تفسير سورة ق

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة ق من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة ق كلها١ مكية
١ أدرج قبلها في الأصل وم: ذكر أن سورة ق..

سُورَةُ (ق)
ذكر أن سورة (ق) كلها مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) يحتمل أن يكون قوله: (ق) اسم هذه السورة، ولله - تعالى - أن يسمي السور بما شاء: (ق) كناية؛ كما سمى كتابه: قرآنًا، وزبورًا، وتوراة، وإنجيلا؛ أقسم بهذه السورة والقرآن جملة.
ويحتمل أن يذكر (ق) كناية عن جميع الحروف المقطعة، والقرآن هو اسم الحروف المجموعة المقطعة؛ أقسم بالحروف المقطعة والمجموعة جميعًا.
ومن الناس من يقول: إن (ق) اسم للجبل المحيط بالأرض، وهو ياقوتة خضراء أو ياقوتة حمراء، فخضرة السماء من ذلك؛ أقسم اللَّه - تعالى - به وبالقرآن.
والأول أشبه وأقرب؛ لأن العرب لم تعرف جبل قاف، ولم تعرف عظمته، والقسم في الأصل لتأكيد الخبر، فإنما يتحقق بما يعرفه من أريد القسم في حقه، فأما إذا لم يعرف ولم يعظم ذلك في عينه يخرج القسم مخرج العبث تعالى اللَّه عن ذلك، إلا أن يقال: أن يكون هذا القسم في حق أهل الكتاب، فإنه قد كان لهم كتاب يعرفون ذلك، وكانت لهم رسل قد بلغتهم ذلك، وكذا الظاهر أن القسم في حق العرب فدل أن الأول أشبه.
ثم هذه الحروف المقطعة لم يظهر في الأخبار تفسيرها عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بطريق التواتر والاشتهار، ولم يثبت عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - أنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فسبيله الوقف فيها؛ لأنه معلوم ألا يقف أحد على المراد بالحروف المقطعة إلا من جهة السمع، فلما لم يظهر ذلك من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دل أنهم تركوا ذلك، وإنَّمَا تركوه لوجوه:
إما لأن هذه الحروف المقطعة كانت بيان أحكام في نوازل عرفوها وتركوا سؤالها؛ لما عرفوا تلك الأحكام والنوازل.
342
وإما أن تركوا ذلك لما كان ذلك من السرائر التي لم يطلع اللَّه - تعالى - الخلق على ذلك، وهو المتشابه الذي يجب الإيمان به، ولا يطلب له تفسير، وكأن ذلك مما اختص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمعرفته؛ لقوله - تعالى -: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)، فلم يسألوا منه بيان ذلك.
وإما أن كان ذلك عندهم أسماء السور لتعريف السور، وأسماء الأعلام لا يطلب فيها المعاني؛ لذلك لم يسألوا معانيها، ولم يرد التعليم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تركوا سؤال التفسير للآيات إما لأن في وسعهم الوصول إلى معرفة ما تضمنته الآيات، وعرفوا المراد منها باللسان، وعرفوا مواقع النوازل، ففهموا المواد، فلم يحتاجوا إلى السؤال.
وإما أن تركوا لما أنها تضمنت أحكامًا عرفوها، فتركوا السؤال؛ فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
ثم ذكر القسم ولم يبين موضع القسم، واختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: موضع القسم في آخر السورة: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: موضع القسم قوله - تعالى - (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أقسم بقوله: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) بأن الكفرة في أمر مريج.
ويحتمل أن يكون موضع القسم هو ما عجبوا؛ كما قال: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ذكر - هاهنا - عجبهم من شيئين:
أحدهما: ما ذكر (أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي: من البشر (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) وهو كقولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقولهم: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، لا يزالون ينكرون الرسالة في البشر.
والثاني: من الإحياء بعد الموت؛ لقولهم (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) وقد ذكرنا في غير آي من القرآن عجبهم وإنكارهم البعث بعد الموت، فجائز أن يكون موضع القسم ما عجبوا أو أنكروا أن يكون من البشر رسول أو يحيون بعد الموت، أقسم بما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أنه يكون ذلك ردًّا لإنكارهم وتعجبهم، والله أعلم.
343
ثم إنكار الكفرة وعجبهم أن كيف بُعِثَ من البشر رسول؟ أو كيف لا اختار بعث الرسل ممن عنده -وهم الملائكة- وأبدًا إنما يبعث الرسل ممن كان عند المرسل، لا ممن كان هذا مبعوثا إليهم في الشاهد إلا لمعنى، ولا ينبغي لهم أن ينكروا بعث الرسول ممن هو عند المبعوث إليهم، وإن تعجبوا منه؛ لأن بعث الرسول من جنس المرسَل إليهم والمبعوث إليهم في معرفة صدقه وحقيقة دعواه أقرب من أن يكون من خلاف جنسهم؛ لأنهم إنما يعرفون رسالته بآيات ودلالات يقيمها على رسالته بحيث يخرج عن وسعهم إقامتها، ولا يعرفون صدق تلك الآيات وحقيقتها إذا كانت تلك من غير جنسهم بما لعل أن ما آتاهم به وزعم أنها آيات ليست بآيات؛ لما في وسعه إتيان مثلها، وليس في وسعهم ذلك؛ لما أن القوى تختلف عند اختلاف الجنس؛ فدل أن بعث الرسول من جنس المرسَل إليهم أحق وأقرب إلى معرفة صدق الآيات والمعجزات، واللَّه الموفق.
ولأن كل ذي نوع من نوعه، وكل ذي شكل من شكله أميل، وبه آنس من خلاف جنسه ونوعه، فكان الغرض وهو التأليف والاجتماع في هذا أقرب إلى الحصول، واللَّه أعلم.
ثم قولهم: هلا بعث إلينا الرسل ممن هو عنده فاسد؛ لأن الخلائق جميعًا من حيث العند لله - تعالى - واحد، لا يوصف أحد من الخلائق أنه عنده إلا من حيث القرب به بالطاعة له، والائتمار بأمره، وترك الخلاف له، فأما على ما يوصف المخلوق عند مخلوق فلا؛ إذ ذاك وصف المتمكن في المكان، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرا.
فإذا كان المراد من عنده من حيث القرب به بالطاعة والقيام بأمره مما يثبت أهلية الرسالة وصلاحها فذلك مما لا يوجب الفضل بين البشر والملائكة؛ بل من جهة البشر أحق؛ لما هم يفعلون عن غيب الدلائل أجمع دون العيان - واللَّه أعلم - بحجتهم أنه لو أراد إحياءنا كيف أماتنا؟ ولا أحد في الشاهد يبني بناء فيهدمه ويبني مثله فليس بشيء؛ لأنه لو لم يكن إماتة ثم إحياء لكان الجزاء بالأعمال يكون حضرة الأفعال، وذلك يوجب أن يكون إيمانهم إيمان اضطرار، لا إيمان اختيار وإيثار؛ لأن من عاين أنه يدخل النار يعذب فيها أبد الآبدين لا يعمل ذلك العمل الذي أوعد به؛ بل يتركه، وكذا أن من عاين أن من آمن باللَّه - تعالى - وعمل طاعة وعبادة يدخل الجنة ويكرم أبد الآبدين لا يعمل غير ذلك العمل، فترتفع المحنة، ويكون الإيمان بحق الاضطرار، فأخر ذلك؛ ليكون الإيمان بحق الاختيار حتى يكون له قيمة.
ثم قوله: (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وصف القرآن مرة بأنه كريم، ومرة بأنه حكيم، ومرة بأنه مجيد، يحتمل أنما سماه بهذه الأسماء على معنى أن من تمسك به يصير مجيدًا، كريمًا،
344
حكيمًا؛ أي: منزلة مجيد، كريم، حكيم.
ويحتمل أن تكون هذه صفات القرآن راجعة إلى عينه كما يقال: كلام حكمة، وكلام سفه، وإنما يراد به عينه؛ فعلى هذا يحتمل، واللَّه أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المجيد: الماجد، والتمجيد: التعظيم، وأمجدت الدابة من العلف: إذا أكثرت من ذلك، وأمجد القوم: إذا أكثروا من الطعام والشراب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) قد ذكرنا تأويله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) أي: لا يكون؛ كَنَّوا بالبعيد عما لا يكون عندهم؛ كذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي: رد، يقال: رجع رجعًا: إذا رد، ورجع رجوعًا: إذا انصرف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) ظاهر هذا أن يكون هذا قول أُولَئِكَ الكفرة؛ قالوا ذلك على سبيل الاحتجاج لما أنكروا من البعث؛ أي: قد علمنا ما تنقص الأرض من لحومنا، وتأكل من أنفسنا، فأنى نحيا بعد ذلك؟!! وهو كقولهم: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)، ونحوه.
لكن أهل التأويل بأجمعهم صرفوا هذا القول إلى اللَّه - تعالى - أنه قال ذلك جوابًا لقولهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) فقال: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم أي: عن علم منا بما تأكل منكم وتنقص قلنا: إنكم تبعثون وتحيون، وعلى علم منا بذلك أخبركم الرسل بالإحياء والبعث بعد الموت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) أي: عندنا كتاب يحفظ أحوالهم وأفعالهم وجميع ما يكون منهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مع علمي فيهم هم عندنا في كتاب حفيظ.
وقال قتادة: ما أكلت الأرض منهم وكانوا ترابًا، ونحن عالمون، وهم مع علمنا في كتاب حفيظ، وهو مثل الأول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ... (٥) أي: بالقرآن.
ويحتمل: أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد كذَّبوا بهما جميعًا.
الآية ٣ وقوله تعالى :﴿ أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجعٌ بعيد ﴾ أي لا يكون ؛ كنّوا بالبعيد عما لا يكون عندهم.
كذلك قال القتبيّ، وقال أبو عوسجة :﴿ رجعٌ بعيد ﴾ أي ردّ ؛ يقال : رُجِع رجعا إذا رُدّ، ورَجع رجوعا إذا انصرف.
الآية ٤ وقوله تعالى :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ﴾ ظاهر هذا أن يكون هذا قول أولئك الكفرة ؛ قالوا ذلك على سبيل الاحتجاج لما أنكروا من البعث، أي قد علمنا ما تنقص الأرض من لحومنا، وتأكل من أنفسنا، فأنّى يُحيِي بعد ذلك، وهو كقولهم :﴿ من يُحي العظام وهي رميم ﴾ [ يس : ٧٨ ] ونحوه.
لكن أهل التأويل بأجمعهم صرفوا هذا القول إلى الله تعالى أنه قال ذلك جوابا لقولهم :﴿ أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجعٌ بعيد ﴾ فقال :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ﴾ أي عن علم منا بما أكل منكم، وينقصُ، قلنا : إنكم تُبعثون، وتُحيوَن، على علم منا، بذلك أخبركم الرسل بالإحياء والبعث بعد الموت والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وعندنا كتاب حفيظ ﴾ أي عندنا كتاب يحفظ أحوالهم وأفعالهم وجميع ما يكون منهم.
وقال بعضهم : أي مع علمي فيهم، هم عندا في كتاب حفيظ.
وقال قتادة : ما أكلت الأرض منهم، وكانوا ترابا، ونحن عالمون، وهم مع علمنا في كتاب حفيظ، وهو مثل الأول.
الآية ٥ وقوله تعالى :﴿ بل كذّبوا بالحق لما جاءهم ﴾ أي بالقرآن، يحتمل أي بمحمد١ صلى الله عليه وسلم وقد كذّبوا بهما معا.
وقوله تعالى :﴿ فهُم في أمر مريج ﴾ قال القتبيّ وأبو عوسجة :﴿ في أمر مريج ﴾ أي مختلط ؛ يقال : مَرَج أمر الناس، ومَرَج الدين، وأصل المَرَج : أن يقلق الشيء، فلا يستقر، يقال : مرج الخاتم في يدي مرجا، إذا قلق للهُزال، أي تحرّك. وقيل : مضطرب، مختلف.
وهكذا كان قولهم مختلفا مضطربا في القرآن والرسول جميعا : قالوا في الرسول صلى لله عليه وسلم أقوالا مضطربة مختلفة : مرة نسبوه إلى السحر، ومرة إلى الشّعر، ومرة إلى الجنون، ومرة إلى الافتراء على الله تعالى وإنه يتلقّاه من فلان، ونحو ذلك من أقوال مختلفة مضطربة في ما يدفع كل واحد من ذلك الآخر.
وكذلك قالوا في القرآن : مرة إنه سحر، ومرة إنه شعر، وأنه من أساطير الأولين، وإنه مفترى، وإنه اختلاق، وكل ذلك مما يدفع بعضه بعضا. وهذا هو الاضطراب والاختلاف والاختلاط، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ في أمر مريج ﴾ أي ضلال.
١ الباء ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَرِيجٍ) قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي: مختلط؛ يقال: مرج أمر الناس، ومرج الدِّين، وأصل المرج أن يقلق الشيء فلا يستقر، يقال: مرج الخاتم في يدي مرجًا: إذا قلق للهزال؛ أي: تحرك.
وقيل: مضطرب مختلف؛ وهكذا كان قولهم مختلفًا مضطربًا مختلطًا في القرآن والرسول جميعًا؛ قالوا في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أقوالا مضطربة مختلفة: مرة نسبوه إلى السحر، ومرة إلى الشعر، ومرة إلى الجنون، ومرة إلى الافتراء على اللَّه - تعالى - وأنه يتلقاه من فلان، ونحو ذلك من أقوال مختلفة مضطربة فيما يدفع كل واحد من ذلك الآخر، وكذلك قالوا في القرآن مرة: إنه سحر، ومرة إنه شعر؛ وإنه من أساطير الأولين، وإنه مفترى، وإنه اختلاق، وكل ذلك مما يدفع بعضه بعضا، وهذا هو الاضطراب والاختلاف والاختلاط، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي: في ضلال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦).
يحتمل أن تكون هذه الآيات صلة ما ذكر من عجبهم من بعث الرسل من البشر، والبعث بعد الموت بقوله: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) كأنه يقول: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها مرتفعة، ملتصقة بعضها ببعض، منضدة بلا فروج ولا عماد مع صلابتها وكثافتها وغلظها، وألم ينظروا إلى الأرض كيف بسطناها وألقينا فيها الجبال الرواسي أوتادًا؛ لئلا تميد بأهلها، حتى عرفوا أن من قدر على رفع السماء بلا عمد مع ارتفاعها وغلظها وصلابتها حتى لا ينتهي أحد إلى طرف من أطرافها، ولا علم نهايتها، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بُعد ما بينهما - لقادر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء، وأن من فعل هذا لا يفعله عبثًا باطلا، ولكن يفعله عن حكمة وتدبير، ولو كان على ما قالوا أن لا بعث ولا جزاء كان خلق ذلك عبثًا باطلا، ويكون فعل ذلك فعل سفه، لا فعل حكمة، فلما كان فعل ذلك كله على التدبير الذي ذكر، وعلى الاتساق الذي جرى حكمه إن شاء ذلك من غير تفاوت - دل أنه لم ينشئ الخلق من المكلفين ليتركهم سدى، لا يأمر، ولا ينهى، ولا يمتحن، فيكون عبثًا؛ بل ليمتحنهم بالأمر والنهي؛ ليكون فعله في العقلاء على نهج الحكمة كما في غيرهم من
الخلائق، وإذا كان كذلك فلا بد من رسول يخبرهم ويعلمهم ما لا يقف عليه العقل من كيفية شكر المنعم، ومقداره، ووقته، ونحو ذلك، يؤكد ذلك الأمر والنهي بالوعد والوعيد، ثم كان له وضع الرسالة فيمن شاء، وفي أي جنس شاء؛ لأنه حكيم عليم، لا يكون منه الخطأ في التدبير والجهل بالأصلح والأوفق بالحكمة؛ فدل ذلك على إثبات الرسالة والبعث بعد الموت، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: انظروا إلى ما ذكر.
والثاني: قد نظروا بأبصارهم، لكن لم ينظروا نظر معتبر بنظر القلب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) قيل: من صدوع وشقوق، والواحد: فرج، وهو الموضع بين الموضعين، والفرجة من الفرج، ومنه يقال: فرجت عنه الغمّ؛ أي: كشفت، وهو كقوله - تعالى -: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)، أخبر أنكم لم تروا في السماء شقوقًا وفطورًا، وفي الشاهد البناء وإن عظم وأحكم لا يخلو من نقصان أو شقوق ترد عليه، فإذا لم تروا ذلك فهلا دلكم ذلك على أن خالقه قادر على الكمال لا يعجزه شيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ (٧) قد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) اسم الزوج يقع على الشكل والضد، وكل ذي شكل هو ذو ضدّ.
والبهيج ما يبهج به، فمعناه: أنبتنا من كل زوج ما يبهج به أهله ويسرون بذلك من ألوان النبات وجواهرها.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ما يبهج به أهله؛ أي: من كل جنس حسن؛ يقال: بَهُجَ يَبهُج بهجًا فهو بهيج؛ أي: حسن، وأما من السرور، فيقال: بَهِج يَبهج بهجًا فهو بهيج؛ أي: مسرور.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) أي: تبصر ذلك كل عبد منيب؛ أي: منفعة ذلك تكون لمن ذكر، وهو العبد المنيب إلى اللَّه - تعالى - والمقبل على طاعته، فأمّا من اعتقد الخلاف له فلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) سماه: مباركًا؛ لأنه يستعمل في أمر
الآية ٨ وقوله تعالى :﴿ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾ أي يُبصر ذلك كل عبد منيب، أي منفعة ذلك تكون لمن ذكر، وهو العبد المنيب إلى الله تعالى والمقبل على طاعته، فأما من اعتقد الخلاف له فلا.
الآية ٩ وقوله تعالى :﴿ ونزّلنا من السماء ماء مباركا ﴾ لأنه يستعمل في أمر الدين والدنيا، [ ويطهّر به ]١ كل شيء، ويزيّن، وبه حياة كل شيء ونماؤه. والمبارك كل خير يكون على النماء والزيادة في كل وقت، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فأنبتنا به جنات وحَبّ الحصيد ﴾ يقول : أنبتنا بذلك الماء المبارك المُنزل من السماء جنات أي بساتين. والمكان الذي جُمع فيه كل أنواع الشجر سُمّي بستانا وجنة.
وقوله تعالى :﴿ وحبّ الحصيد ﴾ أي أنبت ذلك الماء كل حبّ حصيد ؛ فدخل قوله تعالى :﴿ وحبّ الحصيد ﴾ أنواع الشجر والغرس والنبات.
ثم قوله تعالى :﴿ وحبّ الحصيد ﴾ والحصيد، هو الحبُّ نفسه. لكن أضاف الحبّ إلى الحصيد. ويجوز مثل هذا كما يقال. صلاة الأولى ومسجد الجامع، وقال بعضهم : هما متغايران٢ : الحبّ ما يخرُج منه [ النبات ]٣ والحصيد ما يُحصد من القصب الذي يصير نبتا، لأن الحبّ، لا يُحصَد، وإنما يُحصد الساق منه. لذلك أضاف الحبّ إلى الحصيد، وهو ثمره٤، وقوامه به. لذلك أضاف إليه كما يقال : ثمر الشجرة ونحو ذلك.
١ من م، في الأصل: ويطهره..
٢ في الأصل وم: غيران..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: شجره..
الدِّين والدنيا، ويطهر به كل شيء ويزين، وبه حياة كل شيء ونماؤه، والمبارك كل خير يكون على النماء والزيادة في كل وقت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) يقول: أنبتنا بذلك الماء المبارك المنزل من السماء (جَنَّاتٍ) أي: بساتين، والمكان الذي جمع فيه كل أنواع الشجر سمي: بستانًا وجنة.
وقوله: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي: أنبت ذلك الماء كل حب حصيد، فدخل تحت قوله: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أنواع الشجر والغرس والنبات.
ثم قوله - تعالى -: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) الحب والحصيد هو الحب نفسه، لكن أضاف الحب إلى الحصيد، ويجوز مثل هذا؛ كما يقال صلاة الأولى، ومسجد الجامع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما غيران؛ الحب: ما يخرج منه، والحصيد: ما يحصد من العصف الذي يصير [تبنًا]؛ لأن الحب لا يحصد، وإنَّمَا يحصد الساق منه؛ لذلك أضاف الحب إلى الحصيد، وهو شجره وقوامه؛ لذلك أضيف إليه؛ كما يقال: ثمر الشجر، ونحو ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠).
قوله: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) أي: طوال؛ يقال: بسق الشيء بسوقًا إذا طال.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (بَاسِقَاتٍ) أي: حوائل.
يخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن بركة الماء أنه بلطفه جعل الماء بحيث تظهر بركته ونماؤه وأثره على رأس النخل، وإن طال يسقى الأصل؛ لما جعل في سريته من البركة، والمعنى ما يظهر ذلك، ولا يعلم حقيقة ذلك المعنى.
وقوله: (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) أي: منضود، والطلع: أول ما يخرج من النخل فيحمل، والتنضيد: هو التأليف والتركيب؛ أي: يؤلف بعضه إلى بعض ويركب، ويسمى ذلك: كُفُرَّى، وإذا نضج استوجب الطلع ويعرف وصار رطبًا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ (نَضِيدٌ) أي: متراكم بعضه على بعض، والميل المتراكم يقال له: منضود، والتنضيد: هو جعل الشيء بعضه فوق بعض، ونضد الشيء بنفسه فهو نضيد.
وقيل: (نَضِيدٌ) أي: كثير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١) أخبر أن ذلك كله إنما أنبته وأخرجه رزقًا للعباد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْيَيْنَا بِهِ) أي: بالماء (بَلْدَةً مَيْتًا) أي: أحيا بالماء كل بلدة ميت، وكل بقعة ميتة، وكل غرس، فصار به كل حي ونماء كل شيء.
ثم قال: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)، أي: كما قدر على إحياء ما ذكر من الأرض بعد موتها،
الآية ١١ وقوله تعالى :﴿ رزقا للعباد ﴾ أخبر أن ذلك كله إنما أنبته، وأخرجه ﴿ رزقا للعباد ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وأحيينا به بلدة ﴾ أي بالماء ﴿ بلدة ميتا ﴾ أي أحيى بالماء كل بلدة ميت وكل بقعة ميتة وكل غرس، فصار به حياة كل حيّ ونماء كل شيء.
ثم قوله١ تعالى :﴿ كذلك الخروج ﴾ أي كما قدر على إحياء ما ذكر من الأرض بعد موتها وإحياء النبات والغرس وكل شيء بعد موته بذلك الماء [ فعلى ذلك هو ]٢ قادر على إحيائكم بعد موتكم وبعد ما صرتم ترابا.
والأعجوبة في إحياء ما ذكر كله من الأرض والنبات والغرس إن لم يكن أكثر لم يكن دون ما [ في ]٣ إحياء الناس بعد موتهم.
فإذ قد عرفوا قدرته في إحياء ما ذكر، وأقرّوا به، كذلك لزم أن يقرّوا به في إحياء كل شيء، والله أعلم.
١ في الأصل وم: قال..
٢ في م: فعلى ذلك، ساقطة من الأصل..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
وإحياء النبات والغرس، وكل شيء بعد موته بذلك الماء، فعلى ذلك قادر على إحيائكم بعد موتكم، وبعدما صرتم ترابًا.
والأعجوبة في إحياء ما ذكر كله من الأرض والنبات والغرس إن لم تكن أكثر لم تكن دون ما في إحياء الناس من بعد موتهم، فإذ قد عرفوا قدرته في إحياء ما ذكر وأقروا به، كذلك لزمهم أن يقروا به في إحياء كل شيء، واللَّه الموفق.
* * *
قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) ذكر هذه الأنباء لوجهين:
أحدهما: يصبّر رسوله على أذى قومه وتكذيبهم إياه كما صبر أُولَئِكَ يقول: إنك لست بأول رسول كذبه قومه، بل كان قبلك رسل كذبهم قومهم، فصبروا على ذلك؛ فاصبر أنت - أيضًا - وهو كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
والثاني: يحذر قومه أن ينزل بتكذيبهم إياه وسوء معاملتهم به كما نزل بمن ذكر من الأقوام بتكذيبهم وسوء معاملتهم.
وعلى هذين المعنيين جميع ما ذكر في القرآن من الأنباء، واللَّه أعلم.
ثم أصحاب الرس اختلف في الرس:
قيل: هو بئر دون اليمامة، وكان عندها أقوام كذبوا رسلهم، فأهلكهم اللَّه تعالى.
وقيل: الرس: هو الوادي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرس: هو خد خدوه وجعلوا فيه الناس، وأحرقوا فيها نبيهم، عليه السلام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سموا بذلك لأنهم رسوا نبيهم - عليه السلام - في البئر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم قوم الرسل الذين ذكرهم في سورة يس بقوله - تعالى -: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:الآية ١٢ و١٣ و١٤ وقوله تعالى :﴿ كذّبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّسّ وثمود ﴾ ﴿ وعاد وفرعون وإخوان لوط ﴾ ﴿ وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع كل كذّب الرسل فحق وعيد ﴾ ذكر هذه الأنباء لوجهين :
أحدهما : يصبّر رسوله صلى الله عليه وسلم على أذى قومه وتكذيبهم إياه كما صبّر أولئك ؛ يقول : إنك لست بأول رسول، كذّبه قومه، بل كان قبلك رسل، كذّبهم قومهم، فصبروا على ذلك، فاصبر أنت أيضا، وهو كقوله :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
والثاني : يحذّر قومه أن ينزل بتكذيبهم إياه وسوء معاملتهم به كما نزل بمن ذكر من الأقوام بتكذيبهم وسوء معاملتهم.
وعلى هذين المعنيين جمع ما ذكر في القرآن من الأنباء، والله أعلم.
ثم أصحاب الرّسّ : اختُلف في الرّسّ. [ قال بعضهم :]١ هو بئر دون اليمامة، وكان عندها أقوام، كذّبوا رسلهم، فأهلكم الله تعالى. وقيل : الرّسّ، هو الوادي. وقال [ بعضهم ]٢ : الرّسّ، هو خدٌّ خدّوه، وجعلوا فيه النار، وأحرقوا فيها نبيهم عليه السلام. وقال بعضهم : سمّوا بذلك لأنهم رسّوا نبيهم عليه السلام في البئر. وقال بعضهم : هم قوم الرسل الذين ذكرهم في سورة يس بقوله تعالى :﴿ إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ﴾ [ يس : ١٤ ].
وعن الأصم أنه قال : الرّسّ كل موضع، خُدَّ فيه، ولذلك سُمي الخدّ خدّا لجري الدمع عليه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإخوان لوط ﴾ أي قوم لوط.
وقوله تعالى :﴿ وقوم تُبّع ﴾ قيل : إنه كان رجلا مسلما صالحا، مدحه الله تعالى، وذمّ قومه، سُمّي تُبّعا لكثرة أتباعه. ولا حاجة بنا إلى تفسيره بأنه [ من ]٣ كان ؟ وما اسمه ؟ كما ذكر بعض أهل التأويل لما لم يُذكر في القرآن، ولم يثبت بالتواتر، فلا نزيد على ذلك القدر احترازا عن الكذب، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..

وعن الأصم أنه قال: الرس: كل موضع خدّ فيه؛ ولذلك سمي الخد: خدَّا؛ لجري الدمع عليه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِخْوَانُ لُوطٍ) أي: قوم لوط.
وقوله: (وَقَوْمُ تُبَّعٍ... (١٤) قيل: إنه كان رجلا مسلمًا صالحًا، مدحه اللَّه - تعالى - وذم قومه، سمي: تُبَّعًا؛ لكثرة أتباعه.
ولا حاجة بنا إلى تفسيره بأنه مَن كان؟ وما اسمه؟ كما ذكر بعض أهل التأويل؛ لما لم يذكر في القرآن، ولم يثبت بالتواتر، فلا نزيد على ذلك القدر؛ احترازًا عن الكذب، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) يخوف أهل مكة أن أُولَئِكَ الذين ذكرهم جميعًا قد أهلكوا بتكذيبهم الرسل، فحق عليهم الوعيد بذلك؛ فعلى ذلك يحق عليكم ذلك الوعيد بتكذيب الرسول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ... (١٥) هو يخرج على وجهين:
أحدهما: (أَفَعَيِينَا) أي: أعجزنا عن الخلق؛ أي: حيث لم نعجز عن الخلق الأول، فكيف نسبونا إلى العجز عن الخلق الثاني؟!
والثاني: (أَفَعَيِينَا) أي: أجهلنا وخفي علينا تدبير الخلق الثاني، وابتداء تدبير الخلق الأول وإنشاؤه أشد عندكم من إعادته، والإعادة عندكم أهون، فإذا لم نعجز عن ابتداء إنشائه، ولم نجهل، ولم يخف علينا الابتداء، فأنّى نعجز عن الإعادة؟!
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الخلق الأول هو آدم، عليه السلام.
وقال عامتهم: هو ابتداء خلقهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: هم في شك واختلاط من خلق جديد؛ لما تركوا النظر في سبب المعرفة؛ ليقع لهم العلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ... (١٦) هو يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: على علم منا بما تحدث به نفسه وتوسوس من أنواع الحديث والوسوسة، لا عن جهل وخفاء فعلنا ذلك، فإن هو كفَّها وحبسها عما تدعو به إليه نفسه وتهواه ويصرفها إلى ما يدعوه عقله وذهنه نجا وفاز؛ لقوله - تعالى -: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
350
بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)، وقال: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وإن تركها حتى تمادى في هواها هلك؛ قال اللَّه - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)، وقال في آية أخرى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، ونحوه كثير من القرآن.
والثاني: يذكر (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي: نحن مطلعون على ذلك، ليس علم ذلك إلى الحفظة وهم يتولون كتابته؛ أي: لم يجعل ذلك إلى أحد، إنما ذلك إلى اللَّه - تعالى - هو العالم بذلك، وهو المطلع عليه دون الملائكة، وإنما إلى الملائكة ما يلفظه ويفعل بالجوارح؛ لقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وقال في آية أخرى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَامًا كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، أخبر أن الحفظة إنما يعلمون ما يفعلون ظاهرًا، أما ما يسرون في قلوبهم فاللَّه هو المطلع على ذلك العالم؛ ليكونوا أبدًا على اليقظة والحذر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) لا يفهم من قرب الرب - تعالى - إلى العبيد ما يفهم من قرب العبد إلى اللَّه - تعالى - وإنما يكون قرب العبد إلى اللَّه - تعالى - بالطاعة له، والقيام بأمره، والانقياد والخضوع له؛ هذا هو المفهوم من قرب العبد إلى اللَّه - تعالى - لا قرب شيء من شيء آخر؛ فعلى ذلك يفهم من قرب اللَّه - تعالى - إلى العبد الإجابة له، والنصرة، والمعونة، والتوفيق على الطاعات، وعلى ذلك ما يقال: فلان قريب إلى فلان، لا يعنون قرب نفسه من نفسه والمكان، ولكن يعنون نصره له، ومعونته إياه، وإجابته.
ويحتمل أن يذكر القرب منه كناية عن العلم بأحواله ظاهرًا وباطنًا، واللَّه أعلم.
وأصله أن تعتبر الأحوال فيما ذكر من القرب، فإن كان في السؤال فالمراد أنه قريب منه بالإجابة له؛ أي: يجيبه؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) وإن كان فيما يسرون ويضمرون فيفهم من القرب في تلك الحالة العلم به؛ كقوله - تعالى -: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ...) الآية؛ فعلى ذلك قوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ)، يفهم منه النصر والمعونة، أو العلم؛ فيكون قوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي: أعلم وأولى به وأحق من غيره في النصر والمعونة، وأولى به في الإجابة، والله أعلم.
351
الآية ١٥ وقوله تعالى :﴿ أفعيينا بالخلق الأول ﴾ هو يخرّج على وجهين :
أحدها :﴿ أفعيينا ﴾ أي أعجزنا عن خلق ؟ أي حين١ لم نعجز عن الخلق الأول، فكيف نسبونا إلى العجز عن الخلق الثاني ؟.
والثاني :﴿ أفعيينا ﴾ أي أجهِلنا، وخفي علينا تدبير الخلق الثاني وابتداء تدبير الخلق الأول ؟ وإنشاؤه أشدّ عندهم من إعادته والإعادة عندكم أهون.
فإذا لم نعجز عن ابتداء إنشاءه، ولم نجهل، ولم يخف علينا الابتداء، فأنّى نعجز عن الإعادة ؟
ثم قال بعضهم : الخلق الأول، هو آدم عليه السلام، وقال عامّتهم : هو ابتداء خلقهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ بل هم في لبس من خلق جديد ﴾ أي هم في شك واختلاط من خلق /٥٢٦-أ/ جديد لما تركوا النظر في سبب المعرفة ليقع عليهم العلم بذلك.
١ في الأصل وم: حيث..
الآية ١٦ وقوله تعالى :﴿ وقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ﴾ هو يخرّج على وجهين :
أحدهما : يقول على علم منا يحدّث به نفسه من أنواع الحديث والوسوسة لا عن جهل وخفاء عن ذلك. فإن هو كفّها، وحبسها عما تدعو به إليه نفسه، وتهواه، وصرفها١ إلى ما يدعوه عقله وذهنه، نجا، وفاز، كقوله تعالى :﴿ إن النفس لأمّارة بالسوء إلا من رحم ربي ﴾ [ يوسف : ٥٣ ] وقوله٢ :﴿ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ﴾ ﴿ فإن الجنة هي المأوى ﴾ [ النازعات : ٤٠ و٤١ ].
وإن تركها حتى تمادى في هواها هلك. قال الله تعالى :﴿ فأما من طغى ﴾ ﴿ وآثر الحياة الدنيا ﴾ ﴿ فإن الجحيم هي المأوى ﴾ [ النازعات : ٣٧ و٣٨ و٣٩ ] وقال في آية أخرى :﴿ أرأيت من اتخذ إلهه هواه ﴾ [ الفرقان : ٤٣ ].
والثاني : يذكر :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ﴾ أي نحن مطّلعون على ذلك، ليس علم ذلك إلى الحفظة، وهم يتولّون كتابته، أي لم يجعل ذلك إلى أحد، إنما ذلك إلى الله تعالى، هو العالم بذلك، وهو المطّلِع عليه دون الملائكة، وإنما إلى الملائكة ما يلفظه، ويفعل بالجوارح لقوله :﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عنيد ﴾ [ ق : ١٨ ] [ وقوله في سورة ]٣ أخرى :﴿ وإن عليكم حافظين ﴾ ﴿ كراما كاتبين ﴾ ﴿ يعلمون ما تفعلون ﴾ [ الانفطار : ١٠و١١ و١٢ ] أخبر أن الحَفَظة إنما يعلمون ما تفعلون ظاهرا. أما ما تُسرّون في قلوبكم فالله هو المطّلع على ذلك، العالم، لتكونوا أبدا على اليقظة والحذر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ يُفهم من قرب الرب تعالى إلى العبد ما يُفهم من قرب العبد إلى الله.
وإنما يكون قُرب العبد إلى الله تعالى بالطاعة له والقيام بأمره والانقياد والخضوع له. هذا هو المفهوم من قرب العبد إلى الله تعالى لا قرب شيء آخر. فعلى ذلك يُفهم من قرب الله تعالى إلى العبد الإجابة والنصر والمعونة والتوفيق على الطاعات.
وعلى ذلك ما يُقال : فلان قريب إلى فلان، لا يعنون قرب نفسه من نفسه في المكان، ولكم يعنون نصره له ومعونته إياه وإجابته.
ويحتمل أن يُذكر القرب منه كناية عن العلم بأحواله ظاهرا وباطنا، والله أعلم.
وأصله أن تُعتبر الأحوال في ما ذكر من القُرب :
فإن كان في السؤال فالمراد أنه قريب منه بالإجابة له، أي يجيبه كقوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ].
وإن كان في ما يُسرّون، ويُضمرون، فيفهم من القُرب في تلك الحالة العلم به كقوله تعالى :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾ [ المجادلة : ٧ ] فعلى ذلك قوله :﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ وقوله :﴿ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ﴾ [ الواقعة : ٨٥ ] يُفهم منه النصر والمعونة أو العلم.
فيكون قوله :﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ أي أعلم وأولى به وأحق من غيره في النصر والمعونة وأولى به في الإجابة، والله أعلم.
وعلى ذلك يخرّج ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ عن الله عز وجل ]٤ [ من تقرّب إليّ شبرا تقربت منه شبرين ] [ بنحوه البخاري ٧٥٣٧ ] على ما ذكرنا من قرب الطاعة له وقرب الرّب إليه بالنصر والمعونة لا قرب المكان، ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى :﴿ من حبل الوريد ﴾ قال بعضهم : عرق العُنق، والوريد العُنُق. وقال بعضهم : هو عرق بين القلب والحلقوم. وقال بعضهم : هو عرق القلب، معلّق به، فإذا قُطع ذلك العرق يموت الإنسان والله أعلم.
١ في الأصل وم: ويصرفها..
٢ في الأصل وم: وقال..
٣ في الأصل وم: وقال في آية..
٤ ساقطة من الأصل وم..
وعلى ذلك يخرج ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من تقرب إلى اللَّه شبرًا تقرب منه شبرين " على ما ذكرنا من قرب الطاعة له، وقرب الرب إليه: بالنصر والمعونة، لا قرب المكان، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَبْلِ الْوَرِيدِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: عرق العنق، والوريد: العنق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عرق بين القلب والحلقوم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عرق القلب معلق به، فإذا قطع ذلك العرق يموت الإنسان، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) أي: اذكر تلقي المتلقيين، أو احفظ تلقي المتلقيين، أو احذر تلقي المتلقيين، وهما الملكان المسلطان على أعمالك وأقوالك؛ إذ يتلقيان منك أعمالك وأقوالك، ويحفظان عليك، ويكتبان؛ يذكر هذا ويخبرهم أن عليهم حافظًا ورقيبًا، وإن كان هو - تعالى - حافظًا لجميع أفعالهم وأقوالهم، عالمًا بها فحفظ الملائكة وكتابتهم، وعدم ذلك بمنزلة واحدة في حق اللَّه - تعالى - لكن يخرج الأمر للملائكة بحفظ أعمالهم وكتابة ذلك على وجوه من الحكمة:
أحدها: ليكونوا على حذر أبدًا مما يقولون ويفعلون؛ على ما يكون في الشاهد من علم أن عليه حافظًا ورقيبًا في أمر يكون أبدًا على حذر وخوف من ذلك الأمر، وذلك أذكر له وأدعى إلى الانتهاء عن ذلك، فعلى ذلك إذا علم العبد أن عليه حفيظًا ويكتب ذلك عليه، وأنه يكلف تلاوة ذلك المكتوب بين يدي اللَّه - تعالى - فيستحي من ذلك أشد الاستحياء - يكون ذلك أزجر له، وأبلغ في المنع، وإلا كان إحصاء ذلك على اللَّه - تعالى - مع الكتاب وغير الكتاب سواء؛ إذ هو عالم بذاته، لا بالأسباب، وهو تأويل (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)، واللَّه أعلم.
والثاني: من الحكمة امتحان الملائكة بحفظ أعمال بني آدم وأقوالهم، وكتابة ذلك، فيمتحنهم بذلك وأمرهم به، ولله أن يمتحن الملائكة من شاء منهم بالتسبيح والتعظيم، ومن شاء منهم بالركوع، ومن شاء بالسجود، ومن شاء بحمل العرش والكرسي، ومن شاء بحفظ بني آدم، ومن شاء منهم بسوق السحاب وإنزال المطر، مما في ذلك منافع بني آدم، ويكون ذلك كله بحق العبادة؛ ليعلم أن من امتحن منهم بالركوع، والسجود،
352
والتسبيح، والتكبير، والتهليل، لم يمتحنهم بذلك لمنافع ترجع إليه في ذلك؛ ولكن يمتحنهم بمحن بما شاء؟ وفيم شاء؟ ويكون ذلك كله عبادة، وإن اختلفت أنواعه، فعلى ذلك أمره إياهم بحفظ أعمالهم وأقوالهم وكتابتها، واللَّه أعلم.
والمحنة بحفظ تلك الأعمال والأصوات وكتابتها أشد من محنة غيرهم من الملائكة بالركوع أو السجود، أو القيام، أو التكبير، أو التهليل، ونحو ذلك، ومن محنة بني آدم من إقامة العبادات، والامتناع من المحرمات، ونحوها إذ لو اجتمع الخلائق على معرفة كيفية عمل واحد ما قدروا عليه؛ فدل أن هذا التأويل محتمل.
والثالث: وهو أن اللَّه - تعالى - أخبرهم بكتابة الملكين لأعمالهم، وبقعودهم عن اليمين والشمال من غير أن رأى أحد من البشر إياهم، ولا رأى كتابهم، ولا سمع صوت كتابتهم، وقد أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم وكتابة ذلك كله، وأقدرهم على رؤيتنا، ولم يقدرنا على رؤيتهم، وهم أجسام مرئية؛ ليعلموا بذلك قدرة اللَّه - تعالى - على ما شاء من الفعل، وألا يقدروا قوة كل خلق اللَّه - تعالى - بقوة أنفسهم، ولا رؤية غيرهم برؤية أنفسهم، وأن قوة الرؤية تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، فإن الملائكة يروننا ولا نراهم في الدنيا، وإن كانوا أجسامًا مرئية؛ حيث يرى بعضهم بعضًا.
ثم أخبر وقال: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، أخبر أنه يرى ذلك الكتاب في الآخرة، وإن كان لا يراه في الدنيا، وكذا يرى الملائكة في الآخرة؛ وهذا لأن هذه البنية لا تحتمل أشياء لضعف فيها، وبحجاب يكون في ذلك في الدنيا، ثم يحتمل أن تكون في الآخرة أقوى في احتمال ذلك؛ فتبصر في الآخرة.
وفي هذا ردّ قول المعتزلة في إنكارهم رؤية اللَّه - تعالى - أنه لو كان يرى في كل مكان على ما يرى الملائكة في الآخرة دون الدنيا ونحو ذلك، فعلى ذلك رؤية اللَّه.
ثم قراءة العامة: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، وقرأ ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: [(إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال)] فعلى قراءته يخرج تأويل الآية على وجه واحد؛ أي: يأخذ الملكان عن بني آدم ما فعلوا وقالوا.
وعلى قراءة العامة يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يأخذ الملكان عنه ما أدى إليهما من قول أو فعل.
والثاني: أن يتلقى أحد الملكين عن الآخر ما ألقى عليه ذلك الملك؛ على ما روي عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، وإذا عمل العبد سيئة، قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه سبع
353
ساعات، فإن استغفر اللَّه - تعالى - لم يكتبها عليه، وإن لم يستغفر كتبها سيئة واحدة ".
ويجوز أن يكون أحدهما كاتبًا دون الآخر، وإن كانا يتلقيان ويأخذان منه ذلك؛ لما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ)، ولم يقرأ: قال قريناه.
ويجوز أن يكون المتلقيان جميعًا يكتبان؛ على ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: كاتبان: كاتب عن يمينه، وكاتب عن يساره، فيكتبان الحسنات والسيئات، ثم يرفعان إلى من فوقهما كل اثنين وخميس، فيثبتون من ذلك من ثواب أو عقاب، ويلقون ما سوى ذلك.
وروي - أيضًا - عنه وعن غيره من أهل التأويل أنهما يكتبان ما كان من خير وشرّ، وما سوى ذلك فلا.
ولكن ظاهر الكتاب يدل على أنه يكتب كل شيء، وهو قوله - تعالى -: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) إلا أن يقال: المراد هو قول هو سبب الثواب والمأثم، كما قال في آية أخرى: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، أي: لا يغادر صغيرة من المأثم ولا كبيرة منها، لا مطلق صغائر الأشياء وكبائرها، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
ثم جعل المتلقيين اثنين يحتمل على ما جعل في الشهادة اثنين فيما بينهم في الأحكام والحقوق يشهدان عليه في الآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨).
في ظاهر الآية أن الملائكة إنما يكتبون ظاهر الأقوال والأفعال، لا ما في الضمائر، لكنه غير مستنكر في العقول أن يكون اللَّه - تعالى - أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم، فيعرفون ذلك ويكتبونه، ولكن ظاهر الآية يشير إلى ما قلنا، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قَالَ الْقُتَبِيُّ: أراد (قَعِيدٌ) من كل جانب منهما، إلا أنه اكتفى بذكر الواحد إذا كان دليلا على الآخر، و (قَعِيدٌ) بمعنى قاعد؛ كما يقال: قدير وقادر، أو يكون بمنزلة أكيل وشريب، أي: مؤاكل ومشارب، (قَعِيدٌ)؛
أي: مقاعد؛ وبه قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قَعِيدٌ) من المقاعدة؛ كما يقال: قعيدي وجليسي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَقِيبٌ عَتِيدٌ) الرقيب: الحفيظ، والعتيد: الحاضر؛ أي: ليس بغائب حتى يغيب عنه شيء، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي: شدته.
يخبر أن لا بد أن ينزل بالنفس عند الموت شدة ومشقة.
ثم الآية تخرج على وجهين:
أحدهما: أن تُجْرى على ظاهرها في الماضي؛ أعني: لفظة (جَآءَت) أي: جاءت سكرة الموت على الذين كانوا من قبلكم، فوجدتهم غير متأهبين ولا مستعدين له، والله أعلم.
والثاني: أن يكون قوله: (وَجَآءَت) بمعنى تجيء، وكذلك (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ) وذلك جائز في اللغة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْحَقِّ) أي: من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة؛ يقول: عند ذلك يبين له ويظهر أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة؟ أو من أهل الجنة أو من أهل النار؟
وأصله عندنا: أن الحق هو ما وعد كل نفس من خير، وما أوعد كل نفس من الشر، إن كان مؤمنًا وقد وعد له الجنة فيتحقق له ذلك، وإن كان كافرًا وقد أوعد له النار فيتحقق له ذلك.
ويحتمل ما ذكر من الحق - هاهنا - هو الموت نفسه؛ أخبر أنه لا بد من الموت، وأنه كائن لا محالة، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)، يقول: لم يخلق الخلق للخلود في الدنيا، ولكن للآخرة، فلا بد من الموت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) يحتمل وجهين:
أي: أتاك ما كنت تكره مجيئه وتنكر، ولم تؤمن به، وهو البعث ويوم القيامة الذي ينكرونه ويكرهونه.
والثاني: يحتمل الموت نفسه؛ أي: أتاك ما كنت تكره وتفر منه؛ إذ هم كانوا يكرهون الموت ويفرون منه؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، أي: يأتيكم من حيث لا مفر لكم عنده.
ثم الحيد: الميل والكراهة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحيد: الفرار، يقال: حاد يحيد حيدًا فهو حائد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠).
يحتمل أن يكون أراد النفخة الأولى، وهي النفخة التي يفزع عندها أهل السماوات والأرض فيموتون.
ويحتمل أن يريد النفخة الثانية التي عندها البعث وإدخال الأرواح في الأجساد.
ويحتمل أن يريد عندما يوضع كل واحد في القبر، وهو أن يسأل، على ما جاءت الأخبار من سؤال منكر ونكير، وذلك أيضًا هو يوم الوعيد في حق ذلك الرجل، وهذا للكافر خاصة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي: ذلك يوم وقوع الوعيد؛ إذ يوم الوعيد الدنيا، فأما القيامة فهو يوم وقوع الوعيد وتحققه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١).
قَالَ بَعْضُهُمْ: السائق: الذي يقبض روحه، والشهيد: الذي يحفظ عمله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: السائق: هو الملك الذي يكتب عليه سيئاته، والشهيد هو الذي يكتب حسناته.
وقيل: السائق: هو النار التي تأتي تسوق الكفرة إلى المحشر، والشهيد هو عمله الذي عمل في الدنيا.
وقيل: السائق: الكاتب، والشهيد: جوارحه بقوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
الآية ٢١ وقوله تعالى :﴿ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ﴾ قال بعضهم : السائق الذي يقبض روحه، والشاهد الذي يحفظ عمله. وقال بعضهم : السائق هو المَلَك الذي يكتب عليه سيئاته، والشهيد هو الذي يكتب حسناته. وقيل : السائق، هو النار التي تأتي، تسوق الكفرة إلى المحشر، والشهيد، هو عمله الذي عمل في الدنيا، وقيل : السائق الكاتب والشهيد جوارحه لقوله تعالى :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم ﴾ الآية [ النور : ٢٤ ].
وأصله ما ذكر في قوله :﴿ وسيق الذين كفروا ﴾ [ الزمر : ٧١ ]، ﴿ وسيق الذين اتقوا ﴾ [ الزمر : ٧٣ ] ذكر السَّوْق في الفريقين، وذكر في الكفرة ﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] وقال تعالى :﴿ ويوم يُحشر أعداء الله إلى النار ﴾ [ فصلت : ١٩ ].
فالسائق، هو مَلَك يسوق إلى ما أمر من الجنة أو النار، والشهيد، هم الملائكة الذين يكتبون علينا١ الأعمال، فيشهدون في الآخرة : إن كانت٢ شرا فشر، وإن كانت٣ خيرا فخير، والله أعلم بحقيقة ما أراد، وإن كان ما قالوا مُحتمَلا٤، والله أعلم.
١ من م، في الأصل: لنا..
٢ في الأصل وم: كان..
٣ في الأصل وم: كان..
٤ في الأصل وم: فمحتمل..
أَلْسِنَتُهُمْ...) الآية.
وأصله ما ذكر في قوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كفَرُوا)، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا)، ذكر السوق في الفريقين، وذكر في الكفرة: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ)، فالسائق: هو ملك يسوق إلى ما أمر من الجنة أو النار، والشهيد هم الملائكة الذين يكتبون علينا الأعمال، فيشهدون في الآخرة: إن كان شرًّا فشر، وإن كان خيرًا فخير، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد، وإن كان ما قالوا فمحتمل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢).
يقول: لقد كنت في الدنيا في غفلة من هذا تعاين وتشاهد.
أو في غفلة عما أوعدت من المواعيد والشدائد التي عاينتها (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) أي: كشفنا عنك الشبه التي تمنع وقوع العلم به والتجلي له (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي: ثاقب نيِّر، يبصر الحق؛ كقوله - تعالى -: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا).
وقيل: حديد من الحدة؛ أي: نافذ لا يخفى عليه شيء، فكأنه أراد - واللَّه أعلم -: إنك كنت في الدنيا جاهلا عن هذا اليوم، وعن هذه الحال، والآن قد عاينت ما كنت عنه في غفلة وأيقنت به، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أي: يقول الملك الذي كان عليه رقيبا: إن كل ما عمل فهو عندي حاضر من تكذيب وعمل السوء، فيشبه أن تكون شهادة الحفظة عليه هذا القول.
ويحتمل أن يكون ذلك على السؤال للملائكة عما كتبوا وحفظوا، يقول كل ملك: (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي: هذا الذي عمل هذا عندي حاضر محفوظ؛ إذ الكتاب الذي كثبت فيه أعماله حاضر.
ثم جائز أن الذي يكتب الأعمال ملك واحد على هذا؛ حيث قال: (وَقَالَ قَرِينُهُ) ولم يقل: قريناه، وإن كان قال: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ)، على ما ذكرنا أنهما ملكان، لكن يجوز أن يتولى الكتابة واحد، والآخر شاهد.
وجائز أن يكونا يكتبان جميعًا بقوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ)، لكنه ذكر - هاهنا - بحرف التوحيد فقال: (وَقَالَ قَرِينُهُ لما يقول كل واحد منهما ذلك على حدة، وهو كما ذكرنا، وفي قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، أي: كل واحد منهما
الآية ٢٣ وقوله تعالى :﴿ وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد ﴾ أي يقول الملَك الذي كان عليه [ رقيبا : إنّ ]١ كل ما عمل فهو عندي حاضر من تكذيب وعمل السوء. فيُشبه أن تكون شهادة الحَفَظة عليه هذا القول.
ويحتمل أن يكون ذلك على السؤال للملائكة عما كتبوا، وحفظوا ؛ يقول كل مَلَك :﴿ هذا ما لديّ عتيد ﴾ أي هذا الذي عمل هذا عندي حاضر محفوظ ؛ إذ الكتاب الذي كتبت فيه أعماله حاضر.
ثم جائز أن الذي يكتب الأعمال لكل واحدٍ واحدٌ. على هذا حيث قال :﴿ وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد ﴾ ولم يقل قريناه، وإن كان قال :﴿ إذ يتلقّى المتلقّيان ﴾ [ ق : ١٧ ] على ما ذكرنا أنهما ملكان. لكن يجوز أن يتولّى الكتابة واحد، والآخر شاهد.
وجائز أن يكونا يكتبان جميعا بقوله :﴿ كراما كاتبين ﴾ [ الانفطار : ١١ ] لكنه ذكر ههنا بحرف التوحيد، فقال :﴿ وقال قرينُه ﴾ لما يقول كل واحد منهما ذلك على حدة، وهو كما ذكرنا في قوله :﴿ عن اليمين وعن الشمال قعيد ﴾ والله أعلم.
١ في الأصل وم: رقيب أي..
قعيد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤).
يحتمل أن يكون الخطاب بقوله - تعالى -: (أَلْقِيَا) لاثنين؛ على ما هو ظاهر الصيغة، الذي يسوقه والذي يشهد عليه، حيث قال: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) كأن الأمر بذلك لهما.
ويحتمل أن يكون المراد بالخطاب هو القرين الذي سبق ذكره: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) لكن قال: (أَلْقِيَا) لوجهين:
أحدهما: ما قيل: إن العرب قد تذكر حرف التثنية على إرادة الواحد والجماعة.
والثاني: ما قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المراد من قوله (أَلْقِيَا) أي: ألق ألق، على التأكيد؛ كقوله - تعالى -: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ)، على الوعيد في الذم، ويقال في المدح: بخ بخ، ونحو ذلك، على التأكيد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) يحتمل: كل كفار لنعم اللَّه - تعالى - حيث صرف شكرها إلى غيره.
أو كل كفار لتوحيد اللَّه، وتسمية غيرٍ: إلها.
والعنيد، قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي بلغ في الخلاف غايته، والمخالف أشد الخلاف، من عند يعند عنودًا، فهو عاند، وعنيد بمعنى: عاند.
وقيل: هو الذي لا ينصف من نفسه.
وقيل: هو الذي يكابر ويعاند بعد ظهور الحق له، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ... (٢٥) يحتمل وجهين:
أحدهما: مناع عن الخير، وهو منع غيره عن التوحيد وقبول الحق.
والثاني: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي: منع ما عنده من الحقوق التي وجبت في أمواله ونفسه.
وقال بعض أهل التأويل: أراد به الوليد بن المغيرة المخزومي؛ لكن هذا عادة كل كافر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، فلا معنى لتخصيص واحد به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) المعتدي من الاعتداء، وهو المجاوز عن حدود اللَّه - تعالى - والمريب من الريبة، وهو الشك والفساد، فكأن المريب هو الذي فيه الشك والفساد جميعًا.
ثم نعت ذلك الإنسان فقال: (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) أي:
الآية ٢٥ وقوله تعالى :﴿ منّاعٍ للخير ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : منّاع عن الخير، وهو منع غيره عن التوحيد وقبول الحق.
والثاني :﴿ منّاع للخير ﴾ أي منع ما عنده من الحقوق التي وجبت في أمواله ونفسه.
وقال بعض أهل التأويل : أراد به الوليد بن المغيرة المخزومي. لكن هذا عادة كل كافر كقوله عز وجل :﴿ إن الإنسان خُلق هلوعا ﴾ ﴿ إذا مسّه الشر جَزُوعا ﴾ ﴿ وإذا مسّه الخير مَنُوعا ﴾ [ المعارج : ١٩ و٢٠ و٢١ ] فلا معنى لتخصيص واحد به.
وقوله تعالى :﴿ مُعتدٍ مريب ﴾ المعتدي من الاعتداء، وهو المجاوز عن حدود الله، والمريب من الرّيبة، وهي١ الشك والفساد ؛ فكان المريب، هو الذي فيه الشّك والفساد جميعا.
١ في الأصل وم: وهو..
الآية ٢٦ ثم نعت ذلك الإنسان فقال :﴿ الذي جعل مع الله إلها آخر فألقِياه في العذاب الشديد ﴾ أي وصف، وذكر مع الله إلها آخر، وهو كقوله تعالى :﴿ ويجعلون لله البنات ﴾ [ النحل : ٥٧ ] وقوله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] أي قالوا، ووصفوا أنهم إناث، وإلا لا يملكون جعل ذلك حقيقة.
وقوله تعالى :﴿ فألقياه في العذاب الشديد ﴾ وصف نار جهنم بالشدة لما أنه، لا انقطاع لها. وكل عذاب يُرجى انقطاعه في بعض الأزمان ففيه بعض الراحة، والله أعلم.
وصف وذكر مع اللَّه إلهًا آخر، وهو كقوله - تعالى -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ)، وقوله - تعالى -: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)، أي: قالوا ووصفوا أنهم إناث، وإلا لا يملكون جعل ذلك حقيقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) وصف نار جهنم بالشدة؛ لما أنه لا انقطاع لها، وكل عذاب يرجى انقطاعه في بعض الأزمان ففيه بعض الراحة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) أي: قال شيطانه الذي أضله ودعاه إلى ما دعاه؛ فصار قرينه في الآخرة؛ لقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ).
ويحتمل (قَرِينُهُ) أي: رفيقه الذي كان معه يتبعه ويصدر عن رأيه.
ثم هذا القول من قرينه إنما كان بعد أن كان منه إنكار لما كان منه من الكفر والشرك عن اختيار، وقال: هذا الذي أضلني وأطغاني، وهو الذي حملني عليه، كقولهم: (هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)، فيقول رفيقه: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)، وكان الكفرة لحيرتهم وقلة حيلتهم أحيانًا ينكرون الشرك؛ كقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، ثم قال: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، وأحيانًا يقولون: هَؤُلَاءِ أضلونا، وأحيانًا يلعن بعضهم بعضا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) أي: ما قهرته على الضلال، ولا لي قوة ذلك، ولكن اتبعني على ما كنت أنا فيه، وأطاعني من غير أن يكون مني إكراه وإجبار على ذلك، وهو ما ذكر: (وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) أي: كان في ضلال لا يرجى الرجوع ولا الانقطاع.
وقال بعض أهل التأويل: إن ذلك الكافر يكذب الحفظة بأنهم كتبوا ما لم أعمل، وهم كانوا يكذبون في ذلك اليوم؛ لحيرتهم؛ كقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فقال قرينه وهو الذي يكتب أعماله: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ).
لكن هذا فاسد، وهذا القول من الشيطان، لا من الملائكة الإطغاء والإغواء؛ إذ هم لا يدعون على الملائكة الإطغاء والإغواء؛ ألا ترى أنه قال: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) واختصامهم مع الشيطان كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - في غير آي من القرآن؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ. قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ...)
الآية ٢٨ وقوله تعالى :﴿ قال لا تختصموا لديّ ﴾ خصومتهم ما ذكر ما قالت الأتباع : ربنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابا ضعفا من النار } [ الأعراف : ٣٨ ] وما ذكر من لعن بعضهم على بعض ومن تبرّي بعضهم من بعض. فقال الله عز وجل :﴿ لا تختصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد ﴾ أي قدّمت إليكم من الوعيد في الدنيا، فما انقطعت خصوماتكم هذه، أي بيّنتُ في الدنيا ما يلحق بمن ضل بنفسه ومن ضل بغيره.
كان هؤلاء الكفرة يطلبون وجه الاعتذار بما لا عُذر لهم. فلذلك يقول١ لهم :﴿ لا تختصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد ﴾ أي أرسلت إليكم الرسل، معهم الكتب، وفيها الوعيد. فلم تقبلوا ذلك كله. فإن قيل : قال ههنا :﴿ لا تختصموا لديّ ﴾ وقال في موضع آخر :﴿ ثم إنكم يوم القيامة /٥٢٧-ب/ عند ربكم تختصمون ﴾ [ الزمر : ٣١ ] وبين الآيتين مخالفة من حيث الظاهر. فما وجه التوفيق بينهما ؟ قيل : من وجوه ثلاثة :
أحدها : ما قال بعضهم : قوله :﴿ لا تختصموا لديّ ﴾ في أهل الكفر خاصة، وقوله :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾ في أهل القِبلة، وهو في المظالم التي كانت بينهم في الدنيا.
والثاني : ما قال بعضهم : إن إحدى الآيتين في موضع، فيُؤذَن لهم بالكلام فيه حتى يكون جميعا بين الآيتين، وهو كقوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] وقال في آية أخرى :﴿ ولا يتساءلون ﴾ [ المؤمنون : ١٠١ ] وقال في آية أخرى :﴿ في جنات يتساءلون ﴾ ﴿ عن المجرمين ﴾ ﴿ ما سلككُم في سَقَر ﴾ [ المدثر : ٣٠ و٣١ و٣٢ ] فعلى ذلك هذا.
والثالث : جائز أن يكون قوله تعالى :﴿ لا تختصموا لديّ ﴾ في الدين : ي ما بينهم وبين ربهم [ في ]٢ دفع عذاب الله عن أنفسهم، وذلك لا يملكون، ولا ينتفعون به. وأما قوله تعالى :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ﴾ في ما بين أنفسهم في المظالم والغرامات، والله أعلم.
١ في الأصل وم: يقال..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
إلى قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي...) الآية.
فهذه الخصومة بينهم وبين قرنائهم، وهم الشياطين (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ): خصومتهم ما ذكرنا، قالت الأتباع: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا)، وما ذكر من لعن بعضهم بعضًا ومن تبري بعض عن بعض، فقال - تعالى عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي: قدمت إليكم من الوعيد في الدنيا، فانقطعت خصوماتكم هذه؛ أي: بينت في الدنيا ما يلحق بمن ضل بنفسه، ومن ضل بغيره.
كأن هَؤُلَاءِ الكفرة يطلبون وجه الاعتذار بما لا عذر لهم؛ فلذلك يقال لهم: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي: أرسلت إليكم الرسل معهم الكتب وفيها الوعيد، فلم تقبلوا ذلك كله.
فَإِنْ قِيلَ: قال هاهنا: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، قيل: هو يخرج على وجوه: أحدها: أن قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، في أهل القبلة، وهو في المظالم التي كانت بينهم في الدنيا.
والثاني: ما قَالَ بَعْضُهُمْ بأن إحدى الآيتين في موضع، والأخرى في موضع، فيؤذن لهم بالكلام فيه حتى يكون جمعًا بين الآيتين، وهو كقوله - تعالى -: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وقال في آية أخرى: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وقال في آية أخرى: (يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؛ فعلى ذلك هذا.
والثالث: جائز أن يكون قوله - تعالى -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) في الدِّين فيما بينهم وبين ربهم في دفع عذاب اللَّه عن أنفسهم، وذلك لا يملكونه ولا ينتفعون به، وأما قوله - تعالى -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، فيما بين أنفسهم في المظالم والغرامات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ... (٢٩) هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما يبدل ما استحق كل واحد منكم من العذاب والثواب ما سبق مني من الوعد والوعيد في الدنيا بأن أجعل جزاء الكافر الجنة، وجزاء المؤمن النار؛ إذ قد سبق في
وعدي ووعيدي بأن أجعل الجنة مثوى المؤمنين، والنار مثوى الكافرين؛ فلا يبدل ذلك الوعد والوعيد.
والثاني: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) يحتمل أنه أراد به قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
والثالث: أي: لا يبدل اليوم ما يستوجب به الجنة والخلود فيها، وهو الإيمان عن غيب، كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ...) الآية، فأما الإيمان بعد العيان لا ينفع، كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا..) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي: في العقل والحكمة تعذيب من أتى بالكفر والشرك، فيكون ترك تعذيبه سفهًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠).
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على تحقيق القول من اللَّه - تعالى - لجهنم: (هَلِ امْتَلَأْتِ)، وعلى تحقيق القول من جهنم والإجابة له: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)، وذلك جائز أن ينطق اللَّه - تعالى - جهنم حتى تجيب له بما ذكر (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) على ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم، والنطق منها للكل، حتى أجابت الجوارح لهم لما قالوا: (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، وعلى ذلك ما ذكرنا في قوله - تعالى -: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، ونحو ذلك، ومثل هذا غير مستنكر في العقول على تقدير إحداث الحياة فيها التي هي شرط النطق عن علم، واللَّه أعلم.
والثاني: على التمثيل، لا على تحقيق القول لها: (هَلِ امْتَلَأْتِ) على تحقيق الإجابة منها (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ولكن على التمثيل؛ لوجهين:
أحدهما: أي: إن جهنم لو كانت بحيث تنطق وتسمع وتعلم لو قلت لها: (هَلِ امْتَلَأْتِ)، فتقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ يخبر عن انقياد المخلوقات له والطاعة والإجابة، وهو ما ذكرنا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، لا يكون من الدنيا حقيقة التغرير قولا ولا فعلا، ولكن معناه: إنها بحال من التزين وما فيها من الشهوات لو كان لها تمييز وعقل لغرتهم، واللَّه أعلم.
والثاني: وصف لها بالعظم والسعة، وإخبار عن أنها تحتمل المزيد، وإن جمع من الكفرة ما لا يحصى، على التمثيل، وهو كقوله - تعالى -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ
لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، وصف لها بالتزين والحسن الظاهر ما لو لم يتأمل الناظر فيها العاقبة لاغتر بها من حسنها وزينتها؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) يخرج على وجهين:
أحدهما: هل بقي من أحد يزاد فيَّ فإني قد امتلأت، وليس فيَّ سعة تحتمل غيرهم.
والثاني: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي: فيَّ سعة عظيمة، فهل من زيادة خلق أمتلئ بها؟ لأن اللَّه - تعالى - وعد أن يملأ جهنم، كما قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فتسأل المزيد من ربها لتمتلئ، واللَّه أعلم بذلك.
وقال بعض أهل التأويل بأنها تسأل الزيادة حتى يضع الرحمن قدمه فيها فتضيق بأهلها حتى لا يبقى فيها مدخل رجل واحد، وروي خبر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وأنه فاسد، وقول بالتشبيه، وقد قامت الدلائل العقلية على إبطال التشبيه، فكل خبر ورد مخالفًا للدلائل العقلية يجب رده، ومخالف لنص التنزيل، وهو قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثم هذا القول على قول الشبهة -على ما توهموا- مخالف للكتاب؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، وعندهم لا تمتلئ بهم ما لم يضع الرحمن قدمه فيها.
ثم ذكر البلخي أن مدار ما ذكروا من الحديث على حماد بن سلمة، وكان خرفًا مفندًا في ذلك الوقت لم يجز أن يؤخذ منه، مع ما روي في خبر أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " يأتي اللَّه - تعالى - ببشر فيضع في النار حتى تمتلئ " فهذا يحتمل، لا ما رووا، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) أي: قربت، وذكر في آية أخرى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا)، ذكر - هاهنا - تقريب الجنة إلى أهلها، وذكر ثَمَّ سوق أهل الجنة إليها، فبين الآيتين مخالفة من حيث الظاهر، ولكن يحتمل وجهين:
أحدهما: أن أهل الجنة إذا قربوا منها بالسوق إليها قربت هي إليهم؛ لأن أحد الشيئين إذا قرب إلى الآخر قرب الآخر منه، ويزول البعد بزوال المسافة، وذلك معروف.
ويحتمل أن يكون إخبارًا عن وصف الجنة أنها بحال تقرب إلى أهلها وتزلف، ذكر في الجنة التقريب؛ وفي النار البروز والظهور بقوله - تعالى -: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)، فهو - واللَّه أعلم - أن أهل النار كانوا يجحدون النار وينكرونها، وبرزت الجحيم ليرونها ويطلعون عليها، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)
فأما أهل التوحيد فإنهم كانوا يقرون بالجنة، ولكن لا يرون أنفسهم من أهلها لما بدا منهم من الخطايا والزلات، ويرونها بعيدة من أنفسهم، فذكر اللَّه - تعالى - التقريب لهم، ووعدهم بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي: غير بعيد منهم، بل بحيث يرونها وقت وقوفهم في القيامة، واللَّه أعلم.
والثاني: أي: على بعد منهم في الدنيا؛ أي: يأتونها ويكونون من أهلها عن قريب؛ لأن كل آت فكأن قد أتى، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أي: غير بعيد منهم في الجنة إذا دخلوها من الثمار والفواكه؛ بل قريب منهم، يتناولون كيف شاءوا واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) الأواب الرجاع، من الأوبة، وهي الرجوع؛ فمعناه: لكل رجَّاع إلى اللَّه - تعالى - في كل وقت، أو رجَّاع إلى أمره وطاعته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَفِيظٍ) أي: يحفظ نفسه عن المعاصي والزلات سرًّا وعلانية والحافظ لحدوده في أوامره ونواهيه، وهو كقوله - تعالى -: (لِلْمُتَّقِينَ)، (لِلْمُحْسِنِينَ)، إذ التقوى هي الائتمار بما أمر والامتناع عما نهى وحظر، والإحسان هو العمل بجميع ما يحسن في العقول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ... (٣٣) أي: خاف وحذر بما أوعد.
ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) أي: قبل أن يرد على ظاهر ما ذكر.
والثاني: أي: من خشي الرحمن في الدنيا التي هي حال غيب الدلائل بالمواعيد التي أوعدها وحذر منها قبل أن يعاينها؛ إذ هو لم يرد ذلك العذاب فيصدقه فيما أوعد وخافه وهو كقوله - تعالى - (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، أي: عقوبته ونقمته، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) المنيب: هو المقبل على اللَّه تعالى بجميع أوامره ونواهيه، المطيع له في ذلك كله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) كأنه على الإضمار، أي: يقال لهم: ادخلوها بسلام الملائكة: أي: تسلم الملائكة عليهم وقت دخولهم الجنة؛ كقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ).
والثاني: السلام: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى فيقال لهم: ادخلوها باسم اللَّه تعالى
الآية ٣٣ وقوله تعالى :﴿ من خشي الرحمن بالغيب ﴾ أي خالفه، وحذِره مما أوعد، ثم يخرّج على وجهين :
أحدهما :﴿ من خشي الرحمن بالغيب ﴾ أي قبل أن يرد على ظاهر ما ذكر.
والثاني : أي من خشِي الرحمن في الدنيا التي هي حال غيب الدلائل بالمواعيد التي أُوعدَها، وحذر منها قبل أن يعاينها، إذ هو لم ير ذلك العذاب، فيُصدّقه في ما أوعد، وخافه، وهو كقوله تعالى :﴿ ويحذّركُم الله نفسه ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ] أي عقوبته ونقمته، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وجاء بقلبٍ منيبٍ ﴾ والمنيب، هو المُقبل على الله تعالى بجميع أوامره ونواهيه المطيع له في ذلك كله.
الآية ٣٤ وقوله تعالى :﴿ ادخلوها بسلام ﴾ [ يحتمل وجهين :
أحدهما :]١ كأنه على الإضمار، أي يقال لهم : ادخلوها بسلام الملائكة أي تُسلِّم الملائكة عليهم وقت دخولهم الجنة كقوله :﴿ سلام عليكم طِبتم فادخلوها خالدين ﴾ [ الزمر : ٧٣ ].
والثاني : السلام، هو اسم من أسماء الله تعالى : فيقال لهم : ادخلوها باسم الله على ما هو الأصل في كل خبر أنه يُبتدأ باسم الله تعالى امتثالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل أمر ذو بال، لم يُبدأ باسم الله فهو أبتر ) [ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة ٩٠٢ ].
وقال بعضهم :﴿ ادخلوها بسلام ﴾ أي سالمين من الخوف والحُزن، لا آفة تصيبكم فيها، وهو كقوله :﴿ ادخلوها بسلام آمنين ﴾ [ الحجر : ٤٦ ] من الخوف والحزن.
ويحتمل : أي ادخلوها، ولا كُلفة عليكم [ كما ]٢ في الدنيا، ولا أمر، ولا مِحنة، سوى الثناء على الله تعالى والحمد له وتسليم بعضكم على بعض، بل تسقط عنكم جميع المِحن والأوامر التي عليكم في الدنيا ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ [ يونس : ١٠ ] وكأنه لا شيء [ من ]٣ الذي في الدنيا على أهل الإيمان إلا٤ الثناء على الله تعالى وتسليم بعضكم على بعض. فلذلك أُبقيَ ذلك في الجنة، وأُسقط ما وراء ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ذلك يوم الخلود ﴾ يحتمل أن ذلك يوم الخلود لأهل الجنة بالسرور والراحة ولأهل النار بالعقوبة والعذاب. ويحتمل أي يوم لا انقطاع لذلك الذي وُعِدوا في الجنة، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: من..
على ما هو الأصل، وفي كل خير أنه يبتدأ باسم اللَّه تعالى؛ امتثالا لحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم اللَّه فهو أبتر ".
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ)، أي: سالمين عن الخوف والحزن، لا آفة تصيبكم فيها، وهو كقوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)، عن الخوف والحزن.
ويحتمل ادخلوها ولا كلفة عليكم، ولا أمر، ولا محنة، سوى الثناء على اللَّه تعالى والحمد له، وتسليم بعضكم على بعض؛ بل تسقط عنكم جميع المحن والأوامر التي عليكم في الدنيا، وذلك كقوله تعالى: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وكأنه لا شيء ألذ في الدنيا على أهل الإيمان من الثناء على اللَّه تعالى وتسليم بعضهم على بعض؛ فلذلك أبقى ذلك في الجنة، وأسقط ما وراء ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ):
يحتمل: أي: ذلك يوم الخلود لأهل الجنة بالسرور والراحة، ولأهل النار بالعقوبة والعذاب.
ويحتمل: أي: يوم لا انقطاع لذلك الذي وعدوا، وهي الجنة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (٣٥) أي: لهم ما يختارون فيها، لا يجبرون، ولا يكرهون فيها على شيء؛ إذ المشيئة هي صفة كل فاعل مختار.
وإن كانت المشيئة مشيئة التمني والتشهي، فكأنه قال: لهم ما يتمنون، ويتخيرون كقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) قال بعض أهل التأويل: بأنه تأتيهم سحابة فتمطرهم كل ما يشاءون، وذلك هو المزيد لهم في الجنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ بأنه تنبت لهم شجرة [فتنفطر] لهم كل ما يشاءون، فذلك هو المزيد.
لكن يحتمل وجهين:
أحدهما: النظر إلى رؤية الرب - جل وعلا - وهو كقوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، قيل: الزيادة هي رؤية اللَّه تعالى في الجنة.
ويشبه: ولدينا مزيد من نعيمها ما لا يبلغ تمنيهم وشهواتهم؛ كقوله - عليه السلام - في صفة نعيم الجنة: " ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "؛ لأن الأماني والشهوات إنما تكون لما سبق لجنسه من الذي تقع عليه الرؤية والنظر، أو الخبر فأما ما لا معرفة به، فلا يتمنى ولا يشتهى، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: كم أهلكنا قبلهم من قرن، لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم، ولا الانتصار من ذلك، فكيف يملك قومك دفع ما ينزل بهم لو أصروا على التكذيب.
والثاني: يقول: قد أهلك الذين كانوا قبل قومك: الذين كذبوا رسلهم، أهلكوا إهلاك عقوبة وتعذيب، والذين صدقوا أهلكوا بآجالهم، لا هلاك عقوبة، وقد كانوا جميعا: -المصدقين والمكذبين- سواء في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، فدل أن هناك دارا أخرى يفرق بينهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ):
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ): أي: صاروا في البلاد هل مِن مَفَرٍّ؟!.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ)، أي: طافوا، وتباعدوا، (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي: هل يجدون من الموت محيصا؟ أي: مفرًّا.
ويحتمل: أي: تقلبوا في البلاد في تجاراتهم، فلا يجدودن ملجأ يرد به هلاكهم.
يوعد بما ذكر أهل مكة أنهم لم يجدوا محيصا فكيف تجدون أنتم؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) يحتمل وجوها:
أحدها: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى) أي: عظة ممن كان له قلب.
والثاني: فيما ذكر من إهلاك الأمم الخالية، وذهاب آثارهم بتكذيبهم الرسل لذكرى لمن ذكر.
والثالث: أي: فيما ذكروا من استواء المحسن والمفسد في هذه الدنيا، والصالح والطالح - لذكرى لمن كان له قلب أن هنالك دارا يميز فيها بينهما.
وقوله: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)، أي: عقل وفهم.
أو لمن كان له قلب ينتفع به في التأمل والنظر.
وإنما كنى بالقلب عن العقل؛ لأن الناس اختلفوا:
بعضهم قالوا: إن القلب محل العقل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: محله الرأس، لكن نوره يصل إلى القلب؛ فيبصر القلب الأشياء الغائبة بواسطة العقل؛ فلذلك كنى بالقلب عن العقل؛ لمجاورة بينهما، وهو سائغ في اللغة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، أي: يستمع وهو شاهد سمعه وقلبه، وأصله: أن القلب جعل للوعي والحفظ بعد الإدراك، والإصابة.
ثم أصل ما يقع به العلم والفهم شيئان:
الأول: التأمل والنظر في المحسوس.
والثاني: أن يلقى إليه الخبر وهو يستمع له، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب يطلب الرشد والصواب، وينظر، ويعي، ويحفظ.
أو (أَلْقَى السَّمْعَ)، أي: يستمع بما ألقي إليه وهو شاهد السمع والقلب؛ فتكون الذكرى لمن اختص بهذين، أو ينتفع به هذان الصنفان بالتأمل، فيرى بالعقل محاسن الأشياء ومساوئها.
أو يستمع حقيقة ذلك بالسمع، فيتذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) ذكرنا فيما تقدم تأويل خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
الآية ٣٨ وقوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّنا من لُغوب ﴾ قد ذكرنا في ما تقدم تأويل خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
وقوله تعالى :﴿ وما مسّنا من لُغوب ﴾ أي من إعياء وتعب ونصَب. وفيه نقض قول اليهود، لعنهم الله :[ في الاستراحة ]١ ونفي. فهم٢ المُشبّهة في قوله٣ :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ [ الأعراف : ٥٤ و. . . ] وتبيُّن المراد من قوله تعالى :﴿ ثم استوى على العرش ﴾.
أما نقض قول اليهود. لعنهم الله. فإنهم يقولون : خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في يوم السبت، وهم يتركون العمل يوم السبت لهذا. فالله عز وجل أخبر أنه لم يمسسه بخلق ما ذكر إعياء ولا لُغوب على ما زعمت اليهود، لعنهم الله، فيكون ردًّا لقولهم صريحا.
وأما نفي فهم٤ المُشبّهة فإنهم توهّموا أن قوله :{ ثم استوى على العرش على إثر خلق السماوات والأرض وما بينهما في آية أخرى /٥٢٨-ب/ أن ذلك للراحة، فشبّهوا الله تعالى بالخلق : أنهم إذا فرغوا من أعمال عملوها، ثم استووا على شيء، إنما يستوون للراحة، فقالوا بالاستواء على العرش حقيقة.
فالله تعالى نفى التّعب عن نفسه في خلق السماوات والأرض على أن استواءه ليس للراحة حتى يراد به الاستقرار كما في الشاهد بين الخلق، وبيّن تعاليه وبراءته عما توهّمت المُشبّهة، وشبّهوه بالخلق.
ويتبين بذكر الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرض أن٥ المراد منه التمام، أي تمّ ملكه بعد خلق السماوات والأرض بخلق العرش، ويُذكر الاستواء، ويراد به التّمام، والله أعلم.
قال أبو عوسجة : اللّغوب الإعياء، يقال : لغِب يلغب لُغوبا، فهو لاغِب.
وأصله ما ذكرنا أن خلق الله تعالى الأشياء لا لمنفعة له أو حاجة تقع له ولا بالآلات والأسباب التي بها يقع التعب والإعياء في الشاهد ؛ إذ الإعياء إنما يلحق من فعله الحركة والانتقال والسكون.
فأما الله تعالى إنما يخلُق الأشياء بقوله :﴿ كُن ﴾ ولا يلحقه شيء من ذلك. وهو قادر بذاته فاعل لا بآلة وسبب، فأنّى يقع له الإعياء والتعب ؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
١ في الأصل وم: مراحًا..
٢ في الأصل وم: انفهام..
٣ في الأصل وم: قولهم..
٤ في الأصل وم: إبهام..
٥ أدرج قبلها في الأصل وم: على..
وقوله: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)، أي: من إعياء وتعب ونصب، وفيه نقض قول اليهود -لعنهم اللَّه- صراحًا، ونفي إيهام المشبهة في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، ويتبين المراد من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أما نقض قول اليهود - لعنهم اللَّه - فإنهم يقولون: خلق اللَّه السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في يوم السبت، وهم يتركون العمل يوم السبت لهذا، فاللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه لم يمسه بخلق ما ذكر إعياء ولا لغوب على ما زعمت اليهود - لعنهم اللَّه - فيكون ردًّا لقولهم صريحا.
وأما نفي إيهام المشبهة؛ فإنهم توهموا أن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) على إثر خلق السماوات والأرض وما بينهما في آية أخرى: أن ذلك للراحة، فشبهوا اللَّه تعالى بالخلق: أنهم إذا فرغوا من أعمال عملوها ثم استووا على شيء، إنما يستوون للراحة، فقالوا بالاستواء على العرش حقيقة، فاللَّه تعالى نفى التعب عن نفسه في خلق السماوات والأرض؛ فدل على أن استواءه ليس للراحة حتى يراد به الاستقرار، كما في الشاهد بين الخلق وَبَيَّنَ تعاليه وبراءته عما توهمت المشبهة، وشبهوه بالخلق، وتبين بذكر الاستواء على العرش بعد ذكر خلق السماوات الأرض أن المراد منه التمام، أي: تم ملكه بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما بخلق العرش، ويذكر الاستواء ويراد به التمام، واللَّه أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: اللغوب: الإعياء، يقال: لغب يلغب لغوبا فهو لاغب.
وأصله ما ذكرنا: أن خلق اللَّه تعالى الأشياء لا لمنفعة له أو حاجة تقع له، ولا بالآلات، والأسباب التي بها يقع التعب والإعياء في الشاهد؛ إذ الإعياء إنما يلحق من فعله الحركة والانتقال والسكون، فأما اللَّه تعالى إنما يخلق الأشياء بقوله: كن، ولا يلحقه شيء من ذلك، وهو قادر بذاته، فاعل لا بآلة وسبب؛ فأنى يقع له الإعياء والتعب، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ... (٣٩) أي: فاصبر على ما يقولون فيك: إنك ساحر، وشاعر، ومجنون، ونحوه، فأمره بالصبر على ذلك، وألا يدعو عليهم بالهلاك.
ويحتمل: فاصبر على ما يقولون في اللَّه من معاني الخلق، فلا تحاربهم، ولا تقاتلهم، ولا تدعو عليهم بالهلاك، ولكن اصبر؛ فإن اللَّه تعالى ينتقم منهم لك.
وإنما أمره بالصبر؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان سريع الغضب لله تعالى فيما عاين من المناكير وسمع، وكذلك جميع الأنبياء - عليهم السلام - لذلك أمره بالصبر فيما يقولون في اللَّه أو فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).
قيل: بحمد ربك، أي: بالثناء على ربك؛ أي: أثن عليه بما هو أهله، وما يليق به.
وأهل التأويل يفسرون التسبيح في هذا الموضع وفي غيره من المواضع بالصلاة، فمعنى قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي: صل بأمر ربك، وإنما صرفوا التسبيح إلى الصلاة؛ لأن الصلاة من أولها إلى آخرها وصف الرب تعالى بالتعظيم والتنزيه والبراءة عن كل عيب قولا وفعلا.
ولأنه لو قام إلى الصلاة، فقد فارق جميع الخلائق بما هم فيه، وكذلك إذا جئنا للركوع والسجود فارق جميع الخلائق فيما هم فيه من الأمور، واعتزلهم، واشتغل بمناجاة ربه - جل وعلا - فجائز أن يكون تسميتهم التسبيح: صلاة؛ لهذا.
ويحتمل أن سموه: صلاة؛ لما أن في الصلاة تسبيحا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: قبل صلاة الفجر، وقبل غروبها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: صلاة العصر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: صلاة العصر والظهر؛ لأنهما جميعا قبل غروب الشمس.
وقوله: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠) قال عامة أهل التأويل: هما ركعتان بعد المغرب، وهو جائز محتمل.
ويحتمل أن يكون إدبار السجود ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ)، وتفيؤ الظلال إنما يكون بالنهار، وهو تسبيح الظلال؛ فمعناه: وسبحه وقت إدبار سجود تلك الظلال، والذي أخبر أنه يتفيأ أن تفيؤه هو تسبيحه، وهو ما ذكر في قوله تعالى: (فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ)، إدبار النجوم: هو ذهاب النجوم؛ فعلى ذلك قوله تعالى: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)، أي: سبحه بعد ذهاب سجود الظلال، فذلك إنما يكون بعد ذهاب الشمس وغيبوبتها، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ)، كأن هذا صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -:
الآية ٤١ وقوله تعالى :﴿ واستمع يوم يُنادِ المُناد من مكان قريب ﴾ كأن هذا صلة قوله عز وجل :﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾ وانظر يوم ينادي المنادي، ولا تكافئهم، ولا تنتقم منهم، ولكن اصبر، وانتظر ذلك اليوم.
ثم قوله تعالى :﴿ يُناد المُناد ﴾ يخرّج على وجهين :
أحدهما : كقوله تعالى :﴿ يوم يدع الدّاع إلى شيء نُكُرٍ ﴾ [ القمر : ٦ ] أي يوم يدعوهم الداعي إلى شيء، أنكروه.
والثاني : ما ذكر من نداء بعض لبعض كقوله تعالى :﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ﴾ الآية [ الأعراف : ٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ] يقول عز وجل انتظر يوم ينادون، ويُدعون إلى ما أنكروا، ويوم ينادي بعضهم بعضا.
وقوله تعالى :﴿ من مكان قريب ﴾ أي من مكان يسمعون ما ينادون، ويُدعون، ويعرفون ما يراد بالدعاء، ومن يراد به : ينتهي ذلك الدعاء والدعاء إلى كل في نفسه حتى يعرفه.
وذكر أهل التأويل أن المنادي، هو جبريل عليه السلام عند بيت المقدس بنداء يسمعُه كل أحد، وبيت المقدس أرفع مكان في الأرض، وهو يقرُب من السماء بكذا كذا ذراعا، فهو المكان القريب.
ولكن هذا لا معنى له، فإنه يسمع صوته جميع الخلائق، وإن لم يُقِم في ذلك المكان. وليس المراد من القرب ما ذكره، ولكن على الأسماع في أيّ موضع كانوا، ومن يسمع شيئا فذلك منه قريب، والله أعلم.
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)، وانتظر (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ)، ولا تكافئهم، ولا تنتقم منهم، ولكن اصبر وانتظر ذلك اليوم.
ثم قوله: (يُنَادِ الْمُنَادِ) يخرج على وجهين:
أحدهما: كقوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)، (يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ)، أي: يوم يدعوهم الداعي إلى شيء أنكروه.
والثاني: ما ذكر من نداء بعض لبعض؛ كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) الآية، وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)، يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: انتظر يوم ينادون ويدعون إلى ما أنكروا، ويوم يناد بعضهم بعضا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) أي: من مكان يسمعون ما ينادون ويدعون، ويعرفون ما يراد بالدعاء، ومن يراد به، ينتهي ذلك الدعاء والنداء إلى كل في نفسه حتى يعرفه.
وذكر أهل التأويل: أن المنادي هو جبريل - عليه السلام - ينادي عند بيت المقدس بنداء يسمعه كل أحد، وبيت المقدس أرفع مكان في الأرض، وهو يقرب من السماء بكذا كذا ذراعًا، فهو المكان القريب.
ولكن هذا لا معنى له؛ فإنه يسمع صوته جميع الخلائق وإن لم يقم في ذلك المكان، وليس المراد من القرب ما ذكروه، ولكن على الإسماع في أي موضع كانوا، ومن يسمع شيئا فذلك منه قريب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ... (٤٢) الصيحة: النفخة، أو النداء الذي ذكر.
ثم قوله تعالى: (بِالْحَقِّ)، يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: يستمعون الصيحة بما أوعدهم الرسل من المواعيد؛ فيتحقق لهم ذلك في ذلك اليوم.
والثاني: يحتمل: (بِالْحَقِّ)، أي: تحقق ذلك اليوم؛ لأن الرسل - عليهم السلام - قد أخبروهم بذلك اليوم، وهم أنكروه.
أو بالحق الذي لبعضهم على بعض، أي: يستوفي بعض من بعض ما لهم من الحق في ذلك اليوم، وأمروا بأداء الحقوق في ذلك اليوم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) قيل: يوم الخروج من قبورهم.
وقيل: يوم الخروج والبروز إلى اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ... (٤٣) أي: نحيي الموتى، ونميت الأحياء؛ أي: نحن نملك ذلك، لا يملك أحد ذلك غيرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ)، خص ذلك اليوم بالمصير إليه، وإن كانوا في الأوقات كلها صائرين إليه؛ لما ذكرنا من الوجوه في غير موضع، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤).
يحتمل أن يكون ما ذكر من السراع هو صفة تشقق الأرض، كأنه يقول: يوم تشقق الأرض سراعا، لا تنتظر طرفة عين، ولكن تتشقق أسرع من لمحة البصر.
ويحتمل أن يكون وصف سرعة خروجهم من الأرض، يقول: يوم يسرعون الخروج من الأرض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)، وغير الحشر يسير على اللَّه تعالى - أيضًا - ليس شيء أيسر عليه من شيء، أو أصعب من شيء، لكن خص ذلك بالذكر؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة استبعدوا ذلك اليوم، واستعظموا كونه؛ فخص ذلك اليوم باليسير لهذا؛ إذ وجود الأشياء كلها بالتكوين الأزلي، وعبر عن ذلك بحرف (كُن)، لمعرفة العباد، لا أن التكوين الذي به وجود المكونات مما يوصف بالحرف، وفي ذلك يستوي ابتداء الخلق وإعادته، والحشر، وكل شيء، ولا قوة إلا باللَّه.
وهو كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ)، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥) يقول - واللَّه أعلم -: اصبر على ما يقولون؛ فنحن أعلم بما يقولون؛ فنكافئهم.
أو يقول: عن علم بذلك نتركهم على ذلك، ونمهلهم؛ يصبر رسوله صلى اللَّه عليه وسلم على ذلك؛ ليتسلى به بعض ما يحزن عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من الجبر والقهر، أي: ما أنت بقاهر عليهم، وجبار يجبرهم على التوحيد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من التجبر والتكبر، والجبار: هو الذي يقتل بلا ذنب ولا حق.
370
وقيل: أي: وما أنت عليهم بمسلط، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)، أي: مسلطا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، أي: بلغ ما أنزل إليك، فعليك التبليغ وأنا المجازي لهم والمكافئ بما يفعلون.
ثم ليس يخص بالتذكير من يخاف الوعيد، لكن أمر بتذكير الكل، إلا أن منفعة الذكرى تكون لمن يخاف الوعيد، لا لمن لا يخاف الوعيد؛ فلذلك خصه بالذكر، لكن التخصيص بالذكر لا يكون تخصيصا بالحكم ونفيا عن غيره؛ فيبطل بهذا مذهب من ادعى ذلك، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد، واللَّه الموفق.
* * *
371
الآية ٤٤ وقوله تعالى :﴿ يوم تشقّق الأرض عنهم سِراعًا ﴾ يتمل أن يكون ما ذكر من السِّراع، هو صفة تشقّق الأرض ؛ كأنه يقول : يوم تشقّق سِراعا لا تنتظر طرفة عين، ولكن تتشقّق أسرع من لمحة البصر.
ويحتمل أن يكون وصف سرعة خروجهم من الأرض ؛ يقول : يوم يُسرعون بالخروج من الأرض.
وقوله تعالى :﴿ ذلك حشرٌ علينا يسير ﴾ وغير الحشر يسير على الله تعالى أيضا ؛ ليس شيء أيسر عليه من شيء، لكن خصّ ذلك بالذكر، لأن أولئك الكفرة استبعدوا ذلك اليوم، واستعظموا كونه، فخصّ ذلك اليوم باليُسر لهذا ؛ إذ وجود الأشياء كلها بالتكوين الأزليّ، وعبّر عن ذلك بحرف ﴿ كُن ﴾ لمعرفة العباد لا أنّ التكوين الذي به وجود المكوَّنات مما يوصف بالحرف.
وذلك يستوي ابتداء الخلق وإعادته والحشر وكل شيء، ولا قوة إلا بالله، وهو كقوله :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر ﴾ [ النحل : ٧٧ ] والله الموفّق.
الآية ٤٥ وقوله تعالى :﴿ نحن أعلم بما يقولون /٥٢٩-أ/ وما أنت عليهم بجبّار ﴾ يقول، والله أعلم :﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾ ﴿ نحن أعلم بما يقولون ﴾ فنُكافئهم. أو يقول : عن علم بذلك نتركهم على ذلك، ونُمهلُهم ؛ يصبّر رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك ليتسلّى به بعض ما يُحزن قلبه.
وقوله تعالى :﴿ وما أنت عليهم بجبّار ﴾ قال بعضهم : من الجبر والقهر، أي ما أنت بقاهر عليهم وجبّار، تُجبرهم على التوحيد.
وقال بعضهم : من التجبُّر والتكبّر، والجبّار، هو الذي يقتل بلا ذنب ولا حق.
وقيل : أي وما أنت بمُسلَّط عليهم، وهو كقوله عز وجل :﴿ وما جعلناك عليهم حفيظا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] أي مسلَّطًا.
وقوله تعالى :﴿ فذكّر بالقرآن من يخاف وعيدِ ﴾ أي بلّغ ما أُنزل إليك، فعليك التبليغ، وأنا المجازي لهم والمكافئ بما يفعلون.
ثم لم يخصّ بالتذكير من يخاف الوعيد، لكن أمر بتذكير الكل لأن١ منفعة الذكرى تكون لمن يخاف الوعيد، لا لمن لا يخاف الوعيد. فلذلك خصّه بالذكر، لكن التخصيص بالذكر لا يكون تخصيصا بالحُكم ونفيا عن غيره.
فيُبطل بهذا مذهب من ادّعى ذلك. والله أعلم بما أراد [ والله الموفّق ]٢.
١ في الأصل وم: لا أن..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
Icon