هذه السورة مكية، قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين.
وقال صاحب التحرير : قال ابن عباس، وقتادة : مكية إلا آية، وهي قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا السموات والأرض ﴾ الآية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا، لم يكن إيمانهم حقاً، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ بل عجبوا أن جاءهم منذر ﴾.
وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث، فلذلك أعقبه به.
ﰡ
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ٤٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ | وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ |
كِرَامٍ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا | وَفَاتَ ثِمَارُهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ |
يَا ابْنَ الَّذِينَ بِمَجْدِهِمْ | بَسَقَتْ عَلَى قَيْسٍ فَزَارَهْ |
كان وريديه رشا صُلُبْ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا، لَمْ يَكُنْ إِيمَانُهُمْ حَقًّا، وَانْتِفَاءُ إِيمَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّةِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ. وَعَدَمُ الْإِيمَانِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ به. وق حَرْفُ هِجَاءٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَدْلُولِهِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا مُتَعَارِضَةً، لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَاطَّرَحْتُ نَقْلَهَا فِي كِتَابِي هَذَا.
وَالْقُرْآنِ مقسم به والْمَجِيدِ صِفَتُهُ، وَهُوَ الشَّرِيفُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّكَ جِئْتَهُمْ مُنْذِرًا بِالْبَعْثِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا.
بَلْ عَجِبُوا، وَقِيلَ: مَا رَدُّوا أَمْرَكَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ، وَالْمُبَرِّدُ، وَالزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ لَتُبْعَثَنَّ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَذْكُورٌ، فَعَنِ الْأَخْفَشِ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ كَيْسَانَ، وَالْأَخْفَشِ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ وَعَنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ: بَلْ عَجِبُوا، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ عَجِبُوا. وَقِيلَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ. وَقِيلَ: مَا يُبَدَّلُ
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ: إِنْكَارٌ لِتَعَجُّبِهِمْ مِمَّا لَيْسَ بِعَجَبٍ، وَهُوَ أَنْ يُنْذِرَهُمْ بِالْخَوْفِ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ عَرَفُوا صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَنُصْحَهُ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ لَا يَعْجَبُوا، وَهَذَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يُخَوِّفُ وَيُنْذِرُ بِمَا يَكُونُ في المآكل مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَالضَّمِيرُ فِي بَلْ عَجِبُوا عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
فَقالَ الْكافِرُونَ تَنْبِيهًا عَلَى الْقِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَجَبِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَدْ جُبِلُوا عَلَى الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ عَجِبُوا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، قِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ مَفْطُورٍ يَعْجَبُ مِنْ بَعْثَةِ بَشَرٍ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، لَكِنَّ مَنْ وُفِّقَ نَظَرَ فَاهْتَدَى وَآمَنَ، وَمَنْ خُذِلَ ضَلَّ وَكَفَرَ وَحَاجَّ بِذَلِكَ الْعَجَبِ وَالْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا إِلَى مَجِيءِ مُنْذِرٍ مِنَ الْبَشَرِ.
وَقِيلَ: إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْذَارُ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْبَعْثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْجِعِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بعد.
وقرأ الجمهور: أَإِذا بِالِاسْتِفْهَامِ، وَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي تَحْقِيقِ الثَّانِيَةِ وَتَسْهِيلِهَا وَالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: إِذَا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَمْزَةُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونُوا عَدَلُوا إِلَى الْخَبَرِ وَأَضْمَرَ جَوَابَ إِذَا، أَيْ إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا رَجَعْنَا. وَأَجَازَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ رَجْعٌ بَعِيدٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْفَاءِ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَقَصَرَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الشِّعْرِ فِي الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا فِي قِرَاءَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا؟ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، أَيِ الْبَعْثُ.
رَجْعٌ بَعِيدٌ، أَيْ مُسْتَبْعَدٌ فِي الْأَوْهَامِ وَالْفِكْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ مَعْنَاهُ: أَحِينَ نَمُوتُ وَنَبْلَى نَرْجِعُ؟ انْتَهَى. وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جِنِّي، قَالَ ابْنُ جِنِّي:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَئِذَا مِتْنَا بَعْدَ رَجْعِنَا، فَدَلَّ رَجْعٌ بَعِيدٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ، وَيَحِلُّ مَحَلَّ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِمْ أَئِذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجْعُ بِمَعْنَى الْمَرْجُوعِ،
قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ: أَيْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَعِظَامِهِمْ وَآثَارِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ، وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ لِاسْتِبْعَادِهِمُ الرَّجْعَ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، كَانَ قَادِرًا عَلَى رَجْعِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ مَا يَحْصُلُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ مِنْ مَوْتَاهُمْ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ: أَيْ حَافِظٌ لِمَا فِيهِ جَامِعٌ، لَا يَفُوتُ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ مَحْفُوظٌ مِنَ الْبِلَى وَالتَّغَيُّرِ. وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْإِحْصَاءِ. وَفِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ أَنَّ الْأَرْضَ تَأْكُلُ ابْنَ آدَمَ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، وَهُوَ عَظْمٌ كَالْخَرْدَلَةِ مِنْهُ يُرَكَّبُ ابْنُ آدَمَ.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: وَقَدَّرُوا قَبْلَ هَذَا الْإِضْرَابِ جُمْلَةً يَكُونُ مَضْرُوبًا عَنْهَا، أَيْ مَا أَجَادُوا النَّظَرَ، بَلْ كَذَّبُوا. وَقِيلَ: لَمْ يُكَذِّبُوا الْمُنْذِرَ، بَلْ كَذَّبُوا، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِضْرَابَ يَكُونُ بَعْدَ جُمْلَةٍ مَنْفِيَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ كَذَّبُوا: إِضْرَابٌ أَتْبَعَ الْإِضْرَابَ الْأَوَّلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ جَاءُوا بِمَا هُوَ أَفْظَعُ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ النُّبُوَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْمُعْجِزَاتِ. انْتَهَى. وَكَانَ هَذَا الْإِضْرَابُ الثَّانِي بَدَلًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَكِلَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ الْجَوَابِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، فَلَا يَكُونُ قبل لثانية مَا قَدَّرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا أَجَادُوا النَّظَرَ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ: الْقُرْآنُ، أَوِ الْبَعْثُ، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْإِسْلَامُ، أَقْوَالٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا جاءَهُمْ: أَيْ لَمْ يُفَكِّرُوا فِيهِ، بَلْ بِأَوَّلِ مَا جَاءَهُمْ كَذَّبُوا وَالْجَحْدَرِيُّ: لِمَا جَاءَهُمْ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَاللَّامُ لَامُ الْجَرِّ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِمْ كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ أَيْ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ إِيَّاهُ. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، قَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: مُخْتَلِطٍ: مَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً شَاعِرٌ، وَمَرَّةً كَاهِنٌ. قَالَ قَتَادَةُ:
مُخْتَلِفٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُلْتَبِسٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاسِدٍ. وَمَرَجَتْ أَمَانَاتُ النَّاسِ: فَسَدَتْ، وَمَرَجَ الدِّينُ: اخْتَلَطَ. قَالَ أَبُو وَاقِدٍ:
وَمَرَجَ الدِّينُ فَأَعْدَدْتُ له | مسرف الحارك محبول الْكَنَدِ |
فَجَالَتْ وَالْتَمَسْتُ لَهَا حَشَاهَا | فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ |
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْمَرِيجُ، بِاعْتِبَارِ انْتِقَالِ أَفْكَارِهِمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْمُنْذِرُ قَائِلًا عَدَمَ قَبُولِهِمْ أَوَّلَ إِنْذَارِهِ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ الْعَجَبَ مِنْهُمْ، ثُمَّ اسْتِبْعَادَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ، ثُمَّ التَّكْذِيبَ لِمَا جَاءَ بِهِ. أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حِينَ كَفَرُوا بِالْبَعْثِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، كَيْفَ بَنَيْناها مُرْتَفِعَةً مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَزَيَّنَّاها بِالنَّيِّرَيْنِ وَبِالنُّجُومِ، وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ: أَيْ مِنْ فُتُوقٍ وَسُقُوفٍ، بَلْ هِيَ سَلِيمَةٌ مِنْ كُلِّ خَلَلٍ.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها: بَسَطْنَاهَا، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، أَيْ جِبَالًا ثَوَابِتَ تَمْنَعُهَا مِنَ التَّكَفُّؤِ، مِنْ كُلِّ زَوْجٍ: أَيْ نَوْعٍ، بَهِيجٍ: أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ بَهِيجٍ، أَيْ يَسُرُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبْصِرَةً وَذِكْرى بِالنَّصْبِ، وَهُمَا مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مِنْ لَفْظِهِمَا، أَيْ بَصَّرَ وَذَكَّرَ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَبْصِرَةٌ بِالرَّفْعِ، وَذِكْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، أَيْ ذَلِكَ الْخَلْقُ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ تَبْصِرَةٌ، وَالْمَعْنَى: يَتَبَصَّرُ بذلك ويتذكر، لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ: أَيْ رَاجِعٍ إِلَى رَبِّهِ مُفَكِّرٍ فِي بَدَائِعِ صُنْعِهِ. مَاءً مُبارَكاً: أَيْ كَثِيرَ الْمَنْفَعَةِ، وَحَبَّ الْحَصِيدِ: أَيِ الْحَبَّ الْحَصِيدَ، فَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، كَمَا يَقُولُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْحَصِيدُ: كُلُّ مَا يُحْصَدُ مِمَّا لَهُ حَبٌّ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ.
باسِقاتٍ: أَيْ طِوَالًا فِي الْعُلُوِّ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهَا حَالَةُ الْإِنْبَاتِ، لَمْ تَكُنْ طِوَالًا. وَبَاسِقَاتٌ جَمْعٌ. وَالنَّخْلَ اسْمُ جِنْسٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُذَكَّرَ، نَحْوَ قَوْلِهِ: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «١»، وَأَنْ يُؤَنَّثَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَخْلٍ خاوِيَةٍ «٢»، وَأَنْ يُجْمَعَ بِاعْتِبَارِ إِفْرَادِهِ، وَمِنْهُ بَاسِقَاتٌ، وَقَوْلِهِ: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ «٣». وَالْجُمْهُورُ: بَاسِقَاتٍ بِالسِّينِ. وَرَوَى قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَرَأَ: بَاصِقَاتٍ بِالصَّادِ
، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَنِي الْعَنْبَرِ، يُبْدِلُونَ مِنَ السِّينِ صَادًا إِذَا وَلِيَتْهَا، أَوْ فُصِلَ بِحَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ، خَاءٌ أَوْ عَيْنٌ أَوْ قَافٌ أَوْ طَاءٌ. لَها طَلْعٌ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ عِنْدَ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ «٤».
نَضِيدٌ: أَيْ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، يُرِيدُ كَثْرَةَ الطَّلْعِ وَتَرَاكُمَهُ، أَيْ كَثْرَةَ مَا فِيهِ مِنَ الثَّمَرِ. وَأَوَّلُ ظُهُورِ الثَّمَرِ فِي الْكُفُرَّى هُوَ أَبْيَضُ يُنْضَدُ كَحَبِّ الرُّمَّانِ، فما دام ملتصقا
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٧.
(٣) سورة الرعد: ١٣/ ١٢.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ٩٩.
وَذَكَرَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ ثَلَاثَةً: الْبِنَاءُ وَالتَّزْيِنُ وَنَفْيُ الْفُرُوجِ، وَفِي الْأَرْضِ ثَلَاثَةً: الْمَدُّ وَإِلْقَاءُ الرَّوَاسِي وَالْإِنْبَاتُ. قَابَلَ الْمَدَّ بِالْبِنَاءِ، لِأَنَّ الْمَدَّ وَضْعٌ وَالْبِنَاءَ رَفْعٌ. وَإِلْقَاءَ الرَّوَاسِي بِالتَّزْيِينِ بِالْكَوَاكِبِ، لِارْتِكَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْإِنْبَاتَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الشَّقِّ بِانْتِفَاءِ الْفُرُوجِ، فَلَا شَقَّ فِيهَا. وَنَبَّهَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِنْبَاتُ عَلَى مَا يُقْطَفُ كُلَّ سَنَةٍ وَيَبْقَى أَصْلُهُ، وَمَا يُزْرَعُ كُلَّ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ وَيُقْطَفُ كُلَّ سَنَةٍ، وَعَلَى مَا اخْتَلَطَ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَبَعْضُ الثِّمَارِ فَاكِهَةٌ لَا قُوتٌ، وَأَكْثَرُ الزَّرْعِ قُوتٌ وَالثَّمَرُ فَاكِهَةٌ وَقُوتٌ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، ذَكَرَ مَنْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تسلية لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُفْرَدَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَصَصِ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَطَلْحَةُ، وَنَافِعٌ: الْأَيْكَةِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَالْجُمْهُورُ: لَيْكَةِ. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ: أَيْ كُلُّهُمْ، أَيْ جَمِيعُهُمْ كَذَّبَ وَحَمَلَ عَلَى لَفْظِ كُلٌّ، فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي كَذَّبَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. انْتَهَى.
وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ. وَأَجَازَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءِ نُحَاةِ مِصْرَ، أَنْ يَحْذِفَ التَّنْوِينَ مِنْ كُلٌّ جَعْلُهُ غَايَةً، وَيُبْنَى عَلَى الضَّمِّ، كَمَا يُبْنَى قَبْلُ وَبَعْدُ، فأجاز كل منطلق بِضَمِّ اللَّامِ دُونَ تَنْوِينٍ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ. فَحَقَّ وَعِيدِ: أَيْ وَجَبَ تَعْذِيبُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ وَإِهْلَاكُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَتَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ وَمَنْ كَذَّبَ الرسول.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ.
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ إِنْشَاءُ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ عَلَى التَّدْرِيجِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ
عَيِّنَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، يَقُولُونَ فِي رَدَدْتُ وَرَدَدْنَا: رَدَّتْ وَرَدَّنَا، فَلَا يَفُكُّونَ، وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ الْيَاءُ الْمُشَدَّدَةُ مَفْتُوحَةً. فَلَوْ كَانَ نَا ضَمِيرَ نَصْبٍ، لَاجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِدْغَامِ، نَحْوُ: رَدَّنَا زَيْدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخَلْقُ الْأَوَّلُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى:
أَعَجَزْنَا عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، فَنَعْجِزَ عَنِ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهَذَا تَوْقِيفٌ لِلْكُفَّارِ، وَتَوْبِيخٌ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَيْهِمْ. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ: أَيْ خَلْطٍ وَشُبْهَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَمِنْهُ
قَوْلُ عَلِيٍّ: يَا جَارِ إِنَّهُ لَمَلْبُوسٌ عَلَيْكَ، اعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ.
مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ: أَيْ مِنَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ: هَذِهِ آيَاتٌ فِيهَا إِقَامَةُ حُجَجٍ عَلَى الْكُفَّارِ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَالْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ. وَقِيلَ: آدَمُ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ: قُرْبَ عِلْمٍ بِهِ وَبِأَحْوَالِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ خَفِيَّاتِهِ، فَكَأَنَّ ذَاتَهُ قَرِيبَةٌ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، أَيْ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عن الأمكنة. وحَبْلِ الْوَرِيدِ: مَثَلٌ فِي فَرْطِ الْقُرْبِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: هُوَ مِنِّي مَقْعَدَ الْقَابِلَةِ، وَمَقْعَدَ الْإِزَارِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَالْمَوْتُ أَدْنَى لِي مِنَ الْوَرِيدِ وَالْحَبْلُ: الْعِرْقُ الَّذِي شُبِّهَ بِوَاحِدِ الْحِبَالِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْوَرِيدِ لِلْبَيَانِ، كَقَوْلِهِمْ: بعير سانية. أَوْ يُرَادُ حَبْلُ الْعَاتِقِ، فَيُضَافُ إِلَى الْوَرِيدِ، كَمَا يُضَافُ إِلَى الْعَاتِقِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ أَقْرَبُ. وَقِيلَ: اذْكُرْ، قِيلَ: وَيَحْسُنُ تَقْدِيرُ اذْكُرْ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ خَبَرًا مُجَرَّدًا بِالْخَلْقِ وَالْعِلْمِ بِخَطَرَاتِ الْأَنْفُسِ، وَالْقُرْبِ بِالْقُدْرَةِ وَالْمِلْكِ. فَلَمَّا تَمَّ الْإِخْبَارُ، أَخْبَرَ بِذِكْرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُصَدِّقُ هَذَا الْخَبَرَ، وَتُعِينُ وُرُودَهُ عند السامع. فمنها:
أَيْ مُجَالِسُ وَمُخَالِطُ، وَأَنْ يَكُونَ عَدْلٌ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، كَعَلِيمٍ. قَالَ الْكُوفِيُّونَ:
مُفْرَدٌ أُقِيمَ مَقَامَ اثْنَيْنِ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، أَيْ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي | بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي |
وَقَالَ: مَعْنَاهُ عِكْرِمَةُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا لَا يُكْتَبُ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ قُعُودِ الْمَلَكَيْنِ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ. رَقِيبٌ: مَلَكٌ يَرْقُبُ. عَتِيدٌ: حَاضِرٌ، وَإِذَا كَانَ عَلَى اللَّفْظِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، فَأَحْرَى عَلَى الْعَمَلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَإِذَا مَاتَ، طُوِيَتْ صَحِيفَتُهُ. وَقِيلَ: لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَأْ كِتَابَكَ.
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ يَتَلَقَّى، وَسَكْرَةُ الْمَوْتِ:
مَا يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ عِنْدَ نِزَاعِهِ، وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ الْحَقَّ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَنْطَقَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، مِنْ سَعَادَةِ الْمَيِّتِ أَوْ شَقَاوَتِهِ، أَوْ لِلْحَالِ، أَيْ مُلْتَبَسِهِ بِالْحَقِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَكْرَانُ جَمْعًا. ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ:
أَيْ تَمِيلُ. تَقُولُ: أَعِيشُ كَذَا وَأَعِيشُ كَذَا، فَمَتَى فَكَّرَ فِي قُرْبِ الْمَوْتِ، حَادَ بِذِهْنِهِ عَنْهُ وَأَمَّلَ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الزَّمَنِ. وَمِنَ الْحَيْدِ: الْحَذَرُ مِنَ الموت، وظاهر تحبد أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْفَاجِرِ. تَحِيدُ: تَنْفِرُ وَتَهْرُبُ. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، هُوَ عَلَى حَذْفٍ: أَيْ وَقْتُ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَعَهَا وَطَلْحَةُ: بِالْحَاءِ مُثْقَلَةً، أَدْغَمَ الْعَيْنَ فِي الْهَاءِ، فَانْقَلَبَتَا حَاءً كَمَا قَالُوا: ذَهَبَ مَحَّمْ، يُرِيدُ مَعَهُمْ، سائِقٌ: جَاثٍ عَلَى السَّيْرِ، وَشَهِيدٌ: يَشْهَدُ عَلَيْهِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: مَلَكَانِ مُوَكَّلَانِ بِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَحَدُهُمَا يَسُوقُهُ، وَالْآخَرُ مِنْ حِفْظِهِ يَشْهَدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ مَلَكٌ، وَالشَّهِيدُ النَّبِيُّ. وَقِيلَ:
الشَّهِيدُ: الْكِتَابُ الَّذِي يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسْمَا جِنْسٍ، فَالسَّائِقُ: مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وَالشَّهِيدُ: الْحَفَظَةُ وَكُلُّ مَنْ يَشْهَدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مَلَكٌ، وَالشَّهِيدُ: جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَبْعُدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الْجَوَارِحَ إِنَّمَا تَشْهَدُ بِالْمَعَاصِي، وَقَوْلُهُ: كُلُّ نَفَسٍ يَعُمُّ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ:
وَشَهِيدٌ بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَيَقْوَى فِي شَهِيدٍ اسْمُ الْجِنْسِ، فَشَهِدَ بِالْخَيْرِ الْمَلَائِكَةُ وَالْبِقَاعُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ إِنْسٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: السَّائِقُ مَلَكٌ، وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: السَّائِقُ شَيْطَانٌ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَلَكَانِ، أَحَدُهُمَا يَسُوقُهُ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَالْآخَرُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ أَوْ مَلَكٌ واحد جامع بنى الْأَمْرَيْنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَلَكٌ يسوقه ويشهد عليه ويحل مَعَهَا سَائِقٌ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ كُلُّ لِتَعَرُّفِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَعْرِفَةِ، هَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يَصْدُرُ عن مبتدىء فِي النَّحْوِ، لِأَنَّهُ لَوْ نُعِتَ كُلُّ نَفْسٍ، لَمَا نُعِتَ إِلَّا بِالنَّكِرَةِ، فَهُوَ نَكِرَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَعَرَّفُ كُلٌّ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى نَكِرَةٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ، قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ، قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ، بِفَتْحِ التَّاءِ، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك وَالْجَحْدَرِيُّ: بِكَسْرِهَا عَلَى مُخَاطَبَةِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَنْكَ غِطاءَكَ
، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْكَافِ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ كُلٌّ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالْجَحْدَرِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: عَنْكِ غِطَاءَكِ فَبَصَرُكِ، بِالْكَسْرِ مُرَاعَاةً لِلنَّفْسِ أَيْضًا، وَلَمْ يَنْقِلِ الْكَسْرَ فِي الْكَافِ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ إِلَّا عَنْ طَلْحَةَ وَحْدَهُ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ فِي لَقَدْ كُنْتَ. الكسر. فَإِنْ كَسَرَ، فَإِنَّ الْجَمِيعَ شَرْعٌ وَاحِدٌ وَإِنْ فَتَحَ لَقَدْ كُنْتَ، فَحَمْلٌ عَلَى كُلُّ أَنَّهُ مُذَكَّرٌ. وَيَجُوزُ تَأْنِيثُ كُلُّ فِي هَذَا الْبَابِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسٍ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ حَمَلَ بَعْضَهُ عَلَى اللَّفْظِ وَبَعْضَهُ عَلَى الْمَعْنَى، مِثْلُ قَوْلِهِ: فَلَهُ أَجْرُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «١». انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالضَّحَّاكُ: يُقَالُ لِلْكَافِرِ الْغَافِلِ مِنْ ذَوِي النَّفْسِ الَّتِي مَعَهَا السَّائِقُ وَالشَّهِيدُ، إِذَا حَصَلَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، وَعَايَنَ الْحَقَائِقَ الَّتِي لَا يُصَدِّقُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيَتَغَافَلُ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا: أَيْ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ.
فَلَمَّا كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْكَ، احْتَدَّ بَصَرُكَ: أَيْ بَصِيرَتُكَ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ حَدِيدُ الذِّهْنِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ، أَيِ احْتَدَّ الْتِفَاتُهُ إِلَى مِيزَانِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَوْلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْرُمُ نَقْلُهُ، وَهُوَ فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَكَنَّى بِالْغِطَاءِ عَنِ الْغَفْلَةِ، كَأَنَّهَا غَطَّتْ جَمِيعَهُ أَوْ عَيْنَيْهِ، فَهُوَ لَا يُبْصِرُ. فَإِذَا كَانَ فِي الْقِيَامَةِ، زَالَتْ عَنْهُ الْغَفْلَةُ، فَأَبْصَرَ مَا كَانَ لَمْ يُبْصِرْهُ مِنَ الْحَقِّ.
وَقالَ قَرِينُهُ: أَيْ مِنْ زَبَانِيَةِ جَهَنَّمَ، هَذَا: الْعَذَابُ الَّذِي لَدَيَّ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ، عَتِيدٌ: حَاضِرٌ، وَيُحَسِّنُ هَذَا الْقَوْلِ إِطْلَاقَ مَا عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
قَرِينُهُ: الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِسَوْقِهِ، أَيْ هَذَا الْكَافِرُ الَّذِي أَسُوقُهُ لَدَيَّ حَاضِرٌ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ:
وَقِيلَ قَرِينُهُ: شَيْطَانُهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ أَنَّ الْقَرِينَ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ هُوَ شَيْطَانُهُ فِي الدُّنْيَا وَمُغْوِيهِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَفْظُ الْقَرِينِ اسْمُ جِنْسٍ، فَسَائِقُهُ قَرِينٌ، وَصَاحِبُهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ قَرِينٌ، وَمُمَاشِي الْإِنْسَانِ فِي طَرِيقَةِ قَرِينٌ. وَقِيلَ: قَرِينُهُ هُنَا: عَمَلُهُ قَلْبًا وَجَوَارِحًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ قَرِينُهُ: هُوَ الشَّيْطَانُ الذي قبض لَهُ فِي قَوْلِهِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «٢»، يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ، هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، هَذَا شَيْءٌ لَدَيَّ، وَفِي مَلَكَتِي عَتِيدٌ لِجَهَنَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَلَكًا يَسُوقُهُ، وَآخَرَ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَشَيْطَانًا مَقْرُونًا بِهِ يَقُولُ: قَدْ أَعْتَدْتُهُ لِجَهَنَّمَ وَهَيَّأْتُهُ لها بإغواي وإضلالي. انتهى،
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ٣٦. [.....]
هُوَ كَاتِبُ سَيِّئَاتِهِ، وَمَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالظَّرْفِ وبعتيد وَمَوْصُولَةٌ، وَالظَّرْفُ صِلَتُهَا. وَعَتِيدٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلٌ أَوْ خير بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَتِيدٌ بِالرَّفْعِ وَعَبْدُ اللَّهِ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْأَوْلَى إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ: الْخِطَابُ مِنَ اللَّهِ لِلْمَلَكَيْنِ: السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ. وَقِيلَ: لِلْمَلَكَيْنِ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَعَلَى هَذَا الْأَلِفُ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ قَوْلٌ إِمَّا لِلسَّائِقِ، وَإِمَّا لِلَّذِي هُوَ مِنَ الزَّبَانِيَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ مَعْنَاهُ: أَلْقِ أَلْقِ، فَثَنَّى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ بَدَلٌ مِنَ النُّونِ الْخَفِيفَةِ، أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَرْغُوبٌ عَنْهَا، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَلْقَيْنَ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ، وَهِيَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِنَقْلِ التَّوَاتُرِ بِالْأَلِفِ. كُلَّ كَفَّارٍ: أَيْ يَكْفُرُ النعمة والمنعم عَنِيدٍ، قَالَ قَتَادَةُ: مُنْحَرِفٌ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: جَاحِدٌ مُتَمَرِّدٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَسَاقُ مِنَ الْعِنْدِ، وَهُوَ عَظْمٌ يَعْرِضُ فِي الْحَلْقِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْمُعْجَبُ بِمَا فِيهِ.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: يَعْنِي الزَّكَاةَ. وَقِيلَ: بَخِيلٌ. وَقِيلَ:
مَانِعٌ بَنِي أَخِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ، كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ فِيهِ لَمْ أَنْفَعْهُ بِشَيْءٍ مَا عِشْتَ، وَالْأَحْسَنُ عُمُومُ الْخَيْرِ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ. مُرِيبٍ، قَالَ الْحَسَنُ:
شَاكٍّ فِي اللَّهِ أَوْ فِي الْبَعْثِ. وَقِيلَ: مُتَّهِمٍ الَّذِي جَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بَدَلًا مِنْ كُلِّ كَفَّارٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ كَفَّارٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، وَهُوَ فَأَلْقِيَاهُ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، وَيَكُونُ فَأَلْقِيَاهُ تَوْكِيدًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مِنْ حَيْثُ يَخْتَصُّ كَفَّارٍ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، فَجَازَ وَصْفُهُ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لَوْ وُصِفَتِ النَّكِرَةُ بِأَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوصَفَ بِالْمَعْرِفَةِ.
قالَ قَرِينُهُ: لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ، بِخِلَافٍ وَقالَ قَرِينُهُ قَبْلَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ اسْتُؤْنِفَتْ كَمَا اسْتُؤْنِفَتِ الْجُمَلُ فِي حِكَايَةِ التَّقَاوُلِ فِي مُقَاوَلَةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، فَجَرَتْ مُقَاوَلَةٌ بَيْنَ الْكَافِرِ وَقَرِينِهِ، فَكَأَنَّ الْكَافِرَ قَالَ رَبِّي هُوَ أَطْغَانِي، قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ. وأما وَقالَ قَرِينُهُ فقطف لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى مَا قَبْلَهَا فِي الْحُصُولِ، أَعْنِي مَجِيءَ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ الْمَلَكَيْنِ. وَقَوْلُ قَرِينِهِ: مَا قَالَ لَهُ، وَمَعْنَى مَا أَطْغَيْتُهُ: تَنْزِيهٌ لِنَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ: أَيْ عِنْدِي، فَمَا أَمْضَيْتُهُ لَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
مَا يُكَذَّبُ لَدَيَّ لِعِلْمِي بِجَمِيعِ الْأُمُورِ. وَقَدَّمْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَقَدَّمْتُ، أَيْ قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلِي لَكُمْ مُلْتَبِسًا بِالْوَعِيدِ، أَوْ يَكُونَ قَدَّمَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وبالوعيد هُوَ الْمَفْعُولُ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيمُ كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الِاخْتِصَامِ فِي الْآخِرَةِ، فَاخْتَلَفَ الزَّمَانَانِ. فَلَا تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ قَدَّمْتُ حَالًا إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ، أَيْ وَقَدْ صَحَّ عِنْدَكُمْ أَنِّي قَدَّمْتُ، وَصِحَّةُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَاتَّفَقَ زَمَانُ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَامِ، وَصِحَّةُ التَّقْدِيمِ بِالْحَالِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُقَارَنَةً. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ: تَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِهِ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ، وَالْمَعْنَى:
لَا أُعَذِّبُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ.
وَقَرَأَ يَوْمَ يَقُولُ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ الْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالنُّونِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا:
يُقَالُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَانْتِصَابُ يَوْمَ بِظَلَّامٍ، أَوْ بِاذْكُرْ، أَوْ بِأَنْذِرْ كَذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِنُفِخَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يَوْمَ نَقُولُ، وَعَلَى هَذَا يُشَارُ بِذَلِكَ إِلَى يَوْمَ يَقُولُ. انْتَهَى، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، قَدْ فُصِلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ، فَلَا يُنَاسِبُ هَذَا الْقَوْلُ فَصَاحَةَ القرآن وبلاغته. وهَلِ امْتَلَأْتِ: تَقْرِيرٌ وَتَوْقِيفٌ، لَا سُؤَالُ اسْتِفْهَامٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ جَهَنَّمَ. قِيلَ: وَهَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْهَا حَقِيقَةً. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ نَقُولُ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ: وَقِيلَ:
السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مِنْ بَابِ التَّصْوِيرِ الَّذِي يَثْبُتُ الْمَعْنَى، أَيْ حَالُهَا حَالُ مَنْ لَوْ نَطَقَ بِالْجَوَابِ لِسَائِلِهِ لَقَالَ كَذَا، وَهَذَا الْقَوْلُ يُظْهِرُ أَنَّهَا إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكُنْ مَلْأَى. فَقَوْلُهَا: مِنْ مَزِيدٍ، سُؤَالٌ وَرَغْبَةٌ فِي الزِّيَادَةِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِيهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعَمْرٌو، وَوَاصِلٌ:
فِي الْحَدِيثِ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ
أَيْ مَا تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أَوِ اسْمَ مَفْعُولٍ. غَيْرَ بَعِيدٍ: مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، وهو تأكيد لأزلفت، رَفَعَ مَجَازَ الْقُرْبِ بِالْوَعْدِ وَالْإِخْبَارِ. فَانْتِصَابُ غَيْرَ عَلَى الظَّرْفِ صِفَةً قَامَتْ مَقَامَ مَكَانٍ، فَأُعْرِبَتْ بِإِعْرَابِهِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَتَذْكِيرُهُ يَعْنِي بَعِيدٍ، لِأَنَّهُ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ، كَالزَّئِيرِ وَالصَّلِيلِ، وَالْمَصَادِرُ يَسْتَوِي فِي الْوَصْفِ بِهَا الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ، أَيْ شَيْئًا غَيْرَ بَعِيدٍ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يَعْنِي إِزْلَافًا غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا إِشَارَةٌ لِلثَّوَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تُوعَدُونَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْوَعْدُ بِهِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ. ولِكُلِّ أَوَّابٍ: هُوَ الْبَدَلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. مَنْ خَشِيَ: بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ تَابِعٍ لِكُلِّ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ تَابِعًا لِكُلِّ، لَا بَدَلًا مِنْ لِلْمُتَّقِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْإِبْدَالُ مِنْ مُبْدَلٍ مِنْهُ وَاحِدٍ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا من مَوْصُوفِ أَوَّابٍ وَحَفِيظٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ أَوَّابٍ وَحَفِيظٍ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَا يُوصَفُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَوْصُولَاتِ إِلَّا بِالَّذِي. انْتَهَى. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: فِي حُكْمِ أَوَّابٍ: أَنْ يُجْعَلَ مِنْ صِفَتِهِ، وَهَذَا حُكْمٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يُوصَفُ مِنْ بَيْنِ الْمَوْصُولَاتِ إِلَّا بِالَّذِي، فَالْحَصْرُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَدْ وَصَفَتِ الْعَرَبُ بِمَا فِيهِ أَلْ، وَهُوَ مَوْصُولٌ، نَحْوُ الْقَائِمِ وَالْمَضْرُوبِ، ووصفت بذو الطَّائِيَّةِ، وَذَاتُ فِي الْمُؤَنَّثِ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: بِالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُمُ اللَّهُ بِهِ، وَالْكَرَامَةِ ذَاتُ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ، يُرِيدُ بِالْفَضْلِ الَّذِي فَضَّلَكُمْ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمَكُمْ، وَلَا يُرِيدُ الزَّمَخْشَرِيُّ خُصُوصِيَّةَ الَّذِي، بَلْ فُرُوعِهِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاتِ ذَلِكَ. وَجَوَّزَ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ، تَقْدِيرُهُ:
يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوهَا، لِأَنَّ مَنْ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَالْجَوَابُ الْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ، أَيْ فَيُقَالُ: وَأَنْ يَكُونَ مُنَادًى، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ لَا يَزَالُ مُحْسِنًا أَحْسِنْ إِلَيَّ، وَحَذَفَ حَرْفَ النِّدَاءِ لِلتَّقْرِيبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أن تكون مَنْ نَعْتًا. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُنْعَتُ بِهَا، وَبِالْغَيْبِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَيْ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَهُ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، إِذْ كُلُّ مَصْنُوعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَانِعٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرِ خَشِيَ، أَيْ خَشِيَهُ خَشْيَةً مُلْتَبِسَةً بِالْغَيْبِ، حَيْثُ خَشِيَ عِقَابَهُ وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ خَشِيَهُ بِسَبَبِ الْغَيْبِ الَّذِي
ادْخُلُوها بِسَلامٍ: أَيْ سَالِمِينَ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ مُسَلَّمًا عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ.
ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ: كَقَوْلِهِ: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «١» : أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ، وَهُوَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها: أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَاتُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْكَرَامَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
«٢». وَلَدَيْنا مَزِيدٌ: زِيَادَةٌ، أَوْ شَيْءٌ مَزِيدٌ عَلَى مَا تَشَاءُونَ، وَنَحْوُهُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «٣»، وَكَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ مَا اطلعتهم عليه»
، ومزيد مُبْهَمٌ، فَقِيلَ: مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَقِيلَ: أَزْوَاجٌ مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: تَجَلِّي اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ حَتَّى يَرَوْنَهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ، وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ، يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
أَيْ كَثِيرًا. أَهْلَكْنا: أَيْ قَبْلَ قُرَيْشٍ. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، لِكَثْرَةِ قُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَقَّبُوا، بِفَتْحِ الْقَافِ مُشَدَّدَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي نَقَّبُوا عَائِدٌ عَلَى كَمْ، أَيْ دَخَلُوا الْبِلَادَ مِنْ أَنْقَابِهَا. وَالْمَعْنَى: طَافُوا فِي الْبِلَادِ. وَقِيلَ: نَقَّرُوا وَبَحَثُوا، وَالتَّنْقِيبُ: التَّنْقِيرُ وَالْبَحْثُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي مَعْنَى التَّطْوَافِ:
وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى | رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ |
نَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ مِنَ حذر المو | ت وَجَالُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مجال |
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٣١.
(٣) سورة السجدة: ٣٢/ ١٧.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي فَنَقَّبُوا عَلَى قُرَيْشٍ، أَيْ فَنَقَّبُوا فِي أَسْفَارِهِمْ فِي بِلَادِ الْقُرُونِ، فَهَلْ رَأَوْا مَحِيصًا حَتَّى يُؤَمِّلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ؟ وَيَدُلُّ عَلَى عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ يعمر، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَنَصْرِ بْنِ يَسَارٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو:
بِكَسْرِ الْقَافِ مُشَدَّدَةً عَلَى الْأَمْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ فَسِيحُوا في البلاد وابحثوا. وقرىء: بِكَسْرِ الْقَافِ خَفِيفَةً، أَيْ نَقَّبَتْ أَقْدَامُهُمْ وَأَخْفَافُ إِبِلِهِمْ، أَوْ حَفِيَتْ لِكَثْرَةِ تَطْوَافِهِمْ فِي الْبِلَادِ، مِنْ نَقَبَ خُفُّ الْبَعِيرِ إِذَا انْتَقَبَ وَدَمِيَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ يَقُولُونَ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ مِنَ الْهَلَاكِ؟ وَاحْتُمِلَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ قَوْلٌ، أَيْ لَا مَحِيصَ مِنَ الْمَوْتِ، فَيَكُونَ تَوْفِيقًا وَتَقْرِيرًا.
إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي إِهْلَاكِ تِلْكَ الْقُرُونِ، لَذِكْرى: لِتَذْكِرَةً وَاتِّعَاظًا، لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ: أَيْ وَاعٍ، وَالْمَعْنَى: لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَحَلِّهِ، وَمَنْ لَهُ قَلْبٌ لَا يَعِي، كَمَنْ لَا قَلْبَ لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، مبنيا للفاعل، والسمع نُصِبَ بِهِ، أَيْ أَوْ أَصْغَى سَمْعَهُ مُفَكِّرًا فِيهِ، وشَهِيدٌ: مِنَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْحُضُورُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِمَنْ كَانَ لَهُ، قِيلَ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَعْتَبِرُ وَيَشْهَدُ بِصِحَّتِهَا لِعِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَشَهِيدٌ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو البرهسم: أَوْ أُلْقِيَ مَبْنِيًّا، لِلْمَفْعُولِ، السَّمْعُ: رُفِعَ بِهِ، أَيِّ السَّمْعُ مِنْهُ، أَيْ مِنْ الَّذِي لَهُ قَلْبٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَوْ لِمَنْ أَلْقَى غَيْرَهُ السَّمْعَ وَفَتَحَ لَهُ أُذُنَهُ وَلَمْ يُحْضِرْ ذِهْنَهُ، أَيِ الْمُلْقِي وَالْفَاتِحُ وَالْمُلْقَى لَهُ وَالْمَفْتُوحُ أُذُنُهُ حَاضِرُ الذِّهْنِ مُتَفَطِّنٌ. وَذَكَرَ لِعَاصِمٍ أَنَّهَا قِرَاءَةُ السُّدِّيِّ، فَمَقَتَهُ وَقَالَ: أَلَيْسَ يَقُولُ يُلْقُونَ السَّمْعَ؟
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ تَكْذِيبًا لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَرَاحَ مِنْ خلق السموات وَالْأَرْضَ، فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ: يَوْمَ السَّبْتِ، وَاسْتَلْقَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا أُخِذَ مِنَ الْيَهُودِ. وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ: احْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ اللَّامِ،
وَعَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ، بِفَتْحِهَا
، وَهُمَا مَصْدَرَانِ، الْأَوَّلُ مَقِيسٌ وَهُوَ الضَّمُّ، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَغَيْرُ مَقِيسٍ، كَالْقَبُولِ وَالْوَلُوعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى تِلْكَ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ، وَزَادَ الْكِسَائِيُّ الْوَزُوعَ فَتَصِيرُ سَبْعَةً.
فَاصْبِرْ، قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، عَلى مَا يَقُولُونَ: أَيِ الْيَهُودُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ فَصَلِّ، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، هِيَ
وَعَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: هُمَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هُوَ الْوِتْرُ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَابْنُ زَيْدٍ: النَّوَافِلُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، يُقْرَأُ فِي الْأُولَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «١»، وَفِي الثَّانِيَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «٢». وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَعِيسَى، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَشِبْلٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْحَرَمِيَّانِ: وَإِدْبَارَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، تَقُولُ: أَدْبَرَتِ الصَّلَاةُ، انْقَضَتْ وَنَمَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ وَوَقْتَ انْقِضَاءِ السُّجُودِ، كَقَوْلِهِمْ:
آتِيكَ خَفُوقَ النَّجْمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، جَمْعَ دُبُرٍ، كَطُنُبٍ وَأَطْنَابٍ، أَيْ وَفِي أَدْبَارِ السُّجُودِ: أَيْ أَعْقَابِهِ. قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ:
عَلَى دُبُرِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَأَرْضُنَا | وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سنون تلمح |
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: «يَا مُعَاذُ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ»، ثُمَّ حَدَّثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ يَوْمَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ. يَوْمُ الْخُرُوجِ: أَيْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ اسْتَمِعْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: نِدَاءَ الْمُنَادِي. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ:
نِدَاءَ الْكَافِرِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولٍ، إِذْ حُذِفَ اقْتِصَارًا، وَالْمَعْنَى: كُنْ مُسْتَمِعًا، وَلَا تَكُنْ غَافِلًا مُعْرِضًا. وَقِيلَ مَعْنَى وَاسْتَمِعْ: وَانْتَظِرْ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ سَامِعٍ.
وَقِيلَ: لِلرَّسُولِ، أَيِ ارْتَقِبْهُ، فَإِنَّ فِيهِ تَبْيِنَ صِحَّةِ مَا قُلْتُهُ، كَمَا تقول لمن تعده بورود فَتْحٍ:
اسْتَمِعْ كَذَا وَكَذَا، أَيْ كُنْ مُنْتَظِرًا لَهُ مستمعا، فيوم مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: الْمُنَادَى بِالْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو بِحَذْفِ الياء وقفا، وعيسى،
(٢) سورة الإخلاص: ١١٢/ ١.
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ مَلَكًا يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ أَيَّتُهَا الْأَجْسَامُ الْهَامِدَةُ وَالْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالرِّمَمُ الذَّاهِبَةُ هَلُمُّوا إِلَى الْحَشْرِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى».
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ: وَصَفَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ يُسْمِعُ جَمِيعَ الْخَلْقِ.
قِيلَ: وَالْمُنَادِي إِسْرَافِيلُ، يَنْفُخُ فِي الصُّورِ وَيُنَادِي. وَقِيلَ: الْمُنَادِي جِبْرِيلُ. وَقَالَ كَعْبٌ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْمَكَانُ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ كَعْبٌ: قَرَّبَهَا مِنَ السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِي كِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ: بِاثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا، وَهِيَ وَسَطُ الْأَرْضِ. انْتَهَى، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ.
يَوْمَ يَسْمَعُونَ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يُنادِ، والصَّيْحَةَ: صَيْحَةَ الْمُنَادِي. قِيلَ:
يَسْمَعُونَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ تَحْتِ شُعُورِهِمْ، وَهِيَ النفخة الثانية، وبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّيْحَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعْثُ وَالْحَشْرُ. ذلِكَ: أَيْ يَوْمُ النِّدَاءِ وَالسَّمَاعِ، يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى النِّدَاءِ، وَاتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ فَجُعِلَ خَبَرًا عَنِ الْمَصْدَرِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ، أَيْ ذلك لنداء نِدَاءُ يَوْمِ الْخُرُوجِ، أَوْ وَقْتَ النِّدَاءِ يَوْمُ الْخُرُوجِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: تَشَّقَّقُ بِشَدِّ الشِّينِ وَبَاقِي السبعة: بتخفيفها. وقرىء:
تُشَقَّقُ بِضَمِّ التَّاءِ، مُضَارِعَ شُقِّقَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَتَنْشَقُّ مُضَارِعَ انْشَقَّتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تُشْقَقُ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ، ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ فِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ تأليفه، ويوم بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الثَّانِي. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ. وَقِيلَ: الْمَصِيرُ، وَانْتَصَبَ سِراعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَنْهُمْ، وَالْعَامِلُ تَشَقَّقُ. وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يَخْرُجُونَ، فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْوَاوِ فِي يَخْرُجُونَ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُقَدَّرُ عَامِلًا فِي يَوْمَ تَشَقَّقُ. ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ: فَصَلَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ بِمَعْمُولِ الصِّفَةِ، وَهُوَ عَلَيْنَا، أَيْ يَسِيرٌ عَلَيْنَا، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ الصِّفَةِ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَيْنا يَسِيرٌ، تَقْدِيمُ الظَّرْفِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، يَعْنِي لَا يَتَيَسَّرُ مِثْلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ إِلَّا عَلَى الْقَادِرِ الذَّاتِ الَّذِي لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، كَمَا قَالَ: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «١». انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ: هَذَا وَعِيدٌ مَحْضٌ لِلْكُفَّارِ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ: بِمُتَسَلِّطٍ حَتَّى تُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: التَّحَلُّمُ عَنْهُمْ وَتَرْكُ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ: لِأَنَّ مَنْ لَا يَخَافُ الْوَعِيدَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُصَدِّقٍ بِوُقُوعِهِ لَا يُذَكَّرُ، إِذْ لَا تَنْفَعُ فِيهِ الذِّكْرَى، كَمَا قَالَ:
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «٢»، وَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ، كَمَا افْتُتِحَتْ بِ ق وَالْقُرْآنِ.
. (٢) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٥
.