تفسير سورة سورة ق من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
ﰡ
﴿ ق ﴾ من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. وقيل : اسم من أسمائه تعالى أقسم به. أو اسم من أسماء القرآن. أو اسم للسورة. ﴿ والقرآن المجيد ﴾ أي أقسم بالقرآن المجيد إنا أنزلناه إليك لتنذر به الناس. وحذف جواب القسم للدلالة عليه بقوله : " بل جاءهم منذر منهم ". و " المجيد " : الكريم على الله، الكثير الخير. فكل من طلب منه مقصودا وجده فيه، وكل من لاذ به استغنى به ن غيره ؛ وإغناء
المحتاج غاية الكرم. مأخوذ من المجد، وهو السعة في الكرم. وأصله من مجدت الإبل وأمجدت إذا وقعت في مرعى كثير واسع.
﴿ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ﴾ يخوفهم بالقرآن عذاب اليوم الآخر إذا أصروا على كفرهم. وهو إضراب عما يدل عليه جواب القسم ؛ أي فلم يؤمنوا بل قابلوا المنذر والمنذر به بالإنكار والتعجب :﴿ فقال الكافرون هذا شيء عجيب ﴾ أي البعث الذي أنذر به محمد، أمر يتعجب منه.
ثم قرروا التعجب بقولهم :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا ﴾ أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما يقول ! ؟ { ذلك رجع بعيد أي البعث بعد الموت رجع بعيد عن الأفهام أو العادة، أو الإمكان. يقال : رجعته أرجعه رجعا. ورجع هو يرجع رجوعا.
﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ﴾ أي ما تأكل الأرض من أجسادهم بعد الموت ؛ فكيف يستبعدون أن نرجعهم أحياء كما كانوا ؟ ﴿ وعندنا كتاب حفيظ ﴾ أي وعندنا ما علمنا بذلك كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، كلياتها وجزيئاتها. ومنها أجزاؤهم وعددهم وأسماؤهم وأعمالهم. وهو تأكيد لعلمه تعالى بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه.
﴿ بل كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾ أي بل جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو تكذيبهم بالنبوة الثابتة بالمعجزات الظاهرة ؛ من غير تفكر وتدبر – المستلزم لتكذيب أنباء البعث والتوحيد وغيرهما. ﴿ فهم في أمر مريج ﴾ مختلط أو فاسد، أو قلق مضطرب. يزعمون مرة أن النبي لا يكون بشرا، وأخرى أن الأحق بالنبوة أهل الجاه والثراء. ويزعمون مرة أن النبوة سحر، وأخرى أنها كهانة. ويستبعدون البعث، ويتعجبون منه مرة، ويجحدونه أخرى ؛ فأي اضطراب أشنع من هذا ! ؟ يقال : مرج الدين والأمر – من باب طرب – اختلط. ومرجت أمانات الناس : فسدت. ومرج الخاتم في أصبعه : إذا قلق من الهزال.
﴿ أفلم ينظروا... ﴾ شروع في بيان بعض أدلة القدرة التامة على البعث، ردا لاستبعادهم إياه. وهو سبعة أدلة ؛ أي أغفلوا أو أعموا فلم ينظروا – حين أنكروا البعث – على السماء فوقهم كيف
أحكمنا بناءها، ورفعناها بغير عمد، وزيناها بالكواكب. ﴿ وما لها من فروج ﴾ شقوق وفتوق وصدوع. جمع فر، وهو الشق بين الشيئين. والمراد : سلامتها من كل عيب وخلل.
﴿ والأرض مددناها ﴾ بسطناها في رأى العين. وهذا لا ينافي كرويتها لمكان عظمها ؛ كما أسلفنا مرارا. ﴿ وألقينا فيها رواسي ﴾ جبالا ثوابت تمنعها من الميدان والاضطراب ؛ جمع راسية. ﴿ وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ﴾ من كل نوع من النبات حسن يسر الناظرين ؛ من البهجة وهي الحسن. يقال : بهج – كظرف – فهو بهيج ؛ أي حسن.
﴿ لكل عبد منيب ﴾ راجع إلى ربه بالتدبر في بدائع صنعته، ودلائل قدرته.
﴿ ماء مباركا ﴾ كثير المنافع. ﴿ وحب الحصيد ﴾ أي حب النبات الذي من شأنه أن يحصد كالقمح والشعير ؛ والإضافة لأدنى ملابسة، وخص بالذكر لأنه المقصود بالذات.
﴿ والنخل باسقات ﴾ وأنبتنا به النخل طوالا ؛ من البسوق وهو الطول. يقال : بسق فلان على أصحابه – من باب دخل – علاهم وطال عليهم في الفضل. والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ويجمع. وخص بالذكر لمزيد فضله وكثرة منافعه. ﴿ لها طلع ﴾ أي للنخل الباسقات طلع وهو الكفرى قبل أن ينبسق. ﴿ نضيد ﴾ منضود، أي متراكب بعضه فوق بعض، من نضد المتاع ينضده : إذا وضع بعضه فوق بعض، كنضده. والمراد : كثرة ما فيه من مادة الثمر.
﴿ وأحيينا به بلدة ميتا ﴾ أرضا جدبة لا نماء فيها. وتذكير " ميتا " لكون بمعنى المكان. ﴿ كذلك الخروج ﴾ أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور.
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح... ﴾ بيان لكون البعث مما أجمع الرسل على حقيته. وتهديد
لكفار مكة. وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن شأنه مع قومه في ذلك شأن الرسل السابقين مع أقوامهم ؛ والعاقبة للصابرين. ﴿ وأصحاب الرس ﴾ البئر التي كانوا مقيمين حولها [ آية ٣٨ الفرقان ص ٩٩ ].
﴿ وأصحاب الأيكة ﴾ قوم شعيب عيه السلام [ آية ١٧٦ الشعراء ص ١١٤ ]. ﴿ وقوم تبع ﴾ باليمن [ آية ٣٧ الدخان ص ٣٠٩ ]. ﴿ كل كذب الرسل فحق وعيد ﴾ أي فوجب ونزل بهم وعيدي، وهو كلمة العذاب.
﴿ أفعيينا بالخلق الأول ﴾ تقرير لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة. أي أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة ! أي لم نعى له ولم نعجز عنه ؛ من عيي بالأمر ؛ إذا عجز عنه وانقطعت حيلته فيه، ولم يهتد لوجه مراده [ آية ٣٣ الأحقاف ص ٣٢٤ ]. ﴿ بل هم في لبس ﴾ أي هم مقرون بأنا خلقنا الخلق الأول، فكيف ينكرون قدرتنا على إعادته ! بل هم في خلط وشبهة﴿ من خلق جديد ﴾ مستأنف لما فيه من مخالفة العادة. يقال : لبس عليه الأمر – من باب ضرب – خلطه. وألبسه : غطاه.
﴿ ما توسوس به نفسه ﴾ أي ما تحدثه به وتخطره بباله. والوسوسة : الصوت الخفي. ﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ أي ونحن بعلمنا به وبأحواله كلها أقرب إليه من أقرب شيء إليه، وهو عرق الوريد الذي في باطن عنقه. وهو مثل في فرط القرب. والحبل : العرق فالمراد القرب بالعلم لا القرب في المكان لاستحالتة عليه تعالى.
﴿ إذ يتلقى المتلقيان ﴾ أي يكتب الملكان في صحيفتي حسناته وسيئاته ما يعمله. ﴿ عن اليمين ﴾ قعيد﴿ وعن الشمال قعيد ﴾. فأحدهما عن يمينه لكتابة الحسنات، والآخر عن شماله لكتابة السيئات.
﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه ﴾ ملك﴿ رقيب ﴾ حافظ يكتب قوله﴿ عتيد ﴾ معد مهيأ لذلك حاضر عنده لا يفرقه. والمراد
به : الإثنان المتلقيان ؛ وأن كلا منهما رقيب عتيد. يقال : عتد الشيء – ككرم – عتادة وعتادا، حضر ؛ فهو عتد وعتيد. ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال : أعتده صاحبه وعتده : إذا عده وهيأه.
﴿ وجاءت سكرة الموت ﴾ شدته وكربه﴿ بالحق ﴾ بحقيقة الأمر من سعادة الميت وشقاوته أو بنفس الموت، وهو الأمر الذي لا بد أن يكون لكل حي. ﴿ ذلك ما كنت منه تحيد ﴾ أي الموت هو ما كنت منه أيها الإنسان تهرب وتفر في حياتك فلم ينفعك منه الهرب والفرار. يقال : حاد عن الشيء، يحيد حيدة وحيودا، تنحى عنه وبعد.
﴿ وجاءت كل نفس ﴾ برة أو فاجرة ﴿ معها سائق ﴾ ملك يسوقها إلى المحشر. ﴿ وشهيدا ﴾ ملك يشهد عليها بعملها.
ثم يقال للكافر إذا عاين ما لم يكن يصدق به في الدنيا لغفلته :﴿ لقد كنت في غفلة من هذا ﴾ الذي تعاينه. ﴿ فكشفنا عنك غطاءك ﴾ فأنزلنا عنك الغفلة التي كانت تحجبك عن أمور المعاد. ﴿ فبصرك اليوم حديد ﴾ نافذ قوي تبصر به ما كنت تجحده في الدنيا. يقال : هو حديد النظر وحديد الفهم، إذا كان نافذا.
﴿ وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ﴾ أي قال شيطانه المقيض له في الدنيا : هذا – أي الكافر – الذي عندي وفي ملكتي مهيأ لجهنم بإغوائي وإضلالي. أو قال الملك الموكل بكتابة السيئات : هذا الذي في صحيفته من السيئات مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض ؛
فيقال للملكين من خزنة النار، أو للسائق والشهيد :﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾ إطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر، شديد في العناد وإباء الانقياد للحق.
﴿ قال قرينه ﴾ أي الشيطان ؛ ردا لقوله ربنا أطغاني شيطاني. ﴿ ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ﴾ فأعنته عليه بالإغواء والتزيين من غير قسر له ولا إلجاء.
﴿ وقد قدمت إليكم بالوعيد ﴾ على الكافر في دار العمل في كتبي وعلى ألسنة رسلي ؛ فلا تطمعوا في الخلاص مما أنتم فيه بالمعاذير الباطلة.
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ إذا آخذهم بما قدموا، وأعاقبهم بما أسلفوا ؛ فعذابهم عدل لا شائبة للظلم فيه.
﴿ وأزلفت الجنة للمتقين... ﴾ أدنيت وقربت للذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه في مكان غير بعيد منهم. يقال : أزلفه، إذا قربه ؛ ومنه الزلفة والزلفى، بمعنى القربة والمنزلة.
﴿ ولكل أواب حفيظ ﴾ لكل رجاع إلى الله حافظ لحدوده ؛ بدل من " المتقين ".
﴿ بقلب منيب ﴾ راجع إلى الله تعالى مخلص في طاعته.
﴿ من قرن ﴾ قوم و " من " زائدة. ﴿ هم أشد منهم بطشا ﴾ قوة. أو أخذا شديدا في كل شيء ؛ كعاد وقوم فرعون. والبطش : السطوة، أو الأخذ بالعنف. ﴿ فنقبوا في البلاد ﴾ طوفوا فيها وساورا في نقوبها طلبا للهرب ؛ فلم يسلموا من الهلاك. يقال : نقب في الأرض، ذهب ؛ كأنقب ونقب. وأصل النقب : الخرق والدخول في الشيء ؛ ومنه نقب الجدار. وجمعه نقوب. ﴿ هل من محيص ﴾ معدل ومهرب منه. يقال : حاص يحيص حيصا ومحيصا، عدل وحاد.
﴿ ولقد خلقنا السموات... ﴾ أي خلقنا السموات في يومين، والأرض في يومين، ومنافعها في
يومين. ولو شاء الله لخلق الكل في أقل من لمح البصر ؛ ولكنه تعالى من فضله علمنا بذلك التأني في الأمور. ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ تعب وإعياء. مصدر لغب – من باب دخل – أي أعيا. وهو رد على اليهود في قولهم : إن الله استراح يوم السبت.
﴿ وسبح ﴾ أي نزه ربك عما لا يليق به. أو صلّ له تعالى﴿ قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ وهما وقتا الفجر والعصر.
﴿ وأبار السجود ﴾ أي وسبحه أعقاب الصلوات، وهو ما ورد في حديث ( من سبح لله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين ؛ فذلك تسعة وتسعون، وتمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ). وقيل التسبيح " أدبار السجود " : النوافل بعد المكتوبات.
﴿ يوم يسمعون الصيحة بالحق ﴾ أي يسمعون النفخة الثانية متلبسا بالحق، وهو البعث والنشور.
﴿ ذلك يوم الخروج ﴾ من القبور.
﴿ يوم تشقق الأرض عنهم... ﴾ أي يخرجون يوم تنفلق عنهم الأرض سراعا إلى المحشر.
﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾ أي بمسلط عليهم تجبرهم على الإسلام ؛ وهو كقوله تعالى : " لست عليهم بمسيطر " . و " جبار " صيغة مبالغة ؛ من جبر الثلاثي. يقال : جبره على الأمر، أي قهره عليه كأجبره. والله أعلم.