تفسير سورة ق

اللباب
تفسير سورة سورة ق من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة ق مكية١ وهي خمس وأربعون آية، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا٢.
١ نقل صاحب البحر المحيط عن ابن عباس: مكية، إلا قوله: "ولقد خلقنا السماوات والأرض" وانظر البغوي ٦/٢٢٣، والبحر ٨/١٢٠..
٢ زيادة من (أ)..

مكية، وهي خمس وأربعون آية، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿ق﴾ قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - هو قَسَمٌ. وقيل: اسم السورة. وقيل اسم من أسماء القرآن. وقال القرطبي: هو مفتاح اسمه قدير، وقادر، وقاهر وقريب وقابض. وقال عكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زُمُرَّدَةٍ خَضْراءَ ومنه: خُضْرَةُ السماء. والسماء مَقْبِيَّةٌ عليه، وعليه كتفاها ويقال: هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنةٍ. وقيل: معناه قضِي الأمر وقضي ما هو كائن، كما قالوا في حم (حم الأمر)، وفي ص: صدق الله، وقيل هو اسم فاعل من قَفَا يَقْفُوهُ.

فصل


قال ابن الخطيب، لما حكى القول بأن «ق» اسم جبل محيط بالأرض عليه أطواق السماء قال: وهذا ضعيف لوجوه:
3
أحدها: أن أكثر القراء يقف عليها، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأنَّ من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به.
وثانيها: لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كقوله تعالى: ﴿والطور﴾ [الطور: ١]، ونحوه؛ لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأنْ يُقْسَمَ بِهِ، كقولنا: «اللَّه لأَفْعَلَنَّ كَذَا» فاستحقاقه له يغني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال: زَيْد لأَفْعَلَنَّ كَذَا.
ثالثها: أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب: ﴿عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ [الغاشية: ١٢]، ويكتب ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: ٣٦] وفي جميع المصاحف يكتب حرف «ق».
رابعها: أن الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في «ص» و «ن» و «حم» وهي حروف لا كلمات فكذلك في «ق».
فإن قيل: هو منقول عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -.
نقول: المنقول عنه: أن قاف اسم جبل، وأما أن المراد ههنا ذلك فَلاَ.

فصل


قال ابن الخطيب: هذه السورة وسورة ص يشتركان في افتتاح أولهما بالحرف المعجم والقسم بالقرآن بعده وقوله بعد القسم: بل والتعجب. ويشتركان أيضاً في أن أول السورتين وآخرهما متناسبات لأنّه تعالى قال في أول السورة: ﴿ص والقرآن ذِي الذكر﴾ [ص: ١] وفي آخرها: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [ص: ٨٧] وقال في أولِ ق: «وَالقُرْآنِ المَجِيدِ»، وقال في آخرها: ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥]، فافتتح بما اختتم به. وأيضاً في أول ص صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد لقوله تعالى: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً﴾ [ص: ٥] وفي هذه السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر فقال تعالى: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾، فلما كان افتتاح سورة «ص» في تقرير المبدأ قال في آخرها: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ﴾
[ص: ٧١]. وختمه بحكاية بَدْء آدمَ، لأنَّه دليل الوحدانية، ولما كان افتتاح «ق» لبيان الحشر قال في آخرها: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤].
4

فصل


قال ابن الخطيب: قد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الأسماع، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق، وذكر أيضاً أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية، ومنها خارجية ظاهرة ووجد في الخارجية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعْقَلْ معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما، ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر، وصفات الله تعالى، وصدق الرسل، ووجد فيها مَا لَمْ يُعْقَلْ ولا يمكن التصديق به لولا السمعُ كالصِّراط الممدود الأَحَدّ حَدًّا من السيف، الأرقّ من الشعر، والميزان الذي توزن به الأعمال، فكذلك ينبغي أن يكون الأذْكار التي هي العبادة اللسانية فيها ما يعْقَلُ معناه، كجميع القرآن إلاّ قليلاً منه، وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كحروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد والأمر، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولنا: «رَبَّنا اغفرْ لنا وارحمنا» بل يكون النطق به تعبداً محضاً. ويؤيد هذا وجه آخر، وهو أن هذه الحروف مقسم بها لأن الله تعالى لما أقسم بالتِّين والزَّيْتُون تشريفاً لهما، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى.
وإذا عرف هذا نقول: القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى: ﴿والعصر﴾ [العصر: ١] وقوله: ﴿والنجم﴾ [النجم: ١] وبحرف واحد كما في ﴿ص﴾ [ص: ١] و ﴿ق﴾ [ق: ١] ووقع بأمرين كما في قوله تعالى: ﴿والضحى والليل﴾ [الضحى: ١ و٢] وفي قوله: ﴿والسمآء والطارق﴾ [الطارق: ١] وبحرفين كما في قوله: ﴿طه﴾ [طه: ١] و ﴿طس﴾ [النمل: ١] و ﴿حم﴾ [غافر: ١]، ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى: ﴿والصافات صَفَّا فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذِكْراً﴾ [الصافات: ١ - ٣]. وقوله: ﴿والسمآء ذَاتِ البروج واليوم الموعود وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: ١ - ٣] وبثلاثة أحرف كما في قوله: ﴿الم﴾ [البقرة: ١]، و ﴿طسم﴾ [الشعراء والقصص: ١] و ﴿الر﴾ [هود: ١١] ووقع بأربعة أمور، كما في قوله تعالى: ﴿والذاريات ذَرْواً فالحاملات وِقْراً فالجاريات يُسْراً فالمقسمات أَمْراً﴾ [الذاريات: ١ - ٤] وفي قوله: ﴿والتين والزيتون وَطُورِ سِينِينَ وهذا البلد الأمين﴾ [التين: ١ - ٣]، وبأربعة أحرف كما في قوله: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] و ﴿المر﴾ [الرعد: ١] ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى: ﴿والطور وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور﴾ [الطور: ١ - ٦] وفي قوله: ﴿والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً﴾ [المرسلات: ١ - ٥] وفي النَّازِعاتِ وفي
5
الفَجْر، وبخمسة أحرف كما في: ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] و ﴿حم عسق﴾ [الشورى: ١ و٢]، ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي الشَّمس: ﴿والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا﴾
[الشمس: ١ - ٦]. ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال: «والطُّورِ» «والنَّجْمِ» «والشَّمْسِ» وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل: وق وحم؛ لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخلُّ بالنظم.

فصل


أقسم الله بالأشياء المركبة العناصر كالتِّينِ والطُّورِ، ولم يقسم بأصولها وهي الجواهر المفردة كالماء والتراب، وأقسم بالحروف من غير تركيب، لأن الأشياء عند تركيبها تكون على أحسن حالها، وأما الحروف إن ركبت لمعنى يقع الحَلِفُ بمعناه لا باللفظ، كقولنا والسماء والأرض وإن ركبت لا لمعنى فكأن المفرد أشرف فأقسم بمفردات الحرف.

فصل


هذه السورة تقرأ في صلاة العيد، لقوله تعالى فيها: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخروج﴾ [ق: ٤٢] وقوله: ﴿كَذَلِكَ الخروج﴾ [ق: ١١] وقوله: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤]، فإن العيد يوم الزينة فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجَه إلى عَرْصَاتِ الحِسَابِ. ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً. والعامة على سكون الفاء من قاف. وقد تقدم. وفتحها عيسى، وكسرها الحسن، وابن أبي إسحاق، وضمها هارون وابن السميقع وقد مضى توجيه ذلك، وهو أن الفتح يحتمل البناء على الفتح للتخفيف، أو يكون منصوباً بفعل مقدر ومنع الصرف أو مجروراً بحرف قسم مقدر وإنَّما مُنعَ الصرف أيضاً. والضم على أنه مبتدأ وخبره منع الصرف أيضاً.
قال ابن الخطيب: فأما القراءة فيها فإن قلنا: هي مبنية على ما بينا فحقّها الوقف؛ إذ لا عامل فيها ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين، ويجوز الفتح اختياراً للأخَفِّ.
6
فإن قيل: كيف جاز اختيار الفتح هَهُنَا ولم يَجُزْ عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة أخرى، كقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ﴾ [البينة: ١] ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ﴾ [الأنعام: ٥٢] ؟!.
نقول: لأن هناك إنما وجب التحريك لأن الكسرة في الفعل تشبه حركة الإعراب، لأن الفعل إنما كان محلاً للرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر اختير الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر؛ لأن الفعل لا يجوز فيه الجر، ولو فتح لاشتبه بالنصب، وأما في أواخر الأسماء الاشتباه لازم، لأن الاسم محِلّ يرد عليه الحركات الثلاث فلم يمكن الاحتراز فاختاروا الأخَفَّ.
وإن قلنا: إنها حرف مقسم به فحقها الجر، ويجوز النصب على أنه مفعول به ب «أُقْسِمُ» على وجه الاتصال وتقدير الباء كأن لم يوجد.
وإن قلنا: هي اسم السورة، فإن قلنا: مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ فتفتح في موضع الجر كما تقول: «وإِبْرَاهِيمَ وأَحْمَدَ»، إذا أقسمت بهما وإن قلنا: (إنه) ليس مقسماً بها فإن قلنا: هي اسم السورة فحقها الرفع إذا جعلناها خبراً تقديره: «هَذِهِ ق» وإن قلنا: هو من قَفَا يَقْفُو فحقه التنوين كقولنا: هَذَا دَاعٍ ورَاعٍ.
وإن قلنا: اسم جبل فالجر والتنوين وإِن كان قسماً.
قوله: «وَالقُرْآنِ المَجِيدِ» قسم، وفي جوابه أوجه:
أحدها: أنه قوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض﴾.
الثاني: ﴿مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩].
الثالث: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ﴾ [ق: ١٨].
7
الرابع: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى﴾ [ق: ٣٧].
الخامس: «بَلْ عَجِبُوا». وهو قول كوفي، قالوا: لأنه بمعنى قَدْ عجبُوا.
السادس: أنه محذوف، فقدّره الزجاج والأخفش والمبرد: لَتُبْعَثُنَّ، وغيرهم: لَقَدْ جِئْتَهُمْ مُنْذِراً.
واعلم أن جوابات القسم سبعة، إنَّ المشددة كقوله: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ و٢]، و «مَا» النافية كقوله: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾ [الضحى: ١ - ٣] واللام المفتوحة كقوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ [الحجر: ٩٢] وإنْ الخفيفة كقوله: ﴿تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: ٩٧] ولا النافية كقوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨]، و «قَدْ» كقوله: ﴿والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: ١ - ٩]، وبَلْ كقوله: ﴿والقرآن المجيد بَلْ عجبوا﴾. والمجيدُ: العظيم. وقيل: المجيدُ: الكثير الكرم.
فإن قلنا: المجيد العظيم، فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم، وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحدٌ من الخلق، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾ [الحجر: ٨٧]. ولا يبدل ولا يغير ولا يأتيهِ الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن قلنا: المجيد هو الكثير الكفر فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوداً وَجَدَهُ، ويغني كل من لاَذَ به وإِغناء المحتاج غاية الكرم.
فإن قيل: القرآن مقسم به فما المقسم عليه؟.
فالجواب: أن المقسم عليه إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مَقَالِيَّة، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة، فإن فهم من قرينة مقالية متقدمة، فلا يتقدم هنا لفظاً إلا «ق» فيكون التقدير: هذَا ق والقرآنِ، أو ق أنزلها الله تعالى والقرآنِ، كقولك: هذَا حَاتِمٌ واللَّهِ؛ أي هو المشهور بالسخاء، وتقول: الهلالُ واللَّهِ أيْ رأيته واللَّهِ. وإن فهم من قرينة مقالية متأخرة فذلك أمران:
أحدهما: أن التقدير: والقرآن المجيد إنك المنذر، أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن، لأن كلام الأمرين ورد طاهراً، أما الأوّل فقوله تعالى: ﴿يس والقرآن الحكيم﴾ [يس: ١ - ٢] إلى أن قال: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً﴾ [يس: ٦].
8
وأما الثاني: فقوله تعالى: ﴿والطور وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
[الطور: ١ - ٧].
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه يظهر غاية الظهور على قال من قال: «ق» اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن، وهناك أقسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن وإن فهم بقرينة حالية فهو كون محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الحق فإِن الكفار كانوا ينكرون ذلك.
قوله: «بَلْ عَجِبُوا» يقتضي أن يكون هناك أمرٌ مضروبٌ عنه فما ذلك؟ أجاب الواحدي ووافقه الزمخشريّ أنه تقرير كأنه قال: ما الأمر كما تقولون. قال ابن الخطيب: والتقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر، وكأنه قال بعده: إنهم شكوا فيه. ثم أضرب عنه وقال: بَلْ عَجبُوا أي فلم يكتفوا بالشك ولا بالردِّ حتى عَجِبُوا بل جَزَمُوا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمُور العجيبَة.
فإن قيل: فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمُضْرَب عنه، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوثيق العزيز؟ {.
قال ابن الخطيب: أما حذف المقسم عليه فلأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر، لأن من ذكر المَلِكَ العظيم في مجلس، وأثنى عليه يكون قد عَظَّمَهُ، فإذا قال له غيره: هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاًّ على عظمة فوق ما استفيد بذكره فالله (تعالى) ذكر المقسم عليه لبيان هو أظهر من أن يذكر. وأما حذف المُضْرب عنه، فلأن المُضْرَب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمرٍ آخر، وكان بين المذكورين تفاوتٌ ما، فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب، مثاله يحسن أن يقال: الوَزيرُ يعظم، فلا يماثل الملك بعظمه، ولا يحسن أن يقال: البوابُ يُعَظَّم فلا يماثل الملك بعظمه لكون البوْن بينهما بعيداً، إذ الإِضراب للتدريج، فإِذا ترك المتكلم المُضْرَبَ عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب اسْتُفِيدَ منه أمران:
أحدهما: الإشارة إلى أمر آخر قبله مضربٌ عنه.
9
والثاني: عِظَم التفاوت بينهما: وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البُرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد فالعجب منه أبعد.
قوله: «أَنْ جَاءَهُمْ» فيه سؤال، وهو: أنْ مع الفعل بتقدير المصدر... تقول: «أُمِرْتُ بأَنْ أَقُومَ وأمرت بالقيام»، وإذا كان كذلك فلم ترك الإتيان بما هو في معنى المصدر ما يجب ذكره عند الإتيان بالمصدر حيث جاز (أن تقول) : أمرت أَنْ أقومَ من غير باء، ولا يجوز أن تقول: أُمِرْتُ القِيَامَ بل لا بد من الباء ولذلك قال: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز أن يقال: عَجبُوا مَجيئَهُ بل لا بد من قولك: عَجِبُوا مِنْ مَجِيئه}.
والجواب: أن قوله: أَنْ جَاءَهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مَقَام المَصْدَر، لكنه في الصورة تقدير، وحروف التقدير كلها حروف جارَّة، والجارُّ لا يَدْخُل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقلّ من أن يجوز الدخول فجاز أن يقال: عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز: عجبوا مَجِيئَهُمْ؛ لعدم جواز إِدْخَال الحَرْف عَلَيْهِ.
قوله: «مِنْهُمْ» أي يعرفون نَسَبَهُ وصدقه وأَمَانَتَهُ، وهذا يصلح أن يكون مذكوراً لتقرير تَعَجُّبهمْ ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تَعَجبهم، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون: ﴿أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ﴾ [القمر: ٢٤] و ﴿قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ [يس: ١٥] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا: هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جِنْسنَا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحدٌ من خلاف جنْسهم، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون: نحن لا نقدر على ذلك، لأن لكل نوع خاصيةً كما أن النّعامة تبلع النَّار، وابن آدم لا يقدر على ذلك.
قوله: ﴿فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ قال الزمخشري: هذا تعجّبٌ آخرُ من أمر آخرَ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ فتعجبوا من كونه منذراً ومن وقوع الحَشْر، ويدل عليه قوله في أول «ص» :﴿وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾ [ص: ٤] وقال: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥] فذكر تعجبهم من أمرين. قال ابن الخطيب: والظاهر أن قولَهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر، لأن هناك ذكر: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال: {أَجَعَلَ
10
الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: ٥] وقال ههنا: إنَّ ﴿هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾، ولم يكن هناك ما تقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر، ثم قالوا: «أَئِذَا متْنَا»، وأيضاً أن ههنا وُجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أَمرٌ يؤدي معنى التعجب، وهو قولهم: ﴿ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ ؛ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار.
فإن قيل: التكرار الصريح يلزم من قولك: ﴿هذا شيء عجيب﴾ يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله: ﴿وعجبوا أن جاءهم﴾ فقوله: ﴿هذا شيء عجيب﴾ ليس تكراراً ﴿.
نقول: ذلك ليس بتكرار، بل هو تقرير؛ لأنه لما قال: بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله (تعالى) :{أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله﴾
[هود: ٧٣] ويقال في العرف: لا وجه لِتَعَجُّبِكَ مما ليس بعجب، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم: لا معنى لتَعَجُّبِكُمْ، فقالوا: هذا شيء عجيب فكيف لا نعجب منه؟} ويدل على ذلك قوله تعالى ههنا: ﴿فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ بحرف الفاء وقال في «ص» :﴿وقال الكافرون هذا ساحر﴾ بحرف الواو فكان نعتاً غير مرتب على ما تقدم، وهذا شيء عجيب أمر مرتب على ما تقدم، أي لما عجبوا أنكروا عليهم ذلك فقالوا: هذا شيء عجيب كيف لا نعجب منه؟ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ بلفظ الإشارة إلى البعيد.
قوله: «هذا ساحر» إشارة إلى الحاضر القريب فيَنْبَغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهَذَا، وهذا لا يصحُّ إلا على قولنا.
قوله: «أَئِذَا مِتْنَا» قرأ العامَّة بالاستفهام؛ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر والأعْمش والأعْرج بهمزة واحدة فيحتمل الاستفهام كالجمهور. وإنما حذف الأداة للدلالة، ويحتمل الإخبار بذلك، والناصب للظرف في قراءة الجمهور مقدر أي أنُبْعَثُ أو أنَرْجِعُ إِذا مِتْنَا. وجواب «إذا» على قراءة الخبر محذوف أي رَجَعْنَا. وقيل قوله: «ذَلِكَ رَجْعٌ» على حذف الفاء، وهذا رأي بعضهم. والجمهور لا يجوز ذلك إلاَّ في شعر (وقال الزمخشري) : ويجوز أن يكون الرَّجْعُ بمعنى المرجوع وهو الجواب،
11
ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث والوقف على «ما» على هذا التفسير حَسَنٌ.
فإن قيل: فما ناصب الظرف إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المرجوع؟.
فالجواب: ما دلّ عليه المُنْذِر من المُنْذَرِ به وهو البَعْثُ.

فصل


قال ابن الخطيب: «ذلك» إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار، وقوله: هذا شيء عجيب إشارة إلى المجيء فلما اختلفت الصفتان نقول: المجيء والجائي كل واحد حاضراً وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن المنذر به كان جازماً على الحاضر، فقالوا فيه ذلك. والرجوع مصدر رَجَعَ إذا كان متعدياً والرجوعُ مصدر إذا كان لازماً وكذلك الرُّجعى مصدر عند لُزُومه. والرجوع أيضاً يصحّ مصدراً للاَّزم فيحتمل أن يكون المراد بقوله: ﴿ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ أي رجوعٌ بعيد، ويحتمل أن يكون المراد: الرّجْعَى المتعدِّي، ويدل على الأول قوله تعالى: ﴿إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى﴾ [العلق: ٨] وعلى الثاني قوله تعالى: ﴿أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة﴾ [النازعات: ١٠] أي مرجوعون؛ فإنه من الرجوع المتعدي.
فإن قلنا: هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه.

فصل


قال المفسرون: تقديره: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً نُبْعَثُ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه: «ذَلِكَ رَجْعٌ» أي رد إلى الحياة «بَعِيدٌ» غير كائن أي يَبْعُدُ أنْ نُبْعَثَ بعد الموت.
قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ﴾ أي تأكل من لحومِهِم ودمائِهِم وعِظَامهم، لا يعزب عن علمه شيء. وقال السدي: هو الموت يَقُول: قد علمنا من يموتُ منهم، ومن يبقى.
12
وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه، لأن الله سبحانه وتعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجعُ منه ببعيدٍ، وهذا كقوله تعالى:
﴿وَهُوَ الخلاق العليم﴾ [يس: ٨١]. حيث جعل العلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب لِمَا كانوا يقولون: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض﴾ [السجدة: ١٠] أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعذبهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون.
قوله تعالى: ﴿وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ أي محفوظ من الشياطين ومن أن يَدْرِس أو يتغيَّر. وهو اللوح المحفوظ. وقيل: معناه حافظ لعدتهم وأسمائهم وأعمالهم: قال ابن الخطيب: وهذا هو الأصحّ؛ لأن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [هود ٨٦] وقال: ﴿الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ [الشورى: ٦] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه: العلم عندي كما يكون في الكتاب، فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ.
قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ﴾ هذا إضراب ثانٍ، قال الزمخشري: إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق. وقال أبو حيان: وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأوّل. قال شهاب الدين: وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة. وقيل: قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها: ما أجازُوا النظر بَلْ كَذَّبوا. وما قاله الزمخشري أحسَنُ.

فصل


في المضروب عنه وجهان:
أحدهما: أنه الشكّ تقديره: والقرآن المجيد إنَّك لَمُنْذرٌ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا.
والثاني: تقديره: لم يكذب المنذر بل كذبوا هم.
وفي المراد بالحق وجوه:
الأول: البرهان القائم على صدق الرسول - (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -).
13
الثاني: الفرقان المنزلُ وهو قريب من الأول؛ لأنه برهانٌ.
الثالث: السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإِنَّها حَقٌّ.
الرابع: الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق.
فإن قيل: ما معنى الباء في قوله تعالى: (بالحَقِّ) ؟ وأيةُ حاجة إليها؟ يعني أن التكذيبَ متعدٍّ بنفسه فهلْ هي التعدية إلى مفعول ثانٍ أو هي زائدة كما هي قوله تعالى: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون﴾ [القلم: ٥ و٦].
فالجواب: أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية؛ لأن التكذيب (هو النسبة إلى الكذب) لكن النسبة توجد تارة في القائلِ وأخرى في القول، تقول: كَذَّبَنِي فلانٌ وكنت صادقاً ويقول: كَذَّبَ فلانٌ قَوْلِي، ويقال: كَذَّبَه أي جعله كاذباً وتقول: قلتُ لفلان: زيدٌ يجيء غداً، فتأخر عمداً حتى كَذَّبَنِي أو كذب قولي. والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين﴾ [الشعراء: ١٤١] وقال ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر﴾ [القمر: ٢٣] وفي القول كذلك غيرَ أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ [الأعراف: ٦٤] وقال: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ [فاطر: ٤]. وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى: ﴿كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا﴾ [القمر: ٤٢] وقال: ﴿كَذَّبُواْ بالحق﴾ [ق: ٥]. وقال: ﴿وَكَذَّبَ بالصدق﴾ [الزمر: ٣٢].
والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل، فإن من ضَرَبَ لم يصدر منه غير الضَّرب، غير أن له محلاً يقع فيه يسمى مضروباً.
ثم إن كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال: ضَرَبْتُ عمراً وشَرِبْتُ مَاءً للعلم بأن الضرب لا بدَّ له من محِل يقوم به وكذلك الشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه؛ فإذا قلت: مَرَرْتُ يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية، لعدم ظهوره في نفسه؛ لأن قولك: مَرَّ السَّحَاب يفهم منه مُرُور، (و) لا يفهم مَنْ مَرَّ به.
ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضَّرْبِ والشُّرب وفي الخفاء فوق المرور، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف للظهور الذي فوق ظهور المرور، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب، ولهذا لا يجوز أن تقول: ضَرَبْتُ بعَمْروٍ إلا إذا جعلته آلة الضرب، أما إذا ضربته بسوطٍ أو غيره فَلاَ يجوز فيه زيادة الباء، ولا يجوز: مَرَرْتُهُ
14
إلا مع الاشتراك وتقول: مَسَحْتُهُ ومسحتُ به، وشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ لأن المسحَ إمرار اليد بالشيء فصار كالمُرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع لمحسن فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً لغيره كالتَّبَع بخلاف الضرب فإنه إمساسُ جسمٍ بجسم بعنف، فالمضروب داخل في مفهوم الضَّرْب أولاً، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً، وإذا عرف هذا فالتكذيب في القائل طاهر، لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر، فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية، وقوله: «لما جاءهم» هو المكذب تقديره: وكَذَّبوا بالحق لما جاءهم الحَقُّ أي لم يؤخروه إلى التفَكر والتدبر.
قوله: لَمَّا جَاءَهُمْ العامة على تشديد «لما»، وهي إما حرف وجوب لوجوب أو ظرف بمعنى حين كما تقدم. وقرأ الجَحْدريّ لِمَا - بكسر اللام وتخفيف الميم - على أنها لام الجر دخلت على ما المصدرية وهي نظير قولهم: كَتَبْتُهُ لخمسٍ خَلَوْنَ أي عندها.
قوله: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أي مختلط، قال أبو واقد:
٤٥٠٦ - ومَرِجَ الدِّينُ فَأعْدَدْتُ لَهُ مُشْرِفَ الأَقْطَارِ مَحْبُوكَ الكَتَدْ
وقال آخر:
٤٥٠٧ - فَجَالَتْ والتَمَسْتُ به حَشَاهَا فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ
وأصله من الحركة والاضطراب، ومنه: مرج الخاتم في إصبعه وقال سعيد بن جبير ومجاهد: ملتبس.
15

فصل


قال قتادة: معناه من ترك الحق مرج إليه أمره وألبس عليه دينه. وقال الحسن: ما ترك قومٌ الحقّ إلا مَرج أمرُهُمْ. وقال الزجاج: معنى اختلاط أمرهم أنهم يقولون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرة شاعرٌ، ومرة ساحرٌ، ومرة معلّمٌ، ومرة كاهنٌ، ومرة معترّ ومرة ينسبونه إلى الجنون فكان أمرهم مُخْتَلِطاً ملتبساً عليهم.
16
قوله :«بَلْ عَجِبُوا » يقتضي أن يكون هناك أمرٌ مضروبٌ٦ عنه فما ذلك ؟ أجاب الواحدي ووافقه الزمخشريّ أنه تقرير كأنه قال : ما الأمر كما تقولون٧. قال ابن الخطيب : والتقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر، وكأنه قال بعده : إنهم شكوا فيه. ثم أضرب عنه وقال : بَلْ عَجبُوا أي فلم يكتفوا بالشك ولا بالردِّ حتى عَجِبُوا بل جَزَمُوا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمُور العجيبَة.
فإن قيل : فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمُضْرَب عنه، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوثيق العزيز ؟ !.
قال ابن الخطيب : أما حذف المقسم عليه فلأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر، لأن من ذكر المَلِكَ العظيم في مجلس، وأثنى عليه يكون قد عَظَّمَهُ، فإذا قال له غيره : هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاًّ على عظمة فوق ما استفيد بذكره فالله ( تعالى٨ ) ذكر٩ المقسم عليه لبيان هو أظهر من أن يذكر. وأما حذف المُضْرب عنه، فلأن المُضْرَب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمرٍ آخر، وكان بين المذكورين تفاوتٌ ما، فإذا عظم١٠ التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب، مثاله يحسن أن يقال : الوَزيرُ يعظم، فلا يماثل الملك بعظمه، ولا يحسن أن يقال : البوابُ يُعَظَّم فلا يماثل الملك بعظمه لكون البوْن بينهما بعيداً، إذ الإِضراب للتدريج، فإِذا ترك المتكلم المُضْرَبَ عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب اسْتُفِيدَ منه أمران :
أحدهما : الإشارة إلى أمر آخر قبله مضربٌ عنه.
والثاني : عِظَم التفاوت بينهما، وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البُرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد فالعجب منه أبعد١١.
قوله :«أَنْ جَاءَهُمْ » فيه سؤال، وهو : أنْ مع الفعل بتقدير المصدر. . . تقول :«أُمِرْتُ بأَنْ أَقُومَ وأمرت بالقيام »، وإذا كان كذلك فلم ترك الإتيان بما هو في معنى المصدر ما يجب ذكره عند الإتيان بالمصدر حيث جاز ( أن تقول ) ١٢ : أمرت أَنْ أقومَ من غير باء، ولا يجوز أن تقول : أُمِرْتُ القِيَامَ بل لا بد من الباء ولذلك قال : عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز أن يقال١٣ : عَجبُوا مَجيئَهُ بل لا بد من قولك : عَجِبُوا مِنْ مَجِيئه !.
والجواب : أن قوله : أَنْ جَاءَهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مَقَام المَصْدَر، لكنه في الصورة تقدير، وحروف التقدير كلها حروف جارَّة، والجارُّ لا يَدْخُل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقلّ من أن يجوز الدخول فجاز أن يقال : عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ، ولا يجوز : عجبوا مَجِيئَهُمْ ؛ لعدم جواز إِدْخَال الحَرْف عَلَيْهِ١٤.
قوله :«مِنْهُمْ » أي يعرفون نَسَبَهُ وصدقه وأَمَانَتَهُ، وهذا يصلح أن يكون مذكوراً لتقرير تَعَجُّبهمْ ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تَعَجبهم، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون :﴿ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ ﴾ [ القمر : ٢٤ ] و﴿ قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ [ يس : ١٥ ] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم ؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا : هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جِنْسنَا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحدٌ من خلاف جنْسهم، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون : نحن لا نقدر على ذلك، لأن لكل نوع خاصيةً كما أن النّعامة تبلع النَّار، وابن آدم لا يقدر على ذلك١٥.
قوله :﴿ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ قال الزمخشري : هذا تعجّبٌ١٦ آخرُ من أمر آخرَ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله :﴿ أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ فتعجبوا من كونه منذراً ومن وقوع الحَشْر، ويدل عليه قوله في أول «ص » :﴿ وعجبوا أَن جَاءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ ص : ٤ ] وقال :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ] فذكر تعجبهم من أمرين. قال ابن الخطيب : والظاهر أن قولَهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر، لأن هناك ذكر : إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ وقال ههنا : إنَّ ﴿ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾، ولم يكن هناك ما تقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر، ثم قالوا :«أَئِذَا متْنَا »، وأيضاً أن ههنا وُجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أَمرٌ يؤدي معنى التعجب، وهو قولهم :﴿ ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ ؛ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار.
فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك :﴿ هذا شيء عجيب ﴾ يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله :﴿ وعجبوا أن جاءهم ﴾ فقوله :﴿ هذا شيء عجيب ﴾ ليس تكراراً !.
نقول : ذلك ليس بتكرار، بل هو تقرير ؛ لأنه لما قال : بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله ( تعالى١٧ ) :﴿ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ هود : ٧٣ ] ويقال في العرف : لا وجه لِتَعَجُّبِكَ مما ليس بعجب، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتَعَجُّبِكُمْ، فقالوا : هذا شيء عجيب فكيف لا نعجب منه ؟ ! ويدل على ذلك قوله تعالى ههنا :﴿ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ بحرف الفاء وقال في «ص » :﴿ وقال الكافرون هذا ساحر ﴾ بحرف الواو فكان نعتاً غير مرتب على ما تقدم، وهذا شيء عجيب أمر مرتب على ما تقدم، أي لما عجبوا أنكروا عليهم ذلك فقالوا : هذا شيء عجيب كيف لا نعجب منه ؟ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ بلفظ الإشارة إلى البعيد. قوله :«هذا ساحر » إشارة إلى الحاضر القريب فيَنْبَغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهَذَا، وهذا لا يصحُّ إلا على قولنا١٨.
قوله :«أَئِذَا مِتْنَا » قرأ العامَّة بالاستفهام ؛ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر والأعْمش والأعْرج بهمزة واحدة١٩ فيحتمل الاستفهام كالجمهور. وإنما حذف الأداة للدلالة، ويحتمل الإخبار بذلك٢٠، والناصب للظرف في قراءة الجمهور مقدر أي أنُبْعَثُ أو أنَرْجِعُ إِذا مِتْنَا٢١. وجواب «إذا » على قراءة الخبر محذوف أي رَجَعْنَا. وقيل قوله :«ذَلِكَ رَجْعٌ » على حذف الفاء، وهذا رأي بعضهم٢٢. والجمهور لا يجوز ذلك إلاَّ في شعر٢٣ ( وقال الزمخشري ) ٢٤ : ويجوز أن يكون الرَّجْعُ بمعنى المرجوع وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث والوقف على «ما » على هذا التفسير حَسَنٌ.
فإن قيل : فما ناصب الظرف إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المرجوع ؟.
فالجواب : ما دلّ عليه المُنْذِر من المُنْذَرِ به وهو البَعْثُ٢٥.

فصل


قال ابن الخطيب :«ذلك » إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار، وقوله : هذا شيء عجيب إشارة إلى المجيء فلما اختلفت الصفتان٢٦ نقول : المجيء والجائي كل واحد حاضراً٢٧ وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن المنذر به كان جازماً على٢٨ الحاضر، فقالوا فيه ذلك٢٩. والرجوع مصدر رَجَعَ إذا كان متعدياً والرجوعُ مصدر إذا كان لازماً وكذلك الرُّجعى مصدر عند لُزُومه. والرجوع أيضاً يصحّ مصدراً للاَّزم فيحتمل أن يكون المراد بقوله :﴿ ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ أي رجوعٌ بعيد، ويحتمل أن يكون المراد : الرّجْعَى٣٠ المتعدِّي، ويدل على الأول قوله تعالى :﴿ إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى ﴾ [ العلق : ٨ ] وعلى الثاني قوله تعالى :﴿ أَئنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة ﴾ [ النازعات : ١٠ ] أي مرجوعون ؛ فإنه من الرجوع المتعدي.
فإن قلنا : هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه٣١.

فصل


قال المفسرون : تقديره : أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً نُبْعَثُ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه :«ذَلِكَ رَجْعٌ » أي رد إلى الحياة «بَعِيدٌ » غير كائن أي يَبْعُدُ أنْ نُبْعَثَ بعد الموت.
٦ كذا في النسختين والأصح كما في الرازي مضرب لأنه من الرباعي..
٧ قال في الكشاف: إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالخوف. وانظر الكشاف ٣/٤ و٤ والرازي ٢٨/١٤٩..
٨ زيادة من (أ)..
٩ في (ب) وهو الأصح ترك..
١٠ في (ب) علم..
١١ وانظر تفسير الإمام الرازي ٢٨/١٥٠..
١٢ سقط من (ب)..
١٣ في (ب): أن تقول..
١٤ الرازي: ٢٨/١٥٠..
١٥ الرازي المرجع السابق..
١٦ قال: دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار. الكشاف ٣/٤..
١٧ زيادة من (أ)..
١٨ وانظر تفسير الرازي ٢٨/١٥٠ و١٥١..
١٩ البحر المحيط ٨/١٢٠ والإتحاف ٣٩٨..
٢٠ بالمعنى من البحر المرجع السابق. أقول: وحذف أداة الاستفهام جائز وهو شائع، وعلى إرادة الخبر يكون المعنى: إذا متنا بعد أن نرجع والدال عليه: "ذلك رجع بعيد"..
٢١ قاله مكي في المشكل ٢/٣١٨ وأبو والبقاء العكبري في التبيان ١١٧٣..
٢٢ نقل أبو حيان القولين فنسب الثاني لصاحب اللوامح وترك الأول دون نسبة وانظر البحر المحيط ٨/١٢٠..
٢٣ للضرورة. انظر السابق..
٢٤ ما بين القوسين سقوط من (أ) وزيادة من (ب)..
٢٥ مع اختلاف طفيف في العبارة له وانظر الكشاف ٤/٤٠..
٢٦ كذا في (أ) والرازي وفي (ب) الصّيغتان. وهو الأقرب..
٢٧ كذا فيهما وفي الرازي: حاضر وهو الأصح لغة..
٢٨ في الرازي: لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك..
٢٩ وانظر تفسير ٢٨/١٥١..
٣٠ في الرازي: الرجع. وقد ذكر صاحب اللسان هذه الأشياء في معجمه رجع قال: ومصدره لازما الرجوع ومصدره واقعا الرّجع يقال: رجعته رجعا فرجع يستوي فيه بلفظ اللازم والواقع، ثم قال: رجع يرجعُ رجعاً ورجُوعا ورُجعَى ورُجعَاناً ومَرجِعاً ومرجعةً. انظر اللسان "رجع" ١٥٩١..
٣١ أي كون الرجع مقدورا في نفسه وانظر تفسير الإمام ٢٨/١٥٢..
قوله تعالى :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ ﴾ أي تأكل من لحومِهِم ودمائِهِم وعِظَامهم، لا يعزب عن علمه شيء. وقال السدي : هو الموت يَقُول : قد علمنا من يموتُ منهم، ومن يبقى١.
وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه، لأن الله سبحانه وتعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجعُ منه ببعيدٍ، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الخلاّق العليم ﴾٢. حيث جعل العلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب لِمَا كانوا يقولون :﴿ أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ﴾ [ السجدة : ١٠ ] أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعذبهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون.
قوله تعالى :﴿ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾ أي محفوظ من الشياطين ومن أن يَدْرِس أو يتغيَّر. وهو اللوح المحفوظ. وقيل : معناه حافظ لعدتهم وأسمائهم وأعمالهم. قال ابن الخطيب : وهذا هو الأصحّ ؛ لأن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى :﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [ هود ٨٦ ] وقال :﴿ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الشورى : ٦ ] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه : العلم عندي كما يكون في الكتاب، فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ٣.
١ ٨١ من سورة يس. وانظر تفسير العلامتين البغوي والخازن ٦/٢٣٣ و٢٣٤..
٢ قاله الرازي في مرجعه السابق..
٣ الرازي المرجع السابق وانظر البغوي ٦/٢٣٣ ولباب التأويل للخازن نفس الجزء والصفحة..
قوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ ﴾ هذا إضراب ثانٍ، قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق١. وقال أبو حيان : وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأوّل٢. قال شهاب الدين : وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة. وقيل : قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها : ما أجازُوا النظر بَلْ كَذَّبوا٣. وما قاله الزمخشري أحسَنُ.

فصل


في المضروب عنه وجهان :
أحدهما : أنه الشكّ تقديره : والقرآن المجيد إنَّك لَمُنْذرٌ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا.
والثاني : تقديره : لم يكذب المنذر بل كذبوا هم٤.
وفي المراد بالحق وجوه :
الأول : البرهان القائم على صدق الرسول - ( عليه الصلاة والسلام - )٥.
الثاني : الفرقان المنزلُ وهو قريب من الأول ؛ لأنه برهانٌ.
الثالث : السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإِنَّها حَقٌّ.
الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق.
فإن قيل : ما معنى الباء في قوله تعالى :( بالحَقِّ ) ؟ وأيةُ حاجة إليها ؟ يعني أن التكذيبَ متعدٍّ بنفسه فهلْ هي التعدية إلى مفعول ثانٍ أو هي زائدة كما هي قوله تعالى :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون ﴾ [ القلم : ٥ و٦ ].
فالجواب : أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية ؛ لأن التكذيب ( هو النسبة إلى٦ الكذب ) لكن النسبة توجد تارة في القائلِ وأخرى في القول، تقول : كَذَّبَنِي فلانٌ وكنت صادقاً ويقول : كَذَّبَ فلانٌ قَوْلِي٧، ويقال : كَذَّبَه أي جعله كاذباً وتقول : قلتُ لفلان : زيدٌ يجيء غداً، فتأخر عمداً حتى كَذَّبَنِي أو٨ كذب قولي. والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٤١ ] وقال ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر ﴾ [ القمر : ٢٣ ] وفي القول كذلك غيرَ أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ [ الأعراف : ٦٤ ] وقال :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ [ فاطر : ٤ ]. وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى :﴿ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ [ القمر : ٤٢ ] وقال :﴿ كَذَّبُواْ بالحق ﴾ [ ق : ٥ ]. وقال :﴿ وَكَذَّبَ بالصدق ﴾ [ الزمر : ٣٢ ].
والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل، فإن من ضَرَبَ لم يصدر منه غير الضَّرب، غير أن له محلاً يقع فيه يسمى مضروباً. ثم إن كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال : ضَرَبْتُ عمراً وشَرِبْتُ مَاءً للعلم بأن الضرب لا بدَّ له من محِل يقوم به وكذلك الشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق٩ فيه ؛ فإذا قلت : مَرَرْتُ يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية، لعدم ظهوره في نفسه ؛ لأن قولك : مَرَّ السَّحَاب يفهم١٠ منه مُرُور، ( و١١ ) لا يفهم مَنْ مَرَّ به.
ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضَّرْبِ والشُّرب وفي الخفاء فوق المرور، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف للظهور الذي فوق ظهور المرور، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضَرَبْتُ بعَمْروٍ إلا إذا جعلته آلة الضرب، أما إذا ضربته بسوطٍ١٢ أو غيره فَلاَ يجوز فيه زيادة الباء، ولا يجوز : مَرَرْتُهُ١٣ إلا مع الاشتراك وتقول : مَسَحْتُهُ ومسحتُ به، وشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ لأن المسحَ إمرار اليد بالشيء فصار كالمُرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع لمحسن١٤ فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً لغيره كالتَّبَع١٥ بخلاف الضرب فإنه إمساسُ جسمٍ بجسم بعنف، فالمضروب داخل في مفهوم الضَّرْب أولاً، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً، وإذا عرف هذا فالتكذيب في القائل طاهر، لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر، فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية، وقوله :«لما جاءهم » هو المكذب تقديره : وكَذَّبوا بالحق لما جاءهم الحَقُّ أي لم يؤخروه إلى التفَكر والتدبر١٦.
قوله : لَمَّا جَاءَهُمْ العامة على تشديد «لما »، وهي إما حرف وجوب لوجوب١٧ أو ظرف بمعنى حين١٨ كما تقدم. وقرأ الجَحْدريّ لِمَا - بكسر اللام وتخفيف الميم - على أنها لام الجر دخلت على ما المصدرية وهي نظير قولهم : كَتَبْتُهُ لخمسٍ خَلَوْنَ أي عندها١٩.
قوله : فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أي مختلط، قال أبو واقد :
ومَرِجَ الدِّينُ فَأعْدَدْتُ لَهُ مُشْرِفَ الأَقْطَارِ مَحْبُوكَ الكَتَدْ٢٠
وقال آخر :
فَجَالَتْ والتَمَسْتُ به حَشَاهَا فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ٢١
وأصله من الحركة والاضطراب، ومنه : مرج الخاتم في إصبعه وقال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس.

فصل


قال قتادة : معناه من ترك الحق مرج إليه أمره وألبس عليه دينه. وقال الحسن : ما ترك قومٌ الحقّ إلا مَرج أمرُهُمْ. وقال الزجاج : معنى اختلاط أمرهم أنهم يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرة شاعرٌ، ومرة ساحرٌ، ومرة معلّمٌ، ومرة كاهنٌ، ومرة معترّ٢٢ ومرة ينسبونه إلى الجنون فكان أمرهم مُخْتَلِطاً ملتبساً عليهم.
١ الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وانظر كشافه ٤/٤..
٢ قال: وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جوابا للقسم البحر ٨/١٢١..
٣ ذكره أبو حيان في مرجعه السابق..
٤ ذكر الرازي الوجه في تفسيره ٢٨/١٥٢ و١٥٣.
٥ زيادة من الأصل ما بين القوسين..
٦ ما بين القوسين سقط من نسخة (ب)..
٧ في الرازي: قول فلان..
٨ وفيه: "وكذب" بالواو لا أو..
٩ في (ب) متحقق بالاسمية..
١٠ في (ب) معهم. تحريف..
١١ الواو ساقطة من (ب)..
١٢ في (ب) الصوت تحريف..
١٣ كذا في النسختين وفي الرازي: مروا به بواو الجماعة..
١٤ في الرازي: بمحسن..
١٥ وفيه: بغيره كالبيع وهو تحريف فالمقصود ما كتبه الناسخُ..
١٦ وانظر في هذا كله تفسير أستاذنا الإمام الفخر الرازي ٢٨/١٥٣ و١٤٥..
١٧ هذا قول البعض وقال ابن هشام في المغني: حرف وجود لوجود..
١٨ وهو رأي ابن السراج والفارسي وابن جني وجماعة، وقال ابن مالك: بمعنى إذ وهو حسن لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة وانظر المغني ٢٨٠ والتسهيل ٩٢، و٩٣ والهمع ١/٢١٥..
١٩ وقال أبو الفتح: بمعنى: "لما جاءهم" أي مجيئه إياهم كقولك: أعطيته ما سأل لطلبه أي: عند طلبه ومع طلبه. وانظر المحتسب ٢/٢١٢..
٢٠ البيت من الرمل وهو لأبي دؤاد يصف فرسا والبيت رواية البحر وفي اللسان: الدّهر: ويروى الحارك بدل الأقطار وهو أعلى الكاهل والمحبوك المحكم الخلق، والكَتَد: مجتمع الكتفين والمراد أن فيه استواء مع ارتفاع. وانظر البيت في اللسان "حبك" ٧٥٨ والبحر ٨/١٢١ والقرطبي ١٧/٥..
٢١ من الوافر لعمرو بن الداخل الهذلي وشاهده هو وما قبله في المرج بمعنى الخلط، ورواية البيت كالتهذيب للأزهري وفي اللسان: غصن مريع أي غصن له شُعَب قِصار قد التبست. وانظر التهذيب واللسان "مرج" والطبري ٢٦/٧٧٦ والدر المنثور ٧/٥٩٠ ومجمع البيان ٩/٢١١ والبحر ٨/١٢١ والقرطبي ٥/١٧ وديوان الهذليين ٣/٩٨..
٢٢ في (ب) مفتر..
ثم ذكر الدليل الذي يدفع قولهم: ﴿ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ [ق: ٣] فقال: ﴿أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ بالكواكب، وهو نظير قوله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ [يس: ٨١] وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى﴾ [الأحقاف: ٣٣].
قوله: «أَفَلَمْ» الهمزة للاستفهام. واعْلَم أن همزة الاستفهام تارةً تدخل على الكلام بغير واو وتارة تدخل ومعها واو والفرق بينهما أن قولك: أَزَيدٌ فِي الدّارِ؟ بعد: وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ (يذكره للإنكار.
فإن قلت: أَوَ زَيْدٌ في الدار بعد: وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمس) يشير بالواو إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين، لأن الواو تُنْبِئُ عن سبق أمر مغايرٍ لما بعدها وإن لم يكن هناك سابقٌ لكن تأتي بالواو زيادة في الإنكار.
فإن قيل: كيف أتى هنا بالفاء فقال: «أَفَلَمْ» وفي موضع آخر بالواو؟ ﴿.
فالجواب: هنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب لمخالفة ما قيلَ.
فإن قيل: ففي «يس» سبق ذلك بقوله: {قَالَ مَن يُحيِي العظام﴾
[يس: ٧٨] ؟.
فالجواب: بأن هناك الاستدلال بالسموات لم يعقب الإنكار بل استدل بدليلٍ آخرَ وهو قوله: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] ثم ذكر الدليل الآخر وههنا الدليل كان عقيب إنكارهم، فذكر بالفاء.
16
فإن قيل: كيف قال ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية؟}.
فالجواب: أنهُمْ ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم: ﴿ذلك رجع بعيد﴾ استبعد استبعادهم وقال: أفلم ينظروا؛ لأن النظر دون الرؤية فقال النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع، ولا حاجة إلى الرؤية، ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستبعاد وهناك لم يوجد منهم إنكار فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتمُّ من النظر.
قوله: ﴿إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ﴾ فقوله: «فَوْقَهُمْ» حال من السماء وهي مؤكدة وكَيْفَ منصوبة بما بعدها وهي معلِّقةٌ للنظر قبلها.
فإن قيل: كيف قال: إلى السماء ولم يقل: فِي السَّماء؟!.
فالجواب: لأنَّ النظر في الشيء ينبئ عن التأمّل والمبالغة والنظر إلى الشيء لا ينبئ عنه؛ لأن «إِلى» غايةٌ منتهى النظر عنده وفي الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى النظر فيه.
قوله: ﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ أي شُقوقٍ وفتوقٍ وصُدُوعٍ، واحدها فَرْج.
«وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا» بسطناها على وجه الماء ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ جبالاً ثوابتَ ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ حَسَنٍ كريمٍ يبهج به أي يستر.
قوله: «تَبْصِرَةً» العامة على نصيبها على المفعول من أجله أي تبصير أمثالهم وتذكير أمثالهم. وقيل: منصوبان بفعل من لفظهما مقدر أي بَصِّرْهُم تبصرةً وذكِّرهم تذكرةً.
وقيل: حالان أي مُبَصَّرين مُذَكَّرِينَ، وقيل: حال من المفعول أي ذات تبصير وتذكير لمن يراها. وزيد بن علي بالرفع. وقرأ: وذِكْرٌ أي هي: تبصرةٌ وذكرٌ و «لِكُلِّ» إما صفة وإما متعلق بنفس المصدر. وقال البغوي: تَبَصُّراً وتَذْكِيراً.
17

فصل


قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون الأمْران عائدين إلى السماء والأرض أي خَلَقَ السماء تبصرةً وخلق الأرض ذكْرى. ويدل على ذلك أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدّة في كل عام، فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان. وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فتُذَكِّر، فالسماء تبصرة والأرْض تذكرة، ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كلّ واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة متذكرة عند التَّنَاسِي.
قوله: ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ أي لتُبصِّرَ وتُذَكِّر كل عبد منيب: أي راجع التفكر والتذكّر والنظر في الدلائل.
قوله: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً﴾ كثير الخير، وفيه حياة كل شيء وهو المطر ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد﴾، يعني البُرّ والشّعير وسائر الحبوب التي تحصد، فقوله: «وحَبَّ الحَصِيدِ» يجوز أن يكون من باب حذف الموصوف للعلم به، تقديره وحب الزرع الحصيد، نحو: مَسْجَدُ الجَامِعِ وبابه وهذا مذهب البصريين؛ لئلا يلزم إِضافة الشيء إلى نفسه. ويجوز أن يكون من إِضافة الموصوف إلى صفته؛ لأن الأصل والحَبُّ الحصيدُ أي المَحْصُودُ.

فصل


هذا دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إِنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت.
فإن قيل هذا الاستدلال قد تقدم في قوله تعالى: ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ فما الفائدة من إعادة قوله: ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد﴾ ؟.
فالجواب: أن قوله: وأنبتنا إشارة إلى جعلها محلاً للنبات، اللحم والشعر
18
وغيرهما، وقوله: «وَأَنْبَتْنَا» استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسانِ بعد الموت ينمُو ويزيدُ أي يُرجِعُ الله إليه قوة النماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء.
قوله تعالى: ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ﴾ والنخل منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل و «باسقات» حال، وهي حال مقدّرة؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن طُوالاً. والبُسُوقُ الطّول يقال: بَسَقَ فُلانٌ على أصحابه أي طال عليهم في الفضل، ومنه قول ابْنِ نَوْفلِ في ابن هُبَيْرَةَ:
٤٥٠٨ - يَا ابْنَ الَّذِينَ بِمَجْدِهِمْ بَسَقَتْ (عَلَى) قَيْسٍ فَزَارَهْ
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسُق بُسُوقاً أي طالت، قال الشاعر:
٤٥٠٩ - لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ البَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولاً وَفَات ثِمَارُها أَيْدِي الجُنَاةِ
وبَسَقَت الشَاةُ ولدت، وأبْسَقَتِ الناقةُ وَقَعَ في ضَرْعِهَا اللبأ قبل النتاج، ونُوقٌ مَبَاسِقٌ من ذلك.
قال مجاهد وقتادة وعكرمة يعني باسقاتٍ طوالاً. وقال سعيد بن جبير: مستويات والعامة على السين في باسقات، وقرأ قُطْبَةُ بنُ مالك - ويرويها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باصِقَات. وهي لغة لبنِي العنبر يُبْدلونَ السِّين صاداً قبل القاف والغين والعين والخاء والطاء إذا وليتها أو فصلت منها بحرف أو حرفين.
19
قوله: «لَهَا طَلْعٌ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في «بَاسِقَاتٍ» ويجوز أن يكون الحال وحده «لَهَا» وطلع فاعل به. ونَضِيدٌ بمعنى مَنضُود بعضها فوق بعض في كمامها كما في سنبلة الزرع، وهو عجيب، فإن الأشجار الطوال ثمارها بعضها على بعض، لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجَوْزِ واللَّوز وغيرهما، والطَّلْعُ كالسُّنْبُلَة الواحدة يكون على أصل واحدٍ.
قوله: «رزْقاً» يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً للعباد أي ذا رزق، وإن يكون مصدراً من معنى أنْبَتْنَا؛ لأن إنبات هذه رزق فكأنه قال: أنبتناها إنباتاً للعباد ويجوز أن تكون مفعولاً له للعباد، إمّا صفة، وإما متعلق بالمصدر، وإِما مفعولاً للمصدر، واللام زائدة، أي رِزْقاً العبادَ.

فصل


قال ابن الخطيب: ما الحكمة في قوله عند خلق السماء والأرض: «تَبْصِرَةً وذِكْرَى» وفي الثمار قال: «رِزْقاً» والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة؟
نقول: فيه وجوه:
أحدها: أن الاستدلال وقع لوجود أمرين: أحدهما الإعادة، والثاني: البقاء بعد الإعادة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم، والعقاب الدائم، وأنكروا ذلك، فقال أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النّخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوَّل تبصرةً وتذكرةً بالخلق، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى: ﴿تبصرة وذكرى﴾ حيث ذكر ذلك بعد الآيتين، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنبات النبات.
ثانيها: منفعة الثمار الظاهرة وهي الرزق فذكرها، ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا: لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأنّ السماء سبب الأرْزاق بقدرة الله تعالى، وفيها منافع غير ذلك والثمار وإن لم تكن كان العيش كما أنزل الله على قوم المنَّ والسلوى، وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا المواضع.
20
ثالثها: قوله: رزْقاً إشارة إلى كونه منعماً ليكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة بالمنعم وهو أقبح ما يكون.

فصل


قال: ﴿تبصرة وذكرى لكل عبد منيب﴾ فقيّد العبد بكونه منيباً، لأنّ العبودية حصلت لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنْعام، فلم يخصص بقيدٍ.
قوله: «فَأَحْيَيْنَا بِهِ» أي بالماء و «مَيْتاً» صفة ل «بَلْدَةً» ولم يؤنث حملاً على معنى المكان. والعامة على التخفيف. وأبو جعفر وخالد بالتَّثْقِيلِ.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة﴾ [يس: ٣٣] حيث أثبت (الهاء) هناك؟
فالجواب: أن الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة، لأن معنى الفاعلية ظاهرٌ هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعَمَرُوهَا فصارت بلدة فأسقط الهاء لأن معنى الفاعلية ظاهر فيثبت فيه الهاء، وإذا كان بمعنى الفاعل لم يظهر لا يثبت فيه الهاء، ويحقق هذا قوله: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ [سبأ: ١٥] حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعلية ولم يثبت حيث لم يظهر.
قوله: «كَذَلِكَ الْخُرُوجُ» أي من القبور أي كالإحياء الخروج.
فإن قيل: الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج؟
فالجواب: تقديره أحيينا به بلدةً ميْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تَتَشققُ ويخرج منها الأموات.
قال ابن الخطيب: وهذا يؤكد قولنا: إن الرَّجْعَ بمعنى الرجوع في قوله: ﴿ذلك رجع بعيد﴾ ؛ لأنه تعالى بين لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسبهُ أن يقول: كذلك الإخراج فلما قال: كذلك الخروج فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال: كذلك الرجوع والخروج.
21
«وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا » بسطناها على وجه الماء ﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ جبالاً ثوابتَ ﴿ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ حَسَنٍ كريمٍ يبهج به أي يستر١.
١ قال بهذه المعاني القرطبي في الجامع ١٧/٦..
قوله :«تَبْصِرَةً » العامة على نصيبها على المفعول من أجله١ أي تبصير أمثالهم وتذكير أمثالهم. وقيل : منصوبان بفعل من لفظهما مقدر أي بَصِّرْهُم تبصرةً وذكِّرهم تذكرةً٢. وقيل : حالان أي مُبَصَّرين مُذَكَّرِينَ، وقيل : حال من المفعول أي ذات تبصير وتذكير لمن يراها٣. وزيد بن علي بالرفع. وقرأ : وذِكْرٌ أي هي : تبصرةٌ وذكرٌ٤ و«لِكُلِّ » إما صفة وإما متعلق بنفس المصدر. وقال البغوي : تَبَصُّراً٥ وتَذْكِيراً.

فصل


قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون الأمْران عائدين إلى السماء والأرض أي خَلَقَ السماء تبصرةً وخلق الأرض ذكْرى. ويدل على ذلك أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدّة في كل عام، فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان. وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فتُذَكِّر، فالسماء تبصرة والأرْض تذكرة، ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كلّ واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة متذكرة٦ عند التَّنَاسِي.
قوله :﴿ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ أي لتُبصِّرَ وتُذَكِّر كل عبد منيب : أي راجع التفكر والتذكّر والنظر في الدلائل.
١ نقله القرطبي في المرجع السابق عن أبي حاتم..
٢ وهو قول أبي حيان في البحر ٨/١٢١..
٣ وقد نقل هذه الأقوال في كتابه أبو البقاء ١١٧٣..
٤ أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة فيكون لفظ تبصرة خبرا. وانظر البحر السابق وهي شاذة.
وانظر أيضا الكشاف ٤/٤..

٥ في معالم التنزيل له: تبصيرا مصدر بصر لا تبصُّراً مصدر تَبَصَّر. وانظر معالم التنزيل ٦/٢٣٤..
٦ في (ب) والرازي: مذكرة..
قوله :﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً مُّبَارَكاً ﴾ كثير الخير، وفيه حياة كل شيء وهو المطر ﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد ﴾، يعني البُرّ والشّعير وسائر الحبوب التي تحصد١، فقوله :«وحَبَّ الحَصِيدِ » يجوز أن يكون من باب حذف الموصوف للعلم به، تقديره وحب الزرع٢ الحصيد، نحو : مَسْجَدُ الجَامِعِ وبابه وهذا مذهب البصريين٣ ؛ لئلا يلزم إِضافة الشيء إلى نفسه. ويجوز أن يكون من إِضافة الموصوف إلى صفته ؛ لأن الأصل والحَبُّ الحصيدُ أي المَحْصُودُ.

فصل


هذا دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إِنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت.
فإن قيل : هذا الاستدلال قد تقدم في قوله تعالى :﴿ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ فما الفائدة من إعادة قوله :﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد ﴾ ؟.
فالجواب : أن قوله : وأنبتنا إشارة إلى جعلها محلاً للنبات، اللحم والشعر وغيرهما، وقوله :«وَأَنْبَتْنَا » استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسانِ بعد الموت ينمُو ويزيدُ أي يُرجِعُ الله إليه قوة النماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء٤.
١ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٣٤..
٢ قدره القرطبي: وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد وكذا الأمر في البغوي وانظر القرطبي ١٧/٦ والبغوي ٦/٢٣٤..
٣ وإنما أضيف الحب إلى الحصيد وهما واحد لاختلاف اللفظين كما قال: مسجد الجامع وربيع الأول. وانظر البغوي السابق والقرطبي ١٧/٦ وهذا الرأي الأخير ينسب للكوفيين قال الفراء: أضيف إلى نفسه لاختلاف لفظ اسميه. انظر معاني الفراء ٣/١٧٦..
٤ بالمعنى قليلا من تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/١٥٧..
قوله تعالى :﴿ والنخل بَاسِقَاتٍ ﴾ والنخل منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل و«باسقات » حال، وهي حال١ مقدّرة ؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن طُوالاً٢. والبُسُوقُ الطّول يقال : بَسَقَ فُلانٌ على أصحابه أي طال عليهم في الفضل، ومنه قول ابْنِ نَوْفلِ في ابن هُبَيْرَةَ :
يَا ابْنَ الَّذِينَ بِمَجْدِهِمْ بَسَقَتْ ( عَلَى٣ ) قَيْسٍ فَزَارَهْ٤
وهو استعارة، والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسُق بُسُوقاً أي طالت، قال الشاعر :
لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ البَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السماء ذَهَبْنَ طُولاً وَفَات ثِمَارُها أَيْدِي الجُنَاةِ٥
وبَسَقَت الشَاةُ ولدت، وأبْسَقَتِ الناقةُ وَقَعَ في ضَرْعِهَا اللبأ قبل النتاج، ونُوقٌ مَبَاسِقٌ٦ من ذلك. قال مجاهد وقتادة وعكرمة يعني باسقاتٍ طوالاً. وقال سعيد بن جبير : مستويات٧ والعامة على السين في باسقات، وقرأ قُطْبَةُ بنُ مالك - ويرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم - باصِقَات٨. وهي لغة لبنِي العنبر يُبْدلونَ السِّين صاداً قبل القاف والغين والعين والخاء والطاء إذا وليتها أو فصلت منها بحرف أو حرفين٩.
قوله :«لَهَا طَلْعٌ » يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في «بَاسِقَاتٍ »١٠ ويجوز أن يكون الحال وحده «لَهَا » وطلع فاعل به. ونَضِيدٌ بمعنى مَنضُود بعضها فوق بعض في كمامها كما في سنبلة الزرع، وهو عجيب، فإن الأشجار الطوال ثمارها بعضها على بعض، لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجَوْزِ واللَّوز وغيرهما، والطَّلْعُ كالسُّنْبُلَة الواحدة يكون على أصل واحدٍ١١.
١ قاله العكبري في التبيان ١١٧٤..
٢ قاله صاحب البحر المحيط ٨/١٢٢..
٣ لفظ "على" سقط من النسختين..
٤ والبيت من مجزوء الكامل وشاهده في بسقت فهو استعمال مجازي قصد منه الفضل والمدح فهو من استعمال الحسي في المعنوي، والبيت من مراجع البحر المحيط ٨/١١٩ ومجاز القرآن ٢/٢٢٣ والسراج المنير ٤/٨١ واللسان "بسق" ٢٨٤..
٥ من الوافر ولم أعرف قائلهما والشاهد في باسقات أي طويلات فهو استعمال حسيّ. وانظر البيت في القرطبي ١٧/٧ والسراج المنير ٤/٨١ والبحر ٨/١١٨ وفتح القدير ٥/٧٣..
٦ في اللسان مباسيق وانظر اللسان "بسق" ٢٨٤..
٧ وانظر القرطبي ١٧/٦ و٧..
٨ رواها أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٨٢ و٢٨٣ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- انظر المحتسب ٢٨٢ و٢٨٣ وانظر البحر ٨/١٢٢ واللسان بسق المرجع السابق..
٩ قاله أبو حيان في مرجعه السابق..
١٠ التبيان ١١٧٤..
١١ الرازي ٢٨/١٥٧..
قوله :«رزْقاً » يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً للعباد أي ذا رزق، وإن يكون مصدراً من معنى أنْبَتْنَا ؛ لأن إنبات هذه رزق فكأنه قال : أنبتناها إنباتاً للعباد١ ويجوز أن تكون مفعولاً له٢ للعباد، إمّا صفة، وإما متعلق بالمصدر، وإِما مفعولاً للمصدر، واللام زائدة، أي رِزْقاً العبادَ.

فصل


قال ابن الخطيب : ما الحكمة في قوله عند خلق السماء والأرض :«تَبْصِرَةً وذِكْرَى » وفي الثمار قال :«رِزْقاً » والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة ؟
نقول : فيه وجوه :
أحدها : أن الاستدلال وقع لوجود أمرين : أحدهما الإعادة، والثاني : البقاء بعد الإعادة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم ٣- كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم، والعقاب الدائم، وأنكروا ذلك، فقال أما الأوّل فالله القادر على خلق السماوات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النّخل٤ والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوَّل تبصرةً وتذكرةً بالخلق، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى :﴿ تبصرة وذكرى ﴾ حيث ذكر ذلك بعد الآيتين، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنبات النبات.
ثانيها : منفعة الثمار الظاهرة وهي الرزق فذكرها، ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا : لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأنّ السماء سبب الأرْزاق بقدرة الله تعالى، وفيها منافع غير ذلك والثمار وإن لم تكن كان٥ العيش كما أنزل الله على قوم المنَّ والسلوى، وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا المواضع.
ثالثها : قوله : رزْقاً إشارة إلى كونه منعماً ليكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة بالمنعم وهو أقبح ما يكون.

فصل


قال :﴿ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾ فقيّد العبد بكونه منيباً، لأنّ العبودية حصلت لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنْعام، فلم يخصص بقيدٍ٦.
قوله :«فَأَحْيَيْنَا بِهِ » أي بالماء و«مَيْتاً » صفة ل «بَلْدَةً » ولم يؤنث٧ حملاً على معنى المكان٨. والعامة على التخفيف. وأبو جعفر وخالد بالتَّثْقِيلِ٩.
فإن قيل : ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة ﴾ حيث أثبت ( الهاء ) ١٠ هناك ؟
فالجواب : أن الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة، لأن معنى الفاعلية ظاهرٌ هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعَمَرُوهَا فصارت بلدة فأسقط الهاء لأن معنى١١ الفاعلية ظاهر فيثبت١٢ فيه الهاء، وإذا كان بمعنى الفاعل لم يظهر لا يثبت فيه الهاء، ويحقق١٣ هذا قوله :﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ [ سبأ : ١٥ ] حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعلية ولم يثبت حيث لم يظهر١٤.
قوله :«كَذَلِكَ الْخُرُوجُ » أي من القبور أي كالإحياء الخروج.
فإن قيل : الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج ؟
فالجواب : تقديره أحيينا به بلدةً ميْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تَتَشققُ ويخرج منها الأموات.
قال ابن الخطيب : وهذا يؤكد قولنا : إن الرَّجْعَ بمعنى الرجوع في قوله :﴿ ذلك رجع بعيد ﴾ ؛ لأنه تعالى بين لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسبهُ أن يقول : كذلك الإخراج فلما قال : كذلك الخروج فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال : كذلك الرجوع والخروج١٥.
١ قال بهذين الوجهين العكبري في مرجعه السابق..
٢ الكشاف ٤/٥..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ في الرازي: النجم..
٥ كذا في النسختين والأصح: ما كان العيش..
٦ وانظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨/١٥٨..
٧ أي الميت..
٨ ولو قال: ميتة لجاز قاله القرطبي في الجامع ١٧/٧..
٩ وهي شاذة..
١٠ وهي شاذة ذكرت في البحر ٨/١٢٢ ومختصر ابن خالويه ١٤٤ والإتحاف ٣٩٨. وما بين القوسين سقط من (ب) وفي الرازي: التاء وليس الهاء..
١١ في (ب) نص..
١٢ وفيها تنبت..
١٣ وفيها: وتحقيق..
١٤ وانظر الرازي ٢٨/١٦٠..
١٥ وانظر الرازي ٢٨/١٦٠..
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ... ﴾ الآية ذكر المكذبين تذكيراً لهم بحالهم وأنذرهم بإهلاكهم، وفيه تسلية للرسول، وتنبيه بأن حالَهُ كحال من تقدمه من الرسل كُذبوا وصَبَرُوا فأهلك الله مكذّبيهم ونصرهم. والمراد بأصحاب الرَّسِّ قيل: هم قوم شعيب، وقيل: الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم من قوم عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: هم أصحاب الأخْدود والرس إمَّا موضع نسبوا إليه، أو فَعْل وهو حَفْرُ البئر، يقال رسَّ إذا حفر بئراً. وقد تقدم في الفرقان. وقال ههنا: «قوم نوح»، وقال: «إخوان لوط» ؛ لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم هم معارف لوط، ونوح كان مرسلاً إلى خلْق عظيمٍ، وقال: «فرعون» ولم يقل: «قوم فرعون»، وقال: «قوم تبع» ؛ لأن فرعون كان هو المعتبر، المستبدّ بأمره، وتبَّع كان معتضداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون وخصه بالذكر. وتبع هو تبع الحِمْيرِيّ، واسمه سعد أبو كرب. قال قتادة: ذم الله قوم تبع ولم يذمه وتقدم ذكره في سورة الدخان.
قوله: «الأَيْكَة» تقدم الكلام عليها في الشعراء. وقرأ ههنا لَيْكَةَ - بزنة ليلة - أبو جعفر وشيبةُ، وقال أبو حيان: وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع الأيكة - بلام التعريف - والجمور لَيْكَة. وهذا الذين نقله غفلة منه بل الخلاف المشهور إنما هو في سورة الشعراء و «ص» كما تقدم تحقيقه وأما هنا فالجمهور على لام التَّعرِيْف.
قوله: «كُلٌّ» التنوين عوض عن المضاف إليه. وكان بعض النحاة يُجيزُ (حَذْفَ) تنوينها وبناءَها على الضم كالغاية نحو: قَبْلُ وبَعْدُ. واللام في الرسل قيل
22
لتعريف الجنس وهو أن كل واحد كذب جميع الرسل وذلك على وجهين:
أحدهما: أن المكذب للرسول مكذب لكل الرّسل.
وثانيهما: أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية.
قوله: «فَحَقَّ وَعِيدِ» أي وجب لهم عذابي أي ما أوعد الله تعالى من نُصرة الرسل عليهم وإهلاكهم.
23
وقال :«إخوان لوط » ؛ لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم هم معارف لوط، ونوح كان مرسلاً إلى خلْق عظيمٍ، وقال :«فرعون » ولم يقل :«قوم فرعون ».
وقال :«قوم تُبّع » ؛ لأن فرعون كان هو المعتبر، المستبدّ بأمره، وتبَّع كان معتضداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون وخصه بالذكر. وتبع هو تبع الحِمْيرِيّ، واسمه سعد أبو كرب. قال قتادة : ذم الله قوم تبع ولم يذمه١ وتقدم ذكره في سورة الدخان.
قوله :«الأَيْكَة » تقدم الكلام عليها في الشعراء٢. وقرأ ههنا لَيْكَةَ - بزنة ليلة - أبو جعفر وشيبةُ٣، وقال أبو حيان : وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة ونافع الأيكة - بلام التعريف - والجمهور لَيْكَة٤. وهذا الذين نقله غفلة منه بل الخلاف المشهور إنما هو في سورة الشعراء و«ص » كما تقدم تحقيقه وأما هنا فالجمهور على لام التَّعرِيْف٥.
قوله :«كُلٌّ » التنوين عوض عن المضاف إليه٦. وكان بعض النحاة يُجيزُ ( حَذْفَ ) ٧ تنوينها وبناءَها على الضم كالغاية نحو : قَبْلُ وبَعْدُ. واللام في الرسل قيل لتعريف الجنس وهو أن كل واحد كذب جميع الرسل وذلك على وجهين :
أحدهما : أن المكذب للرسول مكذب لكل الرّسل.
وثانيهما : أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية٨.
قوله :«فَحَقَّ وَعِيدِ » أي وجب لهم عذابي أي ما أوعد الله تعالى من نُصرة الرسل عليهم وإهلاكهم.
١ وانظر الرازي ٢٨/١٦١ والبغوي ٦/٢٣٤..
٢ وقد تحدثت في سورة "ص" وحققت آية الشعراء من خلال الحديث في سورة "ص"..
٣ البحر المحيط ٨/١٢٢..
٤ المرجع السابق..
٥ وهذا ما أقره صاحب الإتحاف ٣٩٨..
٦ وهو أحد أقسام التنوين مثل قوله: "وأنتم حينئذ تنظرون"..
٧ ما بين القوسين سقط من (أ) الأصل. ويقصد المؤلف ببعض النحاة محمد بن الوليد. وهو من قدماء نحاة مصر أجاز أن يحذف التنوين من كل جملة غاية ويبنى على الضم كما يبنى قبل وبعد. وانظر البحر المحيط ٨/١٢٢..
٨ ويجوز أن تكون لتعريف العهد أي أن كل واحد كذب رسوله فهم كذبوا الرسل. وانظر الرازي ٢٨/١٦١..
قوله: «أَفَعَيِينَا» العامة على ياء مكسورة بعدها ياء ساكنة. وقرأ ابنُ عَبْلَةَ أفعُيِّنا بتشديد الياء من غير إشباع، وهذه القراءة على إشكالها قرأ بها الوليدُ بن مسلم وأبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ في رواية. وروى ابن خالويه عن ابن عبلة أَفَعُيِّينَا كذلك، لكنه أتى بعد الياء المشددة بأخرى ساكنة وخرجها أبو حيان على لغة من يقول في عَيِيَ عَيَّ وفي حَيِيَ حَيَّ بالإدغام. ثم لما أسند هذا الفعل وهو مدغم اعتبر لغة بكرِ بْنِ وائل وهو أنهم لا يفكون الإدغامَ في مثل هذا إذا أسندوا ذلك الفعل المدغم لتاء المتكلم ولا إحدى أخواتها التي تسكن لها لام الفعل فيقولون في رَدّ ردّت وردّنا، قال: وعلى هذه اللغة تكون التاء مفتوحة. ولم يذكر توجيه القراءة الأخرى. وتوجيهها أنها من عَيَّا يُعَيِّي كَحلَّى يُحَلِّي.

فصل


ومعنى أفعيينا بالخلق الأول أي أَعَجَزْنَا حين خلقناهم أولاً فتعبنا بالإعادة. وهذا تقريع لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث، ويقال لكل من عجز عن شيء عَيِي بِهِ.
﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ﴾ أي شك ﴿مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وهو البعث. والمراد بالخلق الأول قبل
23
خلقهم ابتداء لقوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [الزخرف: ٨٧]. وقيل: هو خلق السموات لأنه هو الخلق الأول فكأنه تعالى قال: ﴿أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء﴾ [ق: ٦] ثم قال: «أَفَعَيِينَا» بهذا، ويؤيدهُ قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ [الأحقاف: ٣٣] وقال بعد هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان﴾ وعطفه بحرف الواو على ما تقدم من الخلق، وهو بناء السموات، ومدّ الأرض، وتنزيل الماء وإنبات الحبِّ.

فصل


عطف دلائل الآفاق بعضها على بعض بحرف الواو فقال: «وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا ونَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً»، ثم في الدليل النفسيّ ذكر حرف الاستفهام، والفاء بعده إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس، وهذا من جنس، فلم يجعل هذا تبعاً لذلك، ومثل هذا مراعى في سورة «يس» حيث قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ﴾ [يس: ٧٧].
فإن قيل: لِمَ لَمْ يعطف الدليل الآفاقيّ ههنا كما عطفه في سورة يس؟
فالجواب - والله أعلم - أن ههنا وُجِدَ منهم استبعاد بقولهم: ﴿ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾ [ق: ٣] فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات، ثم نزل كأنه قال: لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز إرْشادِهِمْ لا ليدفع استبعادهم فبدأ بالأَدْنَى وارتقى إلى الأعْلى.

فصل


في تعريف «الخلق الأول» وتنكير «خلق جديد» وجهان:
الأول: أن الأول عرفه كل أحد و «الخلق الجديد» لم يعرفه كل أحد ولم يعلم كيفيته ولأنَّ الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد.
الثاني: أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه كأنهم قالوا: أيكون لنا خلق على وجه إنكار الإله بالكلية.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾.
قوله: «وَنَعْلَمُ» خبر مبتدأ مضمر تقديره: ونَحْنُ نَعْلَمُ، والجملة الاسمية حينئذٍ حالٌ. ولا يجوز أن يكون هو حالاً بنفسه، لأنه مضارع مثبت باشرته الواو، وكذلك قوله: «ونحن أقرب».
24

فصل


إذا قلنا: بأن الخلق الأول هو خلق السموات فهذا ابتداء استدلال بخلق الإنسان، وإذا قلنا: بأن الخلق الأول هو خلق الإنسان فهذا تتميم للاستدلال بأن خلق الإنسان أول مرة، وقوله ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ أي يحدث به قلبه، ولا يخفى علينا سرائره وضمائره ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ لأن أبعاضه تحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علمَ الله شيءٌ، وهذا بيان لكمال علمِهِ.
قوله: ﴿مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ كقولهم: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، أي حبل العِرْقِ الوَرِيدِ. أو لأنَّ الحبل أعم فأضيف للبيان نحو: بعيرُ سَانِيَةٍ أو يراد: حبل العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما في عضو واحد. قال البغوي: حبل الوريد عرق العُنُق وهو عرق بين الحُلْقُوم والعِلْبَاوَيْنِ تتفرق في البدن، والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. والوريد إما بمعنى الوارد وإما بمعنى الوُرُود. والوريدُ عرق كبير في العنق. فقال: إنهما وَرِيدان. قال الزمخشري: عرقان مُكْتَنِفَان بصفحتي العُنُق في مقدّمهما يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه يسمى وريداً لأنَّ الروح ترد إليه وأنشد:
٤٥١٠ - كَأَنَّ ورِيدَيْهِ رشَاءَا خُلَّبِ... وقال أبْرَمُ: هو نهر الجسد وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل واللسان وفي الخنصر الأسلم.
قوله: «إذْ يَتَلَقَّى» ظرف ل «أَقْرَب» ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ. والمعنى إذ
25
يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه.
قوله: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال﴾ أي أحدهما عن يَمِينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. وقوله: «قَعِيدٌ» أي قاعد، فيجوز أن يكون مفرداً على بابه، فيكون بمعنى مُقَاعِد كخَلِيطٍ بمعنى مخالط. وفيه لطيفة، وهي أن الله تعالى قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد المخالط لأجزائه الداخل في أعضائه والملك متنحٍ عنه فيكون علمنا به أكمل من علم الكاتب، أو يكون عدل من فاعل إلى فعيل مبالغة كعليم. وجوز الكوفيون أن يكون فعيلٌ واقعاً موقع الاثنين أراد قعوداً كالرسوب يجعل للاثنين والجمع كما قال تعالى في الاثنين: ﴿فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦]. وقال المبرد: الأصل: عن اليمين قعيد وعن الشمال، فأخر عن موضعه، وهذا لا يُنَحِّي من وقوع المفرد موقع المثنى، والأجود أن يدعى حذف إما من الأول أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأول.
ومثله قوله:
٤٥١١ - رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئاً وَمِنْ أَجْل الطَّوِيِّ رَمَانِي
قال المفسرون: أراد بالقعيد اللازم الذي لا يبرح لا القائم الذي هو عند القائم. وقال مجاهد: القَعِيدُ: الرصيد.
قوله: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ﴾ أي ما يتكلم من كلام فيلقيه أي يرميه من فيه ﴿إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ حافظ حاضر. وقرأ العامة «يَلْفِظُ» بكسر الفاء. ومحمد بن (أبي) مَعْدَان بفتحها. وَ «رَقِيبٌ عَتِيدٌ» قيل: هو بمعنى رقيبان عتيدان أينما كان. قال الحسن (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالتين عند غَائِطِهِ، وعند جَمَاعِهِ. وقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه
26
ويُوزَرُ فيه. وقال الضحاك: مَجْلِسُهُمَا تحت الشعر على الحَنَك ومثله عن الحسن يعجبهُ أن ينظف عَنْفَقَتَه. وروى أبو أُمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «كاتب الحسنات على يمين الرَّجل وكاتِبُ السَّيئات على يسار الرَّجُلِ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئاتِ، فَإذَا عَمِلَ حَسَنةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْراً، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ».
27
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾.
قوله :«وَنَعْلَمُ » خبر مبتدأ مضمر تقديره : ونَحْنُ نَعْلَمُ، والجملة الاسمية حينئذٍ حالٌ١. ولا يجوز أن يكون هو٢ حالاً بنفسه، لأنه مضارع مثبت باشرته الواو، وكذلك قوله :«ونحن أقرب ». ٣

فصل


إذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق السماوات فهذا ابتداء استدلال بخلق الإنسان، وإذا قلنا : بأن الخلق الأول هو خلق الإنسان فهذا تتميم للاستدلال بأن خلق الإنسان أول مرة، وقوله ﴿ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾ أي يحدث به قلبه، ولا يخفى علينا سرائره وضمائره ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ لأن أبعاضه تحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علمَ الله شيءٌ، وهذا بيان لكمال علمِهِ٤.
قوله :﴿ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ كقولهم : مَسْجِدُ الْجَامِعِ، أي حبل العِرْقِ الوَرِيدِ٥. أو لأنَّ الحبل أعم فأضيف للبيان نحو : بعيرُ سَانِيَةٍ٦ أو يراد : حبل العاتق٧ فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما في عضو واحد٨. قال البغوي : حبل الوريد عرق العُنُق وهو عرق بين الحُلْقُوم والعِلْبَاوَيْنِ تتفرق في البدن، والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين٩. والوريد إما بمعنى الوارد وإما بمعنى الوُرُود. والوريدُ عرق كبير في العنق. فقال : إنهما وَرِيدان. قال الزمخشري : عرقان مُكْتَنِفَان بصفحتي العُنُق في مقدّمهما يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه يسمى وريداً لأنَّ الروح ترد إليه١٠ وأنشد :
كَأَنَّ ورِيدَيْهِ رشَاءَا خُلَّبِ١١ . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال أبْرَمُ١٢ : هو نهر الجسد وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل واللسان وفي الخنصر الأسلم.
١ قاله العبكري في التبيان ١١٧٤..
٢ فعل "نعلم"..
٣ فهي حالية برمتها..
٤ الرازي المرجع السابق ٢٨/١٦٢..
٥ فيجوز فيه ما جاز في مسجد الجامع هل أضيف إلى نفسه أو إلى مقدر..
٦ من معاني السانية الناضحة وهي الناقة التي يستقى عليها وقال الليث: السانية وجمعها السواني ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. انظر لسان العرب "سنا" ٢١٢٩، فكأن البعير أخص أضيف إلى الأعم وهو السانية..
٧ وهو ما بين المنكب والعنق مذكر وقد أنث وليس بثَبتٍ. اللسان "عنق" ٢٨٠٠..
٨ كما قالوا: حبل العلباء مثلا وانظر الكشاف ٤/٦ والبحر ٨/١٢٣..
٩ معالم التنزيل له ٦/٢٣٥..
١٠ بالمعنى من الكشاف المرجع السابق..
١١ رجز لرؤبة وهو في ملحقات ديوان رؤبة والكتاب ٣/١٦٤ و١٦٥، وابن يعيش ٨/٧٢ والمقتضب ١/٥٠ والإنصاف ١٩٨ واللسان "خلب" والبحر ٨/١١٢٩ والتصريح ١/٢٣٤ والكشاف ٤/٦ وشرح شواهده، والرشاء الحبل؛ والخُلب بالضم الليف، والرواية الأعلى رواية الكشاف بالتثنية وقبل الشطر: ومُعتدٍ فظّ غليظ القلب. وبعده: غادرته مجدلا كالكلب..
١٢ كذا في النسختين ولعله إبراهيم أي النخعي..
قوله :«إذْ يَتَلَقَّى » ظرف ل «أَقْرَب » ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ١. والمعنى إذ يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه.
قوله :﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال ﴾ أي أحدهما عن يَمِينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. وقوله :«قَعِيدٌ » أي قاعد، فيجوز أن يكون مفرداً على بابه، فيكون بمعنى مُقَاعِد كخَلِيطٍ بمعنى مخالط. وفيه لطيفة، وهي أن الله تعالى قال : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد المخالط لأجزائه الداخل في أعضائه والملك متنحٍ عنه فيكون علمنا٢ به أكمل من علم الكاتب، أو يكون عدل من فاعل إلى فعيل مبالغة كعليم٣. وجوز الكوفيون أن يكون فعيلٌ واقعاً موقع الاثنين أراد قعوداً كالرسوب يجعل للاثنين والجمع كما قال تعالى في الاثنين :﴿ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾ [ الشعراء : ١٦ ]. وقال المبرد : الأصل : عن اليمين قعيد وعن الشمال، فأخر عن موضعه٤، وهذا لا يُنَحِّي من وقوع المفرد موقع المثنى، والأجود٥ أن يدعى حذف إما من الأول أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأول. ومثله قوله :
رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئاً وَمِنْ أَجْل الطَّوِيِّ رَمَانِي٦
قال المفسرون : أراد بالقعيد اللازم الذي لا يبرح لا القائم٧ الذي هو عند القائم. وقال مجاهد : القَعِيدُ : الرصيد.
١ ذكره البحر ٨/١٢٣..
٢ في الرازي: علنا..
٣ وانظر البحر المحيط ٨/١٢٣..
٤ اتساعا وحذف الثاني لدلالة الأول عليه وانظر القرطبي ١٧/١٠..
٥ وهذا اختيار أبي حيان في البحر المحيط ٨/١٢٣..
٦ البيت من الطويل وهو مختلف فيه في نسبته فقد نسبه صاحب اللسان للأزرق بن طرفة الفراصي. والطّويّ البئر المطوية بالحجارة ورماني قذفني بأمر أكرهه. وقد نسبه سيبويه إلى ابن أحمر والشاهد: حذف خبر والدي أي كنت منه بريئا ووالدي بريء لدلالة الأول عليه وما أكثره، وانظر الكتاب ١/٧٥، والهمع ١/١١٦ والبحر ٨/١٢٢ واللسان "جول"..
٧ في (ب) وهو الأصح القاعد..
قوله :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ ﴾ أي ما يتكلم من كلام فيلقيه أي يرميه من فيه ﴿ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ حافظ حاضر. وقرأ العامة «يَلْفِظُ » بكسر الفاء. ومحمد بن ( أبي ) ١ مَعْدَان٢ بفتحها٣. وَ«رَقِيبٌ عَتِيدٌ » قيل : هو بمعنى رقيبان عتيدان أينما كان. قال الحسن ( رضي الله عنه ) ٤ إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالتين عند غَائِطِهِ، وعند جَمَاعِهِ. وقال مجاهد : يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه ويُوزَرُ فيه. وقال الضحاك : مَجْلِسُهُمَا تحت الشعر على الحَنَك ومثله عن الحسن يعجبهُ أن ينظف عَنْفَقَتَه٥. وروى أبو أُمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كاتب الحسنات على يمين الرَّجل وكاتِبُ السَّيئات على يسار الرَّجُلِ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئاتِ، فَإذَا عَمِلَ حَسَنةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْراً، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ : دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ ».
١ زيادة من (ب)..
٢ ولم أعثر على ترجمة له..
٣ في مختصر ابن خالويه نلفظ بفتح النون التعظيمية وكسر الفاء ولعله سهو من المحقق للكتاب انظر المختصر ١٤٤..
٤ زيادة من (ب)..
٥ قيل: هي ما بين الشفة السفلى والذقن منه لخفة شعرها. وقيل: ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى كأن عليها ولم يكن. وقيل غير ذلك. انظر اللسان والصّحاح "عنفق"..
قوله: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتجلب على عقله.
قوله: «بالْحَقِّ» يجوز أن تكون الباء للحال أي مُلْتَبسةً بالحقّ والمعنى بحقيقة الموت، ويجوز أن تكون للتعدية والمراد منه الموت فإنه حق كأن شدة الموت تحضر الموت، يقال: جاء فلان بكذا أي أحضره، وقيل: بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعَيَان. وقيل: بما يَؤُول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة.
وقرأ عبد الله: سَكَرَاتُ.
ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تحيد أي تميل، من حَادَ عن الشيء يَحِيدُ حُيُوداً وحُيُودَةً وحَيْداً. وقال الحسن: تهرب، وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) تكره وأصل الحَيْدِ: الميلُ، يقال: حُدْتُ عن الشيء أَحِيدُ حَيْداً ومَحِيداً إذا مِلْت عنه، و «ذلك» يحتمل أن يكون إشارة إلى الموت وأن يكون إشارة إلى الحق. والخطاب قيل مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قال ابن الخطيب: وهو مُنْكَر، وقيل: مع الكافر. وهو أقرب. والأقْوى أن يقال: هو خطاب عامٌّ مع السامع.
27
قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ عطف على قوله: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ يعني نفخة البعث ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد﴾ الذي وعد الكفار أن يعذبهم فيه. قال الزمخشري: «ذلك» إشارة إلى المصدر الذي هو قوله: «وَنُفِخَ» أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأن «يوم» لو كان منصوباً لكان ما ذكره ظاهراً، وأما رفع «يوم» فيفيد أن ذلك نفس اليوم، والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان.
فالأولى أن يقال: «ذلك» إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله: «ونفخ» لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه قال تعالى: ذلك الزمان يوم الوعيد، والوعيد هو الذي أَوْعَدَ به من الحَشر، والمجازاة.
قوله: ﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ قيل: السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنْه إلى مقعده، والشهيدُ هو الكاتب. والسائق لازم للبرِّ والفَاجِرِ، أما البَرُّ فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار، قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ... وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة﴾ [الزمر: ٧١ - ٧٣]، والشهيد يشهد عليها بما عملت. قال الضحاك: السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وقيل: هما جميعاً من الملائكة.
قوله: «مَعَهَا سَائِقٌ» جملة في موضع جر صفة «لِنَفسٍ» أو في موضع رفع صفة «لكُلّ» أو في موضع نصب حالاً من «كُلّ». والعامة على عدم الإدغام في «معها» وطلحة على الإدغام «مَحَّا» بحاءٍ مشددة، وذلك أنه أدغم العين في الهاء، ولا يمكن ذلك فقلبت الهاء حاء ثم أدغم فيها العين فقلبها حاءً.
وسمع: ذَهَبَ مَحُّمْ أي معهم. وقال الزمخشري: ومحل «مَعَهَا سَائقٌ» النصب على الحال من «كُلّ» ؛ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة. وأنْحى عليه أبو حيان وقال: لا يقولُ هذا مبتدئٌ في النحو، لأنه لو نعت «كُلُّ نَفْسٍ» مَا نعت إلا بالنكرة. قال شهاب الدين: وهذا منه غير مرض إذ يعلم أنه لم يرد حقيقة ما قاله.
28
قوله: «لَقَدْ كُنْتَ» أي يقال له: لَقَدْ كُنْتَ، والقول إما صفة أو حال. والعامة على فتح التاء في «كُنْتَ» والكاف في «غِطَاءَكَ» و «بَصُرَكَ» حملاً على لفظ «كل» من التذكير. والجَحْدَريّ: كُنْتِ بالكسر مخاطبة للنفس. وهو وطلحة بن مصرف: ﴿عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ﴾ بالكسر مراعاة للنفس أيضاً. ولم ينقل صاحب اللوَّامح الكسر في الكاف عن الجَحْدَري، وعلى كل فيكون قد راعى اللفظ مرةً والمعنى أُخْرَى.

فصل


والمعنى ﴿لقد كنت في غفلة من هذا﴾ اليوم فكشفنا عنك الذي كان في الدنيا وعلى قلبك وسمعك وبصرك ﴿فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ نفاذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. وقال مجاهد: يعني نظرك على لسان ميزانك حيث توزن حسناتكَ وسيِّئَاتُكَ. والمعنى أزلنا غَفْلَتَك عنك فبصرك اليوم حديد وكان من قبل كليلاً.
29
قوله :﴿ وَنُفِخَ فِي الصور ﴾ عطف على قوله :﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ﴾ يعني نفخة البعث ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد ﴾ الذي وعد الكفار أن يعذبهم فيه. قال الزمخشري :«ذلك » إشارة إلى المصدر الذي هو قوله :«وَنُفِخَ » أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد١. قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ ؛ لأن «يوم » لو كان منصوباً لكان ما ذكره ظاهراً، وأما رفع «يوم » فيفيد أن ذلك نفس اليوم، والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان.
فالأولى أن يقال :«ذلك » إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله :«ونفخ » لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه قال تعالى : ذلك الزمان يوم الوعيد، والوعيد هو الذي أَوْعَدَ به من الحَشر، والمجازاة٢.
١ الكشاف ٤/٧..
٢ قاله في تفسيره الكبير ٢٨/١٦٤ المرجع السابق..
قوله :﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ قيل : السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنْه إلى مقعده، والشهيدُ هو الكاتب. والسائق لازم للبرِّ والفَاجِرِ، أما البَرُّ فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار، قال تعالى :﴿ وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ. . . وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة ﴾ [ الزمر : ٧١ - ٧٣ ]، والشهيد١ يشهد عليها بما عملت. قال الضحاك : السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وقيل : هما جميعاً من الملائكة.
قوله :«مَعَهَا سَائِقٌ » جملة في موضع جر صفة «لِنَفسٍ » أو في موضع رفع صفة «لكُلّ » أو في موضع نصب حالاً من «كُلّ »٢. والعامة على عدم الإدغام في «معها » وطلحة على الإدغام٣ «مَحَّا » بحاءٍ مشددة، وذلك أنه أدغم العين في الهاء٤، ولا يمكن ذلك فقلبت الهاء حاء ثم أدغم فيها العين فقلبها حاءً. وسمع : ذَهَبَ مَحُّمْ أي معهم٥. وقال الزمخشري : ومحل «مَعَهَا سَائقٌ » النصب على الحال من «كُلّ » ؛ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة٦. وأنْحى عليه أبو حيان وقال : لا يقولُ هذا مبتدئٌ في النحو، لأنه لو نعت «كُلُّ نَفْسٍ » مَا نعت إلا بالنكرة٧. قال شهاب الدين : وهذا منه غير مرض إذ يعلم أنه لم يرد حقيقة ما قاله٨.
١ البغوي والخازن ٦/٢٣٦..
٢ وجازت الحالية من (كل) النكرة لما فيه من العموم والتقدير: يقال له: لقد كنت وذكر على المعنى. قاله العكبري بإعراباته تلك في التبيان ١١٧٥..
٣ وهي شاذة انظر البحر ٨/١٢٤..
٤ لأن الحرفين يخرجان من الحلق..
٥ كذا قال أبو حيان في البحر المرجع السابق..
٦ الكشاف ٤/٧..
٧ البحر المرجع السابق..
٨ قاله في دره المصون مخطوط مكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٠٨..
قوله :«لَقَدْ كُنْتَ » أي يقال له : لَقَدْ كُنْتَ، والقول إما صفة أو حال. والعامة على فتح التاء في «كُنْتَ » والكاف في «غِطَاءَكَ » و«بَصرُكَ » حملاً على لفظ «كل » من التذكير١. والجَحْدَريّ : كُنْتِ بالكسر مخاطبة للنفس. وهو وطلحة بن مصرف :﴿ عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ ﴾ بالكسر مراعاة للنفس أيضاً٢. ولم ينقل صاحب اللوَّامح٣ الكسر في الكاف عن الجَحْدَري، وعلى كل فيكون قد راعى اللفظ مرةً والمعنى أُخْرَى٤.

فصل


والمعنى ﴿ لقد كنت في غفلة من هذا ﴾ اليوم فكشفنا عنك الذي كان في الدنيا وعلى قلبك وسمعك وبصرك ﴿ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ ﴾ نفاذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. وقال مجاهد : يعني نظرك على لسان ميزانك حيث توزن حسناتكَ وسيِّئَاتُكَ. والمعنى أزلنا غَفْلَتَك عنك فبصرك اليوم حديد وكان من قبل كليلاً.
١ انظر التبيان ١١٧٥..
٢ قراءتان شاذتان نقلها المختصر ١٤٤ والبحر المحيط ٨/١٢٥..
٣ وهو أبو الفضل الرازي. وتقدم التعريف به..
٤ البحر المحيط المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ قيل: المراد بالقرين: الملك الموكل به وهو القعيد والشهيد الذي سبق ذكره ﴿هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ يريد كتاب أعماله معدٌّ محضَرٌ. وقيل: المراد بالقرين الشيطان الذي زين له الكفر والعصيان بدليل قوله: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ [فصلت: ٢٥] وقال: ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦] وقال تعالى: ﴿فَبِئْسَ القرين﴾ [الزخرف: ٣٨] فالإشارة بهذا السَّوْق إلى المرتكب للفجور والفسوق. والقعيد معناه المعتد الناد ومعناه أن الشيطان يقول: هذا العاصي شيء هو عندي معتد لجهنم أعتدته لها بالإغواء والإضلال.
قوله: ﴿هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ يجوز أن تكون «ما» نكرة موصوفة و «عتيد» صفتها و «لَدَيَّ» متعلق بعَتِيدٍ أي هذا شيء عتيدٌ لدي أي حاضر عندي ويجوز على هذا أن يكون «لَدَيَّ» وصفاً ل «ما» و «عتيد» صفة ثانية، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو عتيدٌ، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي و «لَدَيّ» صلتها ولَدَيَّ خبر الموصول والموصول وصلته خبر الإشارة ويجوز أن تكون «ما» بدلاً من هذا موصولة كانت أو موصوفة
29
ب «لَدَيَّ» و «عتيد» خبر «هذا». وجوز الزمخشري في «عتيد» أن يكون بدلاً أو خبراً بعد خبر أو خبَر مبتدأ محذوف. والعامة على رفعه، وعبد الله نصبه حالاً. والأجود حينئذ أن تكون «ما» موصولة؛ لأنها معرفة والمعرفة يكثر مجيء الحال منها. قال أبو البقاء: «ولو جاز ذلك في غير القرآن لجاز نصبُهُ على الحال» كأنَّه لم يطلعْ عليها قراءةً.
قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ اختلفوا هل المأمور واحد أو اثنان؟ فقيل: واحد. وإنما أتى بضمير الاثنين دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل: أَلْقِ أَلْقِ. وقيل: أراد أَلْقَيَنْ بالنون الخفيفة، فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف، ويؤيده قراءة الحسن (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -) أَلْقِيَنْ بالنون. وقيل: العرب تخاطب الواحد مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقوله:
٤٥١٢ - فَإنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أزْدَجِرْ... وَإنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وقال آخر:
٤٥١٣ - فَقُلْتُ لِصَاحِبي: لاَ تَحبسانا... بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْدَزَّ شِيحَا
30
وتقول العرب: ويحك ارْجِلاَهَا وازْجُرَاهَا وخُذاها للواحد. قال الفراء: وأصل ذلك أن أدنى أعوانِ الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان فجرى كلام الواحد على صاحبه، ومنه قولهم في الشعر: خليليَّ. وقال الزجاج: هذا أمر السائق والشهيد. وقيل: للمتلقين.
قوله: ﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ الكفار يحتمل أن يكون من الكُفْر فيكون بمعنى شديد الكفر لأن الشديد في اللفظ بدل على شدة في المعنى، ويحتمل أن يكون الكُفْران فهو المنكر نعم الله مع كثرتها.
و «العنيدُ» فعيل بمعنى فاعل من عَنِدَ عُنُوداً، ومنه العِنَادُ. والمعنى عاصٍ معرض عن الحق. قال عكرمة ومجاهد: مجانبٍ للحق ومعاندٍ لله.
قوله: «مَنَّاع للخير» أي كثير المنع للمال والواجب من الزَّكاة وكُلّ حق واجب في ماله هذا إذا قلنا إن الكفار هو المنكر نعم الله تعالى. وإن قلنا: هو من الكفر فهو الذي أنكر دلائل وحدانية الله تعالى مع قوّتها وظهورها، فكان شديد الكفر عنيداً حيث أنكر الحق الواضح فهو مناع شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خَيْرٌ محض، كأنه يقول: كفر بالله ولم يقتنع بكفره، حتى مَنَعَ الخير من الغَيْر.
قوله: «مُعتَدٍ» فإن فسرنا المَنَّاع بمنَّاع الزكاة فمعناه لمن يؤدِّ الواجب وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضاً بالرِّبا كما كان عادة المشركين، وإن كان المنّاع بمعنى منع الإيمان فكأنه يقول: مَنَعَ الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه، وأهان مَنْ آمَن، وآذاهُ، وأعان من كفر فَآوَاهُ. قال المفسرون: هو الظالم الذي لا يُقرُّ بتوحيد الله تعالى.
وقوله: «مُرِيبٍ» أي شاكّ في التوحيد. ومعناه دخل في الرَّيْب، وقيل: موقع للغير في الريب بإلقاء الشُّبَه. وإن قيل: بأن المنَّاع مَنَّاعُ الزكاة فمعناه لا يعطي الزكاة لأنه في رَيْبٍ من الآخرة والثواب. قال ابن الخطيب: وفيه ترتيب آخر وهو أن يُقَالَ: هذا بيان أحوال الكافر بالنسبة إلى الله تعالى وإلى الرَّسُول وإلى اليوم الآخر. فقوله: «كَفَّار عَنيد» إشارة إلى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ يكفر به ويعاند آياته. وقوله: ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ﴾، إشارة إلى حَالِهِ مع الرسول يمنع الناس اتّبَاعَهُ ومن الإنفاق على مَنْ عنده وبتعدَّى بالإيذاء وقوله: «مريب» إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يَرْتَاب فيه ولا يظن أن الساعة قائمةٌ.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ﴾ إلى غير ذلك
31
يوجب أن يكون الإلقاءُ خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها والكفر وحده كاف في إثبات الإلقاء في جهنم؟
فالجواب: أن قوله: ﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ ليس المراد منه الوصف المميز كما يقال: أعطِ العالم الزاهدَ بل المراد الوصف المبين لكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح أو على سبيل الذم كقولك: هَذَا حَاتِمٌ السخيُّ. فقوله: ﴿كل كفار عنيد﴾ معناه أن الكافر عنيد ومناع للخير؛ لأن آياتِ الوحدانية ظاهرةٌ ونِعَمَ الله على عباده وافرة وهو مع ذلك عنيد ومناع للخير، لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يَمْنَعُ، ومُرِيب لأنه يرتاب في الحَشْر، وكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات.
قوله: «الَّذِي جَعَلَ» يجوز أن يكون منصوباً على الذَّمِّ، أو على البدل من «كُلَّ» وأن يكون مجروراً بدلاً من «كَفَّارٍ»، أو مرفوعاً بالابتداء والخبر «فَأَلْقِيَاهُ». قيل: ودخلت الفاء لشبهِهِ بالشرط، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هو الذي جعل، ويكون «فَأَلْقِيَاهُ» تأكيداً.
وجوز ابن عَطِيَّة أن يكون صفة «لِكَفَّارٍ» ؛ قال: من حيث يختص «كفار» بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه لهذه المعرفة. وهذا مردودٌ. وقرئ بفتح التَّنوين في «مُرِيب» فراراً من تَوَالي أَرْبع متجانساتٍ.
32
قوله :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ﴾ اختلفوا هل المأمور واحد أو اثنان ؟ فقيل : واحد. وإنما أتى بضمير الاثنين دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل : أَلْقِ أَلْقِ١. وقيل : أراد أَلْقِيَنْ بالنون الخفيفة، فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف٢، ويؤيده قراءة الحسن ( - رضي الله عنه٣ - ) أَلْقِيَنْ بالنون٤. وقيل : العرب تخاطب الواحد مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقوله :
فَإنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أزْدَجِرْ *** وَإنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا٥
وقال آخر :
فَقُلْتُ لِصَاحِبي : لاَ تَحبسانا *** بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْدَزَّ شِيحَا٦
وتقول العرب : ويحك٧ ارْجِلاَهَا وازْجُرَاهَا وخُذاها للواحد. قال الفراء : وأصل ذلك أن أدنى أعوانِ الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان فجرى كلام الواحد على صاحبه، ومنه قولهم في الشعر : خليليَّ٨. وقال الزجاج : هذا أمر السائق والشهيد٩. وقيل : للمتلقين.
قوله :﴿ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ الكفار يحتمل أن يكون من الكُفْر فيكون بمعنى شديد الكفر لأن الشديد في اللفظ بدل على شدة في المعنى، ويحتمل أن يكون الكُفْران فهو المنكر نعم الله مع كثرتها. و«العنيدُ » فعيل بمعنى فاعل من عَنِدَ عُنُوداً١٠، ومنه العِنَادُ١١. والمعنى عاصٍ معرض عن الحق. قال عكرمة ومجاهد : مجانبٍ للحق ومعاندٍ لله١٢.
١ وهو رأي العكبري في مرجعه السابق ومشكل إعراب القرآن ٢/٣٢١ وهو رأي المبرد ونقله عنه أبو حيان في البحر ٨/١٢٦..
٢ المرجع السابق..
٣ زيادة من (أ)..
٤ فهو فعل أمر مبنيّ على الفتح لاتصاله بالنون الخفيفة. وانظر المختصر ١٤٤ والبحر السابق والكشاف ٤/٨..
٥ نسبه الفراء في المعاني ٣/٧٨ لأبي ثروان. وهو من الطويل ورواه: وإن، وانزجر، وروي في أصول القرطبي: تدعواني بدل: تدعاني والرواية الأخيرة هي المشهورة، وإن كانت الأولى لا تخل بوزن البيت. والشاهد في تزجراني وتدعاني فعلان بهما ألف التثنية رغم أن الخطاب للواحد وهو ابن عفان. وقال عن هذا الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين. وقد تقدم..
٦ من الوافر ونسب إلى يزيد بن الطّثرية. والصحيح أنه لمضرس بن ربعيّ الأسديّ وروي: لا تحبسنّا بنون التوكيد الشديدة، ولا تحبسني ولنزع واحذر، وأراد بالصاحب من يحتطب له بدليل رواية: وقلت لحاطبي، والجزّ القطع وأصله في الصوف. والشّيح نبات كثير الأنواع طيب الرائحة يقوي طبخ اللحم سريعا. وانظر البيت في معاني الفراء ٣/٧٨ وشرح ابن يعيش للمفصل ١٠/٤٩، وشرح شواهد الشافية ٤٨١ وتأويل مشكل القرآن ٢٢٤ والأشموني ٤/٣٣٢ واللسان جزر ومجمع البيان ٩/٢١٧ والصحابي ١٤٠ والصحاح "جزر". وشاهده كسابقه في مخاطبة ومعاملة المفرد معاملة المثنى في الخطاب. وهذا فصيح..
٧ في القرطبي: ويلك..
٨ معاني الفراء ٣/٧٨..
٩ قال: الوجه عندي أن يكون أمر الملكين انظر معاني القرآن وإعرابه له ٥/٤٥..
١٠ قاله الرازي ٢٨/١٦٥ و١٦٦..
١١ القرطبي ١٧/١٦- ١٧..
١٢ في الرازي: المال الواجب..
قوله :«مَنَّاع للخير » أي كثير المنع للمال١ والواجب من الزَّكاة وكُلّ حق واجب في ماله هذا إذا قلنا إن الكفار هو المنكر نعم الله تعالى. وإن قلنا : هو من الكفر فهو الذي أنكر دلائل وحدانية الله تعالى مع قوّتها وظهورها، فكان شديد الكفر عنيداً حيث أنكر الحق الواضح فهو مناع شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خَيْرٌ محض، كأنه يقول : كفر بالله ولم يقتنع٢ بكفره، حتى مَنَعَ الخير من الغَيْر.
قوله :«مُعتَدٍ » فإن فسرنا المَنَّاع بمنَّاع الزكاة فمعناه لمن يؤدِّ الواجب وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضاً بالرِّبا كما كان عادة المشركين، وإن كان المنّاع بمعنى منع الإيمان فكأنه يقول : مَنَعَ الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه، وأهان مَنْ آمَن، وآذاهُ، وأعان من كفر فَآوَاهُ٣. قال المفسرون : هو الظالم الذي لا يُقرُّ بتوحيد الله تعالى.
وقوله :«مُرِيبٍ » أي شاكّ في التوحيد. ومعناه دخل في الرَّيْب، وقيل : موقع للغير في الريب بإلقاء الشُّبَه٤. وإن قيل : بأن المنَّاع مَنَّاعُ الزكاة فمعناه لا يعطي الزكاة لأنه في رَيْبٍ من الآخرة والثواب. قال ابن الخطيب : وفيه ترتيب آخر وهو أن يُقَالَ : هذا بيان أحوال الكافر بالنسبة إلى الله تعالى وإلى الرَّسُول وإلى اليوم الآخر٥. فقوله :«كَفَّار عَنيد » إشارة إلى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ يكفر به ويعاند آياته. وقوله :﴿ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ ﴾، إشارة إلى حَالِهِ مع الرسول يمنع الناس اتّبَاعَهُ ومن الإنفاق على مَنْ عنده وبتعدَّى بالإيذاء وقوله :«مريب » إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يَرْتَاب فيه ولا يظن أن الساعة قائمةٌ.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ ﴾ إلى غير ذلك يوجب أن يكون الإلقاءُ خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها والكفر وحده كاف في إثبات الإلقاء في جهنم ؟
فالجواب : أن قوله :﴿ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ ليس المراد منه الوصف المميز كما يقال : أعطِ العالم الزاهدَ بل المراد الوصف المبين لكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح أو على سبيل الذم كقولك : هَذَا حَاتِمٌ السخيُّ. فقوله :﴿ كل كفار عنيد ﴾ معناه أن الكافر عنيد ومناع للخير ؛ لأن آياتِ الوحدانية ظاهرةٌ ونِعَمَ الله على عباده وافرة وهو مع ذلك عنيد ومناع للخير، لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يَمْنَعُ، ومُرِيب لأنه يرتاب في الحَشْر، وكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات٦.
١ في (ب) يقنع..
٢ في الرازي المرجع السابق: "وآواه"..
٣ البغوي ٦/٢٣٦..
٤ الرازي المرجع السابق..
٥ الرازي ٢٨/١٦٧ و١٦٨ السابق..
٦ البحر المحيط ٨/١٢٦..
قوله :«الَّذِي جَعَلَ » يجوز أن يكون منصوباً على الذَّمِّ، أو على البدل من «كُلَّ » وأن يكون مجروراً بدلاً من «كَفَّارٍ »، أو مرفوعاً بالابتداء والخبر «فَأَلْقِيَاهُ »١. قيل : ودخلت الفاء لشبهِهِ بالشرط، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هو الذي جعل، ويكون «فَأَلْقِيَاهُ » تأكيداً٢.
وجوز ابن عَطِيَّة أن يكون صفة «لِكَفَّارٍ » ؛ قال : من حيث يختص «كفار » بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه لهذه المعرفة٣. وهذا مردودٌ. وقرئ بفتح التَّنوين٤ في «مُرِيب » فراراً من تَوَالي أَرْبع متجانساتٍ٥.
١ السابق..
٢ نقله في المرجع السابق..
٣ لأن النكرة لو وصفت بأشياء كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة..
٤ لا أعرف لمن هذه القراءة وذكرها صاحب التبيان ١١٧٦..
٥ الكسرات والياء..
قوله: «قَالَ قَرِينُهُ» جاءت هذه بلا واو؛ لأنها قصد بها الاستئناف كأن الكافر قال: ربِّ هُو أطغاني فقال قرينه: مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف التي قبلها فإنها عطفت على ما قبلها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع المَلَكَيْن وقول قرينه ما قال. قال ابن الخطيب: جاءت هذه بلا واو وفي الأولى بالواو العاطفة لأن في الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، فإن كل نفس في ذلك الوقت يجيء معها سائقٌ وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، فإن الفاء في قوله: ﴿فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب﴾ [ق: ٢٦] لا يناسب قوله: «قَالَ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ» فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف بالواو.
32

فصل


هذا جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شَيْطَانِي، فيقول الشيطان: ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى: ﴿لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ﴾ ؛ لأنَّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة «ص» :﴿قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ [ص: ٦٠] إلى قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾ [ص: ٦٤]. قال الزمخشري: وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيدٌ، وعلى هذا فيكون قوله: ﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ﴾، مناقضاً لقوله: أعتدته.
قال ابن الخطيب: وللزمخشري أن يُجِيبَ بوجهين:
أحدهما: أن يقول (إن قول) الشيطان: أعتدته بمعنى زَيَّنْتُ له.
والثاني: أن تكون الإشارة إلى حالين، ففي الحالة الأولى أنا فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام مِنْ بني آدم وتصحيحاً لقوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢] ثم إذا رأى العذاب وهو معه مشترك يقول: رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُه فيرجع عن مقاله عند ظهور العذاب. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل: المُرادُ بالقرينِ هنا: الملك أي يقول الكافر: ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتهُ يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ﴿ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق.
فإن قيل: القائل هنا واحد وقال: رَبَّنَا ما أطغيته ولم يقل: ربِّ وفي كثير من المواضع القائل واحد وقال: ربّ، كقوله: ﴿رَبِّ أَرِنِي﴾ [البقرة: ٢٦٠] وقال نوح: ﴿رَّبِّ اغفر لِي﴾ [نوح: ٢٨] ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض﴾ [نوح: ٢٦] ﴿رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ﴾ [يوسف: ٣٣] ﴿رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً﴾ [التحريم: ١١] «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي».
فالجواب: أن في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب أعطني وإنما يحسن أن يقول: أعطِنا لأن كونه: «رَبًّا» لا يناسب تخصيصَ الغَالِبِ. وأما هنا فالموضع موضع هبة وعظَمة وعرض حال فقال: ربنا ما أطغيته.
فإن قيل: ما الوجه في اتِّصاف الضَّلالِ بالبُعْدِ؟
33
فالجواب: أن الضلال يكون أكثر ضلالاً من الطريق فإذا تَمَادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصِد كثيراً، وإذا عدم الضلال قَصُرَت الطريق عن قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله: «ضلال بعيد» وصف للمصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال: كلامٌ صَادقٌ، وعيشةٌ راضيةٌ أي (و) ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مَدَاه وامتد الضلال فيه فيصير بَيِّناً ويظهر الضلال لأن من حَادَ عن الطريق (وبَعُد عنه يبعد عليه الصواب ولا يرى للمقصد أثراً فبيَّن له أنه ضلّ عن الطريق) وربما يقع في أَوْدِيَةٍ ومَفاوزَ تظهر له أماراتُ الضلال بخلاف من حَادَ قليلاً، فالضلال وصفه الله بالوصفين في كثيرٍ من المواضع، فتارةً قال: ﴿في ضلال مبين﴾، وأخرى: ﴿في ضلال بعيد﴾.
فإن قيل: كيف قال: ما أطغيته مع أنه قال: «لأغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه تقدم منها وجهان في الاعتذار عما قاله الزمخشري.
والثالث: أن المراد من قوله: «لأغوينهم» أي لأُديمنّهم على الغِوَاية كما أنّ الضالّ إذا قال له شخص: أنت على الجَادَّة فلا تترُكها، يقال: إنه يضله. كذا ههنا، فقوله: «ما أطغيته» أي ما كان ابتداء الإطغاء مِنِّي.
قوله: «لاَ تَخْتَصِمُوا» استئناف أيضاً كأن قائلاً قال: فماذا قال الله له؟ فأجيب: يقال لا تختصموا وقوله: «لَدَيَّ» يفيد مفهومه أنَّ الاختصام كان ينبغي أن يكون قبلَ الحضورِ، والوقوفِ بين يَدَيَّ.
قوله: «وَقَدْ قَدَّمْتُ» جملة حالية، ولا بدّ من تأويلها، وذلك أن النهي في الآخرة وتقدمه الوعد في الدنيا، فاختلف الزمنان فكيف يصح جعلها حالية؟ وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قَدَّمْتُ وزمان الصحة وزمان النهي واحدٌ. و «قَدَّمْتُ» يجوز أن يكون «قدمت» على حاله متعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد، كقوله تعالى: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] على قول من قال بزيادتها هناك. وقيل: الباء هنا للمصاحبة، كقولك: اشْتَرْيتُ الفَرَسَ بِلِجامِهِ وسَرْجِهِ أي معه فكأنه قال: قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد عليَّ تركه والإنذار.
34
قوله: ﴿مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ﴾ أي لا تبديل لقولي، وهو قوله: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: ١٣]. وقيل المعنى ما يبدل القول لديَّ أي ما يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلمُ الغيب. وهذا قول الكلبي، ومقاتل، واختيار الفراء؛ لأنه قال: ﴿ما يبدَّل القول لدي﴾ ولم يقل: «ما يبدل قولي». وقيل: معناه ما يبدل القول السابقُ أنّ هذا شقي وهذا سعيد حين خلقت العباد، فذلك القول عندي لا تبديل له بسَعي ساعٍ.
وهذا ردّ على المُرْجِئَةِ حيث قالوا: ما ورد في القرآن من الوَعيد فَهُو تخويفٌ ولا يحقق اللَّهُ منه شيئاً، وقالوا: الكريم إذا وعد بخير وَفَى، وإذا أوعد أخْلَف وَعَفَا. وقيل: المعنى ما يُبَدَّلُ الكفر بالإيمان لَدَيَّ، فإن القيام عند القيام بين يدي الله في القيامة غير مقبول فقوله: ﴿مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ﴾ إشارة إلى نفي الحال، كأنه قال: ما يبدل اليومَ لدي القول؛ لأن «ما» إذا دخلت على الفعل المضارع ينفى بها الحال، تقول: مَاذَا يَفْعَلُ زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ؟ فيقال: مَا يَفْعَلُ شيئاً أي في الحال فإذا قلت: ماذا يَفْعَلُ غداً؟ قيلَ: لا يفعل شيئاً إذا أريد زيادة بيان النفي.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي فأعاقبهم بغير جُرْم. واعلم أن الظلاَّم مبالغةٌ في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل: هو كذاب يلزم أن يكون كثيرَ الكَذِب، فلا يلزم من نفيه نفي أصلِ الكذب لجواز أن يقال: ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً. فقوله: ﴿مَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ﴾ يفهم منه نَفي أصلِ الظلم وأن الله ليس بظالم. والوجه في ذلك من وجوه:
الأول: أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر، فيكون اللام في قوله: «للعبيد» لتحقيق النِّسبةِ لأن الفَعَّال حينئذ بمعنى ذي ظلم.
الثاني: قال الزمخشري: إن ذَلِكَ أمرٌ تقديريّ كأنه تعالى يقول: لو ظلمتُ عبدي الضعيفَ الذي هو محلّ الرحمة لكان ذلك غايةَ الظلم وما أنا بذلك، فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً، ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع وُسْعِها حتى تَصِيحَ وتقول: لم يبق لي طاقةٌ بهم، ولم يبق فيَّ موضع لهم، «فَهَلْ مِنْ مَزيدٍ» استفهام إنكار.
35
الثاث: أنه لمقابلة الجمع بالجمع، والمعنى أن ذلك اليوم مع أني أُلْقِي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثيرَ الظلم لأنه قال: «وما أنا بظلام للعبيد، يَوْمَ نَقُولُ» ولم يقل: مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ في جميع الأزمان. وخصص بالعبيد حيث قال: ﴿ما أنا بظلام للعبيد﴾، ولم يطلق فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق، ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت.
وبقية الأوجه مذكورة في آل عِمْرَانَ عند قوله: «بظلام للعبيد» ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [آل عمران: ١١].

فصل


هذه الآية تدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه؛ لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونهُ ظالماً ولم يلزم منه كونه ظلاَّماً لِغَيْرهم.

فصل


يحتمل أن يكون المراد الكفار كقوله تعالى: ﴿ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ﴾ [يس: ٣٠]، المعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم، ويحتمل أن يكون المراد المؤمنين. والمعنى أن الله تعالى يقول: لو بدلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهواب لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأتِ بما أتى به المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة﴾ [الحشر: ٢٠] وقوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩] ويحتمل أن يكون المراد التعميمَ.
36
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:قوله :«قَالَ قَرِينُهُ » جاءت هذه بلا واو ؛ لأنها قصد بها الاستئناف كأن الكافر قال : ربِّ هُو أطغاني فقال قرينه : مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف التي قبلها فإنها عطفت على ما قبلها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع المَلَكَيْن وقول قرينه ما قال١. قال ابن الخطيب : جاءت هذه بلا واو وفي الأولى بالواو العاطفة لأن في الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، فإن كل نفس في ذلك الوقت يجيء معها سائقٌ وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، فإن الفاء في قوله :﴿ فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب ﴾ لا يناسب قوله :«قَالَ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ » فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف بالواو.

فصل


هذا جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شَيْطَانِي، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى :﴿ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ ﴾ ؛ لأنَّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة «ص » :﴿ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ﴾ [ ص : ٦٠ ] إلى قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار ﴾٢ [ ص : ٦٤ ]. قال الزمخشري : وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيدٌ٣، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُهُ ﴾، مناقضاً لقوله : أعتدته.
قال ابن الخطيب : وللزمخشري أن يُجِيبَ بوجهين :
أحدهما : أن يقول ( إن قول )٤ الشيطان : أعتدته بمعنى زَيَّنْتُ له.
والثاني : أن تكون الإشارة إلى حالين، ففي الحالة الأولى أنا فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام مِنْ بني آدم وتصحيحاً لقوله :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٢ ] ثم إذا رأى العذاب وهو معه مشترك يقول : رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُه فيرجع عن مقاله عند ظهور العذاب٥. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : المُرادُ بالقرينِ هنا : الملك أي يقول الكافر : ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك : رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتهُ يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ﴿ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق٦.
فإن قيل : القائل هنا واحد وقال : رَبَّنَا ما أطغيته ولم يقل : ربِّ وفي كثير من المواضع القائل واحد وقال : ربّ، كقوله :﴿ رَبِّ أَرِنِي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] وقال نوح :﴿ رَّبِّ اغفر لِي ﴾ [ نوح : ٢٨ ] ﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض ﴾ [ نوح : ٢٦ ] ﴿ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] ﴿ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً ﴾ [ التحريم : ١١ ] «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي »٧.
فالجواب : أن في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب أعطني وإنما يحسن أن يقول : أعطِنا لأن كونه :«رَبًّا » لا يناسب تخصيصَ الغَالِبِ. وأما هنا فالموضع موضع هبة وعظَمة وعرض حال فقال : ربنا ما أطغيته.
فإن قيل : ما الوجه في اتِّصاف الضَّلالِ بالبُعْدِ ؟
فالجواب : أن الضلال يكون أكثر ضلالاً من الطريق فإذا تَمَادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصِد كثيراً، وإذا عدم٨ الضلال قَصُرَت الطريق عن قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله :«ضلال بعيد » وصف للمصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال : كلامٌ صَادقٌ، وعيشةٌ راضيةٌ أي ( و )٩ ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مَدَاه وامتد الضلال فيه فيصير بَيِّناً ويظهر الضلال لأن من حَادَ عن الطريق ( وبَعُد عنه يبعد عليه الصواب١٠ ولا يرى للمقصد أثراً فبيَّن له أنه ضلّ عن الطريق ) وربما يقع في أَوْدِيَةٍ ومَفاوزَ تظهر له أماراتُ الضلال بخلاف من حَادَ قليلاً، فالضلال وصفه الله بالوصفين في كثيرٍ من المواضع، فتارةً قال :﴿ في ضلال مبين ﴾، وأخرى :﴿ في ضلال بعيد ﴾.
فإن قيل : كيف قال : ما أطغيته مع أنه قال :«لأغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه تقدم منها وجهان في الاعتذار عما قاله الزمخشري.
والثالث : أن المراد من قوله :«لأغوينهم » أي لأُديمنّهم على الغِوَاية كما أنّ الضالّ إذا قال له شخص : أنت على الجَادَّة فلا تترُكها، يقال : إنه يضله. كذا ههنا، فقوله :«ما أطغيته » أي ما كان ابتداء الإطغاء مِنِّي١١.
قوله :«لاَ تَخْتَصِمُوا » استئناف أيضاً كأن قائلاً قال : فماذا قال الله له ؟ فأجيب : يقال لا تختصموا١٢ وقوله :«لَدَيَّ » يفيد مفهومه أنَّ الاختصام كان ينبغي أن يكون قبلَ الحضورِ، والوقوفِ بين يَدَيَّ١٣.
قوله :«وَقَدْ قَدَّمْتُ » جملة حالية، ولا بدّ من تأويلها، وذلك أن النهي في الآخرة وتقدمه الوعد في الدنيا، فاختلف الزمنان فكيف يصح جعلها حالية ؟ وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قَدَّمْتُ وزمان الصحة وزمان النهي واحدٌ١٤. و«قَدَّمْتُ » يجوز أن يكون «قدمت » على حاله متعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد، كقوله تعالى :﴿ تَنبُتُ بالدُّهن ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ] على قول من قال بزيادتها هناك. وقيل : الباء هنا للمصاحبة، كقولك : اشْتَرْيتُ الفَرَسَ بِلِجامِهِ وسَرْجِهِ أي معه فكأنه قال : قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد عليَّ تركه والإنذار١٥.
١ البحر ٨/١٢٦..
٢ وانظر الرازي السابق..
٣ انظر الكشاف ٤/٧..
٤ زيادة من (أ)..
٥ وانظر الرازي ٢٨/١٦٩، ١٧٠..
٦ البغوي والخازن ٦/٢٣٦ و٢٣٧..
٧ في النسختين تبعا للرازي: "قال رب انظرني وهذا لحن فالقرآن: "ربّ" بلفظ "فأنظِرني" وهي الآية ٣٦ من الحجر و٧٩ من سورة "ص"..
٨ كذا في النسختين وفي الرازي: علم..
٩ زيادة من النسختين لا معنى لها..
١٠ ما بين القوسين سقط من الأصل بسبب انتقال النظر..
١١ وانظر تفسير العلامة الفخر ٢٨/١٦٨..
١٢ قاله أبو حيان في البحر ٨/١٢٦ والزمخشري في الكشاف ٤/٨..
١٣ وهو قول الرازي في تفسيره الكبير السابق ٢٨/١٦٩..
١٤ بالمعنى من الكشاف ٤/٨ والبحر ٨/١٢٨. أقول: وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة..
١٥ في (ب) بالإنذار –بالباء- وانظر الرازي ٢٨/١٦٩..

قوله :﴿ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ ﴾ أي لا تبديل لقولي، وهو قوله :﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ]. وقيل المعنى ما يبدل القول لديَّ أي ما يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلمُ الغيب. وهذا قول الكلبي١، ومقاتل، واختيار الفراء٢ ؛ لأنه قال :﴿ ما يبدَّل القول لدي ﴾ ولم يقل :«ما يبدل قولي »٣. وقيل : معناه ما يبدل القول السابقُ أنّ هذا شقي وهذا سعيد حين خلقت العباد، فذلك القول عندي لا تبديل له بسَعي ساعٍ. وهذا ردّ على المُرْجِئَةِ حيث قالوا : ما ورد في القرآن من الوَعيد فَهُو تخويفٌ ولا يحقق اللَّهُ منه شيئاً، وقالوا : الكريم إذا وعد بخير وَفَى، وإذا أوعد أخْلَف وَعَفَا. وقيل : المعنى ما يُبَدَّلُ الكفر بالإيمان لَدَيَّ، فإن القيام عند القيام بين يدي الله في القيامة غير مقبول٤ فقوله :﴿ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ ﴾ إشارة إلى نفي الحال، كأنه قال : ما يبدل اليومَ لدي القول ؛ لأن «ما » إذا دخلت على الفعل المضارع ينفى بها الحال، تقول : مَاذَا يَفْعَلُ زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ ؟ فيقال : مَا يَفْعَلُ شيئاً أي في الحال فإذا قلت : ماذا يَفْعَلُ غداً ؟ قيلَ : لا يفعل شيئاً إذا أريد زيادة بيان النفي٥.
قوله :﴿ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ أي فأعاقبهم بغير جُرْم. واعلم أن الظلاَّم مبالغةٌ في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل : هو كذاب يلزم أن يكون كثيرَ الكَذِب، فلا يلزم من نفيه نفي أصلِ الكذب لجواز أن يقال : ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً٦. فقوله :﴿ مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ ﴾ يفهم منه نَفي أصلِ الظلم وأن الله ليس بظالم. والوجه في ذلك من وجوه :
الأول : أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر، فيكون اللام في قوله :«للعبيد » لتحقيق النِّسبةِ لأن الفَعَّال حينئذ بمعنى ذي ظلم.
الثاني : قال الزمخشري : إن ذَلِكَ أمرٌ تقديريّ كأنه تعالى يقول : لو ظلمتُ عبدي الضعيفَ الذي هو محلّ الرحمة لكان ذلك غايةَ الظلم٧ وما أنا بذلك، فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً، ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال :﴿ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ أي في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع وُسْعِها حتى تَصِيحَ وتقول : لم يبق لي طاقةٌ بهم، ولم يبق فيَّ موضع لهم، «فَهَلْ مِنْ مَزيدٍ » استفهام إنكار.
الثالث : أنه لمقابلة الجمع بالجمع، والمعنى أن ذلك اليوم مع أني أُلْقِي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثيرَ الظلم لأنه قال :«وما أنا بظلام للعبيد، يَوْمَ نَقُولُ » ولم يقل : مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ في جميع الأزمان. وخصص بالعبيد حيث قال :﴿ ما أنا بظلام للعبيد ﴾، ولم يطلق فكذلك خصص٨ النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق، ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت.
وبقية الأوجه مذكورة في آل عِمْرَانَ عند قوله :«بظلام للعبيد » ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾٩ [ آل عمران : ١١ ].

فصل


هذه الآية تدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ؛ لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونهُ ظالماً للعبيد ولم يلزم منه كونه ظلاَّماً لِغَيْرهم.

فصل


يحتمل أن يكون المراد الكفار كقوله تعالى :﴿ يا حسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ ﴾ [ يس : ٣٠ ]، المعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم، ويحتمل أن يكون المراد المؤمنين. والمعنى أن الله تعالى يقول : لو بدلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأتِ بما أتى به المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة ﴾ [ الحشر : ٢٠ ] وقوله :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٩ ] ويحتمل أن يكون المراد التعميمَ.
١ البغوي والخازن ٦/٢٣٧..
٢ قال: ما يكذب عندي لعلمه –عز وجل- بغيب ذلك. وانظر معاني الفراء ٣/٧٩..
٣ في البغوي: يُبدَّل لي..
٤ ذكر هذه الأقوال الرازي في تفسيره دون نسبة لقائليها ٢٨/١٦٩ و١٧٠..
٥ السابق..
٦ السابق..
٧ قاله –رحمه الله- في الكشاف ٤/٩: "لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاما مفرط الظلم فنفى ذلك"..
٨ والفائدة في التخصيص أنه أقرب إلى التصديق من التعميم..
٩ ولا أعرف مناسبة الآية الأخيرة لما قبلها..
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ﴾ يوم منصوب إما «بظَلاَّمٍ» ولا مفهوم لهذا؛ لأنه إذا لم يظلم في هذا اليوم فنفي الظلم عنه في غيره أحرى. أو بقوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ [ق: ٢٠]. والإشارة بذلك إلى: يَوْمَ نَقُولُ. قاله الزمَخْشَريّ. واستبعده أبُو حَيَّان؛ لكثرة
36
الفواصل أو باذْكُرْ مقدراً أو بأنْذِرْ. وهو على هذين الأخيرين مفعول به لا ظرف. وقرأ نافعٌ وأبو بكْرٍ: يَقُولُ لِجَهَنَّم بياء الغيبة، والفاعل: الله تعالى، لتقدم ذكره في قوله: ﴿لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ﴾ [ق: ٢٨] والأعمش: يُقالُ مبنياً للمفعول. وقوله: «هَل امْتَلأتِ» وذلك لما سبق من وعده إياها أنه يملأها من الجنَّةِ والنَّاسِ وهذا السؤال من الله - عزّ وجلّ - لتصديق خبره وتحقيق وَعْدِهِ.
قوله: ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ سؤال تقرير وتوقيف. وقيل: معناه النفي. وقيل: السؤال لخزنتها والجواب مبهم، فلا بدّ من حذف مضاف أي نقولُ لخزنة جهنم ويقولون ثم حذف. و «المزيد» يجوز أن يكون مصدراً أي مِنْ زيادةٍ وأن يكون اسمَ مفعول أي من شيءٍ تَزيدُونَه أَحْرِقُهُ.

فصل


قال المفسرون: معنى قوله: هل من مزيد أي قد امتلأتُ ولم يبق فِيَّ موضعٌ لم يمتلئ، فهو استفهام إنكار بمعنى الاستزادة، رواه أبو صالح عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله: هل امتَلأتِ قبل دخول جميع أهلها فيها. روي عن ابن عباس: أن الله تعالى سبقت كلمته: لأمْلأَن جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلما سبق أعداء الله تعالى إليها لا يلقى فيها فوجٌ إلا ذهب فيها ولا يمَلأُها فتقول: ألستَ قد أقسمتَ لتَمَلأَنِّي فيضع قدمه عليها ثم يقول: هل امْتَلأتِ؟ فتقول: قَطْ قَطْ قد امتلأت وليس فِيَّ مزيد.
قوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة﴾ قربت وأدنيت وقوله: «غَيْرَ بَعِيدٍ» يجوز أن يكون حالاً من «الجنة» ولم يؤنث؛ لأنها بمعنى البُسْتَان، أو لأن «فَعِيلاً» لا يؤنث؛ لأنه بزنة
37
المصادر، قاله الزمخشري ومنعه أبو حيان، وقد تقدم في قوله: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ﴾ [الأعراف: ٥٦] ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني، أي مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد، وهو ظاهر عبارة الزمخشري، فإنه قال: أو شيئاً غير بعيد.
فإن قيل: ما وجه التقريب مع أن الجنة مكانٌ، والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب؟ فالجواب من وجوه:
الأول: أن الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانْتِقَال إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل: فعلى هذا ليس إزْلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزْلاَفِ المؤمنِ من الجنة فما فائدة قوله: «أزلفت الجنة» ؟
فالجواب: أن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه، وأنه مِمَّنْ يمشى إليه.
الثاني: قربت من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني.
الثالث: أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن ويحتمل أنها أُزْلِفَتْ بمعنى جَمَعَت محاسنها، لأنها مخلوقة، وإما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحقّ بها.
قوله: ﴿هذا مَا تُوعَدُونَ﴾ هذه الجملة يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون معترضة بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه، وذلك أن «لِكُلِّ أَوَّاب» بدل من «المتقين» بإعادة العامل.
والثاني: أن تكون منصوبة بقول مُضْمَرٍ، ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم. وقد تقدم في (سُورَة) «ص» أنه قرئ: يُوعَدُونَ بالياء والتاء.
38
ونسب أبو حيان قراءة الياء من تحت هنا لابن كثير، وأبي عمرو، وإنما هي عن ابن كثيرٍ وَحْدَهُ.

فصل


والأواب الرَّجَّاعُ، قيل: هو الذي يَرْجِعُ عن الذنوب إلى الاستغفار والطاعة، قال سعيد بن المُسَيِّب: هو الذي يُذْنبُ ثم يتوب، ثم يُذْنِبُ ثم يتوبُ. وقال الشَّعْبِيُّ ومجاهدٌ: هو الذي يذكر ذنوبهُ في الخَلاَءِ فيستغفر منها. وقال عطاء، وابن عباس: هو المسبِّح من قوله: ﴿ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ﴾ [سبأ: ١٠] وقال قتادة: هو المصلِّي. والْحَفِيظُ: هو الذي يحفظ تَوبته من النّقص. وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - هو الذي يحفظ ذُنُوبَهُ حتَّى يرجع عنها ويستغفر منها. وقال ابن عباس أيضاً: الحفيظ لأمر الله، وقال قتادة الحفيظ لما استودعه الله من حقِّه. والأوَّابُ والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثيرَ الأَوْبِ شديدَ الحِفْظِ.
قوله: «مَنْ خَشِيَ» يجوز أن يكون مجرور المَحَلّ بدلاً، أو بياناً ل «كُلّ». وقال الزمخشري: يجوز أن يكون بدلاً بعد بدل تابعاً لكل. انتهى. يعني أنه بدل من كل بعد أن أبدلت «لكلّ» من «لِلْمُتَّقِينَ». ولم يجعلْه بدلاً آخر من نفس «لِلْمُتَّقِينَ» لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد. ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف «أَوَّابٍ وحَفِيظٍ» قاله الزمخشري. يعني أن الأصل لكلّ شخص أوابٍ، فيكون «مَنْ خَشِيَ» بدلاً من «شَخْص» المقدر. قال: ولا يجوز أن يكون في حكم «أواب وحفيظ» ؛ لأن «مَنْ» لا يوصف بها، لا يقال: الرجلُ مَنْ جاءني جالسٌ، كما يقال: الرجل الذي جَاءَني جالسٌ. والفرق بينهما يأتي في الفصل بعده. ولا يوصف من بين الموصولات إلاَّ بالَّذي يعني بقوله: «في حكم أواب» أن يجعل من صفة. وهذا كما قال لا يجوز، إلا أنَّ أبا حَيَّانَ استدرك عليه الحَصْرَ وقال: بل يوصف بغير الذي من الموصولات كوصفهم بما فيه أل الموصوفة، نحو: الضَّارِبُ والمَضْرُوب، وكوصفهم بذُو وذاتِ الطَّائِيَّتَين نحو قولهم: «بالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُم اللَّهُ بِهِ، والْكَرَامَةِ ذات أَكْرَمَكُمْ بِهِ».
39
وقد جوز ابن عطية في: «مَنْ خَشِيَ» أن يكون نعتاً لما تقدم. وهو مردود بما تقدم. ويجوز أن يرتفع: مَنْ خَشِيَ على أنه خبر ابتداءٍ مضمر أو ينصب بفعل مضمر، وكلاهما على القطعِ المُشْعِر بالمَدْحِ، وأن يكون مبتدأ خبره قولٌ مضمر ناصبٌ لقوله: ادْخُلُوها وحُمِلَ أولاً على اللفظ وفي الثَّاني على المَعْنَى.
وقيل: مَنْ خَشِيَ منادى حذف منه حرف النداء أي يَا مَنْ خَشِيَ ادْخُلُوهَا باعتبار الجملتين المتقدمتين وحَذْفُ حرف النداء سائغٌ. وأن تكون شرطية وجوابها محذوف هو ذلك القول، ولكن ردّ معه فاء أي فيقال لهم. و «بالْغَيْبِ» حال أي غائباً عنه، فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما، وقيل: الباء المسببة أي خشيةً بسبب الغَيْب الذي أوعد به من عذابه. ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشي أي خَشِيهُ خشْيَةً مُلتَبِسَةً بالْغَيْبِ.

فصل


قال ابن الخطيب: إذا كان «مَنْ والَّذي» يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما؟
فنقول: «ما» اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء، لكن الشيء هو أعم الأشْياء فإن الجَوْهَرَ شيء، والعَرَضَ شيء، والواجب شيء، والممكن شيء، والأعَمُّ قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت شيئاً من البعد تقول أولاً: إنَّه شيء، ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول: إنسان، فإذا بان لك أنه ذكر قلت: إنه رجل، فإذا وجدته ذا قوة تقول: شجاعٌ إلى غير ذلك فالأعَمّ أعرف، وهو قبل الأخَص في الفهم، فلا يجوز أن يكون صفة، لأنَّ الصفة بعد الموصوف. هذا من حيث المعقول، وأما من
40
حيث النَّحْو، فلأن الحقائق لا يوصف بها، فلا يقال: جِسْمُ رَجُلٍ جَاءَنِي، كما يقال: جِسْمُ نَاطِقٍ جَاءَنِي؛ لأنَّ الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها. فقولنا: عالم أي شيء له علم.

فصل


والخَشْيَةُ والخَوْفُ معناهما واحد عند أهل اللغة، لكن بينهما فَرْقٌ، وهو أن الخشيةَ خوفٌ من عَظَمَةِ المَخْشِيِّ، لأن تركيب حروف «شَ يَ خَ» في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة، يقال: شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ وللرجل الكبير السِّنِّ، وهما جميعاً مَهِيبَان والخوف خشيةٌ من ضعف الخاشي، لأنَّ تركيب «خَ وَف» في تقاليبها يدل على الضعف، ويدل على ذلك أنه حيث كان الخوف من عظمة المخشيّ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ [فاطر: ٢٨]، وقال: ﴿هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٧] مع أن الملائكة والجبل أقوياء وحيث كان الخوفُ من ضعف الخاشِي سماه خوفاً قال تعالى:
﴿أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ﴾ [فصلت: ٣٠] أي بسبب مكروه يلحقكم في الآخرة. وقال تعالى: ﴿خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: ١٨] وقال: «إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» لوحدته وضعفه هذا في أكثر الاستعمال وربما يتخلف (المُدَّعَى عنه لكن الكثرة كافية).

فصل


معنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب، ولم يره. وقال الضّحاك والسّدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب.
﴿وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ هذه صفة مدح، لأن شأن الخائف أن يَهْرب، فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفِرار منه.
وقوله: «مُنِيبٍ» أي مخلص مقبل على طاعة الله تعالى. والباء في «بِقَلْبٍ» إما للتعدية، وإما للمُصَاحَبة، وإما للسببية.
41
والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤] أي سليم من الشرك.
قوله: «ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ» الجار والمجرور حال من فاعل «ادْخُلُوهَا» أي سالمين من الآفات فهي حال مقارنة، أو مسلّماً عليكم فهي حال مقدرة كقوله: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]. كذا قيل وفيه نظر، إذ لا مانع من مقارنة وتسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فَادْخُلُوهَا خالدينَ فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول، والضمير في «ادْخُلُوهَا» عائد إلى الجنة، أي ادخلوا الجنة بسلامةٍ من العذاب والهموم وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم.
قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخلود﴾ قال أبو البقاء: أي ومن ذلكَ يَوْمُ الخلود كأنّه جعل «ذَلِكَ» إشارة إلى ما تقدم من إنعام الله عليهم بما ذكره، وقيل «ذَلِك» مشارٌ به لما بعده من الزَّمان، كقولك: هَذَا زَيْدٌ. قال الزمخشري: في قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخلود﴾ إضمار تقديره: ذَلِكَ يَوْم تَقْرِير الخُلُود. ويحتمل أن يقال: اليوم يُذْكَرُ ويراد به الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً، تقول: يَوْمَ يُولَدُ لِفُلاَن يكون السرورُ العظيمُ، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً فالمراد به الزّمان فكأنه تعالى قال: ذَلك زَمَانُ الإقامة الدَّائِمَةِ.
فإن قيل: المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها فما فائدة القول؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخلود﴾ قول قاله الله في الدنيا، إعلاماً وإخباراً، وليس ذلك قولاً يقولُه عند قوله: «ادخلوها»، فكأنه تعالى أخبر في يومنا أنَّ ذلك اليوم يومُ الخلود.
42
الثاني: أن اطمئنان القلب بالقول أكثر.
قوله: ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا﴾ يجوز أن يتعلق «فيهَا» ب «يشاؤون» ويجوز أن يكون حالاً من الموصول، أو من عائِدِهِ والأول أولى.

فصل


ما الحكمة في أنه تعالى قال: ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ على المخاطبة، ثم قال: «لَهُمْ» ولم يقل: لَكُم؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أن قوله تعالى: «ادْخُلُوهَا» فيه مقدر، أي فيُقَال لَهُمُ ادْخُلُوها.
فلا يكون التفاتاً.
الثاني: أنه التفات، والحكمة الجمع بين الطرفين، كأنه تعالى يقول: غير محلّ بهم في غيبتهم وحضورهم.
ففي حضورهم الحبور، وفي غيبتهم الحورُ والقُصُور.
الثالث: أنه يجوز أن يكون قوله تعالى: «لَهُمْ» كلاماً مع الملائكة، يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم، وَاعْلَمُوا أَنّ لهم ما يشاؤون فيها فأَحْضِروا بين أيديهم ما يشاؤون، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تَقْدِرُون أنتم عليه.
و «المزيد» يحتمل أن يكون معناه الزيادة، كقوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول، أي عندنا ما نَزيدهُ على ما يَرْجُون ويَأمَلُونَ.
قال أنس وجابر: هو النظر إلى وجه الله الكريم.
43
قوله تعالى :﴿ وَأُزْلِفَتِ الجنة ﴾ قربت وأدنيت١ وقوله :«غَيْرَ بَعِيدٍ » يجوز أن يكون حالاً من «الجنة » ولم يؤنث ؛ لأنها بمعنى البُسْتَان، أو لأن «فَعِيلاً » لا يؤنث ؛ لأنه بزنة المصادر، قاله الزمخشري٢ ومنعه أبو حيان٣، وقد تقدم في قوله :﴿ إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ] ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني، أي٤ مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إزلافاً غير بعيد، وهو ظاهر عبارة الزمخشري، فإنه قال : أو شيئاً غير بعيد٥.
فإن قيل : ما وجه التقريب مع أن الجنة مكانٌ، والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب ؟ فالجواب من وجوه :
الأول : أن الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانْتِقَال إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل : فعلى هذا ليس إزْلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزْلاَفِ المؤمنِ من الجنة فما فائدة قوله :«أزلفت الجنة » ؟
فالجواب : أن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه، وأنه مِمَّنْ يمشى إليه.
الثاني : قربت من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني.
الثالث : أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن ويحتمل أنها أُزْلِفَتْ بمعنى جَمَعَت محاسنها، لأنها مخلوقة، وإما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحقّ بها٦.
١ قاله ابن قتيبة في الغريب ٤١٩ وأبو عبيدة في مجاز القرآن ٢/٢٢٤..
٢ الكشاف ٤/١٠ قال: والمصادر يستوي فيها الوصف بالمذكر والمؤنث..
٣ أوضح أبو حيان كلامه قائلا: "يعني بعيد، لأنه على زنة المصدر كالصّليل، والزئير، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث قال: وكونه على وزن المصدر لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث". أقول: ورد أبي حيان على الزمخشري ضعيف حيث ورد القرآن به في قوله: "إن رحمة الله قريب من المحسنين"..
٤ وهو قول الزمخشري ثم أبي حيان في مرجعيهما السابقين..
٥ الكشاف المرجع السابق..
٦ انظر تفسير الإمام ٢٨/١٧٤ و١٧٥..
قوله :﴿ هذا مَا تُوعَدُونَ ﴾ هذه الجملة يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون معترضة بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه، وذلك أن «لِكُلِّ أَوَّاب » بدل من «المتقين » بإعادة العامل١.
والثاني : أن تكون منصوبة بقول مُضْمَرٍ، ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم٢. وقد تقدم في ( سُورَة )٣ «ص » أنه قرئ : يُوعَدُونَ بالياء والتاء٤.
ونسب أبو حيان قراءة الياء من تحت هنا لابن كثير، وأبي عمرو٥، وإنما هي عن ابن كثيرٍ وَحْدَهُ.

فصل


والأواب الرَّجَّاعُ، قيل : هو الذي يَرْجِعُ عن الذنوب إلى الاستغفار والطاعة، قال سعيد بن المُسَيِّب : هو الذي يُذْنبُ ثم يتوب، ثم يُذْنِبُ ثم يتوبُ. وقال الشَّعْبِيُّ ومجاهدٌ : هو الذي يذكر ذنوبهُ في الخَلاَءِ فيستغفر منها. وقال عطاء، وابن عباس : هو المسبِّح من قوله :﴿ يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ ﴾ [ سبأ : ١٠ ] وقال قتادة : هو المصلِّي. والْحَفِيظُ : هو الذي يحفظ تَوبته من النّقص. وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما )٦ - هو الذي يحفظ ذُنُوبَهُ حتَّى يرجع عنها ويستغفر منها. وقال ابن عباس أيضاً : الحفيظ لأمر الله، وقال قتادة : الحفيظ لما استودعه الله من حقِّه٧. والأوَّابُ والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثيرَ الأَوْبِ شديدَ الحِفْظِ.
١ وهو قول الزمخشري في الكشاف ٤/١٠..
٢ وهو قول أبي البقاء في التبيان ١١٧٦..
٣ زيادة لتوضيح السياق..
٤ العامة على ما توعدون للخطاب وابن كثير على الياء على الخبر، لأنه أتى بعد ذكر المتقين وانظر القرطبي ٨/١٧، والإتحاف ٣٩٨..
٥ البحر ٨/١٢٧..
٦ زيادة من (أ)..
٧ وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/٢٣٨ والقرطبي ١٧/٢٠..
قوله :«مَنْ خَشِيَ » يجوز أن يكون مجرور المَحَلّ بدلاً، أو بياناً ل «كُلّ ». وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بدلاً بعد بدل تابعاً لكل. انتهى. يعني أنه بدل من كل بعد أن أبدلت «لكلّ » من «لِلْمُتَّقِينَ »١. ولم يجعلْه بدلاً آخر من نفس «لِلْمُتَّقِينَ » لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد٢. ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف «أَوَّابٍ وحَفِيظٍ » قاله الزمخشري٣. يعني أن الأصل لكلّ شخص أوابٍ، فيكون «مَنْ خَشِيَ » بدلاً من «شَخْص » المقدر. قال : ولا يجوز أن يكون في حكم «أواب وحفيظ » ؛ لأن «مَنْ » لا يوصف بها٤، لا يقال : الرجلُ مَنْ جاءني جالسٌ، كما يقال : الرجل الذي جَاءَني جالسٌ. والفرق بينهما يأتي في الفصل بعده. ولا يوصف من بين الموصولات إلاَّ بالَّذي٥ يعني بقوله :«في حكم أواب » أن يجعل من صفة. وهذا كما قال لا يجوز، إلا أنَّ أبا حَيَّانَ استدرك عليه الحَصْرَ وقال : بل يوصف بغير الذي من الموصولات كوصفهم بما فيه أل الموصوفة، نحو : الضَّارِبُ والمَضْرُوب٦، وكوصفهم بذُو وذاتِ الطَّائِيَّتَين نحو قولهم :«بالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُم اللَّهُ بِهِ، والْكَرَامَةِ٧ ذات أَكْرَمَكُمْ بِهِ »٨.
وقد جوز ابن عطية في :«مَنْ خَشِيَ » أن يكون نعتاً لما تقدم٩. وهو مردود بما تقدم١٠. ويجوز أن يرتفع : مَنْ خَشِيَ على أنه خبر ابتداءٍ مضمر١١ أو ينصب بفعل مضمر١٢، وكلاهما على القطعِ المُشْعِر بالمَدْحِ١٣، وأن يكون مبتدأ خبره قولٌ مضمر ناصبٌ لقوله : ادْخُلُوها١٤ وحُمِلَ أولاً على اللفظ وفي الثَّاني على المَعْنَى١٥.
وقيل : مَنْ خَشِيَ منادى حذف منه حرف النداء أي يَا مَنْ خَشِيَ١٦ ادْخُلُوهَا باعتبار الجملتين المتقدمتين وحَذْفُ حرف النداء سائغٌ١٧. وأن تكون شرطية وجوابها محذوف هو ذلك القول، ولكن ردّ معه فاء أي فيقال لهم١٨. و«بالْغَيْبِ » حال أي غائباً عنه، فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول١٩ أو منهما، وقيل : الباء المسببة أي خشيةً بسبب الغَيْب الذي أوعد به من عذابه٢٠. ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشي أي خَشِيهُ خشْيَةً مُلتَبِسَةً بالْغَيْبِ٢١.

فصل


قال ابن الخطيب : إذا كان «مَنْ والَّذي » يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما ؟
فنقول :«ما » اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء، لكن الشيء هو أعم الأشْياء فإن الجَوْهَرَ شيء، والعَرَضَ شيء، والواجب شيء، والممكن شيء، والأعَمُّ قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت شيئاً٢٢ من البعد تقول أولاً : إنَّه شيء، ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول : إنسان، فإذا بان لك أنه ذكر قلت : إنه رجل، فإذا وجدته ذا قوة تقول : شجاعٌ إلى غير ذلك فالأعَمّ أعرف، وهو قبل الأخَص في الفهم، فلا يجوز أن يكون صفة، لأنَّ الصفة بعد الموصوف. هذا من حيث المعقول، وأما من حيث النَّحْو، فلأن الحقائق لا يوصف بها، فلا يقال : جِسْمُ رَجُلٍ جَاءَنِي، كما يقال : جِسْمُ نَاطِقٍ جَاءَنِي ؛ لأنَّ الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها٢٣. فقولنا : عالم أي شيء له علم٢٤.

فصل


والخَشْيَةُ والخَوْفُ معناهما واحد عند أهل اللغة، لكن بينهما فَرْقٌ، وهو أن الخشيةَ خوفٌ من عَظَمَةِ المَخْشِيِّ، لأن تركيب حروف «شَ يَ خَ » في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة، يقال : شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ وللرجل الكبير السِّنِّ، وهما جميعاً مَهِيبَان والخوف خشيةٌ من ضعف الخاشي، لأنَّ تركيب «خَ وَ ف » في تقاليبها يدل على الضعف، ويدل على ذلك أنه حيث كان الخوف من عظمة المخشيّ قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ]، وقال :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعاً من خشية الله ﴾ [ الحشر : ٢١ ] وقال :﴿ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٧ ] مع أن الملائكة والجبل أقوياء وحيث كان الخوفُ من ضعف الخاشِي سماه خوفاً قال تعالى :
﴿ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] أي بسبب مكروه يلحقكم في الآخرة. وقال تعالى :﴿ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ﴾ [ القصص : ١٨ ] وقال :«إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ »٢٥ لوحدته وضعفه هذا في أكثر الاستعمال وربما يتخلف ( المُدَّعَى عنه لكن الكثرة كافية ) ٢٦.

فصل


معنى الآية من خاف الرحمان فأطاعه بالغيب، ولم يره. وقال الضّحاك والسّدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب.
﴿ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾ هذه صفة مدح، لأن شأن الخائف أن يَهْرب، فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفِرار منه٢٧.
وقوله :«مُنِيبٍ » أي مخلص مقبل على طاعة الله تعالى. والباء في «بِقَلْبٍ » إما للتعدية٢٨، وإما للمُصَاحَبة٢٩، وإما للسببية٣٠.
والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى :﴿ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٨٤ ] أي سليم من الشرك.
١ نقله في الكشاف ٤/١٠ وانظر التبيان ١١٧٦ والبحر ٨/١٢٧..
٢ قاله أبو حيان في المرجع السابق..
٣ الكشاف المرجع السابق..
٤ الكشاف المرجع السابق..
٥ السابق..
٦ فأل هنا في الفاعلية والمفعولية صفة لما قبلها و"ضارب ومضروب" صلتان أي الذي هو ضارب والذي هو مضروبٌ..
٧ فذو ذات صفتان لما قبلهما أي الفضل الذي أكرمكم والكرامة التي أكرمكم..
٨ انظر بحر أبي حيان المحيط ٨/١٢٧..
٩ وهو أواب حفيظ..
١٠ من أن "من" لا ينعت بها..
١١ التبيان ١١٧٦..
١٢ أي هم من خشي وأعني من خشي..
١٣ بتوضيح وتبيين من المؤلف لكتاب التبيان للعكبري ١١٧٦..
١٤ ذكر هذا الوجه الزمخشري في الكشاف ٤/١٠ ثم أبو حيان في البحر ٨/١٢٧..
١٥ معنى الجمع وانظر الكشاف والبحر السابقين..
١٦ السابقين وذكره أيضا الرازي ٢٨/١٧٧ قال: وهو أغربُها"..
١٧ وقد حذف حرف النداء للتقريب كما قالوا: من لا يزال محسنا أحسن إلي. وانظر المرجعين السابقين..
١٨ لم أعثر على ذلك القول لمعين وهو في الحقيقة رأي وجبه..
١٩ وهو اختيار الزمخشري وأبي حيان في مرجعهما السابقين الكشاف ٤/١٠ والبحر ٨/١٢٨..
٢٠ المرجعين السابقين أيضا. وقد تناثرت أقوال من هذه الأقوال في معاني الفراء ٣/٧٩ والبيان ٢/٣٨٧ ومشكل الإعراب ٢/٣٢١..
٢١ المرجعين السابقين أيضا. وقد تناثرت أقوال من هذه الأقوال في معاني الفراء ٣/٧٩ والبيان ٢/٣٨٧ ومشكل الإعراب ٢/٣٢١..
٢٢ في الرازي: شبحاً..
٢٣ وكل ما يقع للغير يكون معناه شيء له كذا..
٢٤ وتلك من المقولات الفلسفية التي اشتهر بها الإمام الفخر الرازي وتوضيح الكلام أن من خشي عند الرازي وقصده حقيقة لا تقوم بغيرها فهي غير تامة. وانظر تفسيره ٢٨/١٧٧..
٢٥ الأصحّ قرآنيا: فأخاف وهي ١٤ من الشعراء و٣٣ من القصص..
٢٦ زيادة من الرازي لتحقيق المراد وتوضيحه وانظر الرازي المرجع السابق..
٢٧ البغوي ٦/٢٣٨ والقرطبي ١٧/٢١..
٢٨ أي أحضر قلبا سليما..
٢٩ أي مع قلب..
٣٠ وهي الأعرف. وانظر الرازي المرجع السابق. والسببية معناها جاء بسبب قلبه المنيب..
قوله :«ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ » الجار والمجرور حال من فاعل «ادْخُلُوهَا » أي سالمين من الآفات فهي حال مقارنة١، أو مسلّماً عليكم فهي حال مقدرة٢ كقوله :﴿ فادخلوها خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]. كذا قيل٣ وفيه نظر، إذ لا مانع من مقارنة وتسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فَادْخُلُوهَا خالدينَ فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول٤، والضمير في «ادْخُلُوهَا » عائد إلى الجنة، أي ادخلوا الجنة بسلامةٍ من العذاب والهموم وقيل : بسلام من الله وملائكته عليهم٥.
قوله :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخلود ﴾ قال أبو البقاء : أي ومن ذلكَ يَوْمُ الخلود٦ كأنّه جعل «ذَلِكَ » إشارة إلى ما تقدم من إنعام الله عليهم بما ذكره، وقيل «ذَلِك » مشارٌ به لما بعده من الزَّمان، كقولك : هَذَا زَيْدٌ٧. قال الزمخشري : في قوله :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخلود ﴾ إضمار تقديره : ذَلِكَ يَوْم تَقْرِير٨ الخُلُود. ويحتمل أن يقال : اليوم يُذْكَرُ ويراد به الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً، تقول : يَوْمَ يُولَدُ لِفُلاَن٩ يكون السرورُ العظيمُ، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً فالمراد به الزّمان فكأنه تعالى قال : ذَلك زَمَانُ الإقامة الدَّائِمَةِ١٠.
فإن قيل : المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها فما فائدة القول ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن قوله :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخلود ﴾ قول قاله الله في الدنيا، إعلاماً وإخباراً، وليس ذلك قولاً يقولُه عند قوله :«ادخلوها »، فكأنه تعالى أخبر في يومنا أنَّ ذلك اليوم يومُ الخلود.
الثاني : أن اطمئنان القلب بالقول أكثر١١.
١ والحال المقارنة هي المقارنة لعاملها وهو الغالب فيها..
٢ وهي المستقبلة نحو: "مررت برجل معه سيف مقاتلا به غدا" أي مقدرا ذلك. وعلى ذلك فالتنظير في الآية معناه: يسلّم عليكم بعد..
٣ ذكره أبو حيان في بحره المحيط دون أن يحدد من قال به وانظر البحر ٨/١٢٨..
٤ أي أن الحال المقارنة تظهر أكثر في تلك الآية آية "ق" من آية الزمر وفي ذلك اعتراض على أبي حيان صاحب الرأي أصلا. ويلمح من كلام الزمخشري في الكشاف مقارنة الحال وتقديرها في آية "ق" هذه وهي "بسلام"..
٥ البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٣٨..
٦ التبيان ١١٧٧..
٧ لم أعثر عليه لمعين..
٨ في النسختين كذلك وفي الكشاف: تقديره بالدال وكلاهما متقاربان..
٩ في (ب) له بدل لفلان..
١٠ وهو رأي وجيه من المؤلف وإن كان قليلا بالنسبة إلى الدقة. وقد نقله عن الرازي في تفسيره الكبير انظر ٢٨/١٨٠..
١١ المرجع السابق..
قوله :﴿ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا ﴾ يجوز أن يتعلق «فيهَا » ب «يشاؤون » ويجوز أن يكون حالاً من الموصول١، أو من عائِدِهِ٢ والأول أولى.

فصل


ما الحكمة في أنه تعالى قال : ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ على المخاطبة، ثم قال :«لَهُمْ » ولم يقل : لَكُم ؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى :«ادْخُلُوهَا » فيه مقدر، أي فيُقَال لَهُمُ ادْخُلُوها.
فلا يكون التفاتاً.
الثاني : أنه التفات، والحكمة الجمع بين الطرفين، كأنه تعالى يقول : غير محلّ بهم في غيبتهم وحضورهم.
ففي حضورهم الحبور، وفي غيبتهم الحورُ والقُصُور.
الثالث : أنه يجوز أن يكون قوله تعالى :«لَهُمْ » كلاماً مع الملائكة، يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم، وَاعْلَمُوا أَنّ لهم ما يشاؤون فيها فأَحْضِروا بين أيديهم ما يشاؤون، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تَقْدِرُون أنتم عليه٣.
و«المزيد » يحتمل أن يكون معناه الزيادة٤، كقوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول٥، أي عندنا ما نَزيدهُ على ما يَرْجُون ويَأمَلُونَ٦.
قال أنس وجابر : هو النظر إلى وجه الله الكريم٧.
١ وهو "ما" من "ما يشاؤون"..
٢ المحذوف وتقديره يشاؤونه وانظر التبيان ١١٧٧..
٣ الرازي في مرجعه السابق ٢٨/١٨١..
٤ فيكون مصدرا ميميا من الثلاثي..
٥ ومعنى المفعول متأتّ منق وله نزيده أي الهاء..
٦ وقد قال بهذين الإعرابين الإمام أبو عبد الله فخر الدين الرازي في مرجعه السابق..
٧ القرطبي ١٧/٢١..
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا﴾ نصب بما بعده. وقدم إما لأنه استفهام، وإما
43
لأن «كم» الخبرية تَجْرِي مَجْرَى الاستفهامية في التصدير. و «مِنْ قَرْنٍ» تمييز و «هُمْ أَشَدُّ» صفة إما «لكَمْ» وإما لِقَرنْ.
قوله: «فَنَقَّبُوا» الفاء عاطفة على المعنى كأنه قيل: اشتدَّ بطشهم فَنَقَّبُوا والضمير في (نَقَّبُوا) إما للقرون المتقدمة وهو الظاهر وإما لقُرَيْشٍ، ويؤيده قراءة ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - وابن يَعْمُرَ، وأَبِي العَالِيَة، ونَصْرِ بن يَسَار، وأبي حيوة، والأصمعي - عن أبي عمرو - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) فَنَقِّبُوا - بكسر القاف - أمراً لهم بذلك.
والتَّنْقِيبُ التَّنْقِيرُ والتّفتيش، ومعناه التَّطْوَافُ في البلاد، قال الحارُ بنُ حِلِّزَةَ:
٤٥١٤ - نَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ مِنْ حَذَرِ الْمَو تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
وقال امرؤ القيس:
٤٥١٥ - وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالإيَابِ
وقرأ ابنُ عَباسٍ وأبو عمرو أيضاً في رواية: نَقَبُوا بفتح القاف خفيفة. ومعناها كما تقدم. وقرئ: نَقِبُوا بكسرها خفيفة أي نَقِبَتْ أقدامُهُمْ وَأَقْدَام إبلهم
44
ودَمِيَتْ فحذف المضاف، وذلك لكثرة تَطْوَافِهِمْ.
قوله: ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾ مبتدأ أو خبر مضمر تقديره: هل لمن سلك طريقهم. أو هل لهم من محيص. وهذه الجملة يحتمل أن تكون على إضمار قولٍ وأن لا تكون.

فصل


المعنى فَنَقَّبُوا أي فضربوا وسافروا وتقلبوا، وأصله من النَّقب وهو الطريق كأنهم سلكوا كُلَّ طريق، فلم يجدوا محيصاً من أمر الله. وعلى هذا فالمراد بهم أهل مكة، أي ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ولم يجدوا ملجأ ومهرباً.
وقيل: المعنى صاروا نُقَبَاء في الأرض أراد ما أفادهم بَطْشُهُم وقُوَّتُهُم؛ لأن الفاء تدل على ترتيب الأمر على مقتضاه تقول: كانَ زَيْدٌ أَقوى من عَمْرٍو فَغَلَبَهُ. والمعنى كانوا أشدَّ منهم بطشاً فصاروا نقباءَ في الأَرْضِ، وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، ومن قوتهم خَرَقُوا الطُّرق ونَقَّبُوها وقَطَعُوا الصُّخُورَ.
وقيل: ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾ مفر من الموت، فلم يجدوا. وهذا جمع بين الإنْذارِ بالعذاب العاجل والعقاب الآجل؛ لأنه أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المُهْلِك، والإهلاك المُدْرك. وهذا إنذار لأهل مكة لأنهم على مثل سَبِيلهم.
فإن قيل: إذا كان (ذلك للجمع) بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فَلِمَ توسَّطَهُمَا قوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [ق: ٣١] ؟
فالجواب: ليكون ذلك رَدْعاً بالخوف والطمع، فذكر حال الكفور (المعاند)، وحال الشكور ترهيباً وترغيباً.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يجمع بين التَّرْهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسْلَمَ من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به وأهلكه؟
45
فالجواب: أن النعمة كانت قد وصلت إليهم، وكانوا مُتَقَلِّبين في النِّعم فلم يُذَكِّرْهم به، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمْرين جميعاً فأخبرهم بها.
وقوله: ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾ استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيصٌ. وقيل: هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تَعْتَمِدُونَ عَلَيْه؟
ومن قرأ بالتشديد فهو مفعول أي بحثوا عن المَحِيص ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ؟﴾.
والمَحِيصُ كالمَحِيدِ غير أن المحيص مَعْدَل ومهرب عن الشدة بدليل قولهم: «وَقَعَوا فِي حَيْصَ بَيْصَ» أي في شدةٍ وضيق، والمَحِيدُ مَعْدَلٌ وإن كان بالاختيار، فيقال: حَادَ عن الطَّريق بَطراً. ولا يقال: حَاصَ عن الأَمر بَطَراً.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى﴾ ذلك إشارة إلى الإهلاك، أو إلى إزلاف الجنة. و «الذّكرى» مصدر أي تَذْكِرةٌ وعظةٌ ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾.
قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: أي عَقْل. قال الفراء: هذا جائز في العربية تقول: مَا لَكَ قَلْبٌ وَلاَ قَلْبُكَ مَعَكَ، أي عَقْلُك مَعَكَ.
وقيل: له قلب حاضر مع الله. وقيل: قلبٌ واع؛ وذلك لأن من لا يتذكر كأنَّه لا قلب له، ومنه قوله تعالى: ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩] أي هم كالجماد، وقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾ [المنافقون: ٤] أي لهم صُوَر، وليس لهم قلب، ولا لسانٌ للشُّكْر.
46
قوله: ﴿أَوْ أَلْقَى السمع﴾ العامة على «أَلْقَى» مبنياً للفاعل، وطَلْحَةُ والسُّلَمِيُّ والسُّدِّيُّ وأبو البرهسم: أُلْقِيَ مبنياً للمفعول «السَّمْعُ» رفع به. وذكرت هذه القراءة لِعَاصِمٍ عن السّدّيّ فمقته وقال: أليس يقول: يُلْقُونَ السَّمْعَ وإلقاء السمع كناية عن الاستماع، لأن الذي لا يسمع كأنه حفظ سمعه فأمسكه والمعنى اسْتَمَع الْقُرْآنَ واستمع ما يقال له، لا يحدث نفسه بغيره، تقول العرب: أَلْقِ إلَيَّ سَمْعَكَ، أي استمعْ، أو يكون معناه: لمن كان له قلبٌ فقصد الاستماع، أو أَلْقَى السمع بأن أرْسَلَه وإن لم يقصد السماع.
«وَهُو شَهِيدٌ» حاضر الذِّهن.
ويحتمل أن يقال: الإشارة بذلك إلى القرآن في أول السورة أي في القرآن الذي سبق ذكره ذكرى لمِن كَان لَهُ قلب، أو لمن استمع ويكون معنى «وهو شهيد» أي المنذر الذي تَعَجَّبْتُم منه وهو شهيد عليكم كقوله: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ [الأحزاب: ٤٥].
47
قوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى ﴾ ذلك إشارة إلى الإهلاك، أو إلى إزلاف الجنة. و«الذّكرى » مصدر أي تَذْكِرةٌ وعظةٌ ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾.
قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) ١ - : أي عَقْل. قال الفراء : هذا جائز في العربية تقول : مَا لَكَ قَلْبٌ وَلاَ قَلْبُكَ٢ مَعَكَ، أي عَقْلُك مَعَكَ.
وقيل : له قلب حاضر مع الله٣. وقيل : قلبٌ واع ؛ وذلك لأن من لا يتذكر كأنَّه لا قلب له، ومنه قوله تعالى :﴿ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] أي هم كالجماد، وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ [ المنافقون : ٤ ] أي لهم صُوَر، وليس لهم قلب، ولا لسانٌ للشُّكْر٤.
قوله :﴿ أَوْ أَلْقَى السمع ﴾ العامة على «أَلْقَى » مبنياً للفاعل، وطَلْحَةُ والسُّلَمِيُّ والسُّدِّيُّ وأبو البرهسم٥ : أُلْقِيَ مبنياً للمفعول «السَّمْعُ » رفع به٦. وذكرت هذه القراءة لِعَاصِمٍ عن السّدّيّ فمقته وقال : أليس يقول : يُلْقُونَ السَّمْعَ٧ وإلقاء السمع كناية عن الاستماع، لأن الذي لا يسمع كأنه حفظ سمعه فأمسكه٨ والمعنى اسْتَمَع الْقُرْآنَ واستمع ما يقال له، لا يحدث نفسه بغيره، تقول العرب : أَلْقِ إلَيَّ سَمْعَكَ، أي استمعْ٩، أو يكون معناه : لمن كان له قلبٌ فقصد الاستماع، أو أَلْقَى السمع بأن أرْسَلَه وإن لم يقصد السماع١٠.
«وَهُو شَهِيدٌ » حاضر الذِّهن.
ويحتمل أن يقال : الإشارة بذلك إلى القرآن في أول السورة أي في القرآن الذي سبق ذكره ذكرى لمِن كَان لَهُ قلب، أو لمن استمع ويكون معنى «وهو شهيد » أي المنذر الذي تَعَجَّبْتُم منه وهو شهيد عليكم كقوله :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ﴾١١ [ الأحزاب : ٤٥ ].
١ زيادة من (أ)..
٢ قال وهذا جائز في العربية أن ثقول: ما لك قلب، وما قلبك معك، وأين ذهب قلبك؟ تريد العقل لكل ذلك. انظر معاني الفراء ٣/٨٠..
٣ نقله البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٣٩..
٤ وقد ذكر هذين الرأيين الأخيرين الإمام الفخر في تفسيره الكبير ٢٨/٨٣..
٥ سبق التعريف بكل وهذه الأعلام..
٦ على النائب عن الفاعل. وقد ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر ٨/١٢٩ وأبو الفتح في المحتسب٢/٢٨٥ وابن خالويه في المختصر ١٤٤، والزمخشري في الكشاف ٤/١١..
٧ البحر المحيط ٨/١٢٩..
٨ قاله الرازي ٢٨/١٨٢..
٩ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٣٩..
١٠ الرازي المرجع السابق..
١١ انظر المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أعاد الدليل مرة أخرى وقد مرّ تفسيره في الم السجدة، فقيل: إن هذا ردّ على اليهود في قولهم: إن الله - سبحانه وتعالى - استراح يوم السَّبْتِ. والظاهر أنها ردّ على المشركين، أي لم يَعْيَ عن الخلق الأول فكيف يعجز عن الإعادة؟
قال ابن الخطيب: وأشار بقوله: فِي ستَّة أيام إلى ستة أطْوَارٍ لأَنَّ المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم من وضع اللغة، لأن اليوم في اللغة عبارة عن زمان مُكْثِ الشَّمْس فوق الأرض من الطُّلوع إلى الغُرُوب. وقيل: خلق السموات لم يكن شمسٌ ولا قمرٌ لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت، يقال: يَوْمَ يُولَدُ لِلْمَلِكِ ابْنٌ يَكُونُ سُرُورٌ عَظيمٌ ويَوْمَ يَمُوت فُلاَنٌ يَكُون حُزْنٌ شَدِيدٌ، وإن اتفقت الوِلادة أو الموت لئلا لا يتعين ذلك. وقد يدخل في مراد القائل، لأنه أراد باليوم مُجَرّد الوقتِ.
47
قوله: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون مستأنفاً. والعامة على ضَمِّ لام اللُّغُوب. وعليٌّ وطلحةُ والسُّلَمِيّ ويَعْقُوبُ بفتحها. وهما مصدران (بمعنًى). وينبغي أن يضم هذا إلى ما حكاه سِيبويه من المصادر الجائية على هذا الوزن وهي خمسة وإلى ما زاده الكسائي وهو الْوَزُوعُ فتصير سبعةً، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله تعالى: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ [البقرة: ٢٤] واللّغوب العناءُ والتّعَبُ.
قوله تعالى: ﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ من كَذِبِهِمْ، وقولهم بِالاسْتِرَاحَةِ، أو على قولهم: إن هذا لشيء عَجِيبٌ. وهذا قبل الأمر بقتالهم.
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ قيل: هذا أَمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالصلاة كقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل﴾ [هود: ١١٤] وقوله ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب﴾ إشارة إلى طرفي النهار، وقوله: ﴿وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ﴾ إشارة إلى ﴿زُلَفاً مِّنَ الليل﴾ [هود: ١١٤].
وتقريره أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان مشتغلاً بأمرين:
أحدهما: عبادة الله.
والثاني: هداية الخلق، فإذا لم يهتدوا قيل له: أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة.
وقيل: معنى سَبِّحْ بحمد ربك، أي نَزِّههُ عما يقولون ولا تَسْأَمْ من تذكيرهم بعَظَمَةِ الله، بل نَزِّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله: ﴿وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ﴾ أوله، لأنه أيضاً وقت اجتماعهم.
وقيل: المعنى: قُلْ سُبْحَان الله، لأن ألفاظاً جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم: كَبَّر لمن قال: اللَّهُ أَكْبَرُ وسلَّم لمن قال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، وحمَّد لمن قال: الْحَمْدُ لله.
48
وهلَّك لمن قال: لاَ آله إلاَّ الله، وسبَّح لمن قال: سُبْحَان الله، وذلك أن هذه أمورٌ تَتَكَرَّر من الإنسان في الكلام، [فدعت] الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا: هلل بخلاف قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ فِي السُّوقِ، فإنَّ من قال: زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظاً واحداً مفيداً لذلك لعدم تكرره.
ومناسبة هذا الوجه: هو أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللَّعْنِ، فقيل له: اصْبِرْ عَلَيْهِمْ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله، والحمد لله، ﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت﴾ [القلم: ٤٨] أو كنوحٍ - عليهما الصلاة والسلام - حيث قال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦]

فصل


وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما. فإن قلنا: المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك: الأمر بقراءة الفاتحة، كقولك: صَلَّى فلانٌ بسورة كذا. وهذا بعيدٌ.
وإن قلنا المراد: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فالباء للمصاحبة. وكذلك إن قلنا: معناه التَّنْزِيهُ أي نَزِّهْهُ واحمَدْهُ وَفَّقَكَ لتسبيحه فيكون المفعول محذوفاً، للعلم به، أي نزه الله بحمد ربك، أي ملتبساً أو مقترناً بحمد ربك.
وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شَكَرَ ونَصَحَ، وإما أن يكون معناها خالصاً لله.
وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل. وأعاد الأمر للتسبيح، إما تأكيداً وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة، والثاني بمعنى التَّسْبِيح والذكر. ودخلت الفاء؛ لأن المعنى: وأمَّا من الليل فسبحه.
ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدْبَار السُّجود؛ ليَعُمَّ الأوقات فيكون كقوله: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب﴾ [الشرح: ٧] و «من» إما لابتداء الغاية، أو مِنْ أوَّل الليل، وإمَّا للتبعيضِ.
49

فصل


قال المفسرون: قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح، وقبل الغروب يعني العصر، وروي عن ابن عباس: قبل الغروب الظهر والعصر ﴿وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ﴾ يعني صلاة المغرب، والعِشَاءِ. وقال مجاهد: ومِنَ الليل يَعْنِي صلاة الليل، أيّ وقت صلى.
قوله: «وأدبار السجود» قرأ نافع وابن كثير، وحمزة: إدبار بكسر الهمزة، على أنه مصدر قَامَ مَقَام ظَرْف الزمَان كقولهم: آتِيكَ خُفُوقَ النّجم وخِلاَفَة الحجّاج. ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها. والباقون بالفتح جمع (دُبُر) وهو آخر الصلاة وعقبها. ومنه قول أوس:
٤٥١٦ - عَلَى دُبُر الشَّهْرِ الْحَرَام فَأَرْضُنَا وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ
ولم يختلفوا في: ﴿وَإِدْبَارَ النجوم﴾ [الطور: ٤٩].
وقوله: «وأدبار» معطوف إمّا على «قَبْلَ الْغُرُوبِ» وإمّا على «وَمِنَ اللَّيْلِ».

فصل


قال عمرُ بن الخطاب، وعليُّ بن أبي طالب، والحسنُ، والشعبيُّ، والنخعيُّ والأوزاعي: أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وروي عنه مرفوعاً. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: أدبار السجود هو التسبيح باللِّسان في أدبار الصلوات المكتوبات، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُر كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثلاثين وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَحَمَّدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ» فَذَلك تِسْعَةٌ وتسعُونَ ثم قال: «تَمَام المِائَةِ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ له الْمُلْكُ وَلهُ الْحَمْدُ
50
يُحيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
قوله تعالى: ﴿واستمع يَوْمَ يُنَادِ﴾ هو استماع على بابه. وقيل: بمعنى الانتظار. وهو بعيد. فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفاً، أي استمع نِدَاءَ المنادي، أو نداء الكافر بالوَيْل والثبور، فعلى هذا يكون «يَوْمَ يُنَادِي» ظرفاً ل «اسْتَمِعْ» أي استمع ذلك فِي يَوْم. وقيل: استمع ما أقول لك فعلى هذا يكون «يَوْمَ يُنَادِي» مفعولاً به أي انتظر ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَوَقَفَ ابن كثير على «يُنَادِي» بالياء. والباقون دون ياء. ووجه إثباتها أنه لا مقتضي لحذفها. ووجه حذفها وقفاً اتباع الرسم وكأن الوقْفَ محلّ تخفيفٍ.
وأما «المنادي» فأثبت ابن كثير أيضاً ياءَه وصلاً ووقفاً. ونافع وأبو عمرو بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً، وباقي السبعة بحذفهما وصلاً ووقفاً. فمن أثبت، فلأنه الأصل، ومن حذف فلاتباع الرسم. ومن خص الوقف بالحذف فلأنه محلّ راحة ومحلّ تغيير.

فصل


في «واستمعْ» وجوه:
الأول: أن يكون مفعوله محذوفاً رأساً، والمقصود: كُنْ مستمعاً ولا تكن مثلَ هؤلاء المُعْرِضين الغافلين، يقال: هو رجل سَمِيعٌ مطيعٌ، ولا يراد: مسموع بعينه.
الثاني: استمع ما يوحى إليك.
الثالث: استمع نداء المنادي.
فإن قيل: «استمع» عطف على «فَاصْبِرْ» وَ «سَبِّحْ» وهو في الدنيا، فالاستماع يكون في الدنيا وما يوحى (يكون) «يوم ينادي» لا يسمع في الدنيا.
فالجواب: أنه لا يلزم ذلك، لجواز أن يقال: صَلِّ وادْخُلِ الْجَنَّةَ أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العُقْبَى فكذا ههنا.
ويحتمل أن يكون استمع بمعنى انْتَظِرْ. ويحتمل أن يكون المراد: تَأَهَّبْ لهذه الصيحة لئلا يَفْجَأكَ فيُزْعجكَ. والمراد بالمنادي: إما الله تعالى بقوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ﴾ [الصافات: ٢٢] وبقوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] أو بقوله: ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ [النحل: ٢٧] ويحتمل أن يكون المراد بالمنادي: إسرافيل قال مقاتل: ينادي إسرافيل بالحشر يا أيتها الْعِظَامُ البالية، والأوْصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشُّعور المتفرقة، إن الله يأمركم
51
أن تجْتَمِعُوا لفَصْل القضاء. أو يكون النداء للنفس فقال: ﴿ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ﴾ [الفجر: ٢٧ - ٢٨] إذْ ينادي المنادي هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، ويحتمل أن يكون المنادي: هو المكلف لقوله: ﴿وَنَادَوْاْ يامالك﴾ [الزخرف: ٧٧]. والظاهر الأول؛ لأن اللام للعهد والتعريف. والمعهود السابق قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤].
وقوله: ﴿مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ أي لا يخفى على أحد. وقيل: منْ صَخْرَة بَيْتِ المَقْدِس وهي وسط الأرض. قال الكلبي: هي أَقرب الأَرض إلى السماء بثمانيةَ عَشَرَ ميلاً.
قوله: «يَوْمَ يَسْمَعُونَ» بدل من «يَوْمَ يُنَادِي» و «بِالْحَقِّ» حال من «الصَّيْحَة» أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون مُلْتَبِسِينَ بسماع الحق.
قوله ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخروج﴾ يجوز أن يكون التقدير: ذلك الوقت - أي وقت النداء والسماع - يوم الخروج. ويجوز أن يكون «ذلك» إشارة إلى النداء، ويكون قد اتسع في الظرف فأخبر به عن المصدر، أو فقدر مضاف، أي ذَلِكَ النداء والاستماع نداءُ يوم الخروج، واستماعه. واللام في «الصَّيحة» للتعريف، لقوله: ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [يس: ٢٩]. والمراد بالحق: الحشر أو اليقين، يقال: صَاحَ فلانٌ بِيَقِين لا بظنٍّ وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصَّدى وغيره، أو يكون المراد المقترنة بالحق، يقال: اذْهَبْ بالسَّلاَمة وارْجِع بالسَّعَادَة أي مقروناً ومصحوباً.
وقيل: «بالْحَقِّ» قسم، أي يسمعون الصيحة بالله (وَ) الْحَقِّ. وهو ضعيف وقوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخروج﴾ أي من القبور.
52
قوله تعالى :﴿ فاصبر على مَا يَقُولُونَ ﴾ من كَذِبِهِمْ، وقولهم بِالاسْتِرَاحَةِ، أو على قولهم : إن هذا لشيء عَجِيبٌ. وهذا قبل الأمر بقتالهم.
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ قيل : هذا أَمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة كقوله تعالى :﴿ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل ﴾ [ هود : ١١٤ ] وقوله ﴿ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب ﴾ إشارة إلى طرفي النهار، وقوله :﴿ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ ﴾ إشارة إلى ﴿ زُلَفاً مِّنَ الليل ﴾١.
وتقريره أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مشتغلاً بأمرين :
أحدهما : عبادة الله.
والثاني : هداية الخلق، فإذا لم يهتدوا قيل له : أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة.
وقيل : معنى سَبِّحْ بحمد ربك، أي نَزِّههُ عما يقولون ولا تَسْأَمْ من تذكيرهم بعَظَمَةِ الله، بل نَزِّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب ؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله :﴿ وَمِنَ اللّيل فَسَبِّحْهُ ﴾ أوله، لأنه أيضاً وقت اجتماعهم.
وقيل : المعنى : قُلْ سُبْحَان الله، لأن ألفاظاً جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم : كَبَّر لمن قال : اللَّهُ أَكْبَرُ وسلَّم لمن قال : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، وحمَّد لمن قال : الْحَمْدُ لله. وهلَّك لمن قال : لاَ إله إلاَّ الله، وسبَّح لمن قال : سُبْحَان الله، وذلك أن هذه أمورٌ تَتَكَرَّر من الإنسان في الكلام، [ فدعت ]٢ الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا : هلل بخلاف قَوْلِهِمْ : زَيْدٌ فِي السُّوقِ، فإنَّ من قال : زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظاً واحداً مفيداً لذلك لعدم تكرره.
ومناسبة هذا الوجه : هو٣ أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللَّعْنِ، فقيل له : اصْبِرْ عَلَيْهِمْ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله، والحمد لله، ﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت ﴾ أو كنوحٍ - عليهما الصلاة والسلام - حيث قال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ].

فصل


وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما. فإن قلنا : المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك : الأمر بقراءة الفاتحة، كقولك : صَلَّى فلانٌ بسورة كذا. وهذا بعيدٌ.
وإن قلنا المراد : قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فالباء للمصاحبة. وكذلك إن قلنا : معناه التَّنْزِيهُ أي نَزِّهْهُ واحمَدْهُ حيث وَفَّقَكَ لتسبيحه فيكون المفعول محذوفاً، للعلم به، أي نزه الله بحمد ربك، أي ملتبساً أو مقترناً بحمد ربك٤.
وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شَكَرَ ونَصَحَ٥، وإما أن يكون معناها خالصاً لله٦.
وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل. وأعاد الأمر للتسبيح، إما تأكيداً وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة، والثاني بمعنى التَّسْبِيح والذكر. ودخلت الفاء ؛ لأن المعنى : وأمَّا من الليل فسبحه٧.
ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدْبَار السُّجود ؛ ليَعُمَّ الأوقات فيكون كقوله :﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب ﴾ [ الشرح : ٧ ] و«من » إما لابتداء الغاية، أو٨ مِنْ أوَّل الليل، وإمَّا للتبعيضِ٩.

فصل


قال المفسرون : قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح، وقبل الغروب يعني العصر، وروي عن ابن عباس : قبل الغروب الظهر والعصر ﴿ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ ﴾ يعني صلاة المغرب، والعِشَاءِ. وقال مجاهد : ومِنَ الليل يَعْنِي صلاة الليل، أيّ وقت صلى١٠.
قوله :«وأدبار السجود » قرأ نافع وابن كثير، وحمزة : إدبار بكسر الهمزة١١، على أنه مصدر قَامَ مَقَام ظَرْف الزمَان كقولهم : آتِيكَ خُفُوقَ النّجم وخِلاَفَة الحجّاج. ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها١٢. والباقون١٣ بالفتح جمع ( دُبُر )١٤ وهو آخر الصلاة وعقبها. ومنه قول أوس :
عَلَى دُبُر الشَّهْرِ الْحَرَام فَأَرْضُنَا وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ١٥
ولم يختلفوا في :﴿ وَإِدْبَارَ النجوم ﴾ [ الطور : ٤٩ ].
وقوله :«وأدبار » معطوف إمّا على «قَبْلَ الْغُرُوبِ » وإمّا على «وَمِنَ اللَّيْلِ ».

فصل


قال عمرُ بن الخطاب، وعليُّ بن أبي طالب، والحسنُ، والشعبيُّ، والنخعيُّ والأوزاعي : أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وروي عنه مرفوعاً. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد : أدبار السجود هو التسبيح باللِّسان في أدبار الصلوات المكتوبات، قال - عليه الصلاة والسلام - :«مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُر كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثلاثين وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَحَمَّدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ » فَذَلك تِسْعَةٌ وتسعُونَ ثم قال :«تَمَام المِائَةِ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ له الْمُلْكُ وَلهُ الْحَمْدُ يُحيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ »١٦.
١ وانظر الرازي ٢٨/١٨٤ و١٨٥..
٢ ما بين القوسين سقط من (أ). الأصل..
٣ في (ب) على..
٤ قال بهذا كله الإمام الفخر في التفسير الكبير ٢٥/١٨٥ بالمعنى منه..
٥ يقال شكرته ونصحته، وشكرت له ونصحت له..
٦ فيكون لبيان الأظهر، أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة. وانظر الرازي المرجع السابق..
٧ فيكون متضمنا الشرط، فهو كقوله: "فأما اليتيم فلا تقهر"..
٨ في (ب) أي وهو الصحيح..
٩ وانظر الرازي بالمعنى المرجع السابق ٢٨/١٨٥..
١٠ وانظر تلك المعاني والأقوال في البغوي والخازن ٦/٢٣٩ والقرطبي ١٧/٢٤..
١١ وهي سبعية متواترة ذكرت في الكشف ٢/٢٨٥، والسبعة ٦٠٧ والإتحاف ٣٩٨..
١٢ والتقدير: ومن الليل فسبحه ووقت أدبار السجود، أي وسبحه وقت. أقول: والمصادر تجعل ظروفا على تقدير إضافة أسماء الزمان إليها وحذفها اتساعا وحذف المضاف في هذا الباب هو المستعمل في أكثر الكلام. وانظر الكشف لمكي ٢/٢٨٧..
١٣ وهم أبو عمرو وابن عامر، وعاصم، والكسائي..
١٤ وقد استعمل ذلك أيضا ظرفا، قالوا: جئتك دُبر وكل صلاة. انظر الكشف المرجع السابق..
١٥ من الطويل له كما هو ظاهر في ديوانه دار صادر ٥٨ ورواية الديوان:
وجئنا بها شهباء ذات أشلّةٍ لها عارض فيه المنيّة تلمع
ورواية المؤلف هي رواية البحر لأبي حيان. ورواه ابن يعيش في المفصل٢/٤٥ "جدّت" بدل جدب و"بأرضنا" بدل "فأرضنا" والشاهد: على دبر فالدبر هنا ظرف أيضا ومعناه العَقِب كقولنا: جئتك في دبر كل صلاة. وانظر مجمع البيان ٩/٢٢٢ والسراج المنير ٤/٩١ والبحر المحيط ٨/١٣٠..

١٦ خرجه البغوي في معامل التنزيل عن أبي هريرة، وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/٢٤٠ والقرطبي ١٧/٢٥ و٢٦..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٩:قوله تعالى :﴿ فاصبر على مَا يَقُولُونَ ﴾ من كَذِبِهِمْ، وقولهم بِالاسْتِرَاحَةِ، أو على قولهم : إن هذا لشيء عَجِيبٌ. وهذا قبل الأمر بقتالهم.
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ قيل : هذا أَمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة كقوله تعالى :﴿ وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل ﴾ [ هود : ١١٤ ] وقوله ﴿ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب ﴾ إشارة إلى طرفي النهار، وقوله :﴿ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ ﴾ إشارة إلى ﴿ زُلَفاً مِّنَ الليل ﴾١.
وتقريره أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مشتغلاً بأمرين :
أحدهما : عبادة الله.
والثاني : هداية الخلق، فإذا لم يهتدوا قيل له : أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة.
وقيل : معنى سَبِّحْ بحمد ربك، أي نَزِّههُ عما يقولون ولا تَسْأَمْ من تذكيرهم بعَظَمَةِ الله، بل نَزِّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب ؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله :﴿ وَمِنَ اللّيل فَسَبِّحْهُ ﴾ أوله، لأنه أيضاً وقت اجتماعهم.
وقيل : المعنى : قُلْ سُبْحَان الله، لأن ألفاظاً جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم : كَبَّر لمن قال : اللَّهُ أَكْبَرُ وسلَّم لمن قال : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، وحمَّد لمن قال : الْحَمْدُ لله. وهلَّك لمن قال : لاَ إله إلاَّ الله، وسبَّح لمن قال : سُبْحَان الله، وذلك أن هذه أمورٌ تَتَكَرَّر من الإنسان في الكلام، [ فدعت ]٢ الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا : هلل بخلاف قَوْلِهِمْ : زَيْدٌ فِي السُّوقِ، فإنَّ من قال : زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظاً واحداً مفيداً لذلك لعدم تكرره.
ومناسبة هذا الوجه : هو٣ أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللَّعْنِ، فقيل له : اصْبِرْ عَلَيْهِمْ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله، والحمد لله، ﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت ﴾ أو كنوحٍ - عليهما الصلاة والسلام - حيث قال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ].

فصل


وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما. فإن قلنا : المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك : الأمر بقراءة الفاتحة، كقولك : صَلَّى فلانٌ بسورة كذا. وهذا بعيدٌ.
وإن قلنا المراد : قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فالباء للمصاحبة. وكذلك إن قلنا : معناه التَّنْزِيهُ أي نَزِّهْهُ واحمَدْهُ حيث وَفَّقَكَ لتسبيحه فيكون المفعول محذوفاً، للعلم به، أي نزه الله بحمد ربك، أي ملتبساً أو مقترناً بحمد ربك٤.
وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شَكَرَ ونَصَحَ٥، وإما أن يكون معناها خالصاً لله٦.
وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل. وأعاد الأمر للتسبيح، إما تأكيداً وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة، والثاني بمعنى التَّسْبِيح والذكر. ودخلت الفاء ؛ لأن المعنى : وأمَّا من الليل فسبحه٧.
ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدْبَار السُّجود ؛ ليَعُمَّ الأوقات فيكون كقوله :﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب ﴾ [ الشرح : ٧ ] و«من » إما لابتداء الغاية، أو٨ مِنْ أوَّل الليل، وإمَّا للتبعيضِ٩.

فصل


قال المفسرون : قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح، وقبل الغروب يعني العصر، وروي عن ابن عباس : قبل الغروب الظهر والعصر ﴿ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ ﴾ يعني صلاة المغرب، والعِشَاءِ. وقال مجاهد : ومِنَ الليل يَعْنِي صلاة الليل، أيّ وقت صلى١٠.
قوله :«وأدبار السجود » قرأ نافع وابن كثير، وحمزة : إدبار بكسر الهمزة١١، على أنه مصدر قَامَ مَقَام ظَرْف الزمَان كقولهم : آتِيكَ خُفُوقَ النّجم وخِلاَفَة الحجّاج. ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها١٢. والباقون١٣ بالفتح جمع ( دُبُر )١٤ وهو آخر الصلاة وعقبها. ومنه قول أوس :
عَلَى دُبُر الشَّهْرِ الْحَرَام فَأَرْضُنَا وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ١٥
ولم يختلفوا في :﴿ وَإِدْبَارَ النجوم ﴾ [ الطور : ٤٩ ].
وقوله :«وأدبار » معطوف إمّا على «قَبْلَ الْغُرُوبِ » وإمّا على «وَمِنَ اللَّيْلِ ».

فصل


قال عمرُ بن الخطاب، وعليُّ بن أبي طالب، والحسنُ، والشعبيُّ، والنخعيُّ والأوزاعي : أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وروي عنه مرفوعاً. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد : أدبار السجود هو التسبيح باللِّسان في أدبار الصلوات المكتوبات، قال - عليه الصلاة والسلام - :«مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُر كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثلاثين وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَحَمَّدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ » فَذَلك تِسْعَةٌ وتسعُونَ ثم قال :«تَمَام المِائَةِ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ له الْمُلْكُ وَلهُ الْحَمْدُ يُحيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ »١٦.
١ وانظر الرازي ٢٨/١٨٤ و١٨٥..
٢ ما بين القوسين سقط من (أ). الأصل..
٣ في (ب) على..
٤ قال بهذا كله الإمام الفخر في التفسير الكبير ٢٥/١٨٥ بالمعنى منه..
٥ يقال شكرته ونصحته، وشكرت له ونصحت له..
٦ فيكون لبيان الأظهر، أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة. وانظر الرازي المرجع السابق..
٧ فيكون متضمنا الشرط، فهو كقوله: "فأما اليتيم فلا تقهر"..
٨ في (ب) أي وهو الصحيح..
٩ وانظر الرازي بالمعنى المرجع السابق ٢٨/١٨٥..
١٠ وانظر تلك المعاني والأقوال في البغوي والخازن ٦/٢٣٩ والقرطبي ١٧/٢٤..
١١ وهي سبعية متواترة ذكرت في الكشف ٢/٢٨٥، والسبعة ٦٠٧ والإتحاف ٣٩٨..
١٢ والتقدير: ومن الليل فسبحه ووقت أدبار السجود، أي وسبحه وقت. أقول: والمصادر تجعل ظروفا على تقدير إضافة أسماء الزمان إليها وحذفها اتساعا وحذف المضاف في هذا الباب هو المستعمل في أكثر الكلام. وانظر الكشف لمكي ٢/٢٨٧..
١٣ وهم أبو عمرو وابن عامر، وعاصم، والكسائي..
١٤ وقد استعمل ذلك أيضا ظرفا، قالوا: جئتك دُبر وكل صلاة. انظر الكشف المرجع السابق..
١٥ من الطويل له كما هو ظاهر في ديوانه دار صادر ٥٨ ورواية الديوان:
وجئنا بها شهباء ذات أشلّةٍ لها عارض فيه المنيّة تلمع
ورواية المؤلف هي رواية البحر لأبي حيان. ورواه ابن يعيش في المفصل٢/٤٥ "جدّت" بدل جدب و"بأرضنا" بدل "فأرضنا" والشاهد: على دبر فالدبر هنا ظرف أيضا ومعناه العَقِب كقولنا: جئتك في دبر كل صلاة. وانظر مجمع البيان ٩/٢٢٢ والسراج المنير ٤/٩١ والبحر المحيط ٨/١٣٠..

١٦ خرجه البغوي في معامل التنزيل عن أبي هريرة، وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/٢٤٠ والقرطبي ١٧/٢٥ و٢٦..

قوله تعالى :﴿ واستمع يَوْمَ يُنَادِ ﴾ هو استماع على بابه. وقيل : بمعنى الانتظار. وهو بعيد. فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفاً، أي استمع نِدَاءَ المنادي، أو نداء الكافر بالوَيْل والثبور، فعلى هذا يكون «يَوْمَ يُنَادِي » ظرفاً ل «اسْتَمِعْ » أي استمع ذلك فِي يَوْم. وقيل : استمع ما أقول لك فعلى هذا يكون «يَوْمَ يُنَادِي » مفعولاً به أي انتظر ذَلِكَ الْيَوْمَ١.
وَوَقَفَ ابن كثير على «يُنَادِي » بالياء. والباقون دون ياء. ووجه إثباتها أنه لا مقتضي لحذفها. ووجه حذفها وقفاً اتباع الرسم وكأن الوقْفَ محلّ تخفيفٍ٢.
وأما «المنادي » فأثبت ابن كثير أيضاً ياءَه وصلاً ووقفاً. ونافع وأبو عمرو بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً، وباقي السبعة بحذفهما وصلاً ووقفاً. فمن أثبت، فلأنه الأصل، ومن حذف فلاتباع الرسم. ومن خص الوقف بالحذف فلأنه محلّ راحة ومحلّ تغيير٣.

فصل


في «واستمعْ » وجوه :
الأول : أن يكون مفعوله محذوفاً رأساً، والمقصود : كُنْ مستمعاً ولا تكن مثلَ هؤلاء المُعْرِضين الغافلين، يقال : هو رجل سَمِيعٌ مطيعٌ، ولا يراد : مسموع بعينه.
الثاني : استمع ما يوحى إليك.
الثالث : استمع نداء المنادي.
فإن قيل :«استمع » عطف على «فَاصْبِرْ » وَ«سَبِّحْ » وهو في الدنيا، فالاستماع٤ يكون في الدنيا وما يوحى ( يكون )٥ «يوم ينادي » لا يسمع في الدنيا.
فالجواب : أنه لا يلزم ذلك، لجواز أن يقال : صَلِّ وادْخُلِ الْجَنَّةَ أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العُقْبَى فكذا ههنا.
ويحتمل أن يكون استمع بمعنى انْتَظِرْ. ويحتمل أن يكون المراد : تَأَهَّبْ لهذه الصيحة لئلا يَفْجَأكَ فيُزْعجكَ. والمراد بالمنادي : إما الله تعالى بقوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] وبقوله :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ﴾ أو بقوله :﴿ أَيْنَ شُرَكَائِيَ ﴾ [ النحل : ٢٧ ] ويحتمل أن يكون المراد بالمنادي : إسرافيل قال مقاتل : ينادي إسرافيل بالحشر يا أيتها الْعِظَامُ البالية، والأوْصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشُّعور المتفرقة، إن الله يأمركم أن تجْتَمِعُوا لفَصْل القضاء. أو يكون النداء للنفس فقال :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ ﴾ [ الفجر : ٢٧ - ٢٨ ] إذْ٦ ينادي المنادي هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، ويحتمل أن يكون المنادي : هو المكلف لقوله :﴿ وَنَادَواْ يا مالك ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ]. والظاهر الأول٧ ؛ لأن اللام للعهد والتعريف. والمعهود السابق قوله :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ﴾.
وقوله :﴿ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ أي لا يخفى على أحد. وقيل : منْ صَخْرَة بَيْتِ المَقْدِس وهي٨ وسط الأرض. قال الكلبي : هي أَقرب الأَرض إلى السماء بثمانيةَ عَشَرَ ميلاً٩.
١ قال بذلك معنى الرازي في تفسيره الكبير ٢٨/١٨٧ وأبو حيان في البحر المحيط ٨/١٣٠..
٢ السبعة ٦٠٧ والإتحاف ٣٩٩ والبحر ٨/١٣٠..
٣ المراجع السابقة وانظر الكشف أيضا ٢/٣٨٦..
٤ في (ب) كالاستماع..
٥ سقط من (ب)..
٦ في (ب) أو..
٧ قال الرازي: إلا أن الظاهر أن المراد أحد الوجهين الأولين، لأن قوله: المنادي للتعريف وكون الملك في ذلك اليوم مناديا معروف عرف حاله وإن لم يجر ذكره. وانظر فيما مضى معنى تفسير الإمام ٢٨/١٨٨..
٨ في (ب) وهو..
٩ وانظر هذه المعاني في تفسيري البغوي والخازن ٦/٢٤٠ و٢٤١..
قوله :«يَوْمَ يَسْمَعُونَ » بدل من «يَوْمَ يُنَادِي »١ و«بِالْحَقِّ » حال من «الصَّيْحَة » أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون مُلْتَبِسِينَ بسماع الحق.
قوله ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخروج ﴾ يجوز أن يكون التقدير : ذلك الوقت - أي وقت النداء والسماع - يوم الخروج. ويجوز أن يكون «ذلك » إشارة إلى النداء، ويكون قد اتسع في الظرف فأخبر به عن المصدر، أو فقدر مضاف، أي ذَلِكَ النداء والاستماع نداءُ يوم الخروج، واستماعه٢. واللام في «الصَّيحة » للتعريف، لقوله :﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ [ يس : ٢٩ ]. والمراد بالحق : الحشر أو اليقين، يقال : صَاحَ فلانٌ بِيَقِين لا بظنٍّ وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصَّدى وغيره، أو يكون المراد المقترنة بالحق٣، يقال : اذْهَبْ بالسَّلاَمة وارْجِع بالسَّعَادَة أي مقروناً ومصحوباً.
وقيل :«بالْحَقِّ » قسم، أي يسمعون الصيحة بالله ( وَ )٤ الْحَقِّ. وهو ضعيف٥ وقوله :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الخروج ﴾ أي من القبور.
١ قاله أبو البقاء في التبيان ١١٧٧ وأبو حيان في البحر ٨/١٣٠..
٢ بالمعنى من المرجع السابق وانظر تفسير الرازي ٢٨/١٨٨..
٣ وتكون الباء للتعدية والإلصاق، فإن التعدية قد تتحقق بالباء، يقال: ذُهب بزيد، على معنى ألصِقَ الذهاب بزيد فوجد قائما به فصار مفعولا..
٤ زيادة من النسختين لا معنى لها..
٥ وانظر تفسير الرازي السابق..
قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾ قد تقدم الكلام على قوله: «إنَّا نَحْنُ» في سورة
52
يس. وأما قوله «نُحْيِِي ونُمِيْتُ» فالمراد من الإحياء الإحياء أولاً، وقوله: «وَنُمِيتُ» إشارة إلى الموتة الأولى و «إلَيْنَا المَصِيرُ» بيان للحشر. وهذا إشارة إلى قدرته على الحشر.
قوله: «يَوْمَ تَشَقَّق» يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم» قبله. وقال أبو البقاء: إنه بدل من «يَوْم» الأَوَّل. وفيه نظر من حيث تعدد البدل والمبدل منه واحدٌ. وقد تقدم أنَّ الزَّمخشريَّ مَنَعَهُ.
ويجوز أن يكون «الْيَوْمَ» ظرفاً للمَصِيرِ أي يصيرون إلينا يوم تَشَقَّقُ الأَرْض. وقيل ظرف للخروج. وقيل منصوب ب «يَخْرجُونَ» مقدراً.
وتقدم في الخلاف في «تَشَقَّقُ» في الفُرْقَان.
وقرأ زيد بن علي: «تتشقّق» بفك الإدْغَام.
قوله: «سِرَاعاً» حال من الضمير في «عَنْهُمْ» والعامل فيها «تَشَقَّقُ».
وقيل: عاملها هو العاقل في «يَوْمَ تَشَقَّقُ» المقدّر أي يَخْرُجُون سراعاً يو تشقق؛ لأن قوله تعالى: ﴿عَنْهُمْ﴾ يفيد كونهم مفعولين بالتشقق، فكأن التشقق عُدِّي بحرف الجر، كما يقال: «كَشَفْتُ عَنْهُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ»، فيصير «سراعاً» هيئة المفعول كأنه قال: مُسْرِعِينَ.
والسراع جمع سريع، كالكِرَام جمع كَرِيم. وقوله: «ذَلِكَ» يحتمل أن يكون إشارة إلى التَّشقُّق عَنْهُمْ وإشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله: «سِرَاعاً»، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير. والحَشْر الجمع.
قوله: «عَلَيْنَا» متعلق ب «يَسِيرٌ» ففصل بمعمول الصّفة بينها وبين موصوفها. ولا يضرّ ذلك. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال منه؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون نعتاً.
53
وقال الزمخشري: التقديم للاختصاص، أي لا يَتيَسَّر ذلك إلا على الله وحده أي هو علينا هيِّن لا على غيرنا وهو إعادة جواب لهم.
قوله تعالى: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ يعني كفار مكة في تكذيبك، وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويحتمل أن يكون تهديداً وتخويفاً لأن قوله: «وَإلَيْنَا الْمَصِيرُ» ظاهر في التهديد، وبالعلم يكمل. ونظيره قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ [الزمر: ٧].
ويحتمل أن يكون تقريراً لأمر الحشر بالعلم؛ لأنه لما بين أن الحشر يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته، ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يتبين جزء زيد وجزء بدن عمرو، فقال: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ لكمال قدرتنا، ولا يخفى عَليْنا الأجْزاء لكمال علمنا.
وقوله: «أَعْلَمُ» إما ليست للمشاركة في أصل الفعل كقوله:
﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧] أو معناه نَحْن أَعْلَمُ به من كل عالم بما يعلمه.
قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ أي بمسلِّط تجبر على الإسلام، وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي أنك لست حفيظاً عليهم، ومكلفاً بأن يؤمنوا، إنما أنت منذر، وقد فعلت ما أُمِرْتَ بِهِ.
قال المفسرون: هي منسوخة بآية القتال.
قوله: ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ الخلاف في ياء ﴿وَعِيدِ﴾ [ق: ١٤] إثباتاً وحذفاً. والمعنى دُم على الإنذار ولا تترك الهداية بالكلية، بل ذكِّر المؤمنين فإن الذكرى تنفَعُ المؤمنين.
وقوله: «بِالْقُرْآنِ» أي اتل عليهم القرآن ليحصل لهم المنفعة بسبب ما فيه أو فَذكِّر بالقُرْآنَ بين به أنك رسول الله لكونه معجزاً، أو يكون المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير. وفي قوله: فذكر إشارة إلى أنه مُرْسَل مأمور بالتذكير
54
بالقرآن المنزل عليه، وقوله «وَعِيدِ» إشارة إلى اليوم الآخر وقوله: (وَعيدِ) إشارة إلى الوحدانية، إذ لو قال: وعيد الله لذهب الوَهْمُ إلى كل صَوْب. وضمير المتكلم أعرفُ المعارف، وأبعد عن الاشتراك. وقد تقدم أن أول السورة وآخرها مشتركان في المعنى حيث قال في الأول: ﴿ق والقرآن المجيد﴾ [ق: ١]، وقال في آخرها: «فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ».
روى أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأَ سُورَة ق هَوَّنَ الله عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ».
55
سورة الذاريات
56
قوله :«يَوْمَ تَشَقَّق » يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم » قبله١. وقال أبو البقاء : إنه بدل من «يَوْم » الأَوَّل٢. وفيه نظر من حيث تعدد البدل والمبدل منه واحدٌ. وقد تقدم أنَّ الزَّمخشريَّ مَنَعَهُ.
ويجوز أن يكون «الْيَوْمَ » ظرفاً للمَصِيرِ٣ أي يصيرون إلينا يوم تَشَقَّقُ الأَرْض. وقيل ظرف للخروج. وقيل منصوب ب «يَخْرجُونَ » مقدراً٤.
وتقدم في الخلاف في «تَشَقَّقُ » في الفُرْقَان٥.
وقرأ زيد بن علي :«تتشقّق » بفك الإدْغَام٦.
قوله :«سِرَاعاً » حال من الضمير في «عَنْهُمْ » والعامل فيها «تَشَقَّقُ ».
وقيل : عاملها هو العاقل في «يَوْمَ تَشَقَّقُ » المقدّر أي يَخْرُجُون سراعاً يو تشقق٧ ؛ لأن قوله تعالى :﴿ عَنْهُمْ ﴾ يفيد كونهم مفعولين بالتشقق، فكأن التشقق عُدِّي٨ بحرف الجر، كما يقال :«كَشَفْتُ عَنْهُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ »، فيصير «سراعاً » هيئة المفعول كأنه قال : مُسْرِعِينَ.
والسراع جمع سريع، كالكِرَام جمع كَرِيم٩. وقوله :«ذَلِكَ » يحتمل أن يكون إشارة إلى التَّشقُّق عَنْهُمْ وإشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله :«سِرَاعاً »، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير١٠. والحَشْر الجمع.
قوله :«عَلَيْنَا » متعلق ب «يَسِيرٌ » ففصل بمعمول الصّفة بينها وبين موصوفها. ولا يضرّ ذلك١١. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال منه ؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون نعتاً.
وقال الزمخشري : التقديم للاختصاص، أي لا يَتيَسَّر١٢ ذلك إلا على الله وحده أي هو علينا هيِّن لا على غيرنا وهو إعادة جواب لهم.
١ السابق وأبو حيان في البحر ٨/١٣٠..
٢ التبيان ١١٧٧..
٣ التبيان المرجع السابق والبحر المحيط السابق أيضا..
٤ قال بها دون تحديد من قال بهما أبو حيان في البحر ٨/١٣٠ و١٣١..
٥ عند قوله: ﴿يوم تشقّق السماء بالغمام﴾ وهي الآية ٢٥ منها، فقد قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر "تشقّق" بتشديد القاف فقط. وانظر السبعة ٦٠٧ و٦٠٨ والإتحاف ٣٩٩ كما قرئ: تُشقّق بضم التاء مضارع شُقّقت على البناء للمجهول كما قرئ: تنشق مضارع انشقت، وكلتا القراءتين الأخيرتين من الشواذ ولم ينسبها لأحد أبو حيان في البحر ٨/١٣٠..
٦ ذكرها أبو علي الأهوازي في قراءة زيد بن علي من تأليفه وانظر المرجع السابق..
٧ البحر السابق والتبيان ١١٧٧..
٨ في النسختين عدّي وفي الرازي: عند الخروج من القبر..
٩ وانظر الرازي ٢٨/١٩٠..
١٠ السابق أيضا..
١١ وحسن ذلك كون الصفة فاصلة..
١٢ قال في الكشاف: "وتقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعني لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الأعلى القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن" الكشاف ٤/١٢..
قوله تعالى :﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ يعني كفار مكة في تكذيبك، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون تهديداً وتخويفاً لأن قوله :«وَإلَيْنَا الْمَصِيرُ » ظاهر في التهديد، وبالعلم يكمل. ونظيره قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾١.
ويحتمل أن يكون تقريراً لأمر الحشر بالعلم ؛ لأنه لما بين أن الحشر يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته، ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يبين جزء زيد وجزء بدن٢ عمرو، فقال :﴿ ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ لكمال قدرتنا، ولا يخفى عَليْنا الأجْزاء لكمال علمنا.
وقوله :«أَعْلَمُ » إما ليست للمشاركة في أصل الفعل٣ كقوله :﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ٤ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] أو معناه نَحْن أَعْلَمُ به من كل عالم بما يعلمه٥.
قوله :﴿ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ أي بمسلِّط تجبر على الإسلام، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي أنك لست حفيظاً عليهم، ومكلفاً بأن يؤمنوا، إنما أنت منذر، وقد فعلت ما أُمِرْتَ بِهِ.
قال المفسرون : هي منسوخة بآية القتال.
قوله :﴿ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ الخلاف في ياء ﴿ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ١٤ ] إثباتاً وحذفاً. والمعنى دُم على الإنذار ولا تترك الهداية بالكلية، بل ذكِّر المؤمنين فإن الذكرى تنفَعُ المؤمنين.
وقوله :«بِالْقُرْآنِ » أي اتل عليهم القرآن ليحصل لهم المنفعة بسبب ما فيه أو فَذكِّر بالقُرْآنَ بين به أنك رسول الله لكونه معجزاً، أو يكون المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير. وفي قوله : فذكر إشارة إلى أنه مُرْسَل مأمور بالتذكير بالقرآن المنزل عليه، وقوله «وَعِيدِ » إشارة إلى اليوم الآخر وقوله :( وَعيدِ ) إشارة إلى الوحدانية، إذ لو قال : وعيد الله لذهب الوَهْمُ إلى كل صَوْب. وضمير المتكلم أعرفُ المعارف، وأبعد عن الاشتراك. وقد تقدم أن أول السورة وآخرها مشتركان في المعنى حيث قال في الأول :﴿ ق والقرآن المجيد ﴾، وقال في آخرها :«فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ »٦.
١ من الآية ٧ من الزمر وانظر الرازي ٢٨/١٩١ وتصحيح الآية: ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم. فقد خلط بين آيتي يونس ٢٣ وبين تلك الآية..
٢ كذا في النسختين وفي الرازي: حتى يميز بين جزء بدنين، جزء بدون زيد وجزء بدون عمرو..
٣ أي لا تكون للتفضيل مطلقا..
٤ أي هيّن..
٥ فتكون للتفضيل. و"ويعلَمُه" و لفظ الرازي وهو الأصح وفي النسختين: يعمله..
٦ وانظر تفسير العلامة الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير "٢٨/١٩١ و١٩٢..
Icon