تفسير سورة المطفّفين

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سوة المطففين
ويقال لها سورة المطففين واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدي قال بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال آخر ما نزل بمكة سورة المطففين وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال أول ما نزل بالمدينة ويل للمطففين ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال لما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية الأثمان آيات من آخرها إن الذين أجرموا الخ وقيل إنها مدنية إلا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عز وجل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكره سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى وقال الجلال السيوطي الفصل بهذه السورة بين الأنفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والانشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الأنفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكره في هذه السورة بقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ من وراء ظهوره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الأنشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب على السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادي أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الأنفطار وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه حال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قيل الويل شدة الشر، وقيل: الحزن والهلاك، وقيل العذاب الأليم،
وقيل جبل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعا
ابن جرير بسند فيه نظر. وذهب كثير إلى أنه واد في جهنم.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره».
وفي صحيحي ابن حبان والحاكم بلفظ: «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر»
إلخ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح. وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي: ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر، ومن قال: ويل واد في جهنم لم يرد أن ويلا في اللغة موضوع لهذا، وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت ذلك له انتهى.
والظاهر أن إطلاقه على ذلك كإطلاقه جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيّا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء، ولِلْمُطَفِّفِينَ خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير، والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقه. وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه.
وقوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إلخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية، أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيا وافرا، وتبديل كلمة على هنا بمن قيل لتضمين (الاكتيال) معنى الاستيلاء، أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك. وقيل: إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراء أن من وعلى يعتقبان في هذا الموضع، فيقال: اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب بأنه مع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم على الناس وافيا من غير نقص إذ
274
هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم، وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتما انتهى. وأقول: إن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرا حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الاستيفاء أخذ مالهم وافيا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم. قلنا: مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك: فلان يأخذ حقه من الناس تاما ويعطيهم حقهم ناقصا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد من الذم بنحو يأخذ ناقصا ويعطي ناقصا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدا ويعطي ناقصا لا يضر كما لا يخفى. ثم قد يقال:
إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقا له بوجه من الوجوه، ولعل مبنى كلام الفراء على ذلك فتأمل. وجوز على أن تكون عَلَى متعلقة ب يَسْتَوْفُونَ ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها. وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الإفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام. ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصور أن يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى. وأجيب المراد بالاستيفاء المعدى بعلى على ذلك الإضرار، فكأنه قيل: إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها. والقصر بطريق القلب والإضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الإضرار مختلفا حيث إن إضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم إن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيّز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر.
والضمير المنفصل في قوله تعالى وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء، فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون. وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وقولهم في المثل: الحريص يصيدك لا الجواد، أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم (١) وعن عيسى بن عمر وحمزة: إن المكيل له والموزون له محذوف، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا. وقال الزمخشري: لا يصح كون الضمير مرفوعا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص اخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في الكشف لأن التأكيد اللفظي يدفعه
(١) قوله وإقامة المضاف إلى قوله أو وزنوهم هكذا بخط المؤلف ولعل فيه سقطا من قلمه اه.
275
المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهم مثلا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إِذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذ المعنى لا يخسر الأهم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولا في كالُوهُمْ مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من أحدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له، وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الواو. وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى. ولعل الاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الإخسار أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلّا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا، والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم، وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني. وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدري في ذلك: إن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضا الغالب فيما يوزن ما هو أكثر قيمة مما يكال، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم علم أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروءات أيضا إلا نادرا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الإخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل ربما يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤون على إخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الإخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى.
وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكثير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك. وقال الزجاج: المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن، ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى. وقيل: إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزراعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة، ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الإعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن، وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض، وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى.
276
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للإنكار والتعجيب ولا نافية، فليست أَلا هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، والظن على معناه المعروف، وأُولئِكَ إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للإشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه، وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد. أي لا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه. ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل: الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأبلغ.
وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم أسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيث حكى سبحانه عنهم إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية: ٣٢] ولم يثبته عز وجل لهم. والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الإنكار وقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لحكمه تعالى وقضائه عز وجل منصوب بإضمار أعني، وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم، أو مجرور كما قال الفراء بدلا من يوم عَظِيمٍ وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة. ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي «يوم» بالرفع قراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ «يوم» بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والإتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يَوْمَ يَقُومُ إلخ منه على القول به ووصفه تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث إن الميزان قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره.
وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا خمس بخمس، قيل: «يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلّا سلط الله تعالى عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا ظففوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر»
وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائعة فيقول:
اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له: إن ابنك كيال ووزان فقال: أشهد أنه في النار، وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف. ومن هذا القبيل ما روي عن أبيّ رضي الله تعالى عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم. واستدل بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ إلخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا. وأنت تعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الاستدلال بها على ذلك من العجب العجاب.
وقوله تعالى كَلَّا ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ إلخ تعليل للردع أو وجوب الارتداع بطريق التحقيق وكِتابَ قيل بمعنى مكتوب أي ما
277
يكتب من أعمال الفجار لَفِي إلخ وقيل مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار لفي إلخ، والمراد ب الفُجَّارِ هنا على ما قال أبو حيان الكفار، وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم والفسقة فيدخل فيهم المطففون وسِجِّينٍ قيل صفة كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دوّن فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ فإن الظاهر أن كِتابٌ بدل من سِجِّينٌ أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إليه أي هو كتاب، وأصله وصف من السّجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل، أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو بمعنى مفعول ولا يلزم على جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفا للكتاب لما سمعت من تفسير كتاب الفجار، وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفا للعمل المكتوب فيه أو ظرفا للكتابة. وقيل: الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول: إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء. وعن الإمام لا استبعاد في أن يوضع أحدهما في الآخر حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر. وعن أبيّ على أن قوله تعالى كِتابٌ مَرْقُومٌ أي موضع كتاب، فكتاب على ظاهره وسِجِّينٌ موضع عنده ويؤيده ما
أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: «إن الفلق جب في جهنم مغطى، وسجين جب فيها مفتوح»
وعليه يكون سجين لشر موضع في جهنم. وجاء في آثار عدة أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض. وفي الكشف لا يبعد أن يكون سجين علم الكتاب وعلم الموضع أيضا جمعا بين ظاهر الآية وظواهر الأخبار وبعض من ذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قال «وما أدراك سجين» على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين. وقال ابن عطية: من قال بذلك فكتاب عنده مرفوع على أنه خبر إِنَّ والظرف الذي هو لَفِي سِجِّينٍ ملغى، وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلّا إذا كان معمولا للخبر أعني كِتابٌ أو لصفته أعني مَرْقُومٌ وذلك لا يجوز لأن كِتابٌ موصوف فلا يعمل، ولأن مَرْقُومٌ الذي هو صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر. وقيل: كِتابٌ خبر ثان لإن، وقيل: خبر كمبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى كِتابَ الفُجَّارِ ومناط الفائدة الوصف، والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر. وعن عكرمة إن سِجِّينٌ عبارة عن الخسار والهوان كما تقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول. والكلام في وَما أَدْراكَ إلخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور. وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليس مشتقا من السجن أصلا. ومَرْقُومٌ من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه لئلا يلغو أي كتاب بيّن الكتابة أو من رقم الكتاب إذا جعل له رقما أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقال ابن عباس والضحاك مَرْقُومٌ مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال: رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة. وفي البحر مَرْقُومٌ أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى.
وشاع الرقم في الكتابة قال أبو حيان: وهو أصل معناه، ومنه قول الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم على بعدكم إن كان للماء راقم
وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ متصل بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وما بينهما اعتراض والمراد
278
للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ إما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة، وقيل: هو صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ إلخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي وما يكذب بيوم الدين إلّا كل متجاوز حدود النظر والاعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد في الإعادة منها فعدّ الإعادة محالة عليه عز وجل أَثِيمٍ أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا الناطقة بذلك قالَ من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي هي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الإخبار بها ولم يظهر صدقها، أو أباطيل ألقيت على آبائنا الأولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجا عن طريق الحزم والاحتياط والأول أظهر. والآية قيل نزلت في النضر بن الحارث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأيا ما كان فالكلام على العموم. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «إذا يتلى» بتذكير الفعل وقرىء إذا تتلى على الاستفهام الإنكاري كَلَّا ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عز وجل بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدأ في المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال: ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا ويقال: ران فيه النوم أي رسخ فيه وفي البحر أصل الرين الغلبة يقال: رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت، وران الغشي على عقل المريض أي غلب. وقال أبو زيد: يقال رين بالرجل يران به رينا إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج، وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدأ المسود للمرآة والفضة مثلا المغيّر عن الحالة الأصلية.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه»
فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يكسبون وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسبابا
وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى» قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «كل غني قد أبطره غناه».
وقرىء بإدغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمعوا يعني القرّاء على إدغام اللام في الراء إلّا ما كان من وقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا لتبيين الإظهار وليس كما قال من الإجماع ففي اللوامح عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: ١٥٨] بَلْ رَبُّكُمْ [الأنبياء: ٥٦] وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع بَلْ رانَ غير مدغم وفيه أيضا وقرأ نافع أيضا بالإدغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان، والإدغام حسنان وقال أيضا: فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي
279
عربية جائزة وفي الكشاف قرىء بإدغام اللام في الراء وبالإظهار والإدغام أجود وأميلت الألف وفخمت فليحفظ.
كَلَّا ردع وزجر عن الكسب الرائن أو بمعنى حقا إِنَّهُمْ أي هؤلاء المكذبين عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لا يرونه سبحانه وهو عز وجل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه. واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلّا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص. وقال الشافعي: لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا. وقال أنس بن مالك: لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل، ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال: إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم كما قال:
إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا والناس من بين مرجوب ومحجوب
أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلا لمحجوبون. وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كيسان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر للرؤية وغيرها من ألطافه تعالى. والجار والمجرور متعلق «بمحجوبون» وهو العالم في يَوْمَئِذٍ والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا يقوم الناس السابق كأنه قيل إنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ مقاسو حرها على ما قال الخليل. وقيل: داخلون فيها وثُمَّ قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلي الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عز وجل، وأما عند المؤمنين لا سيما الوالهين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب.
ثُمَّ يُقالُ لهم تقريعا وتوبيخا من جهة الخزنة أو أهل الجنة هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فذوقوا عذابه كَلَّا تكرير للردع السابق في قوله تعالى كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ إلخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف فجور والإيقاء بر، وقيل ردع عن التكذيب فلا تكرار إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في عِلِّيِّينَ
280
على وجه آخر غير اختلافهم في سِجِّينٍ فقال غير واحد: هو علم لديوان الخبر الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء النقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن، سمّي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنه مرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين عليهم الاسم تعظيما له. وقيل: هو المواضع العلية واحده عليّ وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكي ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف للملائكة ولذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظة كعشرين وثلاثين. والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء واحد ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أنه من الشهادة، وعلى الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا. وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال: إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز وجل، فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون: اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعو له، فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وسأله عن قوله تعالى إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ الآية فقال: إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجن ويكون في عليين،
فقد أخرج ابن المبارك عن صخر بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين»
وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل.
وقوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ شروع في بيان محاسن أحوالهم إثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: هذا حال كتابهم فما حالهم؟ فأجيب بما ذكر أي إنهم لفي نعيم عظيم عَلَى الْأَرائِكِ أي على الأسرّة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها يَنْظُرُونَ أي إلى ما شاؤوا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: إلى ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات. وقال مقاتل: إلى أهل النار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيسا وقيل: ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل: النظر كناية عن سلب النوم فكأنه قيل لا
281
ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالبا، وفيه إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة كما وردت في الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام. وعليه يكون قوله سبحانه تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجة النعيم ورونقه لنفي ما يوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن ما لهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء.
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب «تعرف» مبنيا للمفعول «نضرة» رفعا على النيابة عن الفاعل، وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل تَعْرِفُ ضمير الْأَبْرارَ وفِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء إذ تأنيث نَضْرَةَ مجازي يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ قال الخليل: هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج: الشراب الذي لا غش فيه، قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل
وفسرها هنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون. والظاهر أن الختام ما يختم به وأن الختم على حقيقته وكذا إسناده. وقولنا: مختوم أوانيه إلخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الاستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف. ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلّا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان على ذلك بالختم. وقال ابن عباس وابن جبير والحسن: المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلّا فالرائحة لا تختص بالانتهاء. وقيل: المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته. وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى. وقيل: إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك، فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي «خاتمه» بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي. وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك، والجمل السابقة أعني عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ وتَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ إلخ ويُسْقَوْنَ إلخ قيل أحوال مترادفة، وقيل مستأنفات كجملة إِنَّ الْأَبْرارَ إلخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم.
وَفِي ذلِكَ إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته، وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى:
فَلْيَتَنافَسِ وقدم للاهتمام أو للحصر أي فليتنافس وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أو لا في غيره من ملاذها ونعيمها الْمُتَنافِسُونَ أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى، وقيل: أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: ٦١] أي فليستبق في
282
تحصيل ذلك المتسابقون، وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفس لعزتها. قال الواحدي:
نفست الشيء أنفسه نفاسة، والتنافس تفاعل منه كأن واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به. وقال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه، ويقال: نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه. وفي مفردات الراغب: المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة، والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخفى، واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير و «فليتنافس في ذلك» وأجيب بأنه بتقدير القول أي يقولون لشدة التلذذ من غير اختيار من ذلك فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك، وقيل: الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون، وتقديم الظرف ليكون عوضا عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم. وقوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عطف على خِتامُهُ مِسْكٌ صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، وتَسْنِيمٍ علم لعين بعينها في الجنة كما روي عن ابن مسعود وعن حذيفة بن اليمان أنه قال: عين من عدن سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روي عن ابن عباس، أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روي عن الكلبي، وروي أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. وقيل: سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم من كونه علما لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه ومِنْ بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسنيم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية. عَيْناً نصب على المدح. وقال الزجاج: على الحال من تسنيم قيل وصح كونه حالا مع جموده لوصفه بقوله تعالى يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الاشتقاق غير لازم، والباء إما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها، أو على تضمين يشرب معنى يروى أي يشرب راوين بها أو يروى بها شاربين المقربون أو صلة الالتذاذ أي يشرب ملتذا بها، أو الامتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجا بها، أو الاكتفاء أي يشرب مكتفين بها أوجه ذكروها، وفي كونها صلة الامتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح: يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن الأبرار هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسنيم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق، والمدامة التي تواصى على شربها ذو والأذواق والتحقيق:
على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم
وقال قوم الأبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد يشمل كل من نعم في الجنة. وقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة كانُوا أي في الدنيا كما قال قتادة مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ كانوا يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء.
وفي البحر روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه وجمعا من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
إلخ قبل أن يصل علي كرم الله تعالى وجهه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي
283
الكشاف حكاية ذلك عن المنافقين وأنهم قالوا: ربنا اليوم الأصلع أي سيدنا يعنون عليا كرم الله تعالى وجهه، وإنما قالوه استهزاء ولعل الأول أصح وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوا يضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم:
١٠] لمراعاة الفواصل وَإِذا مَرُّوا
أي المؤمنون بِهِمْ
أي بالذين أجرموا وهم في أنديتهم يَتَغامَزُونَ
أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بالمؤمنين وإرجاع ضمير مَرُّوا
للمؤمنين وضمير بِهِمْ
للمجرمين هو الأظهر الأوفق بحكاية سبب النزول. واستظهر أبو حيان العكس معللا له بتناسق الضمائر وَإِذَا انْقَلَبُوا أي المجرمون ورجعوا من مجالسهم إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ملتذين باستخفافهم بالمؤمنين.
وكان المراد بذلك الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوه في غيبتهم عن أهلهم أو إلى أن له وقعا في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأحد وإنما فعلوه لحظ أنفسهم. وقيل: فيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بما رأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز. وقرأ الجمهور «فاكهين» بالألف قيل هما بمعنى، وقيل فكهين أشرين، وقيل فرحين وفاكهين قيل متفكهين وقيل ناعمين وقيل مادحين وَإِذا رَأَوْهُمْ وإذا رأوا المؤمنين أينما كانوا قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ يعنون جنس المؤمنين مطلقا لا خصوص المرئيين منهم والتأكيد لمزيد الاعتناء بسبهم وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ جملة حالية من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى على المؤمنين موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم واستهزاء بهم وإشعار بأن ما جرؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى، وجوز أن يكون من جملة قول المجرمين والأصل وما أرسلوا علينا حافظين إلّا أنه قيل عليهم نقلا بالمعنى على نحو قال زيد ليفعلن كذا وغرضهم بذلك إنكار صدّ المؤمنين إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإيمان فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا أي المعهودون من الفقراء مِنَ الْكُفَّارِ أي من المعهودين وجوز التعميم من الجانبين يَضْحَكُونَ حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيتهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه. والظرف والجار والمجرور متعلقان ب يَضْحَكُونَ وتقديم الجار والمجرور قيل للقصر تحقيقا للمقابلة أي واليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا. وقوله تعالى عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من فاعل يَضْحَكُونَ أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: هلم هلم، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك مرارا حتى أن أحدهم يقال له: هلم هلم فما يأتي من إياسه ويضحك المؤمنون منهم. وتعقب بأن قوله تعالى هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ يأباه فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والحق أنه لا إباء كما لا يخفى والتثويب والإثابة المجازاة. ويقال: ثوّبه وأثابه إذا جازاه، ومنه قول الشاعر:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
وظاهر كلامهم إطلاق ذلك على المجازاة بالخير والشر، واشتهر بالمجازاة بالخير وجوز حمله عليه هنا على أن المراد التهكم كما قيل به في قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، الانشقاق: ٢٤] وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل أثبنا هؤلاء على ما كانوا يفعلون كما أثبناكم على ما كنتم تعلمون فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لما فيه من
284
تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم. والجملة الاستفهامية حينئذ معمولة لقول محذوف وقع حالا من ضمير يَضْحَكُونَ أو من ضمير يَنْظُرُونَ أي يضحكون أو ينظرون مقولا لهم هَلْ ثُوِّبَ إلخ. ولم يتعرض لذلك الجمهور. وفي البحر الاستفهام لتقرير المؤمنين والمعنى قد جوزي الكفار ما كانوا إلخ. وقيل هَلْ ثُوِّبَ متعلق ب يَنْظُرُونَ والجملة في موضع نصب به بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى انتهى وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي يفعلونه، والكلام بتقدير مضاف أي ثواب أو جزاء ما كانوا إلخ. وقيل هو بتقدير باء السببية أي هل ثوب الكفار بما كانوا وقرأ النحويان وحمزة وابن محيصن بإدغام اللام في التاء والله تعالى أعلم.
285
Icon