ﰡ
مكية بإجماع من المتأولين، وقيل: إلا ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ﴾ الآية، فمدني، وآيها: خمس وأربعون آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وأربعة وسبعون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وخمس وسبعون كلمة.
روي عن أبي بن كعب، عن النبي - ﷺ -: أنه قال: "مَنْ قرأ سورةَ ق هَوَّنَ الله عليه الموتَ وسَكَراتِه" (١).
وهذا أول المفصل عند الإمام أحمد، وأحد الأقوال المعتمدة عن أبي حنيفة، وتقدم التنبيه عليه في أول الحجرات عند ذكر الأقوال الأخرى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١)﴾.[١] ﴿ق﴾ أبو جعفر على أصله في السكت يقف على (ق)، والكلام فيه كالكلام في (ص)؛ لأنهما في أسلوب واحد، واختلف في معناه، فقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، أو من أسماء القرآن، أو هو مفتاح
﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ الكريم في أوصافه، ومن عمل بالقرآن مَجُدَ؛ أي: شَرُف على الناس، و (ق) مُقْسَم به وبالقرآن المجيد، وجواب القسم محذوف (١) تقديره: لَتبعَثُنَّ؛ لأنهم أنكروا البعث.
قال ابن عطية (٢): و (٣) هذا قول حسن، ثم قال: وأحسنُ منه أن يكون الجواب هو الذي يقع عنه الإضراب بـ (بل)؛ كأنه قال: والقرآنِ المجيدِ ما ردوا أمرك بحجة، أو ما كذبوك ببرهان.
...
﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢)﴾.
[٢] ﴿بَلْ عَجِبُوا﴾ كفار مكة (٤) ﴿أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ﴾ مخوِّف ﴿مِنْهُمْ﴾ يعرفون نسبه وصدقه.
﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ أي: قولُ محمد: إنا نحيا بعد الموت، وقيل: الضمير في (عَجِبُوا) لجميع الناس، مؤمنِهم وكافرِهم؛ لأن كل مفطور عجبَ من بعثة بشرٍ رسولَ الله، لكن المؤمنون نظروا واهتدوا،
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ١٥٥).
(٣) "و" زيادة من "ت".
(٤) في "ت": "قريش".
...
﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)﴾.
[٣] ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾ استفهام إنكار جوابه محذوف؛ أي: أنرجع إذا متنا وصرنا ترابًا؟ ثم أنكروا ذلك أصلًا، فقالوا: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ﴾ إلى الحياة ﴿بَعِيدٌ﴾ عن العادة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (أَئِذا) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء، وفصل أبو جعفر، وأبو عمرو، وقالون بين الهمزتين بألف، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين، واختلف عن هشام في الفصل (١)، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِتْنَا) بكسر الميم، والباقون: بضمها (٢).
...
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤)﴾.
[٤] قال الله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ ما تأكل من لحومهم، وهو رَدٌّ لاستبعادهم.
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٣٢).
في الحديث: "كلُّ ابنِ آدمَ يَبْلى إلا عَجْبَ الذَّنَب" (١)، وهو عظم كالخردلة، فمنه يركب ابن آدم.
قال ابن عطية: وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة، وهذا هو الحق، وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه، قال ابن عطية: وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله تعالى، ولو كانت غيرها، فكيف كانت تشهد الجلود والأيدي والأرجل على الكفرة؟ إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود (٢).
وسئل شيخ الإسلام ابن حجر: هل الأجساد إذا بليت وفنيت، وأراد الله إعادتها كما كانت أولًا، هل تعود الأجساد الأول، أم يخلق الله للناس (٣) أجسادًا غير الأجساد الأول؟ فأجاب: إن الأجساد التي يعيدها الله هي الأجساد الأول، لا غيرها، قال: وهذا هو الصحيح، بل الصواب ومن قال غيره عندي، فقد أخطأ فيه؛ لمخالفته ظاهر القرآن والحديث.
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (١٥/ ١٥٦)، ووقع فيه: "الأجساد المبعثرة" بدل: "المبعوثة".
(٣) "للناس" زيادة من "ت".
[٥] ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ بالقرآن ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ مضطرب، قالوا مرة: شعر، ومرة: كهانة، فلم يثبتوا على حال.
...
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦)﴾.
[٦] ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ معتبرين حين أنكروا البعث.
﴿إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ﴾ ظرف لـ (يَنْظُرُوا).
﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ بلا عمد ﴿وَزَيَّنَّاهَا﴾ بالكواكب.
﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ شقوق وصدوع، فهي مزينة سليمة من العيب.
...
﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَالْأَرْضَ﴾ نصبٌ بمضمر يفسره ﴿مَدَدْنَاهَا﴾ دَحَوْناها على وجه الماء.
﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ جبالًا ثوابت ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ من كل صنف حسن.
...
﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)﴾.
[٨] ﴿تَبْصِرَةً﴾ أي: جعلنا ذلك تبصرة ﴿وَذِكْرَى﴾ أي: تذكيرًا.
﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ رَجَّاع إلى طاعة الله تعالى.
[٩] ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ كثيرَ البركة، وهو المطر.
﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ﴾ أشجارًا وثمارًا ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ أي: وحب الزرع الذي من شأنه أن يُحصد.
...
﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾ أي: طوالًا في السماء ﴿لها طَلْعٌ﴾ ثمر، والطلع: أول ظهور (١) الثمر في أكمامه قبل أن ينشق، وهو أبيض كحب الرمان ﴿نَضِيدٌ﴾ أي: منضود بعضُه فوق بعض، فما دام ملتصقًا كذلك، فهو نضيد، فإذا خرج من أكمامه وتفرق، فليس بنضيد.
...
﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١)﴾.
[١١] ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ نصب على المصدر ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ﴾ أي: بالمطر.
﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أرضًا جدبة أنبتنا فيها الكلأ. قرأ أبو جعفر: (مَيِّتًا) بتشديد الياء، والباقون: بالتخفيف (٢).
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ ذلك الإحياء ﴿الْخُرُوجُ﴾ من القبور.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٣٢).
[١٢] ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ قبلَ قريش ﴿قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ قومٌ كان لهم بئر عظيمة، وهي الرس، وكل ما لم يُطْوَ من بئر أو معدن أو نحوه، فهو رَسٌّ، وتقدم ذكرهم في سورة الحج، وفي سورة الفرقان ﴿وَثَمُودُ﴾.
...
﴿وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ﴾ والمراد بفرعون: إياه وقومه.
﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾ وأخواته؛ لأنهم كانوا أصهاره.
...
﴿وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ قوم شعيب ﴿وَقَوْمُ تُبَّعٍ﴾ هو تُبَّع الحِمْيَرِيُّ، ذم الله قومه، ولم يذمه؛ لأنه أسلم، وتقدم ذكر قصته في سورة الدخان.
﴿كُلٌّ﴾ من هؤلاء المذكورين ﴿كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ كقريش ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ وجب نزول العذاب عليهم، وفيه تسلية للنبي - ﷺ - وتهديد لهم. قرأ ورش عن نافع: (وَعيِدِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (١).
...
[١٥] ثم وبخهم بقوله: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ أفعجزنا عن الإتيان به ابتداءً، فنعجز عن إعادته؟! المعنى (١): كما لم نعجز عن ابتداء الخلق، لا نعجز عن إحيائه بعد الموت، فلما لم يؤمنوا، قيل: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ﴾ شك ﴿مِنْ خَلْقٍ﴾ بعد الموت ﴿جَدِيدٍ﴾ وهو البعث؛ لأنهم ينكرونه.
...
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)﴾.
[١٦] ثم دل على قدرته تعالى، فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ﴾ أي: تحدث ﴿بِهِ نَفْسُهُ﴾ فلا يخفى علينا ضمائره.
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ﴾ إلى الإنسان ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وهما عرقان كبيران في العنق، يقال لهما: وريدان، عن يمين وشمال، وسمي وريداً؛ لورود الروح فيه، والحبلُ هو الوريد، فأضيف إلى نفسه؛ [لاختلاف اللفظين، وقيل: ليس هذا بإضافة الشيء إلى نفسه] (٢)، بل هي (٣) كإضافة الجنس إلى نوعه، والقرب: هو بالقدرة والسلطان؛ إذ لا ينحجب عن علم الله تعالى باطن ولا ظاهر (٤).
...
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٣) "بل هي" زيادة من "ت".
(٤) في "ت": "ظاهر ولا باطن".
[١٧] ﴿إِذْ يَتَلَقَّى﴾ أي: واذكر إذ يتلقى ﴿الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ أي: يتلقن، ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ويكتبانه.
﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ﴾ فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات ﴿قَعِيدٌ﴾ أي: مُقاعِد، وهو المجالس الملازم، ولم يقل: قعيدان اكتفاءً بأحدهما عن الآخر.
قال - ﷺ -: "كاتبُ الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة، كتبها صاحب اليمين عشرًا، وإذا عمل سيئة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبعَ ساعات؛ لعله يسبح أو يستغفر" (١).
* * *
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿مَا يَلْفِظُ﴾ الإنسان ﴿مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ﴾ يرقب قوله ويحفظه عليه.
﴿عَتِيدٌ﴾ حاضر معه، وأراد: رقيبين وعتيدين، فاكتفى بأحدهما عن الآخر.
[١٩] ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ شدتُه الذاهبة بالعقل ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بحقيقة الموت.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: الموت ﴿مَا كُنْتَ مِنْهُ﴾ أيها الإنسان ﴿تَحِيدُ﴾ تميل وتهرب.
* * *
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾.
[٢٠] ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ نفخة البعث ﴿ذَلِكَ﴾ أي: النفخ.
﴿يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ للكفار بالعذاب.
* * *
﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ﴾ مَلَكٌ يحثها إلى المحشر.
﴿وَشَهِيدٌ﴾ ملك يشهد عليها بما عملت، وهل الملكان الكاتبان في الدنيا هما اللذان ذكرهما الله تعالى في قوله: ﴿سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ أم غيرهما؟ فيه خلاف.
* * *
﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)﴾.
[٢٢] ولما كانت الغفلة ساترة الكافر عن الإيمان وأهوال يوم القيامة،
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ﴾ الذي كان في الدنيا من الغفلة.
﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ نافذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا.
* * *
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ﴾ الملَك الموكَّل به:
﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ هذا ما هو مكتوب عندي مُعَدٌّ محضَر.
* * *
﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤)﴾.
[٢٤] ثم يقال للسائق والشهيد، أو خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب، والمراد: مالك؛ كأنه قيل: ألق ألق تأكيدًا ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ معاند للحق.
* * *
﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ مطلقًا (١) ﴿مُعْتَدٍ﴾ ظالم. روي عن يعقوب، وقنبل: الوقف بالياء على (مُعْتَدِي).
﴿مُرِيبٍ﴾ شاكٍّ في دينه.
[٢٦] ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ أي: أشرك، مبتدأ ضُمن معنى الشرط، جوابه:
﴿فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾ من النار.
* * *
﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾ هو شيطانه المقيض له تبرُّأً منه ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ ما أضللته أنا ﴿وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ عن الإيمان.
* * *
﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿قَالَ﴾ أي: فيقول الله: ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾ فما ينفعكم الخصام هنا.
﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِالْوَعِيدِ﴾ أي: خَوَّفتكم الرسلُ بما أعددتُ لكم من العذاب هنا إن لم تؤمنوا، أو لا بد منه.
* * *
﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿مَا يُبَدَّلُ﴾ ما يُغَيَّر ﴿الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ بالثواب والعقاب.
﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فأعذبهم بغير جرم.
[٣٠] ﴿يَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم ﴿نَقُولُ لِجَهَنَّمَ﴾ استفهام توبيخ لداخليها، وتصديق لقوله تعالى ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٨].
﴿هَلِ امْتَلأَتِ﴾ فتجيب مستفهمة تأدبًا، وليكون الجواب وفق السؤال ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ زيادة. قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: (يَوْمَ يَقُولُ) بالياء؛ أي: يقول الله، وقرأ الباقون: بالنون التي للعظمة (١)، واختلف الناس هل يقع التقرير وهي قد امتلأت، أو هي لم تمتلئ بعد؟ فقال بكل وجه جماعةٌ من المتأولين، وبحسب ذلك تأولوا قولها: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾، فمن قال: إنها تكون ملأى، جعل قولها: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ على معنى التقرير ونفي المزيد؛ أي: وهل عندي موضع يزاد فيه شيء؟ وهو قول عطاء، ومجاهد، ومن قال: إنها تكون غير ملأى، جعل قولها: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ على معنى السؤال والرغبة بالزيادة، وهو قول ابن عباس (٢).
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزالُ جهنم تقولُ: هل من مزيد، حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمَه، فتقول قَطْ قَطْ وعزتك، وتزوي بعضها إلى بعض، ولا يزال في الجنة فضل حتى يُنشئ الله خلقًا فيسكِنَهُ فُضولَ الجنة" (٣)، وقوله: قط قط: حسبي حسبي.
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ١٦٥).
(٣) رواه البخاري (٦٢٨٤)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الحَلِف بعزة الله وصفاته، ومسلم (٢٨٤٨)، كتاب: الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، من حديث أنس. =
[٣١] ﴿وَأُزْلِفَتِ﴾ قُرِّبت ﴿الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ﴾ أي: مكانًا غير ﴿بَعِيدٍ﴾.
* * *
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢)﴾.
[٣٢] فإذا شاهدوها وما فيها، يقال لهم: ﴿هَذَا﴾ المشاهَد.
﴿مَا تُوعَدُونَ﴾ من الجزاء. قرأ ابن كثير: (يُوعَدُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (١) ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾ بدل من ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ أي: رجّاع عن الذنوب ﴿حَفِيظٍ﴾ حافظ لأمر الله تعالى، ولذنوبه حتى يستغفر منها.
* * *
﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ محل (مَنْ) رفع بالابتداء والخبر؛ أي: خاف الرحمن وأطاعه، ولم يره.
﴿وَجَاءَ﴾ يوم القيامة ﴿بِقَلْبٍ﴾ سليم (٢) ﴿مُنِيبٍ﴾ مقبل على الطاعة.
* * *
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)﴾.
[٣٤] وخبر الابتداء ﴿ادْخُلُوهَا﴾ أي: فيقال لهم: ادخلوا الجنة
(٢) "سليم" ساقطة من "ت".
﴿ذَلِكَ﴾ الدخول ﴿يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ البقاءُ في الجنة.
* * *
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾ فيعطون ما شاؤوا مما يسألونه.
﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ زيادة فوق ما طلبوا، قال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله الكريم (١).
* * *
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ (كَمْ) للتكثير، وهي خبرية، المعنى: أهلكنا قرونًا كثيرة قبل كفار مكة.
﴿هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ﴾ أي: طافوا في نقوبها: طرقها.
﴿هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ أي: هل لهم من مفر من أمر الله عَزَّ وَجَلَّ؟
* * *
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿لَذِكْرَى﴾ عظة ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾
* * *
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)﴾.
[٣٨] ولما قال اليهود: يا محمد! أخبرنا بما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة، فقال: "خلق الله الأرْضَ يومَ الأحد والإثنين، والجبال يوم الثلاثاء، والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء، والسمواتِ والملائكةَ يومَ الخميس إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم"، قالوا: صدقت إن أتممت، قال: "وَما ذاكَ؟ "، قالوا: ثم استراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فأنزل الله تكذيبًا لهم، وردًّا عليهم:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ (١) إعياء؛ لأنا منزهون عن صفات المخلوقين؛ إذ لا مماسة ثَمَّ فيقع تعب، إنما أمرنا بالشيء ﴿إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠].
[٣٩] ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمَّد ﴿عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ أي: اليهودُ والمشركون من التشبيه والتكذيب، واختُلف في الأمر بالصبر، فبعضهم يقول: نسخ بآية السيف، وبعضهم يقول: ثابتُ، ويرى أن الصبر مأمور به في كل حال.
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ صلِّ حمدًا لله تعالى.
﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ هي صلاة الفجر ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ هما الظهر والعصر.
* * *
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ يعني: صلاة المغرب والعشاء.
﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ الركعتان بعد صلاة المغرب. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وحمزة، وخلف: (وَإِدْبارَ) بكسر الهمزة مصدر أدبر إدبارًا، وقرأ الباقون: بفتحها على جمع الدُّبُر (١).
* * *
﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَاسْتَمِعْ﴾ ما أُخبرك به يا محمد ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ هو إسرافيل -عليه السلام- ينادي بالحشر.
* * *
﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢)﴾.
[٤٢] وتبدل من ﴿يَوْمَ يُنَادِ﴾ ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ﴾ هي النفخة الثانية ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالبعث ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ من القبور.
* * *
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾ في الدنيا ﴿وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ﴾ في الآخرة.
* * *
﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿يَوْمَ﴾ ظرف له ﴿تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ﴾ قرأ أبو عمرو،
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٧)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٣٨).
﴿ذَلِكَ﴾ الخروجُ ﴿حَشْرٌ﴾ بعث ﴿عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ سهل، وهو كلام معادل لقول الكفرة: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾.
* * *
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ يعني: كفار مكة في تكذيبك، تسليةٌ له - ﷺ -، وتهديد لهم ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ بمسلَّط تُجبرهم على الإسلام، وإنما أنت داع. قرأ أبو عمرو، والكسائي من رواية الدوري: (بِجَبّارٍ) بالإمالة، واختلف عن ابن ذكوان، وروي عن ورش وحمزة بين بين، وقرأ الباقون: بالفتح (٢).
﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ﴾ قرأ ابن كثير (بِالْقُرَانِ) (٣) بالنقل، والباقون: بالهمز ﴿مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ أي: ما أوعدت من عصاني من العذاب.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٣٩).
(٣) "بالقران" زيادة من "ت".
وتقدم اختلاف القراء في إثبات الياء وحذفها من (وَعِيدِي) في الحرف السابق، وكذلك اختلافهم في هذا الحرف، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بسورة (ق) في كثير من الأوقات؛ لاشتمالها على ذكر الله تعالى، والثناء عليه، ثم على علمه بما توسوس به النفوس، وما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان، ثم تذكير الموت وسكرته، ثم تذكير القيامة وأهوالها، والشهادة على الخلائق بأعمالهم، ثم تذكير الجنة والنار، ثم تذكير الصيحة والنشور والخروج من القبور، ثم بالمواظبة على الصلوات، والله أعلم.