تفسير سورة ق

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة ق من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة ق
مكية
سورة مكية١ :
١ راجع مكيتها في تفسير القرطبي ١٧/١، وابن كثير ٤/٢٢٢، والبرهان ١/١٩٣، والدر المنثور ٥/٥٨٧. وجاء في زاد المسير ٨/٣ أنه يقال لها سورة الباسقات: "روى العوفي وغيره عن ابن عباس أنها مكية" وكذلك قال الحسن ومجاهد وعكرمة، وقتادة والجمهور وحكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: ﴿ولقد خلقنا السماوات والأرض...﴾ الآية. ق: ٣٨"..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ق
مكية
سورة ق مكية: قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلى قوله: (فَحَقَّ وَعِيدِ) [١ - ١٤].
روى عطاء والضحاك عن ابن عباس: أن ق اسم جبل بالدنيا من زبرجدة خضراء وأن السماء عليه مقبية أقسم الله جل ذكره به.
وقال ابن عباس: " ق " و " ن " وأشباه هذا قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله.
7023
وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن، وعنه: أنه اسم من أسماء السور، والوقف على ق، في هذه الثلاثة تقديرات، حسن.
وقال الفراء: معنى ق، " قُفِيَ الأَمْرُ واللهَّ "، فاكتفى بالقاف عن الجملة كما قال: " قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا، فَقَالَتْ قَافْ "، أي: قَد وقَفْتُ، أي: أي: فاكتفى بالقاف عن
7024
الجملة، وتَقِفُ على " قاف " في هذا القول إِلاَّ أن تَجْعَلَه جواباً للقسم بعده فلا تقِفُ عليه، فإن أضمرتَ الجواب وقفتَ على قاف، وكذلك التقدير في القول الذي بعده، وهو قول مجاهد.
وقال مجاهد: ق جبل محيط بالأرض، وقيل: إنه من زمردة خضراء وإن خضرة السماء والبحر منه.
وقوله: ﴿والقرآن المجيد﴾ قسم، والمجيد: الكريم.
وقيل: الرفيع القدر.
واختُلف في جواب القسم، فقيل: الجواب ﴿بَلْ عجبوا﴾ لأن " بل " تُؤَكد وتُوجِب وقوع ما بعدها. مثل " أن " و " اللام "، وقولُك " لَقَدْ عَجِبُوا " و " بَلْ عَجِبُوا " واحد.
وقال الأخفش سعيد، الجواب: قد علمنا ما تنقص الأرض، أي: قد علمنا
7025
ذلك، وهو قول الكسائي.
وقال الزجاج: الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن المجيد لتُبعثُن.
وقيل التقدير: والقرآن المجيد لتعلمن عاقبة تكذيبكم بالبعث، ودل على ذلك مَا حكى الله عنهم من قولهم ﴿أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق: ٣].
وقيل الجواب (ق لأنه) بمعنى قُفِيَ الأَمْرُ والقرآن المجيد.
وقيل الجواب (ق): وعلى تقدير هو " ق " والقرآن المجيد، وهذا على قول ابن زيد ووهب بن منبه لأنهما قالا " قاف " اسم للجبل المحيط بالأرض.
7026
وقيل الجواب ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى﴾.
قال تعالى: ﴿بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾.
أي: لم يكذبك قريش يا محمد لأنهم لا يعرفونك بل لتعجبهم وإنكارهم من بشر / مثلهم ينذرهم بأمر الله تعالى.
﴿ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
قال بعض أهل المعاني: (العجب وقع من المؤمنين) والكافرين فقيل بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم.
ثم ميز الله الكافرين من المؤمنين [فقال تعالى]: ﴿فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا﴾ الآية فوصفهم بإنكار البعث، ولم يقل: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقالوا هذا شيء عجيب.
ثم بيَّن قول الكافرين من جميع من تعجب من إرسال منذر، فآمن المؤمنون
7027
مما تعجبوا منه، وكفر الكافرون به.
ثم قال تعالى حكاية عن قولهم أنهم قالوا: ﴿أَءِذَا مِتْنَا﴾، وإنما جواب منهم لإعلام النبي ﷺ لهم، أنهم يبعثون، فأنكروا ذلك فقالوا:
﴿أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ أي: أَنُبعَثُ إذا كنا في قبورنا تراباً؟ وقوله: ﴿أَءِذَا مِتْنَا﴾: إنما هو جواب منهم لإعلام النبي ﷺ لهم أنهم يبعثون ويجازون بأعمالهم.
ودل على ذلك قوله: ﴿أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾ لأن المنذر أعلمهم أنهم يبعثون فأنكروا ذلك، فقالوا: أئِذا متنا وكنا ترابا، واكتفى بدلالة الكلام على حكاية ما قال لهم المنذر وهو النبي ﷺ.
وقيل: إنما أتى هذا الإنكار ولم يتقدم قبله شيء للجواب المضمر المحذوف، والتقدير: والقرآن المجيد لتبعثن، ففهموا ذلك فقالوا جزاباً: أنبعث إذا كنا تراباً، إنكاراً للبعث.
7028
وقيل: أن " أئذا متنا " جواب لِما قيل لهم، إذ أنكروا إتيان منذر منهم، وقالوا هذا شيء عجيب، فقيل لهم ستعلمون عاقبة إنكارهم إذا بعثتم بعد موتكم، فقالوا منكرين: أئذا متنا وكنا تراباً نبعث.
ومعنى: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ أي: ذلك بعث لا يكون.
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ﴾.
أي: قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم [بعد موتهم، وعندنا كتاب محفوظ بما تأكل الأرض منهم.
قال مجاهد: ما تأكل الأرض منهم أي: عظامهم].
وقال ابن عباس: من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم، وما يبقى، فالذي يبقى من الإنسان هو عجب الذنب ومنه يتركب عند النشور.
وروى أبو سعيد الخدري: " أن النبي ﷺ قال: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عَجُبُ الذَّنَبِ، فقيل: وما هو يا رسول الله، فقال مثل حبة خردل منه تنشرون ".
وقيل معناه: وقد علمنا ما يدخل (في الإسلام من بلدان المشركين).
قال: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ يعني بالقرآن.
﴿فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾ أي: مختلط ملتبس لا يعرفون حقه من باطله.
وقال ابن عباس: المريج الشيء المنكر، وعنه مريج: مختلف، وعنه في أمر ضلالة.
وقال (ابن جبير ومجاهد) مريج: ملتبس.
وقال ابن زيد في المختلط: يقال مرج الخاتم في أصبعه: إذا اضطرب من الهزال، فتقديره: فهم في أمر مختلط مختلف، لا يثبتون على رأي: واحد ولا على قول، يقولون مرة ساحر، ومرة معلم، ومرة كاهن، ومرة مجنون /، ثم دلهم جل ذكره على وحدانيته وآياته فقال:
﴿أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾.
أي: أفلم ينظر هؤلاء المنكرون للبعث بعد الموت كيف خَلقنا السماء فوقهم بغير عمد يرونها، وكيف زيناها بالنجوم وليس فيها فتوق ولا شقوق فيعلمون أن من قدر على هذا الأمر العظيم الجليل وأحدثه لا يتعذر عليه إحياء الموتى على صغر خلقهم وقد نبه على هذا بقوله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ [غافر: ٥٦].
قال: ﴿والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾.
أي: وينظرون إلى الأرض كيف مددنا مسطحة لا اعوجاج فيها وجعلنا على
جوانبها جبالاً تمسكها لئلا تميد بأهلها، وكيف أنبتنا فيها من كل جنس من النبات فيبهج من رآه ويسره، فمن قدر على اختراع هذا كله كيف يعجز عن إحياء الموتى بعد موتهم.
وقيل بهيج: حسن، قاله ابن عباس.
أي: فعل ذلك نعمة منه يبصرها / العباد فيستدلون على عظيم قدرته، وأنه لا يعجزه شيء أراده، ويتذكرون به فيتَّعظون ويزدجرون عن مخالفة أمره ونهيه.
والمنيب: التائب، قاله قتادة: وقيل منيب: مخبت، قاله مجاهد.
و ﴿تَبْصِرَةً وذكرى﴾: مصدران أو مفعولان من أجلهما؛ أي: فعلنا ذلك " ليبصركم الله " القدرة، ولتتذكروا عظمة الله فتعلموا أنه قادر على ما يشاء من إحياء الموتى وغير ذلك.
قال: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا﴾ أي: مطراً مباركاً فأنبتا به جنات، أي:
بساتين، و " حب الحصيد " يعني الزرع من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب.
قال الفراء: الحصيد: هو إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الحب هو الحصيد.
والتقدير عند البصريين، وحب النبت الحصيد.
أي: وأنبتنا النخل طوالا، وهي حال مقدرة، ونضيد بمعنى منضود أي: مكتنز منضم متراكب.
قال: ﴿رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ﴾ " رزقاً " مصدر أو مفعول من أجله.
ثم قال: ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ أي: أحيينا بالمطر بلدة قد أجذبت وقحطت فلا نبات فيها.
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ الخروج﴾ أي: كذلك تخرجون من قبوركم يبعث الله جل ذكره
ماء ينبت به الناس كما [ينبت به الزرع، أي: كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها فأخرجنا فيها النبات والزرع بالمطر]. كذلك يبعث عليكم مطراً فتحيون للبعث يوم القيامة.
قال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ أي: كذبت قبل قومك يا محمد قوم نوح.
﴿وَأَصْحَابُ الرس وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيكة وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ﴾
أصحاب الأيكة: قوم شعيب.
والرس: بير قتل فيها صاحب يس، قاله الضحاك.
وقال كعب: أصحاب الأخدود، وهم الذين أرسل إليهم اثنان وعزز بثالث، قال: والرس: الأخدود.
قال قتادة: الأيكة: الشجر الملتف.
قال عبد الله بن سلام: كان تبع رجل من العرب ظهر على الناس فاختار فتية من الأحبار فاستبطنهم واستدخلهم حتى أخذ منهم وتابعهم فاستنكر ذلك قومه
وقالوا قد ترك دينكم وتابع الفِتَيَة فلما فشا ذلك قام الفتية فقالوا بيننا وبينهم النار تحرق الكاذب وينجو منها الصادق ففعلوا فعلق الفتية مصاحفهم في أعناقهم ثم غدوا إلى النار فدخلوها فانفرجت عنهم ثم دخلت الفرقة الأخرى فأحرقتهم فأسلم تبع، وكان رجلاً صالحاً.
وقوله: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرسل﴾ أي: كلهم كذب الرسل فوجب عليهم وعيد الله تعالى وهو النقمة بالعذاب، وهو تخويف من الله تعالى لقريش أنهم إن تمادوا على كفرهم حق عليهم الوعيد أيضاً.
قوله: ﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول﴾.
هذا توبيخ وتقريع لمن أنكر البعث بعد الموت، والمعنى: أفعيينا بابتداع الخلق الذي خلقناه ولم يكن شيئاً، فنعيا بإعادتهم خلقاً كما كانوا بعد فنائهم. أي: ليس
يعيينا ذلك، بل نحن قادِرون عليه.
ثم قال: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.
أي: بل هم في شك من إعادة الخلق بعد فنائهم فلذلك أنكروا البعث بعد الموت.
قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ أي: ما تحدثه به نفسه لا تخفى عليه سرائره.
وقيل: هو مخصوص بآدم عليه السلام وما وحرمت به نفسه من أكل الشجرة التي نهي عنها، ثم هي عامة في جميع الخلق لا يخفى عليه شيء من وسواس أنفسهم إليهم.
ثم قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ / أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من قتل العاتق.
7036
وقيل معناه: ونحن أملك به وأقرب إليه.
وقيل معناه: ونحن أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد.
وهنا من الله جلّ ذكره زجر للإنسان عن إضمار المعصية.
قال الفراء: الوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين.
وقال ابن عباس: " مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " أي: من عرق العنق.
وقال أبو عبيدة: حبل الوريد: حبل العاتق، والوريد عرق في العنق متصل بالقلب، وهو نياط القلب، والوريد والوتين ما في القلب.
قال الأقرع: هو نهر الجسد يمتد من الخنصر أو الإبهام، فإذا كان في الفخذ أو الساق فهو الساق وإذا كان في البطن فهو الحالب وإذا كان في القلب فهو الأبهر وإذا كان في اليد فهو الأكحل وإذا كان في العنق فهو الوريد وإذا كان في العين فهو الناظر / وإذا كان في القلب فهو الوتين.
7037
العامل في " إذ أقرب "، أي: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي: قاعد، وتقديره عند سيبويه: " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ". ثم حذف الأول لدلالة الثاني عليه.
فلذلك لم يقل، قعيدان، وهو قوله الكسائي.
ومذهب الأخفش والفراء: أن قعيداً يؤدى عن اثنين وأكثرمنهما كقوله: ﴿يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: ٦٧]. ومذهب المبرد: أن " قعيداً " ينوي به التقديم والتأخير، والتقدير عنده: " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد " فاكتفى بالأول عن الثاني ومثله ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢].
وقيل: قعيد بمعنى الجماعة، كما قال: ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤].
قال قتادة وغيره: المتلقيان الملكان الحافظان على الإنسان جميع أعماله وألفاظه.
قال مجاهد: الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات.
أي: ما يلفظ بكلام من خير أو شر إلا كتب عليه، قاله عكرمة وغيره.
قال الحسن وقتادة: يكتب الملكان ما يلفظ به من جميع الأشياء.
قال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب قال لا تعجل لعله يستغفر.
وروي: أن الله جل ذكره جعل لصاحب اليمين على صاحب الشمال سلطاناً يطيعه به، فإذا كان الليل قال: صاحب اليمين لصاحب الشمال ألاقيك، أطرح أنا حسنة واطرح أنت عشر سيئات، حتى يصعد صاحب الحسنات لا سيئات معه.
7039
ويروى أن مجلس الملك على باب الإنسان الذي وكل به، وقلم الملك لسان الإنسان، ومداده ريق الإنسان، وهذا تمثيل في القرب، والله أعلم (بكيفية ذلك).
ويروى أن رجلاً قال لبعيره: حَلْ، فقال صاحب الحسنات، ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب السيئات: ما هي بسيئة فاكتبها، فأوحى الله تعالى إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب اليمين فاكتب.
(وروت أم حبيبة: أن النبي ﷺ قال: " كلام ابن آدم عليه السلام عليه لاَ لَه إِلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو ذكر الله تعالى) ".
وقال [عمرو بن الحارث]: بلغني أن رجلاً إذا عمل سيئة قال كاتب اليمين لصاحب الشمال أكتب فيقول لا بل أنت فيمتنعان فينادي منادياً صاحب الشمال:
7040
أكتب ما ترك صاحب اليمين.
وقال أبو صالح: في قول الله جل ذكره: ﴿يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ [الرعد: ٤٠] أن الملائكة تكتب كل ما تكلم به الإنسان فيمحو الله تعالى منه ما ليس له وما ليس عليه ويثبت ما له وما عليه، وهذا القول موافق لقول الحسن وقتادة أن الملكين يكتبان كل ما يقول الإنسان ويعمل من جميع الأشياء.
وقوله: ﴿رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ معناه حافظ حاضر يكتب عليه ويحفظه.
وقيل: عتيد معناه معد، وفعيل يأتي بمعنى فاعل نحو قدير بمعنى قادر وهو كثير، ويأتي بمعنى مفعول نحو سميع بمعنى مسمع.
7041
وأليم بمعنى مؤلم، ويأتي بمعنى مفعول، نحو قتيل بمعنى مقتول وهو كثير، ويأتي بمعنى الجمع نحو ما ذكرنا من قعيد وله نظائر.
(وروى أنس أن النبي ﷺ قال: " إن الله تعالى وكل بعبده ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: ربنا قد مات عبدك فلان بن فلان فتأذن لنا فنصعد إلى السماء فيقول سمائي مملوءة من ملائكتي، فيقولان ربنا فنقيم في الأرض، فيقول الله تعالى أرضي مملوءة من خلقي فيقولان ربنا فأين، فيقول قٌومَا عند قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني وهللالي واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم يبعثون) ".
قال: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾.
أي: وجاءت شدة الموت وغلبته على فهم الإنسان بالحق من أمر الآخرة.
وقيل المعنى: (وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت).
وفي قراءة عبد الله: " وجاءت سكرة الحق بالموت "، وكذلك [قال] أبو بكر رضي الله عنهـ في مرضه الذي مات فيه لعائشة رضي الله عنها.
ومعنى هذه القراءة: أن الحق هو الله، فالمعنى وجاءته سكرة الله بالموت.
وقيل: الحق هنا الموت، فالتقدير وجاءت سكرة الموت بالموت فالحق هو الموت الذي / حتمه الله على جميع خلقه.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ أي: السكرة التي جاءتك أيها الإنسان، والموت الذي أتاك هو الذي كنت منه تهرب، وعنه تروع.
قد تقدم صفة النفخ في الصور، ومعنى الصور، والاختلاف فيه في غير موضع.
فالمعنى ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في الصور، وهو اليوم الذي وعدكم الله تعالى فيه أن يبعثكم ويجازيكم بأعمالكم.
ثم قال: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [٢١].
أي: وجاءت يوم القيامة كل نفس معها سائق يسوقها إلى الله تعالى حتى يوردها الموقف، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير وشر، قاله الحسين والربيع وقتادة وغيرهم.
قال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد شاهد عليه من نفسه.
وقال مجاهد: هما الملكان.
وقال الضحاك: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل، والملائكة أيضاً تشهد عليهم، والأنبياء يشهدون عليهم.
وقال ابن زيد: يوكل به ملك يحصي عليه عمله، ويشهد به عليه وملك يسوقه إلى محشره.
وقال أبو هريرة: السائق والشهيد نفسه.
وقيل: السائق شيطان النفس يكون خلفها، والشهيد ملكه.
وهذه الآية إلى " حديدٌ " في قول أكثر العلماء يراد بها البر والفاجر، وهو اختيار الطبري.
وقيل: عني بها النبي ﷺ.
وقيل: عني بها المشركون وهو قول الضحاك، والقول الثاني روي عن زيد بن أسلم: يريد به استنقاذ الله تعالى النبي ﷺ مما كان عليه في الجاهلية، ودلّ على ذلك قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾ [الضحى: ٧] والقول الأول أولى بالصواب والله أعلم.
أي: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة في الدنيا عما يراد بك وعما يحصى عليك إذ لم تعاينه، فكشفنا عنك الغطاء الآن فنظرت إلى الأهوال والشدائد فزالت الغفلة.
قال ابن عباس: هذا للكافر خاصة، لأن المؤمن قد آمن بجميع ما يقدم عليه فلم يكن عليه غطاء، وكذلك قال مجاهد وسفيان.
7045
وقال ابن زيد هو للنبي ﷺ خاصة أي: كنت مع القوم في جاهليتهم فهديناك إلى الإسلام، وأعلمناك ما يراد بك فكشفنا عنك الغطاء الذي كان عليك في الجاهلية.
وقد احتج زيد بن أسلم في هذه الآيات أنها للنبي ﷺ ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى﴾ [الضحى: ٧] فيكون الكشف على قوله في الدنيا، وعلى قول ابن عباس ومجاهد وسفيان يوم القيامة.
وقيل: بل هذا لجميع الخلق، البر والفاجر، لأن المعاينة ليست كالخبر.
وعن ابن عباس: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ﴾ قال: هو الحياة بعد الموت.
ثم قال: ﴿فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾.
أي: فأنت اليوم حاد النظر، عالم بما كنت تخبر به علم معاينة لا علم خبر.
7046
والبصر هنا يراد به بصر القلب، كما يقال: فلان بصير بالفقه.
أي: وقال قرين هذا الإنسان الذي جاء به ربه يوم القيامة ومعه سائق وشهيد: هذا ما عندي حاضر مما كتبت عليه.
قال ابن زيد: هو سائق الذي وكل به.
قال قتادة قرينه: الملك.
وقيل قرينه: شيطانه.
وقيل معنى عتيد: معد.
وقيل معناه: قال قرين الكافر هذا ما عندي من العذاب له حاضر.
[وقيل معناه: قال قرينه من زبانية جهنم هذا ما عندي من العذاب حاضر].
ثم قال: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [٢٤].
قال الفراء والكسائي: " أَلْقِيَا " مخاطبة للقرين.
قال الفراء: والعرب تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين، فيقول: " يا رجل قوما ".
وأنشد:
خَلِيلَيَّ مُرَّابِي عَلَى أُمِّ جُنْدُبٍ [لِنَقْضِي لُبَانَاتِ] الفُؤادِ المُعَذَّبِ
وإنما خاطب واحداً، واستدل على ذلك بقوله في القصيدة:
وقيل: إنما ثني (ألقيا)، لأن قريناً يقع للجماعة والاثنين كقوله: ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤]، وكقوله: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧]، على قول من رأى ذلك، وقد تقدم ذكره.
وقيل: إنما قال ألقيا على شرط تكرير الفعل كأنه قال: أَلْقِ، أَلْقِ، فالألف تدل على التكرير /، وهو قول المبرد.
وقيل: هو مخاطبة للملكين، السائق والشهيد، والعنيد: المعاند للحق المجانب له.
وقيل العنيد: الجاحد للتوحيد.
قوله: ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ﴾.
قال قتادة: مناع للخير: أي: للزكاة المفروضة.
معتد: متعد على حدود الله، مريب: شاك في الله وفي قدرته.
وقيل مريب: يأتي الأمور القبيحة.
وقيل الخير هنا: المال، يمنع أن يخرجه في حقه، معتد: متعد على الناس بلسانه وبطشه ظلماً. مريب: شاك.
ثم بينه تعالى فقال: ﴿الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي: هو الذي أشرك بالله غيره فجعل معه إلهاً آخر يعبده.
أي: قال قرين هذا الكافر الذي عبد مع الله غيره، وقرينه شيطانه، قاله ابن عباس وغيره.
قال ابن زيد: قال قرينه من الجن ربنا ما أطغيته، تبرأ منه، والمعنى أنه تبرأ من
كفره، وقال ما أجبرته على الكفر، إنما دعوته فاستجاب لي، لأنه كان على طريق جائر عن الصواب، فأعلم الله تعالى عباده بتبري بعضهم من بعض يوم القيامة، وقد مضى ذلك في مواضع.
(أي: قال لهما تعالى) لا تختصما إِليَّ اليوم وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد على الكفر على لسان رسلي وكتبي.
قال ابن عباس: اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم، وإنما قال لهم " لا تختصموا " ولم يتقدم إلاَّ ذكرُ الاثنين؛ لأن قبله الأخبار عن جماعة في قوله: ﴿كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [ق: ٢٣]، وفي قوله: ﴿وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ [ق: ٢١]، وبعده خطاب للجماعة في قوله: ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم﴾.
فالمراد كل من اختصم مع قرينه، فهم جماعة ليس المراد به اثنين فقط، بل كل كافر اختصم مع قرينه، ويجوز أن يكون جمع تختصموا؛ لأن الاثنين جماعة والأول أبين.
قال: ﴿مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ﴾ أي: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا، وهو قوله: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٨].
قال مجاهد معناه قد قضيت ما أنا قاض.
وقيل: معناه قد قضيت الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها.
ثم قال ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي: لا أحداً بجرم أحد.
أي: يوم يقول لجهنم هل أمتلئت لما سبق من وعيده في قوله: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٨] وذلك يوم القيامة. وقوله: ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾.
قال ابن عباس: إن الله قد سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلما بعث الناس يوم القيامة، وسيق أعداء الله إلى النار زمراً، جعلوا يقتحمون في
7052
جهنم فوجاً، لا يلقى في جهنم فوج إلا ذهب فيها لا يملؤها شيء فقالت: ألست [قد] أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين، قال: فوضع قدمه عليها، فقالت حين وضع قدمه عليها: [قد امتلأتُ فليس من مزيد ولم يكن يملؤها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها] فتضايقت حين جعل عليها ما جعل فامتلأت فما فيها موضع إبرة.
قال مجاهد: وتقول هل من مزيد، قال: وعدها ليملأنها فقال هلا وفيتك (قالت وهل من مسلك)، فمعنى ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ ما من مزيد على هذين القولين.
وحكي عن النبي ﷺ أنه قيل له بمكة: " ألاّ تنزل داراً من دورك فقال: " وهل ترك لنا عقيل من دار " " أي: ما ترك لنا داراً حين باعها وقت. الهجرة فالتقدير:
7053
هل فيّ من مسلك (وقد امتلأت). فلا زيادة فيّ.
وقال أنس بن مالك: يلقي في جهنم وتقول هل من مزيد؛ أي: زدني ثلاثاً، حتى يضع قدمه فيها فتنزوي بعضها إلى بعض فتقول: قظ ثلاثاً، وهو قول ابن زيد.
فمعنى ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ على هذين القولين: زدني، تسأله أن يزيد فيها من الخلق، وعلى. القولين الأولين: لا مزيد فيّ قد امتلأت، فلا موضع لأحد في وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: " لا تَزَالُ جَهَنَّمَ تَقُولُ هَلْ مِنَ مَزِيدٍ فَيَقُومُ رَبّ العَالَمِين فَيَجْعَلَ قَدَمَهُ فِيها فَتَقُول قَط قط ".
ومعنى قدمه: أي: من تقدم في عمله أنه يدخله النار، ومنه قوله تعالى ﴿وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [يونس: ٢] [أي] سابقة خير.
ومن روى الحديث " حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارَ فِيها قَدَمه " احتمل التفسير الأول، أي:
7054
حتى يضع لها من تقدم في علمنه أنه يدخل النار، ويحتمل أن يكون / المعنى: حتى يضع الجبارون المتكبرون على الله فيها أقدامهم بأجمعهم، والواحد يدل على الجمع.
وقال أبو هريرة: " اخْتَصَمَت الجَنَّة وَالنَّار، فَقَالَتْ: الجَنّة مَا لِي إِنَّمَا يَدْخُلُنِي فُقَرَاء المُسْلِمين وَسقاطهم، وقالت النار: ما لي إنما يدخلني الجبارون والمتكبرون ".
فقال تعالى ذكره: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء [وأنت عذابي أصيب به من أشاء] ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فإن الله ينشئ لها من خلقه ما شاء، وأما النار فيلقون فيها فتقول هل من مزيد ويلقون فيها فتقول هل من مزيد، حتى يضع فيها قدمه، فهناك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط.
أي: أدنيت الجنة وقربت للذين آتقوا ربهم.
قال ﴿هذا مَا تُوعَدُونَ﴾ أي: يقال لهم هذا الذي كنتم توعدونه / أيها المتقون.
﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ أي: لكل راجع عن معصية الله تعالى تائب من ذنوبه.
وقيل هو المسبِّح، قال أبن عباس، قال: لكل أواب: لكل مسبِّح، وهو قول مجاهد. وعن مجاهد أنه قال هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا، فيستغفر منها، وكذا روى عن الشعبي.
(وقال الحسن: الأواب: الرجل معلق قلبه عند الله).
وقال قتادة لكل أواب حفيظ: أي: لكل مطيع لله تعالى، كثير الصلاة.
وقال ابن زيد الأواب الثواب.
قال ابن عباس حفيظ: أي: حفظ ذنوبه حتى تاب منها.
وقيل: معناه حفيظ على فرائض الله، أي: محافظ عليها.
وقال قتادة: حفيظ: ما استودعه الله تعالى من حقه ونعمته.
قال: ﴿مَّنْ خَشِيَ الرحمن﴾ " من " بدل من " أواب " أو من " كل "، والمعنى: من خاف الرحمن في الدنيا وخشي عذابه.
﴿وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ قال قتادة: بقلب منيب إلى ربه؛ أي: راجع إلى رضا ربه.
قال فضيل: المنيب: الذي يذكر ذنوبه في الخلا ويستغفر منها.
قال ﴿ادخلوها بِسَلاَمٍ ذَلِكَ﴾ أي: ادخلوا الجنة بسلامة وبأمان من الهم والنصب والعذاب والموت وجميع المكاره والأحزان.
ثم قال ﴿يَوْمُ الخلود﴾ أي: ذلك اليوم الذي يدخلون فيه الجنة هو يوم
المكث في النعيم المقيم.
قال ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا﴾ أي: لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم.
﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ أي: وعندنا ما أعطيناهم زيادة، قيل: هو النظر إلى الله جل ذكره. وقيل بل يزادون ما لم يخطر على قلوبهم. وروى أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: " النظر إلى الله في كل يوم، وذكر حديثا طويلا ".
قوله ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾.
أي: وكثيراً من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش هم أشد من قريش بطشاً.
ثم قال: ﴿فَنَقَّبُواْ فِي البلاد﴾ قال ابن عباس معناه فأثروا في البلاد. وقال مجاهد
7058
ضربوا في الأرض. وقيل معناه ضربوا وتوغلوا في البلاد (يلتمسون محيصاً) من الموت فلم يجدوا منه مخلصاً. والقرن مأخوذ من الأقران وهو مقدار أكثر ما يعيش أهل ذلك الزمان.
قال الفراء: ﴿هَلْ مِن مَّحِيصٍ﴾ (أي: فهل كان لهم من الموت محيص) وحذف " كان " للدلالة.
وقرأ يحيى بن يعمر فنقِّبوا: على الأمر، ومعناه: التهدد والوعيد لقريش، أي: فطوفوا في البلاد وتوغلوا وفروا بأنفسكم فيها هل تجدون
7059
محيصاً من الموت.
وقراءة الجماعة إنما هي على الإخبار عما فعلت القرون الماضية فالوقف على (قراءة الجماعة على محيص). وعلى قراءة ابن يعمر على " بطشاً ".
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾.
أي: إن في إهلاكنا القرون الماضية قبل قريش بكفرهم لذكرى يتذكر بها ويتعظ بها من كان له عقل من قريش وغيرهم، فينتهي عن الفعل الذي أهلكت القرون الماضية من أجله وهو الكفر بالله ورسله عليهم السلام وكتبه.
قال قتادة: ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ يعني من هذه الأمة. قال: يعني بذلك القلب الحي. فالتقدير لمن كان له عقل يعقل به ما ينفعه وكني عن العقل بالقلب لأنه محله.
ثم قال: ﴿أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (أي: وألقى بسمعه لأخبار الجزاء عن القرون الماضية التي أهلكت بكفرها وعصيانها).
وهو شهيد: أي: متفهم لما يخبر به عنهم معرض عما يخبر به، هذا معنى قول أبن عباس والضحاك وغيرهما.
وقال قتادة: عني بذلك أهل الكتاب، فالمعنى وهو شهيد على ما يقرأ في كتاب الله من نعمة محمد ﷺ، وهو قول معمر.
وقال الحسن هو منافق استمع ولم ينتفع.
وقال أبو صالح هو المؤمن يسمع القرآن وهو شهيد على ذلك.
أي: خلقنا جميع ذلك في ستة أيام، أولها الأحد، وآخرها الجمعة وما مسنا من إعياء.
روي: " أن هذه الآية نزلت في يهود أتوا النبي ﷺ فقالوا: أخبرنا ما خلق الله (من الخلق) في هذه الأيام الستة، فقال (خلق يوم الأحد والاثنين الأرض)، وخلق الجبال يوم الثلاثاء [وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمراتها وخرابها يوم
7061
الأربعاء وخلق السماوات] والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات، يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال وفي الثانية الآفات وفي الثالثة آدم، قالوا صدقت إذا أتممت، فعرف النبي / ﷺ ما يريدون فغضب، فأنزل الله ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ ".
قال قتادة: أكذب الله جل وعز اليهود والنصارى وأهل الفِراء على الله جل ذكره، وذلك أنهم قالوا: خلق الله جل وعز السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استراح يوم السابع. وذلك عندهم يوم السبت، وهم يسمونه الراحة.
قال الضحاك: كان مقدار كل يوم ألف سنة مما تعدون.
قال مجاهد: ﴿مِن لُّغُوبٍ﴾ من نصب.
وقال قتادة: من إعياء.
7062
واللغوب في اللغة: التعب. يقال لغب يلغب لغوباً: إذا تعب.
قال: ﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ أي: اصبر يا محمد على قولهم لك ثم استراح.
وهذه الآية عند جماعة منسوخة بقوله ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ [التوبة: ٢٩].
وقوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب﴾.
قال قتادة: قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: صلاة العصر، وهو قول ابن زيد.
قال ابن زيد: ﴿وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ﴾: يعني صلاة العتمة.
وقال مجاهد: هي الصلاة بالليل، في أي وقت صلى.
وقوله: ﴿وَأَدْبَارَ السجود﴾.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: الركعتان بعد المغرب. وكذلك عن عمر رضي الله عنهـ.
وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد والشعبي وقتادة والضحاك.
وقد روي ذلك عن النبي ﷺ، وهو اختيار الطبري. وقيل: هو على الندب.
وعن ابن عباس: ﴿وَأَدْبَارَ السجود﴾ هو التسبيح بعد الصلاة، وأدبار النجوم علامة الصبح.
وقال: ابن زيد وأدبار السجود: النوافل بعد الصلوات المكتوبات.
أي: واستمع يا محمد حين ينادي المنادي من صخرة بيت المقدس وهو المكان القريب، قال كعب، قال: ينادي بصوت عال يا أيتها العظام البالية، والأوصال المنقطعة اجتمعي لفصل القضاء.
قال قتادة: كما نحدث أنه من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض.
قال: وحدثنا أن كعبا قال هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وقال بريدة: هو ملك يقوم على صخرة المقدس يقول: يا أيها الناس هلموا إلى الحساب قال فيقبلون كما قال الله تعالى ﴿ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧]. [وإنما] قيل له مكان قريب: لأنه يسمع كل أحد.
قال: ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق﴾ أي: يوم يسمع الخلائق صيحة البعث من القبور بالحق أي: بالاجتماع للحساب.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخروج﴾ أي: ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم.
أي: نحيى الموتى، ونميت الأجبار، وإلينا رجوع جميع الخلق يوم القيامة.
قال: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً﴾ أي: وإلينا مصيرهم في يوم تشقق الأرض عن جميع الخلق، أي: تتصدع عنهم فيخرجون سراعاً.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ أي: جمعهم جمعا علينا سهل.
قال: / ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ أي: نحن أعلم يا محمد بما يقول هؤلاء المشركون من كذبهم على الله سبحانه، وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم للبعث، ولست يا محمد [عليهم] بمسلط على أن تجبرهم على الإيمان، إنما أنت منذر.
قال الفراء: " وضع الجبَّار في موضع السلطان من الجبرية ".
ثم قال مجاهد: وما أنت عليهم بجبار: أي: ست تتجبر عليهم، وهو معنى قول قتادة. وجبار من أجبرته على كذا، وحكى أهل الغة أن العرب لا تأتي بفعال من أفعلت، إما تأتي به من فعلت غير حرف، وأخرجا فعَّال من أفعلت، وهو درّاك من أدركت، وهو شاذ.
7066
وحكى عن العرب: جبره على الأمر، فجبَّار من هذا.
وقد يقال أجبره بمعنى جبره، لكن الجبار من جبره مأخوذ.
ثم قال: ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ أي: فذكر يا محمد بهذا القرآن من يخاف وعيدي الذي أوعدته من عقابي.
قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾.
7067
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جئتُ طارقاً وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطِبِ