مقصودها تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي معظمها الإنذار وأعظمه٢ الإعلام٣ بيوم الخروج بالدلالة على ذلك بعد الآيات المسموعة الغنية بإعجازها عن تأييد بالآيات المرئية الدالة قطعا على الإحاطة بجميع صفات الكمال، وأحسن من هذا أن يقال : مقصودها الدلالة على إحاطة القدرة التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات من إحاطة العلم٤ لبيان أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد، فتكتنف هذه الإحاطة بما يحصل من الفضل بين العباد بالعدل لأن ذلك هو سر الملك الذي هو سر الوجود وذلك هو نتيجة مقصود البقرة، والذي تكفل بالدلالة على هذا كله ما شوهد من إحاطة [ مجد-٥ ] القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جميع المعاني وعلو التراكيب وجلالة المفردات وتلازم الحروف وتناسب النظم ورشاقة الجمع وحلاوة التفصيل إلى حد لا تطيقه القوى، ومن إحاطة أوصاف الرسول الذي اختاره سبحانه لإبلاغ هذا الكتاب في الخلق، وما شوهد من إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآن من آيات٦ الإيجاد والإعدام، وعلى كل من الاحتمالين دل اسمها " ق " لما في آياته٧ من إثبات المجد بهذا الكتاب، والمجد هو الشرف والكرم٨ والرفعة والعلو، وذلك لا يكون إلا والآتي به كذلك، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به، وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك، أولا بمخرجها فإنه من أصل٩ اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى، فإن ذلك إشارة إلى أن مقصود السورة الأصل والعلو، وكل منها دال على الصدق دلالة قوية، فإن الأصل في وضع الخبر الصدق، ودلالته على الكذب وضعية لا عقلية، وهي أيضا محيطة باسمها أو مسماها بالمخارج الثلاث، والإحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو، وهو لا يكون إلا مع الصدق، ولإحاطتها سمى بها الجبل المحيط بالأرض، هذا بمخرجها، وأما صفتها فإنها عظيمة في ذلك فإن لها الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جدا، / وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد النخل، لما انفردت به عما شاركها من النبات بالإحاطة بالطول وكثرة المنافع، فإنها جامعة للتفكه بالقلب ثم الطلع ثم البسر ثم الرطب وبالاقتيات بالتمر وبالخشب والحطب والقطا والخوص النافع للافتراش والليف النافع للحبال، ودون ذلك وأعلاه من الخلال، هذا مع كثرة ملابسة العرب الذين هم أول مدعو بهذا الكتاب الذكر لها ومعرفتهم بخواصها، وأدل ما فيها الطول مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض والتمكن ما لغيرها، ومثل ذلك غير كاف في العادة في الإمساك عن السقوط وكثرة الحمل وعظم الأقناء وتناضد الثمر، ولذلك سميت سورة الباسقات لا النخل ﴿ بسم الله ﴾ الذي من إحاطة حمده بيانه ما لنبيه صلى الله عليه وسلم من إحاطة الحمد، ولقدرته سبحانه من الإحاطة التي ليس لها حد ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم خلقه برحمته حين أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم بشرائعه، فهو أصدق العباد، وأظهر بعظيم معجزاته أن قدرته ما لها من نفاد ﴿ الرحيم* ﴾ الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرغاد.
٢ من مد، وفي الأصل: معظمه..
٣ في مد: الإنذار..
٤ سقط من مد..
٥ زيد من مد..
٦ من مد، وفي الأصل: الآيات..
٧ في مد: آيته..
٨ من مد، وفي الأصل: الإكرام..
٩ ومن هنا إلى ما سننبه عليه ليست نسخة مد واضحة..
ﰡ
وقد قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في سر افتتاح المفصل بهذا الحرف فقال في آخر كتابه في هذا الحرف: اعلم أن القرآن منزل مثاني، ضمن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى آخر الكتاب العزيز وفاتحة ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص، ومتشابه الآيات، والسورة المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد، فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسيرة عدد الآي قصيرة مقدارها، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم
ولما كان جميع السور المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع، العاشر الجامع قواماً وإحاطة في جميع القرآن، ولذلك كانت سورة قاف وسورة ن قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة من القرآن الذين يجمعهم الأرض بما أحاط بظاهرها من صورة جبل قاف، وما أحاط بباطنها من صورة حيوان «نون» الذي تمام أمرهم بما بين مددي إقامتها ولهذا السورة المفتتحة بالحرف ظهر اختصاص القرآن وتميزه عن سائر الكتب لتضمنها الإحاطة التي لا تكون إلا بما للخاتم الجامع، واقترن بها من التفضيل في سورها ما يليق بإحاطتها، ولإحاطة معانيها
ولما أشار سبحانه إلى هذه الإحاطة بالقاف، أقسم على ذلك قسماً هو في نفسه دال عليه فقال: ﴿والقرآن﴾ أي الكتاب الجامع الفارق ﴿المجيد *﴾ الذي له العلو والشرف والكرم والعظمة على كل كلام، والجواب أنهم ليعلمون ما أشارت إليه القاف من قوتي وعظمتي وإحاطة علمي وقدرتي، وما اشتمل عليه القرآن من المجد بإعجازه واشتماله على جميع العظمة، ولم ينكروا شيئاً من ذلك بقلوبهم، ومجيد القرآن كما تقدم في أثناء الفاتحة ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم بعلم ما شهد، وكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي، وما شهد من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، وإذا تأملت السورة وجدت آيها المنزلة على جميع ذلك، فإنه سبحانه ذكرهم فيها ما يعلمون من خلق السماوات والأرض وما فيهما ومن مصارع الأولين وكذا السورة الماضية ولا سيما آخرها المشير إلى أنه أدخل على الناس الإيمان برجل واحد غلبهم بمجده وإعجازه لمجد منزله بقدرته وإحاطة علمه - والله الهادي، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل ما فيه مجد عند الله وعند الناس.
ولما كان هذا ظاهراً على ما هدى إليه السياق، بنى عليه قوله دلالة أخرى على شمول علمه: ﴿بل﴾ أي أن تكذيبهم ليس لإنكار شيء من مجده ولا لإنكار صدقك الذي هو من مجده بل لأنهم ﴿عجبوا﴾ أي الكفار، وأضمرهم قبل الذكر إشارة إلى أنه إذا ذكر شيئاً خارجاً عن سنن الاستقامة انصرف إليهم، والعجب من تغير النفس لأمر خارج عن العادة.
ولما كان المقام لتخويف من قدم بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو منّ عليه بالإسلام أو غيره، أو لتخويف من أنكر البعث، اقتصر على النذارة فقال: ﴿أن جاءهم منذر﴾ أنذرهم حق الإنذار من عذاب الله عند البعث الذي هو محط الحكمة، وعجب منهم هذا العجب بقوله: ﴿منهم﴾ لأن العادة عندهم وعند جميع الناس أنه إذا كان النذير منهم لم يداخلهم في إنذاره شك بوجه من الوجوه، وهؤلاء خالفوا عادة الناس في تعجبهم من كون النذير - وهو أحدهم -
ولما كان المتعجب منه مجملاً، أوضحه بقوله حكاية عنهم مبالغين في الإنكار، بافتتاح إنكارهم باستفهام إنكاري: ﴿إذا متنا﴾ ففارقت أرواحنا أشباحنا ﴿وكنا تراباً﴾ لا فرق بينه وبين تراب الأرض. ولما كان العامل في الظرف ما تقديره: نرجع؟ دل عليه بقوله والإشارة بأداة البعد إلى عظيم استبعادهم: ﴿ذلك﴾ أي الأمر الذي هو في تمييز ترابنا من بقية التراب في غاية البعد، وهو مضمون الخبر برجوعنا ﴿رجع﴾ أي رد إلى ما كنا عليه ﴿بعيد *﴾ جداً لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب. ولما كان السياق لإحاطة العلم بما نعلم وما لا نعلم، توقع السامع الجواب عن هذا الجهل، فقال مزيلاً لسببه، مفتتحاً بحرف التوقع: ﴿قد﴾ أي بل نحن على ذلك في غاية القدرة لأنا قد ﴿علمنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿ما تنقص الأرض منهم﴾ أي من أجزائهم المتخللة من أبدانهم بعد الموت وقبله، فإنه لو زاد الإنسان بكل طعام يأكله ولم ينقص صار كالجبل بل نحن دائماً في إيجاد وإعدام تلك الأجزاء، وذلك فرع العلم بها كل جزء في وقته الذي كان نقصه فيه قل ذلك الجزء أو جل، ولم يكن شيء من ذلك إلا بأعيينا
ولما كانت العادة جارية عند جميع الناس بأن ما كتب حفظ، أجرى الأمر على ما جرت به عوائدهم فقال مشيراً بنون العظمة إلى غناه عن الكتاب: ﴿وعندنا﴾ أي على ما لنا من الجلال الغني عن كل شيء ﴿كتاب﴾ أي جامع لكل شيء ﴿حفيظ *﴾ أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء دق أو جل، فكيف يستبعدون على عظمتنا أن لا نقدر على تمييز ترابهم من تراب الأرض ولم يختلط في علمنا شيء من جزء منه بشيء من جزء آخر فضلاً عن أن يختلط شيء منه بشيء آخر من تراب الأرض أو غيرها.
ولما كان التقدير: وهم لا ينكرون ذلك من عظمتنا لأنهم معترفون بأنا خلقنا السماوات والأرض وخلقناهم من تراب وإنا نحن ننزل الماء فينبت النبات، أضرب عنه بقوله: ﴿بل الذين كذبوا بالحق﴾ أي الأمر الثابت الذي لا أثبت منه ﴿لما﴾ أي حين ﴿جاءهم﴾ لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس وغلبهم من الهوى، حسداً منهم من غير تأمل لما قالوه ولا تدبر، ولا نظر فيه
ولما تسبب عن انتسابهم في هذا القول الواهي وارتهانهم في عهدته اضطرابهم في الرأي: هل يرجعون فينسبوا إلى الجهل والطيش والسفة والرعونة أم يدومون عليه فيؤدي ذلك مع كفرهم بالذي خلقهم إلى أعظم من ذلك من القتال والقتل، والنسبة إلى الطيش والجهل، قال معبراً عن هذا المعنى: ﴿فهم﴾ أي لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف ﴿في أمر مريج *﴾ أي مضطرب جداً مختلط، من المرج وهو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة، فهم تارة يقولون: سحر، وتارة كهانة، وتارة شعر، وتارة كذب، وتارة غير ذلك، والاضطراب موجب للاختلاف، وذلك أدل دليل على الإبطال كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق، وذلك أدل دليل على الحقية، قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم - وكذا قال قتادة، وزاد: والتبس عليهم دينهم.
ولما أخبرهم أنهم قالوا عن غير تأمل أنكر عليهم ذلك موبخاً لهم دالاًّ على صحة ما أنكروه وفساد إنكارهم بقوله، مسبباً عن عجلتهم إلى الباطل، ﴿أفلم ينظروا﴾ أي بعين البصر والبصيرة ﴿إلى السماء﴾ أي المحيط بهم وبالأرض التي هم عليها. ولما كان هذا اللفظ يطلق على كل ما علا من سقف وسحاب وغيره وإن كان ظاهراً في السقف المكوكب
فإن هذا الجرم الكبير لا يكفي فيه فرج واحد لمن يحتاج إلى الحركة، فنزل كلام العليم الخبير على مثل هذه المعاني، ولا يظن أنه غيرت فيه صنعة من الصنع لأجل الفاصلة فقط، فإن ذلك لا يكون إلا من محتاج، والله متعال عن ذلك، ويجوز - وهو أحسن - أن يراد بالفروج قابلية الإنبات لتكون - مثل الأرض - يتخللها المياه فيمتد فيها عروق الأشجار والنبات وتظهر منها، وأن يراد بها الخلل كقوله تعالى ﴿ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور﴾ [الملك: ٣] أي خلل واختلاف وفساد، وهو لا ينفي الأبواب والمصاعد - والله أعلم.
ولما كان سكانها لا غنى لهم عن الرزق، قال ممتناً عليهم: ﴿وأنبتنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿فيها﴾ وعظم قدرتها بالتبعيض فقال: ﴿من كل زوج﴾ أي صنف من النبات تزاوجه أشكاله بأرزاقكم كلها ﴿بهيج *﴾ أي هو في غاية الرونق والإعجاب، فكان - مع كونه رزقاً - متنزهاً.
ولما ذكر هذه الصنائع الباهرة، عللها بقوله: ﴿تبصرة﴾ أي جعلنا هذه الأشياء كلها، أي لأجل أن تنظروها بأبصاركم، ثم تتفكروا ببصائركم، فتعبروا منها إلى صانعها، فتعلموا ما له من العظمة ﴿وذكرى﴾ أي ولتتذكروا بها تذكراً عظيماً، بما لكم من القوى والقدر فتعلموا
ولما كان من لا ينتفع بالشيء كأنه عادم لذلك الشيء، قصر الأمر على المنتفع فقال: ﴿لكل عبد﴾ يتذكر بما له من النقص وبما دل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه. ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يزال كلما أعلاه عقله أسفله طبعه، فكان ربما ظن أنه لا يقبل إذا رجع، رغبة في الرجوع بقوله: ﴿منيب *﴾ أي رجاع عما حطه عنه طبعه إلى ما يعليه إليه عقله، فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود هذه الصفات إلى علم الذات.
ولما كان إنزال الماء أبهر الآيات وأدلها على أنه أجلّ من أن يقال: إنه داخل العالم أو خارجه، أو متصل به أو منفصل عنه، مع أن به تكوّن النبات وحصول الأقوات وبه حياة كل شيء، أفرده تنبيهاً على ذلك فقال: ﴿ونزلنا﴾ أي شيئاً فشيئاً في أوقات على سبيل التقاطر وبما يناسب عظمتنا التي لا تضاهى بغيب، بما له من النقل والنبوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المفقرة وعادت المنفعة مضرة ﴿من السماء﴾ أي المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر ﴿ماء مباركاً﴾ أي نافعاً جداً ثابتاً لا خيالاً محيطاً
ولما كان الماء سبباً في تكون الأشياء، وكان ذلك سبباً في انعقاده حتى يصير خشباً وحباً وعنباً، وغير ذلك عجباً، قال: ﴿فأنبتنا﴾ معبراً بنون العظمة ﴿به جنات﴾ من الثمر والشجر والزرع وغيره مما تجمعه البساتين فتجنّ - أي تستر - الداخل فيها. ولما كان القصب الذي يحصد فيكون حبه قوتاً للحيوان وساقه للبهائم، خصه بقوله: ﴿وحب الحصيد﴾ أي النجم الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير ونحوهما، وأومأ بالتقييد إلى أن هذه الحبوب أشرف من حب اللآلىء الذي ينبته الله من المطر لأنها لقيام النبتة؟ وتلك للزينة، ولما كان النخل من أعجبه ما يتكون منه مع ما له من المنافع التي لا يساويه فيها شجر، والطباق للرزع بالطول والقصر والاتساق بالاقتيات للآدميين والبهائم، قال: ﴿والنخل باسقات﴾ أي عاليات طويلات على جميع الأشجار المثمرة ذوات أثمار طيبة ﴿لها﴾ مع يبس ساقها ﴿طلع نضيد *﴾ أي مصفوف متراكم بعضه فوق بعض، وهو حشو طلعه، والطلع ذلك الخارج من أعلى النخلة كأنه فعلان مطبقان، والحمل النضيد بينهما، والطرف محدد، أو الطلع ما يبدو من ثمر النخل أول ظهورها، وذلك القشر يسمى الكفرى لتعطيته إياه على أحكم مما يكون وأوثق، والطلع يشبه ما للناقة المبسق من اللبا المتكون في ضرعها
ولما ذكر سبحانه بعض ما له في الماء من العظمة، ذكر له علة هي غاية في المنة على الخلق فقال: ﴿رزقاً للعباد﴾ أي أنبتنا به ذلك لأجل أنه بعض ما جعلناه رزقهم.
ولما كان ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث ولجميع صفات الكمال، أتبعه ما له من التذكير بالبعث بخصوصه فقال: ﴿وأحيينا به﴾ أي الماء بعظمتنا ﴿بلدة﴾ وسمها بالتاء إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى الثبات والخلو عنه، وذكر قوله: ﴿ميتاً﴾ للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها. ولما كان هذا خاصة من أوضح أدلة البعث، قال على سبيل النتيجة: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الإخراج العظيم ﴿الخروج *﴾ الذي هو لعظمته كأنه مختص بهذا المعنى، وهو بعث الموتى من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا، لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم في الأرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأخضره وأزرقه إلى غير ذلك، وبين إخراج
ولما لم تكن لهم شهرة يعرفون بها قال: ﴿قوم نوح﴾ وأشار
ولما كان هلاك المؤتفكات جامعاً في الشبهة بهلاك جميع من تقدم بالخسف وغمرة الماء بعد القلب في الهواء، أتبعهم بهم معبراً عنهم بأخصر من تسميه قبائلهم أو مدنهم لأنها عدة مدن، وعبر بالأخوة دون القوم لأن السياق لتكذيب من هو منهم لأنه أدخل في التسلية فقال: ﴿وإخوان لوط *﴾ أي أصهاره الذين جبروا بينهم وبينه مع المصاهرة بالمناصرة لملوكهم ورعاياهم على من ناواهم بنفسه وعمه إبراهيم عليهما السلام كما مضى بيانه في البقرة ما صار كالأخوة، ومع ذلك عاملوه بما اشتق من لفظ هذا الجمع من الجناية له ولأنفسهم وغيرهم.
ولما كان الشجر مظنة الهواء البارد والروح، وكان أصحابه قد عذبوا بضد ذلك قال: ﴿وأصحاب الأيكة﴾ لمشاركتهم لهم في العذاب بالنار، وأولئك بحجارة الكبريت النازلة من العلو وهؤلاء بالنار النازلة من ظلمة السحاب، وعبر عنهم بالواحدة والمراد الغيضة إشارة إلى أنها
ولما لم يكن هنا ما يقتضي التأكيد مما مر بيانه في ص قال معرياً منه: ﴿كل﴾ أي من هذه الفرق ﴿كذب الرسل﴾ أي كلهم بتكذيب رسولهم، فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار العجز والدعاء إلى الله ﴿فحقَّ﴾ فتسبب عن تكذيبهم لهم أنه ثبت عليهم ووجب ﴿وعيد﴾ أي أي الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه، فعجلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عاماً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى البعث، بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلَّ بإخوانك المرسلين وتأسَّ بهم، ولتحذر قومك ما حل بمن كذبهم إن أصروا.
ولما ذكر سبحانه التسلية بتكذيب هذه الأحزاب بعد ذكر
ولما كان التقدير قطعاً بما دلت عليه همزة الإنكار: لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه، وفي طيه الاعتراف
ولما كان العالم بالشيء كلما كان قريباً منه كان علمه به أثبت وأمكن، قال ممثلاً لعلمه ومصوراً له بما نعلم أنه موجبه: ﴿ونحن﴾ بما لنا من العظمة ﴿أقرب إليه﴾ قرب علم وشهود من غير مسافة ﴿من حبل الوريد *﴾ لأن أبعاضه وأجزاءه تحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله شيء، والمراد به الجنس، والوريدان عرقان كالحبلين مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلات من الرأس إلى الوتين وهو عرق القلب، وهذا مثل في فرط القرب، وإضافته مثل مسجد الجامع، وقد مضى في تفسير سورة المائدة عند قوله ﴿والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧] ما ينفع هنا، قال القشيري: وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.
ولما كانت الأفعال اللسانية والقلبية والبدنية ناشئة عن كلام النفس، فكان الكلام جامعاً، قال مبيناً لإحاطة علمه بإحاطة من أقامه لحفظ هذا الخلق الجامع في جواب من كأنه قال: ما يفعل المتلقيان: ﴿ما يلفظ﴾ أي يرمي ويخرج المكلف من فيه، وعم في النفي بقوله: ﴿من قول﴾ أي مما تقدم النهي عنه في الحجرات من الغيبة وما قبلها وغير ذلك قل أو جل ﴿إلا لديه﴾ أي الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة هي من أغرب المستغرب ﴿رقيب﴾ من حفظتنا شديد المراعاة له في كل من أحواله ﴿عتيد *﴾ أي حاضر مراقب غير غافل بوجه، روى البغوي بسنده من طريق الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كاتب الحسنات على يمين
ولما كان مثل إرسال الخافقين ثم الموت ثم النفخ بإرسال الملك في الدنيا إلى الناس لعرضهم فيصير الإنسان منهم ساعياً في التزين للملك بما يعجبه في مقصود ذلك العرض في الأجل الذي ضربه لهم، فإذا جاء ذلك الوقت الذي هو كالموت أخذته الرسل فباءوا به كما يفعل حال الموت بالميت ومن أحضروه منهم حبسوه على باب الملك لتكامل المعروضين، فإذا كمل جمعهم وأمر بقيامهم للعرض زعق لهم المنادي بالبوق الذي يسمى النفير وهو كالصور، فلهذا قال تعالى مبيناً لإحاطة قدرته بجميع خلقه عاطفاً على ما تقديره: فاضطرب ذلك الإنسان الموكل به في الوقت المأمور بالتردد فيه بما يرضي الله بالقول والفعل على حسب إرادته سبحانه سواء كان موافقاً للأمر أو مخالفاً إلى أن أوان الرحيل معبراً بالماضي تنبيهاً على أن الموت مع أنه لا بد منه قريب جداً: ﴿وجاءت﴾ أي أتت وحضرت ﴿سكرة الموت﴾ أي حالته عند النزع وشدته وغمرته، يصير الميت بها كالسكران، لا يعي وتخرج بها أحواله وأفعاله وأقواله عن قانون الاعتدال، ومجيئاً متلبساً
ولما كانت نفرته منه وهربه من وقوعه بحفظ الصحة ودواء الأداء في الغاية، كان كأنه لا ينفر إلا منه، فأشار إلى ذلك بتقديم الجارّ فقال: ﴿منه تحيد *﴾ أي تميل وتنفر وتروع وتهرب.
ولما كان ذلك الأثر عن النفس هو سر الوجود، وأشار إلى عظمته بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الوقت الكبير العظيم الأهوال والزلازل والأوجال ﴿يوم الوعيد *﴾ أي الذي يقع فيه ما وقع الإيعاد به.
ولما كان التقدير: فكان من تلك النفخة صيحة هائلة ورجة شاملة، فقال الناس عامة من قبورهم، وحصل ما في صدورهم، عطف عليه قوله بياناً لإحاطة العرض: ﴿وجاءت كل نفس﴾ أي مكلفة كائناً ﴿معها سائق﴾ يسوقها إلى ماهي كارهة للغاية لعلمه بما قدمت من النقائص ﴿وشهيد *﴾ يشهد عليها بما عملت، والظاهر من هذا أن السائق لا تعلق له بالشهادة أصلاً، لئلا تقول تلك النفس: إنه خصم، والخصم لا تقبل شهادته، ويقال حينئذ للمفرط في الأعمال في أسلوب التأكيد جرياً على ما كان يستحقه إنكاره في الدنيا، وتنبيهاً على أنه لعظمه مما يحق تأكيده: ﴿لقد كنت﴾ أي كوناً كأنه جبلة لك ﴿في غفلة﴾ أي عظيمة محيطة بك ناشئة لك ﴿من هذا﴾ أي من تصور هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب، والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدة جلائه خفي على من اتبع الشهوات ﴿فكشفنا﴾ بعظمتنا بالموت ثم بالعبث ﴿عنك غطاءك﴾ الذي كان
ولما تسبب عن هذا الكشف الانكشاف التام، عبر عنه بقوله: ﴿فبصرك اليوم﴾ أي بعد البعث ﴿حديد *﴾ أي في غاية الحدة والنفوذ، فلذا تقر بما كنت تنكر.
ولما أخبر أخبر تعالى بما تقوله له الملائكة أو من أراد من جنوده، وكان قد أخبر أن معبوداتهم من الأصنام والشياطين وغيرها تكون عليهم يوم القيامة ضداً، أخبر بما يقول القرين من السائق والشهيد والشيطان الذي تقدم حديثه في الزخرف، فقال عاطفاً على القول المقدر قبل «لقد» معبراً بصيغة المضي تأكيداً لمضمونه وتحقيقاً: ﴿وقال قرينه﴾ أي الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد.
نقله الكرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿هذا﴾ أي الإنسان الذي قرنتني به. ولما كان الأمر في كل من الطائع والعاصي في غاية العجب، لأن الطائع ينابذ هواه فيكون ملكياً مجرداً من حظوظه ونوازع نفوسه وما بنيت عليه من النقائص والشهوات، والعاصي طوع
ولما كانت العادة جارية بأن من أحضر إليه شيء تبادر إلى أمهر بقوله أو فعل، وصل بذلك ما هو نتيجته، وبدأ بالعاصي لأن المقام له، فقال ما يدل على أنه لا وزن له، فلا وقفة في عذابه بحسابه ولا غيره، مؤكداً خطاباً للمؤكد بالإلقاء أو خطاباً للسائق والشهيد، أو السائق وحده مثنياً لضميره تثنية للأمر كأنه قال: ألق ألق - تأكيداً له وتهويلاً: ﴿ألقيا﴾ أي اطرحا دفعاً من غير شفقة، وقيل: بل هو تثنية وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما يكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبه، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلاً: يا صاحبيّ يا خليليّ، والسر فيه إذا كان المخاطب واحداً إفهامه أنه يراد منه الفعل بجد عظيم تكون قوته
ولما كان ربما تعنت متعنت فنزل الآية على من يدعو الله بغير هذا الاسم الأعظم، صرح بالمراد بقوله: ﴿آخر﴾ وزاد الكلام أنه مأخوذ
ولما كان هذا قد جحد الحق الواجب لله لذاته مع قطع النظر عن كل شيء ثم ما يجب له من جهة ربوبيته وإنعامه على كل موجود، ثم من جهة إدامة إحسانه مع المعصية بالحلم، وعاند في ذلك وفي إثباته للغير ما لا يصح له بوجه من الوجوه، سبب عن وصفه قوله: ﴿فألقياه في العذاب﴾ أي الذي يزيل كل عذوبة ﴿الشديد *﴾.
ولما كان كأنه قيل: بم يجاب عن هذا؟ وهل يقبل منه؟ قيل: لا ﴿قال﴾ أي الملك المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم في الأزل: ﴿لا تختصموا﴾ أي لا توقعوا الخصومة بهذا الجد والاجتهاد ﴿لديَّ﴾ أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير، وأعجب بما يدرك حق الإدراك، فقد أتم انكشاف ما كان يستغربه الخاصة بل خاصة الخاصة، ففات بانكشافها نفع إيمان جديد ﴿وقد﴾ أي والحال أنه قد ﴿قدمت﴾ أي تقدمت، أي أمرت وأوصيت قبل هذا الوقت موصلاً ومنهياً ﴿إليكم﴾ أي كل ما ينبغي تقديمه حتى لم يبق لبس ولا تركت لأحد حجة بوجه، وجعلت ذلك رفقاً بكم ملتبساً ﴿بالوعيد *﴾ أي التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفران والعدوان في الوقت الذي كانت فيه هذه الحضرة التي هي غيب الغيب ومستورة بستائر الكبرياء والعظمة وبل كان ما دونها من الغيب مستوراً، فكان الإيمان به نافعاً.
ولما كانت الأوقات كلها عنده سبحانه حاضرة، عبر سبحانه في تعليل ذلك ب «ما» التي للحاضر دون «لا» التي للمستقبل فقال: ﴿ما يبدل﴾ أي يغير من مغير ما كان من كان بوجه من الوجوه بحيث يجعل
ولما كان هذا التقاول مما يهول أمره ويقلع القلوب ذكره، صور وقته بصورة تزيد في ذلك الهول، وينقطع دون وصفها القول، ولا يطمع في الخلاص منها بقوة ولا حول، فقال ما معناه: يكون هذا كله ﴿يوم﴾ ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله: ﴿نقول﴾ أي على ما لنا من العظمة التي لا يسوغ لشيء أن يخفى عنها ﴿لجهنم﴾ دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به، وتقريع الكفار، وتنبيه من يسمع
ولما ذكر النار وقدمها لأن المقام للإنذار، أتبعها دار الأبرار، فقال ساراً لهم بإسقاط مؤنة السير وطيّ شقة البعد: ﴿وأزلفت﴾ أي قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة ﴿الجنة للمتقين﴾ أي العريقين في هذا الوصف، فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه من
ولما كان القرب أمراً نسبياً أكده بقوله: ﴿غير بعيد *﴾ أي إزلافاً لا يصح وصفه ببعد.
ولما كان التقريب قد لا يدري الناظر ما سببه، قال ساراً لهم: ﴿هذا﴾ أي الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم ﴿ما﴾ أي الأمر الذي ﴿توعدون﴾ أي وقع الوعد لكم به في الدنيا، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية، وعبر عن الإزلاف بالماضي تحقيقاً لأمره وتصويراً لحضوره الآن ليكون المضارع من الوعد في أحكم مواضعه، وأبهم الأمر لأنه أكثر تشويقاً، والتعيين بعد الإبهام ألذ، فلذلك قال بياناً للمتقين، معيداً للجار لما وقع بينه وبين المبدل منه من الجملة الاعتراضية جواباً لمن كأنه قال: لمن هذا الوعد؟ فقال تعالى: ﴿لكل أواب﴾ أي رجاع إلى الاستقامة بتقوى القلب إن حصل في ظاهره عوج، فنبه بذلك على أنه من فضله لم يشترط في صحة وصفه بالتقوى دوام الاستقامة ﴿حفيظ﴾ أي مبالغ في حفظ الحدود وسار العهود بدوام الاستقامة والرجوع بعد الزلة، ثم أبدل من «كل» تتميماً لبيان المتقين قوله: ﴿من خشي﴾ ولم يعد الجارّ لأنه لا اعتراض قبله كالأول، ونبه على كثرة خشيته بقوله: ﴿الرحمن﴾ لأنه إذا خاف مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى، وقال القشيري: التعبير بذلك
ولما كان النافع من الطاعة الدائم إلى الموت، قال: ﴿وجاء﴾ أي بعد الموت ﴿بقلب منيب *﴾ أي راجع إلى الله تعالى بوازع العلم، ولم يقل: بنفس، لطفاً بالعصاة لأنهم وإن قصرت نفوسهم لم يكن لها صدق القدم فلهم الأسف بقلوبهم، وصدق الندم.
ولما ذكر سبحانه أول السورة تكذيبهم بالقدرة على اعترافهم بما يكذبهم في ذلك التكذيب، ثم سلى وهدد بتكذيب الأمم السابقة، وذكر قدرته عليهم، وأتبعه الدلالة على كمال قدرته إلى أن ختم بالإشارة إلى أن قدرته لا نهاية لها، ولا تحصر بحدّ ولا تحصى بعدّ، رداً على أهل العناد وبدعة الاتحاد في قولهم «ليس في الإمكان أبدع مما كان» عطف على ما قدرته بعد ﴿فحق وعيد﴾ من إهلاك تلك الأمم مما هو أعم منه بشموله جميع الزمان الماضي وأدل على شمول القدرة، فقال: ﴿وكم أهلكنا﴾ أي بما لنا من العظمة. ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال: ﴿قبلهم﴾ وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله: ﴿من قرن﴾ أي جيل هم في غاية القوة، وزاد في بيان القوة فقال:
ولما كان التقدير: ولم يسلموا مع كثربة تنقيبهم وشدته من إهلاكنا بغوائل الزمان ونوازل الحدثان، توجه سؤال كل سامع على ما في ذلك من العجائب والشدة والهول والمخاوف سؤال تنبيه للذاهل الغافل، وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل، بقوله: ﴿هل من محيص *﴾ أي معدل ومحيد ومهرب وإن دق، من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا.
ولما ذكرنا هنا من المواعظ ما أرقص الجماد، فكيف بمن يدعي أنه من رؤوس النقاد، أنتج قوله مؤكداً لأجل إنكار الجاحد وعناد المعاند:
ولما كان قد بدأ بالناظر لأنه أولى بالاعتبار وأقرب إلى الادكار، ثنى بمن نقلت إليه الأخبار فقال: ﴿أو ألقى﴾ أي إلقاء عظيماً بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل ﴿السمع﴾ أي الكامل الذي قد جرده عن الشواغل من الحظوظ وغيرها إذا سمع ما غاب عنه ﴿وهو﴾ أي والحال أنه في حال إلقائه ﴿شهيد *﴾ أي حاضر بكليته، فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر، فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه، فيتذكر بما ذكرناه به عن قدرتنا من الجزئيات ما أنتجه من القدرة على كل شيء، ورأى مجد القرآن فعلم أنه كلام الله فسمعه منه فصدق الرسول، وقبل كل ما يخبر به، ومن سمع شيئاً ولم يحضر له ذهنه فهو غائب، فالأول العالم بالقوة وهو المجبول
ولما دل سبحانه على شمول العلم وإحاطة القدرة، وكشف فيهما الأمر أتم كشف، كان علم الحبيب القادر بما يفعل العدو أعظم نذارة للعدو وبشارة للولي، سبب عن ذلك قوله: ﴿فاصبر على ما﴾ أي جميع الذي ﴿يقولون﴾ أي الكفرة وغيرهم. ولما كانت أقوالهم لا تليق بالجناب الأقدس، أمر سبحانه بما يفيد أن ذلك بإرادته وأنه موجب لتنزيهه، وكماله، لأنه قهر قائله على قوله، ولو كان الأمر بإرادة ذلك القائل استقلالاً لكان ذلك في غاية البعد عنه، لأنه موجب للهلاك، فقال: ﴿وسبح﴾ أي أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص متلبساً ﴿بحمد ربك﴾ أي بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها تفضيلاً لك على جميع الخلق في جميع ما ﴿قبل طلوع الشمس﴾ بصلاة الصبح، وما يليق به من التسبيح غيرها ﴿وقبل الغروب﴾ بصلاة العصر والظهر كذلك فالعصر أصل لذلك الوقت والظهر تبع لها.
ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود لأنه وقت الانتشار
ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها، أتبعها النوافل المقيدة بها فقال: ﴿وأدبار السجود *﴾ أي الذي هو أكل بابه وهو صلاة الفرض بما يصلى بعدها من الرواتب والتسبيح بالقول أيضاً، قال الرازي: واعلم أن ثواب الكلمات بقدرة صدورها عن جنان المعرفة والحكمة وأن تكون عين قلبه تدور دوران لسانه ويلاحظ حقائقها ومعانيها، فالتسبيح تنزيه من كل ما يتصور في الوهم أو يرتسم في الخيال أو ينطبع في الحواس أو يدور في الهواجس، والحمد يكشف عن المنة وصنع الصنائع وأنه المتفرد بالنعم. انتهى. ومعناه أن هذا الحمد هو الحقيقة، فإذا انطبقت في الجنان قامت باللسان، وتصورت بالأركان، وحمل على الصلاة لأنها أفضل العبادات، وهي جامعة بما فيها من الأقوال والأفعال لوجهي الذكر: التنزيه والتحميد، وهاتان الصلاتان المصدر بهما أفضل الصلوات فهما أعظم ما وقع
ولما سلاه سبحانه عما يسمع منهم من التكذيب وغيره من الأذى بالإقبال على عليّ حضرته والانتظار لنصرته، أتبعه تعزية الإشارة فيها أظهر بما صوره يوم مصيبتهم وقربه حتى أنه يسمع في وقت نزول هذه الآية ما فيه لهم من المثلات وقوارع المصيبات، تحذيراً لهم وبشرى لأوليائه بتمام تأييده عليهم ونصره لهم في الدنيا والآخرة فقال: ﴿واستمع﴾ أي اسمع بتعمدك للسمع بغاية جهدك بإصغاء سمعك وإقبال قلبك بعد تسبيحك بالحمد ما يقال لهم ﴿يوم يناد المناد﴾ لهم في الدنيا يوم بدر أول الأيام التي أظهر الله فيها لأوليائه مجده بالانتقام من أعدائه، وفي الآخرة يوم القيامة في صورة النفخة الثانية وما بعده.
ولما كان المراد إظهار العظمة بتصوير تمام القدرة، وكان ذلك يتحقق بإسماع البعيد من محل المنادي كما يسمع القريب سواء، وكان القرب ملزوماً للسماع، قال مصوراً لذلك: ﴿من مكان﴾ هو صخرة بيت المقدس ﴿قريب﴾ أي يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب، يكونون في البقاع سواء لا تفاوت بينهم أصلاً.
ولما عظم هذا المقام بما كساه من ثوب الإجمال أبدل منه إيضاحاً
ولما عظمه سبحانه باجمال بعد إجمال، إشارة إلى أن ما فيه من شديد الأهوال، يطول شرحه بالمقال، زاده تعظيماً بما أنتجه الكلام فقال: ﴿ذلك﴾ أي اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين المجد ﴿يوم الخروج﴾ أي الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من بيوتهم في الدنيا إلى مصارعهم ببدر، ومن قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى مقامعهم في النار.
ولما بنيت دعائم القدرة ودقت بشائر النصرة وختم بما يصدق على البعث الذي هو الإحياء الأعظم دالاً بما هو مشاهد من أفعاله، وأكده لإنكارهم البعث، فقال: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿نحن﴾ خاصة ﴿نحيي ونميت﴾ تجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرة وعادة مستمرة كما تشاهدونه، فقد كان منا بالإحياء الأول البدء ﴿وإلينا﴾ خاصاً بالإماتة ثم الإحياء ﴿المصير *﴾ أي الصيرورة ومكانها وزمانها بأن نحيي جميع من أمتناه يوم البعث ونحشرهم إلى محل الفصل، فنحكم
ولما أقام سبحانه الأدلة على تمام قدرته وشمول علمه وختم بسهولته عليه واختصاصه به، وصل تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتهديدهم على تكذيبهم بالعلم الذي هو أعظم التهديد فقال: ﴿نحن﴾ أي لا غيرنا ولا هم أنفسهم ﴿أعلم﴾ أي من كل من يتوهم فيه العلم ﴿بما يقولون﴾ أي في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره مع إقرارهم بقدرتنا.
ولما كان التقدير: فنحن قادرون على ردهم عنه بما لنا من العلم المحيط وأنت لهم منذير تنذرهم وبال ذلك، عطف عليه قوله: ﴿وما أنت عليهم﴾