تفسير سورة ق

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة ق من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت في عصر الصحابة ﴿ سورة ق ﴾ ينطق بحروف : قاف، بقاف، وألف، وفاء.
فقد روى مسلم عن قطبة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح سورة ﴿ ق والقرآن المجيد ﴾. وربما قال :﴿ ق ﴾ ويعني في الركعة الأولى.
وروى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ما أخذت ﴿ ق والقرآن المجيد ﴾ إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم على المنبر إذ خطب الناس.
وروى مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب﴿ قاف والقرآن المجيد ﴾، هكذا رسم قاف ثلاث أحرف، وقوله ﴿ في الفجر ﴾ يعني به صلاة الصبح لأنها التي يصليها في المسجد في الجماعة فأما نافلة الفجر فكان يصليها في بيته.
وفي الموطأ ومسلم أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال : كان يقرأ فيهما ب﴿ قاف ﴾ هكذا رسم قاف ثلاثة أحرف مثل ما رسم حديث جابر بن سمرة و﴿ القرآن المجيد ﴾ و﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾.
وهي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل طه وص. و ق. ويس لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى.
وفي الإتقان أنها تسمى سورة ﴿ الباسقات ﴾. هكذا بلام التعريف، ولم يعزه لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله ﴿ النخل باسقات لها طلع نضيد ﴾.
وهذه السورة مكية كلها قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين.
وفي تفسير القرطبي والإتقان عن ابن عباس وقتادة والضحاك : استثناء آية ﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ﴾ أنها نزلت في اليهود، يعني في الرد عليهم إذ قالوا : إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، يعني أم مقالة اليهود سمعت بالمدينة، يعني : وألحقت بهذه السورة لمناسبة موقعها.
وهذا المعنى وان كان معنى دقيقا في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة فإن الله علم ذلك فأوحى به الى رسوله صلى الله عليه وسلم على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار. وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوة والأنبياء، على أن إرادة الله إبطال أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالها الى سماعها بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوها في الناس كما في قوله تعالى ﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات ومطويات بيمينه ﴾ فإنها نزلت بمكة.
وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعض أحبار اليهود فقال : إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على إصبع والبحار على أصبع والجبال على إصبع ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية. والمقصود من تلاوتها هو قوله ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾. والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله.
وهي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة المرسلات وقبل سورة لا أقسم بهذا البلد.
وقد أجمع العادون على عد آيها خمسا وأربعين.
أغراض هاته السورة
أولها التنويه بشأن القرآن.
ثانيها أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر، وثالثها : الاستدلال على إثبات البعث وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلق الأرض وما عليها، ونشأة النبات والثمار من ماء السماء وأن ذلك مثل للإحياء بعد الموت.
الرابع : تنظير المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم، ووعيد هؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك.
الخامس : الوعيد بعذاب الآخرة ابتداء من وقت احتضار الواحد، وذكر هول يوم الحساب.
السادس : وعد المؤمنين بنعيم الآخرة.
السابع : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه وأمره بالإقبال على طاعة ربه وإرجاء أمر المكذبين إلى يوم القيامة وأن الله لو شاء لأخذهم من الآن ولكن حكمة الله قضت بإرجائهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف بأن يكرههم على الإسلام وإنما أمر بالتذكير بالقرآن.
الثامن : الثناء على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن.
التاسع : إحاطة علم الله تعالى بخفيات الأشياء وخواطر النفوس.

أَغْرَاضُ هَاتِهِ السُّورَةِ
أَوَّلُهَا: التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كذبُوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْبَشَرِ، وَثَالِثُهَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا وَخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَنَشْأَةُ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ لِلْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الرَّابِعُ: تَنْظِيرُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ بِبَعْضِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الْمَعْلُومَةِ لَدَيْهِمْ، وَوَعِيدُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
الْخَامِسُ: الْوَعِيدُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ احْتِضَارِ الْوَاحِدِ، وَذِكْرُ هَوْلِ يَوْمِ
الْحِسَابِ.
السَّادِسُ: وَعْدُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ.
السَّابِعُ: تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَمْرُهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَإِرْجَاءِ أَمْرِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَخَذَهُمْ مِنَ الْآنَ وَلَكِنْ حِكْمَةُ اللَّهِ قَضَتْ بِإِرْجَائِهِمْ وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَلَّفْ بِأَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ.
الثَّامِنُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِالْقُرْآنِ.
التَّاسِعُ: إِحَاطَةُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَفِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاطِرِ النُّفُوسِ.
[١- ٣]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)
ق الْقَوْلُ فِيهِ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. فَهُوَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي وَقَدْ رَسَمُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ حَرْفِ الْقَافِ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا فِي الْمَكْتَبِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النُّطْقَ بِهَا بِاسْمِ الْحَرْفِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ يَنْطِقُونَ بِقَافٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، بَعْدَهُ فَاءٌ.
275
وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى النُّطْقِ بِهِ سَاكِنَ الْآخِرِ سُكُونَ هِجَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَعْضِ الْقَصَّاصِينَ الْمَكْذُوبَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ق اسْمُ جَبَلٍ عَظِيمٍ مُحِيطٍ بِالْأَرْضِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جِبَالٍ سَبْعَةٍ مُحِيطَةٍ بِالْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَاحِدًا وَرَاءَ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعَ أَرْضٌ وَرَاءَ أَرْضٍ. أَيْ فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ انْحَصَرَتْ أَفْرَادُهُ فِي سَبْعَةٍ، وَأَطَالُوا فِي وَصْفِ ذَلِكَ بِمَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِمُ الْخَيَالُ الْمَشْفُوعُ بِقِلَّةِ التَّثَبُّتِ فِيمَا يَرْوُونَهُ لِلْإِغْرَابِ، وَذَلِكَ مِنَ الْأَوْهَامِ الْمَخْلُوطَةِ بِبَعْضِ أَقْوَالِ قُدَمَاءِ الْمَشْرِقِيِّينَ وَبِسُوءِ فَهْمِ الْبَعْضِ فِي عِلْمِ جُغْرَافِيَةِ الْأَرْضِ وَتَخَيُّلِهِمْ إِيَّاهَا رِقَاعًا مُسَطَّحَةً ذَاتَ تَقَاسِيمَ يُحِيطُ بِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مَا يَفْصِلُهُ عَنِ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ بِحَارٍ وَجِبَالٍ، وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي تَرَفُّعُ الْعُلَمَاءِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِهِ لَوْلَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهُ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَ تُفْرَضَ هَذِهِ الْأَوْهَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَرْفِ مِنَ الْقُرْآن الم [الْبَقَرَة:
١]، يَكْفِهِمْ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى صُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي مثل الم [العنكبوت: ١] والمص
[الْأَعْرَاف: ١] وكهيعص [مَرْيَم: ١] وَلَوْ أُرِيدَ الْجَبَلُ الْمَوْهُومُ لَكُتِبَ قَافٌ ثَلَاثَةُ حُرُوفٍ كَمَا تُكْتَبُ دَوَالُ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ عَيْنٍ: اسْم الْجَارِحَة، وغينش: مَصْدَرُ غَانَ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُ أَنْ يُدَلَّ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣).
قَسَمٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْقَسَمُ بِهِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَظِيمٍ عِنْدَ الْمُقْسِمِ فَكَانَ التَّعْظِيمُ مِنْ لَوَازِمِ الْقَسَمِ. وَأَتْبَعَ هَذَا التَّنْوِيهَ الْكِنَائِيَّ بِتَنْوِيهٍ صَرِيحٍ بِوَصْفِ الْقُرْآنِ بِ الْمَجِيدِ فَالْمَجِيدُ الْمُتَّصِفُ بِقُوَّةِ الْمَجْدِ. وَالْمَجْدُ وَيُقَالُ الْمُجَادَّةُ: الشَّرَفُ الْكَامِلُ وَكَرَمُ النَّوْعِ.
276
وَشَرَفُ الْقُرْآنِ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَعْلَى الْمَعَانِي النَّافِعَةِ لِصَلَاحِ النَّاسِ فَذَلِكَ مَجْدُهُ. وَأَمَّا كَمَالُ مَجْدِهِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ بِوَصْفِ مَجِيدٍ فَذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفُوقُ أَفْضَلَ مَا أَبْلَغَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ أَوْجَدَ أَلْفَاظَهُ وَتَرَاكِيبَهُ وَصُورَةَ نَظْمِهِ بِقُدْرَتِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْجَدَهُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهِ يُعَبِّرُونَ بِكَلَامِهِمْ عَمَّا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ.
وَيَدْخُلُ فِي كَمَالِ مَجْدِهِ أَنَّهُ يَفُوقُ كُلَّ كَلَامٍ أَوْجَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِثْلَ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْوَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَائِنَا بِالْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَفُوقُ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَجَعَلَهُ مُعْجِزًا لِبُلَغَاءِ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ. وَيَفُوقُ كُلَّ كَلَامٍ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ بِوَفْرَةِ مَعَانِيهِ وَعَدَمِ انْحِصَارِهَا، وَأَيْضًا بِأَنَّهُ تَمَيَّزَ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَخُهُ كِتَابٌ يَجِيءُ بَعْدَهُ وَمَا يُنْسَخُ مِنْهُ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ يَنْسَخُهُ بَعْضُهُ.
وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ فِي الْمَقَامِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ السُّورَةِ بِحَرْفِ ق الْمُشْعِرِ بِالنِّدَاءِ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِذَلِكَ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضْرَابُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَالْقُرْآنُ الْمَجِيدُ إِنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ بِالْحَقِّ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: ١- ٤]. أَوْ يُقَدَّرُ
الْجَوَابُ: إِنَّهُ لَتَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَحْوِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الْأَحْزَاب: ١- ٣] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ يَقْتَضِي كَلَامًا مُنْتَقَلًا مِنْهُ وَالْقَسَمُ بِدُونِ جَوَابٍ لَا يُعْتَبَرُ كَلَامًا تَامًّا فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقَدِّرَ السَّامِعُ جَوَابًا تَتِمُّ بِهِ الْفَائِدَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ.
277
وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ وَحَسَّنَهُ أَنَّ الِانْتِقَالَ مُشْعِرٌ بِأَهَمِّيَّةِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، أَيْ عُدْ عَمَّا تُرِيدُ تَقْدِيرَهُ مِنْ جَوَابٍ وَانْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ سَبَبِ إِنْكَارِهِمُ الَّذِي حَدَا بِنَا إِلَى الْقَسَمِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: دَعْ ذَا، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَدَعْ ذَا وَسَلِ الْهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ذُمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
فَدَعْ ذَا وَلَكِنْ رُبَّ أَرْضٍ مُتَيَّهَةٍ قَطَعْتُ بِحُرْجُوجٍ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
وَتَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ فِي سُورَةِ ص [٢].
وَقَوْلِهِ: وَعَجِبُوا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ إِنْكَارًا لِعَجَبِهِمُ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِحَالَةِ.
وعَجِبُوا حَصَلَ لَهُمُ الْعَجَبُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْأَمْرُ غَيْرُ الْمَأْلُوفِ لِلشَّخْصِ قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: ٧٢، ٧٣] فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي أَتَعْجَبِينَ إِنْكَارٌ وَإِنَّمَا تُنْكَرُ إِحَالَةُ ذَلِكَ لَا كَوْنُهُ مُوجِبَ تَعَجُّبٍ. فَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ نَفَوْا جَوَازَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٤].
وَضَمِيرُ عَجِبُوا عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، فَمَعَادُهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ أَعْنِي افْتِتَاحَ السُّورَةِ بِحَرْفِ التَّهَجِّي الَّذِي قُصِدَ مِنْهُ تَعْجِيزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي حَالِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ لُغَتِهِمْ يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ بَشَرٍ بَلْ هُوَ كَلَامٌ أَبْدَعَتْهُ قُدْرَةُ اللَّهِ وَأَبْلَغَهُ اللَّهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ فَإِنَّ الْمُتَّحَدِّينَ بِالْإِعْجَازِ مَشْهُورُونَ يَعْلَمُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ أَيْضًا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِالتَّحَدِّي بِالْإِعْجَازِ. عَلَى أَنَّهُ سَيَأْتِي مَا يُفَسِّرُ الضَّمِيرَ بِقَوْلِهِ: فَقالَ الْكافِرُونَ.
وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ عَجِبُوا وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مِنْ نَوْعِهِمْ أَيْ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ.
278
وَ (أَنْ جاءَهُمْ) مَجْرُورٌ بِ (مِنْ) الْمَحْذُوفَةِ مَعَ أَنْ، أَيْ عَجِبُوا مِنْ
مَجِيءِ مُنْذِرٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَجِبُوا مِنِ ادِّعَاءِ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
وَعَبَّرَ عَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ مُنْذِرٌ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِشَرٍّ سَيَكُونُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عَجَبَهُمْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ صِفَتَيْنِ فِي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ مُخْبِرٌ بِعَذَابٍ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَيْ مُخْبِرٌ بِمَا لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا أَنْذرهُمْ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: ٤٦]. وَالثَّانِيَةُ كَوْنُهُ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ.
وَفَرَّعَ عَلَى التَّكْذِيبِ الْحَاصِلِ فِي نُفُوسِهِمْ ذِكْرَ مَقَالَتِهِمُ الَّتِي تُفْصِحُ عَنْهُ وَعَنْ شُبْهَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِقَوْلِهِ: فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ الْآيَةَ. وَخَصَّ هَذَا بِالْعِنَايَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ عِنْدَهُمْ فِي الِاسْتِبْعَادِ وَأَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ فَهُوَ الَّذِي غَرَّهُمْ فَأَحَالُوا أَنْ يُرْسِلَ الله إِلَيْهِم أحد مِنْ نَوْعِهِمْ وَلِذَلِكَ وصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً بِصِفَةِ مُنْذِرٌ قَبْلَ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ هُوَ الْبَاعِثُ الْأَصْلِيُّ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ إِنَّمَا قَوَّى الِاسْتِبْعَادَ وَالتَّعَجُّبَ.
ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ يُتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَى إِبْطَالِ حُجَّتِهِمْ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: ٤- ١١]. فَقَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ هَاتَيْنِ الْفَاصِلَتَيْنِ خُصُوصِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ: مِنْهَا إِيجَازُ الْحَذْفِ، وَمِنْهَا مَا أَفَادَهُ الْإِضْرَابُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْبَعْثِ، وَمِنْهَا الْإِيجَازُ الْبَدِيعُ الْحَاصِلُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِ مُنْذِرٌ، وَمِنْهَا إِقْحَامُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّ لِذَلِكَ مَدْخَلًا فِي تَعَجُّبِهِمْ، وَمِنْهَا الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَمِنْهَا الْإِجْمَالُ الْمُعَقَّبُ بِالتَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا
إِلَخْ.
وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي فَقالَ الْكافِرُونَ دُونَ: فَقَالُوا، لِتَوْسِيمِهِمْ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ، وَلِيَكُونَ فِيهِ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ.
279
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ إِلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي مَقَامِ مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ مِنْ دُعَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالرَّجْعِ، أَيِ الْبَعْثِ وَهُوَ الَّذِي بَينته جملَة أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِلَخْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالْإِبْطَالِ، يُرِيدُونَ تَعْجِيبَ السَّامِعِينَ مِنْ ذَلِكَ تَعْجِيبَ إِحَالَةٍ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ. وَجَعَلُوا مَنَاطَ التَّعْجِيبِ الزَّمَانَ الَّذِي أَفَادَتْهُ (إِذَا) وَمَا أُضِيفَ
إِلَيْهِ، أَيْ زَمَنَ مَوْتِنَا وَكَوْنِنَا تُرَابًا.
وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ظرف أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَالتَّقْدِيرُ: أَنَرْجِعُ إِلَى الْحَيَاةِ فِي حِينِ انْعِدَامِ الْحَيَاةِ مِنَّا بِالْمَوْتِ وَحِينِ تَفَتُّتِ الْجَسَدِ وَصَيْرُورَتِهِ تُرَابًا، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَقْصَى الِاسْتِبْعَادِ. وَمُتَعَلِّقُ (إِذَا) هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الْمَحْذُوفُ الْمُقَدَّرُ، أَيْ نَرْجِعُ أَوْ نَعُودُ إِلَى الْحَيَاةِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ مُؤَكدَة لجملة أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالذِّكْرِ، بَعْدَ أَنْ أُفِيدَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَالْحَذْفِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّأْكِيدِ أَنْ يَكُونَ أَجْلَى دَلَالَةً.
وَالرَّجْعُ: مَصْدَرُ رَجَعَ، أَيِ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَيَاةِ. وَمَعْنَى بَعِيدٌ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْعَقْلِ، أَيْ هُوَ أَمر مُسْتَحِيل.
[٤]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٤]
قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣] فَإِنَّ إِحَالَتَهُمُ الْبَعْثَ نَاشِئَةٌ عَنْ عِدَّةِ شُبَهٍ مِنْهَا:
أَنَّ تَفَرُّقَ أَجْزَاءِ الْأَجْسَادِ فِي مَنَاحِي الْأَرْضِ وَمَهَابِّ الرِّيَاحِ لَا تُبْقِي أَمَلًا فِي إِمْكَانِ جَمْعِهَا إِذْ لَا يُحِيطُ بِهَا مُحِيطٌ وَأَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ مَوَاقِعُهَا لَتَعَذَّرَ الْتِقَاطُهَا وَجَمْعُهَا، وَلَوْ جُمِعَتْ كَيْفَ تَعُودُ إِلَى صُوَرِهَا الَّتِي كَانَتْ مُشْكِلَةً بِهَا، وَأَنَّهَا لَوْ عَادَتْ كَيْفَ تَعُودُ إِلَيْهَا، فَاقْتَصَرَ فِي إِقْلَاعِ شُبَهِهِمْ عَلَى إِقْلَاعِ أَصْلِهَا وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَذَرَّاتِهَا.
280
وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِرَدِّ كَلَامِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَمْعَ أَجْزَاءِ الْأَجْسَامِ مُمْكِنٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى عُمُومِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَكَانَ قَدْ أَرَادَ إِحْيَاءَ أَصْحَابِهَا كَمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَلَا يَعْظُمُ عَلَى قُدْرَتِهِ جَمْعُهَا وَتَرْكِيبُهَا أَجْسَامًا كَأَجْسَامِ أَصْحَابِهَا حِينَ فَارَقُوا الْحَيَاةَ فَقَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ إِيمَاءٌ إِلَى دَلِيلِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى عُمُومِ الْعِلْمِ كَمَا قُلْنَا. فَأَسَاسُ مَبْنَى الرَّدِّ هُوَ عُمُومُ عِلْمِ الله تَعَالَى لِأَن يَجْمَعُ إِبْطَالَ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فَلَوْ قَالَ، نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِرْجَاعِ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ لَخَطَرَ فِي وَسَاوِسِ نُفُوسِهِمْ شُبْهَةُ أَنَّ اللَّهَ وَإِنْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ قَادِرٌ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْأَجْسَادِ إِذَا تَفَرَّقَتْ لَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ حَتَّى تَتَسَلَّطَ عَلَى جَمْعِهَا قُدْرَتُهُ فَكَانَ الْبِنَاءُ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ أَقْطَعَ لِاحْتِمَالَاتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَيَانٌ لِلْإِمْكَانِ رَعْيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ مِنَ الْإِحَالَةِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِمْكَانِ يَقْلَعُ اعْتِقَادَ الِاسْتِحَالَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَهُوَ كَافٍ لِإِبْطَالِ تَكْذِيبِهِمْ وَلِاسْتِدْعَائِهِمْ لِلنَّظَرِ فِي الدَّعْوَةِ، ثُمَّ يَبْقَى النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ، وَهِيَ أَمْرٌ لَمْ نُكَلَّفْ بِالْبَحْثِ عَنْهُ وَقَدِ اخْتلف فِيهَا أيمة أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ تُعَادُ الْأَجْسَامُ بَعْدَ عَدَمِهَا. وَمَعْنَى إِعَادَتِهَا. إِعَادَةُ أَمْثَالِهَا بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَجْسَادًا مِثْلَ الْأُولَى تُودَعُ فِيهَا الْأَرْوَاحُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا حَالَّةً فِي الْأَجْسَادِ الْمَعْدُومَةِ الْآنَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْجِسْمُ لِصَاحِبِ الرُّوحِ فِي الدُّنْيَا وَبِذَلِكَ يَحِقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا هُوَ فُلَانٌ الَّذِي عَرَفْنَاهُ فِي الدُّنْيَا إِذِ الْإِنْسَانُ كَانَ إِنْسَانًا بِالْعَقْلِ وَالنُّطْقِ، وَهُمَا مَظْهَرُ الرُّوحِ. وَأَمَّا الْجَسَدُ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرَاتٍ كَثِيرَةٍ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ كَوْنِهِ جَنِينًا، ثُمَّ مِنْ وَقْتِ الطُّفُولَةِ ثُمَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَطْوَارِ فَتَخْلُفُ أَجْزَاؤُهُ المتجددة أجزاءه الْمُقْتَضِيَة، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الطَّبِيعِيَّاتِ، لَكِنَّ ذَلِكَ التَّغَيُّرَ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اعْتِبَارِ الذَّاتِ ذَاتًا وَاحِدَةً لِأَنَّ هُوِيَّةَ الذَّاتِ حَاصِلَةٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ
281
النَّوْعِيَّةِ وَالْمُشَخِّصَاتِ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِدُونِ شُعُورِ مَنْ يُشَاهِدُهَا. فَلِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الشَّخْصِ هِيَ الرُّوحُ وَهِيَ الَّتِي تُكْتَسَى عِنْدَ الْبَعْثِ جَسَدَ صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ النَّاسَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِزَمَنٍ قَلِيلٍ لَا تَبْلَى فِي مِثْلِهِ أَجْسَامُهُمْ تَرْجِعُ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى أَجْسَادِهِمُ الْبَاقِيَةِ دُونَ تَجْدِيدِ خَلْقِهَا، وَلِذَلِكَ فتسمية هَذَا الإيجاز مَعَادًا أَوْ رَجْعًا أَوْ بَعْثًا إِنَّمَا هِيَ تَسْمِيَةٌ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْأَرْوَاحِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَيْضًا تَشْهَدُ عَلَى الْكُفَّارِ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِأَنَّ الشَّاهِد فِي الْحَقِيقِيَّة هُوَ مَا بِهِ إِدْرَاكُ الْأَعْمَالِ مِنَ الرُّوحِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْأَعْضَاءِ.
وَأَدِلَّةُ الْكِتَابِ أَكْثَرُهَا ظَاهِرٌ فِي تَأْيِيدِ هَذَا الرَّأْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤]، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاء: ٥٦].
وَقَالَ شُذُوذٌ: تُعَادُ الْأَجْسَامُ بِجَمْعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ يَجْمَعُهَا اللَّهُ الْعَلِيمُ بِهَا وَيُرَكِّبُهَا كَمَا كَانَتْ يَوْمَ الْوَفَاةِ. وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْجِسْمِ الْإِنْسَانِيِّ إِذَا تَفَرَّقَتْ دَخَلَتْ فِي أَجْزَاءٍ مِنْ أَجْسَامٍ أُخْرَى مِنْ مُخْتَلِفِ الْمَوْجُودَاتِ وَمِنْهَا أَجْسَامُ أُنَاسٍ آخَرِينَ.
وَوَرَدَ فِي الْآثَارِ «أَنَّ كُلَّ ابْنِ آدَمَ يَفْنَى إِلَّا عَجَبُ الذَّنْبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ نِسْبَةُ الْأَجْسَادِ الْمُعَادَةِ كَنِسْبَةِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ. وَهَذَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ عَنْ عَدَمٍ وَالْقَوْلِ بِأَنَّهَا عَنْ تَفَرُّقٍ. وَلَا قَائِلَ مِنَ الْعُقَلَاءِ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ يُعَادُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا المُرَاد مَا ذكرنَا وَمَا عَدَاهُ مُجَازَفَةٌ فِي التَّعْبِيرِ.
وَذَكَرَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْعَقِيدَةِ الْعَضُدِيَّةِ» أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ لَمَّا سَمِعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعَادَةِ جَاءَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِيَدِهِ عَظْمٌ قَدْ رُمَّ فَفَتَّتَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتُرَى يُحْيِينِي بَعْدَ أَنْ أَصِيرَ كَهَذَا الْعَظْمِ؟ فَقَالْ لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ وَيَبْعَثُكَ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ»
. وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:
٧٨].
وَعَبَّرَ بِ تَنْقُصُ الْأَرْضُ دُونَ التَّعْبِيرِ بِالْإِعْدَامِ لِأَنَّ لِلْأَجْسَادِ دَرَجَاتٍ مِنَ
282
الِاضْمِحْلَالِ تَدْخُلُ تَحْتَ حَقِيقَةِ النَّقْصِ فَقَدْ يَفْنَى بَعْضُ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ وَيَبْقَى بَعْضُهُ، وَقَدْ يَأْتِي الْفَنَاءُ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنَّ عَجَبَ الذَّنْبِ لَا يَفْنَى كَانَ فَنَاءُ الْأَجْسَادِ نَقْصًا لَا انْعِدَامًا.
وَعُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ قَوْلُهُ: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَهُوَ بِمَعْنَى تَذْيِيلٍ لِجُمْلَةِ قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ وَعِنْدَنَا عِلْمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ثَابِتًا فَتَنْكِيرُ كِتابٌ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ تَعْظِيمُ التَّعْمِيمِ، أَيْ عِنْدِنَا كِتَابُ كُلِّ شَيْءٍ.
وحَفِيظٌ فَعِيلٌ: إِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ حَافِظٍ لِمَا جُعِلَ لِإِحْصَائِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ وَمَصَائِرِهَا. وَتَعْيِينِ جَمِيعِ الْأَرْوَاحِ لِذَوَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ مُودَعَةً فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ وَبَثِّ الْأَرْوَاحِ فِيهَا. وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْفُوظٍ مَا فِيهِ مِمَّا قَدْ يَعْتَرِي الْكُتُبَ الْمَأْلُوفَةَ مِنَ الْمَحْوِ وَالتَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ وَالتَّشْطِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْكِتَابُ: الْمَكْتُوبُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الصَّحَائِفِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ حَقِيقَةً بِأَنْ جَعَلَ اللَّهُ كُتُبًا وَأَوْدَعَهَا إِلَى مَلَائِكَةٍ يُسَجِّلُونَ فِيهَا النَّاسَ حِينَ وَفَيَاتِهِمْ وَمَوَاضِعِ أَجْسَادِهِمْ وَمَقَارِّ أَرْوَاحِهِمْ وَانْتِسَابِ كُلِّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا الْمُعَيَّنِ الَّذِي كَانَتْ حَالَّةً فِيهِ حَالَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا صَادِقًا بِكُتُبٍ عَدِيدَةٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كِتَابُهُ، وَتَكُونُ مِثْلَ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٧، ١٨]، وَقَوْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: ١٣، ١٤]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَعِنْدَنا كِتابٌ تَمْثِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالِ عِلْمِ مَنْ عِنْدَهُ كِتَابٌ حَفِيظٌ يَعْلَمُ بِهِ جَمِيعَ أَعْمَالِ النَّاسِ.
وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَنا كِتابٌ مُسْتَعَارَةٌ لِلْحِيَاطَةِ وَالْحِفْظِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ مَا يُغَيِّرُ مَا فِيهِ أَوْ مَنْ يُبْطِلُ مَا عيّن لَهُ.
283

[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٥]

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)
إِضْرَابٌ ثَانٍ تَابِعٌ لِلْإِضْرَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق:
٢] عَلَى طَرِيقَةِ تَكْرِيرِ الْجُمْلَةِ فِي مَقَامِ التَّنْدِيدِ وَالْإِبْطَالِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَجَبَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ يَقْتَضِيَانِ فَصْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِدُونِ عَاطِفٍ. وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَفْظَعَ مِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَذَلِكَ هُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الْقُرْآنُ لِأَنَّ فِعْلَ التَّكْذِيبِ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عُدِّيَ إِلَى الْخَبَرِ وَإِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ كَانَ لِتَكْذِيبِ الْمُخْبِرِ.
ولَمَّا حَرْفُ تَوْقِيتٍ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى رَبْطِ حُصُولِ جَوَابِهَا بِوَقْتِ حُصُولِ شَرْطِهَا فَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِمُبَادَرَةِ حُصُولِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧]، وَقَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَة: ٨٩] وَقَدْ مَضَيَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى جاءَهُمْ بَلَغَهُمْ وَأُعْلِمُوا بِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بَادَرُوا بِالتَّكْذِيبِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا نَظَرٍ فِيمَا حَوَاهُ مِنَ الْحَقِّ بَلْ كَذَّبُوا بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَكَذَّبُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ حَقٍّ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها إِلَى قَوْلِهِ: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [ق: ٦- ١١]. فَالتَّكْذِيبُ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ يَعُمُّ التَّكْذِيبَ بِالْبَعْثِ وَغَيْرِهِ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْخَبَرِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِالْإِضْرَابِ وَصَفُ حَالِهِمُ النَّاشِئَةِ عَنِ الْمُبَادَرَةِ بِالتَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ بِأَنَّهَا أَمْرٌ مَرِيجٌ أَحَاطَ بِهِمْ وَتَجَلْجَلُوا فِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ.
وأَمْرٍ اسْمٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ شَيْءٍ، وَلَمَّا وَقَعَ هُنَا بَعْدَ حَرْفِ فِي الْمُسْتَعْمَلِ فِي الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْحَالَ الْمُتَلَبِّسُونَ هُمْ بِهِ تَلَبُّسَ الْمَظْرُوفِ بِظَرْفِهِ وَهُوَ تَلَبُّسُ الْمَحُوطِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ فَاسْتِعْمَالُ فِي اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.
وَالْمَرِيجُ: الْمُضْطَرِبُ الْمُخْتَلِطُ، أَيْ لَا قَرَارَ فِي أَنْفُسِهِمْ فِي هَذَا التَّكْذِيبِ، اضْطَرَبَتْ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ كُلُّهَا مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُمُ ابْتَدَرُوا فَنَفَوْا عَنْهُ الصِّدْقَ فَلَمْ يَتَبَيَّنُوا
بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ يُلْحِقُونَهُ فَقَالُوا: سِحْرٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: ١١٠]، وَقَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥] وَقَالُوا بِقَوْلِ شاعِرٍ [الحاقة: ٤١]، وَقَالُوا: بِقَوْلِ كاهِنٍ [الحاقة: ٤٢] وَقَالُوا: (هَذَيَانُ مَجْنُونٍ). وَفِي سُلُوكِهِمْ فِي طُرُقِ مُقَاوَمَةِ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَصِفُونَهُ بِهِ إِذَا سَأَلَهُمُ الْوَارِدُونَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَمَنْ بَهَتَهُمْ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَمَا دَمَغَهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ. وَهَذَا تَحْمِيقٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ فَلَمْ يُتْقِنُوا التَّكْذِيبَ وَلَمْ يَرْسُوا عَلَى وَصْفِ الْكَلَامِ الَّذِي كذبُوا بِهِ.
[٦]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٦]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: ٢] إِلَى قَوْله: مَرِيجٍ [ق: ٥] لِأَنَّ أَهَمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ، وَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالنُّجُومِ وَالْأَرْضِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْعَدَمِ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ فَتِلْكَ الْعَوَالِمُ وُجِدَتْ عَنْ عَدَمٍ وَهَذَا أَدَلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس [٨١] أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا. وَالنَّظَرُ نَظَرُ الْفِكْرِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يُونُس: ١٠١]. وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ الْحَالُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كَيْفَ بَنَيْناها، أَيْ أَلَمْ يَتَدَبَّرُوا فِي شَوَاهِدِ الْخَلِيقَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي معنى أَو لم يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا، وَالنَّظَرُ الْمُشَاهَدَةُ، وَمَحَلُّ التَّقْرِيرِ هُوَ فِعْلُ يَنْظُرُوا، أَوْ يكون كَيْفَ مُرَاد بِهِ الْحَالُ الْمُشَاهَدَةُ.
هَذَا وَأَنَّ التَّقْرِيرَ عَلَى نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُرَادِ الْإِقْرَارُ بِإِثْبَاتِهِ طَرِيقَةً قُرْآنِيَّةً ذَكَرْنَاهَا غَيْرَ
285
مَرَّةٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ إِفْسَاحُ الْمَجَالِ لِلْمُقَرَّرِ إِنْ كَانَ يَرُومُ إِنْكَارَ مَا قُرِّرَ عَلَيْهِ، ثِقَةً مِنَ الْمُقَرِّرِ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- بِأَنَّ الْمُقَرَّرَ- بِالْفَتْحِ- لَا يُقْدِمُ عَلَى الْجُحُودِ بِمَا قُرِّرَ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ [الْأَعْرَاف: ١٤٨]، وَقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢].
وَهَذَا الْوَجْهُ أَشَدُّ فِي النَّعْيِ عَلَيْهِمْ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ.
وفَوْقَهُمْ حَالٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْحَالِ تَنْدِيدٌ عَلَيْهِمْ لِإِهْمَالِهِمُ التَّأَمُّلَ مَعَ الْمُكْنَةِ
مِنْهُ إِذِ السَّمَاءُ قَرِيبَةٌ فَوْقَهُمْ لَا يُكَلِّفُهُمُ النَّظَرُ فِيهَا إِلَّا رفع رؤوسهم.
وكَيْفَ اسْمُ جَامِدٌ مَبْنِيٌّ مَعْنَاهُ: حَالَةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَرِدُ فِي الْكَلَامِ لِلسُّؤَالِ عَنِ الْحَالَةِ فَيَكُونُ خَبَرًا قَبْلَ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مِثْلَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ وَحَالًا قَبْلَ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ نَحْوَ: كَيْفَ جَاءَ؟ وَمَفْعُولًا مُطْلَقًا نَحْوَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الْفجْر: ٦]، وَمَفْعُولًا بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: ٢١]. وَهِيَ هُنَا بَدَلٌ مِنْ فَوْقَهُمْ فَتَكُونُ حَالًا فِي الْمَعْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ هَيْئَةَ بَنْيِنَا إِيَّاهَا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ بَنَيْناها مُبَيِّنَةً لِ كَيْفَ.
وَأُطْلِقَ الْبِنَاءُ عَلَى خَلْقِ الْعَلَوِيَّاتِ بِجَامِعِ الِارْتِفَاعِ. وَالْمُرَادُ بِ السَّماءِ هُنَا مَا تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ كُرَةِ الْهَوَاءِ الَّتِي تَبْدُو كَالْقُبَّةِ وَتُسَمَّى الْجَوَّ.
وَالتَّزْيِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنَا، أَيْ حَسَنًا أَيْ تَحْسِينُ مَنْظَرِهَا لِلرَّائِي بِمَا يَبْدُو فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ نَهَارًا وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ لَيْلًا. وَاقْتَصَرَ عَلَى آيَةِ تَزْيِينِ السَّمَاءِ دُونَ تَفْصِيلِ مَا فِي الْكَوَاكِبِ الْمُزَيَّنَةِ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ التَّزْيِينَ يَشْتَرِكُ فِي إِدْرَاكِهِ جَمِيعُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَهُ وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ التَّمْكِينِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَرَائِي الْحَسَنَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى
286
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦] فِي شَأْنِ خَلْقِ الْأَنْعَامِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
ثُمَّ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي إِدْرَاكِ مَا فِي خَلْقِ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنِظَامِهَا مِنْ دَلَائِلَ عَلَى مِقْدَارِ تَفَاوُتِ عُلُومِهِمْ وَعُقُولِهِمْ. وَالْآيَةُ صَالِحَةٌ لِإِفْهَامِ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ.
وَجُمْلَةُ وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَتَيْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها فَهِيَ حَالٌ ثَالِثَةٌ فِي الْمَعْنَى.
وَالْفُرُوجُ: جَمْعُ فَرْجٍ، وَهُوَ الْخَرْقُ، أَيْ يُشَاهِدُونَهَا كَأَنَّهَا كُرَةٌ مُتَّصِلَةُ الْأَجْزَاءِ لَيْسَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا تَفَاوُتٌ يَبْدُو كَالْخَرْقِ وَلَا تَبَاعُدٌ يَفْصِلُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ فَيَكُونُ خَرْقًا فِي قُبَّتِهَا.
وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ الصُّنْعِ إِذْ يَكُونُ جِسْمٌ عَظِيمٌ كَجِسْمِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الْجَوِّيِّ مَصْنُوعًا كَالْمَفْرُوغِ فِي قَالَبٍ. وَهَذَا مُشَاهِدٌ لِجَمِيعِ طَبَقَاتِ النَّاسِ عَلَى تَفَاوُتِ مَدَارِكِهِمْ ثُمَّ هُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي إِدْرَاكِ مَا فِي هَذَا الصُّنْعِ مِنْ عَجَائِبِ الْتِئَامِ كُرَةِ الْجَوِّ الْمُحِيطِ بِالْأَرْضِ.
وَلَوْ كَانَ فِي أَدِيمِ مَا يُسَمَّى بِالسَّمَاءِ تُخَالِفٌ مِنْ أَجْزَائِهِ لَظَهَرَتْ فِيهِ فُرُوجٌ وَانْخِفَاضٌ وَارْتِفَاعٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً إِلَى
قَوْلِهِ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْملك: ٣].
[٧]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٧]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا [ق: ٦] عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَدَدْنَا الْأَرْضَ.
وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ الْأَرْضِ نُصْبَ أَعْيُنِ النَّاسِ وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاءِ
287
لِأَنَّهَا تَلُوحُ لِلْأَنْظَارِ دُونَ تَكَلُّفٍ لَمْ يُؤْتَ فِي لَفْتِ أَنْظَارِهِمْ إِلَى دَلَالَتِهَا بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَكُونُوا بِحَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ الْأَخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ تَذْكِيرًا لَهُمْ. وَانْتَصَبَ الْأَرْضَ بِ مَدَدْناها عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ.
وَالْمَدُّ: الْبَسْطُ، أَيْ بَسَطْنَا الْأَرْضَ فَلَمْ تَكُنْ مَجْمُوعَ نُتُوءَاتٍ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَشْيُ عَلَيْهَا مُرْهِقًا.
وَالْمُرَادُ: بَسْطُ سَطْحِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَصْفَ حَجْمِ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُدْرِكُهُ الْمُشَاهَدَةُ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ نَظَرَ التَّأَمُّلِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَلَا فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ بِمَا فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ فَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَضِيَّةِ كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ.
وَالْإِبْقَاءُ: تَمْثِيلٌ لِتَكْوِينِ أَجْسَامٍ بَارِزَةٍ عَلَى الْأَرْضِ مُتَبَاعِدٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلْقَاءِ: رَمْيُ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخِلْقَةِ الْجِبَالِ كَقَوْلِهِ:
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: ١٩] وفِيها ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَصْفٌ لِ رَواسِيَ قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ فَصَارَ حَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ أَلْقَيْنا.
وَرَوَاسِي: جَمْعُ رَاسٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ مِثْلَ: فَوَارِسُ وَعَوَاذِلُ. وَالرُّسُوُّ: الثَّبَاتُ وَالْقَرَارُ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ إِلَى بَدِيعِ خَلْقِ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ الْجِبَالَ مُتَدَاخِلَةً مَعَ الْأَرْضِ وَلَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً عَلَيْهَا وَضْعًا كَمَا تُوضَعُ الْخَيْمَةُ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَتَزَلْزَلَتْ وَسَقَطَتْ وَأَهْلَكَتْ مَا حَوَالَيْهَا. وَقَدْ قَالَ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء [٣١] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أَيْ دَفْعَ أَنْ تَمِيدَ هِيَ، أَيِ الْجِبَالُ بِكُمْ، أَيْ مُلْصَقَةٌ بِكُمْ فِي مَيْدِهَا.
وَهُنَالِكَ وَجْهٌ آخَرُ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالزَّوْجُ: النَّوْعُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طه
288
وَالْمَعْنَى: وَأَنْبَتْنَا فِي الْأَرْضِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَأَنْوَاعَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ يُظْهِرُ أَنَّ حَرْفَ مِنْ فِيهِ مَزِيدٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَزِيَادَةُ مِنْ فِي غَيْرِ النَّفْيِ نَادِرَةٌ، أَيْ أَقَلُّ مِنْ زِيَادَتِهَا فِي النَّفْيِ، وَلَكِنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَارِدَةٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، فَأَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ نُحَاةُ الْكُوفَةِ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّور: ٤٣] إِنَّ الْمَعْنَى: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩].
فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْكِيدِ بِحَرْفِ مِنْ تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعٍ حِينَ ادَّعَوُا اسْتِحَالَةَ إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالتَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُؤْتِ بِالتَّوْكِيدِ فِي آيَةِ سُورَةِ طه. وَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ.
فَكَلِمَةُ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥]، وَقَوْلِهِ فِيهَا وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَام: ٧٠]، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طه [٥٣].
وَفَائِدَةُ التَّكْثِيرِ هُنَا التَّعْرِيضُ بِهِمْ لِقِلَّةِ تَدْبِيرِهِمْ إِذْ عَمُوا عَنْ دَلَائِلَ كَثِيرَةٍ وَاضِحَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
وَالْبَهِيجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً، يُقَالُ: بَهُجَ بِضَمِّ الْهَاءِ، إِذَا حَسُنَ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، فَالْبَهِيجُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْل: ٦٠].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُنْبَهَجٌ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ يُسَرُّ بِهِ النَّاظِرُ، يُقَالُ: بَهَجَهُ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا سَرَّهُ، وَمِنْهُ الِابْتِهَاجُ الْمَسَرَّةُ.
وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ ذِكْرُهُ تَقْوِيَةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِدْمَاجَ الِامْتِنَانِ
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِيَشْكُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا يَكْفُرُوهَا بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
289
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل:
٥، ٦].
[٨]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٨]
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)
مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِلْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها [ق: ٦] وَقَوْلِهِ: مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها [ق: ٧] إِلَخْ، عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ، أَيْ لِيَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَمَعْمُولَاتِهَا تَبْصِرَةً وَذِكْرَى، أَيْ جَعَلْنَاهُ لِغَرَضِ أَنْ نُبَصِّرَ بِهِ وَنَذْكُرَ كُلَّ عَبْدٍ مُنِيبٍ.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُتَبَصَّرَ فِي شَأْنِهِ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَأَهَمُّ ذَلِكَ فِيهِمْ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ كَمَا هُوَ السِّيَاقُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا.
وَإِنَّمَا كَانَتِ التَّبْصِرَةُ وَالذِّكْرَى عِلَّةً لِلْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ وَالذِّكْرَى مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ الَّتِي أَوْجَدَ اللَّهُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَجْلِهَا. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ انْحِصَارَ حِكْمَةِ خَلْقِهَا فِي التَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى، لِأَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا حِكَمٌ كَثِيرَةٌ عَلِمْنَا. بَعْضَهَا وَخَفِيَ عَلَيْنَا بَعْضٌ.
وَالتَّبْصِرَةُ: مَصْدَرُ بَصَّرَهُ. وَأَصْلُ مَصْدَرِهِ التَّبْصِيرُ، فَحَذَفُوا الْيَاءَ التَّحْتِيَّةَ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ وَعَوَّضُوا عَنْهَا التَّاءَ الْفَوْقِيَّةَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ كَمَا قَالُوا: جَرَّبَ تَجْرِبَةً وَفَسَّرَ تَفْسِرَةً، وَذَلِكَ يَقِلُّ فِي الْمُضَاعَفِ وَيَكْثُرُ فِي الْمَهْمُوزِ نَحْوَ جَزَّأَ تَجْزِئَةً، وَوَطَّأَ تَوْطِئَةً. وَيَتَعَيَّنُ فِي الْمُعْتَلِّ نَحْوَ: زَكَّى تَزْكِيَةً، وَغَطَّاهُ تَغْطِيَةً.
وَالتَّبْصِيرُ: جَعْلُ الْمَرْءِ مُبْصِرًا وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِدْرَاكِ النَّفْسِ إِدْرَاكًا ظَاهِرًا لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ خَفِيًّا عَنْهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ تُبْصِرْهُ ثُمَّ أَبْصَرَتْهُ.
وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَرَ، إِذَا جَعَلَهُ يَذْكُرُ مَا نَسِيَهُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى مُرَاجَعَةِ النَّفْسِ مَا عَلِمَتْهُ ثُمَّ غَفَلَتْ عَنْهُ.
وعَبْدٍ بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ، أَيْ مَخْلُوقٍ، وَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْإِنْسَانِ. وَجَمْعُهُ: عِبَادٌ دُونَ عَبِيدٍ.
وَالْمُنِيبُ: الرَّاجِعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرَّاجِعُ إِلَى الْحَقِّ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِذَا انْحَرَفَ أَوْ شَغَلَهُ
شَاغِلٌ ابْتَدَرَ الرُّجُوعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالِامْتِثَالِ فَلَا يُفَارِقُهُ حَالُ الطَّاعَةِ وَإِذَا فَارَقَهُ قَلِيلًا آبَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ. وَإِطْلَاقُ الْمُنِيبِ عَلَى التَّائِبِ وَالْإِنَابَةِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ تَفَارِيعِ هَذَا الْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فِي سُورَةِ ص [٢٤].
وَخُصَّ الْعَبْدُ الْمُنِيبُ بِالتَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ إِفَادَةُ التَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُنِيبَ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ حِكْمَةِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ. وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضٌ بِإِهْمَالِ الْكَافِرِينَ التَّبَصُّرَ وَالتَّذَكُّرَ.
وَيُحْمَلُ (كُلِّ) عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ مِنَ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ قُصِدَ مِنْهَا التَّبْصِرَةُ وَالذِّكْرَى لِجَمِيعِ الْعِبَادِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْحَقِّ إِذْ لَا يَخْلُونَ مِنْ تَبَصُّرٍ وَتَذَكُّرٍ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهِمْ فِي ذَلِك.
[٩، ١٠]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)
بَعْدَ التَّنَظُّرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّبْصِيرِ فِي صُنْعِ السَّمَاوَاتِ وَصُنْعِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ وَقْتِ نَشْأَتِهِمَا نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِإِيجَادِ آثَارٍ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْمَصْنُوعَاتِ تَتَجَدَّدُ عَلَى مُرُورِ الدَّهْرِ حَيَّةً ثُمَّ تَمُوتُ ثُمَّ تَحْيَا دَأْبًا، وَقَدْ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ لِهَذَا الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ [ق: ٦] إِلَى أُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ بِقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً إِيذَانًا بِتَبْدِيلِ الْمُرَادِ لِيَكُونَ مِنْهُ تَخْلُصٌ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: ١١]. فَجُمْلَةُ وَنَزَّلْنا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [الْحجر: ١٩].
وَقَدْ ذُكِرَتْ آثَارٌ مِنْ آثَارِ السَّمَاءِ وَآثَارِ الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ عَلَى وَفْقِ اللَّفِّ.
وَالْمُبَارَكُ: اسْمُ مَفْعُولٍ لِلَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ الْبَرَكَةُ، أَيْ جُعِلَ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
291
وَأَفْعَالُ هَذِهِ الْمَادَّةِ كَثِيرَةُ التَّصَرُّفِ وَمُتَنَوِّعَةُ التَّعْلِيقِ. وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ النَّافِعُ لِمَا يَتَسَبَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِنْبَاتِ الْحُبُوبِ وَالْأَعْنَابِ وَالنَّخِيلِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُبَارَكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٦]. وَفِي هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِتَفْصِيلِ الْإِنْبَاتِ الَّذِي سَبَقَ إِجْمَالُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: ٧] لِمَا فِيهِ مِنْ سَوْقِ الْعُقُولِ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي دَقِيقِ الصُّنْعِ لِذَلِكَ الْإِنْبَاتِ وَأَنَّ حُصُولَهُ بِهَذَا السَّبَبِ وَعَلَى ذَلِكَ
التَّطَوُّرِ أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ مِمَّا لَوْ كَانَ إِنْبَاتُ الْأَزْوَاجِ بِالطَّفْرَةِ، إِذْ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَسْبَابُ تَكْوِينِهَا خَفِيَّةً فَإِذَا كَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا، وَمَدُّ الْأَرْضِ وَإِلْقَاءُ الْجِبَالِ فِيهَا دَلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِخَفَاءِ كَيْفِيَّاتِ تَكْوِينِهَا فَإِنَّ ظُهُورَ كَيْفِيَّاتِ التَّكْوِينِ فِي إِنْزَال المَال وَحُصُولِ الْإِنْبَاتِ وَالْإِثْمَارِ دَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَنَّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وَهِيَ مَا شُجِّرَ بِالْكَرْمِ وَأَشْجَارِ الْفَوَاكِهِ وَالنَّخِيلِ.
وَالْحَبُّ: هُوَ مَا يَنْبُتُ فِي الزَّرْعِ الَّذِي يُخْرِجُ سَنَابِلَ تَحْوِي حُبُوبًا مِثْلَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالسُّلْتِ وَالْقَطَانِيِّ مِمَّا تُحْصَدُ أُصُولُهُ لِيُدَقَّ فَيَخْرُجُ مَا فِيهِ مِنَ الْحَبِّ.
وحَبَّ الْحَصِيدِ مَفْعُولُ أَنْبَتْنَا لِأَنَّ الْحَبَّ مِمَّا نَبَتَ تَبَعًا لِنَبَاتِ سُنْبُلِهِ الْمَدْلُولِ عَلَى إِنْبَاتِهِ بِقَوْلِهِ: الْحَصِيدِ إِذْ لَا يُحْصَدُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَنْبُتَ.
وَالْحَصِيدُ: الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ، أَيِ الْمَقْطُوعُ مِنْ جُذُورِهِ لِأَكْلِ حَبِّهِ، فَإِضَافَةُ حَبَّ إِلَى الْحَصِيدِ عَلَى أَصْلِهَا، وَلَيْسَتْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ: الْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ اسْتِحْصَالِ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ فَإِنَّ الْجَنَّاتِ تُسْتَثْمَرُ وَأُصُولُهَا بَاقِيَةٌ وَالْحُبُوبُ تُسْتَثْمَرُ بَعْدَ حَصْدِ أُصُولِهَا، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الْحَصِيدِ مَنَافِعَ لِلْأَنْعَامِ تَأْكُلُهُ بَعْدَ أَخْذِ حَبِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: ٣٣].
وَخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ تَنَاوُلِ جَنَّاتٍ لَهُ لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْأَشْجَارِ عِنْدَهُمْ وَثَمَرَهُ أَكْثَرُ أَقْوَاتِهِمْ، وَلِإِتْبَاعِهِ بِالْأَوْصَافِ لَهُ وَلِطَلْعِهِ مِمَّا يُثِيرُ تَذَكُّرَ بَدِيعَ قَوَامِهِ، وَأَنِيقَ جَمَالِهِ.
292
وَالْبَاسِقَاتُ: الطَّوِيلَاتُ فِي ارْتِفَاعٍ، أَيْ عَالِيَاتٌ فَلَا يُقَالُ: بَاسِقٌ لِلطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ عَلَى الْأَرْضِ. وَعَنِ ابْنِ شَدَّادٍ: الْبَاسِقَاتُ الطَّوِيلَاتُ مَعَ الِاسْتِقَامَةِ. وَلَمْ أَرَهُ لأحد من أيمة اللُّغَةِ. وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ الِامْتِدَادُ فِي الِارْتِفَاعِ. وَهُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَدَا بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ تَمِيمٍ يُبْدِلُونَ السِّينَ صَادًا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: الْأَصْلُ السِّينُ وَإِنَّمَا الصَّادُ بَدَلٌ مِنْهَا لِاسْتِعْلَاءِ الْقَافِ.
وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سمع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ قَرَأَهَا بِالصَّادِّ
. وَمِثْلُهُ فِي ابْنِ عَطِيَّةَ وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
وَالَّذِي فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ مَرْوِيَّةٌ بِالسِّينِ. وَمِنَ الْعَجِيبِ
أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاصِقَاتٍ.
وَانْتَصَبَ باسِقاتٍ عَلَى الْحَالِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَاءُ إِلَى بَدِيعِ خِلْقَتِهِ وَجَمَالِ طَلْعَتِهِ اسْتِدْلَالًا وَامْتِنَانًا.
وَالطَّلْعُ: أَوَّلُ مَا يَظْهَرُ مِنْ ثَمَرِ التَّمْرِ، وَهُوَ فِي الْكُفُرَّى، أَيْ غِلَافِ الْعُنْقُودِ.
وَالنَّضِيدُ: الْمَنْضُودُ، أَيِ الْمُصَفَّفُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَا دَامَ فِي الْكُفُرَى فَإِذَا انْشَقَّ عَنْهُ الْكُفُرَى فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ. فَهُوَ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ قَالَ تَعَالَى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الْوَاقِعَة: ٢٩].
وَزِيَادَةُ هَذِهِ الْحَالِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الصِّفَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ بَدِيعِ الصَّنْعَةِ وَمِنَ الْمِنَّةِ بِمَحَاسِنِ مَنْظَرِ مَا أوتوه.
[١١]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ١١]
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
رِزْقاً لِلْعِبادِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِقَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: ٩] إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ لِنَرْزُقَ الْعِبَادَ، أَيْ نُقَوِّتَهُمْ. وَالْقَوْلُ فِي التَّعْلِيلِ بِهِ كَالْقَوْلِ فِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: تَبْصِرَةً وَذِكْرى [ق:
٨].
وَالْعِبَادُ: النَّاسُ وَهُوَ جَمْعُ عَبْدٍ بِمَعْنَى عَبْدِ اللَّهِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ فَجَمْعُهُ الْعَبِيدُ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَامْتِنَانٌ.
293
وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً.
عَطْفٌ عَلَى رِزْقاً لِلْعِبادِ عَطْفَ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ رِزْقُهُ الْمُشْتَقُّ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: رِزْقُنَا الْعِبَادَ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا، أَيْ لِرَعْيِ الْأَنْعَامِ وَالْوَحْشِ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ وَفِيهِ امْتِنَانٌ. وَالْبَلْدَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَالْمَيْتُ بِالتَّخْفِيفِ: مُرَادِفُ الْمَيِّتِ بِالتَّشْدِيدِ قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: ٣٣].
وَتَذْكِيرُ الْمَيْتِ وَهُوَ وَصْفٌ لِلْبَلْدَةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْبَلَدِ لِأَنَّهُ مُرَادِفُهُ، وَبِالْمَكَانِ لِأَنَّهُ جِنْسُهُ، شَبَّهَ الْجَدْبَ بِالْمَوْتِ فِي انْعِدَامِ ظُهُورِ الْآثَارِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ضِدَّهُ وَهُوَ إِنْبَاتُ الْأَرْضِ حَيَاةً. وَيُقَالُ لِخِدْمَةِ الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ وَسَقْيِهَا: إِحْيَاءُ مَوَاتٍ.
كَذلِكَ الْخُرُوجُ.
بَعْدَ ظُهُورِ الدَّلَائِلِ بِصُنْعِ اللَّهِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ لِأَنَّ خَلْقَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ عَدَمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الضَّعِيفَةِ أَمْكَنُ وَأَهْوَنُ، جِيءَ بِمَا يُفِيدُ تَقْرِيبَ الْبَعْثِ
بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ.
فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فَذْلَكَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ فَوَجَبَ انْفِصَالُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا أَوِ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ نُحْيِي النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَبِلَاهُمْ، مَعَ إِفَادَتِهَا تَعْظِيمَ شَأْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، أَيْ مِثْلُ الْبَعْثِ الْعَظِيمِ الْإِبْدَاعُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْخُرُوجُ لِلْعَهْدِ، أَيْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
294
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: ٤٣]. فَ الْخُرُوجُ صَارَ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: ٤٢]. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ دَفْعِ الِاسْتِحَالَةِ وَإِظْهَارِ التَّقْرِيبِ، وَفِيهِ تَشْوِيقٌ لِتَلَقِّي الْمسند إِلَيْهِ.
[١٢- ١٤]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
اسْتِئْنَاف ابتدائي ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ [ق: ٥] فَعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِبِدْعٍ فِي الضَّلَالِ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أُمَمٌ. وَذَكَرَ مِنْهُمْ أَشْهَرَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَشْهَرَهُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ، فَقَوْمُ نُوحٍ أَوَّلُ قَوْمٍ كَذَبُوا رَسُولَهُمْ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى وَقَوْمُ لُوطٍ كَذَّبُوهُ وَهَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّسِّ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ فَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ.
وَذُكِرُوا هُنَا عَقِبَ قَوْمِ نُوحٍ لِلْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ بَيْنَ الْقَوْمَيْنِ وَهُوَ جَامِعُ التَّضَادِّ لِأَنَّ عَذَابَهُمْ كَانَ ضِدَّ عَذَابِ قَوْمِ نُوحٍ إِذْ كَانَ عَذَابُهُمْ بِالْخَسْفِ وَعَذَابُ قَوْمِ نُوحٍ بِالْغَرَقِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَمُودَ لِشَبَهِ عَذَابِهِمْ بِعَذَابِ أَصْحَابِ الرَّسِّ إِذْ كَانَ عَذَابُهُمْ بِرَجْفَةِ الْأَرْضِ وَصَوَاعِقِ السَّمَاءِ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ، ثُمَّ ذُكِرَتْ عَادٌ لِأَنَّ عَذَابَهَا كَانَ بِحَادِثٍ فِي الْجَوِّ وَهُوَ الرِّيحُ، ثُمَّ ذُكِرَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَشْهَرَ الرُّسُلِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ وَهُمْ مِنْ خُلَطَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَعَبَّرَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ بِ إِخْوانُ لُوطٍ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبِيلِهِ، فَالْمُرَادُ بِ إِخْوانُ أَنَّهُمْ مُلَازِمُونَ وَهُمْ أَهْلُ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَقُرَاهُمَا وَكَانَ لُوطٌ سَاكِنًا فِي سَدُومَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ نَسَبِهِمْ لِأَنَّ أَهْلَ سَدُومَ كَنْعَانِيُّونَ وَلُوطًا عِبْرَانِيٌّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٦١]. وَذُكِرَ قَوْمُ تُبَّعٍ وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يَعُدُّونَهُمْ عَرَبًا.
295
وَهَذِهِ الْأُمَمُ أَصَابَهَا عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ. وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ لِقَوْمِهِ الْمُكَذِّبِينَ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
وَالرَّسُّ: يُطْلَقُ اسْمًا لِلْبِئْرِ غَيْرِ الْمَطْوِيَّةِ وَيُطْلَقُ مَصْدَرًا لِلدَّفْنِ وَالدَّسِّ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهِ هُنَا. وأَصْحابُ الرَّسِّ قَوْمٌ عُرِفُوا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الرَّسِّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى الرَّسِّ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَوْطِنِهِ مِثْلَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ، وأَصْحابُ الْحِجْرِ [الْحِجْرِ: ٨٠] وأَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِضَافَةً إِلَى حَدَثٍ حَلَّ بِهِمْ مِثْلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج: ٤]. وَفِي تَعْيِينِ أَصْحابُ الرَّسِّ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِضَافَةَ أَصْحابُ إِلَى الرَّسِّ مِنْ إِضَافَةِ اسْمٍ إِلَى حَدَثٍ حَدَثَ فِيهِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ عُوقِبُوا بِخَسْفٍ فِي الْأَرْضِ فَوَقَعُوا فِي مِثْلِ الْبِئْرِ. وَقِيلَ: هُوَ بِئْرٌ أَلْقَى أَصْحَابُهُ فِيهِ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ حَيًّا فَهُوَ إِذَنْ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ وَقِيلَ هُوَ فَلَجٌ مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْحَابِ الرَّسِّ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣٨] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ.
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَقَوْمُ تُبَّعٍ هُمْ حِمْيَرُ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ.
وَجُمْلَةُ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِلَى آخِرِهَا، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَلِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَحَقَّ وَعِيدِ فَيكون تهديد بِأَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ كَمَا حَقَّ عَلَى أُولَئِكَ مُرَتَّبًا بِالْفَاءِ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تشريف للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلرُّسُلِ السَّابِقِينَ.
296
وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كلّ أُولَئِكَ. وفَحَقَّ صَدَقَ وَتَحَقَّقَ.
وَالْوَعِيدُ: الْإِنْذَارُ بِالْعُقُوبَةِ وَاقْتَضَى الْإِخْبَار عَنهُ بِحَق أَنَّ اللَّهَ تَوَعَدَهُمْ بِهِ فَلم يعبأوا
وَكَذَّبُوا وُقُوعَهُ فَحَقَّ وَصَدَقَ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا وَعِيدِ لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَهُوَ كثير.
[١٥]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ١٥]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
تُشِيرُ فَاءُ التَّفْرِيعِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ جُمْلَةُ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: ٦] وَقَوْلُهُ: تَبْصِرَةً وَذِكْرى [ق: ٨] الْمُعَرِّضُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَبَصَّرُوا بِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرُوا. وَقَوْلُهُ: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: ٩] وَقَوْلُهُ: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: ١١].
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُفَرَّعُ بِالْفَاءِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَغْلِيطٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْيَ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ إِذْ لَا يُنْكِرُ عَاقِلٌ كَمَالَ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَعدم عَجزه.
وفَعَيِينا مَعْنَاهُ عَجَزْنَا، وَفِعْلُ (عَيَّ) إِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ ضَمِيرٌ يُقَالُ مُدْغَمًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَيُقَالُ: عَيِيَ بِالْفَكِّ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرٌ تَعَيَّنَ الْفَكُّ. وَمَعْنَاهُ: عَجَزَ عَنْ إِتْقَانِ فِعْلٍ وَلَمْ يَهْتَدِ لِحِيلَتِهِ. وَيُعَدَّى بِالْبَاءِ يُقَالُ: عَيِيَ بِالْأَمْرِ وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ. وَأَمَّا أَعْيَا بِالْهَمْزَةِ فِي أَوَّلِهِ قَاصِرًا فَهُوَ لِلتَّعَبِ بِمَشْيٍ أَوْ حَمْلِ ثِقَلٍ وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ لَا يُعَدَّى بِالْبَاءِ. فَالْمَعْنَى: مَا عَجَزْنَا عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ للْإنْسَان فَكيف تعجز عَنْ إِعَادَةِ خَلْقِهِ.
وبَلْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ عَنِ
297
الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، أَيْ بَلْ مَا عَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ لِلْأَشْيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ الْأَمْوَاتِ وَلَكِنَّهُمْ تَمَكَّنَ مِنْهُمُ اللَّبْسُ الشَّدِيدُ فَأَغْشَى إِدْرَاكَهُمْ عَنْ دَلَائِلِ الْإِمْكَانِ فَأَحَالُوهُ، فَالْإِضْرَابُ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِبْطَالِ.
وَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ لِلْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ تَمْيِيزُ مُخْتَلِفَاتِهَا بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ اشْتِبَاهُ الْمَأْلُوفِ الْمُعْتَادِ الَّذِي لَا يعْرفُونَ غير بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا يَجُوزُ انْتِفَاؤُهُ، فَإِنَّهُمُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَهُوَ مُمْكِنٌ عَقْلًا بِالْأَمْرِ الْمُسْتَحِيلِ فِي الْعَقْلِ فَجَزَمُوا بِنَفْيِ إِمْكَانِهِ فَنَفَوْهُ، وَتركُوا الْقيَاس بِأَن مَنْ قَدِرَ عَلَى إِنْشَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا هُوَ عَلَى إِعَادَةِ مَا كَانَ مَوْجُودًا أَقْدَرَ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ
هَذَا الْحُكْمِ لَهُمْ وَأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ لَا يُفَارِقُهُمُ الْبَتَّةَ، وَلِيَتَأَتَّى اجْتِلَابُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ فِي الْخَبَرِ فَيَدُلُّ عَلَى انْغِمَاسِهِمْ فِي هَذَا اللَّبْسِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ صِفَةٌ لِ لَبْسٍ، أَيْ لَبْسٍ وَاصِلٍ إِلَيْهِمْ وَمُنْجَرٍّ عَنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَيْ مِنْ لَبْسٍ مِنَ التَّصْدِيقِ بِهِ.
وَتَنْكِيرُ لَبْسٍ لِلنَّوْعِيَّةِ وَتَنْكِيرُ خَلْقٍ جَدِيدٍ كَذَلِكَ، أَيْ مَا هُوَ إِلَّا خَلْقٌ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقَعُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا وَجَّهَ إِحَالَتَهُ وَلِتَنْكِيرِهِ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ الصِّفَةُ بِ جَدِيدٍ.
وَالْجَدِيدُ: الشَّيْءُ الَّذِي فِي أَوَّلِ أَزْمَانِ وُجُودِهِ.
وَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ وَتَحْمِيقٌ لَهُمْ مِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ، أَيِ اجْعَلُوهُ خَلْقًا جَدِيدًا كَالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَأَيُّ فَارِقٍ بَيْنَهُمَا.
وَفِي تَسْمِيَةِ إِعَادَةِ النَّاسِ لِلْبَعْثِ بِاسْمِ الْخَلْقِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا إِعَادَةٌ بَعْدَ عَدَمِ الْأَجْزَاءِ لَا جَمْعٌ لِمُتَفَرِّقِهَا، وَقَدْ مَضَّى الْقَوْلُ فِيهِ فِي أول السُّورَة.
298

[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ١٦]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)
هَذَا تَفْصِيلٌ لِبَعْضِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ تَتْمِيمٌ لِإِحَاطَةِ صِفَةِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: ٤] ولينتقل مِنْهُ الْإِنْذَارُ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ فِي وَصْفِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [ق: ١٧] إِلَخْ.
وَوَصَفَ الْبَعْثَ وَصْفَ الْجَزَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: ٢٠- ٣٥].
وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) مُرَاعًى فِيهِ الْمُتَعَاطِفَاتُ وَهِيَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ.
والْإِنْسانَ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمْ أَوَّلًا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْخَبَرُ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْإِنْذَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
[ق: ١٩] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: ٢٢] وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:
٢٠].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِهِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدُ الصِّلَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا تَتَكَلَّمُهُ نَفْسُهُ عَلَى طَريقَة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦].
وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ كُلِّ إِنْسَانٍ التَّنْبِيهُ عَلَى سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ حَدِيثَ النَّفْسِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْ فِعْلِ الْخَلْقِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ عِلْمِ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْوَسْوَسَةِ مُتَجَدِّدٌ غَيْرُ مُنْقَضٍ وَلَا مَحْدُودٍ لِإِثْبَاتِ عُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكِنَايَةُ عَنِ التَّحْذِيرِ مِنْ إِضْمَارِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ.
299
وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَنَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَأْكِيدُ عَامِلِهَا وَتَحْقِيقُ اسْتِمْرَارِ الْعِلْمِ بِبَاطِنِ الْإِنْسَانِ، وَمَعْنَى تُوَسْوِسُ تَتَكَلَّمُ كَلَامًا خَفِيًّا هَمْسًا. وَمَصْدَرُهُ الْوَسْوَاسُ وَالْوَسْوَسَةُ أُطْلِقَتْ هُنَا مَجَازًا عَلَى مَا يَجُولُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالتَّقْدِيرَاتِ وَالْعَزَائِمِ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ أَقْرَبُ شَيْءٍ تُشَبَّهُ بِهِ تِلْكَ الْخَوَاطِرُ وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَعَارُ لَهَا لِأَنَّهَا تَجْمَعُ مُخْتَلِفَ أَحْوَالِ مَا يَجُولُ فِي الْعَقْلِ مِنَ التَّقَادِيرِ وَمَا عَدَاهَا مِنْ نَحْوِ أَلْفَاظِ التَّوَهُّمِ وَالتَّفَكُّرِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الْخَوَاطِرِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْحَبْلُ: هُنَا وَاحِدُ حِبَالِ الْجِسْمِ. وَهِيَ الْعُرُوقُ الْغَلِيظَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الطِّبِّ بِالشَّرَايِينِ، وَاحِدُهَا: شَرْيَانٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتُكْسَرُ وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَتُعْرَفُ بِالْعُرُوقِ الضَّوَارِبِ وَمَنْبَتُهَا مِنَ التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنْ تَجْوِيفَيِ الْقَلْبِ. وَلِلشَّرَايِينِ عَمَلٌ كَثِيرٌ فِي حَيَاةِ الْجِسْمِ لِأَنَّهَا الَّتِي تُوصِلُ الدَّمَ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى أَهَمِّ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ مِثْلَ الرِّئَةِ وَالدِّمَاغِ وَالنُّخَاعِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ. وَلِلشَّرَايِينِ أَسْمَاءٌ بِاعْتِبَارِ مَصَابِّهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ.
وَالْوَرِيدُ: وَاحِدٌ مِنَ الشَّرَايِينِ وَهُوَ ثَانِي شَرْيَانَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنَ التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنَ الْقَلْبِ. وَاسْمُهُ فِي علم الطّلب أَوُرْطِيٌّ وَيَتَشَعَّبُ إِلَى ثَلَاثِ شُعَبٍ ثَالِثَتُهُمَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٍ أَكْبَرَ وَقِسْمٍ أَصْغَر. وَهَذَا الْأَصْغَر يَخْرُجُ مِنْهُ شَرْيَانَانِ يُسَمَّيَانِ السُّبَاتِيَّ وَيَصْعَدَانِ يَمِينًا
وَيَسَارًا مَعَ الْوَدَجَيْنِ، وَكُلُّ هَذِه الْأَقْسَام تسمى الْوَرِيدَ. وَفِي الْجَسَدِ وَرِيدَانِ وَهُمَا عِرْقَانِ يَكْتَنِفَانِ صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ فِي مُقَدَّمِهِمَا مُتَّصِلَانِ بِالْوَتِينِ يَرِدَانِ مِنَ الرَّأْسِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ تَخْتَلِفُ أَسْمَاءُ أَجْزَائِهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مِنَ الْجَسَدِ فَهُوَ فِي الْعُنُقِ يُسَمَّى الْوَرِيدَ، وَفِي الْقَلْبِ يُسَمَّى الْوَتِينَ، وَفِي الظَّهْرِ يُسَمَّى الْأَبْهَرَ، وَفِي الذِّرَاعِ وَالْفَخِذِ يُسَمُّونَهُ الْأَكْحَلَ وَالنَّسَا، وَفِي الْخِنْصَرِ يُدْعَى الْأَسْلَمَ.
وَإِضَافَةُ حَبْلِ إِلَى الْوَرِيدِ بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْحَبَلُ الَّذِي هُوَ الْوَرِيدُ، فَإِنَّ إِضَافَةَ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً كَقَوْلِهِمْ: شَجَرُ الْأَرَاكِ.
300
وَالْقُرْبُ هُنَا كِنَايَةُ عَنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِالْحَالِ لِأَنَّ الْقُرْبَ يَسْتَلْزِمُ الِاطِّلَاعَ، وَلَيْسَ هُوَ قُرْبًا بِالْمَكَانِ بِقَرِينَةِ الْمُشَاهَدَةِ فَآلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ تَشْبِيهِ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، وَهَذَا مِنْ بِنَاءِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْكِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ.
وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّ حَبْلَ الْوَرِيدِ مَعَ قُرْبِهِ لَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ بِقُرْبِهِ لِخَفَائِهِ، وَكَذَلِكَ قُرْبُ اللَّهِ مِنَ الْإِنْسَانِ بِعِلْمِهِ قُرْبٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ تَمْثِيلُ هَذَا الْقُرْبِ بِقُرْبِ حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَبِذَلِكَ فَاقَ هَذَا التَّشْبِيهُ لِحَالَةِ الْقُرْبِ كُلَّ تَشْبِيهٍ مِنْ نَوْعِهِ وَرَدَ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ. مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هُوَ مِنْهُ مِقْعَدُ الْقَابِلَةِ وَمُعَقَّدَ الْإِزَارِ، وَقَوْلُ زُهَيْرٍ:
فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَقَوْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ سَيَّارٍ وَهُوَ حَنْظَلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَيَّارٍ الْعِجْلِيِّ مُخَضْرَمٌ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصْبِحٍ فِي إِهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاك نَعله
[١٧، ١٨]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)
يَتَعَلَّقُ إِذْ بقوله أَقْرَبُ [ق: ١٦] لِأَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ يَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ فِي الْفَاعِلِ وَلَا فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَاللُّغَةُ تَتَوَسَّعُ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ مَا لَا تَتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهَا، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ وَالْكَلَامُ تَخَلُّصٌ لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْجَزَاءِ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ إِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا الْمَعْلُومَةِ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا التَّخَلُّصُ بِكَلِمَةِ إِذْ الدَّالَّةِ عَلَى الزَّمَانِ مِنْ أَلْطَفِ التَّخَلُّصِ.
وَتَعْرِيفُ الْمُتَلَقِّيانِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بعد آيَات ذكر فِيهَا الْحَفَظَةُ،
أَوْ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالتَّثْنِيَةُ فِيهَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُقَسَّمٌ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ.
وَالتَّلَقِّي: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ مُعْطِيهِ. اسْتُعِيرَ لِتَسْجِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ حِينَ صُدُورِهَا مِنَ النَّاسِ.
301
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَتَلَقَّى لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَالتَّقْدِير: إِذْ تُحْصَى أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ. فَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكَيْنِ يُحْصِيَانِ أَعْمَالَهُ وَأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ مِنْ جِهَةِ شِمَالِهِ. وَوَرْدَ فِي السُّنَّةِ بِأَسَانِيدَ مَقْبُولَةٍ: أَنَّ الَّذِي يكون عَن الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ وَوَرَدَ أَنَّهُمَا يُلَازِمَانِ الْإِنْسَانَ مِنْ وَقْتِ تَكْلِيفِهِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ.
وَقَوْلُهُ: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَعِيدٌ بَدَلًا مِنَ الْمُتَلَقِّيانِ بَدَلَ بَعْضٍ، وعَنِ الْيَمِينِ مُتَعَلِّقٌ بِ قَعِيدٌ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِجَانِبَيْهِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْيَمِينِ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وقَعِيدٌ مُبْتَدَأً وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَعَنِ الشِّمالِ عَلَى جُمْلَةِ يَتَلَقَّى وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْقَعِيدَ قَعِيدٌ فِي الْجِهَتَيْنِ، بَلْ كُلٌّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ قَعِيدٌ مُسْتَقِلٌّ بِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ، وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ آخَرُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَمِينِ والشِّمالِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ أَوِ اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ عَنْ يَمِينِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ شِمَالِهِ.
وَالْقَعِيدُ: الْمُقَاعِدُ مِثْلُ الْجَلِيسِ لِلْمُجَالِسِ، وَالْأَكِيلِ لِلْمُؤَاكِلِ، وَالشَّرِيبِ لِلْمُشَارِبِ، وَالْخَلِيطُ لِلْمُخَالِطِ. وَالْغَالِبُ فِي فَعِيلٍ أَنْ يَكُونَ إِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُفَاعَلَةِ مَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعًا، جَازَ مَجِيءُ فَعِيلٍ مِنْهُ بِأَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ قَعِيدَتُهُ. وَالْقَعِيدُ مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازِمِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ كَمَا أَطْلَقُوا الْقَعِيدَ عَلَى الْحَافِظِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الشَّيْءَ الْمُوَكَّلَ بِحِفْظِهِ.
وَجُمْلَةُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَخ مبينَة لجملة يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَمَا نَافِيَةٌ وَضَمِيرُ يَلْفِظُ عَائِدٌ لِلْإِنْسَانِ.
302
وَاللَّفْظُ: النُّطْقُ بِكَلِمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَعْنًى وَلَوْ جُزْءِ مَعْنًى، بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَهُوَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ مَعْنًى.
ومِنْ زَائِدَةٌ فِي مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي
قَوْلِهِ: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، أَيْ مَا يَقُولُ قَوْلًا فِي حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالَةِ وُجُودِ رَقِيبٍ عَتِيدٍ لَدَيْهِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ لِأَنَّ الْمُرَاقَبَةَ هُنَا تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي الْأَقْوَالِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِيَكُونَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَلَا يَكْتُبُ الْحَفَظَةُ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَلَاحُ الْإِنْسَانِ أَوْ فَسَادُهُ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي كِتَابَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَكْتُبُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَكْتُبَانِ كُلَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْقَوْلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا التَّحْذِيرِ الْمُشْرِكُونَ وَإِنَّمَا كَانُوا يُؤَاخَذُونَ بِأَقْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى تَكْذِيب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَذَاهُ وَلَا يُؤَاخَذُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ إِذْ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِالْأَعْمَالِ فِي حَالِ إِشْرَاكِهِمْ.
وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَثَرِ الشِّرْكِ كَالتَّطْوَافِ بِالصَّنَمِ، أَوْ مِنْ أَثَرِ أَذَى النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَإِلْقَاءِ سَلَا الْجُذُورِ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِهِ فِي ضِمْنِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ لَا تَخْلُو مِنْ مُصَاحَبَةِ أَقْوَالٍ مُؤَاخَذٍ عَلَيْهَا بِمِقْدَارِ مَا صَاحَبَهَا.
وَلِأَنَّ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّيِّئَةِ مَا لَهُ أَثَرٌ شَدِيدٌ فِي الْإِضْلَالِ كَالدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَنَهْيِ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ، وَتَغْرِيرِ الْأَغْرَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»
، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ أَوْلَى مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ كَافِيَةٌ فِي تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَضَمِيرُ لَدَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانَ [ق: ١٦]، وَالْمَعْنَى: لَدَى لَفْظِهِ بِقَوْلِهِ.
303
وَ (عَتِيدٌ) فَعِيلٌ مِنْ عَتَدَ بِمَعْنَى هَيَّأَ، وَالتَّاءُ مُبَدَّلَةٌ مِنَ الدَّالِ الْأَوَّلِ إِذْ أَصْلُهُ عَدِيدٌ، أَيْ مُعَدٌّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يُوسُف: ٣١]. وَعِنْدِي أَنَّ عَتِيدٌ هُنَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ (عَتُدَ) بِضَمِّ التَّاءِ إِذَا جَسُمَ وَضَخُمَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ شَدِيدًا وَبِهَذَا يَحْصُلُ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: ٢٣] وَيَحْصُلُ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ التَّامِّ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ.
وَقَدْ تَوَاطَأَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَفْسِيرِ التَّلَقِّي فِي قَوْلِهِ: الْمُتَلَقِّيانِ بِأَنَّهُ تَلَقِّي الْأَعْمَالِ لِأَجْلِ كَتْبِهَا فِي الصَّحَائِفِ لِإِحْضَارِهَا لِلْحِسَابِ وَكَانَ تَفْسِيرًا حَائِمًا حَوْلَ جَعْلِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ لِفِعْلٍ يَتَلَقَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ بِدَلَالَتِهِ الظَّاهِرَةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ وَقَوْلَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَقْدِيرِهِمْ مُنْفَصِلَةً عَنْ جُمْلَةٍ وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: ١٩] كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَلِفَخْرِ الدِّينِ مَعْنًى دَقِيقٌ فَبَعْدَ أَنْ أَجْمَلَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِمَا يُسَايِرُ تَفْسِيرَ الْجُمْهُورِ قَالَ:
«وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّلَقِّي الِاسْتِقْبَالُ، يُقَالُ: فُلَانٌ تَلَقَّى الرَّكْبَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَاهُ: وَقْتَ مَا يَتَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّيَانِ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ قَعِيدٌ، فَالْمُتَلَقِّيَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَأْخُذَانِ رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ أَحَدُهُمَا يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الصَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى السُّرُورِ وَالْآخَرُ يَأْخُذُ أَرْوَاحَ الطَّالِحِينَ وَيَنْقُلُهَا إِلَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، أَيْ وَقْتِ تَلَقِّيهِمَا وَسُؤَالِهِمَا أَنَّهُ مِنْ أَيِ الْقَبِيلَيْنِ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ قَعِيدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنِ الشِّمَالِ مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، وَعِنْدَهُ مَلَكَانِ آخَرَانِ كَاتِبَانِ لِأَعْمَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١]. فَالشَّهِيدُ هُوَ الْقَعِيدُ وَالسَّائِقُ هُوَ الْمُتَلَقِّي يَتَلَقَّى رُوحَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ فَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقْتَ الْإِعَادَةِ، وَهَذَا أَعْرَفُ الْوَجْهَيْنِ وَأَقَرَبُهُمَا إِلَى الْفَهْمِ» اهـ.
وَكَأَنَّهُ يَنْحُو بِهِ مَنْحَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الْوَاقِعَة: ٨٣- ٨٥]. وَلَا نُوقِفُ فِي سَدَادِ هَذَا التَّفْسِيرِ إِلَّا عَلَى ثُبُوتِ وُجُودِ مَلَكَيْنِ يَتَسَلَّمَانِ رُوحَ الْمَيِّتِ مِنْ يَدِ مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ قَبْضِهَا وَيَجْعَلَانِهَا فِي الْمَقَرِّ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهَا. وَالْمَظْنُونُ بِفَخْرِ الدِّينِ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ
304
الْقُرْطُبِيُّ فِي «التَّذْكِرَةِ» عَنْ «مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ» عَنِ الْبَرَاءِ.
وَعَنْ كِتَابِ «النَّسَائِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حُضِرَ الْمَيِّتُ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ يَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ رَاضٍ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَإِذَا قَبَضَهُ الْملك لم يدعوها فِي يَدِهِ طَرْفَةً فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ فَتَعْرُجُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ السَّمَاءِ»
. وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَّا أَنَّ فِي الْحَدِيثِ مَلَائِكَةً جَمْعًا وَفِي الْآيَةِ الْمُتَلَقِّيانِ تَثْنِيَةً.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَفْعُولُ يَتَلَقَّى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ رُوحَ الْإِنْسَانِ. وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا قَعِيدٌ، وَهُوَ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ عَنْ يَمِينِ أَحَدِهِمَا وَعَنْ شِمَالِ الْآخَرِ. وَيَكُونُ قَعِيدٌ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى:
قَعِيدَانِ فَإِنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ قَدْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مفعول، كَقَوْل الأرزق بْنِ طَرَفَةَ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ أَفْعَالٌ لِعَجْزِهِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا أَقْوَالٌ مِنْ تَضَجُّرٍ أَوْ أَنِينٍ أَوْ شَهَادَةٍ بِالتَّوْحِيدِ، أَوْ ضِدِّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَصَايَا والإقرارات.
[١٩]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ١٩]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. فَهَذَا تَنَقُّلٌ فِي مَرَاحِلِ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لِلْإِنْسَانِ الَّتِي تُسَلِّمُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى يَقَعَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِ الَّتِي قَدْ أَحْصَاهَا الْحَفِيظَانِ.
وَإِنَّمَا خُولِفَ التَّعْبِيرُ فِي الْمَعْطُوفِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي دُونَ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الَّتِي صِيغَ بِهَا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لِقُرْبِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا حَصَلَ قَصْدًا لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي نُفُوسِ
305
الْمُشْرِكِينَ كَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الْجُمُعَة: ٨].
وَيَأْتِي على مَا اخْتَارَهُ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [ق: ١٧] الْآيَةَ أَن تكون جملَة وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ حِينَئِذٍ.
وَالْمَجِيءُ مَجَازٌ فِي الْحُصُولِ وَالِاعْتِرَاءِ وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَهْوِيلٌ لِحَالَةِ احْتِضَارِ الْإِنْسَانِ وَشُعُورِهِ بِأَنَّهُ مُفَارِقُ الْحَيَاةَ الَّتِي أَلِفَهَا وَتَعَلَّقَ بِهَا قَلْبُهُ.
وَالسَّكْرَةُ: اسْمٌ لِمَا يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَلَمٍ أَوِ اخْتِلَالٍ فِي الْمِزَاجِ يَحْجُبُ مِنْ إِدْرَاكِ الْعَقْلِ فَيَخْتَلُّ الْإِدْرَاكُ وَيَعْتَرِي الْعَقْلَ غَيْبُوبَةٌ. وَهِيَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ الْغَلْقُ لِأَنَّهُ يُغْلِقُ الْعَقْلَ وَمِنْهُ جَاءَ وَصْفُ السَّكْرَانِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ إِمَّا حَالٌ مِنْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أَيْ مُتَّصِفَةٌ
بِأَنَّهَا حَقٌّ، وَالْحَقُّ: الَّذِي حَقَّ وَثَبُتَ فَلَا يَتَخَلَّفُ، أَيِ السَّكْرَةُ الَّتِي لَا طَمَعَ فِي امْتِدَادِ الْحَيَاةِ بَعْدَهَا، وَإِمَّا حَالٌ مِنَ الْمَوْتِ، أَيْ مُلْتَبِسًا بِأَنَّهُ الْحَقُّ، أَيِ الْمَفْرُوضُ الْمَكْتُوبُ عَلَى النَّاسِ فَهُمْ مَحْقُوقُونَ بِهِ، أَوِ الَّذِي هُوَ الْجِدُّ ضِدُّ الْعَبَثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [التغابن: ٣] مَعَ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧].
وَقَوْلُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْتِ بِتَنْزِيلِ قُرْبِ حُصُولِهِ مَنْزِلَةَ الْحَاصِلِ الْمُشَاهَدِ.
وتَحِيدُ تَفِرُّ وَتَهْرُبُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْكَرَاهِيَةِ أَوْ لِتَجَنُّبِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ. وَالْخِطَابُ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَبِالْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ كَرَاهِيَةً لِلْمَوْتِ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ مَادِّيَّةٌ مَحْضَةٌ فَهُمْ يُرِيدُونَ طُولَ الْحَيَاةِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: ٩٦] إِذْ لَا أَمَلَ لَهُمْ فِي حَيَاةٍ أُخْرَى وَلَا أَمَلَ لَهُمْ فِي تَحْصِيلِ نَعِيمِهَا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ كَرَاهَتَهُمْ لِلْمَوْتِ الْمُرْتَكِزَةَ فِي الْجِبِلَّةِ بِمِقْدَارِ الْإِلْفِ لَا تَبْلُغُ بِهِمْ إِلَى حَدِّ الْجَزَعِ مِنْهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لقاءه»
، وتأويله بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهُ لِلطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ، وَبِالْكَافِرِ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ.
وَقَدْ بَينه
306
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ»
أَيْ وَالْكَافِرُ بِعَكْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خِطَابًا لِلْيَهُودِ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الْجُمُعَة: ٨].
وَتَقْدِيمُ مِنْهُ عَلَى تَحِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا مِنْهُ الْحِيَادُ، وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١)
عَطْفٌ عَلَى وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: ١٩] عَلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ. فَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْفَخْرِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَصِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ، أَيْ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَصِيغَ لَهُ الْمُضِيُّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١]، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ إِذْ أَنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ الَّذِي نُفِخَ فِي الصُّورِ عِنْدَهُ هُوَ يَوْمُ الْوَعِيدِ.
وَالنَّفْخُ فِي الصُّوَرِ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣].
وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّفْعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ. وَالْإِخْبَارُ عَنِ النَّفْخِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْوَعِيدِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ ذَلِكَ حُلُولُ يَوْمِ الْوَعِيدِ. وَإِضَافَةُ يَوْمُ إِلَى الْوَعِيدِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَا يَقَعُ فِيهِ، أَيْ يَوْمَ حُصُولِ الْوَعِيدِ الَّذِي كَانُوا تُوُعِّدُوا بِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْوَعِيدِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، تَقْدِيرُهُ: وَيَوْمُ الْوَعْدِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ عَلَى جُمْلَةِ نُفِخَ فِي الصُّورِ. وَالْمُرَادُ بِ كُلُّ نَفْسٍ كُلُّ نَفْسٍ مِنَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: السِّيَاقُ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ مَعَها سائِقٌ لِأَنَّ السَّائِقَ يُنَاسِبُ إِزْجَاءَ أَهْلِ الْجَرَائِمِ، وَأَمَّا الْمَهْدِيُّونَ إِلَى الْكَرَامَةِ فَإِنَّمَا يَهْدِيهِمْ قَائِدٌ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [الْأَنْفَال: ٦].
وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ بَعْدَهُ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: ٢٢].
وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: ٢٣] الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ. وسائِقٌ مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ الَّذِي هُوَ مَعَها عَلَى رَأْيِ مَنْ أَجَازَهُ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَعَها. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ حَالًا مِنْ كُلُّ نَفْسٍ. وَعَطْفُ وَشَهِيدٌ عَلَى سائِقٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ ذَاتٍ عَلَى ذَاتٍ فَيكون المُرَاد ملكان أَحَدُهُمَا يَسُوقُ النَّفْسَ إِلَى الْمَحْشَرِ وَالْآخَرُ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا حَوَتْهُ صَحَائِفُ أَعْمَالِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ مِثْلَ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرَمِ وَابْنِ الْهُمَامِ فَهُوَ مَلِكٌ وَاحِدٌ.
وَالسَّائِقُ الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ أَمَامَهُ يُزْجِيهِ فِي السَّيْرِ لِيَكُونَ بِمَرْأًى مِنْهُ كَيْلَا يَنْفَلِتَ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمَشْيِ بِهِ إِلَى مَا يَسُوءُ قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [الْأَنْفَال: ٦] وَقَالَ:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الزمر: ٧١]، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: ٧٣] فَمُشَاكَلَةٌ. وَضِدُّ السُّوق: الْقود.
[٢٢]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٢٢]
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ تَعَيُّنِهُ مِنَ الْخِطَابِ، أَيْ يُقَالُ هَذَا الْكَلَامُ لِكُلِّ نَفْسٍ مِنْ نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ خِطَابُ التَّهَكُّمِ التَّوْبِيخِيِّ لِلنَّفْسِ الْكَافِرَةِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَكُنْ فِي غَفْلَةٍ عَنِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كُلُّ نَفْسٍ [ق: ٢١] أَوْ مَوْقِعِ الصِّفَةِ، وَعَلَامَاتُ الْخِطَابِ فِي كَلِمَاتِ كُنْتَ وعَنْكَ وغِطاءَكَ وفَبَصَرُكَ مَفْتُوحَةٌ لِتَأْوِيلِ النَّفْسِ بِالشَّخْصِ أَوْ بِالْإِنْسَانِ ثُمَّ غَلَبَ فِيهِ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَهَذَا الْكَلَامُ صَادِرٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ شُرُوعٌ فِي ذِكْرِ الْحِسَابِ.
وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْإِنْكَارِ وَالْجَحَدِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وَرَشَّحَ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ بِمَعْنَى: بَيَّنَّا لَكَ الدَّلِيلَ بِالْحِسِّ فَهُوَ أَيْضًا تَهَكُّمٌ. وَأُوثِرَ قَوْلُهُ: فِي غَفْلَةٍ عَلَى أَنْ يُقَالَ غَافِلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُ وَلِذَلِكَ اسْتَتْبَعَ تَمْثِيلَهَا بِالْغِطَاءِ.
وَكَشْفُ الْغِطَاءِ تَمْثِيلٌ لِحُصُولِ الْيَقِينِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ إِنْكَارِ وُقُوعِهِ، أَيْ كَشَفْنَا عَنْكَ الْغِطَاءَ الَّذِي كَانَ يَحْجُبُ عَنْكَ وُقُوعَ هَذَا الْيَوْمِ بِمَا فِيهِ، وَأُسْنِدَ الْكَشْفُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الَّذِي أَظْهَرَ لَهَا أَسْبَابَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِشَوَاهِدِ عَيْنِ الْيَقِينِ. وَأُضِيفَ (غِطَاءَ) إِلَى ضَمِيرِ الْإِنْسَانِ الْمُخَاطِبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ.
وَحِدَّةُ الْبَصَرِ: قُوَّةُ نَفَاذِهِ فِي الْمَرْئِيِّ، وَحِدَّةُ كُلِّ شَيْءِ قُوَّةُ مَفْعُولِهِ، وَمِنْهُ حِدَّةُ الذِّهْنِ، وَالْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِرُؤْيَةِ الْمَرْئِيِّ بِبَصَرٍ قَوِيٍّ، وَتَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: الْيَوْمَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ، أَيْ لَيْسَ حَالُكَ الْيَوْمَ كَحَالِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ إِذْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ.
وَالْمَعْنَى: فَقَدْ شَاهَدْتَ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ وَالْجَزَاءَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ كُله، قَالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات: ٥٣] وَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات: ٥٩] فَقَدْ رَأَى الْعَذَاب ببصره.
[٢٣]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٢٣]
وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣)
الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ تَاءِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ
هَذَا [ق: ٢٢]
309
أَيْ يُوَبَّخُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ بِكَلِمَةِ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا، فِي حَالِ قَوْلِ قَرِينِهِ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ.
وَهَاءُ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: قَرِينُهُ عَائِدَةٌ إِلَى كُلُّ نَفْسٍ [ق: ٢١] أَوْ إِلَى الْإِنْسَانِ.
وَقَرِينُ فَعِيلُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَقْرُونٌ إِلَى غَيْرِهِ. وَكَأَنَّ فِعْلَ قَرَنَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرَنِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْحَبْلُ وَكَانُوا يَقْرِنُونَ الْبَعِيرَ بِمِثْلِهِ لِوَضْعِ الْهَوْدَجِ، فَاسْتُعِيرَ الْقَرِينُ لِلْمُلَازِمِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِالْتِفَاتٍ إِذْ لَيْسَ هُوَ تَغْيِيرَ ضَمِيرٍ وَلَكِنَّهُ تَعْيِينُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ وَأُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى نَفْسٍ أَيْ شَخْصٍ، أَوْ غَلَبَ التَّذْكِيرُ عَلَى التَّأْنِيثِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَا لَدَيَّ إِلَخْ، يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ.
وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا لَدَيَّ مَوْصُولَةٌ بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. ولَدَيَّ صِلَةٌ، وعَتِيدٌ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْقَرِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْإِنْسَانِ الَّذِي يَسُوقُهُ إِلَى الْمَحْشَرِ أَيْ هُوَ السَّائِقُ الشَّهِيدُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَرِينُ فِي قَوْلِهِ الْآتِي قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ [ق: ٢٧] بِمَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى الْقَرِينِ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَنَّ الْقَرِينَ شَيْطَانُ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ فِي الدُّنْيَا أَيِ الَّذِي وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [فصلت: ٢٥]. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا: أَنْ قَرِينَهُ صَاحِبُهُ مِنَ الْإِنْسِ، أَيِ الَّذِي كَانَ قَرِينَهُ فِي الدُّنْيَا.
وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالْقَرِينِ يَخْتَلِفُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ فَإِنْ كَانَ الْقَرِينُ الْمَلَكَ كَانْتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْعَذَابِ الْمُوكَّلِ بِهِ ذَلِكَ الْمَلَكُ وَإِنْ كَانَ الْقَرِينُ شَيْطَانًا أَوْ إِنْسَانًا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مُحْتَمَلَةً لِأَنَ تَعُودَ إِلَى الْعَذَابِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوْ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: قَرِينُهُ
310
وَهُوَ نَفْس الْكَافِرِ، أَيْ هَذَا الَّذِي مَعِي، فَيَكُونُ لَدَيَّ بِمَعْنَى: مَعِي، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ صَاحِبٍ يَأْنَسُ بِمُحَادَثَتِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ قرين الشّرك الممائل.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ مَنْ كَانَ قَرِينًا لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَاخْتِلَافَ حَالَيْهِمَا يَوْمَ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٥١، ٥٢]. وَقَوْلُ الْقَرِينِ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ مُسْتَعْمل فِي التهلف وَالتَّحَسُّرِ وَالْإِشْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا بِهِ الْعَذَابَ عَلِمَ أَنه قد هيّىء لَهُ، أَوْ لَمَّا رَأَى مَا قَدَّمَ إِلَيْهِ قَرِينُهُ علم أَنه لَا حق عَلَى أَثَرِهِ كَقِصَّةِ الثَّوْرَيْنِ الْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ اللَّذَيْنِ اسْتَعَانَ الْأَسَدُ بِالْأَحْمَرِ مِنْهُمَا عَلَى أَكْلِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ ثُمَّ جَاءَ الْأَسَدُ بَعْدَ يَوْمٍ لِيَأْكُلَ الثَّوْرَ الْأَحْمَرَ فَعَلَا الْأَحْمَرُ رَبْوَةً وَصَاحَ أَلَا إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عَتِيدٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨]، وَهُوَ هُنَا مُتَعَيِّنٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ، أَيْ معدّ ومهيّأ.
[٢٤، ٢٥]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٥]
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥)
انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِ النَّفْسِ إِلَى خِطَابِ الْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَالْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِ فَرِيقٍ إِلَى خِطَابِ فَرِيقٍ آخَرَ، وَصِيغَةُ الْمُثَنَّى فِي قَوْلِهِ: أَلْقِيا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي أَصْلِهَا فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِجَهَنَّمَ وَخُوطِبَ بِصِيغَةِ الْمُثَنَّى جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةٍ مُسْتَعْمَلَةٍ فِي الْخِطَابِ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَكْثُرُ فِيهِمْ أَنْ يُرَافِقَ السَّائِرَ رَفِيقَانِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
قفانبك مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ وَقَوْلِهِمْ: يَا خَلِيلَيَّ، وَيَا صَاحِبَيَّ. وَالْمُبَرِّدُ يَرَى أَنَّ تَثْنِيَةَ الْفَاعِلِ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ تَثْنِيَةِ الْفِعْلِ لِاتِّحَادِهِمَا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلْقِ أَلْقِ لِلتَّأْكِيدِ.
وَهَذَا أَمْرٌ بِأَنْ يَعُمَّ الْإِلْقَاءُ فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، فَيَعْلَمُ مِنْهُ كُلُّ حَاضِرٍ فِي الْحَشْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَالْكَفَّارُ: الْقَوِيُّ الْكُفْرِ، أَيِ الشِّرْكِ.
وَالْعَنِيدُ: الْقَوِيُّ الْعِنَادِ، أَيِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُدَافَعَةِ لِلْحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ.
وَالْمَنَّاعُ: الْكَثِيرُ الْمَنْعِ، أَيْ صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْخَيْرِ، وَالْخَيْرُ هُوَ الْإِيمَانُ، كَانُوا يَمْنَعُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَذَوِيهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْإِيمَانِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ كَانَ يَقُولُ لِبَنِي أَخِيهِ «مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ مَا عِشْتُ». وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَيْضًا مَنْعُ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّ الْخَيْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ الْفُقَرَاءَ وَيُعْطُونَ الْمَالَ
لِأَكَابِرِهِمْ تَقَرُّبًا وَتَلَطُّفًا.
وَالْمُعْتَدِي: الظَّالِمُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وعَلى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْقَوْلِ الْبَاطِلِ.
وَالْمُرِيبُ الَّذِي أَرَابَ غَيْرَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مُرْتَابًا، أَيْ شَاكًّا، أَيْ بِمَا يُلْقُونَهُ إِلَى النَّاسِ مِنْ صُنُوفِ الْمُغَالَطَةِ لِيُشَكِّكُوهُمْ فِي صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. وَبَيْنَ لَفْظِي عَتِيدٌ [ق: ١٨] وعَنِيدٍ الجناس الْمُصحف.
[٢٦]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٢٦]
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ بَدَلًا مِنْ كَفَّارٍ عَنِيدٍ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ تُبَدَّلُ مِنَ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشورى: ٥٢، ٥٣]، عَلَى أَنَّ الْمَوْصُولَ هُنَا تَعْرِيفُهُ لَفْظِيٌّ مُجَرَّدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّلَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمُعَيَّنٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:
فَأَلْقِياهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: ٢٤] وَمَصَبُّ التَّفْرِيعِ الْمُتَعَلِّقِ وَهُوَ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ، أَيْ فِي أَشَدِّ عَذَابِ جَهَنَّمَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَمْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي جَهَنَّمَ تَفْرِيعُ بَيَانٍ، وَإِعَادَةُ فِعْلِ أَلْقِيا لِلتَّأْكِيدِ مَعَ تَفْرِيعِ مُتَعَلِّقِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: ٩]
فَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ إِلَخْ قَوْلَهُ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: ١٨٨]، فَالْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَإِعَادَةُ تَحْسَبَنَّهُمْ تُفِيدُ التَّأْكِيد، وَعَلِيهِ ف الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ:
الْكَفَّارُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كُلَّ [ق: ٢٤] فَهُوَ صَادِقٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْكَفَّارِينَ فَضَمِيرُ النصب فِي فَأَلْقِياهُ بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ جَمْعٍ، أَيْ فَأَلْقَيَاهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُبْتَدَأً عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ وَيُضَمَّنُ الْمَوْصُولُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ فِي وُجُودِ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهَذَا كَثِيرٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا تَأْكِيدُ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ.
[٢٧]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٢٧]
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
حِكَايَةُ قَوْلِ الْقَرِينِ بِالْأُسْلُوبِ الْمُتَّبَعِ فِي حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أُسْلُوبُ
الْفَصْلِ دُونَ عَطْفِ فِعْلِ الْقَوْلِ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ الْأُسْلُوبُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]، تُشْعِرُ بِأَنَّ فِي الْمَقَامِ كَلَامًا مَطْوِيًّا هُوَ كَلَامُ صَاحِبِ الْقَرِينِ طُوِيَ لِلْإِيجَازِ، وَدَلِيلُهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُ الْقَرِينِ مِنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَطْغَى صَاحِبَهُ إِذْ قَالَ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ ص صَرِيحًا بِقَوْلِهِ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [ص: ٥٩- ٦١]. وَتَقْدِيرُ الْمَطْوِيِّ هُنَا: أَن الكفّار الْعَنِيدَ لَمَّا قَدِمَ إِلَى النَّارِ أَرَادَ التَّنَصُّلَ مِنْ كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ وَأَلْقَى تَبِعَتَهُ عَلَى قَرِينِهِ الَّذِي كَانَ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ فَقَالَ: هَذَا الْقَرِينُ أَطْغَانِي، فَقَالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ.
فَالْقَرِينُ هَذَا هُوَ الْقَرِينُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:
٢٣].
وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي التَّعَاظُمِ وَالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ، وَفِعْلُهُ يَائِيٌّ وَوَاوِيٌّ، يُقَالُ: طَغِيَ يَطْغَى كَرَضِيَ، وَطَغَا يَطْغُو كَدَعَا. فَمَعْنَى مَا أَطْغَيْتُهُ مَا جَعَلْتُهُ طَاغِيًا، أَيْ مَا أَمَرْتُهُ بِالطُّغْيَانِ وَلَا زَيَّنْتُهُ لَهُ. والاستدراك ناشىء عَنْ شِدَّةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِينِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرِينِ شَيْطَانَهُ الْمُقَيَّضَ لَهُ فَإِنَّهُ قُرِنَ بِهِ مِنْ وَقْتِ إِدْرَاكِهِ، فَالِاسْتِدْرَاكُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ مِنَ الطُّغْيَانِ بِتَلْقِينِ الْقَرِينِ فَهُوَ يَنْفِي ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ الِاسْتِدْرَاكَ بِجُمْلَةِ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ فَأَخْبَرَ الْقَرِينُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ ضَالٌّ مِنْ قَبْلُ فَلَمْ يَكُنِ اقْتِرَانُهُ مَعَهُ فِي التَّقْيِيضِ أَوْ فِي الصُّحْبَةِ بِزَائِدِ إِيَّاهُ إِضْلَالًا، وَهَذَا نَظِيرُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَة:
١٦٦]. وَفِعْلُ كانَ لِإِفَادَةِ أَنَّ الضَّلَالَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْأَصَالَةِ مُلَازِمٌ لِتَكْوِينِهِ.
وَالْبَعِيدُ: مُسْتَعَارٌ لِلْبَالِغِ فِي قُوَّةِ النَّوْعِ حَدًّا لَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ إِدْرَاكُ الْعَاقِلِ بِسُهُولَةٍ كَمَا لَا يَبْلُغُ سَيْرُ السَّائِرِ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ أَوْ بَعِيدُ الزَّمَانِ، أَيْ قَدِيمٌ أَصِيلٌ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِمُفَادِ فِعْلِ كانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١١٦].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَمَكُّنَ الضَّلَالِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بِتَابِعٍ لِمَا يُمْلِيهِ غَيْرُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَأْنَ التَّابِعِ فِي شَيْءٍ أَنْ لَا يَكُونَ مَكِينًا فِيهِ مِثْلَ عِلْمِ الْمُقَلَّدِ وَعلم النظّار.
[٢٨، ٢٩]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]
قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
هَذَا حِكَايَةُ كَلَامٍ يَصْدُرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْفَرِيقَيْنِ الَّذِي اتَّبَعُوا وَالَّذِينَ اتُّبِعُوا، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: ٢٢].
وَعَدَمُ عَطْفِ فِعْلِ قالَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِوُقُوعِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُقَاوَلَةِ، وَالتَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فَقَدْ صَارَتِ المقاولة بَين ثَلَاثَة جَوَانِبَ.
314
وَالِاخْتِصَامُ: الْمُخَاصَمَةُ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا لِمُطَاوَعَةِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَاسْتُعْمِلَتْ لِلتَّفَاعُلِ مَثَلَ: اجْتَوَرُوا وَاعْتَوَرُوا وَاخْتَصَمُوا.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُخَاصَمَةِ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ النُّفُوسَ الْكَافِرَةَ ادَّعَتْ أَنَّ قُرَنَاءَهَا أَطْغَوْهَا، وَأَنَّ الْقُرَنَاءَ تَنَصَّلُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ النُّفُوسَ أَعَادَتْ رَمْيَ قُرَنَائِهَا بِذَلِكَ فَصَارَ خِصَامًا فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ لَا تَخْتَصِمُوا عَلَيْهِ إِيثَارًا لِحَقِّ الْإِيجَازِ فِي الْكَلَامِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الِاخْتِصَامِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِتَأْوِيلِ النَّهْيِ عَنِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، أَيْ كَفُّوا عَنِ الْخِصَامِ.
وَمَعْنَى النَّهْيُ أَنَّ الْخِصَامَ فِي ذَلِكَ لَا جَدْوَى لَهُ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْكُفْرِ كَافٍ فِي مُؤَاخَذَةِ كِلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٨]، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يُفِيدُهُمُ التَّخَاصُمُ لِإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَوَجْهُ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَذَابِ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى إِضْلَالِهِ قَائِمٌ بِمَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ مِنْ تَرْوِيجِ الْبَاطِلِ دُونَ نَظَرٍ فِي الدَّلَائِلِ الْوِزَاعَةِ عَنْهُ وَأَنَّ مُتَلَقِّيَ الْبَاطِلِ مِمَّنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ قَائِمٌ بِمَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ من الطَّاعَة لأيمة الضَّلَالِ فَاسْتَوَيَا فِي الدَّاعِي وَتَرَتُّبِ أَثَرِهِ.
وَالْوَاوُ فِي وَقَدْ قَدَّمْتُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَخْتَصِمُوا وَهِيَ حَالٌ مُعَلِّلَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَامِ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَطْمَعُوا فِي أَنَّ تَدَافُعَكُمْ فِي إِلْقَاءِ التَّبِعَةِ يُنْجِيكُمْ مِنَ الْعِقَابِ بَعْدَ حَالِ إِنْذَارِكُمْ بِالْوَعِيدِ مِنْ وَقْتِ حَيَاتِكُمْ فَمَا اكْتَرَثْتُمْ بِالْوَعِيدِ فَلَا تَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ مَنْ أَنْذَرَ
فَقَدْ أَعْذَرَ.
فَقَوْلُهُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْخِصَامِ كَوْنَ الْعِقَابِ عَدْلًا مِنَ اللَّهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْوَعِيدِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِه: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة:
٦]. وَالْمَعْنَى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمُ الْوَعِيدَ قَبْلَ الْيَوْمِ.
315
وَالتَّقْدِيمُ: جَعْلُ الشَّيْءِ قُدَّامَ غَيْرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: كَوْنُهُ سَابِقًا عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالشِّرْكِ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُمْ بِوَاسِطَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ الْمُكَنَّى عَنْهُ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، أَيْ لَسْتُ مُبْطِلًا ذَلِكَ الْوَعِيدَ، وَهُوَ الْقَوْلُ، إِذِ الْوَعِيدُ مِنْ نَوْعِ الْقَوْلِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، أَيْ فَمَا أَوْعَدْتُكُمْ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَهَّدَ أَنْ لَا يَغْفِرَ لِمَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي الْمُكَنَّى عَنْهُ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أَيْ فَلِذَلِكَ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمُ الْوَعِيدَ.
وَالْمُبَالَغَةُ الَّتِي فِي وصف بِظَلَّامٍ رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَالْمُرَادُ: لَا أَظْلِمُ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى: مَا أَنَا بِشَدِيدِ الظُّلْمِ كَمَا قَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْمُقَيَّدِ يُفِيدُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْقَيْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَغْلَبِيٌّ. وَالْأَكْثَرُ فِي نَفْيِ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِالْمُبَالَغَةِ مُبَالَغَةُ النَّفْيِ، قَالَ طَرَفَةُ:
وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ
فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْيَ كَثْرَةِ حُلُولِهِ التِّلَاعَ وَإِنَّمَا أَرَادَ كَثْرَةَ النَّفْيِ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» تَوَجُّهَ نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُقَيَّدِ إِلَى خُصُوصِ الْقَيْدِ كَتَوَجُّهِ الْإِثْبَاتِ سَوَاءً، وَلَكِن كَلَام التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ» فِي مَبْحَثِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى اسْتِعْمَالَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَالْأَكْثَرُ أَنَّ النَّفْيَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقَيْدِ فَيَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْقَيْدَ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ الْقَيْدُ قَيْدًا لِلنَّفْيِ وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. عَلَى أَنِّي أَرَى أَنَّ عَدَّ مِثْلِ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي عِدَادِ الْقُيُودِ مَحَلَّ نَظَرٍ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الْقُيُودِ هُوَ مَا كَانَ لَفْظًا زَائِدًا عَلَى اللَّفْظِ الْمَنْفِيِّ مِنْ صِفَةٍ أَوْ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَسْتُ ظَلَّامًا، وَلَكِنْ أَظْلِمُ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَا آتِيكَ مُحَارِبًا وَلَكِنْ مُسَالِمًا.
وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّ إِيثَار وصف بِظَلَّامٍ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ
316
لَوْ كَانَ غَيْرَ مَنْفِيٍّ لَكَانَ ظُلْمًا شَدِيدًا فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أُخِذَ الْجَانِي قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ عَمَلَهُ جِنَايَةٌ
لَكَانَتْ مُؤَاخَذَتُهُ بِهَا ظُلْمًا شَدِيدًا. وَلَعَلَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» يَرْمِي إِلَى مَذْهَبِهِ مِنِ اسْتِوَاءِ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَبِيدِ دُونَ التَّعْبِيرِ بِالنَّاسِ وَنَحْوِهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي نُفُوسِ الْأُمَّةِ، أَيْ لَا أَظْلِمُ وَلَوْ كَانَ الْمَظْلُومُ عَبْدِي فَإِذَا كَانَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْعِبَادَ قَدْ جَعَلَ مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَشْرِيعٌ ظُلْمًا فَمَا بَالَكَ بِمُؤَاخَذَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالتَّبِعَاتِ دُونَ تَقَدُّمٍ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: لَا عُقُوبَةَ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ فِيهِ قَانُونٌ سَابِقٌ قبل فعله.
[٣٠]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٣٠]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)
ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: ٢٨]. وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ يَوْمَ يَقُولُ قَوْلًا آخَرَ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ. ومناسبته تَعْلِيقِهِ بِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لِجَهَنَّمَ مَقْصُودٌ بِهِ تَرْوِيعُ الْمَدْفُوعِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَنْ لَا يَطْمَعُوا فِي أَنَّ كَثْرَتَهُمْ يَضِيقُ بِهَا سَعَةُ جَهَنَّمَ فَيَطْمَعُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُوجَدُ لَهُ مَكَانٌ فِيهَا، فَحَكَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً لِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْلِيمًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ اسْتَوَتْ قِرَاءَةُ يَقُولُ بِالْيَاءِ، وَهِيَ لِنَافِعٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ مَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ بَلْ هُوَ الْتِفَاتٌ تَابِعٌ لِتَبْدِيلِ طَرِيقِ الْإِخْبَارِ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ غَائِبٍ إِلَى خِطَابِ حَاضِرٍ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ كَلَامٌ يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِمَحْضِ خَلْقِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ.
فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ كَمَا يُقَالُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلِ امْتَلَأْتِ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَنْبِيهِ أَهْلِ الْعَذَابِ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ لِجَهَنَّمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي أَصْوَاتِ لَهِيبِهَا أَصْوَاتًا ذَاتَ حُرُوفٍ يَلْتَئِمُ مِنْهَا كَلَامٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ دَلَالَةِ حَالِهَا عَلَى أَنَّهَا
تَسَعُ مَا يُلْقَى فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ بِأَنْ يُكْشَفَ بَاطِنُهَا لِلْمَعْرُوضِينَ عَلَيْهَا حَتَّى يَرَوْا سِعَتَهَا كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
امْتَلَا الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ مِنْ مَزِيدٍ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّشْوِيقِ وَالتَّمَنِّي.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشَوِّقَةٌ إِلَى الْإِيفَاءِ بِمَا خُلِقَتْ لَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْطَان قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: ١٦]. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِظْهَارِ الِامْتِثَالِ لِمَا خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَجْلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَتَلَكَّأُ وَلَا تَتَعَلَّلُ فِي أَدَائِهِ عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ فِي بَابِهِ.
وَالْمَزِيدُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِثْلَ الْمَجِيدِ وَالْحَمِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ زَادَ، أَيْ هَلْ مِنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ يلقون فيّ.
[٣١- ٣٥]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٥]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)
عَطَفَ وَأُزْلِفَتِ عَلَى يَقُولُ لِجَهَنَّمَ. فَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ أزلفت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى مُقَابِلِ حَالَةِ الضَّالِّينَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١] وَلَوِ اعْتُبِرَتْ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا لَصَحَّ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ عَطْفَهَا عَلَى جملَة يَوْم يَقُول لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ [ق: ٣٠] غَنِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الْكَلَامِ.
وَالْإِزْلَافُ: التَّقْرِيبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّلَفِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ، وَقِيَاسُ فِعْلِهِ أَنَّهُ كَفَرِحَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَلَمْ يُرْوَ فِي كَلَامِهِمْ، أَيْ جُعِلَتِ الْجَنَّةُ قَرِيبًا مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَيِ ادْنُوَا مِنْهَا.
وَالْجَنَّةُ مَوْجُودَةٌ مِنْ قَبْلِ وُرُودِ الْمُتَّقِينَ إِلَيْهَا فَإِزْلَافُهَا قَدْ يَكُونُ بِحَشْرِهِمْ لِلْحِسَابِ
318
بِمَقْرُبَةِ مِنْهَا كَرَامَةً لَهُمْ عَنْ كُلْفَةِ الْمَسِيرِ إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ تَيْسِيرِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا بِوَسَائِلَ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فِي عَادَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ بَعِيدٍ يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، أَيْ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْهُمْ وَإِلَّا صَارَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِ أُزْلِفَتِ كَمَا يُقَالُ: عَاجِلٌ غَيْرُ آجِلٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩] وَالتَّأْسِيسُ أَرْجَحُ مِنَ احْتِمَالِ التَّأْكِيدِ.
وَانْتَصَبَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَصْفٌ لِظَرْفِ مَكَانٍ مَحْذُوفٍ.
وَالتَّقْدِيرُ: مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أَيْ عَنِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذَا الظَّرْفُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةُ. وَتَجْرِيدُ
بَعِيدٍ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ: إِمَّا عَلَى اعْتِبَارِ غَيْرَ بَعِيدٍ وَصفا لمَكَان، وَإِمَّا جَرْيٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْغَالِبِ فِي وَصْفِ بَعِيدٍ وَقَرِيبٍ إِذَا أُرِيدَ الْبُعْدُ وَالْقُرْبُ بِالْجِهَةِ دُونَ النَّسَبِ أَنْ يُجَرَّدَا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ أَوْ لِأَنَّ تَأْنِيثَ اسْمِ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الزَّئِيرِ وَالصَّلِيلِ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: ٥٦].
وَجُمْلَةُ هَذَا مَا تُوعَدُونَ مُعْتَرِضَةٌ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا وَحْدَهَا مُعْتَرِضَةً وَمَا بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهَا فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهَمَا لِلْمُتَّقِينَ ولِكُلِّ أَوَّابٍ، وَتُجْعَلْ لِكُلِّ أَوَّابٍ بَدَلًا مِنْ لِلْمُتَّقِينَ، وَتَكْرِيرُ الْحَرْفِ الَّذِي جُرَّ بِهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [سبأ: ٣٢] لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النِّسَاء: ١١]. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْمُذَكَّرُ مُرَاعًى فِيهِ مَجْمُوعُ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ.
وَالْأَوَّابُ: الْكَثِيرُ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
وَالْحَفِيظُ: الْكَثِيرُ الْحِفْظِ لِوَصَايَا اللَّهِ وَحُدُودِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُحَافِظٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَإِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ أَعْقَبَهَا بِالتَّوْبَةِ.
ومَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ بدل من لِكُلِّ أَوَّابٍ.
319
وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ. وَأُطْلِقَتِ الْخَشْيَةُ عَلَى أَثَرِهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْغَيْبِ بِمَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِتَنْزِيلِ الْحَالِ مَنْزِلَةَ الْمَكَانِ، أَيِ الْحَالَةُ الْغَائِبَةُ وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْخَشْيَةَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ بِحَيْثُ لَا يَرْجُو ثَنَاءَ أَحَدٍ وَلَا عِقَابَ أَحَدٍ فَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِالتَّاءِ بِفِعْلِ خَشِيَ.
وَلَكَ أَنْ تُبْقِيَ الْبَاءَ عَلَى بَعْضِ مَعَانِيهَا الْغَالِبَةِ وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ وَنَحْوُهَا وَيَكُونُ الْغَيْبُ مَصْدَرًا وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ خَشِيَ.
وَمَعْنَى وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أَنَّهُ حَضَرَ يَوْمَ الْحَشْرِ مُصَاحِبًا قَلْبَهُ الْمُنِيبَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ مَاتَ مَوْصُوفًا بِالْإِنَابَةِ وَلَمْ يُبْطِلْ عَمَلَهُ الصَّالِحَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٨٨، ٨٩].
وَإِيثَارُ اسْمِهِ الرَّحْمنَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَّقِيَ يَخْشَى اللَّهَ وَهُوَ يعلم أَنه رحمان، وَلِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
أَنْكَرُوا اسْمه الرحمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
وَالْمَعْنَى عَلَى الَّذِينَ خَشُوا: خَشِيَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ، فَأَنْتُمْ لَا حَظَّ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ أَن الله رحمان بَلْهَ أَنْ تَخْشَوْهُ.
وَوَصْفُ قَلْبٍ بِ مُنِيبٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْقَلْبَ سَبَبُ الْإِنَابَةِ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ ادْخُلُوها بِسَلامٍ مِنْ تَمَامِ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَهَذَا الْإِذْنُ مِنْ كَمَالِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ أَنَّهُ إِنْ دُعِيَ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَوْ جِيءَ بِهِ فَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِسَلامٍ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالسَّلَامُ: السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ أَذًى مِنْ تَعَبٍ أَوْ نَصَبٍ، وَهُوَ دُعَاءٌ.
320
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَيْضًا تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ مِثْلَ قَوْلِهِ:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨].
وَمَحَلُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا يُثِيرُ تَرَقُّبَ الْمُخَاطَبِينَ لِلْإِذْنِ بِإِنْجَازِ مَا وُعِدُوا بِهِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣]، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. وَكَانَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْبَعِيدِ لِلتَّعْظِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله: يَوْم يَقُول لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ [ق: ٣٠] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ جَهَنَّمَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ:
ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ تَرْهِيبًا وَتَرْغِيبًا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً اعْتِرَاضًا مُوَجَّهًا إِلَى الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ إِلَى السَّامِعِينَ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِضَافَةُ يَوْمُ إِلَى الْخُلُودِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَوَّلَ أَيَّامِ الْخُلُودِ هِيَ أَيَّامٌ ذَاتُ مَقَادِيرَ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِ يَوْمُ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ.
وَبَيْنَ كَلِمَةٍ ادْخُلُوها وَكَلِمَةِ الْخُلُودِ الْجِنَاسُ الْمَقْلُوبُ النَّاقِصُ، ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يُقَالُ لِلْمُتَّقِينَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا وَأَصْلُهُ: لكم مَا تشاؤون. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ الْفَرِيقَانِ فِي الدُّنْيَا وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.
ولَدَيْنا مَزِيدٌ، أَيْ زِيَادَةٌ على مَا يشاؤون مِمَّا لَمْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي
كَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَوَرَدَتْ آثَارٌ مُتَفَاوِتَةُ الْقُوَّةِ أَنَّ مِنَ الْمَزِيدِ مُفَاجَأَتَهُمْ بِخَيْرَاتٍ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُفَاجَأَةَ بِالْإِنْعَامِ ضَرْبٌ مِنَ التَّلَطُّفِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْعَامَ يَجِيئُهُمْ فِي صُوَرٍ مُعْجَبَةٍ. وَالْقَوْلُ فِي مَزِيدٌ هُنَا كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ آنِفًا.
وَجَاءَ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي مُنْتَهَى الدِّقَّةِ فَبَدَأَتْ بِذِكْرِ إِكْرَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، ثُمَّ بِذِكْرِ أَنَّ الْجَنَّةَ جَزَاؤُهُمُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَهِيَ حَقٌّ لَهُمْ، ثُمَّ أَوْمَأَتْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ إِلَخْ،
321
ثُمَّ ذُكِرَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي إِكْرَامِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ، ثُمَّ طَمْأَنَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ نَعِيمٌ خَالِدٌ، وَزِيدَ فِي إِكْرَامِهِمْ بِأَنَّ لَهُم مَا يشاؤون مَا لَمْ يَرَوْهُ حِينَ الدُّخُولِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ عدهم بِالْمَزِيدِ من لَدنه.
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٧]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)
انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ إِلَى التَّهْدِيدِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهَذَا الْعَطْفُ انْتِقَالٌ إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: ٤] وَمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: ١٥].
وَفِي هَذَا الْعَطْفِ الْوَعِيدُ الَّذِي أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ إِلَى قَوْلِهِ: فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: ١٢، ١٤]. فَالْوَعِيدُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً.
وَالْخَبَرُ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَضَمِيرَا قَبْلَهُمْ ومِنْهُمْ عَائِدَانِ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: ٢]. وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ السُّنَنِ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْلُهُ: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥]، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وكَمْ خَبَرِيَّةٌ وَجُرَّ تَمْيِيزُهَا بِ مِنْ عَلَى الْأَصْلِ.
وَالْبَطْشُ: الْقُوَّةُ عَلَى الْغَيْرِ. وَالتَّنْقِيبُ: مُشْتَقٌّ مِنَ النَّقْبِ بِسُكُونِ الْقَافِ بِمَعْنَى الثَّقْبِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى:
322
خَرَقُوا، وَاسْتُعِيرَ لِمَعْنَى: ذَلَّلُوا وَأَخْضَعُوا، أَيْ تَصَرَّفُوا فِي الْأَرْضِ بِالْحَفْرِ
الْغَرْس وَالْبناء وَتَحْت الْجِبَالِ وَإِقَامَةِ السِّدَادِ وَالْحُصُونِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [٩].
وَتَعْرِيفُ الْبِلادِ لِلْجِنْسِ، أَيْ فِي الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ [الْفجْر: ١١].
وَالْفَاءُ فِي فَنَقَّبُوا لتفريع عَنْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، أَيْ ببطشهم وقوتهم لقبوا فِي الْبِلَادِ.
وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ إِلَى آخِرِهِ.
وَجُمْلَةِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ كَمَا اعْتَرَضَ بِالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الْأَنْفَال: ١٤].
وَجُمْلَةُ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلَكْنا، أَيْ إِهْلَاكًا لَا مَنْجًى مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً. فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ مِنْ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا يُقَالُ: مَا مِنْ مَحِيصٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ ص [٣] كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.
وَالْمَحِيصُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ حَاصَ إِذَا عَدَلَ وَجَادَ، أَيْ لَمْ يَجِدُوا مَحِيصًا مِنَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٩٨].
وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى إِهْلَاكِ الْقُرُونِ الْأَشَدِّ بَطْشًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِدْلَالٍ وَتَهْدِيدٍ وَتَحْذِيرٍ مِنْ يَوْمِ الْجَزَاءِ.
وَالذِّكْرَى: التَّذْكِرَةُ الْعَقْلِيَّةُ، أَيِ التَّفَكُّرُ فِي تَدَبُّرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي قَضَتْ عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ لِيَقِيسُوا عَلَيْهَا أَحْوَالَهُمْ فَيَعْلَمُوا أَنْ سَيَنَالَهُمْ مَا نَالَ أُولَئِكَ، وَهَذَا قِيَاسٌ عَقْلِيٌّ يُدْرِكُهُ اللَّبِيبُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى مُنَبِّهٍ.
323
وَالْقَلْبُ: الْعَقْلُ وَإِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ: مُسْتَعَارٌ لِشِدَّةِ الْإِصْغَاءِ لِلْقُرْآنِ ومواعظ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ أَسْمَاعَهُمْ طُرِحَتْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَشْغَلُهَا شَيْءٌ آخَرُ تَسْمَعُهُ.
وَالشَّهِيدُ: الْمُشَاهِدُ وَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْمُشَاهَدَةِ لِلْمُذَكَّرِ، أَيْ تَحْدِيقِ الْعَيْنِ إِلَيْهِ لِلْحِرْصِ عَلَى فَهْمِ مُرَادِهِ مِمَّا يُقَارِنُ كَلَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ أَوْ سَحْنَةٍ فَإِنَّ النَّظَرَ يُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ. وَقَدْ جِيءَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِهَا بِمَضْمُونِ عَامِلِهَا بِحَيْثُ يَكُونُ صَاحِبُ الْحَالِ مُلْقِيًا سَمْعَهُ مُشَاهِدًا. وَهَذِهِ حَالَةُ الْمُؤْمِنِ فَفِي الْكَلَامِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ بُعَدَاءٌ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالذِّكْرَيَاتِ وَالْعِبَرِ. وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ يُوقِظُ الْعَقْلَ لِلذِّكْرَى وَالِاعْتِبَارِ إِنْ كَانَ لِلْعَقْلِ غَفْلَةٌ.
وَمَوْقِعُ أَوْ لِلتَّقْسِيمِ لِأَنَّ الْمُتَذَكِّرَ إِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مِنْ فَهْمِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَدِلَّةِ الْآثَارِ عَلَى أَصْحَابِهَا كَآثَارِ الْأُمَمِ مِثْلَ دِيَارِ ثَمُودَ، قَالَ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: ٥٢] فَقَوْلُهُ: أَلْقَى السَّمْعَ اسْتِعَارَةٌ عَزِيزَةٌ شَبَّهَ تَوْجِيهَ السَّمْعِ لِتِلْكَ الْأَخْبَارِ دُونَ اشْتِغَالٍ بِغَيْرِهَا بِإِلْقَاءِ الشَّيْءِ لِمَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ مَنْ قِسْمِ مَنْ لَهُ قَلْبٌ، وَإِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِمَا يُبَلِّغُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ كَأَحَادِيثِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ خُصُوصُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَلْقَوْا سَمْعَهُمْ لِهَذِهِ الذِّكْرَى وَشَهِدُوا بِصِحَّتِهَا لِعِلْمِهِمْ بِهَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ كُتُبِهِمْ فَيَكُونُ شَهِيدٌ مِنَ الشَّهَادَةِ لَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ. وَقَالَ الْفَخْرُ: تَنْكِيرُ قَلْبٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْكَمَالِ. وَالْمَعْنَى: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ذَكِيٌّ وَاعٍ يَسْتَخْرِجُ بِذَكَائِهِ، أَوْ لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ إِلَى الْمُنْذِرِ فَيَتَذَكَّرُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَلَمْ يَقُلْ: اسْتَمَعَ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ السَّمْعِ، أَيْ يُرْسِلُ سَمْعَهُ وَلَا يُمْسِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ السَّمَاعَ، أَيْ تَحْصُلُ الذِّكْرَى لِمَنْ لَهُ سَمْعٌ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِتَمْثِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ قَلْبٌ وَبِمَنْ لَا يلقِي سَمعه.
324

[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٣٨]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)
مُنَاسَبَةُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: ٦] إِلَى قَوْلِهِ: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: ١٠]، وَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِمَّا وُصِفَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَرْتِيبِ الْمَخْلُوقَاتِ إِجْمَالًا ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: ١٥] كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَهَذَا مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ «التَّوْرَاةِ».
وَالِاسْتِرَاحَةُ تُؤْذِنُ بِالنَّصْبِ وَالْإِعْيَاءِ فَلَمَّا فَرَغَتِ الْآيَةُ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ فِي
أَقْوَالِهِمْ عَطَفَتْ إِلَى تَكْذِيبِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَدِّثُونَهُمْ بِحَدِيثِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَهَذَا تَأْوِيلُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَعَ مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى طَلِيعَةِ السُّورَةِ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ تَكَلُّفٌ إِذْ لَمْ يَكُنِ الْيَهُودُ مَقْصُورِينَ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَى مَكَّةَ.
فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تَكْمِلَةٌ لِمَا وَصَفَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها إِلَى قَوْلِهِ:
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: ٦، ٧] لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ إِبْطَالًا لِمَقَالَةِ الْيَهُودِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَبَيْنَ مَا فُرِّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: ١٣٠].
وَالْوَاوُ فِي وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ وَاوُ الْحَالِ لِأَنَّ لِمَعْنَى الْحَالِ هُنَا مَوْقِعًا عَظِيمًا مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ بِأَنَّهُ لَا يَنْصَبُ خَالِقُهُ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ مُعْظَمِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ إِذْ أَحَالَهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى ضِيقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ إِيقَاعِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى إِبْرَازِ مَعْنَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَمَعْنَى وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ: مَا أَصَابَنَا تَعَبٌ. وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ: اللَّمْسُ، أَيْ
وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ وَضْعًا غَيْرَ شَدِيدٍ بِخِلَافِ الدَّفْعِ وَاللَّطْمِ. فَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِ أَقَلِّ الْإِصَابَةِ بِنَفْيِ الْمَسِّ لِنَفْيِ أَضْعَفِ أَحْوَالِ الْإِصَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة: ٣] فَنَفْيُ قُوَّةِ الْإِصَابَةِ وَتَمَكُّنُهَا أَحْرَى.
وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ مِنَ الْجَرْيِ وَالْعَمَلِ الشَّدِيدِ.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: ٢] الْآيَاتِ، وَمُنَاسَبَةُ وَقْعِهِ هَذَا الْمَوْقِعَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [مَرْيَم: ٧٤] الْآيَةَ مِنَ التَّعْرِيضِ بتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِمَا أَخْبَرْتَهُمْ مِنَ الْبَعْثِ وَبِالرِّسَالَةِ وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْمَوْصُولُ وَهُوَ مَا يَقُولُونَ.
وَضَمِيرُ يَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠).
عَطْفٌ عَلَى فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّفْرِيعِ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَقْوَالِ أَذَاهُمْ وَسُخْرِيَتِهِمْ. وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الْعَطْفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يستهزئون بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ مِثْلَ قِصَّةِ إِلْقَاءِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ سَلَا الْجَزُورِ عَلَى ظهر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ فَأَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غَافِر: ٢٨] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: ٩- ١٩].
فَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ
326
الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ هُنَا الصَّلَاةُ. قُلْتُ: وَلِذَلِكَ صَارَ فِعْلُ التَّسْبِيحِ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: صَلِّ. وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّكَ يُرَجِّحُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةِ مِنْهَا الْفَاتِحَةُ وَهِيَ حَمْدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ
فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا»
يَعْنِي بِذَلِكَ الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ. ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها كَذَا. وَالْقِرَاءَةُ الْغُرُوبِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَبْلَ الْغُرُوبِ:
الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: الْعَصْرُ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ فِيهِ هُوَ الصَّلَاةُ، وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ أَنَّهُ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَعَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الصَّلَاةُ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ.
وقَبْلَ الْغُرُوبِ ظرف وَاسع يبتدىء مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا حِينَ
تَزُولُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ قَدْ مَالَتْ إِلَى الْغُرُوبِ وَيَنْتَهِي بِغُرُوبِهَا، وَشَمِلَ ذَلِكَ وَقْتَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَذَلِكَ مَعْلُوم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْبِيحُ اللَّيْلِ بِصَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ لِأَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ مَبْدَأُ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِاللَّيَالِي وَيَبْتَدِئُونَ الشَّهْرَ بِاللَّيْلَةِ الْأَوْلَى الَّتِي بَعْدَ طُلُوعِ الْهِلَالِ الْجَدِيدِ عَقِبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقِيلَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ كُلُّهَا نَوَافِلُ، فَالَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَالَّذِي قَبْلَ الْغُرُوبِ رَكْعَتَانِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَالَهُ أَبُو بَرْزَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالَّذِي مِنَ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَأْتِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاخْتِلَافُ فِي مَحْمَلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ إِنْ كَانَا عَامًّا أَوْ
327
عَلَى الْوُجُوبِ إِنْ كَانَا خَاصّا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٤- ٢٦].
وَقَرِيبٌ مِنْهَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٤٨، ٤٩].
وَأَمَّا قَوْله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ.
وَالْإِدْبَارُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ لِأَنَّ الْمُنْصَرِفَ يَسْتَدْبِرُ مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلِانْقِضَاءِ، أَيِ انْقِضَاءِ السُّجُودِ، وَالسُّجُودُ: الصَّلَاةُ، قَالَ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ. وَانْتِصَابُهُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ: وَقْتُ إِدْبَارِ السُّجُودِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِدْبَارِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ: دُبُرٍ، بِمَعْنَى الْعَقِبِ وَالْآخِرِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ وَقْتُ انْتِهَاءِ السُّجُودِ.
فَفُسِّرَ السُّجُودُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ، أَيْ بعد الصَّلَوَات قَالَه ابْنُ زَيْدٍ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالرَّوَاتِبِ الَّتِي بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ عَامٌ خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ بِأَوْقَاتِ النَّوَافِلِ، وَمُجْمَلٌ بَيَّنَتِ السَّنَةُ مَقَادِيرَهُ، وَبَيَّنَتْ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَمْرُ نَدْبٍ وَتَرْغِيبٍ لَا أَمْرُ إِيجَابٍ. وَعَنِ الْمَهْدَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَنُسِخَ بِالْفَرَائِضِ. وَحُمِلَ عَلَى الْعَهْدِ فَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، أَيِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْوِتْرُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَبِّحْهُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ
الْوَقْتُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ فَيُجْعَلُ التَّفْرِيعُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الظُّرُوفِ الْمُتَعَاطِفَةِ وَهُوَ كَالتَّفْرِيعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: ٣٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الْأَنْفَال: ١٤].
328

[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٣]

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣)
لَا مَحَالَةَ أَنَّ جُمْلَةَ اسْتَمِعْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ق: ٣٩]، فَالْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ مُفَرَّعٌ بِالْفَاءِ الَّتِي فُرِّعَ بِهَا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ. فَهُوَ لَا حق بتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ الْمَسْمُوعُ إِلَّا مِنْ نَوْعِ مَا فِيهِ عِنَايَةٌ بِهِ وَعُقُوبَةٌ لِمُكَذِّبِيهِ.
وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِ اسْتَمِعْ يُفِيد توثيقا إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ. وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِمَاعِ حَقِيقَتُهُ: الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ وَالْإِصْغَاءِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ ثَلَاثُ طُرُقٍ فِي مَحْمَلِ اسْتَمِعْ، فَالَّذِي نَحَاهُ الْجُمْهُورُ حمل الِاسْتِمَاع على حَقِيقَته وَإِذْ كَانَ الْمَذْكُورُ عَقِبَ فِعْلِ السَّمْعِ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا لِأَنَّ الْيَوْمَ لَيْسَ مِمَّا يُسْمَعُ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مَفْعُولٍ لِ اسْتَمِعْ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الَّذِي بَعْدَهُ فَيُقَدَّرُ: اسْتَمِعْ نِدَاءَ الْمُنَادِي، أَوِ اسْتَمِعْ خَبَرَهُمْ، أَوِ اسْتَمِعِ الصَّيْحَةَ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ اسْتَمِعْ مُنْزَلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ كُنْ سَامِعًا وَيَتَوَجَّهُ عَلَى تَفْسِيرِهِ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ تَخْيِيلًا لِصَيْحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي صُورَةِ الْحَاصِلِ بِحَيْثُ يُؤْمَرُ الْمُخَاطَبُ بِالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا فِي الْحَالِ كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ:
دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وُدِّي وَجِيرَتِي بِذِي الطَّبَسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا
وَنَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ حَمْلَ اسْتَمِعْ عَلَى الْمَجَازِ، أَيِ انْتَظِرْ. قَالَ: «لِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يَسْتَمِعَ فِي يَوْمِ النِّدَاءِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِ يَسْتَمِعُ وَإِنَّمَا الْآيَةُ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ فَقيل لمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَسَّسْ هَذَا الْيَوْمَ وَارْتَقِبْهُ فَإِنَّ فِيهِ تَبِينُ صِحَّةُ مَا قُلْتَهُ» اهـ. وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمِثْلُهُ فِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» وَفِي «تَفْسِيرِ النَّسَفِيِّ». وَلَعَلَّهُمَا اطَّلَعَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مُتَأَخِّرَانِ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وهما وَإِن كَانَا مَشْرِقِيَّيْنِ فَإِنَّ الْكُتُبَ تُنْقَلُ بَيْنَ الْأَقْطَارِ.
ولَلزَّمَخْشَرِيِّ طَرِيقَةٌ أُخْرَى فَقَالَ «يَعْنِي: وَاسْتَمِعْ لِمَا أَخْبَرَكَ بِهِ مِنْ حَالِ يَوْمِ
329
الْقِيَامَةِ. وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا
رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «يَا مُعَاذُ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ ثُمَّ حَدَّثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ»
. وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبْقَهُ إِلَى هَذَا وَهُوَ مَحْمَلٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ.
وَاللَّائِقُ بِالْجَرْيِ عَلَى الْمَحَامِلِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ يكون يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مُبْتَدَأً وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهُ اسْمُ زَمَانٍ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ فَيَجُوزُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ، وَلَا يُنَاكِدُهُ أَنَّ فِعْلَ الْجُمْلَةِ مُضَارِعٌ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَهُوَ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَابْنِ مَالِكٍ وَلَا رِيبَةَ فِي أَنَّهُ الْأَصْوَبُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَة: ١١٩] فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِفَتْحِ يَوْمَ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بَدَلٌ مُطَابَقٌ من يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مَفْعُولًا فِيهِ لِ اسْتَمِعْ وَإِعْرَابُ مَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ظَرْفًا فِي مَوْقِعِ الْخَبَرِ الْمُقَدَّمِ وَتَجْعَلَ الْمُبْتَدَأَ قَوْلَهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ النَّظْمِ: وَاسْتَمِعْ ذَلِكَ يَوْمَ الْخُرُوجِ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي إِلَخْ، وَيَكُونُ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ، أَوْ رَاجِعًا إِلَى يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْهُ فِي الْمَعْنَى وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَكْتَفِي بِالتَّقَدُّمِ اللَّفْظِيِّ بَلْ يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الْخُطُورِ فِي الذِّهْنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ النَّسَفِيِّ» أَنَّ يَعْقُوبَ أَيِ الْحَضْرَمِيَّ أَحَدَ أَصْحَابِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ وَاسْتَمِعْ.
وتعريف الْمُنادِ تَعْرِيف الْجِنْسِ، أَيْ يَوْمَ يُنَادِي مُنَادٍ، أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَنْفُخُ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ فَتَتَكَوَّنُ الْأَجْسَادُ وَتَحِلُّ فِيهَا أَرْوَاحُ النَّاسِ لِلْحَشْرِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨].
وَتَنْوِينُ مَكانٍ قَرِيبٍ لِلنَّوْعِيَّةِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِتَعْيِينِهِ، وَوَصْفُهُ بِ قَرِيبٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى سُرْعَةِ حُضُورِ الْمُنَادَيْنَ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ
330
لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ النِّدَاءَ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ لَا يَخْفَى عَلَى السَّامِعِينَ بِخِلَافِ النداء من كَانَ بَعِيدٍ.
وبِالْحَقِّ بِمَعْنَى: بِالصِّدْقِ وَهُوَ هُنَا الْحَشْرُ، وُصِفَ بِالْحَقِّ إِبْطَالًا لِزَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ اخْتِلَاقٌ.
وَالْخُرُوجُ: مُغَادَرَةُ الدَّارِ أَوِ الْبَلَدِ، وَأُطْلِقَ الْخُرُوجُ عَلَى التَّجَمُّعِ فِي الْمَحْشَرِ لِأَنَّ الْحَيَّ إِذَا نَزَحُوا عَنْ أَرْضِهِمْ قِيلَ: خَرَجُوا، يُقَالُ: خَرَجُوا بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ جِيءَ بِهِ لِتَهْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ فَأُرِيدَ
كَمَالُ الْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْخَبَرِ الْعَظِيمِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.
ويَوْمُ الْخُرُوجِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَيِ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ تَذْيِيلٌ، أَيْ هَذَا الْإِحْيَاءُ بَعْدَ أَنْ أَمَتْنَاهُمْ هُوَ من شؤوننا بِأَنَّا نُحْيِيهِمْ وَنُحْيِي غَيْرَهُمْ وَنُمِيتُهُمْ وَنُمِيتُ غَيْرَهُمْ.
وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَنُمِيتُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: نُحْيِي فَإِنَّهُ لِاسْتِيفَاءِ مَعْنَى تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ.
وَتَقْدِيمُ إِلَيْنَا فِي إِلَيْنَا الْمَصِيرُ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ إِمَّا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ صَائِرٌ إِلَى مَا قَدَّرْنَاهُ لَهُ وَأَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ نَامُوسُ الْفَنَاءِ الْمَكْتُوبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ وَإِمَّا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْمَصِيرُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ لِأَنَّ الْمَصِيرَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إِلَى قَوْلِهِ الْمَصِيرُ مَكَانٌ قَرِيبٌ هِيَ مَعَ مَا تُفِيدُهُ مِنْ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرٌ بِطَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ الْبَدِيعِيِّ إِلَى تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَقِبَ نِدَاءٍ يُفْزِعُهُمْ فَيَلْقَوْنَ إِثْرَهُ حَتْفَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فخوطب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرَقُّبِ يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فِيهِ مُنَادٍ إِلَى الْخُرُوجِ وَهُوَ نِدَاءُ الصَّرِيخِ الَّذِي صَرَخَ بِأَبِي جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ بِأَنَّ عِيرَ قُرَيْشٍ وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ لَقِيَهَا الْمُسْلِمُونَ بِبَدْرٍ وَكَانَ الْمُنَادِي
331
ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ إِذْ جَاءَ عَلَى بَعِيرِهِ فَصَرَخَ بِبَطْنِ الْوَادِي: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ.
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَخَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ. فَالْمَكَانُ الْقَرِيبُ هُوَ بَطْنُ الْوَادِي فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ.
وَالْخُرُوجُ: خُرُوجُهُمْ لِبَدْرٍ، وَتَعْرِيفُ الْيَوْمِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُرُوجِ لِتَهْوِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ الَّذِي كَانَ اسْتِئْصَالُ سَادَتِهِمْ عَقِبَهُ. وَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَعِيدًا بِأَنَّ اللَّهَ يُمِيتُ سَادَتَهُمْ وَأَنَّهُ يُبْقِي مَنْ قَدَّرَ إِسْلَامَهُ فِيمَا بَعْدُ فَهُوَ يُحْيِيهِ إِلَى يَوْمِ أَجْلِهِ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ الْمُنادِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَر بِدُونِ يَاء فِي الْوَصْل وبالياء فِي الْوَقْفِ، وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى اعْتِبَارٍ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَامِلُونَ الْمَنْقُوصَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ مُعَامَلَةَ الْمُنَكَّرِ وَخَاصَّةً فِي الْأَسْجَاعِ وَالْفَوَاصِلِ فَاعْتَبَرُوا عَدَمَ رَسْمِ الْيَاءِ فِي
آخِرِ الْكَلِمَةِ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْوَقْفِ كَمَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الرَّسْمِ لِأَنَّ الْأَسْجَاعَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُكُونِ الْأَعْجَازِ. وَقَرَأَهَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَخَلَفٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُعَامِلُ الْمَنْقُوصَ الْمُعَرَّفَ مُعَامَلَةَ الْمُنَكَّرِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا اعْتِبَارًا بِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ قَدْ يُخَالِفُ قِيَاسَ الرَّسْمِ فَلَا يُخَالَفُ قِيَاسُ اللَّفْظ لأَجله.
[٤٤]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٤٤]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)
إِنْ جَرَيْتَ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: ٤٢] أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْهَا مَعَ مَا فِي الْمَعَادِ مِنْهَا مِنْ تَأْكِيدٍ لِمُرَادِفِهِ. وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا ارْتَأَيْتُهُ فِي مَحْمَلِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَفَادَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَوَصْفِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَهُوَ تَشَقُّقُ الْأَرْضِ عَنْهُمْ، أَيْ عَنْ أَجْسَادٍ مَثِيلَةٍ لِأَجْسَادِهِمْ وَعَنِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَمْ يَلْحَقْهَا الْفَنَاءُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ تَشَقَّقُ بِفَتْحِ التَّاءِ
وَتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَأَصْلُهُ تَتَشَقَّقُ بِتَاءَيْنِ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ فِي الشِّينِ بَعْدَ قَلْبِهَا شينا لتقارب مخرجيها. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَشَقَّقُ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ عَلَى حَذْفِ تَاءِ التَّفَعُّلِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَاءَيْنِ.
وسِراعاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عَنْهُمْ وَهُوَ جَمْعُ سَرِيعٍ، أَيْ سِرَاعًا فِي الْخُرُوجِ أَوْ فِي الْمَشْيِ الَّذِي يَعْقُبُهُ إِلَى مَحَلِّ الْحِسَابِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ كَالْقَوْلِ فِي إِعْرَابِ قَوْله: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق: ٤١] إِلَى ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلُهُ.
وَتَقَدُّمُ الْمَجْرُورِ فِي عَلَيْنا لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ هُوَ يَسِيرٌ فِي جَانِبِ قُدْرَتِنَا لَا كَمَا زَعَمَهُ نفاة الْحَشْر.
[٤٥]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٤٥]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [ق: ٣٩] فَهُوَ إِيغَالٌ فِي تَسْلِيَة
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْرِيضٌ بِوَعِيدِهِمْ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي وعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُعَاقِبُ أَعْدَاءَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ تطمين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ غير مسؤول عَنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ دَاعِيًا وَهَادِيًا، وَلَيْسَ مَبْعُوثًا لِإِرْغَامِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْجَبَّارُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَكْرَهَهُ. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ بالتذكير لِأَنَّهُ ناشىء عَنْ نَفْيِ كَوْنِهِ جَبَّارًا عَلَيْهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: ٢١، ٢٢]، وَلَكِنْ خُصَّ التَّذْكِيرُ هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّذْكِيرَ الَّذِي يَنْفَعُ الْمُذَكَّرَ. فَالْمَعْنَى:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ فَيَتَذَكَّرُ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات:
٤٥].
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَعِيدِ بِدُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ يَاءٍ فِي
333
الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَذْفِ التَّخْفِيفِ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.
334

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٥١- سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
تُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ «وَالذَّارِيَاتِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ تَسْمِيَةً لَهَا بِحِكَايَةِ الْكَلِمَتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ فِي أَوَّلِهَا وَبِهَذَا عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَالْكَوَاشِيُّ فِي «تَلْخِيصِ التَّفْسِيرِ» وَالْقُرْطُبِيُّ. وَتُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ الذَّارِيَاتِ» بِدُونِ الْوَاوِ اقْتِصَارًا عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنْ مَشْرِقِيَّةٍ وَمَغْرِبِيَّةٍ قَدِيمَةٍ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَقَعْ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةَ السَّادِسَةَ وَالسِّتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ عَدِّ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ آيَهَا سِتُّونَ آيَةً.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ
احْتَوَتْ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَمْيِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِغَيْرِ تَثَبُّتٍ. وَوَعِيدِهِمْ بِعَذَابٍ يَفْتِنُهُمْ.
335
Icon