تفسير سورة ق

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة ق من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٤٥.

تفسير سورة «ق»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
قوله عز وجل: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قال مجاهد، والضَّحَّاك، وابن زيد، وعِكْرَمَةُ:
ق اسم الجبل المحيط بالدنيا، وهو فيما يزعمون أَنَّهُ من/ زمردة خضراء، منها خُضْرَةُ السماء وخضرة البحر «١»، وقيل في تفسيره غير هذا، والْمَجِيدِ: الكريم في أوصافه الذي جمع كُلَّ مَعْلاَةٍ، وق مُقْسَمٌ به وبالقرآن قال الزَّجَّاجُ «٢» : وجواب القسم محذوف تقديره: ق والقرآن المجيد لتبعثن، قال ع «٣» : وهذا قول حسن، وأحسن منه أَنْ يكون الجواب هو الذي يقع عنه الإضراب ببل، كأَنَّه قال: والقرآنِ المجيد ما رَدُّوا أمرك بحجة، ون ٩ حو هذا، مِمَّا لا بُدَّ لك من تقديره بعد الذي قَدَّره الزَّجَّاجُ، وباقي الآية بَيِّنٌ ممّا تقدم في «ص» و «يونس» وغيرهما، ثم أخبر تعالى رَدًّا على قولهم بأَنَّهُ سبحانه يعلم ما تأكل الأرضُ من ابن آدم، وما تُبْقِي منه، وأَنَّ ذلك في كتاب، والحفيظ: الجامع الذي لم يَفُتْهُ شيء وفي الحديث الصحيح: «إنَّ الأَرْضَ تَأَكُلُ ابْنَ آدَمَ إلاَّ عَجْبَ الذَّنَبِ» وهو عظم
(١) ذكره البغوي (٤/ ٢٢٠) عن عكرمة، والضحاك، وابن عطية (٥/ ١٥٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١١٥)، وعزاه لعبد الرزاق عن مجاهد.
(٢) ينظر: «معاني القرآن» (٥/ ٤١).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٥٥).
280
كالخَرْدَلَةِ، فمِنْهُ يُرَكَّبُ ابن آدم «١»، قال ع «٢» : وحِفْظُ ما تنقص الأرض إنَّما هو ليعودَ بعينه يومَ القيامة، وهذا هو الحَقُّ قال ابن عباس والجمهور: المعنى: ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم «٣»، وقال السُّدِّيُّ: مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ أي: ما يحصل في بطنها من موتاهم «٤»، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد، والمريج: معناه المختلط قاله ابن زيد «٥»، أي: بعضُهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: شاعر، إلى غير ذلك من تخليطهم، قال ع «٦» : والمريج: المضطرب أيضاً، وهو قريب من الأَول ومنه مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، ومن الأَوَّلِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان: ٥٣].
ثم دَلَّ تعالى على العبرة بقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ/... الآية، وَزَيَّنَّاها أي: بالنجوم، والفروج: الفطور والشقوقُ خلالها وأثناءها قاله مجاهد وغيره «٧».
ت: وقال الثعلبي بأثر كلام للكسائي: يقول: كيف بنيناها بلا عَمَدٍ، وَزَيَّنَّاها بالنجوم، وما فيها فتوق؟ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي: بسطناها على وجه الماء، انتهى، والرواسي: الجبال، والزوج: النوع، والبهيج: الحَسَنُ المنظر قاله ابن عباس وغيره «٨»، والمنيب: الراجع إلى الحَقِّ عن فكرة ونظر قال قتادة «٩» : هو المُقْبِلُ إلى اللَّه تعالى،
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٤١٤) كتاب «التفسير» باب: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ... (٤٨١٤)، (٨/ ٥٥٨) كتاب «التفسير» باب: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (٤٩٣٥)، ومسلم (٤/ ٢٢٧٠) كتاب «الفتن» باب: ما بين النفختين (١٤١/ ٢٩٥٥)، وابن ماجه (٢/ ١٥٤) كتاب: «الزهد»، باب: ذكر القبر والبلى (٤٢٦٦)، ومالك (١/ ٢٣٩) كتاب «الجنائز» باب:
جامع الجنائز (٤٨).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٥٦).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٠٧) برقم: (٣١٨٠٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٥٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٢٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١١٦)، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٠٧) برقم: (٣١٨٠٣) عن قتادة، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٥٧).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٠٨) برقم: (٣١٨١٣)، وابن عطية (٥/ ١٥٧). [.....]
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٥٧).
(٧) أخرجه الطبري (١١/ ٤٠٩) برقم: (٣١٨١٤)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٥٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٢٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١١٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد.
(٨) أخرجه الطبري (١١/ ٤٠٩) برقم: (٣١٨١٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١١٦)، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(٩) أخرجه الطبري (١١/ ٤١٠) برقم: (٣١٨١٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٥٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١١٦)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير.
281
وخَصَّ هذا الصنف بالذكر تشريفاً لهم من حيثُ انتفاعُهُم بالتبصرة والذكرى، وَحَبَّ الْحَصِيدِ: البُرُّ، والشعير، ونحوُهُ مِمَّا هو نبات مُحَبَّبٌ يُحْصَدُ قال أبو حيان «١» : وَحَبَّ الْحَصِيدِ من إضافة الموصوف إلى صفته على قول الكوفيين، أو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مُقَامه، أي: حب الزرع الحصيد على قول البصريين، وباسِقاتٍ حال مُقَدَّرَةٌ لأَنَّهَا حالةَ الإنبات ليست طوالاً، انتهى، وباسِقاتٍ: معناه طويلات ذاهبات في السماء، والطَّلْعُ أول ظهور التمر في الكفرّى، قال البخاريّ: ونَضِيدٌ معناه: مَنْضُودٌ بعضُه على بعض، انتهى، ووصف البلدة بالميت على تقدير القطر والبلد.
ثم بَيَّنَ سبحانه موضع الشَّبَهِ فقال: كَذلِكَ الْخُرُوجُ يعني: من القبور، وهذه الآيات كلها إنَّما هي أَمْثِلَة وأَدِلَّة على البعث، وَأَصْحابُ الرَّسِّ: قوم كانت لهم بئر عظيمة، وهي الرَّسُّ، وكُلُّ ما لم يُطْوَ من بئر، أو مَعْدِنٍ، أو نحوه فهو رَسٌّ، وجاءهم نبيٌّ/ يُسَمَّى حَنْظَلَةَ بن سفيان- فيما رُوِيَ- فجعلوه في الرَّسِّ وردموا عليه، فأهلكهم اللَّهُ، وقال الضّحّاك: الرّسّ بئر قتل فيها صاحب «يس» «٢»، وقيل: إنَّهم قوم عاد، واللَّه أعلم.
وقوله: كُلٌّ قال سيبويه: التقدير: كُلُّهم، والوعيد الذي حَقَّ: هو ما سبق به القضاءُ من تعذيبهم.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٥ الى ١٧]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧)
وقوله سبحانه: أَفَعَيِينا توقيف للكفار، وتوبيخ، والخلق الأَوَّلُ: إنشاء الإنسان من نُطْفَةٍ على التدريج المعلوم، وقال الحسن «٣» : الخلق الأول: آدم، واللَّبْسُ: الشَّكُّ والريب، واختلاط النظر، والخَلْقُ الجديد: البعث من القبور.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ... الآية: الإنسان: اسم جنس، وتُوَسْوِسُ معناه: تتحدث في فكرتها، والوسوسةُ إنَّما تُسْتَعْمَلُ في غير الخير.
وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ: عبارة عن قُدْرَةِ الله على العبد،
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ١٢١).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤١٢) برقم: (٣١٨٣٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٥٨).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٥٩).
وكونُ العبد في قبضة القدرة والعلم قد أُحِيط به، فالقرب هو بالقدرة والسُّلطان، إذ لا يَنْحَجِبُ عن علم اللَّه لا باطنٌ ولا ظاهر، والوريد: عرق كبير في العُنُقِ، ويقال: إنَّهما وريدان عن يمين وشمال.
وأَمَّا قوله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ فقال المفسرون: العامل في إذ أَقْرَبُ ويحتمل عندي أَنْ يكون العاملُ فيه فعلاً مُضْمَراً تقديره: اذكر إذ يتلقى المتلقيان، والْمُتَلَقِّيانِ: المَلَكَانِ المُوَكَّلان بكل إنسان، مَلَكُ اليمين الذي يكتب الحسناتِ، وملك الشمال الذي يكتب السيِّئات قال الحسن: الحَفَظَةُ أربعة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل «١»، قال ع «٢» : ويؤيد ذلك الحديث الصَّحيح: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ» «٣» الحديث/ بكماله، ويُرْوَى أَنَّ مَلَك اليمين أمير على ملك الشمال، وأَنَّ العبد إذا أَذنب يقول ملك اليمين للآخر: تَثَبَّتْ لَعَلَّهُ يتوبُ رواه إبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، وقَعِيدٌ: معناه قاعد.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
وقوله سبحانه: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ... الآية، قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة:
يكتب الملكانِ جميعَ الكلام، فيثبت اللَّه من ذلك الحسناتِ والسيئات، ويمحو غيرَ هذا «٤»، وهذا هو ظاهر هذه الآية، قال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كُلَّ شيء حتى أنينه في مرضه «٥»، وقال عِكْرَمَةُ: يكتبان الخير والشَّرَّ فقط «٦» قال ع «٧» : والأوَّلُ أصوب.
ت: وروى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «كُلُّ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، إذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، فَأَحَبَّ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّه، فَلْيَأْتِ، فَلْيَمُدَّ يديه إلى الله
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤١٦) برقم: (٣١٨٦٣) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦٠).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز»
(٥/ ١٦٠).
(٣) تقدم.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤١٧) برقم: (٣١٨٦٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦٠).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤١٧) برقم: (٣١٨٦٨) عن ابن زيد، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٢)، وابن عطية (٥/ ١٦٠)، والسيوطي في «الدر المنثور»، وعزاه لابن المنذر عن مجاهد.
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٤١٦) برقم: (٣١٨٦٤)، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٢)، وابن عطية (٥/ ١٦٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١١٩)، وعزاه لابن المنذر.
(٧) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٠). [.....]
283
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ مِنْهَا، لاَ أَرْجِعُ إلَيْهَا أَبَداً، فَإنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ في عَمَلِهِ ذَلِكَ» رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ»، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً «١»، انتهى من «السِّلاح»، قال النَّوَوِيُّ- رحمه اللَّه تعالى-: ينبغي لكل مُكَلَّفٍ أَنْ يحفظ لسانه من جميع الكلام إلاَّ كلاماً تظهر فيه مصلحته، ومتى استوى الكلامُ وتركه بالمصلحة فالسُّنَّةُ الإمساكُ فإنَّهُ قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وهذا هو الغالب، والسلامة لا يعدلها شيء، وقد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاريُّ ومسلم أَنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» «٢» وهو نَصٌّ صريح فيما قلناه، قال: ورُوِّينَا في «كتاب الترمذيِّ» / و «ابن ماجه» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه مَا لاَ يَعْنِيهِ» قال الترمذيُّ: حديث حسن «٣»، وفيه عن عُقْبَةَ بن عامر «قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابك على خَطِيئَتِكَ» قال الترمذيّ: حديث حسن «٤»، وفيه عنه صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ» قال الترمذيُّ: حديث حسن «٥»، انتهى، والرقيب:
المُرَاقِبُ، والعتيد: الحاضر.
(١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١/ ١٢٩)، (٤/ ٢٦١).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٢) تقدم.
(٣) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٥٨) كتاب «الزهد» باب: (١١) (٢٣١٧)، وابن ماجه (٢/ ١٣١٥- ١٣١٦) كتاب «الفتن» باب: كف اللسان في الفتنة (٣٩٧٦) من حديث أبي هريرة.
قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا من هذا الوجه.
والحديث أخرجه أحمد (١/ ٢٠١)، هذا اللفظ، وله رواية أخرى بلفظ «من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه»، كلاهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨/ ٢١) : رواه أحمد، والطبراني في الثلاثة، ورجال أحمد و «الكبير» ثقات، وعن زيد بن ثابت، رواه الطبراني في «الصغير» وفيه محمّد بن كثير بن مروان وهو ضعيف.
(٤) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٠٥) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في حفظ اللسان (٢٤٠٦)، وأحمد (٥/ ٢٥٩)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ٩).
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(٥) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٠٦) كتاب «الزهد» باب: ما جاء في حفظ اللسان (٢٤٠٩)، والحاكم (٤/ ٣٥٧)، وابن حبان (١٣/ ٩- ١٠) كتاب «الحظر والإباحة» باب: ما يكره من الكلام وما لا يكره، ذكر البيان بأن من عصم من فتنة فمه وفرجه رجي له دخول الجنة (٥٧٠٣).
قال الترمذي: أبو حازم الذي روى عن أبي هريرة اسمه: سلمان مولى عزة الأشجعية وهو كوفي، وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعد هو: أبو حازم الزاهد مدني، واسمه: سلمة بن دينار، وهذا حديث
284
وقوله: وَجاءَتْ عطف، عندي، على قوله: إِذْ يَتَلَقَّى فالتقدير: وإذ تجيء سكرة الموت.
ت: قال شيخُنَا، زينُ الدين العراقيُّ في أرجوزته: [الرجز] وَسَكْرَةُ المَوْتِ اختلاط الْعَقْلِ......
البيت. انتهى.
وقوله: بِالْحَقِّ معناه: بلقاء اللَّهِ، وَفَقْدُ الحياة الدنيا، وفراقُ الحياة حَقٌّ يعرفه الإنسانُ، ويحيد منه بأمله، ومعنى هذا الحيد أَنَّه يقول: أعيش كذا وكذا، فمتى فكر حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمان، وهذا شأن الإنسان، حَتَّى يفاجئه الأجل قال عَبْدُ الحَقِّ في «العاقبة» : وَلَمَّا احْتَضَرَ مالك بن أنس، ونزل به الموتُ قال لمن حضره: لَيُعَاينَنَّ الناسُ غداً من عفو اللَّه وَسَعَةِ رحمته ما لم يخطر على قلب بشر، كُشِفَ له- رضي اللَّه عنه- عن سعة رحمة اللَّه وكثرة عفوه وعظيم تجاوُزِهِ ما أوجب أَنْ قال هذا، وقال أبو سليمان الدارانيُّ: دخلنا على عابد نزوره، وقد حضره الموتُ، وهو يبكي، فقلنا له: ما يبكيك- رحمك اللَّه؟! - فأنشأ يقول: [الطويل]
وَحُقَّ لِمِثْلِي البُكَا عِنْدَ مَوْتِه وَمَالِيَ لاَ أَبْكِي/ وَمَوْتِي قَدِ اقترب
وَلِي عَمَلٌ في اللَّوْحِ أَحْصَاهُ خَالِقِي فَإنْ لَمْ يَجُدْ بِالْعَفْوِ صِرْتُ إلَى العطب
انتهى، ويَوْمُ الْوَعِيدِ: هو يوم القيامة، والسائِقُ: الحاثُّ على السير، واختلف الناسُ في السائق والشهيد، فقال عثمان بن عفان وغيره: هما مَلَكَانِ مُوَكَّلاَنِ بكل إنسان أحدهما يسوقه، والآخر مِنْ حَفَظَتِهِ يشهد عليه «١»، وقال أبو هريرة: السائق: مَلَكٌ،
حسن غريب.
وفي الباب من حديث عطاء بن يسار نحوه، أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/ ٩٨٧- ٩٨٨) كتاب «الكلام» باب: ما جاء فيما يخاف من اللسان (١١).
وفي الباب من حديث سهل بن سعد، أخرجه البخاري (١١/ ٣١٤) كتاب «الرقاق» باب: حفظ اللسان، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أو ليصمت (٦٤٧٤)، (١٢/ ١١٥) كتاب «الحدود» باب:
فضل من ترك الفواحش (٦٨٠٧) نحوه.
وفي الباب عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرجه أحمد (٥/ ٣٦٢).
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤١٨) برقم: (٣١٨٧١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٢٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٢٣)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم في «الكنى»، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث والنشور»، وابن عساكر عن عثمان بن عفان.
285
والشهيد: العمل «١»، وقيل: الشهيد: الجوارح، وقال بعض النظار: سائق اسم جنس وشهيد كذلك، فالسَّاقَةُ للناس ملائكة مُوَكَّلُون بذلك، والشهداء: الحَفَظَةُ في الدنيا، وكل مَنْ يشهد.
وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ يعمُّ الصالحين وغيرهم فإنَّما معنى الآية شهيد بخيره وشَرِّهِ، ويقوى في شهيد اسم الجنس، فتشهد الملائكة، والبِقَاعُ والجوارحُ وفي الصحيح:
«لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس، ولا جِنٌّ، وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «٢».
وقوله سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ قال ابن عباس وغيره: أَي: يقال للكافر «٣» : لقد كنتَ في غفلة من هذا، فلمَّا كُشِفَ الغطاءُ عنك الآنَ احْتَدَّ بصرُك، أي: بصيرتك وهذا كما تقول: فلان حديد الذِّهْنِ ونحوه، وقال مجاهد «٤» : هو بصر العين، أي: احْتَدَّ التفاته إلى ميزانه، وغيرِ ذلك من أهوال القيامة.
والوجه عندي، في هذه الآية، ما قاله الحسن وسالم بن عبد اللَّه «٥» : إنَّها مُخَاطَبَةٌ للإِنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر، وهكذا، قال الفخر «٦» : قال: والأقوى أنْ يقال: هو خطاب عامٌّ مع السامع، كأنَّهُ يقول: ذلك ما كنتَ منه تحيد أيُّها السامع، انتهى، وينظر إلى معنى كشف/ الغطاء قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النّاس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» «٧».
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ١٦١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٢٣)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم في «الكنى»، وابن مردويه، والبيهقي.
(٢) أخرجه البخاري (٢/ ١٠٤) كتاب «الأذان» باب: رفع الصوت بالنداء (٦٠٩)، (٦/ ٣٩٥) كتاب «بدء الخلق» باب: ذكر الجن وثوابهم وعقابهم (٣٢٩٦)، (١٣/ ٥٢٨) كتاب «التوحيد» قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم»، (٧٥٤٨)، وابن ماجه (١/ ٢٣٩- ٢٤٠) كتاب «الأذان والسنة فيه» باب: فضل الأذان وثواب المؤذنين (٧٢٣)، ومالك (١/ ٦٩) كتاب «الصلاة» باب: ما جاء في النداء للصلاة (٥)، وابن خزيمة في «صحيحه» (١/ ٢٠٣) كتاب «الصلاة» باب: فضل الأذان ورفع الصوت به وشهادة من يسمعه من حجر ومدر وشجر وجن وإنس للمؤذن، (٣٨٩)، والحميدي (٢/ ٣٢١)، (٧٣٢)، وأحمد (٣/ ٦) كلهم عن أبي سعيد الخدري مع اختلاف يسير في اللفظ.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٢٠) برقم: (٣١٨٨٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٢٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٢٣)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٤) ذكره البغوي (٤/ ٢٢٣)، وابن عطية (٥/ ١٦٢).
(٥) ذكره ابن عطية (٥/ ١٦٢).
(٦) ينظر: «تفسير الرازي» (١٤/ ١٤٢).
(٧) أورده الغزالي في «الإحياء» (٤/ ٢٣). [.....]
286

[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٨]

وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨)
وقوله تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ قال جماعة من المفسرين: يعني قرينه من زبانية جهنم، أي: قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الكافر، حاضر، وقال قتادة وابن زيد «١» : بل قرينه المُوَكَّلُ بسوقه، قال ع «٢» : ولفظ القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبُه من الزبانية قرين، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين، والكُلُّ تحتمله هذه الآية، أي:
هذا الذي أحصيتُهُ عليه عتيد لَدَيَّ، وهو مُوجِبُ عذابه، والقرين الذي في هذه الآية غيرُ القرين الذي في قوله: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ إذ المقارنة تكون على أنواع.
وقوله سبحانه: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ المعنى: يقال: ألقينا في جهنَّمَ، واخْتُلِفَ لمن يُقَالُ ذلك، فقال جماعة: هو قول لِمَلَكَيْنِ من ملائكة العذاب.
وقال عبد الرحمن بن زيد «٣» : هو قول للسائق والشهيد.
وقال جماعة من أهل العلم باللغة: هذا جارٍ على عادة كلام العرب الفصيح أنْ يُخَاطَبَ الواحدُ بلفظ الاثنين وذلك أَنَّ العربَ كان الغالبُ عندها أنْ يترافق في الأسفار ونحوها ثَلاَثَةٌ، فَكُلُّ واحد منهم يخاطِبُ اثنين، فَكَثُرَ ذلك في أشعارها وكلامها، حَتَّى صار عُرْفاً في المخاطبة، فاسْتُعْمِلَ في الواحد، ومن هذا قولهم في الأشعار:
[من الطويل] خليليّ............. «٤»
- قال العجلوني في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» : هو من قول علي بن أبي طالب، لكن عزاه الشعراني في «الطبقات» لسهل التّستري، ولفظه في ترجمته ومن كلامه: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، وإذا ماتوا ندموا، وإذا ندموا لم تنفعهم ندامتهم اهـ.
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ١٦٢).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٣).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٦٣).
(٤) مطلع قصيدة لامرىء القيس وتمام البيت:
... مرّا بي على أمّ جندب... نقضّي لبانات الفؤاد المعذّب
ينظر: «ديوانه» ص: (٤١).
287
وصاحبيّ................. «١»
[من الطويل]
قِفَانَبْكِ............... «٢»
ونحوه.
وقال بعض المتأولين: المراد «أَلْقِيَنْ»، فَعُوِّضَ من النون ألفٌ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «أَلْقِياً» بتنوين الياء «٣»، و «عنيد» معناه: عَانِدٌ عن الحق، أي: مُنْحَرِفٌ/ عنه.
وقوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ لفظ عامٌّ للمال والكلام الحسن والمعاونة على الأشياء، ومُعْتَدٍ معناه: بلسانه ويده.
(١) وجاء منه قول أبي تمام [الكامل] :
يا صاحبي تقضّيا نطريكما تريا وجوه الروض كيف تصوّر
وجاء منه مخاطبة الصاحب بالمثنى كقول الشاعر:
وقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجدزّ شيحا
البيت من الوافر، وهو لمضرّس بن ربعي في «شرح شواهد الشافية» ص: (٤٨١)، وله أو ليزيد بن الطثريّة في «لسان العرب» (٥/ ٣١٩- ٣٢٠) (جزز)، و «المقاصد النحوية» (٤/ ٥٩١)، وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (٨/ ٨٥)، و «خزانة الأدب» (١١/ ١٧)، و «سر صناعة الإعراب» ص: (١٨٧)، و «شرح الأشموني» (٣/ ٨٧٤)، و «شرح شافية ابن الحاجب» (٣/ ٢٢٨)، و «شرح المفصل» (١٠/ ٤٩)، والصاحبي في «فقه اللغة» ص: (١٠٩، ٢١٨)، و «لسان العرب» (٤/ ١٢٥) (جرر)، و «المقرب» (٢/ ١٦٦)، و «الممتع في التصريف» (١/ ٣٥٧).
(٢) مطلع قصيدة لامرىء القيس، وتمام البيت:
...... من ذكرى حبيب ومنزل... بسقط اللّوى بين الدّخول وحومل
ينظر: «ديوانه» ص: (٨)، و «الأزهية» ص: (٢٤٤)، و «جمهرة اللغة» ص: (٥٦٧)، و «الجنى الداني» ص: (٦٣- ٦٤)، و «خزانة الأدب» (١/ ٣٣٢، ٣/ ٢٢٤)، و «الدرر» (٦/ ٧١)، و «سرّ صناعة الإعراب» (٢/ ٥٠١)، و «شرح شواهد الشافية» ص: (٢٤٢)، و «شرح شواهد المغني» (١/ ٤٦٣)، و «الكتاب» (٤/ ٢٠٥)، و «لسان العرب» (١٥/ ٢٠٩) (قوا)، (٤٢٨)، و «مجالس ثعلب» ص: (١٢٧)، و «همع الهوامع» (٢/ ١٢٩)، وبلا نسبة في «الإنصاف» (٢/ ٦٥٦)، و «أوضح المسالك» (٣/ ٣٥٩)، و «جمهرة اللغة» ص: (٥٨٠)، و «خزانة الأدب» (١١/ ٦)، و «الدرر» (٦/ ٨٢)، و «رصف المباني» ص: (٣٥٣)، و «شرح الأشموني» (٢/ ٤١٧)، و «شرح شافية ابن الحاجب» (٢/ ٣١٦)، و «شرح قطر الندى» ص:
(٨٠)، والصاحبي في «فقه اللغة» ص: (١١٠)، و «مغني اللبيب» (١/ ١٦١، ٢٦٦)، و «المنصف» (١/ ٢٢٤)، و «همع الهوامع» (٢/ ١٣١).
(٣) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٤٥)، و «المحتسب» (٢/ ٢٨٤)، و «الكشاف» (٤/ ٣٨٧)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٤)، و «البحر المحيط» (٨/ ١٢٥)، و «الدر المصون» (٦/ ١٧٨).
288
وقوله سبحانه: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ... الآية، يحتمل أنْ يكون الَّذِي بدلاً من كَفَّارٍ، أو صفةً له، وَيَقْوَى عندي أَنْ يكونَ الَّذِي ابتداءً ويتضمن القولُ حينئذ بني آدم والشياطينَ المغوينَ لهم في الدنيا، ولذلك تَحَرَّكَ القرينُ، الشيطانُ المُغْوِي، فرام أَنْ يُبْرِىءَ نفسه ويخلصها بقوله: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ.
وقوله: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ ليست بحجة لأَنَّهُ كَذَبَ أَنْ نفى الإطغاء عن نفسه جملةً، وهو قد أطغاه بالوسوسة والتزيينِ، وأَطغاه اللَّه بالخلق والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه، سبحانه لا رَبَّ غيرُه.
وقوله سبحانه: لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ معناه: قال اللَّه: لا تختصموا لديَّ بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئاً وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وهو ما جاءت به الرسلُ والكتب، وجُمِعَ الضمير لأَنَّه مخاطبة لجميع القرناء إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١)
وقوله سبحانه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي: لا ينقض ما أبرمه كلامي من تعذيب الكفرة، ثم أزال سبحانه موضعَ الاعتراض بقوله: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: هذا عدل فيهم لأَنِّي أنذرت، وأمهلت، وأنعمتُ، وقرأ الجمهور: «يَوْمَ نَقُولُ» بالنون، وقرأ نافعٌ وعاصم في رواية أبي بَكْر بالياء، وهي قراءة أهل المدينة «١»، قال ع «٢» : والذي يترجَّحُ في قول جهنم: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أَنَّها حقيقة، وأَنَّها قالت ذلك، وهي غير ملأى، وهو قول أنس بن مالك، ويبين ذلك الحديث الصحيح، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يَقُولُ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟! حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ» «٣» ولفظ البخاريِّ عن أبي هريرةَ قال: قَالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(١) ينظر: «السبعة» (٦٠٧)، و «الحجة» (٦/ ٢١٣)، و «معاني القراءات» (٣/ ٢٧)، و «شرح الطيبة» (٦/ ١٧)، و «العنوان» (١٧٩)، و «حجة القراءات» (٦٧٨)، و «شرح شعلة» (٥٨٨)، و «إتحاف» (٢/ ٤٨٩).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٥).
(٣) أخرجه البخاري (١١/ ٥٥٤) كتاب «الأيمان والنذور» باب: الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، برقم:
(٦٦٦١)، ومسلم (٤/ ٢١٨٧) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» : باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٣٧، ٣٧- ٣٨/ ٢٨٤٨)، والترمذي (٥/ ٣٩٠) كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة ق (٣٢٧٢)، وأحمد (٣/ ١٣٤، ١٤١، ٢٢٩، ٢٣٠، ٢٣٤)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٥/ ١٢٧)
تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِيَ، لاَ يَدْخُلُنِي إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟! فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلَّنارِ: إنَّما أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةِ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِىء حَتَّى يَضَعَ [الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ] «١» فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَاكَ تَمْتَلِىءُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَداً، وَأَمَّا الجَنَّةُ فَإنَّ اللَّهَ يُنْشِىءُ لَهَا خَلْقَاً» «٢» انتهى، قال ع «٣» : ومعنى: «قدمه» ما قَدَّمَ لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ومنه: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: ٢] وملاك النظر في هذه الحديث أَنَّ الجارحةَ، والتشبيهَ، وما جرى مجراه- مُنْتَفٍ كُلُّ ذلك عن اللَّه سبحانه، فلم يبقَ إلاَّ إخراجُ اللفظ على الوجوه السائغة في كلام العرب.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ معناه: قُرِّبَتْ، ولما احتمل أنْ يكونَ معناه بالوعد والإخبار رفع الاحتمال بقوله: غَيْرَ بَعِيدٍ قال أبو حيان «٤» : غَيْرَ بَعِيدٍ أي: مكاناً غيرَ بعيد فهو منصوب على الظرف، وقيل: منصوب/ على الحال من الجنة، انتهى.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)
وقوله سبحانه: هذا مَا تُوعَدُونَ يحتمل أنْ يكونَ معناه: يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة: هذا الذي كنتم توعدون به في الدنيا، ويحتمل أنْ يكون خطاباً لِلأُمَّةِ أي:
هذا ما توعدون أَيُّها الناس لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ: والأَوَّابُ: الرَّجَّاعُ إلى الطاعة وإلى مراشد
(٢٥٥١) عن أنس بن مالك نحوه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(١) سقط في: د.
(٢) أخرجه البخاري (٨/ ٤٦٠) كتاب «التفسير» باب: وتقول هل من مزيد (٤٨٥٠)، ومسلم (٤/ ٢١٨٦- ٢١٨٧) كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء (٣٥- ٣٦/ ٢٨٤٦)، (٢٨٤٧) نحوه، والنسائي (٤/ ٤١٤- ٤١٥) كتاب «النعوت» باب: قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، (٧٧٤٠/ ٨)، وابن حبان (١٦/ ٤٨٢) كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (٧٤٤٧). [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٥).
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ١٢٦).
290
نفسه، وقال ابن عباس وعطاء «١» : الأَوَّابُ: المُسَبِّحُ من قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: ١٠] وقال المُحَاسِبِيُّ «٢» : هو الراجع بقلبه إلى ربه، وقال عبيد بن عمير «٣» : كُنَّا نتحدث أَنَّه الذي إذا قام من مجلسه استغفر اللَّه مِمَّا جرى في ذلك المجلس، وكذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفعل «٤»، والحفيظ معناه: لأوامر اللَّه، فيمتثلها، ولنواهيه فيتركها، وقال ابن عباس»
: حفيظ لذنوبه حَتَّى يرجعَ عنها، والمُنِيبُ: الراجع إلى الخير المائِلُ إليه قال الدَّاوُودِيُّ «٦» : وعن قتادَةَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ قال: مُقْبِلٌ على اللَّه سبحانه، انتهى.
وقوله سبحانه: ادْخُلُوها أي: يقال لهم: ادخلوها.
وقوله عز وجل: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ خبر بأَنَّهم يُعْطَوْنَ آمالهم أجمع، ثم أبهم تعالى الزيادةَ التي عنده للمؤمنين المُنَعَّمِينَ، وكذلك هي مُبْهَمَةٌ في قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧] وقد فسر ذلك الحديثُ الصحيحُ، وهو قوله- عليه السلام-: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، بَلْهَ مَا اطَّلَعْتُمْ عَلَيْهِ «٧» قال ع «٨» : وقد ذكر الطبريُّ وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديثَ مطولة، وأشياءَ ضعيفةً لأَنَّ/ اللَّه تعالى يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ وهم يعينونها تكلفاً وتعسفاً.
وقوله تعالى: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي: ولجوا البلادَ من أنقابها طمعاً في النجاة من الهلاك هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي: لا محيصَ لهم، وقرأ ابن عبّاس وغيره: «فنقّبوا» على
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٢٨) برقم: (٣١٩٢٦) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٥)، وابن عطية (٥/ ١٦٦).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٦٦).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٦٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٢٦)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر.
(٤) ذكره الهندي في «كنز العمال» (٧/ ١٥٣) برقم: (١٨٤٧٨)، وعزاه إلى ابن السني عن عبد الله الحضرمي.
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٢٨) برقم: (٣١٩٣٣)، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٥)، وابن عطية (٥/ ١٦٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٢٦)، وعزاه لابن جرير، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن التميمي.
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٤٢٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٢٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٧) تقدم.
(٨) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٦).
291
الأمر لهؤلاء الحاضرين «١».
ت: وعبارة البخاريِّ «فَنَقَّبُوا» : ضربوا «٢»، وقال الداودي: وعن أبي عبيدةَ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ: طافوا، وتباعدوا، انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: إهلاك مَنْ مضى لَذِكْرى أي: تذكرة، والقلبُ عبارة عن العقل إذْ هو مَحِلُّهُ، والمعنى: لمن كان له قلب واعٍ ينتفعُ به، وقال الشبليُّ: معناه: قلب حاضر مع اللَّه، لا يغفلُ عنه طرفةَ عين.
وقوله تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ معناه: صَرَفَ سَمْعَهُ إلى هذه الأنباء الواعظة، وأثبته في سماعها وَهُوَ شَهِيدٌ قال بعض المتأولين: معناه: وهو مشاهِد مُقْبَلٌ على الأمر، غيرُ مُعْرِضٍ ولا مُفَكِّرٍ في غير ما يسمع.
ت: ولفظ البخاريِّ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: لا يحدث نفسَه بغيره شَهِيدٌ أي: شاهد بالقلب، انتهى، قال المُحَاسِبيُّ في «رعايته» : وقد أَحْبَبْتُ أَنْ أَحُضَّكَ على حُسْنِ الاستماع لتدركَ به الفهمَ عن اللَّه عز وجل في كُلِّ ما دعاك إليه فإنَّه تعالى أخبرنا في كتابه أَنَّ مَنِ استمع كما يُحِبُّ اللَّهُ تعالى وَيَرْضَى، كان له فيما يستمع إِليه ذِكْرَى، يعني: اتعاظاً، وإذا سَمَّى الله عز وجل لأحد من خلقه شَيْئاً فهو له كما سَمَّى، وهو واصل إليه كما أخبر قال عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ قال مجاهد «٣» : شاهد القلب، لا يُحَدِّثُ نفسَه بشيء ليس بغائب القلب، فَمَنِ استمع إلى كتاب الله عز وجل، أو إلى حكمة، أو إلى علم، أو إلى عِظَةٍ، لا يُحَدَّثُ نفسَه بشيء غيرِ ما يستمع إليه، قَدْ أشهد قَلْبَهُ ما استمع إليه، يريد الله- عز وجل به-: كان له فيه ذكرى لأَنَّ اللَّه تعالى قال ذلك، فهو كما قال عز وجل، انتهى كلام المحاسبيِّ، وهو دُرٌّ نفيس، فَحَصِّلْهُ، واعملْ به تَرْشُدْ، وقد وجدناه، كما قال، وبالله التوفيق.
(١) وقرأ بها أبو العالية، ويحيى بن يعمر، ونصر بن سيار.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ٢٨٥)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٧)، و «البحر المحيط» (٨/ ١٢٧)، وزاد نسبتها إلى أبي حيوة، والأصمعي عن أبي عمرو. وهي في «الدر المصون» (٦/ ١٨١).
(٢) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٤٥٨)، تفسير سورة (ق).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٣٣) برقم: (٣١٩٥٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٢٩)، وعزاه للفريابي، وابن جرير.
292

[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ... الآية: خَبَرٌ مضمَّنه الرَّدُّ على اليَهُودِ الذين قالوا: إنَّ اللَّه خلق الأشياء كلها، ثم استراح يَوْمَ السبت، فنزلت: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ واللُّغُوب: الإعياء والنَّصَبُ.
وقوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ أي: ما يقوله الكفرة من أهل الكتاب وغيرِهم، وعَمَّ بذلك جميعَ الأقوال الزائِغَةِ من قريش وغيرهم وَسَبِّحْ معناه: صَلِّ بِإجماعٍ من المتأولين.
ت: وفي الإِجماع نظر وقد قال الثعلبيُّ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: قل سبحان اللَّه والحمدُ للَّه قاله عطاء الخُرَاسَانِيُّ، انتهى، ولكن المخرَّجُ في الصحيح إنما هو أمر الصلاة، وقال ابن العربي في «أحكامه» «١» : قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أَنَّه تسبيحُ اللَّهِ في الليل، ويَعْضُدُ هذا القولَ الحديثُ الصحيحُ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» «٢» الحديثَ، وقد ذكَرْنَاهُ في سورة «المزمل».
والثاني: أنَّها صلاةُ الليل.
والثالث: أَنَّها ركعتا الفجر.
والرابع: أَنَّها صلاة العشاء الآخرة، انتهى.
وقوله: بِحَمْدِ رَبِّكَ الباء للاقتران، أي: سبّح سبحة يكون معها حمد، وقَبْلَ
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٧٢٧). [.....]
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ٤٨) كتاب «التهجد» باب: فضل من تعارّ من الليل فصلّى (١١٥٤)، وأبو داود (٢/ ٧٣٤)، كتاب «الأدب» باب: ما يقول الرجل إذا تعار من الليل (٥٠٦٠)، وابن ماجه (٢/ ١٢٧٦) كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا انتبه من الليل (٣٨٧٨)، والترمذي (٥/ ٤٨٠)، كتاب «الدعوات» باب: ما جاء في الدعاء إذا انتبه من الليل (٣٤١٤)، وأحمد (٥/ ٣١٣)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٢١٥) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا انتبه من منامه (١٠٦٩٧/ ٩)، وابن حبان (٦/ ٣٣١) كتاب «الصلاة» باب: فصل في قيام الليل (٢٥٩٦).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقوله: بِحَمْدِ رَبِّكَ الباء للاقتران، أي: سَبِّح سبحة يكون معها حمد، وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هي الصبح، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ: هي العصر قاله ابن زيد والناس «١»، وقال ابن عبّاس «٢» : الظهر والعصر، وَمِنَ اللَّيْلِ: هي صلاة الْعِشَاءَيْنِ، وقال ابن زيد «٣» : هي العشاء فقط، وقال مجاهد «٤» : هي صلاة الليل.
وقوله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال عمر بن الخطاب وجماعة «٥» : هي الرَّكْعَتَانِ بعد المغرب، وأَسنده الطبريُّ عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٦» قال ع «٧» : كَأَنَّهُ رُوعِيَ أَدبارُ صلاة النهار، كما رُوعي أدبار النجوم في صلاة الليل، وقال ابن عباس أيضاً، وابن زيد، ومجاهد «٨» : هي النوافل إثر الصلوات، وهذا جارٍ مع لفظ الآية، وقرأ نافع، وابن كثير، وحمزة: «وَإدْبَارَ» بكسر الهمزة، وهو مصدر، وقرأ الباقون بفتحها، وهو جمع دُبُر كطُنُب وأَطْنَاب «٩»، أي: وفي أدبار السجود، أي: في أعقابه.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
وقوله سبحانه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ واستمع بمنزلة: وانتظر،
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٣٥) برقم: (٣١٩٧٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦٨).
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٢٢٦)، وابن عطية (٥/ ١٦٨).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٣٥) برقم: (٣١٩٧١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٠)، وعزاه لابن جرير.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٣٥) برقم: (٣١٩٧٢)، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٧)، وابن عطية (٥/ ١٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٠)، وعزاه لابن جرير.
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٣٦) برقم: (٣١٩٧٥) عن علي رضي الله عنه، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٧)، وابن عطية (٥/ ١٦٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣١)، وعزاه لابن المنذر، ومحمّد بن نصر.
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٤٣٧) برقم: (٣١٩٨٥).
(٧) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٦٩).
(٨) أخرجه الطبري (١١/ ٤٣٨) برقم: (٣١٩٩٧) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (٥/ ١٦٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٠)، وعزاه لابن جرير.
(٩) ينظر: «الحجة» (٦/ ٢١٣)، و «السبعة» (٦٠٧)، و «معاني القراءات» (٣/ ٢٧)، و «شرح الطيبة» (٦/ ١٧)، و «حجة القراءات» (٦٧٨)، و «العنوان» (١٧٩)، و «شرح شعلة» (٥٨٨)، و «إتحاف» (٢/ ٤٨٩).
294
وكذا، أي: كُنْ مُنتظراً له، مستمعاً له، فعلى هذا فَنَصْبُ «يوم» إنَّما هو على المفعول الصريح.
وقوله سبحانه: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل: وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ مَلَكاً يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: أَيَّتُهَا الأَجْسَامُ الْهَامِدَةُ، وَالْعِظَامُ الْبَالِيَةُ، - وَالرِّمَمُ الذَّاهِبَةُ- هَلُمِّي إلَى الْحَشْرِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» والصيحة:
هي صيحة المنادي، والخروج: هو من القبور، ويومُه هو يومُ القيامة، ويومُ الخروج في الدنيا: هو يوم العيد.
وقوله تعالى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ: معادل لقول الكفرة: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣].
وقوله سبحانه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وعيد محض للكفرة.
وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ قال الطبري وغيره «١» : معناه: وما أنت عليهم بمُسَلَّطٍ، تُجْبِرُهُمْ على الإيمان.
وقال قتادة «٢» : هو نهيٌ من اللَّه تعالى عن التجبر، والمعنى: وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت، وروى ابن عباس أَنَّ المؤمنين قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ خوّفتنا! فنزلت:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «٣».
(١) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٤٣٩).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٠) برقم: (٣٢٠٠٤)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٧٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٠) برقم: (٣٢٠٠٥)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٢).
295
Icon