تفسير سورة القمر

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة القمر من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها، كما قال تعالى :﴿ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [ النحل : ١ ]، وقال :﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١ ]، وقد وردت الأحاديث بذلك، روى الحافظ أبو بكر البزار، عن أنس أن رسول الله ﷺ خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا سف يسير فقال :« والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيراً »، وقال الإمام أحمد، عن سهل بن سعد قال :« سمعت رسول الله ﷺ يقول :» بعثت أنا والساعة هكذا « وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى »، وفي لفظ :« بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني » وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى، وقال الإمام أحمد، عن خالد بن عمير، قال : خطبنا رسول الله ﷺ : فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال :« أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصُرْم وولت حَذَّاءَ، ولم يبق منه إلا صُبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً، والله لتملؤنه أفعجبتم؟ والله لقد ذكرنا لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الرخام » وذكر تمام الحديث. وعن عبد الرحمن السلمي قال : نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة أبي وحضرت معه، فخطبنا حذيفة فقال : ألا إن الله يقول :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق، فقلت لأبي أيستبق الناس غداً؟ فقال : يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال، وقوله تعالى :﴿ وانشق القمر ﴾ قد كان هذا في زمان رسول الله ﷺ كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال :« خمس قد مضين : الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر »، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي ﷺ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
( ذكر الأحاديث الواردة في ذلك )
( رواية أنَس بن مالك ) : روى الإمام أحمد عن أنَس بن مالك قال :« سأل أهل مكة النبي ﷺ آية فانشق القمر بمكة مرتين، فقال :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ »
2440
، وعن أنَس بن مالك « أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حِراء بينهما » وروى الإمام أحمد، عن جبير بن مطعم قال :« انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا : سحرنا محمد، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم » وروى البخاري، عن ابن عباس قال : انشق القمر في زمان النبي ﷺ، وقال ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾، ﴿ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾ قال : قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه، وقال الحافظ البيهقي، « عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله ﷺ انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي ﷺ :» اللهم اشهد « » وقال الإمام أحمد، عن ابن مسعود قال :« انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله ﷺ » اشهدوا « »، وعن عبد الله بن مسعود قال :« انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة، قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم به السفَّار، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال : فجاء السفّار، فقالوا : ذلك » وفي لفظ « انظروا السفّار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحركم به، قال : فسئل السفار، قال : وقدموا من كله وجهة، فقالوا : رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ » وروى الإمام أحمد، عن عبد الله قال :« انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر » وقال ليث عن مجاهد :« انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين، فقال النبي ﷺ لأبي بكر :» اشهد يا أبا بكر «، فقال المشركون : سحر القمر حتى انشق »، وقوله تعالى :﴿ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً ﴾ أي دليلاً وحدة وبرهاناً ﴿ يُعْرِضُواْ ﴾ أي لا ينقادوا له بل يعرضوا عنه، ويتركونه وراء ظهوركم ﴿ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾ أي ويقولون هذا الذي شاهدناه من الحجج سحرٌ سحرنا به، ومعنى ﴿ مُّسْتَمِرٌّ ﴾ أي ذاهب باطل مضمحل لا دوام له، ﴿ وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به أراؤهم وأهواؤهم، من جهلهم وسخافة عقلهم، وقوله :﴿ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ قال قتادة : معناه أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر، وقال جريج : مستقر بأهله، وقال مجاهد :﴿ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ أي يوم القيامة، وقال السدي : مستقر أي واقع.
2441
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء ﴾ أي من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم في هذا القرآن ﴿ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴾ أي مافيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب، وقوله تعالى :﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله ﴿ فَمَا تُغْنِ النذر ﴾ يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ١٠١ ].
2442
يقول تعالى : فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر، أعرض عنهم وانتظرهم ﴿ يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ ﴾ أي إلى شيء منكر فظيع، وهو موقف الحساب، وما فيه من البلاء والأهوال، ﴿ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ ﴾ أي ذليلة أبصارهم، ﴿ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث ﴾ وهي القبور ﴿ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾ أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي، جراد منتشر في الآفاق، ولهذا قال :﴿ مُّهْطِعِينَ ﴾ أي مسرعين ﴿ إِلَى الداع ﴾، لا يخافون ولا يتأخرون ﴿ يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير، كقوله تعالى :﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [ المدثر : ٩-١٠ ].
يقول تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ﴾ قبل قومك يا محمد ﴿ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ﴾ أي صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون، ﴿ وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر ﴾ قال مجاهد : أي استطير جنوناً، وقيل :﴿ وازدجر ﴾ أي انتهروه وزجروه وتواعدوه، ﴿ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين ﴾ [ الشعراء : ١١٦ ] قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن، ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر ﴾ أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك، قال الله تعالى :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴾ وهو الكثير، ﴿ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً ﴾ أي نبعت جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيوناً، ﴿ فَالْتَقَى المآء ﴾ أي من السماء والأرض ﴿ على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ أي أمر مقدر. قال ابن عباس :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴾ كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، فتحت أبواب السماء بالمء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءان على أمر قد قدر، ﴿ وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ قال ابن عباس : هي المسامير، وقال مجاهد : الدسر أضلاع السفينة، وقال عكرمة والحسن : هو صدرها الذي يضرب به الموج. وقال الضحّاك : الدسر طرفاها وأصلها، وقال العوفي، عن ابن عباس : هو كلكلها أي صدرها، وقوله :﴿ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ﴾ أي بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا ﴿ جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴾ أي جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصاراً لنوح عليه السلام، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً ﴾ قال قتادة : أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أو هذه الأمة، والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن كقوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون ﴾ [ يس : ٤١ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية ﴾ [ الحاقة : ١١ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ وقوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ أي كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نذري، وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر، ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ ﴾ أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس، كما قال :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب ﴾ [ ص : ٢٩ ]، وقال تعالى :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٩٧ ]، قال مجاهد :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ ﴾ يعني هوّنّا قرءاته، وقال السدي : يسرنا تلاوته على الألسن، وقال ابن عباس : لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن تكلم بكلام الله عزّ وجلّ، وقوله :﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ أي فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟ وقال القرظي : فهل من منزجر عن المعاصي؟ وروى ابن أبي حاتم، عن مطر الوراق في قوله تعالى :﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ هل من طالب علم فيعان عليه.
يقول تعالى مخبراً عن عاد قوم ( هود ) أنهم كذبوا رسلهم، كما صنع قوم ( نوح ) وأنه تعالى أرسل ﴿ عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ﴾، وهي الباردة الشديدة البرد، ﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴾ عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي، وقوله تعالى :﴿ تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فتعرفه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه فيسقط إلى الأرض، فتثلغ رأسه فيبقى جثةً بلا رأس، ولهذا قال :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾.
وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحاً ﴿ فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾ يقولون : لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا، ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم، ثم رموه بالكذب فقالوا ﴿ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ أي متجاوز في حد الكذب، قال الله تعالى :﴿ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ﴾ وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ ﴾ أي اختباراً لهم، أخرج الله تعالى لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء، طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق ( صالح ) عليه السلام فيما جاءهم به، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله صالح ﴿ فارتقبهم واصطبر ﴾، أي انتظر ما يؤول إليه أمرهم واصبر عليهم، فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة ﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ﴾ أي يوم لهم ويوم للناقة، كقوله :﴿ قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الشعراء : ١٥٥ ]، وقوله تعالى :﴿ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴾ قال مجاهد : إذا غابت حضروا الماء، وإذا جاءت حضروا اللبن، ثم قال تعالى :﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ ﴾ قال المفسرون : هو عاقر الناقة واسمه ( قدار بن سالف ) وكان أشقى قومه، كقوله :﴿ إِذِ انبعث أَشْقَاهَا ﴾ [ الشمس : ١٢ ]، ﴿ فتعاطى ﴾ أي حسر ﴿ فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ أي فعاقبتهم فكيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي، ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر ﴾ أي فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات، قاله غير واحد من المفسرين و ﴿ المحتظر ﴾ قال السدي : هو المرعى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتسفيه الريح، وقال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبس الشوك، فهو المراد من قوله :﴿ كَهَشِيمِ المحتظر ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن قوم ﴿ لُوطٍ ﴾ كيف كذبوا رسولهم وخالفوه وارتكبوا المكروه ومن إتيان الذكور وهي ( الفاحشة ) التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، ولهذا أهلكهم الله هلاكاً لم يهلكه أمة من الأمم، فإنه تعالى أمر جبريل عليه السلام فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها وأتبعت بحجارة من سجيل منضود، ولهذا قال هاهنا :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ﴾ وهي الجارة ﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴾ أي خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم، ولم يؤمن بلوط من قوله أحد، حتة ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط من بين أظهرهم سالماً لم يسمه سوء، ولهذا قال :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ﴾ أي ولقد كان قبل حلول العذاب بهم، قد أنذرهم بأس الله وعذابه، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه وتماروا به ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ ﴾ وذلك ليلة ورد عليه الملائكة في صور شباب مرد حسان، محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط فأقبلوا يهرعون إليه من مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، فلما اشتد الحال وأبوا إلاّ الدخول خرج عليهم ( جبريل ) عليه السلام فضرب أعينهم بطرف جناحه، فانطمست أعينهم، يقال إنها غارت من وجوههم، وقيل : إنه لم يبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطاً عليه لاسلام إلى الصباح، قال الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك لهم منه ﴿ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وقومه، إنهم جاءهم رسول ( موسى ) وأخوه ( هارون ) وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، فكذبوا بها كلها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أي فأبادهم الله ولم يبق منهم عين ولا أثر، ثم قال تعالى :﴿ أَكُفَّارُكُمْ ﴾ أيها المشركون ﴿ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ ﴾ يعني من الذين تقدم ذكرهم، ممن أهكلوا بسبب تكذيبهم الرسل، أأنتم خير من أولئكم؟ ﴿ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر ﴾ أي أم معكم من الله براءة، أن لاينالكم عذاب ولا نكال، ثم قال تعالى مخبراً عنهم :﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ﴾ أي يعتقدون أن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء، قال الله تعالى :﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ أي سيتفرق شملهم ويغلبون، روى البخاري، عن ابن عباس « أن النبي ﷺ قال وهو في قبة له يوم بدر :» أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً « فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول :﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر * بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ ﴾ » وروى ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال :« لما نزلت ﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ﷺ يثب في الدرع وهو يقول :﴿ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ فعرفت تأويلها يومئذٍ ».
يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق ﴿ وَسُعُرٍ ﴾ مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذكر من كافر ومبتدع من سائر الفرق، ثم قال تعالى :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار، ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً ﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾، كقوله ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢ ]، وكقوله تعالى ﴿ والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ [ الأعلى : ٣ ] أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة، على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذا الآية وبما شاكلها على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة، روى أحمد، عن أبي هريرة قال :« جاء مشركو قريش إلى النبي صلى عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ » وعن نعطاء بن أبي رباح قال : أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له : قد تُكلَّمَ في القدر، فقال : أو قد فعلوها؟ قلت : نعم. قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلاّ فيهم :﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذي لا يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم » وقال رسول الله ﷺ :« كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ».
وفي الحديث الصحيح :« استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل : قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان » وروى الإمام أحمد، عن الوليد بن عبادة قال :« دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال : أجلسوني، فلما أجلسوه. قال : يا بني إنك لن تطعم الإيمان ولن تبلغا حق حقيقة العلم بالله، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت : يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن لخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله ﷺ يقول :» إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة «، يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار »
2449
وقد ثبت في « صحيح مسلم »، عن عبد الله بن عمرو قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة »، زاد ابن وهب :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ﴾ [ هود : ٧ ]. وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه، كما أخبر بنفوذ قدره فيهم، فقال :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ ﴾ أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين، وما أحسن ما قال بعض الشعراء :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قوله فيكون
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ ﴾ يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، ﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ ؟ أي فهل من متعظ بما أخرى الله أولئك، وقدَّر لهم من العذاب، كما قال تعالى :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ﴾ [ سبأ : ٥٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر ﴾ أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام، ﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ﴾ أي من أعمالهم ﴿ مُّسْتَطَرٌ ﴾ أي مجموع عليهم ومسطّر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وقد روى الإمام أحمد، عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :« يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾ أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر، والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد، وقوله تعالى :﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ﴾ أي في دار كرامة الله ورضوانه، وفضله وامتنانه، وجوده وإحسانه ﴿ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ أي عند الملك العظيم، الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون، وقد روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي ﷺ قال :« المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ».
2450
Icon