينادي والصيحة النفخة الثانية وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾ حال من الصحية أي متلبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون ملتبسين بسماع حق ﴿ ذلك ﴾ أي : اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين الجدّ ﴿ يوم الخروج ﴾ أي : الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى المحشر وهو من أسماء يوم القيامة.
﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ نحن ﴾ أي : خاصة ﴿ نحيي ونميت ﴾ أي : نجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرّة وعادة مستمرّة كما تشاهدونه فقد كان منا بالإحياء الأوّل المبدأ ﴿ وإلينا ﴾ أي : خاصة بالإماتة ثم الأحياء ﴿ المصير ﴾ أي : في الآخرة. وقيل تقديره نميت في الدنيا ونحيي في الآخرة للبعث. وإلينا المصير بعد البعث.
وقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ يدل من يوم قبله وما بينهما اعتراض. وقرأ ﴿ تشقق الأرض ﴾ نافع وابن كثير وابن عامر بتشديد الشين والباقون بالتخفيف ﴿ عنهم ﴾ أي : مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء حال كونهم ﴿ سراعاً ﴾ أي : إجابة منادينا وهو جمع سريع وأشار إلى عظمة الأمر بقوله تعالى ﴿ ذلك ﴾ أي : الإخراج العظيم جدّاً ﴿ حشر ﴾ أي : جمع بكره وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه بتقدم الجار فقال تعالى :﴿ علينا ﴾ أي : خاصة ﴿ يسير ﴾ فكيف يتوقف فيه عاقل فضلاً عن أن ينكره وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه.
تنبيه : علينا متعلق بيسير ففصل بمعمول الصفة بينها وبين موصوفها ولا يضرّ ذلك. وقال الزمخشريّ : التقديم للاختصاص وهو ما أشرت إليه أي لا يتيسر ذلك إلا على الله تعالى وحده وهو إعادة جواب قولهم ذلك رجع بعيد.
وقوله تعالى :﴿ نحن أعلم ﴾ أي : عالمون ﴿ بما يقولون ﴾ أي : في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم ﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾ أي : بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما أنت منذر وقد فعلت ما أمرت به ونحن القادرون على ردهم بما لنا من العلم المحيط وهذا قبل الأمر بالقتال ﴿ فذكر ﴾ أي : بطريق البشارة والنذارة ﴿ بالقرآن ﴾ أي : الجامع بمجده لكل خير المحيط بكل صلاح ﴿ من يخاف وعيد ﴾ فإنه لا ينتفع به غيره وهم المؤمنون. وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الدال وصلاً لا وقفاً وحذفها الباقون وصلا ووقفاً.
Icon