وتشتركان في الختام في نفس المعنى : فقال تعالى في ختام ص ﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾، وقال آخر ق ﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾. وتسمى أيضا : الباسقات.
وتشتمل السورة على أشياء كثيرة : أولها القسَم بالقرآن الكريم وتمجيده، وتعجّب المشركين أن جاءهم رسول منهم ينذرهم، وإنكارهم للنبوة والبعث، ثم الحث على النظر في هذا الكون، في السماء وزينتها وبهجة بنائها، وفي الأرض وجبالها الشامخات، وزروعها البهيجة، ومطرها الغزير كيف يحيي الأرض بعد موتها، ونخلها الباسقات، ودولها من عاد إلى أصحاب الأيكة وقوم تبّع، وما استحقوا من وعيد وعذاب، وما فيها من تقريع للإنسان على سوء أعماله، إنه مسئول عن دخائل نفسه، ومحاط بالكرام الكاتبين، يُحصون أعماله، ويرقُبون أقواله، حتى إذا جاءت سكرة الموت بالحق-كُشف له الغطاء، ووقع الخصام، وتعادى المحبّون، وملئت جهنم بأهلها، وأنعم الله على المؤمنين بالجنة ونعيمها غير المحدود ﴿ لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد ﴾.
ثم خُتمت السورة بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكافرين الذين لم يعتبروا بمصير المكذبين من الأمم قبلهم، وتوجيهه إلى الثبات على عبادة الله وتأكيد أمر البعث، وأن مهمته الإرشاد وتذكير المؤمنين، ودعوة الناس إلى القرآن الكريم، وأنه ليس عليهم بمسيطر، ﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار، فذكّرْ بالقرآن من يخاف وعيد ﴾.
ولهذه السورة شأن كبير، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يخطب بها في العيد والجمعة. قالت أم هشام ابنة حارثة الأنصارية : " ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من رسول الله، كان يقرأ بها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس " رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة. وفي القرطبي : في صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة ابن النعمان قالت : لقد كان تنوّرنا وتنوّر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض السنة وما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
ﰡ
﴿ ق ﴾ : حرفٌ من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآنِ الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدّي وتنبيه الأذهان.
أُقسِم بالقرآن ذي المجد والشرف : إنا أرسلناك يا محمد، لتنذرَ الناس به فلم يؤمنْ به أهلُ مكة.
ثم زادوا في الإنكار والتعجب بقولهم :
﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾
أبعدَ أن نموتَ ونصير تراباً نرجع أحياء مرة أخرى ! ذلك البعثُ بعد الموت رجوعٌ بعد الوقوع.
حفيظ : حافظ لتفاصيل الأشياء كلها.
ثم أشار الله تعالى إلى دليل جوازِ البعث وقدرته تعالى عليه فقال :
﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾.
قد علمنا ما تأكلُ الأرض من أجسامهم بعد الموت وتُبليهم، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، وإلى أين صارت، فلا يصعُب علينا بعثُهم من جديد، وعندنا كتابٌ حافظٌ لتفاصيل الأشياء كلها.
مريج : مختلط، مضطرب.
ثم بين الله تكذيبهم بالنبوة الثابتة فقال :
﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾
إنهم لم يتدبروا ما جاءهم به الرسولُ، وهو الحقُّ الثابت، بل كذّبوا به دون تدبُّرٍ وتفكر، فهم في قلقٍ من أمرهم واضطرابٍ لا يستقرون منه على حال.
ثم وجّه أنظارهم إلى دليلٍ يدحض كلامهم لو فكروا فيه : ألم ينظُروا إلى السماء وكيف زيَّنَها بالكواكب وليس فيها شقوق.
رواسي : جبالا ثوابت تمنع الأرض من أن تميد.
من كل زوج : من كل صنف.
بهيج : ذو بهجة وحسن.
وإلى الأرض وإلى الجبال الرواسي عليها.
وإلى الماء النازل من السماء الذي أنبت به الجنّاتِ من مختلف الأصناف والألوان.
الطلع : أول ما يخرج من ثمرها.
نضيد : منضود بعضه فوق بعض.
والنخلَ الباسقاتِ وطلعها المنضدَ الجميل.. كل هذه الأشياء من أجلِ العباد ليعيشوا آمنين في هذه الحياة الدنيا متمتعين.
وكما أنزلنا الماء من السماء وأحيينا به الأرض، كذلك نُخرجكم أيها الناس من قبوركم ونبعثكم حياة أخرى. ﴿ كَذَلِكَ الخروج ﴾.
بعد أن ذكر اللهُ تعالى تكذيبَ المشركين للنبيّ، ذكر المكذِّبين للرسُل من الأقوام السابقة مثل قوم نوحٍ وأصحابِ الرسّ وثمود.
تُبَّع : أحد ملوك حمير في اليمن.
وقوم تُبَّع وغيرهم، وما آل إليه أمرُهم من الدمار والعذاب. وكل ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وتهديد لكفار قريش بأنهم سيصيبهم ما أصابَ الذين قبلهم إن أصرّوا على الكفر والعناد.
في لبس : في شك.
ثم بعد هذا العرض يقول الله تعالى :
﴿ أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾
هل عجَزنا عن ابتداء الخلْق الأول، حتى نعجِزَ عن إعادتهم مرة أخرى ! بل هم في ريبٍ من أن نخلقهم من جديد. ﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ].
حبل الوريد : عِرق كبير في العنق.
ثم ذكر الله تعالى دليلاً آخر على إمكانه وقدرته، وهو علمُه بما في صدور الناس جميعا :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾
فلا يخفى علينا شيءٌ من أمرِ البشر.
ثم بين أكثر من ذلك بقوله :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾
ونحن لعلمِنا بأحواله كلها أقربُ إليه من عِرق الوريد، الذي هو في جسده ذاته.
أخرج ابنُ مردويه عن أبي سعيد الخدريّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«نزل اللهُ في ابن آدم أربع منازل : هو أقربُ إليه من حبل الوريد، وهو يحُول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصيةِ كل دابة، وهو معهم أينما كانوا ».
ثم ذكر اللهُ تعالى أن الإنسانَ موكَّلٌ به مَلَكان يكتبان ويحفظان عليه عملَه وأقواله، فهو تحت رقابة دائمةٍ شديدة دقيقة.
عتيد : مهيأ، حاضر.
وكل شيء مسجَّلٌ عليه تسجيلاً دقيقا.
تَحيد : تميل.
ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن الإنسانَ عند الموت ينكشفُ له كل شيء فقال :
﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾.
ومعنى ذلك أن النفسَ وهي في سكرات الموت ترى الحقَّ كاملاً واضحاً، تراه بلا حجاب في تلك الساعة، وتدرك ما كانت تجهل، وهو الحق الذي كنتَ تفرّ منه أيها الكافر، ها قد جاءك فلا حيدَ عنه ولا مناص.
ثم بعد ذلك ينعطف الحديث إلى يوم القيامة :
﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد... ﴾
ونفخ في الصور نفخةَ البعث، وذلك اليوم ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين ﴾ [ المطففين : ٦ ]، هو يومُ الوعيد الذي أوعد اللهُ الكفّارَ أن يعذّبهم فيه بعد الحساب.
يومذاك تأتي كل نفسٍ إلى ربّها ومعها سائقٌ يسوقها إليه، وشاهدٌ يشهد عليها بما عملتْ في الدنيا من خير أو شر.
حديد : قوي نافذ.
ثم يقال للمكذَِّب : لقد كنتَ في الدنيا في غفلةٍ تامة عن هذا الذي تراه من الأهوال والشدائد، فأزلنا عنكَ الحجابَ الذي كان يغطّي عنك أمور الآخرة، ﴿ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ ﴾ قويّ نافذٌ لا يحجبه شيء، فلا مهرب عن عذاب الحريق.
لا يزال الحديث عن يوم القيام وما يجري فيه.
﴿ وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾
وقال الملَكُ الموكَّل به الذي كان يسوقه إلى الموقف : هذا الذي وكَّلتني به يا ربُّ من بني آدم قد أحضرتُه وما هو مسجَّل عليه من قولٍ وعمل.
مريب : شاكّ في الله وفي دينه، يقال : أرابَ الرجلُ صار ذا ريبة، وأرابَ الرجلَ أقلقه وأزعجه.
منّاعٍ للخير، ظالمٍ متجاوزٍ للحق.
كان في ضلال بعيد : بعيد عن الحق.
فيقول ذلك الكافر عندما يرى العذاب : ربِّ إن قريني من الشياطين أطغاني. فيردّ عليه قرينه بقوله :﴿ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ كان طبعهُ الكفرَ والضلال والبعد عن الحق.
﴿ يوم نقول لجهنم : هل امتلأت ؟ وتقول : هل من مزيد ؟ ﴾
وهذا يقال تقريعاً للكافرين إذ تطلب جهنمُ المزيدَ منهم.
قراءات :
قرأ نافع وأبو بكر : يوم يقول لجهنم.... بالياء. والباقون : نقول بالنون.
غير بعيد : في مكان قريب.
وبعد هذا الحوار يأتي ذِكرُ حال المتقين. وهو مشهد يختلف كل الاختلاف، وديعٌ أليف تقرَّب فيه الجنة من المتقين حتى تتراءى لهم ويشهد المؤمنون فيه الترحيب والتكريم من رب العالمين.
﴿ وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾
وقُرّبت الجنة للذين آمنوا واتقوا ربهم بحيث تكون بمرأى العين منهم، إكراماً لهم، فيرون ما أعدّ اللهُ لهم من نعيم وحبور، ولذةٍ وسرور،
لكل أواب : لكل تائب راجع عن المعصية إلى الطاعة.
حفيظ : حافظ لحدود الله وشرائعه.
ثم يصفهم الله تعالى بأوصاف كريمة بقوله تعالى :﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾
وبعد ذلك يعلن المولى تعالى ببشارة عظيمة :
﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾.
إنهم يجدون فيها كل ما يشتهون. ثم يمنُّ الله تعالى بكرمه أن يزيدَهم فوق
ما سألوا مما لم تره أعينُهم ولم يدرْ بخَلَدِهم، وتلك الضيافة الكبرى من الرحمن الرحيم.
أشدّ منهم بطشا : أشد منهم قوة.
فنقّبوا في البلاد : طافوا في البلاد طلباً للرزق.
مَحيص : مَهْرب.
يبين الله تعالى لرسوله الكريم أنه مهما بلغت قوة قومه وغناهم فإنهم لم يبلغوا قوة الذين كانوا قبلهم من الأمم، فقد كان السابقون أشدَّ قوة وبطشا، وطوّفوا في البلاد وأمعنوا في البحث والطلب ولم يغنِ عنهم كل ذلك من الله شيئا.
أو ألقى السمعَ وهو شهيد : أصغى إلى ما يتلى عليه وهو حاضر، ويفطن لما يقال.
وفي هذا الذي نتلوه عليك من أخبار الماضين ذكرى وعبرةٌ لمن كان له قلبٌ يدرك الحقائق ويفهم ما يقال له، ويصغي وهو حاضرٌ شاهد.
ثم أعاد الدليلَ مرة أخرى على إمكان البعث، فبيّن أن الله خلق السمواتِ والأرضَ وما بينهما في ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب.. وما دام الله قادراً على خلْق هذا الكون العجيب فإنه قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى.
اصبر على ما يقوله المشركون في شأنِ البعث من الأباطيل التي لا مستَنَدَ لها ولا دليل. وسبِّحْ بحمدِ ربك وقت الفجر ووقتَ العصر
وبعضَ الليل وفي أعقاب جميع الصلوات.
وقد وردت أحاديث صحيحة في تحديد التسبيح بأن يقول : سبحانَ الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمدُ لله ثلاثاً وثلاثين مرة، واللهُ اكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، ويختمها بقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملْكُ وله الحمدُ يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، بعد كل صلاة.
بالحق : بالبعث.
يوم الخروج : من القبور.
أصغِ أيها الرسول لما أُخبرك به من أهوال يوم القيامة، يوم ينادي الملَكُ من مكان قريب من الناس.
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخروج ﴾ من القبور.
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير ﴾
إلينا رجوع الناس جميعهم يوم البعث والجزاء.
﴿ ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾. هو عظيم بما فيه من الأهوال ولكنه علينا سهلٌ يسير.
ثم يخاطب الرسولَ الكريم مسلياً له بقوله :﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ فاتركهم إلينا، ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ ولا مسيطِر حتى تجبرهم على الإيمان.
ما عليك إلا البلاغ، ولذلك ﴿ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾.