ﰡ
وَقِيْلَ: جوابهُ﴿ قَدْ عَلِمْنَا ﴾[ق: ٤] كما قالَ اللهُ﴿ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾[الشمس: ١] إلى أنْ قالَ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾[الشمس: ٩] فذلكَ جوابُ القسَمِ، إلاَّ أن اللامَ حُذفت منه، ويجوزُ أن تُجعل (بَلْ) في جواب القسَمِ موضعَ (لَقَدْ). وجواباتُ القسَمِ سِتَّةٌ: ١. (إنَّ) شديدةٌ كقوله﴿ وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ ﴾[الفجر: ١-٢] إلى أنْ قالَ:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾[الفجر: ١٤].
٢. و (مَا) في النَّفي كقولهِ﴿ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ﴾[الضحى: ١-٣].
٣. و (لا) أي النافية، واللامُ مفتوحةٌ كقوله﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[الحجر: ٩٢].
٤. و (إنْ) الخفيفةُ كقوله﴿ تَٱللَّهِ إِن كُنَّا ﴾[الشعراء: ٩٧].
٥. و (لاَ) كقوله﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾[النحل: ٣٨].
٦. و (قَدْ) كقوله﴿ وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾[الشمس: ١] إلى أنْ قالَ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾[الشمس: ٩].
٧. و (بَلْ) كقولهِ ﴿ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوۤاْ ﴾.
﴿ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾؛ عَجِبُوا لكونِ مُحَمَّدٍ رسُولاً إليهم، فأنكَرُوا رسالتَهُ وأنكروا البعثَ بعد الموتِ، وهو قولهُ: ﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ﴾؛ أي أنُبعَثُ إذا مِتنا؟ قالوا ذلك متعجِّبين أنَّهم إذا ماتُوا وصارُوا تُراباً كيف يُبعثون بعدَ ذلك؟ وقالوا: ﴿ ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾؛ أي الردُّ إلى الحياةِ بعيدٌ غيرُ كائنٍ أبداً، استبعَدُوا بجهلهِم أنْ يُبعثوا بعدَ الموتِ.
﴿ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾؛ أي مُختَلطٍ مُلتَبسٍ عليهم، لا يَثُبتون على شيءٍ واحد، مرَّةً يشُكُّون وأُخرى يجحَدُون، ومرَّة يقولون في النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُ ساحرٌ، ومرَّة يقولون: هو شاعرٌ، ومرَّة يقولون: مُعَلَّمٌ مجنونٌ، وتارةً يقولون للقرآنِ: هو سِحرٌ يؤثَرُ، وتارةً يقولون: هو أساطيرُ الأوَّلين، وتارةً يقولون: سِحرٌ مُفتَرى. وقال الحسنُ: (مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْحَقَّ إلاَّ مَرَجَ أمْرُهُمْ)، وقالَ قتادةُ: (مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مُرِجَ عَلَيْهِ رَأيُهُ، وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ)، ومن ذلك الْمَرْجُ لاختلاطِ أشجَارها بعضُها من بعضٍ.
﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ أي جِبَالاً.
﴿ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾؛ أي من كلِّ لونٍ حَسَنٍ منظَرهُ.
﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ ﴾؛ أي بساتينَ.
﴿ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ ﴾؛ يعني الزرعَ الذي من شأنهِ أن يُحصدَ حَصِيداً، حُصد أم لم يُحصَدْ، وذلك البُرُّ والشعيرُ وسائرُ الحبوب التي تُحصَدُ وتدَّخَرُ وتُقتَاتُ. وإضافةُ الحب إلى الحصيدِ وهما واحدٌ لاختلافِ اللَّفظين، كما يُقال مسجدُ الجامعِ، وربيعُ الأوَّل، وخُفُّ البعيرِ، وحبلُ الوريدِ ونحوُها.
﴿ كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ ﴾؛ أي كذلك تَنبُتُونَ بالمطرِ في قُبوركم ثم تُخرَجون للبعثِ، والقدرةُ على إعادةِ النَّبات دليلٌ على القدرةِ على إعادةِ الحياة إلى الميْت.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ ﴾؛ أي كلٌّ مِن هؤلاءِ المذكُورين كذبَ الرُّسل.
﴿ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾؛ أي فوجبَ عليهم عذابهُ، وحقَّ عليهم كلمةُ العذاب. وسُمي تُبَّعاً لكثرةِ أتباعهِ وكان يعبدُ النارَ فأسلمَ ودعَا قومَهُ إلى الإسلامِ وهم حِميَرُ فكذبوهُ، قال حاتِمُ الرقَّاشي: كَانَ أسْعَدُ الْحِمْيَرِيُّ مِنَ التَّتَابعَةِ، آمَنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ بسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ: شَهِدْتُ عَلَى أحْمَدَ أنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَمْفَلَوْ مَدَّ عُمْرِي إلَى عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزيراً لَهُ وَابْنُ عَمْقال قتادةُ: (ذمَّ اللهُ قَوْمَ تُبَّعٍ وَلَمْ يَذُمَّهُ، وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، فَسَارَ بالْجُيُوشِ وَافْتَتَحَ الْبلاَدَ وَقَصَدَ مَكَّةَ لِيَهْدِمَ الْبَيْتَ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ لِهَذا الْبَيْتِ رَبّاً يَحْمِيهِ، فَنَدِمَ وَأحْرَمَ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بالْبَيْتِ وَكَسَاهُ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ).
﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ﴾؛ بالعلمِ بأحوالهِ وبما في ضَميرهِ.
﴿ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ ﴾؛ وهو عِرْقٌ في باطنِ العُنقِ بين العَليا والْحُلقُومِ، وهما وَريدان عن يَمين ثغرَةِ النَّحرِ ويسارها، يتَّصِلان من نَاحِيَتي الحلقِ والعاتقِ، ينصَبَّان أبداً من الإنسانِ. وقال الحسنُ: (الْوَريدُ: الْوَتِينُ؛ وَهُوَ عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بهِ الْقَلْبُ، وَاللهُ تَعَالَى أقْرَبُ إلَى الْمَرْءِ مِنْ قَلْبهِ). ومعنى الآيةِ: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ﴾ أي أعلَمُ به وأقدَرُ عليه مِن بعضهِ، وإنْ كان بعضهُ له حجابٌ فلا يحجِبُنا شيءٌ؛ أي لا يحجبُ عِلمُنا عنه شيءٌ. ثم ذكرَ أنه مع علمهِ وَكَّلَ به مَلَكين يكتُبان ويحفَظان عليه عملهُ إلزاماً للحجَّة، فقالَ: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾؛ قال مقاتلُ: (هُمَا مَلَكَانِ يَتَلَقَّيَانِ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ وَمَنْطِقِهِ) أي يَأخُذان ذلك ويُثبتانه في صحائِفهما، أحدُهما عن يمينِ يكتبُ الحسَنات، والثاني عن شِمالٍ يكتبُ السيِّئات، فذلك قولهُ ﴿ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ ولم يقل قَعِيدَان؛ لأنه أرادَ عن اليمينِ قعيدٌ وعن الشمالِ قعيدٌ، فاكتفَى من أحدِهما عن الأُخرى، كقولِ الشَّاعر: نَحْنُ بمَا عِندَنَا وَأنْتَ بمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُأي نحنُ بما عندَنا رَاضُون. والقعيدُ مثل قاعدٍ كالسَّميع والعليمِ والقدير، وقال أهلُ الكوفةِ: أرَادَ قُعُوداً. رُوي:" أنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بالإنْسَانِ مَلَكَيْنِ باللَّيلِ، وَمَلَكَيْنِ بالنَّهَار يَحْفَظَانِ عَمَلَهُ، أحَدُهُمَا يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالثَّانِي يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، فَإذا تَكَلَّمَ الْعَبْدُ بحَسَنَةٍ كَتَبَهَا الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ عَشْراً، وَإذا تَكَلَّمَ بسَيِّئَةٍ قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِلآخَرِ: أنْظِرْهُ، فَنَظَرَهُ سِتَّ سَاعَاتٍ أوْ سَبْعَ سَاعَاتٍ، فَإنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ لَمْ يَكْتُبْهَا، وَإنْ لَمْ يَتُبْ كَتَبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً "هكذا قال صلى الله عليه وسلم. وعن أنسٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" وَكَّلَ بعَبْدِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ، فَإذا مَاتَ الْعَبْدُ قَالاَ: يَا رَب قَدْ قَبَضْتَ عَبْدَكَ؛ أفَتَأْذنُ لَنَا أنْ نَصْعَدَ إلَى السَّمَاءِ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلاَئِكَتِي يُسَبحُونَ، فَيَقُولاَنِ: أنُقِيمُ فِي أرْضِكَ؟ فَيَقُولُ: إنَّ أرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي يَعْبُدُونَنِي، فَيَقُولاَنِ: أيْنَ نَذْهَبُ؟ فَيَقُولُ: قُومَا عَلَى قَبْرِ عَبْدِي وَهَلِّلاَنِي وَكَبرَانِي وَاكْتُبَا ذلِكَ لِعَبْدِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَعِيدٌ ﴾ أي رَصِيدٌ حافظٌ حاضر ملازمٌ لا يبرحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾؛ أي حافظٌ حاضر ﴿ عَتِيدٌ ﴾ أي مُعْتَدٌّ لَهُ.
﴿ بِالْحَقِّ ﴾ أي بما يصيرُ إليه من أمرِ الآخرةِ من شَقاوَةٍ أو سَعادةٍ تُحَقَّقُ عليه عندَ الموتِ. ويقالُ له: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾؛ أي تميلُ وتَهربُ وتَكرَهُ، قد أيقَنْتَ أنه الآنَ، يقالُ: حادَ عنِ الشيء يَحِيدُ عنهُ حَيْداً؛ إذا مَالَ وزَاغَ ونَكَصَ، وقرأ أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بالْمَوْتِ).
﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ ﴾؛ الذي كان في الدُّنيا يغشَى قلبَكَ وسمعَكَ وبصركَ.
﴿ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾؛ أي فأنتَ اليومَ عالِمٌ نافذُ البصرِ، تُبصِرُ ما كنتَ تُنكِرُ في الدُّنيا. وَقِيْلَ: معناهُ: ﴿ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ أي فعِلمُكَ نافذٌ، وهو من البَصِيرَةِ لا بصرَ العينِ، كما يقالُ: فلانٌ بصير بهذا الأمرِ؛ أي عالِمٌ به. وَقِيْلَ: معناهُ: فبصرُكَ اليوم شاخصٌ لِمَا ترى من الْهَوْلِ.
﴿ كُلَّ كَفَّارٍ ﴾؛ بالله وبنعمتهِ.
﴿ عَنِيدٍ ﴾، مُعرضٍ عن الإيمانِ والقرآنِ إعراضَ المضَادِّ له. وهذا خطابُ الواحدِ بلفظ التَّثنِيَةِ على عادةِ العرب، يقولون للواحدِ: ارحلاها وآزجراها. وَقِيْلَ: الخطابُ لخازنِ النَّار، ومخاطبَةُ الواحدِ بلفظ الاثنين من فصيحِ كلامِ العرب، ومنه قولُهم للواحد في الشِّعر (خَلِيلَيَّ)، قال امرؤُ القيسِ: خَلِيلَيَّ مُرَّا بي عَلَى أُمِّ جُنْدَب نُقَضِّ لُبَانَاتٍ لِلْفُؤَادِ الْمُعَذبوقالَ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ بسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِوقال الفرَّاءُ والسديُّ وأبو ثروان: فَإنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أنْزَجِرْ وَإنْ تَدَعَانِي أحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَاومنه قولُ الحجَّاج: (يَا حَرَسِيُّ إضْرِبَا عُنُقَهُ)، قال الزجَّاجُ: (تَثْنِيَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْخِطَابُ لِلْمُتَلَقِّينَ مَعاً، وَالسَّائِقُ وَالشَّهِيدُ جَمِيعاً)، وقرأ الحسنُ: (ألْقَيْنَ) بنونِ التأكيد كقوله تعالى:﴿ لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ ﴾[العلق: ١٥].
﴿ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ ﴾؛ أي إطرحاهُ في النار.
﴿ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ ﴾؛ خطأ.
﴿ بَعِيدٍ ﴾؛ من الصَّواب. وإنما يقولُ الملَكُ هذا القولَ بعدَ ما يقولُ الكافرُ: يا رب عليَّ كتبَ ما لَمْ أقُلْ ولم أفعَلْ وما أنظَرَني، ولكن عجَّلَ في الكتابةِ عليَّ.
﴿ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم ﴾؛ على ألْسِنَةِ الرسُلِ بالوعدِ و؛ ﴿ بِٱلْوَعِيدِ ﴾؛ لا ينفعكُم الاختصامُ بعدَ أن أخبَرتُكم على ألسِنَةِ الرُّسل بعذابي في الآخرةِ لِمَن كفرَ.
﴿ مَا تُوعَدُونَ ﴾؛ في الدُّنيا على ألسِنَةِ الرُّسل.
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾؛ أي لكلِّ رجَّاعٍ عن معاصِي اللهِ إلى طاعةِ الله، حافظٍ لحدُودِ اللهِ من الخروجِ إلى ما لا يجوزُ. قال مجاهدُ: (الأَوَّاب الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ)، وَقِيْلَ: هو الذي يُذنِبُ ثم يتوبُ، ثم يُذنِبُ ثم يتوبُ. وَقِيْلَ: الأوَّابُ الْمُسَبحُ مِن قوله﴿ يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾[سبأ: ١٠].
وَقِيْلَ: هو الذاكرُ للهِ، وقال مقاتلُ: (الْمُطِيعُ). وَقِِيْلَ: هو الذي لا يقومُ من محلِّه حتى يستغفرَ اللهَ، وقال أبو بكرٍ الورَّاق: (هُوَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، لاَ يَهْتَدِي إلَى غَيْرِ اللهِ). وَقِيْلَ: هو الذي لا يشتَغِلُ إلاَّ باللهِ.
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ ﴾؛ في الجنَّة لأنه لا موتَ فيها ولا فناءَ ولا انقطاعَ.
﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا ﴾؛ من أنواعِ النَّعيم.
﴿ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾؛ أي نَزِيدُهم من عندِنا ما لم يسألوهُ، ولا خَطَرَ على قلوبٍ، ولا بلغَتهُ أفهامُهم، وقال جابرُ: " الْمَزِيدُ هُوَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ بلا كَيْفٍ).
﴿ فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾؛ أي سَارُوا وتَقلَّبُوا وطافُوا في البلادِ. وأصلهُ من النَّقَب وهو الطريقُ؛ وكأنَّهم سلَكُوا كلَّ طريقٍ فلم يجِدُوا مَخْلَصاً عن أمرِ الله. قال الزجَّاجُ: (لَمْ يَرَوا مَخْلَصاً مِنَ الْمَوْتِ، كَأَنَّهُمْ ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ مَعَ شِدَّةِ شَوْكَتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَفِي هَذا إنْذارٌ لأَهْلِ مَكَّةَ أنَّهُمْ عَلَى مِثْلِ سَبيلِهِمْ لاَ يَجِدُونَ مَفَرّاً مِنَ الْمَوْتِ، يَمُوتُونَ فَيَصِيرُونَ إلَى عَذاب اللهِ). قرأ الحسنُ: (فَنَقَبُوا) بالتخفيف، وقرأ السُّلَمي على اللفظِ الأمرِ على التهديدِ والوعيد؛ أي أقبلُوا في البلادِ وأدبرُوا يا أهلَ مكَّة وتصرَّفُوا منها كلَّ مُتَصَرَّفٍ، وسِيرُوا في الأرضِ فانُظروا.
﴿ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ ﴾؛ أي إنَّ ما صُنِعَ بهم من هلاكِ القُرى لعِبرَةً وعِظَةً؛ ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾؛ عقلٌ وحَزْمٌ وبصيرة.
﴿ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ ﴾؛ أي استمعَ ما يقالُ له على جهة التَّفَهُّمِ، يقولُ العربُ: ألْقِ سَمْعَكَ؛ أي اسْتَمِعْ مِنِّي؛ ﴿ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾؛ أي شاهِدُ القلب حاضرهُ غير غافلٍ ولا سَاهٍ.
﴿ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ ﴾؛ أرادَ بذلك صلاةَ الفجرِ وصلاةَ العصرِ. وَقِيْلَ: معناهُ: قبلَ الغروب: الظهرَ والعصرَ.
﴿ وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ﴾؛ يعني: صلاةَ المغرب والعشاءِ. وسُمِّيت الصلاةُ تَسبيحاً لِمَا فيها من التسبيحِ: (سُبْحَانَ رَبيَ الْعَظِيمِ، وَسُبْحَانَ رَبيَ الأَعْلَى). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ ﴾؛ يعني الرَّكعتين بعدَ المغرب وقبلَ الوترِ. وَقِيْلَ: التسبيحُ في أواخرِ الصَّلاة، يُسَبحُونَ اللهَ ثلاثاً وثلاثين، ويَحمَدُون ثلاثاً وثلاثين، ويُكَبرُونَ ثلاثاً وثلاثين. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ... ﴾ إلَى آخرِ السُّورة ". وعن الشعبيِّ والأوزاعيِّ أنَّهما قالا: (أدْبَارُ السُّجُودِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِب، وأدْبَارُ النُّجُومِ: الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ). وقال ابنُ زيدٍ: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ ﴾ وَهُوَ النَّوَافِلُ، وَأدْبَارُ الْمَكْتُوبَاتِ). قرأ الحسنُ وأبو عمرٍو ويعقوبُ وعاصم والكسائيُّ وابنُ عامرٍ: (وَأدْبَارَ) بفتحِ الألف جمعُ الدُّبُرِ. وقرأ الباقون بالكسرِ على المصدر مِن أدْبَرَ يُدْبرُ إدْبَاراً.
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ ﴾؛ أي مِن القبور إلى المحشَرِ.
﴿ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ في الآخرةِ للجَزاءِ.
﴿ ذَلِكَ ﴾؛ الحشرُ.
﴿ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾؛ أي هَيِّنٌ وسَهْلٌ.
﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾؛ أي بُمسَلَّطٍ قَهَّارٍ تُجبرُهُمْ على الإسلامِ، إنما بُعِثتَ مُذكِّراً مُحَذِّراً، وذلك قبلَ أن يُؤمَرَ بالقتالِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ ﴾؛ أي عِظْ به.
﴿ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾؛ وإنما خَصَّ الخائفِين بالوعظِ؛ لأنَّهم همُ الذين يَنتَفِعُونَ بذلك، والمعنى: ذكِّرْ بالقُرآنِ مَن يخافُ ما وعَدتُ مَن عصَانِي من العذاب.