تفسير سورة القلم

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة القلم من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته هاهنا، وقيل : المراد بقوله ﴿ ن ﴾ حوت عظيم وقيل : المراد بقوله ﴿ ن ﴾ لوح من نور، وقيل : المراد بقوله ﴿ ن ﴾ الدواة، ﴿ والقلم ﴾ القلم، روي عن الحسن وقتادة في قوله ﴿ ن ﴾ قالا : هي الدواة، وقوله تعالى :﴿ والقلم ﴾ الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله تعالى :﴿ الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [ العلق : ٤-٥ ] فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم، من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم، ولهذا قال :﴿ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ قال ابن عباس : يعني وما يكتبون، وقال أبو الضحى عنه ﴿ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ أي وما يعملون، وقال السدي ﴿ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد، وقال آخرون : بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر، حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرضن بخمسين ألف عام، روى ابن أبي حاتم عن الوليد بن عبادة بن الصامت قالت :« دعاني أبي حين حضره الموت، فقال : إني سمعت رسول الله ﷺ يقول :» إن أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب، قال : يا ربّ وما أكتب؟ قال اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد « وعن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله ﷺ قال :» إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء «. وقال مجاهد ﴿ والقلم ﴾ يعني الذي كتب الذكر، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ أي يكتبون كما تقدم.
وقوله تعالى :﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ أي لست ولله الحمد بمجنون، كما يقوله الجهلة من قومك، المكذبون بما جئتهم به من الهدى حيث نسبوك إلى الجنون، ﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي بل إن لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم، ومعنى ﴿ غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي غير مقطوع، كقوله :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] ﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي غير مقطوع عنهم، وقال مجاهد ﴿ غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ : أي غير محسوب، وهو يرجع إلى ما قلناه، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ قال ابن عباس : وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام، وقال عطية : لعلى أدب عظيم، وقال قتادة :»
ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله ﷺ فقالت : ألست تقرأ القرآن؟ قال : بلى، قالت : فإن خلق رسول الله ﷺ كان القرآن «، وورى الإمام أحمد عن الحسن قال :» سألت عائشة عن خلق رسول الله ﷺ فقالت : كان خلقه القرآن «
2591
، وقال ابن جرير، عن سعد بن هشام قال :« أتيت عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها فقلت لها : أخبريني بخلق النبي ﷺ، فقالت : كان خلقه القرآن، أما تقرأ :﴿ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ » ؟ ومعنى هذا أنه ﷺ صار امتثال القرآن سجية له وخلقاً، وترك ضبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل، كما ثبت في الصحيحين عن أنَس، قال :« خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي : أُفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلتُه لِمَ فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله أَلاَ فعلته؟ وكان ﷺ أحسن الناس خُلقاً ولا مست خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شممت مسكاً ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله ﷺ » وروى البخاري، « عن البراء قال : كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خَلقاً ليس بالطويل ولا بالقصير »، وروى الإمام أحمد، عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادماً قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلاّ أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين قط إلاّ كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثماً، فإذا كان إِثماً كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلاّ أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عزَّ وجلَّ.
وقوله تعالى :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ المفتون ﴾ أي فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك، من المفتون الضال منك ومنهم. وهذا كقوله تعالى :﴿ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ﴾ [ القمر : ٢٦ ]، قال ابن عباس في هذه الآية : ستعلم ويعلمون يوم القيامة، ﴿ بِأَييِّكُمُ المفتون ﴾ أي المجنون، وقال قتادة :﴿ بِأَييِّكُمُ المفتون ﴾ أي أولى بالشيطان، ومعنى المفتون ظاهر أي الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، وإنما دخلت الباء في قوله :﴿ بِأَييِّكُمُ ﴾ لتدل على تضمين الفعل في قوله ﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ﴾ وتقديره : فستعلم ويعلمون، أي فستخبر ويخبرون بأيكم المفتون، والله أعلم، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين ﴾ أي هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق.
2592
يقول تعالى : كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم، والخلق العظيم ﴿ فَلاَ تُطِعِ المكذبين * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ قال ابن عباس : لو ترخص لهم فيرخصون، وقال مجاهد : تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق، ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته، يجترىء على أسماء الله تعالى، باستعمالها في كل وقت في غير محلها، قال ابن عباس : المهين الكاذب، وقال الحسن :﴿ كُلَّ حَلاَّفٍ ﴾ مكابر ﴿ مَّهِينٍ ﴾ ضعيف، وقوله تعالى :﴿ هَمَّازٍ ﴾ يعني الاغتياب، ﴿ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم، وينقل ال حديث لفساد ذات البين وهي الحالقة، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال :« مرَّ رسول الله ﷺ بقبرين فقال :» إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة « » وعن همام بن الحارث قال :« مر رجل على حذيفة فقيل : إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول :» لا يدخل الجنة قتات « » وعن أبي وائل قال :« بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث فقال : سمعت رسول الله ﷺ قال :» لا يدخل الجنة نمام « »، وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن « أن النبي ﷺ قال :» ألا أخبركم بخياركم؟ « قالوا : بلى يا رسول الله، قال :» الذين إذا رؤوا ذكر الله عزَّ وجلَّ، ثم قال :« ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العَنَت » «.
وقوله تعالى :﴿ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي يمنع ما عليه وما لديه من الخير { مُعْتَدٍ ﴾ في تناول ما أحل الله له، يتجاوز فيها الحد المشروع، ﴿ أَثِيمٍ ﴾ أي تناول المحرمات، وقوله تعالى :﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ أما العتل فهو الفظ الغليظ، الجموع المنوع. روى الإمام أحمد، عن حارثة بن وهب قال، قال رسول الله ﷺ :»
ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر « وفي رواية :» كل جواظ جعظري مستكبر «، وفي أخرى لأحمد :» كل جعظري، جواظ مستكبر، جمّاع، منّاع « وفي الحديث :» تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا هضما، فكان للناس ظلوماً، فذلك العتل الزنيم «، فالعتل هو الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك، وأما الزنيم في لغة العب فهو الدعي في القوم، ومنه قول ( حسان بن ثابت ) يذم بعض كفّار قريش :
2593
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وقال ابن عباس في قوله ﴿ زَنِيمٍ ﴾ قال : الدعي الفاحش اللئيم : وأنشد :
زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع
والمراد به ( الأخنس بن شريق )، وقال مجاهد عن ابن عباس :﴿ الزنيم ﴾ الملحق النسب، وقال سعيد بن المسيب : هو الملصق بالقوم ليس منهم؛ وسئل عكرمة عن الزنيم فقال : هو ولد الزنا، وقال سعيد بن جبير : الزنيم الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها، والزنيم الملصق، وقال الضحاك : كانت له زنمة في أصل أذنة، ويقال : هو اللئم الملصق في النسب، والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر، الذي يعرف به من بين الناس وغالباً يكون دعياً ولد زنان، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره، وقوله تعالى :﴿ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ يقول تعالى هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله عزَّ وجلَّ وأعرض عنها، وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين، كقوله تعالى :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾ [ المدثر : ١١-١٦ ]. ﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم ﴾، قال ابن جرير : سنين أمره بياناً واضحاً، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم، كما لا نخفي عليهم السمة على الخراطيم، وقال قتادة :﴿ سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم ﴾ : شين لا يفارقه آخر ما عليه، وعنه : سما على أنفه، وقال ابن عباس : يقاتل يوم بدر فيخطم السيف في القتال، وقال آخرون :﴿ سَنَسِمُهُ ﴾ سمة أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم، ولا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة، وفي الحديث :« من مات همازاً لمازاً ملقباً للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين ».
2594
هذا مثل ضربه الله تعالى لكفّار قريش، فما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وهو بعثة محمد ﷺ إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ﴾ أي اختبرناهم ﴿ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة ﴾ وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكة، ﴿ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ أي حلفوا ليجذن ثمرها ليلاً، لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ولا يتصدقوا منه بشيء، ﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾ أي فيما حلفوا به، ﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ ﴾ أي أصابتها آفة سماوية، ﴿ فَأَصْبَحَتْ كالصريم ﴾ قال ابن عباس : أي كالليل الأسود، وقال السدي : مثل الزرع إذا حصد أي هشيماً يبساً، عن ابن مسعود قال، « قال رسول الله ﷺ :» إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيء له « ثم تلا رسول الله ﷺ :﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم ﴾ » قد حرموا خير جنتهم بذنبهم، ﴿ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ ﴾ أي وقت الصبح نادى بعضهم بعضاً ليذهبوا إلى ( الجذاذ ) أي القطع، ﴿ أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴾ أي تريدون الصرام، قال مجاهد : كان حرثهم عنباً، ﴿ فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ﴾ أي يتناجون فيما بينهم، بحيث لا يُسْمِعُون أحداً كلامهم، ثم فسر عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به، فقال تعالى :﴿ فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ ﴾ أي يقول بعضهم لبعض لا تمكنوا اليوم فقيراً يدخلها عليكم، قال تعالى :﴿ وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ ﴾ أي قوة وشدة، وقال مجاهد : على جد، وقال عكرمة : على غيظ، ﴿ قَادِرِينَ ﴾ أي عليها فيما يزعمون ويرومون، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ ﴾ أي فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها، وهي على الحالة التي قال الله عزَّ وجلَّ، قد استحالت عن تلك النضارة والزهوة وكثرة الثمار، إلى أن صارت سوداء مدلهمة لا ينتفع بشيء منها، فاعتقدوا أنهم قد أخطأوا الطريق، ولهذا قالوا :﴿ إِنَّا لَضَآلُّونَ ﴾ أي قد سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها، ثم تيقنوا أنها هي فقالوا ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ أي بل هي هذه، ولكن نحن لا حظ لنا ولا نصيب.
وقال تعالى :﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾، أي أعدلهم وخيرهم ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ ! قال مجاهد والسدي أي لولا تستثنون، وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحاً، وقال ابن جرير : هو قول القائل ( إن شاء الله )، وقيل :﴿ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ ﴾ أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع، ولهذا قالوا :﴿ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ ﴾ أي لوم بعضهم بعضاً، وعلى ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين، فما كان جواب بعضهم لبعض ألاّ الاعتراف بالخطيئة والذنب، ﴿ قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ﴾ أي اعتدينا وبغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا ﴿ عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ قيل : راغبون في بذلها لهم في الدنيا، وقيل : احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم.
2595
ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن، وقيل : كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكان يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما يستغل منها يرد فليها ما تحتاج إليه، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات وورثه بنوه قالوا : لقد كان أبونا أحمق، إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية ( رأس المال والربح الصدقة ) فلم يبق لهم شيء؛ قال الله تعالى ﴿ كَذَلِكَ العذاب ﴾ أي هكذا عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما أتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقير، وبدلّل نعمة الله كفراً، ﴿ وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ أي هذه عقوبة الدنيا وعذاب الآخرة أشق.
2596
لما ذكر حال أهل الجنة الدنيوية، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله عزَّ وجلَّ، بيّن أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم، التي لا تبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها، ثم قال تعالى :﴿ أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين ﴾ ؟ أي أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ورب الأرض والسماء، ولهذا قال :﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ ! أي كيف تظنون ذلك، ثم قال تعالى :﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ﴾ يقول تعالى أفبأيديكم كتاب منزل من السماء، تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه، بنقل الخلف عن السلف، متضمن حكماً مؤكداً كما تدعونه؟ ﴿ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴾ أي أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة؟ ﴿ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ﴾ أي أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون، ﴿ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾ أي قل لهم من هو المتضمن المتكفل بهذا! قال ابن عباس : أيهم بذلك كفيل ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ ﴾ أي من الأصنام والأنداد ﴿ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾.
لما ذكر تعالى أن للمتقين عند ربهم جنات النعيم، بين متى ذلك كائن وواقع فقال تعالى :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ يعني يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال، والبلاء والامتحان والأمور العظام، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي ﷺ يقول :« يكشف ربنا عن ساقه فيسجد، له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسد في الدنيا رياء وسمعه فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً » وقال ابن عباس : هو يوم القيامة يوم كرب وشدة. وعن ابن مسعود ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ قال : عن أمر عظيم كقول الشاعر :
شاتل الحرب عن ساق، ... وقال ابن جرير عن مجاهد :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ قال : شدة الأمر وجده، وقال ابن عباس قوله :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ هو الأمر الشديد الفظيع من الهول يوم القيامة، وقال العوفي، عن ابن عباس قوله :﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ يقول : حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة، وروي عن النبي ﷺ قال :« ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ يعني عننور عظيم يخرون له سجداً »، وقوله تعالى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ أي في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم، كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، إذا تجلى الرب عزَّ وجلَّ فيسجد له المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين أو المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهمه طبقاً واحداً، كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه، ثم قال تعالى :﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث ﴾ يعني القرآن، وهذا تهديد شديد أي دعني وإياه أنا أعلم كيف أستدرجه ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال تعالى :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، كما قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥٥٦ ]، ولهذا قال ههنا :﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ أي أوخرهم وأمدهم، وذلك من كيدي ومكري بهم، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ أي عظيم لمن خالف أمري، « وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي، وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال :» إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته «، ثم قرأ :﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ]. وقوله تعالى :﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾ ! المعنى أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك عند الله تعالى، وهم يكذبون بما جئتهم به، بمجرد الجهل والكفر والعناد.
يقول تعالى :﴿ فاصبر ﴾ يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم، فإن الله سيحكم لك ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، ﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت ﴾ يعني ذا النون وهو ( يونس بن متى ) عليه السلام حين ذهب مغاضباً على قومه، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر، والتقام الحوت له، وشرود الحوت في البحار، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير، فحنيئذٍ نادى في الظلمات :﴿ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ]، قال الله تعالى :﴿ فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين ﴾ [ الأنبياء : ٨٨ ]، وقال تعالى :﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [ الصافات : ١٤٣-١٤٤ ]، وقال هاهنا :﴿ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : وهو مغموم، وقال عطاء : مكروب، وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال ﴿ لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ] خرجت الكلمة تحنّ حول العرش، فقالت الملائكة : يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال الله تبارك وتعالى : أما تعرفون هذا؟ قالوا : لا، قال هذا يونس، قالوا : يا رب عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة، قال : نعم، قالوا : أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء، فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء، ولهذا قال الله تعالى :﴿ فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين ﴾، وقد قال رسول الله ﷺ :« لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى » وقوله تعالى :﴿ وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد ﴿ لَيُزْلِقُونَكَْ ﴾ لينفذوك ﴿ بِأَبْصَارِهِم ﴾ أي يحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق يأمر الله عزَّ وجلَّ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية، روى أبو داود عن أنَس قال، قال رسول الله ﷺ :« لا رقية إلاّ من عين أو حمة أو دم لا يرقأ » وروى ابن ماجه، عن بريدة بن الحصيب قال، قال رسول الله ﷺ :« لا رقية إلاّ من عين أو حمة » وروى مسلم في « صحيحه »، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال :« العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا » وعن ابن عباس قال :« كان رسول الله ﷺ يعوّذ الحسن والحسين يقول :» أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة « ويقول :» هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام « ».
2599
وروى الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله « أن رسول الله ﷺ اشتكى، فأتاه جبريل، فقال : باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين والله يشفيك، وقال رسول الله ﷺ :» إن العين حق « »، حديث أسماء بن عميس : قال الإمام أحمد، عن عبيد بن رفاعة الزرقي قال، قالت أسماء :« يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال :» نعم. فلو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين « » حديث عائشة رضي الله عنها : روى ابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله ﷺ أمرها أن تسترقي من العين » وعن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ :« استعيذوا بالله فإن النفس حق »، وقال أبو داود عن عائشة قالت :« كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل من العين » حديث سهل بن حنيف : قال الإمام أحمد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدّثه :« أن رسول الله ﷺ خرج وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من ( الجحفة ) اغتسل سهل بن الأحنف، كان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة أخو بني عندي بن كعب وهو يغتسل، فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل، فأتى رسول الله صلى الله عليه سلم، فقيل له : يا رسول الله هل لك في سهل؟ والله ما يرفع رأسه ولا يفيق، قال :» هل تتهمون فيه من أحد؟ « قالوا : نظر إليه عامر بن ربيعة، فدعا رسول الله ﷺ عامراً فتغيظ عليه، وقال :» علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت؟ - ثم قال - اغتسل له « فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبته وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صبَّ ذلك الماء عليه، فصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه، ثم يكفأ القدح وراءه ففعل ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس » حديث عبد الله بن عمرو : قال الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ﷺ :« لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد والعين حق » وقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ أي يزدرونه بأعينهم، ويؤذونه بألسنتهم، ويقولون ﴿ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ أي لمجيئه بالقرآن، قال الله تعالى :﴿ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾.
2600
Icon