تفسير سورة ق

فتح البيان
تفسير سورة سورة ق من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة ق
هي خمس وأربعون آية، وهي مكية كلها
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وعن ابن عباس وقتادة أنها مكية ألا آية، وهي قوله :﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسنا من لغوب ﴾ وهي أول المفصل على الصحيح، وقيل : من الحجرات.
وقد أخرج مسلم وغيره عن قطبة بن مالك قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر في الركعة الأولى ق والقرآن المجيد.
وعن أبي واقد الليثي قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد بقاف واقتربت " ١ أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن.
وعن أم هشام ابنة حارثة قالت :" ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس " ٢ أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة والبيهقي، وهو في صحيح مسلم.
١ رواه مسلم..
٢ رواه مسلم..

(ق) الكلام في إعراب هذا، كالكلام الذي قدمناه في (ص) سواء بسواء، لالتقائهما في أسلوب واحد، قرأ العامة بالجزم، وقرىء بكسر الفاء لأن الكسر أخو الجزم، وقرىء بفتحها لأن الفتح أخف الحركات قرىء بضمها لأنه في غالب الأمر حركة البناء، نحو منذ، وقط، وقبل، وبعد واختلف في معنى ق فقال الواحدي قال المفسرون: هو اسم جبل يحيط بالدنيا من زبرجد وقيل من زمردة خضراء، واخضرت السماء منه والسماء مقببة عليه وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في ق لأنه اسم وليس بهجاء، قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كقول القائل: قلت لها قفي، فقالت: قاف، أي: أنا واقفة، وحكى الفراء والزجاج أن قوماً قالوا: معنى ق قضي الأمر وقضي ما هو كائن كما قيل في حم: حم الأمر، وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به، قاله ابن عباس وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن.
وقال الشعبي: فاتحة السورة، وقال أبو بكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال الأنطاكي: هو قرب الله من عباده، بيانه (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقال القرطبي: افتتاح اسم الله عز وجل
159
قادر وقاهر وقريب وقابض، وقاض، وقيل غير ذلك مما هو أضعف منه وأبطل والحق أنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، كما حققنا ذلك في فاتحة سورة البقرة، فالله أعلم بمراده به وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أثراً طويلاً في بيان جبل قاف قال ابن كثير: لا يصح سنده عنه وفيه أيضاًً انقطاع.
(والقرآن المجيد) أي: أنه ذو مجد وشرف على سائر الكتب المنزلة وقال الحسن الكريم، وبه قال ابن عباس، وقيل: الرفيع القدر، وقيل الكبير القدر، وعن ابن عباس قال: ليس شيء أحسن منه ولا أفضل، وجواب القسم قال الكوفيون: هو قوله:
160
(بل عجبوا) وقال الأخفش محذوف أي لتبعثن، يدل عليه (أئذا متنا وكنا تراباً)؟ وقال ابن كيسان: جوابه (ما يلفظ من قول)، لأن ما قبلها عوض منها، وقيل: هو (قد علمنا) بتقدير اللام، أي لقد علمنا، وقيل: محذوف تقديره أنزلناه إليك لتنذر، كأنه قيل: ق والقرآن المجيد أنزلناه إليك لتنذر به الناس.
(بل عجبوا) بل للإضراب عن الجواب على اختلاف الأقوال لبيان حالهم الزائدة في الشناعة على عدم الإيمان، والمعنى بل عجب الكفار (أن) أي لأن (جاءهم منذر منهم) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بمجرد الشك والرد بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل: هو إضراب عن وصف القرآن بكونه مجيداً، وقد تقدم تفسير هذا في سورة ص ثم فسر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله:
(فقال الكافرن هذا شيء عجيب) وفيه زيادة تصريح وإيضاح وإضمار ذكرهم، ثم إظهاره للإشعار بتعنتهم في هذا المقال. ثم التسجيل على كفرهم بهذا المقال، قال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد، وقيل تعجبهم من البعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى، فيكون لفظ هذا إشارة إلى مبهم مفسر بما بعده من قوله: (أئذا متنا وكنا تراباً) وقال الشوكاني: الأول أولى قال الرازي: الظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر ثم قالوا
(أئذا متنا وكُنَّا تُراباً) وأيضاًً قد وجد ههنا بعد الإستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم: (ذلك رجع بعيد) فإنه استبعاد، وهو كالتعجب، فلو كان التعجب بقولهم: (هذا شيء عجيب) عائداً إلى قولهم (أئذا) لكان كالتكرار. فإن قيل التكرار الصريح يلزم من قولك هذا شيء عجيب أنه يعود إلى مجيىء المنذر، فإن تعجبهم منه علم من قوله: (عجبوا أن جاءهم)، فقوله: (هذا شيء عجيب) يكون تكراراً، فنقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير، لأنه لما قال: (بل عجبوا) بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً، كقوله: (أتعجبين من أمر الله)؟ ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجيب، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لتعجبكم، فقالوا: (هذا شيء عجيب) فكيف لا نعجب منه ويدل على ذلك قوله ههنا: (فقال الكافرون) بالفاء فإنها تدل على أنه مترتب على ما تقدم.
قرأ الجمهور بالاستفهام وقرىء بهمزة واحدة فيحتمل الإستفهام كقراءة الجمهور، والهمزة مقدرة، ويحتمل أن يكون معناه الإخبار والمعنى استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم تراباً. ثم جزموا باستبعادهم للبعث فقالوا:
(ذلك) أي البعث (رجع بعيد) أي بعيد عن الأفهام أو العقول أو العادة أو الإمكان يقال رجعته أرجعه رجعاً، ورجع هو يرجع رجوعاً ثم رد الله سبحانه ما قالوه فقال:
(قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أي ما تأكل من أجسادهم، فلا يضل عنا شيء من ذلك، ومن أحاط علمه بكل شيء حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور لا يصعب عليه البعث، ولا يستبعد منه وقال السدي: النقص هنا الموت، يقول قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى لأن من مات دفن، فكأن الأرض تنقص من الأموات، وقيل المعنى من يدخل في الإسلام من المشركين والأول أولى، قال ابن عباس في الآية: أجسادهم وما يذهب منها وما تأكل من لحومهم وعظامهم
161
وأشعارهم (وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ لعدتهم وأسمائهم ولكل شيء من الأشياء وهو اللوح المحفوظ وقيل: المراد بالكتاب هنا العلم والإحصاء والأول أولى، وقيل: حفيظ بمعنى محفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء ثم أضرب سبحانه من الكلام الأول وانتقل إلى ما هو أشنع منه وأقبح فقال:
162
(بل كذبوا بالحق) فإنه تصريح بالتكذيب منهم بعد ما تقدم عنهم من الاستبعاد والمراد بالحق هنا القرآن قال الماوردي: في قول الجميع، وقيل: هو الإسلام وقيل: محمد وقيل: النبوة الثابتة بالمعجزات (لما جاءهم) أي وقت مجيئه إليهم، من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر (فهم في أمر مريج) أي مختلط ومضطرب، يقولون تارة ساحر ومرة شاعر، ومرة كاهن، قاله الزجاج وغيره، وقال قتادة: مختلف، وقال الحسن: ملتبس، وقيل: فاسد، والمعاني متقاربة ومنه قولهم مرجت أمانات الناس أي فسدت ومرج الدين والأمر اختلط، وقال ابن عباس: المريج الشيء المتغير.
(أفلم ينظروا)؟ شروع في بيان الدليل الذي يدفع قولهم ذلك رجع بعيد والاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف غفلوا عن النظر (إلى السماء) كائنة (فوقهم) يشاهدونها كل وقت (كيف بنيناها)؟ أي أوجدناها وجعلناها على هذه الصفة، مرفوعة كالخيمة، إلا إنها بغير عماد تعتمد عليه (وزيناها) بما جعلنا فيها من المصابيح والنيرات والكواكب (وما لها من فروج) أي فتوق وشقوق وصدوع تعيبها، وهو جمع فرج، قال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق ولا صداع ولا خلل والواو للحال.
(والأرض مددناها) أي دحوناها وبسطناها على وجه الماء (وألقينا فيها رواسي) أي جبالاً ثوابت تثبتها وقد تقدم تفسير هذا في سورة الرعد (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن كريم يسر به، وقد تقدم تفسير هذا أيضاًً في سورة الحج
(تبصرة وذكرى) هما علتان لما
162
تقدم أي فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير، قاله الزجاج، وقال المحلي: تبصيراً منا أي تعليماً وتفهيماً واستدلالاً، وقيل منصوبان بفعل مقدر من لفظهما، أي بصرناهم تبصرة، وذكرناهم ذكرى أو تذكرة، وقيل: حالان، أي: مبصرين ومذكرين، وقيل حال من المفعول، أي ذات تبصرة وتذكير لمن يراها، وقال أبو حاتم، أي: جعلنا ذلك تبصرة وذكرى.
قال الرازي: يحتمل أن يكون المصدران عائدين إلى السماء والأرض، أي خلقنا السماء تبصرة، وخلقنا الأرض ذكرى، ويدل على ذلك أن السماء وزينتها غير متجددة في كل عام فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان، وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفتها، فتذكر، فالسماء تبصرة والأرض تذكرة، ويحتمل أن يكون كل واحد من المصدرين موجوداً من الأمرين، فالسماء تبصرة وتذكرة، والأرض كذلك، والفرق بين التذكرة والتبصرة هو أن فيهما آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي (لكل عبد منيب) المنيب الراجع إلى الله بالتوبة المتدبر في بديع صنعه، وعجائب مخلوقاته، وفي سياق هذه الآيات تذكير لمنكري البعث، وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة، وبيان لإمكان ذلك وعدم امتناعه، فإن القادر على هذه الأمور يقدر عليه، وهكذا قوله:
163
(ونزلنا من السماء) أي السحاب (ماء مباركاً) أي كثير البركة لانتفاع الناس به في غالب أمورهم (فأنبتنا به) أي: بذلك الماء (جنات) أي بساتين كثيرة (وحب الحصيد) أي: ما يقتات ويحصد من الحبوب، والمعنى وحب الزرع الحصيد. وخص الحب لأنه المقصود، كذا قال البصريون، وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كمسجد الجامع حكاه الفراء، وأنها جائزة إذا اختلف اللفظان كحق اليقين، وحبل الوريد، ودار الآخرة، قاله الكرخي قال الضحاك: حب الحصيد البر والشعير وقيل: كل حب يحصد ويدخر ويقتات.
163
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
164
(و) أنبتنا به (النخل) تخصيصها بالذكر مع دخولها في الجنات للدلالة على فضلها على سائر الأشجار، أو لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها، ولذلك شبه ﷺ المسلم بها (باسقات) حال مقدرة لأنها وقت الإنبات لم تكن باسقة، قال مجاهد وعكرمة وقتادة: الباسقات الطوال، وقال سعيد بن جبير: مستويات، وقال الحسن وعكرمة والفراء: مواقير حوامل، يقال للشاة: بسقت إذا ولدت، والأشهر في لغة العرب الأول، يقال بسقت النخلة بسوقاً إذا طالت، وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج، وبسق الرجل مهر في علمه، وبسق فلان على أصحابه من باب دخل أي طال عليهم في الفضل.
عن قطبة قال: " سمعت النبي ﷺ يقرأ في الصبح ق، فلما أتى على هذه الآية: والنخل باسقات فجعلت أقول: ما بسوقها؟ قال: طولها (١) أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه، وقال ابن عباس: الطول.
_________
(١) أخرجه الحاكم.
164
(لها طلع نضيد) الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل، يقال: طلع الطلع طلوعاً، والنضيد التراكب الذي نضد بعضه على بعض، وذلك قبل أن يتفتح فهو نضيد في أكمامه فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد قال ابن عباس: متراكم بعضه على بعض
165
(رزقاً للعباد) أي رزقناهم رزقاً، أو أنبتنا هذه الأشياء للرزق، لم يقيد هنا العباد بالإنابة كما قيد به في قوله: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب، والرزق يعم كل أحد، غير أن المنيب يأكل ذاكراً وشاكراً للأنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام، فلم يخصص الرزق بقيد، قاله الخطيب.
(وأحيينا به) أي بذلك الماء (بلدة ميتاً) قرىء بالتخفيف والتثقيل أي مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع، والتذكير باعتبار كون البلدة بلداً أو مكاناً، كما في عبارة أبي السعود (كذلك الخروج) مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحيا الله به الأرض الميتة، وقدم فيها الخبر للقصد إلى الحصر، ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة فقال:
(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس) هم قوم شعيب، وقيل: حنظلة بن صفوان أو نبي آخر أرسل بعد صالح لبقية من ثمود، وتقدم لهذا مزيد كلام في سورة الفرقان، وقيل: هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى، وهم من قوم عيسى، وقيل: هم أصحاب الأخدود، والرس: إما موضع نسبوا إليه، أو بئر كانوا مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام، فخسفت تلك البئر مع ما حولها فذهبت بهم، وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في سورة الفرقان، أو فعل وهو حفر البئر، يقال: رس إذا حفر بئراً وتأنيث الفعل لمعنى قوم، والجملة إستئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان إتفاق كافة الرسل عليها، وتعذيب منكريها (وثمود
وعاد وفرعون) وقومه؛ ذكرت ثمود بعد أصحاب الرس، لأن الرجفة التي أخذتهم مبدؤها الخسف بأصحاب الرس، ثم أتبع ثمود بعاد، لأن الريح التي أهلكتهم إثر صيحة ثمود.
165
(وإخوان لوط) جعلهم إخوانه لأنهم كانوا أصهاره وقيل: هم من قوم إبراهيم وكانوا من معارف لوط
166
(وأصحاب الأيكة) تقدم الكلام على الأيكة في سورة الشعراء، وقرىء هنا ليكة، وهي الغيضة أي الشجر الملتف بعضه على بعض، ونبيهم الذي بعثه الله إليهم شعيب عليه السلام (وقوم تبع) هو تبع الحميري، الذي تقدم ذكره في قوله: أهم خير أم قوم تبع، واسمه سعد، وقيل: أسعد، وكنيته أبو كرب، قال قتادة: ذم الله سبحانه قوم تبع، ولم يذمه.
(كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) التنوين عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من هؤلاء المذكورين كذب رسوله الذي أرسله الله إليه. وكذلك ما جاء به من الشرع. وكان بعض النحاة يجيز حذف تنوينها، وبناءها على الضم كالغايات، كقبل وبعد، فاللام في الرسل يكون للعهد كما سبق أو للجنس، أي كل طائفة من هذه الطوائف كذبت جميع الرسل، لأن من كذب رسولاً فكأنه كذب جميعهم، وإفراد الضمير في كذب باعتبار لفظ كل، وفي هذا تسلية لرسول الله ﷺ كأنه قيل له: لا تحزن ولا تكثر غمك لتكذيب هؤلاء لك، فهذا شأن من تقدمك من الأنبياء، فإن قومهم كذبوهم ولم يصدقهم إلا القليل منهم، والمراد بالكلية هنا التكثير، كما في قوله تعالى. (وأوتيت من كل شيء) فهي باعتبار الأغلب.
(فحق وعيد) حذفت الياء وبقيت الكسرة دليلاً عليها أي: وجب عليهم وعيدي، وحقت عليهم كلمة العذاب، وحل بهم ما قدره الله عليهم من الخسف والمسخ، والإهلاك بالأنواع التي أنزلها الله بهم من عذابه.
(أفعيينا بالخلق الأول)؟ الإستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث الذي أنكرته الأمم، أي: أفعجزنا بالخلق حين خلقناهم أولاً ولم يكونوا شيئاًً؟ فكيف نعجز عن بعثهم؟ يقال: عييت بالأمر إذا عجزت عنه، ولم تعرف وجهه، قال ابن عباس: يقول لم يعينا الخلق
166
الأول، قال الكازروني: معناه لم نعجز عن الإبداء فلا نعجز عن الإعادة، قرأ الجمهور بكسر الياء الأولى بعدها ياء ساكنة وقرىء بتشديد الياء من غير إشباع، ثم ذكر سبحانه أنهم في شك من البعث فقال: (بل هم في لبس من خلق جديد) أي في شك وشبهة وحيرة واختلاط من خلق مستأنف، وهو بعث الأموات، لما فيه من مخالفة العادة، وتنكير خلق لتفخيم شأنه والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه، ويهتم بمعرفته، ومعنى الإضراب أنهم غير منكرين لقدرة الله على الخلق الأول (بل هم في لبس من خلق جديد) قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم، وذلك تسويله لهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة، فتركوا لذلك الإستدلال الصحيح وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر.
167
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر بعض القدرة الربانية، والمراد بالإنسان الجنس، وقيل: آدم، ونعلم حال بتقدير نحن، والجملة إسمية ولا يصح أن يكون ونعلم حالاً بنفسه لأنه مضارع مثبت باشرته الواو وما مصدرية أو موصولة كما في البيضاوي، والباء زائدة كقولك: صوت بكذا وهمس به أو للتعدية، أي نعلم وسوسة نفسه له، أو نعلم الأمر الذي تحدثه نفسه به، فالنفس تجعل الإنسان قائماً به الوسوسة، والوسوسة هي في الأصل الصوت الخفي، والمراد بها هنا ما يختلج في سره وقلبه وضميره. أي حديث النفس، وهو ما ليس فيه صوت كالكلية لكن مناسبته للمعنى الأصلي الخفاء في كل، أي: نعلم ما يخفي ويكن في نفسه، ومن استعمال الوسوسة في الصوت الخفي قول الأعشى:
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت.
فاستعمل لما خفي من حديث النفس.
(ونحن أقرب إليه) أي إلى الإنسان، لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب على الله شيء (من حبل الوريد) هو حبل
167
العاتق، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه وهما وريدان، أي: عرقان عن يمين وشمال، وقال الحسن: الوريد الوتين، وهو عرق معلق بالقلب، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان، أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل وريده، لا يخفى علينا شيء من خفيانه، فكأن ذاته قريبة منه، كما يقال: الله في كل مكان، أي: بعلمه، فإنه سبحانه منزه عن الأمكنة، وحاصله أنه تجوز بقرب الذات عن قرب العلم، قاله الكرخي والإضافة بيانية، أي حبل من الوريد، وقيل: الحبل هو نفس الوريد، فهو من باب مسجد الجامع، سمي وريداً لأن الروح ترد إليه وهو في العنق الوريد، وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر. وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا، وفي الخنصر الأسيلم.
وفي الخازن: الوريد الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن، وهو بين الحلق والعلباوين، وقال الزمخشري: إنهما وريدان يكتنفان بصفحتي العنق في مقدمهما، متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه، قال أبو السعود: وهو عرق متصل بالقلب، إذا قطع مات صاحبه، وقيل: المعنى نحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه، ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: " نزل الله من ابن آدم أربع منازل، هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصية كل دابة، وهو معهم أينما كانوا ". وقال أبو سعيد في حبل الوريد: هو عروق العنق، وعنه هو نياط القلب، قال القشيري: في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم، ذكره الخطيب.
ثم ذكر الله سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاماً للحجة فقال:
168
(إذ) أي أذكر إذ (يتلقى المتلقيان) ويجوز أن يكون الظرف منتصباً
168
بما في أقرب من معنى الفعل، والمعنى أنه أقرب إليه من حبل وريده، حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، وبما يلفظ به، وما يعمل به، أي يأخذان ذلك ويثبتانه والتلقي الأخذ، وقيل: التلقي التلقن بالحفظ والكتابة، والمعنى نحن أعلم بأحواله غير محتاجين إلا الحفظة الموكلين به. وإنما جعلنا ذلك إلزاماً للحجة وتوكيداً للأمر.
(عن اليمين وعن الشمال قعيد) قال الحسن وقتادة: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك، أحدهما عن يمينك ويكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. وقال مجاهد أيضاًً: وكل الله بالإنسان ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره، روي أنهما قاعدان على ثنيتيه، لسانه قلمهما وريقه مدادهما ذكره أبو السعود وإنما قال قعيد ولم يقل قعيدان وهما اثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد. وعن الشمال قعيد. فحذف الأول لدلالة الثاني عليه؛ كذا قال سيبويه. وقال الأخفش والفراء: إن لفظ قعيد يصلح للواحد والإثنين والجمع. ولا يحتاج إلى تقدير في الأول. قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة والنحو: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والإثنان والجمع، والقعيد المقاعد، كالجليس بمعنى المجالس لفظاً ومعنى.
169
(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) أي ما يتكلم من كلام فيلفظه ويرميه من فيه إلا لدى ذلك اللافظ ملك يرقب قوله ويكتب، والرقيب الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو ملك اليمين. وكاتب الشر ملك الشمال. والعتيد الحاضر المهيأ. قال الجوهري: العتيد المهيأ. يقال: عتده تعتيداً وأعتده إعتاداً. أي أعده. ومنه: (وأعتدت لهن متكأً) والمراد ههنا أنه معد للكتابة مهيأ لها. والإفراد في رقيب عتيد مع إطلاعهما معاً على ما صدر منه لما أن كل منهما رقيب لما فوض إليه لا لما فوض لصاحبه كما ينبىء عنه قوله: عتيد. وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص. فعلم أن كلاً منهما يقال له:
169
(رقيب عتيد). ويعلم من هذه الآية أن الملكين معدان لذلك بخلاف الأولى فإنه لا يعلم منها ذلك، وأيضاًً يعلم من هذه صريحاً أن الملك يضبط كل لفظ ولا يعلم ذلك من الأولى، قال أبو سعيد في الآية: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) وقال ابن عباس: إنما يكتب الخير والشر، لا يكتب يا غلام أسرج الفرس يا غلام أسقني الماء.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " (١).
وعن عمرو بن ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول " أخرجه أحمد وأبو نعيم والبيهقي في الشعب وابن أبي شيبة وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً مثله.
_________
(١) مسلم.
170
(وجاءت سكرة الموت) لما بين سبحانه أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت والبعث، وما يتفرع عليه من الأحوال والأهوال، وقد عبر عن وقوع كل منها بصيغة الماضي إيذاناً بتحققها، وغاية اقترابها، والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، ومعنى (بالحق) أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد، وقيل: الحق هو الموت نفسه، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذا قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود.
والسكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين، وقيل الباء
170
للملابسة كالتي في قوله: (تنبت بالدهن) أي متلبسة بالحق أي بحقيقة الحال وقيل بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر لها عياناً وهو نفس الشدة قاله الجلال المحلي وقال القاري: لم يظهر لي معنى هذه العبارة، وممكن أن يقال الضمير في قوله هو راجع لأمر الآخرة، والمراد بالشدة الأمر الشديد، وهو أهوال الآخرة فعلى هذا تكون هذه الجملة تفسيراً لقوله من أمر الآخرة، وقيل بالحكمة وقيل بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة.
(ذلك) أي الموت (ما كنت منه تحيد) أي الذي كنت تميل عنه وتفر منه في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار، يقال: حاد عن الشيء يحيد حيوداً وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وقال الحسن: تحيد تهرب، وقيل تفزع، وقيل: تكره، وقيل تنفر
171
(ونفخ في الصور) عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، وهذه هي النفخة الآخرة للبعث عطف على جاءت سكرة الموت والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وهو من العظمة بحيث لا يعلم قدره إلا الله، وقد التقمه إسرافيل من حين بعث محمد ﷺ منتظراً للإذن بالنفخ ذكره الخطيب (ذلك) أي الوقت الذي يكون فيه النفخ في الصور، والفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان أيضاًً (يوم الوعيد) الذي أوعد الله به الكفار، قال مقاتل: يعني بالوعيد العذاب في الآخرة وخصص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعاً لتهويله والمعنى يوم تحقق الوعيد وإنجازه.
(وجاءت) فيه (كل نفس) من النفوس (معها سائق وشهيد) أي من يسوقها، ومن يشهد لها وعليها، واختلف في السائق والشهيد، فقال الضحاك: السائق من الملائكة، والشهيد من أنفسهم: يعني الأيدي والأرجل وقال الحسن وقتادة: سائق يسوقها؛ وشاهد يشهد عليها بعملها أي هما ملكان، وقيل: ملك جامع بين الوصفين، وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقاً لأنه يتبعها وإن لم يحثها، والشهيد جوارحه وأعماله، وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان، وقيل: السائق كاتب السيئات
171
والشهيد كاتب الحسنات، قال عثمان بن عفان: سائق ملك يسوقها إلى أمر الله وشهيد ملك يشهد عليها بما عملت، قال القرطبي: قلت هذا أصح.
وعن أبي هريرة قال: السائق الملك، والشهيد العمل، وقال ابن عباس: السائق الملك والشهيد شاهد عليه من نفسه، ثم في الآية قولان.
أحدهما: أنها عامة في المسلم والكافر، وهو قول الجمهور.
الثاني: أنها خاصة بالكافر، قاله الضحاك ويقال للكافر:
172
(لقد كنت في غفلة من هذا) وبه قال ابن عباس. وقال الضحاك: المراد بهذا المشركون، لأنهم كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال ابن زيد: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة، وقال أكثر المفسرين المراد به جميع الخلق برهم وفاجرهم، واختار هذا ابن جرير لأنه ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة، قرأ الجمهور بفتح التاء من كنت وفتح الكاف في غطاءك وبصرك حملاً على ما في لفظ كل من التذكير وقرىء بالكسر في الجميع على أن المراد النفس.
(فكشفنا عنك غطاءك) الذي كان في الدنيا، يعني رفعنا الحجاب الذي كان بينك وبين أمور الآخرة، ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك، وقال ابن عباس: الحياة بعد الموت، قال البيضاوي: الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة والإنهماك في المحسوسات، والإلف بها وقصور النظر عليها، قال السدي: المراد بالغطاء أنه كان في بطن أمه فولد، وقيل إنه كان في القبر فنشر، والأول أولى.
(فبصرك اليوم حديد) أي: نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في الدنيا، وتدرك به ما أنكرته فيها والبصر، قيل: هو بصر القلب، وقيل: بصر العين، وقال مجاهد: بصرك أي لسان ميزانك، حين توزن حسناتك وسيئاتك، وبه قال الضحاك.
172
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥)
173
(وقال قرينه) أي قال الملك الموكل به وهو الرقيب السابق ذكره قد تقدم أنه كاتب الحسنات وكاتب السيئات، وأن للإنسان رقيبين وهما العتيدان فإفراده لتأويله كما مر في الرقيب وفي الشهاب وزاده أن المراد بالقرين الجنس ولو جعلت الخطابات السابقة للكافر لكان وجه إفراد القرين ظاهراً.
(هذا ما لدي) أي عندي من كتاب عملك، وما موصولة أو نكرة موصوفة (عتيد) حاضر قد هيأته، كذا قال الحسن وقتادة والضحاك، وقال ابن عباس: قرينه شيطانه، وقال مجاهد: إن الملك يقول للرب سبحانه هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته، وأحضرت ديوان عمله. وروي عنه أنه قال: إن قرينه من الشيطان يقول ذلك أي: هذا ما قد هيأته لك بإغوائي وإضلالي وقال ابن زيد: إن المراد هنا قرينه من الإنس، وعتيد مرفوع على أنه صفة (ما) ما إن كانت موصوفة، وإن كانت موصولة فهو خبر.
(ألقيا في جهنم) هذا خطاب من الله عز وجل للسائق والشهيد، قال الزجاج: هذا أمر للملكين الموكلين به، وقيل: هو خطاب للملكين من خزنة النار وقيل هو خطاب لواحد على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل
173
وتكريره. وقال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين يقولون أرحلاها وازجراها وخذاها وأطلقاه للواحد، قال الفراء: العرب تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان. فجرى كلام الرجل للواحد على ذلك ومنه قولهم في الشعر خليلي، قال المازني: قوله (ألقيا) يدل على ألق ألق، قال المبرد: هي تثنية على التوكيد، فناب ألقيا مناب ألق ألق، أو الألف ليست للتثنية لا حقيقة ولا صورة بل هي منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة على حد قوله:
وابدلها بعد فتح ألفا وقفا كما تقول في قفن قفا
وأجرى الوصل مجرى الوقف كنسفعاً، ويؤيده قراءة الحسن في الشواذ ألقين بنون التوكيد الخفيفة، ولم يقرأ بهذه القراءة أحد من السبعة وقال الكرخي: الخطاب للملكين السائق والشهيد، على ما عليه الأكثر وهو الظاهر.
(كل كفار) للنعم (عنيد) مجانب للإيمان؛ معاند لأهله: قال مجاهد وعكرمة: العنيد المعاند للحق، وقيل: المعرض عن الحق يقال عند يعند بالكسر عنود إذا خالف الحق ورده، وهو يعرفه
174
(مناع للخير) لا يبذل خيراً، ولا يؤدي زكاة مفروضة، أو كل حق وجب عليه في ماله (معتد) ظالم لا يقر بتوحيد الله (مريب) شك في الحق، من قولهم أراب الرجل إذا صار ذا ريب
(الذي جعل مع الله إلهاً آخر) بدل من كل، أو منصوب على الذم أو بدل من كفار، أو مرفوع بالابتداء، والخبر: (فألقياه في العذاب الشديد) أي النار، تأكيد للأمر الأول أو بدل منه.
(قال قرينه ربنا ما أطغيته) مستأنفة لبيان ما يقوله القرين، والمراد به هنا الشيطان الذي قيض لهذا الكافر، أنكر أن يكون أطغاه ثم قال:
174
(ولكن كان في ضلال بعيد) عن الحق، فدعوته فاستجاب لي، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه وقيل: إن قرينه الملك الذي كان يكتب سيئاته وإن الكافر يقول رب إنه أعجلني فيجيبه بهذا كذا، قال مقاتل وسعيد ابن جبير والأول أولى، وبه قال الجمهور.
175
(قال) تعالى: (لا تختصموا لدي) مستأنفة كأنه قيل: فماذا قال الله؟ فقيل قال: لا تختصموا لدي، يعني الكافرين وقرناءهم، نهاهم سبحانه عن الاختصام في مواقف الحساب، قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم (وقد قدمت إليكم بالوعيد) بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والباء مزيدة للتأكيد، أو على تضمين قدم معنى تقدم قيل: إن مفعول قدمت إليكم هو قوله: ما يبدل أي وقد قدمت إليكم هذا القول متلبساً بالوعيد وهذا بعيد جداً.
(ما يبدل) أي ما يغير (القول لدي) في ذلك أي لا خلف لوعيدي، بل هو كائن لا محالة؛ وقد قضيت عليك بالعذاب فلا تبديل له وقيل: هذا القول هو قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، وقيل: هو قوله: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)، وقيل: المراد بالقول هو الوعيد بتخليد الكافر في النار ومجازاة العصاة على حسب استحقاقهم، وقال الفراء وابن قتيبة: معنى الآية أنه ما يكذب عندي بزيادة في القول ولا ينقص منه لعلمي بالغيب، وهو قول الكلبي، واختاره الواحدي لأنه قال: (لدي) ولم يقل: ما يبدل قولي قيل والمعنى لا تطمعوا أني أبدل وعيدي، والعفو عن بعض المذنبين لبعض الأسباب ليس من التبديل فإن دلائل العفو في حق عصاة المذنبين تدل على تخصيص الوعيد، ولا تخصيص في حق الكافر فالوعيد على عمومه في حقهم والأول أولى.
(وما أنا بظلام للعبيد) أي لا أعذبهم ظلماً بغير جرم اجترموه ولا
175
ذنب أذنبوه، وقال ابن عباس في الآية: ما أنا بمعذب من لم يجترم ولما كان نفي الظلام لا يستلزم نفي مجرد الظلم، قيل: إنه هنا بمعنى الظالم، كالتمّار بمعنى التامر، وقيل إن صيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب، في معرض المبالغة في الظلم، وقيل: صيغة المبالغة لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده، وظالم لعبيده، وقيل ظلام بمعنى ذي ظلم لقوله: (لا ظلم اليوم) وإذا لم يظلم في هذا اليوم فنفي الظلم عنه في غيره أحرى فلا مفهوم له، وقيل غير ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران وفي سورة الحج.
176
(يَوْمَ نَقُولُ) قرأ الجمهور بالنون، وقرىء بالياء، وقرىء أقول ويقال، والعامل في الظرف ما يبدل القول، أو محذوف، أي: اذكر يوم أو أنذرهم يوم نقول (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ قيل هذا الكلام على طريقة التمثيل والتخييل، ولا سؤال ولا جواب؛ وبه قال الزمخشري، والأولى أنه على طريقة التحقيق ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع، قال الكرخي: جعل الزمخشري هذا من باب المجاز مردود، لما ورد: تحاجت النار والجنة، واشتكت النار إلى ربها، ولا مانع من ذلك فقد سبح الحصى، وسلم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فتح باب المجاز فيه لاتسع الخرق. قال النسفي: هذا على تحقيق القول من جهنم، وهو غير مستنكر، كإنطاق الجوارح والسؤال لتوبيخ الكفار، لعلمه تعالى أنها قد امتلأت أم لا، وقال الواحدي: قال المفسرون: أراها الله تصديق قوله: (لأملأن جهنم) فلما امتلأت قال لها: هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد؟ أي قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلىء. وبهذا قال عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان.
وقيل: إن هذا الإستفهام بمعنى الاستزادة، أي: أنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها، وقيل إن المعنى أنها طلبت أن يزاد في سعتها لتضايقها
176
بأهلها. والمزيد؛ إما مصدر كالمجيد، أو إسم مفعول كالمبيع، فالأول بمعنى هل من زيادة والثاني: بمعنى هل من شيء تزيد فيه؟ قال ابن عباس: وهل في من مكان يزاد فيّ؟.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أنس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم في فضول الجنة (١) هذا لفظ مسلم، وأخرجاه أيضاًً من حديث أبي هريرة نحوه، وفيه: فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط، قيل معنى القدم هنا القوم المتقدم إلى النار، ومعنى الرجل العدد الكثير من الناس وغيرهم، وفي الباب أحاديث، ومذهب جمهور السلف فيها الإيمان بها من غير تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تحريف ولا تمثيل، وإمرارها على ظاهرها، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، قال القرطبي في تذكرته: باب ما جاء أن جهنم في الأرض وأن البحر طبقها.
روي عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: " لا يركب البحر رجل إلا غاز أو حاج معتمر، فإن تحت البحر ناراً " ذكره أبو عمرو وضعفه، قال ابن عمر: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم وضعفه أبو عمرو أيضاًً.
ثم لما فرغ الله سبحانه من بيان حال الكافرين شرع في بيان حال المؤمنين فقال:
_________
(١) رواه البخاري ومسلم.
177
(وأزلفت الجنة) أي: قربت وأدنيت (للمتقين) الذين اتقوا الشرك تقريباً (غير بعيد) أو مكاناً غير بعيد منهم، بحيث يشاهدونها ويرونها في الموقف، وينظرون ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل: المعنى أنها زينت لقلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب فصارت قريبة من قلوبهم، والأول أولى، وقيل: يطوي الله المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب، وذلك إكراماً للمؤمن وبياناً لشرفه وأنه ممن تمشي إليه وقيل: المراد قرب الدخول فيها لا بمعنى القرب المكاني، وقيل: معنى أزلفت جمعت محاسنها لأنها مخلوقة، أو أن المعنى قرب حصولها لأنها تنال بكلمة طيبة، وخص المتقين بذلك لأنهم أحق بها.
(هذا) إشارة إلى الجنة التي أزلفت لهم على معنى هذا الذي ترونه من فنون نعيمها (ما توعدون) والجملة بتقدير القول أي يقال لهم: هذا ما توعدون قرأ الجمهور بالفوقية، وقرىء بالتحتية (لكل أواب حفيظ) هو بدل من المتقين بإعادة الخافض، أو متعلق بقول محذوف هو حال، أي مقولاً لهم: لكل أواب، والأواب الرجاع إلى طاعة الله تعالى بالتوبة عن المعاصي، وقيل: هو المسبح، وقيل: هو الذاكر لله في الخلوة. قال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها، وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلساً حتى يستغفر الله فيه، والحفيظ هو الحافظ حتى يثوب منها، وقال قتادة: هو الحافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته قال مجاهد وقيل: هو الحافظ لأمر الله، وقال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله له بالقبول، قال ابن عباس: حفيظ ذنوبه حتى رجع عنها، وقيل: حافظ لحدود الله.
(من خشي الرحمن بالغيب) بدل أو بيان لكل أواب، أو بدل بعد بدل من المتقين، وفيه نظر، لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد، ويجوز أن يكون مرفوعاً على الاستئناف، والخبر: ادخلوها بتقدير يقال لهم: ادخلوها والخشية
178
انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة، والخشية بالغيب أن يخاف الله، ولم يكن رآه، وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد، قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الأبواب (وجاء بقلب منيب) أي راجع إلى الله مخلص لطاعته، وقيل: بسريرة مرضية، وعقيدة صحيحة، وقيل: المنيب المقبل على الطاعة، وقيل السليم.
179
(أدخلوها) الجمع باعتبار معنى من أي ادخلوا الجنة (بسلام) أي بسلامة من العذاب، وكل مخوف، وقيل: بسلام من الله أو من ملائكته، وقيل بسلامة من زوال النعم وحلول النقم، أي متلبسين به أو مع سلام، أي: ليسلم بعضكم على بعض، فالمراد السلام فيما بينهم، ولا مانع من حمل الآية الكريمة على كل (ذلك) إشارة إلى زمن ذلك اليوم الذي حصل فيه الدخول، كما قال أبو البقاء، وخبره: (يوم الخلود) وسماه يوم الخلود، لأنه لا انتهاء له بل هو دائم أبداً، وهذا القول في الدنيا إعلام وإخبار،
وليس ذلك قولاً يقوله عند قوله: ادخلوها، أو أن اطمئنان القلب بالقول أكثر.
(لهم ما يشاؤون فيها) أي في الجنة ما تشتهي أنفسهم، وتلذ أعينهم من فنون النعم، وأنواع الخير (ولدينا مزيد) من النعم التي لم تخطر لهم على بال ولا مرت لهم في خيال قيل: هو النظر إلى وجهه الكريم، قاله جابر وقال أنس: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته، فهذا هو المزيد، وعن علي قال: يتجلى لهم الرب عز وجل، وقيل: إن السحابة تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فيقلن: نحن المزيد الذي قال تعالى: ولدينا مزيد، وفي الباب روايات وأحاديث، ثم خوف سبحانه أهل مكة بما اتفق للقرون الماضية قبلهم، فقال:
179
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)
180
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش ومن وافقهم (من قرن) أي أمة كثيرة من الكفار (هم أشد منهم بطشاً) أي: قوة كعاد وثمود وغيرهم (فنقبوا في البلاد) قرىء بتشديد القاف على الماضي، والتنقيب التنقير عن الأمر والبحث والطلب، أي ساروا وتقلبوا فيها، وطافوا بقاعها طلباً للهرب، وأصله من النقب وهو الطريق، قال مجاهد: ضربوا وطافوا، وقال النضر بن شميل: دوروا، وقال المؤرج: تباعدوا، والأول أولى؛ وقرأ ابن عباس وغيره نقبوا بفتح القاف مخففة والنقب هو الخرق والطريق في الجبل وكذا المنقب والمنقبة؛ كذا قال ابن السكيت: وجمع النقب نقوب؛ وقرىء بكسر القاف مشددة على الأمر للتهديد، أي طوفوا فيها وسيروا في جوانبها.
ولما كان التقدير ولم يسلموا مع كثرة تنقيبهم وتفتيشهم توجه سؤال فيه تنبيه الغافل وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل بقوله (هل من محيص)؟ لهم أو لغيرهم: أي من معدل ومحيد، ومهرب يهربون إليه من الموت أو مخلص يتخلصون به من العذاب؛ ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا؛ وهل حرف استفهام، ومن زائدة، قال الزجاج: لم يروا محيصاً من الموت؛ والمحمص
180
مصدر حاص عنه يحيص حيصاً وحيوصاً ومحيصاً ومحاصاً وحيصاناً أي عدل وحاد، والجملة مستأنفة لبيان أنه لا مهرب لهم ولا مفر، وهي من كلام الله تعالى، إذ لو كانت من كلامهم لكان التقدير هل من محيص لنا؟ فليتأمل وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم مثل من قبلهم من القرون لا يجدون من الموت والعذاب مفراً.
181
(إن في ذلك لذكرى) أي فيما ذكر من قصتهم في هذه السورة من أولها إلى آخرها تذكرة وموعظة (لمن كان له قلب) أي عقل، قال الفراء: وهذا جائز في العربية تقول مالك قلب. وما قلبك معك أي مالك عقل وما عقلك معك، وقيل: المراد القلب نفسه، لأنه إذا كان سليماً أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي، وقيل لمن كان له حياة ونفس مميزة فعبر عن ذلك بالقلب، لأنه وطنها ومعدن حياتها (أو ألقى السمع) أي استمع ما يقال له من الوعظ وغيره يقال: ألق سمعك إليّ أي استمع مني، والمعنى: أنه ألقى السمع إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى على تلك الأمم.
قرأ الجمهور ألقى مبنياً للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول ورفع السمع وأو مانعة الخلو، لا مانعة الجمع، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب كما يلوح به قوله (وهو شهيد) أي حاضر الفهم أو حاضر القلب لأن من لا يفهم، في حكم الغائب وإن حضر بجسمه فهو لم يحضر بفهمه، قال الزجاج: أي وقلبه حاضر فيما يسمع؛ قال سفيان: أي لا يكون حاضراً وقلبه غائب قال مجاهد وقتادة: هذه الآية في أهل الكتاب، وكذا قال الحسن، وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.
(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام) أولها الأحد وآخرها الجمعة، فخلق الأرض في يومين ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لخلق الكل في أقل من لمح البصر، ولكنه تعالى من فضله علمنا
181
بذلك التأني في الأمور، واليوم قد يطلق ويراد به الوقت والحين، وقد يعبر به عن مدة الزمان، أي مدة كانت وقد تقدم تفسير هذة الآية في سورة الأعراف وغيرها مراراً.
(وما مسنا من) زائدة (لغوب) أي تعب وإعياء، يقال: لغب يلغب بالضم لغوباً وقال ابن عباس: لغوب نصب، قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: نزلت رداً على اليهود في قولهم: إن الله استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فلذلك تركوا العمل فيه، فأكذبهم الله بقوله: وما مسنا من لغوب، وانتفاء التعب عنه لتنزهه تعالى عن صفات المخلوقين، ولعدم المماسة بينه وبين غيره إنما أمره إذا أراد شيئاًً أن يقول له كن فيكون قال الرازي: والظاهر أن المراد الرد على المشركين، والاستدلال بخلق السموات والأرض وما بينهما في أمر البعث وأما ما قاله اليهود ونقلوه فهو ما تحرف منهم، أو لم يعلموا تأويله.
182
(فاصبر على ما يقولون) هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر له بالصبر على ما يقوله المشركون، أي هون عليك ولا تحزن لقولهم، وتلق ما يرد عليك منهم بالصبر (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) أي نزه الله عما لا يليق بجنابه العالي، متلبساً بحمده وقت الفجر ووقت العصر، وقيل: المراد صلاة الفجر وصلاة العصر، قاله ابن عباس، وقيل الصلوات الخمس، وقيل: صلِّ ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها، والأول أولى
(ومن الليل فسبحه) من للتبعيض أي سبحه بعض الليل، وقيل: هي صلاة الليل، وقيل ركعتا الفجر، وقيل صلاة العشاء والأول أولى.
(وإدبار السجود) أي وسبحه أعقاب الصلوات، قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع دبر، وقرىء بكسرها على المصدر من أدبر الشيء إدباراً إذا ولّى وقال جماعة من الصحابة والتابعين: إدبار السجود الركعتان بعد المغرب،
182
وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، وقد اتفق القراء السبعة في إدبار النجوم أنه بكسر الهمزة.
وعن ابن عباس قال: " بت عند رسول الله ﷺ فصلى ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: يا ابن عباس ركعتان قبل صلاة الفجر إدبار النجوم، وركعتان بعد المغرب إدبار السجود " (١) أخرجه الترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي حاتم.
وعن علي بن أبي طالب قال: " سألت رسول الله ﷺ عن إدبار النجوم وإدبار السجود فقال: إدبار السجود ركعتان بعد المغرب، وإدبار النجوم ركعتان قبل الغداة " أخرجه مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إدبار السجود ركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم ركعتان قبل الفجر، وعن أبي هريرة مثله، وقال ابن عباس أمره أن يسبح في إدبار الصلوات كلها، وبه قال مجاهد، قال الكرخي:
لخبر أبي هريرة في الصحيح مرفوعاً " من سبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فذلك تسعة وتسعون وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " (٢).
_________
(١) رواه الحاكم.
(٢) رواه مسلم.
183
(واستمع) ما يوحى إليك من أحوال القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، وقيل: الاستماع بمعنى الانتظار وهو بعيد، وقيل
183
استمع النداء والصوت أو الصيحة، قاله ابن عباس (يوم يناد المناد) هو إسرافيل أو جبرائيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر، وهي صيحة القيامة، أعني النفخة الثانية في الصور من إسرافيل، وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي أهل المحشر ويقول هلموا للحساب، فالنداء على هذا في المحشر، قال الشهاب: وهو الأصح، كما دلت عليه الآثار.
قال مقاتل: هو إسرافيل ينادي في المحشر فيقول: يا أيها الناس هلموا للحساب، وقيل ينادي أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
(من مكان قريب) من السماء حيث يصل النداء إلى كل فرد من أفراد المحشر، قال قتادة: كنا نتحدث أنه ينادي من صخرة بيت المقدس، وبه قال ابن عباس، قال الكلبي: وهي أقرب موضع من الأرض إلى السماء بإثني عشر ميلاً، وهي وسط الأرض، وقال (١) كعب بثمانية عشر ميلاً
_________
(١) كلا، لا صحة لكلام كعب ولا صاحبه الكلبي فإن المسافة بين أعلى بقعة في الأرض وأقرب كوكب في سماء الدنيا مئات الألوف من الأميال.
184
(يوم يسمعون) أي الخلق كلهم (الصيحة بالحق) يعني صيحة البعث، وهي النفخة الثانية من إسرافيل، ويحتمل أن تكون قبل ندائه وبعده قاله الجلال المحلي، وهذا غير مستقيم لأن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة كما في قوله تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة) قال الكلبي: معنى بالحق بالبعث، وهو حال من الواو أي يسمعون متلبسين بالحق، أو من الصيحة أي متلبسة بالحق، وقال مقاتل: يعني أنها كائنة حقاً.
(ذلك) أي يوم النداء والسماع (يوم الخروج) من القبور، قال ابن عباس: أي يوم يخرجون إلى البعث من القبور، يعني يعلمون عاقبة تكذيبهم
(إنا نحن نحيي) في الآخرة (ونميت) في الدنيا، لا يشاركنا في
184
ذلك مشارك، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث (وإلينا المصير) فنجازي كل عامل بعمله.
185
(يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً) أي حال كونهم مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم (ذلك حشر) أي بعث وجمع (علينا يسير) هين، وتقديم الظرف يدل على الاختصاص، أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن، ثم عزى الله سبحانه نبيه ﷺ فقال:
(نحن أعلم بما يقولون) من تكذيبك فيما جئت به، ومن إنكار البعث والتوحيد.
(وما أنت عليهم بجبار) أي بمسلط، تجبرهم وتقهرهم على الإيمان والآية منسوخة بآية السيف، وجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي، فإن فعالاً إنما يبنى من الثلاثي وفي المصباح أجبرته على كذا بالألف حملته عليه قهراً وغلبة. فهو مجبر، هذه لغة عامة العرب وفي لغة لبني تميم وكثير من أهل الحجاز جبرته جبراً من باب قتل، حكاه الأزهري، ثم قال جبرته لغتان جيدتان، وقال الخطابي: الجبار الذي جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، يقال جبره السلطان وأجبره بمعنى ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى: وما أنت عليهم بجبار، أن الثلاثي لغة حكاها الفراء وغيره واستشهد لصحتها بما معناه أنه لا يبنى فعال إلا من فعل ثلاثي نحو الفتاح والعلام ولم يجيء من أفعل بالألف الإدراك، فإن حمل جبار على هذا المعنى فهو وجيه، قال الفراء: وقد سمعت العرب تقول جبرته على الأمر وأجبرته وإذا ثبت ذلك فلا يعول على قول من ضعفها.
(فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد) أي وعيدي لعصاتي بالعذاب وأما من عداهم فلا تشتغل بهم، ثم أمره الله سبحانه بعد ذلك بالقتال قال ابن عباس قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) وهم المؤمنون.
185
سورة الذاريات
(هي ستون آية وهي مكية)
187

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (١) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (٢) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (٣) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠)
قال القرطبي: في قول الجميع: وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وفي بعض النسخ والذاريات بالواو (بسم الله الرحمن الرحيم
189
Icon