تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الحاقة مكية
وهي اثنتان وخمسون آية وفيها ركوعان
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحاقة ﴾، سميت القيامة بها ؛ لأنها واجبة الوقوع من حق يحق بالكسر أي : الساعة الواجبة، أو التي فيها حواق الأمور أي : ثوابتها كالحساب والعقاب، فيكون من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه أي : ذو الحاقة،
﴿ ما الحاقة ﴾، استفهام لتفخيم شأنها، وهذه الجملة خبر للحاقة، أي : أيّ : شيء هي ؟ كقولك : زيد ما زيد ؟ بوضع الظاهر موضع المضمر،
﴿ وما أدراك ما الحاقة ﴾ : وأي شيء أعلمك ما هي ؟ يعني لا علم لك بكنهها لعظمها، فما مبتدأ، وأدراك خبر،
﴿ كذبت ثمود وعاد بالقارعة ﴾ أي : بها وسماها قارعة لقرعها القلوب بالمخافة،
﴿ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ﴾ أي : بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، وهي الصيحة، وعن بعض بسبب طغيانهم، فتكون مصدرا كالعافية ﴿ كذبت ثمود بطغيانها ﴾( الشمس : ١١ )
﴿ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر ﴾ : شديدة البرد، ﴿ عاتية ﴾، أصل العتو مجاوزة الحد أي : عتت على خزانها، فخرجت بغير حساب، أو عتت على عاد، فلم يقدروا ردها،
﴿ سخرها ﴾ : سلطها، ﴿ عليهم ﴾، استئناف، أو صفة، ﴿ سبع ليال وثمانية أيام حسوما ﴾ : متتابعات أو نحسات أو قاطعات جمع حاسم صفة لسبع ليال، ﴿ فترى القوم ﴾ أي : لو كنت حاضرا، أو استحضار لصورهم كأنه يراهم، ﴿ فيها ﴾ : في تلك الأيام، ﴿ صرعى ﴾ : موتى جمع صريع حال، ﴿ كأنهم أعجاز ﴾ : أصول، ﴿ نخل خاوية ﴾ : خالية الأجواف، أو ساقطة،
﴿ فهل ترى لهم من باقية ﴾ : من بقية أو نفس باقية، ولا يبعد أن يراد منها، هل ترى باقية من العذاب لهم ؟ يعني : قد وصل العذاب غايته،
﴿ وجاء فرعون ومن قبله ﴾ : من الأمم الكافرة، وقراءة كسر القاف، وفتح الباء، فمعناه من عنده من أتباعه، ﴿ والمؤتفكات ﴾ : قرى قوم لوط أي : أهلها، ﴿ بالخاطئة ﴾ : بالخطيئة،
﴿ فعصوا ﴾ أي : كل منهم، ﴿ رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ﴾ : زائدة في الشدة،
﴿ إنا لما طغا الماء ﴾ أي : تجاوز عن الحد زمن نوح، ﴿ حملناكم في الجارية ﴾ : في السفينة، فكل من بقي من البشر من أصلاب من في السفينة،
﴿ لنجعلها ﴾ أي : تلك الفعلة، وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين، ﴿ لكم تذكرة ﴾ : عبرة وعظة، ﴿ وتعيها ﴾ : تحفظها، ﴿ أذن واعية ﴾ أي : من شأنها أن تحفظ ما سمعت به، ولا تضيعه بترك التفكر والعمل به، وفي الحديث " لما نزلت سألت الله أن يجعلها أذن علي " فكان علي يقول : ما سمعت شيئا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنسيته،
﴿ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ﴾ : لا تثنى في وقتها، والمراد النفخة الأولى لما ذكر حال المكذبين رجع إلى شرح أهوال القيامة،
﴿ وحملت الأرض والجبال ﴾ رفعت عن أماكنها، ﴿ فدكتا دكة واحدة ﴾ : ضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة، فيصير الكل هباء منثورا، أو بسطتا فصارتا أرضا لا عوج لها يقال : أرض دكاء، أي مستوية متسعة،
﴿ فيومئذ ﴾ : حينئذ، ﴿ وقعت الواقعة ﴾ : قامت القيامة،
﴿ وانشقت السماء ﴾ : من المجرة، هكذا روى عن علي- رضي الله عنه ﴿ فهي يومئذ واهية ﴾ : ضعيفة ساقطة القوة،
﴿ والملك ﴾، المراد منه الجنس، ﴿ على أرجائها ﴾ : جوانبها جمع رجا بالقصر يعني أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فيأوون إلى ما حولها من حافاتها، ﴿ ويحمل عرش ربك فوقهم ﴾ : فوق رءوس الثمانية، ﴿ يومئذ ثمانية ﴾ : من الملائكة بعد ما بين شحمة أذن ملك منها وعنقه بخفق الطير سبعمائة عام، وعن بعض ثمانية صفوف، وعن بعض المفسرين : المراد بالعرش عرش يوضع يوم القيامة في الأرض لفصل القضاء لا العرش العظيم،
﴿ يومئذ تعرضون ﴾ : على الله لإفشاء الأحوال، وإظهار العدل، ﴿ لا تخفى منكم خافية ﴾ : سريرة كانت تخفى في الدنيا، ولما كان اليوم يطلق على زمان ممتد يقع فيه النفختان، وأهوال القيامة مطلقا صح أن يقال فيه العرض، والحساب، وفي الحديث " يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان، فجدال، ومعاذير وأما الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وأخذ بشماله "
﴿ فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول ﴾ : تبجحا، ﴿ هاؤم ﴾، اسم فعل للجمع أي : خذوا، ﴿ اقرءوا كتابيه ﴾، منصوب بالفعل الثاني عند البصريين، والهاء للسكت تثبت في الوقف، وتسقط في الوصل،
﴿ إني ظننت ﴾ : علمت، ﴿ أني ملاق حسابيه ﴾ أي : أيقنت أني أحاسب،
﴿ فهو في عيشة راضية ﴾، جعل الرضا للعيش مجازا، وهو لصاحبها أو هو كلابن وتامر أي : منسوبة إلى الرضا،
﴿ في جنة عالية ﴾ : رفيعة هي، وقصورها أيضا،
﴿ قطوفها دانية ﴾ : ثمارها قريبة يتناولها الراقد،
﴿ كلوا واشربوا ﴾، بإضمار القول، ﴿ هنيئا ﴾، صفة مصدر محذوف، ﴿ بما أسلفتم ﴾ أي : بسبب ما قدمتموه من الخيرات ﴿ في الأيام الخالية ﴾ : الماضية في الدنيا، وقد روى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- إن هذا في الصائمين خاصة أي : بدل ما أمسكتم في الأيام الجائعة،
﴿ وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ﴾ : تحسرا، ﴿ يا ليتني لم أوت كتابيه ﴾
﴿ ولم أدر ما حسابيه يا ليتها ﴾ : الموتة التي متها، ﴿ كانت القاضية ﴾ : القاطعة لأمري، فلم أبعث، أو يا ليت تلك الحالة التي أنا فيها كانت الموتة، فإنها أسهل،
﴿ ما أغنى عني ماليه ﴾ : ما حصل لي من المال وغيره، مفعول أغنى محذوف، أو ما على تقدير أن يكون استفهامية إنكارية،
﴿ هلك عني سلطانيه ﴾ : ضل عني حجتي، أو زال عني ملكي وقوتي،
﴿ خذوه ﴾ : لما أمر الله بذلك ابتدره سبعون ألف ملك، وروى " لا يبقى شيء إلا دقه، فيقول : ما لي ولك، فيقول : إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك ﴿ فغلوه ﴾
﴿ ثم الجحيم صلوه ﴾ : لا تدخلوه إلا الجحيم،
﴿ ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ﴾ أي : طويلة، وفي الحديث ما يدل على أنها أطول من مسافة بين السماء والأرض، ﴿ فاسلكوه ﴾ : أدخلوه فيها، وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- يدخل في استه، ثم يخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوي،
﴿ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ﴾، استئناف للتعليل،
﴿ ولا يحض ﴾ : لا يرغب، ﴿ على طعام المسكين ﴾ : على إطعامه، وفيه إشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل، وبأن أشنع الذمائم البخل، وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير المرق للمساكين، ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها بالحض ؟
﴿ فليس له اليوم هاهنا حميم ﴾ : قريب يحميه،
﴿ ولا طعام إلا من غسلين ﴾ : دم وقيح يسيل من لحومهم، أو شجرة فيها،
﴿ لا يأكله إلا الخاطئون ﴾ : أصحاب الخطايا، والمراد المشركون.
﴿ فلا أقسم ﴾، لا مزيدة، أو رد لكلام المشركين، وقيل : لا أقسم بظهور الأمر بحيث لا يحتاج إلى القسم، ﴿ بما تبصرون ﴾ : بما في السماء، والأرض،
﴿ وما لا تبصرون ﴾ : بما هو في علم الله، ولم يطع عليه أحد،
﴿ إنه ﴾ : القرآن، ﴿ لقول رسول كريم ﴾ : على الله يبلغه عن الله، فإن الرسول هو المبلغ،
﴿ وما هو بقول شاعر ﴾ : يخيله من عند نفسه كما تزعمون، ﴿ قليلا ما تؤمنون ﴾ : تصدقون تصديقا قليلا، أو المراد من القلة العدم،
﴿ ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ﴾ : تذكرون تذكرا قليلا، فلذلك التبس عليكم الأمر، ولما كان عدم مشابهة القرآن للشعر أظهر ذكر الإيمان مع الأول، والتذكر مع الثاني،
﴿ تنزيل من رب العالمين ﴾ أي : هو تنزيل،
﴿ ولو تقول ﴾ : الرسول، ﴿ علينا بعض الأقاويل ﴾ : يختلق، ويفتري،
﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾ : بيده اليمنى منه ليكون أشد، فإن القتال إذا وقف بين يديه بحيث ينظر المقتول إلى السيف مريدا قتله من خلفه يأخذه بيده اليمنى، وإذا وقف خلفه مريدا قتله من قفاه يأخذ بيساره، أو اليمين بمعنى القوة،
﴿ ثم لقطعنا منه الوتين ﴾ : نياط القلب، وهو حبل الوريد،
﴿ فما منكم من أحد عنه حاجزين ﴾ : دافعين عن القتل، أو عن نفسه بأن تحولوا بيني وبينه،
﴿ وإنه ﴾ أي : القرآن، ﴿ لتذكرة للمتقين ﴾ : فإنهم المنتفعون به،
﴿ وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ﴾ : فنجازيهم،
﴿ وإنه ﴾ الضمير للقرآن أو للتكذيب، ﴿ لسحرة على الكافرين ﴾ : يوم يرون ثواب الإيمان به،
﴿ وإنه لحق اليقين ﴾ اليقين هو العلم الذي زال عنه اللبس، والحق هو الثابت، فالإضافة إما بمعنى اللام، أو بمعنى من أو بيانية،
﴿ فسبح ﴾ : الله، ﴿ باسم ربك العظيم ﴾، والعظيم إما صفة المضاف أو المضاف إليه.
والحمد لولي الحمد.