ﰡ
(مكية حروفها ألف وأربعمائة وسبعة وسبعون كلماتها ثلاثمائة وخمس وسبعون آياتها خمس وأربعون)
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ٤٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
ميتا بالتشديد: يزيد وعيدي وما بعده مثل التي في «إبراهيم» يوم يقول بالياء: نافع وأبو بكر وحماد امْتَلَأْتِ بإبدال الهمزة ألفا: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف يوعدون على الغيبة: ابن كثير وإدبار بكسر الهمزة: أبو جعفر ونافع وابن كثير وحمزة وخلف وجبلة المنادي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وفي الوصل.
الوقوف:
ق ط كوفي ولو جعل قسما فلا يوقف للعطف الْمَجِيدِ هـ ج لأن «بل» قد يجعل جواب القسم تشبيها بأن في التحقيق وفي توكيد ما بعده، وقد يجعل جوابه محذوفا أي لتبعثن تُراباً ج لأن ذلك مبتدأ إلا أن المقول واحد بَعِيدٌ هـ مِنْهُمْ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف حَفِيظٌ هـ مَرِيجٍ هـ فُرُوجٍ هـ بَهِيجٍ هـ لا لأن تَبْصِرَةً مفعول لأجله مُنِيبٍ هـ الْحَصِيدِ هـ لا لأن النخل معطوف على الجنات والحب نَضِيدٌ هـ لا لأن المراد أنبتناها لأجل الرزق لِلْعِبادِ ط للعطف مَيْتاً ط الْخُرُوجُ هـ وَثَمُودُ هـ لُوطٍ هـ لا تُبَّعٍ ط وَعِيدِ هـ الْأَوَّلِ ط جَدِيدٍ هـ نَفْسُهُ ج وجعل ما بعدها حالا أولى من الاستئناف فيوقف على الوريد و «إذ» يتعلق بمحذوف وهو «أذكر» أو بقوله ما يَلْفِظُ فلا يوقف على قَعِيدٌ. عَتِيدٌ هـ بِالْحَقِّ ط تَحِيدُ هـ الصُّورِ ط الْوَعِيدِ هـ وَشَهِيدٌ هـ حَدِيدٌ هـ عَتِيدٌ هـ لتقدير القول عَنِيدٍ هـ لا مُرِيبٍ هـ لا بناء على أن ما بعده صفة أخرى ولو جعل مبتدأ لتضمنها معنى الشرط أو نصبا على المدح فالوقف الشَّدِيدِ هـ بَعِيدٍ هـ بِالْوَعِيدِ هـ لِلْعَبِيدِ هـ مَزِيدٍ هـ بَعِيدٍ هـ حَفِيظٍ هـ ج لاحتمال أن تكون «من» شرطية جوابها القول المقدر قبل أدخلوها أو موصولة بدلا من لكل مُنِيبٍ هـ بِسَلامٍ ط الْخُلُودِ هـ
التفسير:
قيل: إن قاف اسم جبل من زبرجد أخضر محيط بالأرض وخضرة السماء منه. وقيل: قادر أو قاهر ونحو ذلك من أسماء الله مما أوله قاف. وقيل: قضي الأمر.
وقيل: قف يا محمد على أداء الرسالة. والأقوال المشتركة بين الفواتح مذكورة، وإعراب فاتحة هذه السورة كإعراب أول «ص»، وبينهما مناسبة أخرى من قبل وقوع الإضراب بعد القسم ووجهه ما مر. ومن قبل أن أكثر مباحث تلك السورة في المبدأ والتوحيد. وفي أوّل خلق البشر، وأكثر أبحاث هذه السورة في الحشر والخروج ولهذا سنت قراءتها في صلاة العيد لأنه يوم الاجتماع وخروج الناس إلى الفضاء. والمجيد ذو المجد حقيقة في القرآن لأنه أشرف من سائر الكتب أو مجاز باعتبار قارئه وعالمه والعامل به. ومعنى مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم أو من بينهم فتوجه العجب إلى الإنذار بالبعث أوّلا ثم إلى كون المنذر منهم، ولعل الأول أدخل عندهم في استحقاق التعجب منه فلهذا أشاروا إليه بقولهم هذا الرجع أو البعث شَيْءٌ عَجِيبٌ أبهم الضمير أوّلا في عَجِبُوا ثم فسره ثانيا في قوله فَقالَ الْكافِرُونَ أو اقتصر على الضمير أوّلا للتعليم بهم ثم وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالكفر. ثم زادوا في التعجب والتعجيب بقولهم أَإِذا مِتْنا والتقدير انبعث وقت الموت والصيرورة ترابا ذلِكَ الرجع أي البعث رَجْعٌ بَعِيدٌ أي يستبعد في العقول. وقيل: إنه من كلام الله عز وجل. والرجع بمعنى الجواب أي جواب هؤلاء الكفار في دعوى المنذر جواب بعيد عن حيز العقل لدلالة البراهين الساطعة على وجود الحشر والنشر منها شمول علم الله تعالى بأجزاء الميت على التفصيل، وإلى هذا أشير بقوله قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم.
عن النبي ﷺ «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» «١»
وعن السدي: ما تنقص الأرض منهم
ومنها خلق الجبال الرواسخ. ومنها خلق أصناف النبات مما يبتهج به ويروق الناظر لخضرته ونضرته كل ذلك ليتبصر به ويتذكر من يرجع إلى ربه ويفكر في بدائع المخلوقات ويرتقي إلى الصانع من المصنوعات. ومنها إنزال ماء المطر الكثير المنافع المنبت للجنات والحبات. والحصيد صفة موصوف محذوف أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة وغيرها من الأقوات ونحوها. والباسقات التي طالت في السماء، والطلع أوّل ما يبدو من ثمر النخيل، والنضيد الذي نضد بعضه فوق بعض، والمراد كثرة الطلع وتراكمه المستتبع لكثرة الثمر. ثم شبه بإحياء الأرض خروج الموتى كما قال في الروم وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الآية: ١٩] ثم هدّدهم بأحوال الأمم السالفة وقد مر قصصهم مرارا. وأما حديث أصحاب الرس فلم يذكر إلا في «الفرقان» وحديث تبع في «الدخان». وأراد بفرعون قومه لأن المعطوف عليه أقوام فَحَقَّ وَعِيدِ مثل فَحَقَّ عِقابِ [ص: ١٤] وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم دل على الحشر بضرب آخر من البيان وهو أن الذي لم يعي أي لم يعجز عن الخلق الأول بالنسبة إلى أيّ مخلوق فرض كيف يعجز عن الإعادة؟ واللبس الخلط والشبهة، وتنكير اللبس والخلق الجديد للتعظيم أي لبس عظيم، وخلق له شأن وحق عليه أن يهتم به ولا يغفل عنه.
ثم شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله سبحانه وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. والوسوسة الصوت الخفي. والباء في بِهِ للتعدية و «ما» مصدرية أي نعلم جعل نفسه إياه موسوسا. والقرب مجاز عن العلم التام كقولهم «هو منى مقعد القابلة ومعقد الإزار» وما في الآية أدل على الإفراط في القرب لأن الوريد جزء من بدن الإنسان
عن النبي ﷺ «إن مقعد ملكيك على- ثنييك أي عطفيك- ولسانك قلمهما وريقك مداد هما وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما»
ويجوز أن يكون تلقى الملكين بيانا للقرب فكأنه قيل: لا يخفى عليه شيء لأن حفظته موكلون به. والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس، والتقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاختصر المفاعلة. وإما بالنسبة إلى الملك الآخر وإما بالإضافة إلى الإنسان، والعتيد الحاضر. قال أكثر المفسرين: إنهما يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه. وقيل: لا يكتبان إلا الحسنات والسيئات. وقيل: إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعه. وحين حكى إنكارهم البعث واحتج عليهم بالدلائل الباهرة أخبر عن قرب القيامتين الصغرى والكبرى بأن عبر عنهما بلفظ الماضي وهو قوله وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ونفخ في الصور وسكرات الموت حالاته الذاهبة بالعقل. والباء في بِالْحَقِّ للتعدية أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلبة الحال من تحقق وقوع الموت أو من سعادة الميت أو ضدّها كما نطق بها الكتاب والسنة، أو المراد وجاءت ملتبسة بالغرض الصحيح الذي هو ترتب الجزاء على الأعمال ذلِكَ المجيء ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تميل وتهرب أيها الإنسان. ولا ريب أن هذا الهرب للفاجر يكون بالحقيقة وللبر يكون بسبب نفرة الطبع إلا أنه إذا فكر في أمر نفسه وما خلق هو لأجله علم أن الموت راحة وخلاص عن عالم الآفات والبليات. قوله ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ إشارة إلى النفخ والمضاف محذوف أي وقت النفخ الثاني آن زمان الوعيد. والسائق والشاهد ملكان، أحد هما يسوقه إلى المحشر أو إلى الجنة أو النار كما قال وَسِيقَ والآخر يشهد عله بأعماله ويجوز أن يكون ملكا واحدا جامعا بين الأمرين. ويجوز أن يكون الرقيب المذكور والجملة حال من كل لأنه لعمومه كالمعرفة. ثم يقال للإنسان. لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الأمر فَكَشَفْنا عَنْكَ بقطع العلائق الحسية ومفارقة النفس الناطقة غِطاءَكَ وهو الاشتغال بعالم المحسوسات فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ غير كليل متيقظ غير نائم. وقال ابن زيد:
الخطاب للنبي ﷺ كقوله ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: ٥٢] أي كنت
ثم ذكر كلاما آخر مستأنفا كأن سائلا سأل فماذا قال الله؟ فقيل: قالَ لا تَخْتَصِمُوا وهذا هو الذي دل على أن ثمة مقاولة من الكافر لكنها طويت لدلالة الاختصام عليها والمعنى لا تختصموا في موقف الحساب وَالحال أني قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ وفيه أن اختصامهم كان يجب أن يكون قبل ذلك في الدنيا كما قال إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦] والباء في بِالْوَعِيدِ إما مزيدة أو للتعدية على أن قدّم بمعنى تقدّم أو هو حال والمفعول جملة. قوله ما يُبَدَّلُ إلى آخره. أي قدّمت إليكم هذا الكلام مقرونا بالوعيد. قال في الكشاف: فإن قلت: إن قوله وَقَدْ قَدَّمْتُ حال من ضمير لا تَخْتَصِمُوا فاجتماعهما في زمان واحد واجب وليس كذلك لأن التقديم في الدنيا والاختصام في الآخرة. قلت: معناه لا تختصموا وقد صح عندكم أني قدّمت إليكم بالوعيد وصحة ذلك عندهم في الآخرة. وأقول: لا حاجة إلى هذا التكلف والسؤال ساقط بدونه لأن مضيّ الماضي ثابت في أيّ حال فرض بعده. وقوله لَدَيَّ إما أن يتعلق بالقول أي ما يبدّل القول الذي هو لديّ يعني ألقيا في جهنم، أو لأملأن جهنم، أو الحكم الأزلي
سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تقرير المعنى في النفس. وقوله هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي من زيادة، أو هو اسم مفعول كالمبيع لبيان استكثار الداخلين كما أن من يضرب غيره ضربا مبرحا أو شتمه شتما فاحشا يقول له المضروب: هل بقي شيء آخر يدل عليه قوله سبحانه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ فلا بدّ أن يحصل الامتلاء فكيف يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد؟ ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظا على العصاة وتضيقا للمكان عليهم، أو لعل هذا الكلام يقع قبل إدخال الكل. وفيه لطيفة وهي أن جهنم تغيظ على الكفار فتطلبهم، ثم يبقى فيها موضع لعصاة المسلمين فتطلب الامتلاء من الكفار كيلا ينقص إيمان العاصي حرها، فإذا أدخل العصاة النار سكن غيظها وسكن غضبها وعند هذا يصح ما ورد في الأخبار، وإن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار فيها قدمه والمؤمن جبار يتكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله. وروي أنه لا يلقى فيها فوج إلا ذهب ولا يملؤها شيء فتقول: قد أقسمت لتملأني فيضع تعالى فيها قدمه أي ما قدّمه في
قوله «سبقت رحمتي غضبي» «١»
أي يضع رحمته فتقول: قط قط ويزوي بعضها إلى بعض ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنون فضول الجنة. قلت: لا ريب أن جهنم الحرص والشهوة والغضب لا تقر ولا تسكن ولا تنتهي إلى حدّ معلوم، بل تقول دائما بلسان الحال هل من مزيد إلا أن يفيض الله سبحانه عليها من سجال هدايته ورحمته فيتنبه صاحبها وينتهي عن طلب الفضول ويقف في حدّ معين ويقنع بما تيسر، وكذا الترقي في مدارج الكمالات ليس ينتهي إلى حدّ معلوم إلا إذا استغرق في بحر العرفان وكان هنالك ما كان كما قال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي قربت للمتقين يحتمل أن تكون الواو للاستئناف وأن تكون للعطف على نَقُولُ والمضي لتحقيق الوقوع المستدعي لمزيد البشارة ولم يكن المنذرون مذكورين في الآية المتقدّمة فلم يحتج إلى تحقيق الإنذار. وقوله غَيْرَ بَعِيدٍ نصب على الظرف أي مكانا غير بعيد عنهم، أو على الحال. ووجه تذكيره مع
معناه التوكيد كما تقول هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل، وذلك أنه يجوز أن يتناول العزيز ذلّ ما من بعض الوجوه إلا أن الغالب عليه العز فإذا قيل عزيز غير ذليل أزيل ذلك الوهم، وهكذا في كل تأكيد. فمعنى الآية أن الجنة قريب منهم بكل الوجوه وجميع المقايسات. وقال آخرون: إنه صفة مصدر محذوف أي إزلافا غير بعيد عن قدرتنا، وذلك إن المكان لا يقرب وإنما يقرب منه فذكر الله سبحانه إن إزلاف المكان ليس ببعيد عن قدرتنا بطيّ المسافة وغير ذلك. ويحتمل أن يقال: الإزلاف بمعنى قرب الحصول كمن يطلب من الملك أمرا خطيرا فيقول الملك بعيد عن ذلك أو قريب منه، ولا ريب أن الجنة بعيدة الحصول للمكلف لولا فضل الله ورحمته ولهذا
قال ﷺ «ما من عبد يدخل الجنة إلا بفضل الله. فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» «١»
وقوله غَيْرَ بَعِيدٍ يراد به القرب المكاني كأنه تعالى ينقل الجنة من السماء إلى الأرض فيحصل فيها المؤمن. ومما سنح لهذا الضعيف وقت كتبه تفسير هذه الآية أن الشيء ربما يقرب من شخص ولكن لا يوهب منه، وقد يملكه ولكن لا يكون قريبا منه فذكر الله سبحانه في الآية إن الجنة تقرب لأجل المتقين غير بعيد الحصول لهم بل كما قربت دخلوها وحصلوا فيها لا كما قيل:
على أن قرب الدار ليس بنافع | إذا كان من تهواه ليس بذي ود |
ويروى أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور فتقول الحور: نحن المزيد الذي قال الله تعالى وَلَدَيْنا مَزِيدٌ.
ثم عاد إلى التهديد بوجه أجمل وأشمل قائلا وَكَمْ أَهْلَكْنا الآية. ومعنى الفاء في قوله فَنَقَّبُوا للتسبيب عما قبله من الموت كقوله «هو أقوى من زيد فغلبه» أي شدّة بطشم أقدرتهم على التنقيب وأورثتهم ذلك وساروا في أقطار الأرض وسألوا هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب من عذاب الله فعلموا أن لا مفر إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من أوّل السورة إلى هاهنا أو من حديث النار والجنة أو من إهلاك الأمم الخالية لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ واع فإن الغافل في حكم عديم القلب وإلقاء السمع الإصغاء إلى الكلام وفي قوله وَهُوَ شَهِيدٌ
هي الوتر بعد العشاء. ومن قرأ بكسر الهمزة أراد انقضاء الصلاة وإتمامها وهو مصدر وقع موقع الظرف أي وقت انقضاء السجود كقولك «آتيك خفوق النجم». قال أهل النظم: إن النبي ﷺ له شغلان: أحدهما عبادة الله، والثاني هداية الخلق. فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له: اصبر واقبل على شغلك الآخر وهو العبادة. ثم بين غاية التسبيح بقوله وَاسْتَمِعْ يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:
٩٩] ومفعول اسْتَمِعْ متروك أي كن مستمعا لما أخبرك به من أهوال القيامة ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين. قال جار الله: وفي ترك المفعول وتقديم الأمر بالاستماع تعظيم لشأن المخبر به والمحدّث عنه كما
روي أن النبي ﷺ قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل: يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك.
وانتصب يوم ينادي بما دل عليه ذلك يوم الخروج أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. والمنادي قيل الله كقوله وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: ٣٢] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢] والأظهر أنه إسرافيل صاحب الصيحة ينفخ في الصور فينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقيل: إسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر. والمكان القريب صخرة بيت المقدس. يقال إنها أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا. وقيل: من تحت أقدامهم.
وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية وهذا يؤيد القول بأن
تم الجزء السادس والعشرون ويليه الجزء السابع والعشرون أوله تفسير سورة الذاريات