ﰡ
التفسِير: ﴿ق﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية ﴿والقرآن المجيد﴾ قسمٌ حذف جوابه أي أقسم بالقرآن الكريم، ذي المجد والشرف على سائر الكتب السماوية لتبعثنَّ بعد الموت قال ابن كثير: وجواب القسم محذوب وهو مضمون الكلام بعده وهو إثبات النبوة، وإِثبات المعاد وتقديره إِنك يا محمد لرسول انَّ البعث الحق، وهذا كثير في القرآن وقال أبو حيان: والقرآنُ مقسم به، والمجيد صفته وهو الشريف على غيره من الكتب، والجواب محذوفٌ يدل عليه ما بعده تقديره: لقد جئتهم منذراً بالبعث فلم يقبلوا ﴿بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾ أي تعجب المشركون من إِرسال رسول
. ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية الدالة على عظمة رب العالمين فقال ﴿أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ﴾ أي أفلم ينظروا نظر تفكر واعتبار، إِلى السماء في ارتفاعها وإِحكامها، فيعلموا أن القادر على إِيجادها قادر على إعادة الإِنسان بعد موته؟ ﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ أي كيف رفعناها بلا عمد وزيناها بالنجوم ﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ أي ما لها من شقوق وصدوع ﴿والأرض مَدَدْنَاهَا﴾ أي والأرض بسطناها ووسعناها ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي وجعلنا فيها جبالاً ثوابت تمنعها من الاضطراب بسكانها ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ أي وأنبتنا فيها من كل نوعٍ من النبات حسن المنظر، يبهج ويسر الناظر إِليه ﴿تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ أي فعلنا ذلك تبصيراً منا وتذكيراً عن كمال قدرتنا، لكل عبد راجع إلى الله متفكر في بديع مخلوقاته ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً﴾ أي ونزلنا من السحاب ماءً كثير المنافع والبركة ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد﴾ أي فأخرجنا بهذال الماء البساتين الناضرة، والأشجار المثمرة، وحبَّ الزرع المحصود، كالحنطة والشعير وسائر الحبوب التي تحصد ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ﴾ أي وأخرجنا شجر النخيل طوالاً مستويات ﴿لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾ أي لها طلعٌ منضود، منظمٌ بعضه فوق بعض، قال أبو حيان: يريد كثرة الطلع وتراكمه وكثرة ما فيه من الثمر، وأول ظهور الثمر يكون منضَّداً كحب الرمان، فما دام متلصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإِذا خرج من أكمامه فليس بنضيد ﴿رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ﴾ أي أنبتنا كل ذلك رزقاً للخلق لينتفعوا به ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ أي وأحيينا بذلك الماء أرضاً جدبة لا ماء فيها ولا زرع فأنبتنا فيها الكلأ والعشب ﴿كَذَلِكَ الخروج﴾ أي كما أحييناها بعد موتها كذلك نخرجكم أحياء بعد موتكم قال ابن كثير: وهذه الأرض الميتة كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج من أزاهير وغير ذلك مما يحار الطرف
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ [الشعرا: ١٠٥] ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ أي فوجب عليهم وعيدي وعقابي، والآية تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديد للكفرة المجرمين ﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول﴾ أي أفعجزنا عن ابتداء الخلق حتى نعجز عن إعادتهم بعد الموت؟ قال القرطبي: وهو توبيخٌ لمنكري البعث، وجوابٌ لقولهم ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ ومراده أن ابتداء الخلق لم يعجزنا، والإِعادةُ أسهلُ منه فكيف يُتوهم عجزنا عن البعث والإِعادة ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي بل هم في خلطٍ وشبهةٍ وحيرة من البعث والنشور قال الألوسي: وإِنما نكَّشر الخلق وصف بجديد، ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيهاً على استبعاهدم له وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ عظيم ثم نبه تعالى على سعة علمه وكما قدرته فقال ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ أي خلقنا جنس الإِنسان ونعلم ما يجول في قلبه وخاطره، لا يخفى علينا شيء من خفايا ونواياه ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ أي ونحن أقرب إِليه من حبل وريده، وهو عرق كبير في العنق متصل بالقلب قال أبو حيان: ونحن أقرب إِليه قرب علم، نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته، فكأن ذاته تعالى قريبة منه، وهو تمثيل لفرط القرب كقول العارب: هو مني معقد الإِزار وقال ابن كثير: المراد ملائكتنا أقرب إلى الإِنسان من حبل وريده إليه، والحلول والاتحاد منفيان بالإِجماع تعالى الله تقدَّس، وهذا كما قال في المحتضر ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٥] يريد به الملائكة، ويدل عليه قوله بعده ﴿إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ أي حين يتلقى الملكان الموكلان بالإِنسان، ملك عن يمينه يكتب الحسنات، وملك عن شماله يكتب السيئات، وفي الكلام حذفٌ تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال مجاهد: وكذَل الله بالإِنسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره إِلزاماً للحجة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات فذلك قوله تعالى {
﴿اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ [الإِسراء: ١٤] ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ أي وجاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإِنسان وتغلب على عقله، بالأمر الحق من أهوال الآخرة حتى يراها المكر لها عياناً ﴿ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ أي ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه وتهرب منه وتفزع وفي الحديث عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمّا تغشاه الموت جعل يمسح العرف عو وجهه ويقول: «سبحان الله إنَّ للموت لسكرات» ﴿وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد﴾ أي ونفخ في الصور نفخة البعث ذلك هو اليوم الذي وعد الله الكفار به بالعذاب ﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ أي وجاء كل إِنسان براً كان أو فاجراً ومعه ملكان: أحدهما يسوقه إِلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله قال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد من أنفسهم وهي الأَيدي والأرجل ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤] وقال مجاهد: السائق والشيهد ملكان، ملكٌ يسوقه وملك يشهد عليه ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا﴾ أي لقد كنت أيها الإِنسان في غفلةٍ من هذا اليوم العصيب ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ﴾ أي فأزلنا عنك الحجاب الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا ﴿فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ أي فصرَك اليوم قويٌّ نافذ، ترى به ما كان محجوباً لزوال الموانع بالكلية.
اللغَة: ﴿وَأُزْلِفَتِ﴾ قُربت يقال: زلف يزلف أي قرب، وأزلفه قرَّبه ﴿أَوَّابٍ﴾ رجَّاع إلى الله من آب يئوب أوباً إِذا رجع ﴿بَطْشاً﴾ البطش: الأخذ بالشدة والعنف ﴿نَقَّبُواْ﴾ طوَّفوا وساروا وأصل التنقيب التنفقير عن الشيء والبحث عنه قال الشاعر:
نقَّبوا في البلاد من حذ الموت | وجالوا في الأرض كلَّ مجال |
سَبَبُ النّزول: عن قتادة أن اليهود قالوا إِن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، وأنه تعب فاستراح يوم السبت وسمَّوه يوم الراحة فكذبهم تعالى فيما قالوا فنزلت ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾.
التفسِير: ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ أي وقال الملك الموكل به، هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرتُ ديوان عمله ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أي يقول تعالى للملكين «السائق والشهيد» إقذفا في جهنم كلَّ كافر معاند للحقِّ لا يؤمن بيوم الحساب ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ﴾ أي مبالغ في المنع لكل حقٍّ واجب عليه في ماله ﴿مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ﴾ أي ظالم غاشم شاكٍ في الدين ﴿الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي أشرك بالله ولمن يؤمن بوحدانيته ﴿فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد﴾ أي فألقياه في نار جنهم، وكرر اللفظ ﴿فَأَلْقِيَاهُ﴾ للتوكيد ﴿قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ﴾ أي قال قرينه وهو الشيطان المقيَّض له ربنا ما أضللتُه ﴿ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أي ولكنَّه ضلَّ باختياره، وآثر العمى على الهدى من غير إِكراهٍ أو إجبار، وفي الآية محذوفٌ دل عليه السياق كأن الكافر قال يا رب إِن شيطاني
. الخ وقيل: إن الآية على التمثيل وأنها تصويرٌ لسعة جهنم وتباعد أقطارها بحيث لو ألقى فيها جميع الكفرة والمجرمين فإِنها تتسع لهم، وهو كقولهم «قال الحائط للمسمار لم تشفني؟ قال: سلْ منْ يدقني» ثم أخبر تعالى عن حال السعداء بعد أن ذكر حال الأشقياء فقال ﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أي قُرّبت وأدنيت الجنة من المؤمنين المتقين مكاناً غير بعيد، بحيث تكون بمرأى منهم مبالغة في إِكرامهم ﴿هذا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ أي يقال لهم: هذا الذي ترونه من النعيم هو ما وعده الله لكل عبدٍ أوَّاب أي رجَّاعٍ إلى الله، حافظٍ لعهده وأمره ﴿مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ أي خاف الرحمن فأطاعه دون أن يراه لقوة يقينه، وجاء بقلبٍ تائب خاضع خاشع ﴿ادخلوها بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخلود﴾ أي يقال لهم: أدخلوا الجننة بسلامة من العذاب والهموم والأكدار، ذلك هو يوم البقاء الذي لا انتهاء له أبداً، لأنه لا موت في الجنة ولا فناء ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا﴾ أي لهم في الجنة من كل ما تشتهيه أنفسهم، وتلذ به أعينهم ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ أي وعندنا زيادة على ذلك الإِنعام والإِكرام، وهو النظر إلى وجه الله الكريم.. ثمَّ خوَّف تعالى كفار مكة بما حدث للمكذبين قبلهم فقال ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾ أي وأهلكنا قبل كفار قريش أمماً كثيرين من الكفار المجرمين ﴿هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً﴾
. ختم السورة الكريمة بالتذكير بالقرآن كما افتتحها بالقسم بالقرآن ليتناسق البدء مع الختام:
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيا يلي:
١ - الإِظهار في موطن الإِضمار ﴿فَقَالَ الكافرون﴾ [ق: ٢] يدل فقالوا للتسجيل عليهم بالكفر.
٢ - الاستفهام الإِنكار لاستبعاد البعث ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً﴾ [ق: ٢] ؟
٣ - الإِضراب عن السابق لبيان ما هو أفضع وأشنع من التعجب ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالحق﴾ [ق: ٥] وهو التكذيب بآيات الله وبرسوله المؤيد بالمعجزات.
٤ - التشبيه المرسل المجمل ﴿كَذَلِكَ الخروج﴾ [ق: ١١] شبَّه إِحياء الموتى بإِخراج النبات من الأرض الميتة.
٥ - الاسعتارة التمثيلية ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦] مثَّل علمه تعالى بأحوال العبد، وبخطرات النفس، بحبل الوريد القريب من القلب، وهو تمثلٌ للقرب بطريق الاستعارة كقول العرب: هو مني مقعد القابلة، وهو مني معقد الإِزار.
٦ - الحذف بالإِيجاز ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧] أصله عن اليمين قعيدٌ، وعن الشمال قعيد، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وبين اليمين والشمال طباقٌ وهو من المحسنات الديعية.
٧ - الاستعارة التصريحية ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ [ق: ١٩] استعار لفظ السَّكرة للهول والشدة التي يلقاها المحتضر عن وفاته.
٨ - الجناس الناقص بين ﴿عَنِيدٍ﴾ و ﴿عَتِيدٌ﴾ لتغاير حرفيْ النون والتاء.
٩ - الطباق بين ﴿نُحْيِي﴾ و ﴿نُمِيتُ﴾.
١٠ - توافق الفواصل والسجع اللطيف غير المتكلف مثل ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد﴾ [ق: ٢٠] ﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١] ﴿فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ ومثل ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير.. ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية، لما فيه من جميل الوقع على السمع.