تفسير سورة ق

التفسير المنير
تفسير سورة سورة ق من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

أولا- تشترك السورتان في افتتاح أولها بحرف واحد من حروف الهجاء، والقسم بالقرآن، وقوله: بَلْ والتعجب. كما أن أول السورتين وآخرهما متناسبان، ففي أول ص: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ وفي آخرها: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وفي أول ق: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وفي آخرها:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فافتتح بما اختتم به. أي أن السورتين تبدأ ان بحرف هجاء، وتبتدئان وتنتهيان بالتحدث عن القرآن.
ثانيا- عنيت سورة ص بتقرير الأصل الأول وهو التوحيد، في قوله تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، وعنيت سورة ق بتقرير الأصل الثاني وهو الحشر، في قوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
وبدئت وختمت كل سورة بما يناسبها، فكان افتتاح سورة ص في تقرير المبدأ، ثم قال تعالى في آخرها: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ لحكاية بدء الخلق، لأنه دليل الوحدانية، وكان افتتاح سورة ق لبيان الحشر، ثم قال سبحانه في آخرها: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ فاتفق بدء كل سورة مع خاتمتها.
إنكار المشركين البعث والرّد عليهم
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
278
الإعراب:
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم، وجوابه: إما محذوف تقديره: «ليبعثن» أو جوابه قَدْ عَلِمْنا أي لقد علمنا، فحذفت اللام كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس ٩١/ ٩] أو يكون ما قبل القسم قام مقام الجواب على رأي من يرى أن معنى ق: قضي الأمر، وهو الذي قام مقام الجواب، ودلّ ق عليه. والمعنى: أقسم بالقرآن أنك جئتهم منذرا بالبعث، فلم يقبلوا، بل عجبوا، وهو إضراب إبطالي.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً عامل إِذا فعل مقدر دلّ عليه الكلام، تقديره: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا، ولا يعمل فيه مِتْنا لأنه محل مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.
وَالْأَرْضَ معطوف على موضع إِلَى السَّماءِ.
تَبْصِرَةً وَذِكْرى منصوبان على المفعول لأجله.
وَحَبَّ الْحَصِيدِ تقديره: وحبّ الزرع الحصيد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
باسِقاتٍ حال.
رِزْقاً لِلْعِبادِ منصوب إما مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر.
البلاغة:
فَقالَ الْكافِرُونَ إظهار في موضع مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً استفهام إنكاري لاستبعاد البعث.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إضراب عن الكلام السابق لبيان ما هو أشنع من التعجب، وهو التكذيب بآيات اللَّه وبرسوله.
279
كَذلِكَ الْخُرُوجُ تشبيه مرسل مجمل، شبه إحياء الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة.
المفردات اللغوية:
ق حرف هجاء، يقرأ هكذا: قاف، بإسكان القاف. للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة ما يتلى بعده من الأحكام والأحداث. قال أبو حيان: ق: حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها، فاطّرحت نقلها في كتابي هذا.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم من اللَّه تعالى بالقرآن ذي المجد والشرف على سائر الكتب، ولكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي، قال الراغب: المجد: السعة في الكرم. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم ويخوفهم بالنار بعد بعث رسول من أنفسهم ومن جنسهم. فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي هذا الإنذار، وهو حكاية لتعجبهم، قال البيضاوي: وهذا إشارة إلى اختيار اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم للرسالة، وإضمار ذكرهم، ثم تسجيل الكفر عليهم بذلك.
أَإِذا مِتْنا أي أنبعث أو نرجع إذا متنا. ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي ذلك البعث بعث أو رجوع بعد الموت في غاية البعد عن التصديق والإمكان والعادة. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ تأكل من أجسادهم بعد موتهم، وهو ردّ لاستبعادهم. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ هو اللوح المحفوظ، والحافظ لجميع الأشياء المقدرة وتفاصيلها كلها، وهو تأكيد لعلمه بما يحدث.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات وبالقرآن. فَهُمْ في شأن القرآن والنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب، وهو قولهم تارة: إنه شاعر وشعر، وتارة: إنه ساحر وسحر، وتارة: إنه كاهن وكهانة.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة اللَّه تعالى في خلق العالم. كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد. وَزَيَّنَّاها بالكواكب. وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ شقوق وفتوق تعيبها.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها أي بحسب نظر الإنسان الجزئي إلى الموقع الجغرافي الذي يعيش فيه، لا بالنظرة الكلية الشاملة للأرض، فهي كروية، كما أثبت العلم القديم والحديث، وبخاصة بعد غزو الفضاء وإطلاق الصواريخ ورؤية روّاد الفضاء أنها كرة معلّقة في هذا الكون.
رَواسِيَ أي جبالا ثوابت لحفظ الأرض من الاضطراب. زَوْجٍ صنف من النبات.
بَهِيجٍ حسن مبهج.
280
تَبْصِرَةً وَذِكْرى تبصيرا منا وتذكيرا. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجّاع إلى طاعة اللَّه وتوّاب، متفكر في بدائع صنع اللَّه تعالى. ماءً مُبارَكاً كثيرا الخير والبركة والمنافع.
جَنَّاتٍ بساتين ذات أشجار وأثمار. وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حبّ الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير وغيرهما، والْحَصِيدِ المحصود.
باسِقاتٍ طوالا. طَلْعٌ ما ينمو ويصير بلحا، ثم رطبا، ثم تمرا. نَضِيدٌ منضود، متراكب بعضه فوق بعض. رِزْقاً لِلْعِبادِ علة ل فَأَنْبَتْنا، أو مصدر فإن الإنبات رزق. وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء. بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدباء لانماء فيها، والميت: يستوي فيه المذكر والمؤنث. كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي من القبور، والمعنى كما أحييت هذه البلدة بالماء، يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
التفسير والبيان:
ق عرفنا أنها حرف هجاء، لتحدي العرب بأن يأتوا بمثل القرآن أو آية منه ما دام القرآن مكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون بها، وهي أيضا للتنبيه إلى أهمية ما يأتي بعدها. وأكثر ما جاء القسم بحرف واحد إذا أتى بعده وصف القرآن، كما أن أغلب القسم بالحروف ذكر بعده القرآن أو الكتاب أو التنزيل.
وذكر الرازي تصنيفا دقيقا للقسم من اللَّه بالحروف الهجائية وغيرها، وهو بإيجاز ما يأتي «١» :
أ- وقع القسم من اللَّه بأمر واحد، مثل وَالْعَصْرِ وَالنَّجْمِ، وبحرف واحد مثل: ص، ون.
ب- ووقع بأمرين، مثل: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وبحرفين مثل: طه، طس، يس، حم.
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٤٦ وما بعدها.
281
ج- ووقع بثلاثة أمور، مثل: والصافات، فالزاجرات، فالتاليات، وبثلاثة أحرف، مثل: الم، طسم، الر.
د- وبأربعة أمور، مثل: والذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسمات، وفي: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ.. وفي: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.. ، وبأربعة أحرف، مثل: المص أول الأعراف المر أول الرعد.
هـ- وبخمسة أمور، مثل: وَالطُّورِ.. ، وفي وَالْمُرْسَلاتِ.. ،
وفي: وَالنَّازِعاتِ.. ، وفي وَالْفَجْرِ.. ، وبخمسة أحرف، مثل:
كهيعص، حم عسق. ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول، منعا من الاستثقال.
وفي القسم قد يذكر حرف القسم وهي الواو، مثل: وَالطُّورِ، وَالنَّجْمِ، وَالشَّمْسِ وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم، فلم يقل وق، حم لأن القسم لما كان بالحروف نفسها كان الحرف مقسما به.
وأقسم اللَّه بالأشياء كالتين والطور، وأقسم بالحروف من غير تركيب.
وأقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة، ولم يوجد القسم بالحروف إلا في أوائل السور، وأقسم في أربع عشرة سورة عدا وَالشَّمْسِ بأشياء عددها عدد الحروف، في أوائل السور وفي أثنائها، مثل كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ.
ووقع القسم بالحروف في نصفي القرآن، بل في كل سبع، وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير والسبع الأخير غير وَالصَّافَّاتِ.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ القرآن مقسم به، والمقسم عليه محذوف، أي أقسم
282
بالقرآن الكريم كثير الخير والبركة، أو الرفيع القدر والشرف، أنك يا محمد جئتهم منذرا بالبعث. دلّ على جواب القسم المذكور مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النّبوة، وإثبات المعاد، وهذا كثير في القرآن، مثل: ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي عجب كفار قريش، لأن جاءهم منذر، هو واحد منهم أي من جنسهم، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يكتفوا بمجرد الشّك والرّد، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، فقالوا: كون هذا الرسول المنذر بشرا مثلنا شيء يدعو إلى العجب، وهو كقوله جلّ جلاله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس ١٠/ ٢]، أي وليس هذا بعجيب، فإن اللَّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.
وتعجبوا أيضا من البعث فقالوا كما حكى القرآن:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض وبلينا وصرنا ترابا، كيف يمكن الرجوع بعدئذ إلى هذه البنية والتركيب؟ إن ذلك البعث والرجوع بعيد الوقوع عن العقول، لأنه غير ممكن في زعمهم، وغير مألوف عادة.
فردّ اللَّه تعالى عليهم مبيّنا قدرته على البعث وغيره، فقال:
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أي علمنا علما يقينيّا ما تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى، ولا يخفى علينا شيء من ذلك، فإنا ندري أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أي شيء صارت؟ وعندنا كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها، وهو اللوح المحفوظ
283
الذي حفظه اللَّه من التغيير ومن الشياطين.
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلّ ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب ومنه خلق ومنه يركّب».
والأصح في تقديري أن هذا تقريب لأذهاننا وتمثيل لإحاطة علم اللَّه تعالى بجميع الأشياء والكائنات، وإحصائه كل الوقائع والأعمال، كمن عنده سجل حسابات لكل شاردة وواردة. ولا يمنع ذلك وجود اللوح المحفوظ الذي نؤمن به لوروده في آيات كثيرة أخرى. والآية إشارة إلى جواز البعث وقدرته تعالى عليه.
ثم أبان اللَّه تعالى سبب كفرهم وعنادهم وما هو أشنع من تعجبهم من البعث، وهو تكذيبهم بآيات اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي إن كفار قريش في الحقيقة كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الثابتة بالمعجزات، إنهم كذبوا (بالقرآن وبالنبوة) بمجرد تبليغهم به من قبل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر، فهم في أمر دينهم في أمر مختلط مضطرب، يقولون مرة عن القرآن والنّبي: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة، فهم في قلق واضطراب ولبس، لا يدرون ماذا يفعلون، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات ٥١/ ٨- ٩].
ثم أقام اللَّه تعالى الدليل على قدرته العظيمة على البعث وغيره، على حقيقة المبدأ والمعاد، فقال:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي أفلم ينظر هؤلاء الكفار بأم أعينهم، المكذبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا العظمى، إلى هذه السماء بصفتها العجيبة، فهي مرفوعة بغير أعمدة تعتمد عليها، ومزيّنة بالكواكب المنيرة كالمصابيح، وليس فيها شقوق وفتوق
284
وصدوع، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك ٦٧/ ٣- ٤] أي يرجع كليلا عن أن يرى عيبا أو نقصا. وقوله: فَوْقَهُمْ مزيد توبيخ لهم، ونداء عليهم بغاية الغباوة.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي وكذلك، أولم ينظروا إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد بأهلها وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف ذي بهجة وحسن منظر، من جميع الزروع والثمار والأشجار والنباتات المختلفة الأنواع، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات ٥١/ ٤٩].
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي فعلنا ذلك لتبصرة العباد وتذكيرهم، فيتبصر بكل ما ذكر ويتأمل العبد المنيب الراجع إلى ربّه وطاعته، ويفكر في بدائع المخلوقات.
ثم أوضح اللَّه تعالى كيفية الإنبات، فقال:
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي ولينظروا إلى قدرتنا كيف أنزلنا من السحاب ماء المطر الكثير المنافع، المنبت للبساتين الكثيرة الخضراء والأشجار المثمرة، وحبات الزرع الذي يحصد ويقتات كالقمح والشعير ونحوهما.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أي وأنبتنا به أيضا النخيل الطوال الشاهقات، التي لها طلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل) منضّد متراكم بعضه على بعض، والمراد كثرة الطلع وتراكمه الدال على كثرة التمر.
285
وفائدة إعادة هذا الدليل بعد المذكور في الآية السابقة: هو أن قوله:
فَأَنْبَتْنا بِهِ استدلال بالنبات نفسه، أي الأشجار تنمو وتزيد، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد، بأن يرجع إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء.
رِزْقاً لِلْعِبادِ، وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي أنبتنا كل ما ذكر للرزق، أي إن إنبات النباتات والأشجار والنخيل، ليكون أرزاقا وأقواتا للعباد. وأحيينا بالماء بلدة مجدبة، لا ثمار فيها ولا زرع، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحياء اللَّه به الأرض الميتة، فكما أن هذا مقدور لله، فذلك أيضا مقدور له. وهذا تشبيه قريب الإدراك، ومن واقع الحياة الملحوظة المجاورة للإنسان، وهو أيضا تفخيم لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث في مقدور القدرة الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- القرآن كثير الخير والمنفعة عظيم المجد والقدر والرفعة، وقد أقسم اللَّه به للدلالة على ما فيه من الخيرات.
٢- لقد تعجب الكفار من قريش من أمرين: إرسال رسول بشر يخوفهم من عذاب اللَّه من جنسهم وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإمكان حدوث البعث والمعاد والرجوع إلى الحياة بعد الموت مرة أخرى.
٣- إن اللَّه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وعالم بكل شيء، فهو سبحانه قادر على إحياء الموتى، عالم بما تؤول إليه الأجساد من ذرأت متفتتة وعظام بالية، ولا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على جمعها وتأليفها
286
وإحيائها مرة أخرى، كما خلق الناس جميعا في مبدأ الأمر من التراب: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه ٢٠/ ٥٥].
٤- إن سبب تكذيب الكفار بالبعث وبالمعاد وعنادهم: هو تكذيبهم بالحق الثابت الذي لا شكّ فيه، وهو القرآن الكريم المنزل من عند اللَّه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والنبوة الثابتة بالمعجزات، فصاروا في أمر دينهم في قلق واضطراب.
٥- الأدلة على قدرة اللَّه تعالى العظيمة لإثبات البعث وإمكانه كثيرة، منها خلق الكون المشتمل على السموات المبنية بغير أعمدة، المزينة بالكواكب المنيرة، الخالية من الشقوق والصدوع، والمتضمن الأرض البديعة الجميلة التي بسطها اللَّه لتصلح للعيش الهنيء المريح، وثبتها بالجبال الراسخات الشامخات، وأنبت فيها النباتات والأشجار ذات الألوان المختلفة والأشكال العجيبة والروائح العطرة والثمار الطيبة اليانعة.
فعل اللَّه ذلك تبصيرا وتنبيها للعباد على قدرته، وتذكيرا لكل عبد راجع إلى اللَّه تعالى، مفكّر في قدرته.
٦- ومن أدلة القدرة الفائقة لله تعالى إنزال المطر الكثير البركة والنفع من السحاب، الذي أنبت به البساتين، والحبوب المحصودة زروعها، المقتاتة على مدار العام، والنخيل الطوال الشاهقات ذات الطلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل).
٧- وكما أحيا اللَّه هذه الأرض الميتة، فكذلك يخرج الناس أحياء بعد موتهم. وهذا دليل الإبقاء للأشياء المخلوقة بعد ذكر دليل الإحياء، فأبان تعالى أولا أنه يحيي الموتى، ثم بيّن أنه يبقيهم.
287
والخلاصة: أن الآيات اشتملت على أدلة أربعة على جواز البعث وإمكانه، وهي علم اللَّه تعالى الشامل بمصير الأجساد بعد موتها، وخلقه السموات وتزيينها بالكواكب وتسويتها دون شقوق أو صدوع، وخلقه الأرض وما فيها من جبال وأنهار ونباتات وحيوانات، وإنزاله المطر من السحاب وإخراج النبات، وهذا دليل مما بين السماء والأرض.
ويلاحظ أنه تعالى ذكر في كل آية ثلاثة أمور متناسبة، ففي آية السماء ذكر البناء والتزيين وسدّ الفروج، وفي آية الأرض ذكر المدّ وإلقاء الرواسي والإنبات فيها، وكل واحد هنا في مقابلة واحد مما سبق، فالمدّ في مقابلة البناء، لأن المدّ وضع والبناء رفع، والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزيّنة لها، والإنبات في الأرض شقّها. وفي آية المطر ذكر إنبات الجنات والحبّ والنخل، وهذه الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة: وهي ما له أصل ثابت يستمر مكثه في الأرض سنين وهو النخيل، وما ليس له أصل ثابت مما لا يطول مكثه في الأرض وهو الحبّ ويتجدد كل سنة، وما يجتمع فيه الأمران وهو البساتين، وهذه الأنواع تشمل مختلف الثمار والزروع «١».
التذكير بحال المكذبين الأولين
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٢ الى ١٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٦٥، ١٥٨.
288
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أنث الفعل كَذَّبَتْ لمعنى قوم وَأَصْحابُ الرَّسِّ أصحاب بئر لم تطو أي لم تبن، كانوا مقيمين عليها بمواشيهم، يعبدون الأصنام، وهم قوم باليمامة، وقيل:
أصحاب الأخدود، ونبيهم المزعوم: حنظلة بن صفوان أو غيره وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ الغيضة الكثيفة الملتفة الشجر، وهم قوم شعيب عليه السلام وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري ملك اليمن، أسلم ودعا قومه إلى الإسلام، فكذّبوه كُلٌّ من المذكورين، أي كل واحد أو قوم منهم، أو جميعهم كَذَّبَ الرُّسُلَ إفراد الضمير لإفراد لفظه فَحَقَّ وَعِيدِ وجب نزول العذاب على الجميع، وحل عليهم وعيدي. وفيه تسلية للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتهديد لهم، أي فلا يضيق صدرك من كفر قريش بك.
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ لم نعي به، فلا نعيا بالإعادة، من العيّ عن الأمر: العجز عنه بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ بل هم في شك وحيرة من البعث، أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط وشبهة من خلق مستأنف، لما فيه من مخالفة العادة. وتنكير كلمة بِالْخَلْقِ لتعظيم شأنه والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد.
المناسبة:
بعد بيان تكذيب مشركي قريش والعرب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ذكّرهم اللَّه تعالى وهددهم بما عاقب به أمثالهم من المكذبين قبلهم في الدنيا كقوم نوح وغيرهم، تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. ثم ذكر تعالى دليلا جديدا على البعث وهو خلق الأنفس في بداية أمر الخلق.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، وَأَصْحابُ الرَّسِّ، وَثَمُودُ، وَعادٌ، وَفِرْعَوْنُ، وَإِخْوانُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، وَقَوْمُ تُبَّعٍ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ وَعِيدِ أي إن اللَّه سبحانه هدد كفار قريش بأن يعاقبهم بمثل ما عاقب به الأمم السابقة قبلهم، الذين كذبوا رسلهم، فعذبهم اللَّه إما بالطوفان كقوم نوح عليه السلام، أو بالغرق في البحر كقوم فرعون، أو بريح صرصر عاتية كعاد قوم هود، أو
289
بالريح الحاصب التي تأتي بالحصباء وخسف الأرض وهم قوم لوط، أو بالصيحة وهم ثمود وأهل مدين وأصحاب الرس وأصحاب الأيكة قوم شعيب، أو بالخسف وهو قارون وأصحابه.
والسبب أن كلا من هذه الأمم كذب رسوله الذي أرسله اللَّه إليه، فوجب عليهم ما أوعدهم اللَّه تعالى، وحقّت عليهم كلمة العذاب على التكذيب، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم مثلما أصاب هؤلاء الأقوام، لاشتراكهم في العلة، وتكذيبهم رسولهم كما كذب أولئك رسلهم.
ثم ذكر اللَّه تعالى دليلا على إمكان البعث من الأنفس، فقال:
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أي أفعجزنا بالخلق المبتدأ الأول حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا، أو بابتداء الخلق، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم مرة أخرى؟! الحق أننا لم نعجز، والإعادة أسهل من الابتداء، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧] وقال جل جلاله: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٨- ٧٩].
وجاء في الحديث القدسي الصحيح: «يقول اللَّه تعالى: يؤذيني ابن آدم، يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».
وإنما هم في شك وحيرة واختلاط من خلق مبتدأ مستأنف، وهو بعث الأموات، فهم معترفون بأن اللَّه هو مبدئ الخلق أولا، فلا وجه لإنكارهم البعث. وهذا توبيخ للكفار وإقامة الحجة الواضحة عليهم.
290
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا تهديد لكفار قريش وأمثالهم بأحوال الأمم السابقة، وقد تكرر ذلك في القرآن مرارا، لتأكيد العبرة والعظة، فإن من كذب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استحق مثل عقاب الأمم الذين كذبوا رسلهم، فهو تذكير بأنباء من قبلهم من المكذبين، وتخويف بما أصابهم من العذاب الأليم في الدنيا.
وفيه أيضا تسلية للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى لا يضيق صدره بتكذيب قومه له، وكفرهم برسالته. وفي الآيات إشارة إلى أن الرسل جميعا جاؤوا بالتوحيد وبإثبات البعث.
ثم وبّخ اللَّه تعالى منكري البعث، وأجاب عن قولهم: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ بأنه هل عجز اللَّه عن ابتداء الخلق حتى يعجز عن إعادته؟ وهذا دليل من الأنفس مضاف إلى الأدلة السابقة من الآفاق على صحة البعث وإمكانه عقلا وعادة، فالذي لم يعجز عن الخلق الأول، كيف يعجز عن الإعادة؟! والحقيقة أنهم في حيرة من البعث والحشر، منهم المصدّق، ومنهم المكذّب، وليس تكذيب المكذبين إلا كفرا وعنادا.
تقرير خلق الإنسان وعلم اللَّه بأحواله
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
291
الإعراب:
وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ نَعْلَمُ: في محل حال، أي نحن نعلم. وما: اسم موصول بمعنى الذي، وتُوَسْوِسُ: صلته، وبِهِ: في موضع نصب متعلق بصلة الموصول، وهاء بِهِ تعود على ما.
إِذْ يَتَلَقَّى إِذْ: ظرف، منصوب باذكر مقدرا.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ قَعِيدٌ: إما خبر عن الأول أو عن الثاني، فإن كان عن الأول فأخّر اتساعا، وحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وإن كان عن الثاني، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. أو هو خبر عن الاثنين، ولا حذف في الكلام، في قول الفراء.
مَعَها سائِقٌ سائِقٌ: إما مبتدأ، وخبره مَعَها والجملة في موضع جر، لأنها صفة ل نَفْسٍ أو مرفوع بالظرف.
البلاغة:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ استعارة تمثيلية، مثّل اللَّه تعالى علمه بأحوال العبد بحبل الوريد القريب من القلب، للدلالة على القرب بطريق الاستعارة.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ حذف بالإيجاز، أصله عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. وبين الْيَمِينِ والشِّمالِ طباق.
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ استعارة تصريحية، استعار لفظ السكرة لهول الموت وشدته.
الْوَرِيدِ، قَعِيدٌ، عَتِيدٌ، تَحِيدُ، الْوَعِيدِ، شَهِيدٌ، حَدِيدٌ توافق فواصل وسجع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
تُوَسْوِسُ تحدث، من الوسوسة: الصوت الخفي، ومنها وسواس الحلي والمراد: ما يخطر بالبال أو حديث النفس حَبْلِ الْوَرِيدِ العرق في صفحة العنق، ولكل إنسان وريدان، والإضافة للبيان إِذْ أي اذكر حين يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان ما يعمله قَعِيدٌ مقاعد، كجليس بمعنى مجالس.
رَقِيبٌ ملك يرقب قوله وعمله ويكتبه ويحفظه عَتِيدٌ حاضر مهيأ لكتابة الخير
292
والشر، فملك اليمين يكتب الخير، وهو أمير على كاتب السيئات، وملك الشمال يكتب الشر سَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته التي تذهب بالعقل بِالْحَقِّ بحقيقة الأمر ذلِكَ الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تهرب وتفزع وتميل عنه، والخطاب للإنسان.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الوعيد وتحققه للكفار بالعذاب وَجاءَتْ فيه كُلُّ نَفْسٍ إلى المحشر سائِقٌ وَشَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقها إلى أمر اللَّه، والآخر يشهد على النفس بعملها.
لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الذي ينزل بك غِطاءَكَ الغطاء الحاجب لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في ملذات الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حادّ نافذ تدرك به ما أنكرته في الدنيا.
المناسبة:
بعد أن أقام اللَّه تعالى الأدلة الساطعة على إمكان البعث في الآفاق والأنفس، شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم اللَّه تعالى، وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. ثم أخبر عن انكشاف الحقيقة بالموت، وإتيان ملكين بكل نفس يوم القيامة للسوق إلى المحشر والشهادة عليها، ورفع حجاب الغفلة عن كل إنسان، وإدراكه أحوال المعاد والحشر.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي تالله لقد أوجدنا الإنسان (وهو اسم جنس) ونعلم بجميع أموره، حتى ما يختلج في سره وقلبه وضميره من الخير والشر، ونحن أقرب إليه من حبل وريده، فكيف يخفى علينا شيء مما في قلبه، فقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ معناه أن اللَّه تعالى لا يحجب عنه شيء، وقال ابن كثير: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده.
فهذا إخبار من اللَّه تعالى بأنه خلق الإنسان، وأن علمه محيط بجميع أموره،
293
حتى ما يجول في خاطره، وحتى حديث النفس، وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله. لكن لا عقاب على حديث النفس،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصحيح: «إن اللَّه تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به» «١».
والآية لإقامة الحجج على الكفار في إنكارهم البعث.
ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه بما في قلب ابن آدم وكّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله، إلزاما للحجة، فقال:
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي ونحن أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به، فيأخذان ذلك ويثبتانه، عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، والقعيد: من يقعد معك. فملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات.
جاء في الحديث عن أبي أمامة: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعله يسبّح أو يستغفر». «٢».
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أي ما يتكلم ابن آدم من كلمة إلا ولها من يرقبها، وهو حاضر معدّ لذلك، يكتبها، لا يترك كلمة
(١) أخرجه أصحاب الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) عن أبي هريرة، وأخرجه الطبراني عن عمران بن حصين رضي اللَّه عنه.
(٢) ذكره الزمخشري والقرطبي والبيضاوي، وروى ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس مثل ذلك، فقال: صاحب اليمين يكتب الخير، وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر اللَّه تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها.
294
ولا حركة، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار ٨٢/ ١٠- ١٢]. والرقيب: المتبع للأمور، والحافظ لها، والعتيد: الحاضر الذي لا يغيب والمهيأ للحفظ والشهادة.
وظاهر الآية أن الملك يكتب كل شيء من الكلام، وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب. يؤيد الأول
الحديث الحسن الصحيح: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللَّه عزّ وجلّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللَّه تعالى عليه بها سخطه إلى يوم القيامة» «١»
فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. قال الحسن البصري وقتادة: يكتبان جميع الكلام، فيثبت اللَّه تعالى من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير ذلك.
وقال الحسن البصري، وتلا هذه الآية: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك، فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ، طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ثم يقول: عدل، واللَّه، فيك من جعلك حسيب نفسك.
وبعد بيان إنكارهم للبعث والردّ عليهم بإخبارهم عن قدرته وعلمه، أخبرهم
(١) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وله شاهد في الصحيح.
295
اللَّه تعالى عن ملاقاة صدق ذلك حين الموت وحين القيامة، وعن قرب القيامتين: الصغرى والكبرى، فقال عن الأولى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي يا أيها الإنسان، جاءت شدة الموت وغمرته التي تغشي الإنسان، وتغلب على عقله ببيان اليقين الذي يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الأخبار بالبعث والوعد والوعيد، والذي كنت تمتري فيه، ذلك الموت أو ذلك الحق الذي كنت تميل عنه وتفرّ منه. والخطاب للإنسان على طريق الالتفات في قوله:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إذا فسر ب: ذلك الموت، والخطاب للفاجر إذا فسر ب: ذلك الحق.
والباء في بِالْحَقِّ للتعدية، أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلية الحال، من تحقق وقوع الموت، أو من سعادة الميت أو ضدها، كما نطق بها الكتاب والسّنة.
جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنه لما تغشاه الموت، جعل يمسح العرق عن وجهه، ويقول: «سبحان اللَّه، إن للموت لسكرات».
ثم قال اللَّه تعالى مخبرا عن القيامة الكبرى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي ونفخ في الصور نفخة البعث، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد اللَّه به الكفار بالعذاب في الآخرة.
جاء في الحديث الثابت: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا:
يا رسول اللَّه، كيف نقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، فقال القوم: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل»
.
296
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ أي وأتت كل نفس من نفوس البشر، بالبدن والروح، معها ملك يسوقها إلى المحشر، وملك يشهد عليها أو لها بالأعمال من خير أو شرّ.
ويقال للإنسان حينئذ:
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي يقال للكافر أو لكل أحد من برّ وفاجر: لقد كنت في الدنيا غافلا عن هذا المصير وهذا اليوم، فرفعنا عنك الحجاب الذي كان لديك، والذي كان بينك وبين أمور الآخرة، فبصرك اليوم قوي نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في حياتك، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا مصيره، ومدركا ما أنكره في الدنيا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن خلق اللَّه تعالى الإنسان، وعلمه بكل ما يصدر منه حتى حديث النفس، دليل على قدرته تعالى على البعث، وإعادة الناس أحياء يوم القيامة.
٢- إن علم اللَّه بالإنسان وغيره شامل، لا يخفى عليه شيء، ولا يحجب عنه شيء، وقد مثّل تعالى قربه من الإنسان بأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وهو مجاز يراد به قرب علمه منه، وشمول معلومه عنه، وليس المراد قرب المسافة.
قال القشيري في آية: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ: في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.
٣- إن اللَّه تعالى أعلم بأحوال الإنسان من غير وساطة ملك، فهو لا يحتاج إلى ملك يخبر، ولكن توكيل ملكي اليمين والشمال بكل إنسان للإلزام بالحجة، وتوكيد الأمر عليه.
297
٤- يحصي الملكان كل شيء من أقوال الإنسان وأعماله، فما يتكلم بشيء إلا كتب عليه، وما يفعل من شيء إلا دوّن عليه، قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه.
٥- ما دام الإنسان حيا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت ويدرك الحق: وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان اللَّه تعالى وعده وأوعده، ويقال لمن جاءته سكرة الموت: ذلك ما كنت تفر منه وتهرب.
٦- إذا نفخ في الصور النفخة الآخرة للبعث، فذلك اليوم الذي وعده اللَّه للكفار أن يعذبهم فيه.
٧- يصحب كل إنسان يوم القيامة ملكان: سائق يسوقه إلى المحشر، وشاهد يشهد له وعليه بأعماله. قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس، فالسائق ملائكة موكلون بذلك، والشهيد: الحفظة وكل من يشهد.
٨- يقال للإنسان البر والفاجر يوم القيامة: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من عواقب الأمور، فاليوم تتيقظ وتبصر ما لم تكن تبصره من الحقائق، وما لم تكن تصدّق به في الدنيا، وتتغافل عن النظر فيه، كالإيمان بالله وحده لا شريك له، والتصديق برسوله، وبالبعث والحشر والحساب.
298
الحوار بين الكافر وقرينه الشيطان يوم القيامة.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)
الإعراب:
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا: مبتدأ، وخبره: ما التي هي نكرة موصوفة بمعنى شيء. وعَتِيدٌ: إما خبر ثان، أو صفة ل ما أو بدل من ما.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أَلْقِيا: الخطاب للسائق والشهيد، فهو خطاب لاثنين، أو الخطاب لملك واحد هو مالك خازن النار، لأن من عادة العرب مخاطبة الواحد بلفظ الاثنين، أو تثنية ما يقال له: ألق ألق، أو ألقين بنون التوكيد الخفيفة، لكنه ضعيف، لأن مثل هذا يكون في الوقف على الكلام لا في الوصل.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي: إما مرفوع على أنه مبتدأ ضمّن معنى الشرط، وخبره:
فَأَلْقِياهُ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو منصوب على أنه بدل من قوله تعالى: كُلَّ كَفَّارٍ أو منصوب بفعل مقدّر يفسره فَأَلْقِياهُ.
يَوْمَ نَقُولُ يَوْمَ: ناصبه ظلّام.
البلاغة:
بين قوله عَتِيدٌ وعَنِيدٍ جناس ناقص لتغاير حرفي النون والتاء.
299
المفردات اللغوية:
قَرِينُهُ الملك الموكّل به أو الشيطان الذي قيض له، والثاني أصح بدليل قوله: قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا... عَتِيدٌ مهيأ معدّ لجهنم، حاضر لدي عَنِيدٍ معاند للحق. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمفروض كالزكاة، وقيل: المراد بالخير: الإسلام. مُعْتَدٍ ظالم متعد للحق.
مُرِيبٍ شاك في اللَّه وفي دينه وأخباره.
فَأَلْقِياهُ تكرار للتأكيد. قالَ قَرِينُهُ الشيطان المقيض له في قوله تعالى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف ٤٣/ ٣٦]. رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أضللته، كأن الكافر قال:
هو أطغاني، فقال: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بعيد عن الحق، أي فأعنته على ضلاله، فإن إغواء الشيطان إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي، مائلا إلى الفجور، كما قال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم ١٤/ ٢٢].
لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ لا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فلا ينفع الخصام والجدال هنا.
وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أخبرتكم في الدنيا وتقدمت إليكم في الكتب بالرسل بوعيدي بالعذاب في الآخرة إذا لم تؤمنوا. ما يُبَدَّلُ بغير. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي فلا أعذب بغير جرم، وظلام: ذو ظلم، لقوله تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر ٤٠/ ١٧].
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ زيادة، وهذا سؤال وجواب جيء بهما لتصوير ملء النار بالناس والجن، وهي من السعة بحيث يدخلها من يدخلها، ويبقى فيها فراغ بعدئذ.
سبب النزول: نزول الآيات (٢٤- ٢٦) :
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ..: قيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة، لما منع بني أخيه عن الخير وهو الإسلام.
المناسبة:
بعد بيان أحوال الناس يوم القيامة وعند الموت، ذكر اللَّه تعالى صورة حوار بين الكافر وقرينه الشيطان، في يوم القيامة، لمعرفة مدى جناية الإنسان على
300
نفسه، وزجّها في نيران جهنم، وإصغائه لوساوس الشيطان وإغراءاته، وتأثره بها بسبب خلل رأيه، وضعف عقله، وميله إلى الفجور.
التفسير والبيان:
وَقالَ قَرِينُهُ: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي قال الملك الموكل به بابن آدم:
هذا ما عندي من كتاب عملك معدّ محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد:
هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته، واختار ابن جرير: أنه يعم السائق والشهيد.
وفسر الزمخشري القرين هنا بأنه هو الشيطان الذي قيض للإنسان في قوله تعالى: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف ٤٣/ ٣٦] ويشهد له قوله تعالى بعدئذ: قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ يقول الشيطان: هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم، والمعنى: أن ملكا يسوقه، وآخر يشهد عليه، وشيطانا مقرونا به يقول: قد اعتدته لجهنم وهيّأته لها بإغوائي وإضلالي.
وقد رجحت الرأي الثاني، لأن الشيطان هو قرين كل فاجر، يقول لأهل المحشر، أو لسائر القرناء: قد هيّأت قريني لجهنم.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أي يقول اللَّه تعالى للسائق والشهيد:
اطرحا في جهنم كل من كفر بالله أو أشرك به شريكا آخر، مكابر معاند للحق وأهله، كثير الكفر والتكذيب بالحق، معارض له بالباطل مع علمه بذلك.
وهو أيضا كثير المنع للخير كالزكاة، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق، ولا يبذل خيرا لأحد من قريب أو فقير بصلة رحم أو صدقة، ويمنع أقاربه عن الدخول في الإسلام، قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كما تقدم، كان يمنع بني
301
أخيه من الإسلام، وكان يقول: من دخل منكم في الإسلام، لم أنفعه بخير ما عشت.
وهو متعد على الناس بالفحش والأذى والبطش، متجاوز الحد في الإنفاق من ماله، ظالم لنفسه لا يقر بتوحيد اللَّه، شاكّ في الحق وفي أمره وفي دين اللَّه، ومشكك غيره.
لكل هذا أكد اللَّه تعالى إلقاءه في جهنم فقال للملكين، أو لمالك خازن النار جريا على عادة الكلام في مخاطبة الواحد بخطاب الاثنين: فألقياه في النار ذات العذاب الشديد.
جاء في الحديث: أن عنقا من النار يبرز للخلائق، فينادي بصوت يسمع الخلائق: إني وكّلت بثلاثة: بكل جبّار عنيد، ومن جعل مع اللَّه إلها آخر، وبالمصوّرين، ثم تنطوي عليهم.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «يخرج عنق من النار، يتكلم يقول: وكّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع اللَّه إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير نفس، فتنطوي عليهم، فتقذفهم في غمرات جهنم».
ثم ذكر اللَّه تعالى صورة من الحوار بين الكافر والشيطان قرينه، فقال:
قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي يقول الشيطان عن قرينه الذي وافى القيامة كافرا، متبرئا منه: يا ربنا ما أضللته أو أوقعته في الطغيان، بل كان هو في نفسه ضالا، مؤثرا الباطل، معاندا للحق بعيدا عنه، فدعوته فاستجاب لي، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه، أي وكأن الكافر يريد الاعتذار قائلا: يا ربّ إن قريني الشيطان أطغاني، فأجاب القرين الذي قيض له وهو الشيطان: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ.
302
وهذا اعتراف بالحقيقة، كما قال الشيطان في آية أخرى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم ١٤/ ٢٢].
قالَ: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي قال الرب عز وجل لهما- للكافر وقرينه الشيطان: لا تتخاصموا ولا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فإني تقدمت إليكم في الدنيا بالإنذار والوعيد، وأعذرت إليكم على ألسنة الرسل، وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج والبراهين، والمراد أن اعتذاركم الآن غير نافع لدي.
وأضاف اللَّه تعالى برد آخر قائلا:
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي قضيت ما أنا قاض، ولا يغير حكمي وقضائي، ولا خلف لوعدي، بل هو كائن لا محالة، وقد قضيت عليكم بالعذاب بسبب كفركم، فلا تبديل له، ولا أعذب أحدا ظلما بغير جرم اجترمه أو ذنب اقترفه أو أذنبه بعد قيام الحجة عليه.
ثم أكد اللَّه تعالى حلول العذاب في جهنم قائلا:
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ أي اذكر يا محمد لقومك وأنذرهم حين يقول اللَّه تعالى لجهنم: هل امتلأت بالأفواج من الجنّة والناس؟ فتنطق جهنم وتجيبه قائلة: هل بقي شيء من زيادة تزيدونني بها؟
والمراد أنها اكتفت وامتلأت بما ألقي فيها، أي لا أسع أكثر من ذلك فإني قد
303
امتلأت «١»، ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظا على العصاة، وتضييقا للمكان عليهم.
قال أهل المعاني: سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل والتصوير الذي يقصد به تقرير وتصوير المعنى في النفس وتثبيته، وفيه معنيان كما تقدم:
أحدهما- أنها تمتلئ مع اتساعها، حتى لا يزاد عليها شيء، والثاني- أنها من السعة حيث يدخلها من يدخلها، وفيها موضع للمزيد «٢».
وقد أورد ابن كثير عدة أحاديث تؤيد مدلول الآية بالمعنى الأول وهو استكثارها الداخلين، لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [هود ١١/ ١١٩] منها:
ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها، فتقول: قط قط»
أي كفى كفى.
وأخرج مسلم في صحيحة عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «احتجّت الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبّارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضي بينهما، فقال للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحد منكما ملؤها».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- يقدّم الملك الموكّل بالإنسان ما عنده من كتابة عمله المعدّ المحفوظ.
(١) وعلى هذا يكون الاستفهام الأول للتقرير، فالله يقررها بأنها امتلأت، أي يجعلها تقر بذلك، والاستفهام الثاني بمعنى النفي، أي لا أسع غير ذلك، وهو جواب الاستفهام الأول.
(٢) الكشاف: ٣/ ١٦٣ [.....]
304
ويقدّم الشيطان قرناءه فيقول: هذا العاصي معدّ عندي لجهنم، أعددته بالإغواء والإضلال.
٢- إن من كبائر الأعمال الموجبة لعذاب جهنم: الكفر بالله والشرك به، ومعاندة الحق ومكابرته، وإيثار الباطل وأهله، ومنع المال عن حقوقه، أو منع الناس عن الإسلام، وتجاوز الحد المعتدل في الإنفاق، والتكذيب بالحق، والشك في دين اللَّه، وتشكيك الآخرين، وجعل شريك آخر معبود مع اللَّه.
٣- يؤمر الملكان: السائق والشهيد بإلقاء الكافر العنيد المتصف بما ذكر في نار جهنم ذات العذاب الأليم الشديد، ويؤكد اللَّه تعالى أمره بإلقاء الكفار.
٤- كل من الشيطان والفاجر الكافر يلقي التبعة في كفره على الآخر ويتبرأ الشيطان من الكافر ويكذبه يوم القيامة، وينسب الطغيان والكفر له، لا لنفسه، والحق أن كلا الفريقين في النار، وقد أعذر من أنذر، واللَّه تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الإنس والجن، فاختار كل منهما ما يحلو له.
٥- يستحيل الظلم على اللَّه تعالى، فهو سبحانه لا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يعذب من لا يستحق العذاب، ولا يغير قضاءه المبرم، وحكمه العادل الذي حكم به.
٦- يملأ اللَّه تعالى جهنم بالكفار والمشركين والملحدين والماديين والعصاة حتى لا يبقى فيها موضع لزيادة، أو أنها تطلب الزيادة تغيظا على الكفار، وتضييقا للمكان عليهم.
305
حال المتقين
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)
الإعراب:
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ.. مَنْ: إما بالجر على البدل من أَوَّابٍ حَفِيظٍ وإما بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره قوله تعالى: ادْخُلُوها على تقدير، يقال لهم: ادخلوها.
ولِكُلِّ أَوَّابٍ: بدل من قوله: لِلْمُتَّقِينَ، بإعادة الجارّ.
المفردات اللغوية:
وَأُزْلِفَتِ قرّبت لهم. غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد منهم، بل هو بمرأى منهم، فهي منصوبة على الظرف، ويجوز أن تكون غَيْرَ حالا، وذكّرت كلمة بَعِيدٍ لأنها صفة لشيء محذوف، أي شيئا غير بعيد، أو لأن الجنة بمعنى البستان، أو على زنة المصدر كالزفير والصهيل، كما تقرر في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف ٧/ ٥٦].
هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم: هذا ما توعدون، والإشارة إلى الثواب، أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل، ويقرأ أيضا بالياء: يوعدون. أَوَّابٍ كثير الرجوع إلى اللَّه تعالى وطاعته. حَفِيظٍ كثير الحفظ أي حافظ لحدود اللَّه وشرائعه.
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ من خاف عقاب اللَّه، وهو غائب عن الأعين، فلم يره أحد.
مُنِيبٍ مقبل على طاعة اللَّه. ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي يقال لهم: أدخلوها سالمين من كل خوف أو مسلّما عليكم من اللَّه وملائكته. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي ذلك اليوم الذي حصل فيه الدخول يوم الخلود في الجنة، إذ لا موت فيها، أي يوم تقدير الخلود، كقوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٣].
306
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ أي زيادة، وهو ما لا يخطر ببالهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
المناسبة:
بعد بيان الحوار الذي يحصل يوم القيامة بين الكافر وقرينه من الشياطين، بيّن اللَّه تعالى حال المتقين، جريا على عادة القرآن بالمقارنة بين الأضداد، وإيراد الشيء بعد نقيضه، فيحذر الإنسان ويخاف، ويطمع ويتأمل ويرجو رحمة اللَّه تعالى، وبه تم الجمع بين الترهيب والترغيب وبين الخوف والرجاء أو الطمع.
التفسير والبيان:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي أدنيت وقرّبت لأهل التقوى تقريبا غير بعيد، أو في مكان غير بعيد، بل هي بمرأى منهم، يشاهدونها في الموقف، وينظرون ما فيها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
هذا ما تُوعَدُونَ، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي تقول الملائكة لهم: هذا النعيم الذي ترونه من الجنة هو ما وعدتم به في كتب ربكم وعلى ألسنة الرسل الذين أرسلهم اللَّه لكم، وهذا الثواب بعينه هو لكل رجّاع إلى اللَّه تعالى وطاعته بالتوبة عن المعصية، والإقلاع عن الذنب، كثير الحفظ لحدود اللَّه وشرائعه، ويحفظ العهد، فلا ينقضه ولا ينكثه ولا يهمل شيئا منه.
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي ذلك المحافظ على الحدود، فلا يقربها: هو من خاف اللَّه ولم يكن رآه، وخاف اللَّه في سره حيث لا يراه أحد إلا اللَّه عز وجل،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في السبعة الذين يظلهم في ظله يوم القيامة فيما أخرجه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «ورجل ذكر اللَّه تعالى خاليا، ففاضت عيناه»
أي: بالدموع.
307
وهو أيضا من رجع إلى اللَّه بقلب مخلص في طاعة اللَّه، ولقي اللَّه عز وجل يوم القيامة بقلب سليم إليه، خاضع لديه.
ادْخُلُوها بِسَلامٍ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي ويقال لهم: ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب، ومن زوال النعم، ومن كل المخاوف، أو مسلّما عليكم من اللَّه وملائكته، ذلك اليوم الذي تدخلون فيه هو يوم الخلود الدائم أبدا، الذي لا موت بعده، ولا تحوّل عنه.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها، وَلَدَيْنا مَزِيدٌ أي لهؤلاء المتقين الموصوفين بما ذكر كل ما يريدون في الجنة، وتشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم، من أنواع الخير، وأصناف النعم بحسب رغبتهم، فمهما اختاروا وجدوا ومن أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. ولدينا مزيد من النعم التي لم تخطر لهم على بال، ولا مرت لهم في خيال، كقوله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس ١٠/ ٢٦] جاء في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي: أنها النظر إلى وجه اللَّه الكريم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن في وصف جهنم الملأى بالكفار والفجار والعصاة، وفي وصف الجنة المقربة المرئية للمتقين تثبيتا للإيمان بالبعث وتقوية له، وتحذيرا وتخويفا من عمل أهل النار، وترغيبا في اقتفاء آثار وأعمال المؤمنين الذين يدخلون الجنة، كما أن في تقريب الجنة للمتقين وإدنائها لهم غير بعيدة عنهم إشعارا لهم بتيسير الوصول إليها.
٢- يؤكد اللَّه تعالى الشعور بالنعمة والاطمئنان في الجنة للمتقين، فتقول
308
الملائكة لهم: هذا الجزاء الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الرسل.
٣- أهل الجنة هم كل أوّاب رجاع إلى اللَّه عن المعاصي، حافظ لحدود اللَّه وشرائعه، فيعمل بها ولا يتجاوزها ولا يتخطاها إلى غيرها، خائف من اللَّه رب العزة، وإن لم يره، وجل منه في سره وعلانيته، يجيء إلى ربه يوم القيامة بقلب منيب أي مقبل على الطاعة، محبّ لها، مرتاح بفعلها، غير متضجّر بها.
٤- تقول الملائكة للمتقين أهل الجنة: ادخلوها بسلام من العذاب ومن زوال النعم، وبسلام من اللَّه وملائكته عليكم.
٥- في الجنة للمتقين ما تشتهيه أنفسهم وتلذّ أعينهم، ويجدون لدى ربهم مزيدا من النعم، مما لم يخطر على بالهم، زيادة على النعم: وهو النظر إلى وجه اللَّه تعالى بلا حصر ولا كيف ولا تجسيد.
ذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة، فإن اللَّه تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة، كل يوم جمعة، في كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في القرب.
وروى الإمام الشافعي في مسنده عن أنس بن مالك قريبا من ذلك، وجاء فيه: «.. فإذا كان يوم الجمعة أنزل اللَّه تعالى ما شاء من الملائكة، وحوله منابر من نور، عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول اللَّه عز وجل: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة».
309
تهديد منكري البعث وإثباته لهم مرة أخرى وأوامر للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٥]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
الإعراب:
يَوْمَ يَسْمَعُونَ يَوْمَ: بدل من يوم في قوله: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً يَوْمَ: منصوب من وجهين:
أحدهما: أنه منصوب على البدل من يَوْمَ في قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ.. أي واستمع حديث يوم ينادي المنادي، فحذف المضاف، وهو مفعول به.
والثاني: أنه منصوب لتعلقه بقوله تعالى: وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ وتقديره: وإلينا يصيرون في يوم تشقق.
وسِراعاً: حال من الهاء والميم في عَنْهُمْ وعوامله: إما تَشَقَّقُ أو فعل مقدر، أي فيخرجون سراعا.
310
المفردات اللغوية:
وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا. قَبْلَهُمْ قبل قومك كفار قريش. مِنْ قَرْنٍ القرن: الأمة والجماعة والجيل من الناس، أي أهلكنا قبل كفار قريش أمما وقرونا وجماعات كثيرة من الكفار. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة، كعاد وفرعون. فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ بحثوا وفتشوا وساروا في الأرض يطلبون الرزق والمكسب. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب لهم من اللَّه أو من الموت.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن فيما ذكر في هذه السورة لتذكرة وعظة وعبرة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ عقل يعي به ويتفكر في الحقائق. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أصغى بسمعه للوعظ. وَهُوَ شَهِيدٌ حاضر الذهن ليفهم المعاني. وفي تنكير كلمة قَلْبٌ وإبهامه إشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كأنه غير موجود.
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها الأحد وآخرها الجمعة. لُغُوبٍ تعب وإعياء، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فالله منزه عن صفات المخلوقين، لا يتعرض لتعب حتى يستريح منه، وإذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ.
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها النبي على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم بلا إعياء، قادر على بعثهم والانتقام منهم، واصبر أيضا على ما يقول اليهود وغيرهم من التشبيه للخالق والتكذيب لك، والكفر. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه عن العجز وعن كل نقص، مصحوبا بالحمد والشكر. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ أي صلاة الفجر والعصر والظهر.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي سبحه بعض الليل، وصل العشاءين. وَأَدْبارَ السُّجُودِ أعقاب الصلوات، جمع دبر، وقرئ بالكسر: وَأَدْبارَ مصدر أدبر، أي صل النوافل المسنونة عقب الصلوات الفرائض المكتوبة، وسبح التسبيح المعروف في هذه الأوقات مع الحمد.
وَاسْتَمِعْ أيها المخاطب لما أخبرك به من أحوال القيامة، وفي هذا تهويل وتعظيم للمخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ هو إسرافيل، فيقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن اللَّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي كما ذكر الزمخشري: من صخرة بيت المقدس «١»، وهي أقرب الأرض من السماء، وهي وسط الأرض، أو من أقرب الأماكن إلى الناس بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء.
(١) هذا- كما قال قتادة- منقول عن كعب الأحبار. وفي تقديري كما ذكر الرازي أن المراد ظهور النداء لكل مخلوق، وليس المراد من المكان القريب المكان نفسه.
311
يَوْمَ يَسْمَعُونَ يسمع الخلق كلهم. الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ صيحة البعث وهي النفخة الثانية من إسرافيل بالبعث والحشر للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي ذلك يوم النداء والسماع هو يوم الخروج من القبور. الْمَصِيرُ المرجع والمآب للجزاء في الآخرة.
تَشَقَّقُ تتشقق، وقرئ بتشديد الشين، أي تشقّقّ. سِراعاً مسرعين، جمع سريع.
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي ذلك بعث وجمع هيّن علينا، وتقديم الظرف: عَلَيْنا للاختصاص، لأن الإحياء بعد الإفناء، والجمع للعرض والحساب لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته، الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨].
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي كفار قريش، وهو تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتهديد لهم.
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بمسلط عليهم تقسرهم أو تجبرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، وإنما أنت داع. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي يخاف وعيدي، وهم المؤمنون، فإنه لا ينتفع بالقرآن غيرهم.
سبب النزول: نزول الآية (٣٨) :
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ..:
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: أن اليهود أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: خلق اللَّه الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة عن كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة.
قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: استراح، فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غضبا شديدا، فنزل:
312
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ...
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول اللَّه، لو خوفتنا؟
فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
وقال الحسن وقتادة: قالت اليهود: إن اللَّه خلق الخلق في ستة أيام، واستراح يوم السابع، وهو يوم السبت، يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن أنذر اللَّه تعالى منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة، عاد إلى التهديد والإنذار بعذاب الدنيا المهلك والدمار الشامل، وتوسط الإنذارين بيان حال المتقين في الجنان للجمع بين الترهيب والترغيب كما تقدم، ثم أبان تعالى أن الإهلاك عظة وتذكير وعبرة لكل ذي عقل واع، مفكر بالربط بين الأسباب والنتائج.
ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث من خلق السموات والأرض مرة أخرى مع تنزيه نفسه عن العناء والتعب في الخلق، ثم أمر تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبر على ما يقولون من إنكار البعث ومن حديث التعب بالاستلقاء، وبتنزيه اللَّه عن كل نقص منتظرا المنادي، ولا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة، فقد اقترب يوم البعث، وسمع صوت الداعي إليه، فالله هو المحيي والمميت وإليه المصير، يوم تتشقق الأرض سراعا ويخرج الناس من القبور، ثم أخبر سبحانه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بعلمه بما يقول المشركون في البعث، فلست عليهم بجبار مصيطر، وتابع مهمتك في الإنذار وتبليغ الدعوة بالتوحيد، وذكّر بهذا القرآن من يخاف عقابي ويخشى وعيدي.
313
التفسير والبيان:
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟ أي وكثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين من قريش ومن وافقهم، من أمم وجماعات، كانوا أكثر منهم، وأشد قوة، وآثارا في الأرض، كعاد وثمود وقوم تبّع وغيرهم، وقد أثروا في البلاد، فساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب، أكثر مما طفتم بها، فهل لهم من مفر أو مهرب يهربون إليه، يتخلصون به من العذاب، ومن قضاء اللَّه وقدره، وهل نفعهم ما جمعوه من أموال، وردّ عنهم عذاب اللَّه لما جاءهم لتكذيبهم الرسل، فأنتم أيضا لا مفر لكم، ولا محيد، ولا مناص، ولا مهرب.
ثم ذكر اللَّه تعالى أن تلك الإنذارات والتهديدات والزواجر لا ينتفع بها إلا المفكرون، فقال:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ أي إن فيما ذكر من قصة هؤلاء الأمم، وما ذكر في هذه السورة وما قبلها من الآداب والمواعظ، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات، لتذكرة وموعظة وعبرة لمن يعتبر بها، من كل ذي عقل واع، يتأمل به، ويتدبر الحقائق والأسباب والنتائج.
ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى، فقال:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي وتالله لقد أوجدنا من غير مثال سبق السموات والأرض وما بينهما من عجائب المخلوقات، في أيام ستة، وما أصابنا أي إعياء ولا تعب ولا نصب.
وهذا رد على اليهود، فإنهم- كما قال قتادة- قالوا: خلق اللَّه السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد، وآخرها الجمعة، ثم استراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه.
314
والآية تقرير للمعاد، لأن من قدر على خلق السموات والأرض، ولم يتعب بخلقها، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى في آية أخرى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف ٤٦/ ٣٣] وكما قال عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر ٤٠/ ٥٧].
ذكر الرازي أن المراد بقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ستة أطوار، لا الأيام المعروفة في وضع اللغة، لأن اليوم عبارة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب، وقبل خلق السموات لم يكن شمس ولا قمر، لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت أو الحين «١».
ثم أوضح اللَّه تعالى لنبيه الموقف الذي يتخذه في مواجهة منكري البعث واليهود المشبّهة للخالق بالمخلوق، فقال آمرا له بعدة أوامر هي:
١- فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها الرسول على ما يقوله المشركون المكذبون بالبعث، وعلى ما يقوله اليهود من حديث التعب والاستلقاء، فتلك أقوال باطلة لا دليل عليها.
٢- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ أي ونزّه دائما اللَّه ربك عن كل عجز ونقص، واحمده دائما، قائلا: سبحان اللَّه وبحمده، وقت الفجر ووقت العصر، وبعض الليل، وفي أعقاب الصلوات.
وقال ابن عباس: المراد بالتسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: الظهر والعصر، ومن الليل: العشاءان، وأدبار
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٨٣- ١٨٤
315
السجود: النوافل بعد الفرائض أو التسبيح بعد الصلاة. ومن قال: إن المراد بالتسبيح الصلاة، فلأن الصلاة تسمى تسبيحا، لما فيها من تسبيح اللَّه تعالى.
وقد جاء الأمر بالتسبيح بعد الصلاة في أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: «جاء فقراء المهاجرين، فقالوا: يا رسول اللَّه، ذهب أهل الدّثور «١» بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما ذاك، قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون كما نتصدق، ويعتقون كما نعتق، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبّحون وتحمّدون وتكبّرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فقالوا:
يا رسول اللَّه، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» [المائدة ٥/ ٥٤].
وجاء في صحيح الحديث: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة: «لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ»
أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة.
٣- وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي واستمع أيها الرسول صيحة القيامة وهي النفخة الثانية في الصور من إسرافيل عليه السلام، يوم ينادي نداء يسمعه كل فرد من أفراد المحشر، قائلا: هلموا إلى الحساب، فيخرجون من قبورهم.
ولا مانع من عطف وَاسْتَمِعْ على فَاصْبِرْ وَسَبِّحْ مع أن الصبر والتسبيح يكون في الدنيا، والاستماع يكون يوم القيامة، لأن المراد كما في
(١) المراد بهم: الأغنياء أصحاب الثراء، من الدّثار: وهي الثياب الخارجية.
316
قولهم: صل وادخل الجنة، أي صل في الدنيا، وادخل الجنة في العقبى. ويحتمل أن يقال: بأنّ اسْتَمِعْ بمعنى انتظر.
قال الرازي: وقوله تعالى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد، بل يستوي في استماعه كل أحد، وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على اللَّه تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب المكان نفسه، بل ظهور النداء، وهو من اللَّه تعالى أقرب «١».
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ يعني أن صيحة البعث كائنة حقا، وهي يوم سماع النفخة الثانية في الصور التي تنذر بالبعث والحشر والجزاء على الأعمال، وذلك اليوم يوم الخروج من القبور.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي إننا نحن نحيي في الدنيا والآخرة، ونميت في الدنيا حين انقضاء الآجال، لا يشاركنا في ذلك مشارك، وإلينا المرجع في الآخرة للحساب والجزاء، فنجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا تقرير القدرة الإلهية على الإحياء ابتداء وإعادة، وعلى الإماتة، وإجراء الحساب، وأكد ذلك بقوله:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي وإلينا المصير وقت أن تتصدع الأرض عنهم، فيخرجون من القبور، ويساقون إلى المحشّر، مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم، ذلك بعث وجمع هيّن لدينا وعلينا، لا مشقة فيه ولا عسر، كما قال تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر ٥٤/ ٥٠] وقال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان ٣١/ ٢٨].
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٨٨.
317
ثم هدد المشركين بقوله:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي نحن نعلم علما محيطا بما يقول لك المشركون، من التكذيب فيما جئت به، ومن إنكار البعث والتوحيد، وما أنت عليهم بمسلّط يجبرهم، ويقسرهم على الإيمان، إنما أنت مبلّغ، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد ١٣/ ٤٠] وقوله سبحانه:
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢].
٤- فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي فذكّر أيها الرسول بهذا القرآن العظيم، وبلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر به من يخاف اللَّه ويخشى عقابه ووعيده للعصاة بالعذاب، ويرجو وعده وفضله ورحمته، وأما من عداهم فلا تشتغل بهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تعبر عن التحدي لدعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكيفية مواجهة التحدي والصمود أمامه، أو ما يعبر عنه اليوم الفعل ورد الفعل. ويفهم منها ما يأتي:
١- هدد اللَّه المشركين من كفار قريش وأمثالهم وأنذرهم وحذرهم بعذاب الآخرة الأليم، وبعذاب الدنيا المدمر الذي أوقعه بمن قبلهم من الأمم والشعوب المكذبة رسلها، مع أنهم كانوا أقوى وأصلب وأغنى وأكثر مالا وأرقى مدنية وحضارة من أهل مكة.
فلم يجدوا مهربا ولا مفرا من الإهلاك والتدمير، وكذلك لا يجد أمثالهم ملجأ ولا محيدا من إيقاع العذاب المماثل بهم.
٢- إن في هذا الإنذار والتهديد والتخويف والمذكور في هذه السورة تذكرة وموعظة لكل ذي قلب أي عقل يتدبر به، فكنى بالقلب عن العقل، لأنه
318
موضعه في رأي القرطبي وغيره من المتقدمين.
٣- بالرغم من هذا التذكير العام بما سبق، أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى للرد على منكريه، وللرد على اليهود الذين زعموا أن اللَّه تعالى بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، فأكذبهم اللَّه تعالى في ذلك.
٤- علّم اللَّه نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم في مواجهة هذه التحديات لرسالته بأربعة أوامر: هي الصبر على ما يقولون، والاستعانة على ذلك بالتسبيح والصلاة، لتقوية الإرادة والعزيمة بالصبر، وتقوية الروح بالتسبيح والصلاة، ففي ذلك لقاء مع خالق الوجود، وتفويض له، واستلهام منه، واستعانة واستغاثة به وبقدرته الفائقة الباهرة.
والأمر الثالث: الاشتغال بتنزيه اللَّه تعالى مدى الدهر، كقوله سبحانه:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر ١٥/ ٩٩] أي الموت، والاستماع لما يخبره اللَّه به من أهوال القيامة، وتحذيره أن يكون مثل هؤلاء المعرضين.
والأمر الرابع: التذكير بالقرآن، ومتابعة تبليغ الرسالة ودعوة اللَّه، لمن يخاف عقاب اللَّه ويخشى وعيده. كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك يا بارّ يا رحيم. ونحن نقول معه ذلك إلى الأبد.
وتخلل هذه الأوامر الأربعة إخبار بأمور أربعة تساعد على امتثال الأوامر واستهلاك طاقات التحدي واستيعابها وإنهائها: وهي التذكير بسماع صيحة القيامة وصيحة البعث والحشر للجزاء والحساب يوم خروج الناس من القبور، وإعلان حقيقة كون اللَّه هو المحيي والمميت وإليه مصير الخلائق للحساب والجزاء، وإظهار كيفية تصدع الأرض وتشققها لخروج الناس الموتى منها أحياء مسرعين لإجابة نداء المنادي إلى المحشر، علما بأن ذلك الحشر والجمع هيّن يسير على اللَّه،
319
وإعلام الكفار وغيرهم بأن علم اللَّه محيط شامل لكل ما يقولون، وما يعملون من تكذيب وشتم.
وهذه الأمور الأربعة في غاية التهويل والتفخيم والتهديد لأهل التحدي ودعاة التحدي وأعوانهم وسلالاتهم وأشياعهم في كل عصر.
انتهى الجزء فلله الحمد والمنة
320

[الجزء السابع والعشرون]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الذاريات
مكيّة، وهي ستون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الذاريات) لافتتاحها بالقسم بالذاريات، وهي الرياح التي نذر والتراب وغيره، أي تفرقه وتنقله من مكان إلى آخر. والقسم بها دليل على خطورتها، وأنها من جند الله تعالى.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
١- ختمت سورة ق بذكر البعث والجزاء والجنة والنار في قوله تعالى:
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وافتتحت هذه السورة بالقسم بالرياح والسحب والسفن والملائكة على أن ما وعد به الناس من ذلك صادق، وأن الجزاء واقع.
٢- ذكر في سورة ق إجمالا إهلاك الأمم المكذبة، كقوم نوح، وعاد وثمود، ولوط وشعيب، وتبّع، وفي هذه السورة تفصيل ذلك في قصص إبراهيم ولوط وموسى وهود وصالح ونوح عليهم السلام.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية إثبات أصول العقيدة والإيمان وهي
5
التوحيد والرسالة والبعث، ونفي أضدادها وهي الشرك، وتكذيب النبوة، وإنكار المعاد.
وقد افتتحت ببيان دلائل البعث ووقوع المعاد من عجائب الكون، بالقسم على حدوثه حتما بأربعة أمور هي الرياح المحركة للأشياء، والسحب التي تحمل الأمطار، والسفن الجارية بسهولة في البحار والأنهار الكبرى، والملائكة التي تقسّم المقدرات الربانية، وتدبّر أمر الخلق.
ثم ذكرت السورة أحوال كفار مكة وغيرهم الذين كذبوا بالقرآن وبالآخرة وما يلقونه من العذاب الشديد في نار جهنم، كما ذكرت أحوال المؤمنين المتقين وما أعد لهم من جنات ونعيم في اليوم الآخر، ليدرك العاقل الفرق بينهما، ويقترن الترهيب بالترغيب للعظة والعبرة.
وتأكيدا لتلك الغاية أشارت الآيات إلى أدلة القدرة الإلهية والوحدانية في الأرض والسماء والأنفس وضمان الأرزاق للعباد، وأوردت أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها، فكان مصيرهم الدمار والهلاك، وهم قوم إبراهيم ولوط وموسى، وعاد وثمود، وقوم نوح. وكان في الحديث عن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم تسلية للنبي ﷺ عما يلقاه من أذى قومه.
ثم عادت إلى التذكير ببناء السماء وفرش الأرض وإيجاد الزوجين لبقاء النوع الإنساني والحيواني، وأعقبت ذلك بالتزهيد في الدنيا، والفرار إلى الله من مخاطرها، والنهي عن الشرك بالله، والإخبار عن تكذيب الرسل باستمرار، وأمر النبي ﷺ بالإعراض عن قومه، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
وختمت السورة ببيان الهدف من خلق الجن والإنس وهو معرفة الله تعالى وعبادته والإخلاص له، وأخبرت بكفالة الرزق لكل مخلوق، وأوعدت الكفار والمشركين الظالمي أنفسهم بعذاب شديد يوم القيامة، وهددتهم بعذاب في الدنيا مماثل لعذاب أمثالهم ونظرائهم من المكذبين السابقين.
6
Icon