روى العوفي وغيره عن ابن عباس أنها مكية، وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ. . . ﴾ الآية [ ق : ٣٨ ].
ﰡ
ويقال لها: سورة الباسقات. روى العوفيّ وغيره عن ابن عباس أنها مكّيّة، وكذلك قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آية مدنيّة، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ... الآية «١».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)
قوله تعالى: ق قرأ الجمهور بإسكان الفاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «قافَ» بنصب الفاء. وقرأ أبو رزين، وقتادة: «قافُ» برفع الفاء. وقرأ الحسن، وأبو عمران: «قافِ» بكسر الفاء. وفي «ق» خمسة أقوال «٢» : أحدها: أنه قسم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه جبل من زَبَرْجَدة خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: خلق الله جبلا يقال له: «ق» محيط بالعالم،
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٢٦٠: «ق» : حرف من حروف الهجاء التي تقدم ذكرها في أوائل السور بما أغنى عن إعادته. وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق: جبل محيط بجميع الأرض يقال له قاف وكأن هذا. والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما لا يصدّق ولا يكذّب. وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم كما افترى على هذه الأمة- مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم- وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى، وقلّة الحفّاظ النقّاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله:
«وحدّثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل. فأما ما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل، والله أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة.
قُلنا لها قِفِي فقالتْ قافْ
معناه: أقف، فاكتفت بالقاف من «أقف»، حكاه جماعة منهم الزجاج. والرابع: قف عند أمرنا ونهينا، ولا تَعْدُهُما، قاله أبو بكر الورّاق. والخامس: قُلْ يا محمد، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قال ابن عباس، وابن جبير: المَجيد: الكريم. وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال: أحدها: أنه مُضمر، تقديره: لَيُبْعَثُنَّ بَعْدَ الموت. قاله الفراء، وابن قتيبة، ويدُلُّ عليه قولُ الكفار: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. والثاني: أنه قوله: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، فيكون المعنى:
قاف والقرآنِ المجيدِ لقد عَلِمْنا، فحُذفت اللاّمُ لأنّ ما قبْلَها عِوَضٌ منها، كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها...
قَدْ أَفْلَحَ «١» أي: لقد أفلح، أجاز هذا القول الزجاج. والثالث: أنه قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ «٢»، حكي عن الأخفش. والرابع: أنه في سورة أُخرى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، ولم يبيِّن في أي سورة.
قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا مفسَّر في «ص» «٣» إلى قوله: شَيْءٌ عَجِيبٌ أي: معجب. أَإِذا مِتْنا قال الأخفش: هذا الكلام على جواب، كأنه قيل لهم: إنّكم ترجعون، فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره: تقدير الكلام: ق والقرآن ليبعثنّ، فقال: أإذا متنا وكنا تراباً والمعنى: أنُبْعَث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير: لمّا تعجَّبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلم فقالوا: هذا شيء عجيب، كان كأنه قال لهم: ستعلمون إذا بُعثتم ما يكون حالُكم في تكذيبكم محمّدا، فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا؟! قوله تعالى: ذلِكَ رَجْعٌ أي: ردٌّ إلى الحياة بَعِيدٌ قال ابن قتيبة: أيْ لا يكون. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا، يعني أن ذلك لا يَعْزُب عن عِلْمه وَعِنْدَنا مع عِلْمنا بذلك كِتابٌ حَفِيظٌ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولِما تَنْقُص الأرضُ منهم، وهو اللوح المحفوظ قد أُثبت فيه ما يكون. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ وهو القرآن. والمَريج: المختلِط، قال ابن قتيبة: يقال مَرِج أمرُ الناس، ومَرِج الدِّينُ، وأصل هذا أن يَقْلَق الشيء ولا يستقر، يقال: مَرِج الخاتم في يدي: إذا قلق للهُزَال. قال المفسرون: ومعنى اختلاط أمرهم: أنهم كانوا يقولون للنبيّ صلّى الله عليه وسلم مَرَّة ساحر، ومرة شاعر، ومرة مُعَلمَّ، ويقولون للقرآن مرة سحر، ومرة مُفْتَرى، ومرة رَجَز، فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٦ الى ١٥]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
(٢) ق: ١٨.
(٣) ص: ٤.
الحَسَن، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: البهيج: الذي يُبْتَهَج به.
قوله تعالى: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قال الزجاج: أي: فَعَلنا ذلك لِنُبَصِّر ونَدُلَّ على القُدرة. والمُنيب: الذي يَرْجِع إلى الله ويفكِّر في قُدرته.
قوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماء وهو المطر مُبارَكاً أي: كثير الخير، فيه حياة كل شيء فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وهي البساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ أراد: الحَبَّ الحَصيدَ، فأضافه إلى نفسه، كقوله:
لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «١» وقوله: مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «٢» فالحَبْلُ هو الوَريد، وكما يقال: صلاةُ الأُولى، يراد:
الصلاةُ الأُولى، ويقال: مسجدُ الجامع، يراد: المسجدُ الجامعُ، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة. وقال غيرهما: أراد حَبَّ النّبتِ الحَصيدِ.
وَالنَّخْلَ أي: وأنْبَتْنا النخل باسِقاتٍ و «بُسوقها» : طُولها قال ابن قتيبة: يقال: بَسقَ الشيءُ يَبْسُقُ بُسوقاً: إذا طال، والنَّضيد: المنضود بعضُه فوق بعض، وذلك قبل أن يتفتَّح، فاذا انشقَّ جُفُّ طلْعه وتفرَّق فليس بنضيدٍ. قوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبادِ أي: أنْبَتْنا هذه الأشياء للرِّزق وَأَحْيَيْنا بِهِ أي:
بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ من القُبور.
ثم ذكر الأُمم المكذِّبة بما بعد هذا، وقد سبق بيانه إلى قوله: فَحَقَّ وَعِيدِ أي: وجب عليهم عذابي. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ هذا جواب لقولهم: ذلك رَجْعٌ بَعيدٌ. والمعنى: أعَجَزْنا عن ابتداء الخَلْق، وهو الخَلْق الأَوَّل، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا أنه الخالق وأنكروا البعث بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي في شَكٍّ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو البعث.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
(٢) ق: ١٦.
عِرْقٌ بين الحُلْقوم والعِلْباوَيْن. وعنه أيضاً قال: عرق بين اللَّبَّة والعِلْباوَيْن. وقال الزجاج: الوريد: عِرْق في باطن العُنُق، وهما وريدان، والعِلْباوَان: العَصَبتان الصَّفراوان في مَتْن العُنُق، واللَّبَّتان: مَجرى القُرط في العُنُق. وقال ابن الأنباري: اللَّبَّة حيث يتذبذب القُرْط مِمّا يَقْرُبُ من شحمة الأُذن. وحكى بعض العلماء أن الوريد: عِرْقٌ متفرِّق في البدن مُخالِط لجميع الأعضاء، فلمّا كانت أبعاض الإِنسان يحجب بعضُها بعضاً، أَعْلَمَ أن عِلْمه لا يحجُبه شيءٌ. والمعنى: ونحن أقربُ إليه حين يَتلقَّى المتُلقِّيان، وهما الملَكان الموكَّلان بابن آدم يتلقيَّانِ عمله. وقوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي: يأخُذان ذلك ويُثْبِتانه عَنِ الْيَمِينِ كاتب الحسنات وَعَنِ الشِّمالِ كاتب السَّيِّئات. قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قَعيد، وعن الشِّمال قَعيد، فدلَّ أحدُهما على الآخر، فحذف المدلولُ عليه، قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنت بما عندك | رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ |
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي | بَريئاً، ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي «٢» |
قوله تعالى: ما يَلْفِظُ يعني الانسان، أي: ما يتكلَّم من كلام فيَلْفِظُه، أي يَرميه من فمه، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي: حافظ، وهو الملَك الموكَّل به، إِمّا صاحب اليمين، وإِمّا صاحب الشمال عَتِيدٌ قال الزجاج: العَتيد: الثّابِت اللاّزم. وقال غيره: العَتيد: الحاضر معه أينما كان.
(١٣٣٩) وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كاتب الحسنات على يمين الرّجل، وكاتب
وأخرجه البيهقي في «الشعب» ٧٠٥٠ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ١٦٥- ١٦٦ من طريقين عن إسماعيل بن عيسى العطار عن المسيب بن شريك عن بشر بن نمير عن القاسم به دون صدره، وإسماعيل ضعيف ومثله القاسم. وورد بلفظ «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتب واحدة». أخرجه البيهقي ٧٠٥١ وأبو نعيم ٦/ ١٢٤ والواحدي ٤/ ١٦٥ والطبراني ٧٧٦٥ من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن عروة بن رويم عن القاسم به.
وإسناده ضعيف، وعلته القاسم، وكذا إسماعيل ضعفه غير واحد مطلقا. وضعفه بعضهم في روايته خاصة عن-
__________
(١) ق: ٩. [.....]
(٢) البيت لعمرو بن أحمر، أو للأزرق بن طرفة وهو في «الكتاب» ١/ ٣٨٠ و «اللسان» - حول.
والثاني: أنهما لا يكتبان إلاّ ما يؤجَر عليه أو يُوزَر، قاله عكرمة. فأمّا مجلسهما فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة.
(١٣٤٠) وقد روى عليّ كرّم الله وجهه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك، ولسانُك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك»، وروي عن الحسن والضحاك قالا:
مجلسهما تحت الشعر على الحنك.
قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وهي غَمرتُه وشِدَّتُه التي تَغشى الإِنسان وتَغْلِب على عقله وتدُلُّه على أنه ميت بِالْحَقِّ وفيه وجهان: أحدهما: أن معناه: جاءت بحقيقة الموت. والثاني: بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للانسان ما لم يكن بيَّنّا له من أمر الآخرة. ذكر الوجهين الفراء، وابن جرير.
وقرأ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه: «وجاءت سَكْرةُ الحق بالموت»، قال ابن جرير: ولهذه القراءة وجهان. أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سَكْرة الله بالموت. والثاني:
أن تكون السَّكْرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كقوله: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «٢»، فيكون المعنى:
وجاءت السَّكْرة الحَقُّ بالموت، بتقديم «الحَقّ». وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: «وجاءت سكرات»
ضعيف جدا. أخرجه الثعلبي من رواية جميل بن الحسن عن أرطأة بن الأشعث العدوي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مقعد مليكك... » فذكره. كذا قاله الحافظ في تخريج الكشاف ٤/ ٣٨٤ وسكت عليه. وإسناده ضعيف جدا فيه جميل بن الحسن جرحه عبدان، ووثقه ابن حبان، وفيه أرطأة بن أشعث قال عنه في «الميزان» هالك. وهاه ابن حبان. ثم ذكر الذهبي له خبرا غير هذا وقال: هو المتهم به، ثم هو منقطع بين علي ومحمد الباقر. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٦٣١ بتخريجنا، ولله الحمد والمنة.
__________
(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢٦٣: وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام؟ أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب؟ وظاهر الآية الأول، لعموم قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
(٢) الواقعة: ٩٥.
أي ذلك الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تهرُب وتفِرّ. وقال ابن عباس: تَكره. قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم وقوع الوعيد. قوله تعالى: مَعَها سائِقٌ فيه قولان: أحدهما: أن السائق ملَك يسوقها إلى مَحْشَرها، قاله أبو هريرة: والثاني: أنه قرينها من الشياطين، سمِّي سائقا لأنه يتبَعها وإِن لم يَحثَّها. وفي (الشهيد) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ملَك يَشهد عليها بعملها، قاله عثمان بن عفان والحسن. وقال مجاهد: الملَكان سائق وشهيد. وقال ابن السائب:
السائق الذي كان يكتب عليه السَّيَِئات، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات. والثاني: أنه العمل يَشهد على الإنسان، قاله أبو هريرة. والثالث: الأيدي والأرجل تَشهد عليه بعمله، قاله الضحاك. وهل هذه الآيات عامّة، أم خاصَّة؟ فيها قولان: أحدهما: أنها عامة، قاله الجمهور. والثاني: خاصة في الكافر، قاله الضحاك ومقاتل.
قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ أي: ويقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، وفي المخاطَب بهذه الآيات ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكافر، قاله ابن عباس، وصالح بن كيسان في آخرين. والثاني: أنه عامّ في البَرِّ والفاجر، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، واختاره ابن جرير. والثالث: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن زيد. فعلى القول الأول يكون المعنى: لقد كنتَ في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به وعلى الثاني: كنتَ غافلاً عن أهوال القيامة فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك. وقيل معناه: أريناك ما كان مستوراً عنك وعلى الثالث: لقد كنتَ قبل الوحي في غفلة عمّا أُوحي إِليك، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وفي المراد بالبصر قولان: أحدهما: البصر المعروف، قاله الضحاك. والثاني: العِلمْ، قاله الزجاج. وفي قوله: «اليومَ» قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الأكثرون. والثاني: أنه في الدنيا، وهذا على قول ابن زيد. فأمّا قوله: «حديدٌ» فقال ابن قتيبة: الحديد بمعنى الحادّ. أي: فأنت ثاقب البصر. ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فبصرك حديدٌ إلى لسان الميزان حين تُوزَن حسناتُك وسيِّئاتُك، قاله مجاهد. والثاني: أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الأخرة، قاله مقاتل. والثالث: أنه العلم النّافذ، قاله الزّجّاج.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٩]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
قوله تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ قال مقاتل: هو ملكه الذي كان يكتب عمله السّيئ في دار الدنيا، يقول لربِّه: قد كتبتُ ما وكَّلْتَني به، فهذا عندي مُعَدٌّ حاضرٌ من عمله الخبيث، فقد أتيتُك به وبعمله. وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «من» قاله مجاهد. والثاني: أنها بمعنى الشيء، فتقديره: هذا شيء لديَّ عتيدٌ، قاله الزجاج. وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السّورة «١»، فيقول الله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ.
والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين، فيقولون للرجُل: ويلك ارحلاها وازجُراها، سمعتها من العرب، وأنشدني بعضهم:
فقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تَحْبِسانا | بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ شِيحا «١» |
فإن تزجراني يا ابن عَفَّان أَنْزَجِرْ | وإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّّعا |
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمِّ جُنْدَبٍ | نُقَضِّي لبانات الفؤاد المعذّب «٢» |
ألم تر أنّي كُلمَّا جِئْتُ طارِقاً | وَجَدْتُ بها طِيباً وإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ |
و «العنيد» قد فسرناه في هود «٣».
قوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الزكاة المفروضة، قاله قتادة. والثاني: أنه الإسلام، يمنع الناس من الدُّخول فيه، قاله الضحاك، ومقاتل، وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، منع بني أخيه عن الإسلام. والثالث: أنه عامٌّ في كل خير من قول أو فعل، حكاه الماوردي. قوله تعالى: مُعْتَدٍ أي: ظالم لا يُقِرُّ بالتوحيد مُرِيبٍ أي: شاكّ في الحق، من قولهم:
أرابَ الرجُلُ: إذا صار ذا رَيْب. قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ فيه قولان: أحدهما: شيطانه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور. وفي الكلام اختصار تقديره: إن الإنسان ادّعى على قرينه من الشياطين أنه أضلَّه فقال: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي لم يكن لي قُوَّة على إضلاله بالإكراه، وإنما طغى هو بضلاله. والثاني:
أنه الملَك الذي كان يكتُب السَّيِّئات. ثم فيما يدَّعيه الكافرُ على الملَك قولان: أحدهما: أنه يقول: زاد عليَّ فيما كتب، فيقول الملَك: ما أطغيتُه، أي ما زدتُ عليه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أنه يقول:
كان يُعْجِلني عن التَّوبة، فيقول: ربَّنا ما أطغيتُه، هذا قول الفراء.
قوله تعالى: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: بعيد من الهدى، فيقول الله تعالى:
واجتزّ: قطع، والشيح: نبت سهلي من الفصيلة المركبة وهو كثير الأنواع ترعاه الماشية.
(٢) في «المعجم الوسيط» اللبان: جمع اللبانة: الحاجة من غير فاقة ولكن من نهمة.
(٣) هود: ٥٩.
قوله تعالى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي: قد أخبرتُكم على ألسُن الرُّسل بعذابي في الآخرة لمن كفر. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فيه قولان: أحدهما: ما يبدَّل القول فيما وعدتُه من ثواب وعقاب، قاله الأكثرون. والثاني: ما يُكذَّب عندي ولا يغيَّر القول عن جهته، لأنِّي أعْلَمُ الغيب وأعْلَمُ كيف ضلُّوا وكيف أضللتموهم، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة، ويدل عليه أنه قال تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ولم يقل: ما يُبَدَّل قولي وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأَزيدَ على إساءة المُسيء، أو أنقص من إحسان المحسن.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٠ الى ٤٠]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر وحمزة، والكسائي: «يومَ نقول» بالنون المفتوحة وضم القاف. وقرأ نافع، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: «يومَ يقول» بالياء المفتوحة وضم القاف. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «يومَ يُقال» بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف. قال الزجاج: وانتصاب «يومَ» على وجهين، أحدهما: على معنى: ما يُبدَّل القولُ لديَّ في ذلك اليوم. والثاني: على معنى: وأَنْذِرْهم يومَ نقولُ لجهنم.
فأمّا فائدة سؤاله إيّاها، وقد عَلِم هل امتلأتْ أم لا، فإنه توبيخ لمن أُدْخِلها، وزيادة في مكروهه، ودليل على تصديق قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «١».
وفي قولها: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قولان عند أهل اللغة: أحدهما: أنها تقول ذلك بعد امتلائها، فالمعنى: هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلئ؟ أي: قد امتلأتُ. والثاني: أنها تقول تغيُّظاً على من عصى اللهَ تعالى، وجَعَلَ اللهُ فيها أن تميِّز وتخاطِب، كما جَعَلَ في النّملة أن قالت: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «٢»، وفي المخلوقات أن تسبِّح بحمده.
قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ اي قًُرِّبَتْ للمُتَّقين الشركَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي جُعلتْ عن يمين العرش حيث يراها أهلُ الموقف، ويقال لهم: هذا الذي ترونه ما تُوعَدُونَ، وقرأ عثمان بن
(٢) النمل: ١٨.
قوله تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ قد بيَّنّاه في (الأنبياء) «٢» وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي: راجع إلى طاعة الله عن معصيته. ادْخُلُوها أي: يقال لهم: أُدخلوا الجنة بِسَلامٍ وذلك أنهم سَلِموا من عذاب الله، وسلموا فيها من الغُموم والتغيُّر والزَّوال، وسلَّم اللهُ وملائكتُه عليهم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنة، لأنه لا موت فيها ولا زوال. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وذلك أنهم يَسألون الله حتى تنتهي مسائلُهم، فيُعْطَوْن ما شاؤوا، ثم يَزيدُهم ما لم يَسألوا، فذلك قوله: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال:
(١٣٤١) أحدها: أنه النّظر إلى الله عزّ وجلّ روى عليّ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في قوله: «ولدينا مَزيدٌ» قال: «يتجلَّى لهم». وقال أنس بن مالك في قوله: «ولدينا مزيد» : يتجلَّى لهم الرب تعالى في كل جمعة.
(١٣٤٢) والثاني: أن السحاب يَمُرَّ بأهل الجنة، فيمطرهم الحورَ، فتقول الحور: نحن اللواتي قال الله عزّ وجل: «ولدينا مزيد»، حكاه الزجاج.
والثالث: أن الزِّيادة على ما تمنَّوه وسألوا ممّا لم تسمع به أذن ولم يخطُر على قلب بشر، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
ثم خوَّف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ قرأ الجمهور «فنَقَّبوا» بفتح النون والقاف مع تشديدها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن عباس، والحسن، وابن السميفع، ويحيى بن يعمر كذلك، إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهدُّداً. وقرأ عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن أبي عبلة، وعبيد عن أبي عمرو: «فنَقَبوا» بفتح القاف وتخفيفها. قال الفراء: ومعنى «فنقَّبوا» : ساروا في البلاد، فهل كان لهم من الموت مِنْ مَحِيصٍ فأُضمرت «كان» هاهنا، كقوله:
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «٣» أي: فلم يكن لهم ناصر. ومن قرأ «فنَقِّبوا» بكسر القاف، فإنه كالوعيد والمعنى: اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت مِن مَحيص؟! وقال الزجاج: «نَقِّبوا» : طوِّقوا وفتِّشوا، فلم تَرَوا مَحيصاً من الموت. قال امرؤ القيس:
لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى... رَضِيتُ مِنَ الغنيمة بالإياب
لم أره بهذا اللفظ، وصدره ليس له أصل، وأما عجزه فقد ورد مرفوعا بسند ضعيف. أخرجه أبو يعلى ١٣٨٦ وأحمد ٣/ ٧٥ كلاهما عن أبي سعيد مرفوعا: «إن الرجل ليتكئ في الجنة مسيرة سبعين سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبيه ويسألها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد... » حسنه الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٤١٩ والسيوطي في «الدر» ٦/ ١٢٧ مع أنّ فيه ابن لهيعة ضعيف، وشيخه درّاج في روايته عن أبي الهيثم ضعيف وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٦٤٥ بتخريجنا.
__________
(١) الإسراء: ٢٥.
(٢) الأنبياء: ٤٩.
(٣) محمد: ١٣.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكره من إهلاك القرى لَذِكْرى أي: تذكرة وعِظَة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ قال ابن عباس: أي: عقل. قال الفراء: وهذا جائز في اللغة أن تقول: ما لَكَ قلب، وما معك قَلبُك، تريد العقل. وقال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعاً للعقل كنى به عنه. وقال الزجاج:
المعنى: لمن صرف قلبه إلى التفهُّم أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: استَمَع مِنِّي وَهُوَ شَهِيدٌ أي: وقَلْبُه فيما يسمع. وقال الفراء: «وهو شهيد» أي: شاهد ليس بغائب.
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
(١٣٤٣) ذكر المفسرون أن اليهود قالت: خَلَقَ اللهُ السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، آخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا نعمل فيه شيئا، فنزلت هذه الآيات، فأكذبهم الله عزّ وجلّ بقوله: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. قال الزجاج: واللُّغوب: التَّعب والإعياء.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي: من بَهتهم وكذبهم. قال المفسرون: ونسخ معنى قوله:
«فاصْبِر» بآية السيف وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صَلِّ بالثَّناء على ربِّك والتنزيه له ممَّا يقول المُبْطِلون قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وهي صلاة الفجر. وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فيها قولان:
أحدهما: صلاة الظهر والعصر، قاله ابن عباس. والثاني: صلاة العصر، قاله قتادة.
(١٣٤٤) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جرير بن عبد الله، قال: كُنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة البدر، فقال: «إنَّكم سَترُونَ ربَّكم عِيانا كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُّونَ في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلوع الشمس وقبل الغُروب فافعلوا» وقرأ: «فسبِّح بحمد ربِّك قبل طُلوع الشمس وقبل الغروب».
قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صلاة الليل كلِّه، أيَّ وقت صلّى منه، قاله مجاهد. والثاني: صلاة العشاء، قاله ابن زيد. والثالث: صلاة المغرب والعشاء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وخلف: بكسر الهمزة وقرأ الباقون بفتحها. قال الزجاج: من فتح ألف «أدبار» فهو جمع دُبُر، ومن كسرها فهو مصدر: أدبر يُدْبِر إدباراً.
وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الرَّكعتان بعد صلاة المغرب، روي عن عمر، وعليّ، والحسن بن عليّ، رضي الله عنهم، وأبي هريرة، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنّخعيّ،
صحيح. أخرجه البخاريّ ٤٨٥١ ومسلم ٦٣٣ وأبو داود ٤٧٢٩ والتّرمذي ٢٥٥١ وابن ماجة ١٧٧ والنسائي في «التفسير» ٣٥٠ من حديث جرير، ولفظ «عيانا» ليس في «الصحيحين».
__________
(١) النساء: ١٢١.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «ينادي المُنادي» بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بياءٍ، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياءٍ. ووقف الباقون ووصلوا بياءٍ. قال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: واستمع حديث يوم ينادي المنادي. قال المفسرون: والمنادي:
إسرافيل، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي: يا أيها الناس هلُمُّوا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء وهذه هي النفخة الأخيرة. والمكان القريب: صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. وقال ابن السائب باثني عشر ميلاً. قال الزجاج: ويقال: إن تلك الصخرة في وسط الأرض.
قوله تعالى: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي هذه النَّفخة الثانية بِالْحَقِّ أي: بالبعث الذي لا شكَّ فيه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي: نُميت في الدنيا ونُحيي للبعث وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ بعد البعث، وهو قوله: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «تَشَّقَّقُ» بتشديد الشين وقرأ الباقون بتخفيفها سِراعاً أي: فيخرجون منها سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي: هَيِّنٌ. ثم عزَّى نبيَّه فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في تكذيبك، يعني كفار مكة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرَهم على الاسلام إنما بُعثتَ مذكِّراً، وذلك قبل أن يؤمَر بقتالهم وأنكر الفراء هذا القول فقال: العرب لا تقول: «فَعَّال من أفْعَلتُ»، لا يقولون: «خَرَّاج» يريدون «مُخْرِج» ولا «دخَّال» يريدون «مُدْخِل»، إنما يقولون: «فَعَّال» من «فَعَلْتُ»، وإنما الجَبَّار هنا في موضع السلطان من الجبرية، وقد قالت العرب في حرف واحد: «دَرَّاك» من «أدْرَكْتُ» وهو شاذ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه. وقال ابن قتيبة: بِجَبَّارٍ أي: بمسلَّط. والجبَّار: الملِك، سمِّي بذلك لِتَجَبُّره، يقول: لستَ عليهم بملِك مُسَلَّط. قال اليزيدي: لستَ بمسلَّط فتَقْهَرهم على الإسلام. وقال مقاتل:
لِتَقْتُلَهم. وذكر المفسرون أن قوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ منسوخ بآية السيف.
قوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ أي: فَعِظْ به مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وقرأ يعقوب: «وعيدي» بياءٍ في الحالين، أي: ما أَوعدتُ مَنْ عصاني من العذاب.