وهي آخر سورة نزلت بمكة، وسميت المطففين لقوله تعالى ﴿ ويل للمطففين ﴾.
بدأت هذه السورة بوعيد شديد للذين يعاملون الناس بالغش ونقص الكيل والوزن. ويظهر أن هذا كان متفشيا بين تجار مكة وغيرهم في ذلك الزمان، فشددت السورة الوعيد بإعلان الحرب على المطففين الذين يستوفون حقوقهم في الكيل والوزن، لكنهم إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم يُنقصون في ذلك. وهذا جرم كبير، يقول الله تعالى فيه :﴿ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ؟ ﴾. بذا يهددهم بوقوع البعث والحساب، ويقرر أن أعمالهم مسجّلة عليهم في كتاب مرقوم.
كذلك شدّدت السورة النكير على التجار الذين يكذبون بيوم الدين، والذين إذا تُليت عليهم آيات الله قالوا : إنها من أساطير الأولين. هؤلاء من أهل الجحيم، وهم عن ربهم لمحجوبون، ثم مصيرهم إلى جهنم، حيث قال لهم : هذا الذي كنتم به تكذبون.
ثم ينتقل الحديث إلى الأبرار حيث أفاضت السورة في رفعة مقامهم، والنعيم المقرر لهم ونُضرته التي تفيض على وجوههم، والرحيق الذي يشربون منه وهم على الأرائك ينظرون، ﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ﴾.
بعد ذلك تتحدث عن الأبرار وما كانوا يلاقونه من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب، وما يؤول إليه الأمر يوم القيامة، إذ يضحك الذين آمنوا من الكفار، بعد أن يُنصفهم رب العالمين منهم.
ﰡ
تبدأ السورة بحربٍ يعلنها الله على أناسٍ يمتهنون سرقة الناس، سماهم الله «المطفِّفين »، لأن الشيء الذي يأخذونه من حقوق الناس شيءٌ طفيف، ولكنه سرقةٌ وغشّ.
أما مَن هم، فهم أولئك الذين يتقاضَون بضاعتهم وافية عند الشراء.
﴿ أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ ﴾،
ألا يخطر ببال هؤلاء المطفّفين أنهم سيُبْعثون ؟
ولا يخفَى ما في الوصفّ « لربّ العالمين » من الدلالة على عِظَم الذنب في أكلِ أموال الناس بالباطل. فالميزان هو قانونُ العدل الذي قامت به السموات والأرض.
وبعد أن ذكر اللهُ تعالى أنه لا يزاول التطفيفَ ونقصَ الميزان إلا من ينكر يومَ القيامة والبعثَ والجزاء، أمر هنا بالكفّ عما هم فيه، وذكر أن الفجّارَ، كما سمّاهم، قد أُعدّ لهم كتابٌ أُحصيتْ فيه جميع أعمالهم ليحاسَبوا عليها.
﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ، كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾
كفّوا عما أنتم عليه، فهناك سِجِلٌ لأعمال الفجّار فيه جميعُ أعمالهم اسمه سِجّين.
ولا قومك.
إن الأمر أكبرُ وأضخم من أن يُحيط به عِلم، فهو ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾، مسطور له علامة واضحة، لا يُزاد فيه ولا يُنقَص منه، ﴿ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ [ الكهف : ٢١ ].
﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين ﴾
الهلاكُ للجاحدين.
حتى إنه :﴿ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ منكراً أن القرآن قد نزل من عند الله وزاعماً أنه مجرد خرافات وأباطيل عند الأمم السابقة، جاء بها محمد، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ].
ثم بيّن الله تعالى أن الذي جرّأَهم على الجحود والتمادي في الإصرار على الإنكار والكفر هي أفعالهم القبيحة التي مَرَنوا عليها حتى صاروا لا يميزون بين الخُرافة والحجّة الدامغة فقال :﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
ليس القرآنُ والبعثُ والجزاء من الأساطيرِ والخرافات، بل عَمِيَتْ قلوبُهم وغطّت عليها أفعالُهم وتماديهم في الباطل، فطُمسَ على بصائرهم، والتبست عليهم الأمورُ ولم يدركوا الفرقَ بين الصحيح والباطل.
بعد ذلك ردت عليهم السورة ناقضةً ما كانوا يقولون من أن لهم المنزلة والكرامة يوم القيامة.
قراءات :
قرأ حفص : بل ران بإظهار لام بل، وقرأ الباقون : بل رّان بإدغام اللام بالراء، وقرأ أهل الكوفة : رِين بالإمالة.
أما ما تدّعون من أنكم تكونون مقرّبين إلى الله يوم القيامة، فهو وهمٌ باطل، فأنتم مطرودون من رحمة الله، ومحجوبون عنه بسبب معاصيكم وجحودكم. وكما قال تعالى :﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ آل عمران : ٧٧ ].
ثم بين الله مآلهم ومصيرهم فقال :
﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجحيم ﴾،
لقد حُجبوا عن القرب من الله، وخابَ ظنُّهم الأثيم.
بعد أن بين اللهُ تعالى حالَ الفجّار وأعمالَهم ومآلهم يوم القيامة، يعرض هنا حالَ الأبرارِ الذين آمنوا بربِّهم وصدّقوا رسولَهم.. وهذه طريقةُ القرآن الكريم في عَرض المتقابلَين، وفي ذلك ترغيبٌ في الطاعة، وتنفيرٌ من المعصية.
﴿ كَلاَّ ﴾ ليس الأمر كما توهَّمَه أولئك الفجّارُ من إنكار البعث، ومن أن كتابَ الله أساطيرُ الأولين، ﴿ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ فهو مودَع في أشرفِ الأمكنة بحيث يشهدُه المقرَّبون من الملائكة.
﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾ فهو مسطور علامتُه واضحة.
وهذا في مقابلة الفجّار الذين هم في الجحيم. فالله تعالى يكرم المؤمنين الأبرار ويدخلُهم جناتِ النعيم.
حيث يجلسون على الأرائك وينظرون إلى ما أَولاهم ربهم من النعمة والكرامة.
حتى إذا نظرتَ إليهم تعرفُ في وجوههم بهجةَ النعيم ونضارته.
قراءات :
قرأ يعقوب : تعرف بضم التاء وفتح الراء،
مختوم : ختمت أوانيه.
وهم يُسقَون من شراب أهل الجنة الّذي هو الرحيقُ الخالص.
فلْيتنافس المتنافسون : فليتسابق المتسابقون في عمل الخير ليلحقوا بهم.
الذي خُتمت أوانيه بختام من مِسْكٍ، تكريما لها وصوناً عن الابتذال،
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون ﴾ ويتسابقوا.
قراءات :
قرأ الجمهور : ختامه مسك، وقرأ الكسائي وحده : خاتمه مسك، وقرأ الجمهور : تعرف بكسر الراء.
من تَسنيم : من عين يقال لها تسنيم.
﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون ﴾ الأبرارُ عند الله تعالى. وكل ذلك تكريم لهم وفضلُ ضيافة. ولقد فصّل الله تعالى ما أعدّ للأبرار ووصفَ النعيمَ الذي سيلاقونه في دارِ كرامتِه حضّاً للذين يعملون الصالحاتِ على الاستزادة منها، وحثّاً للمقصِّرين واستنهاضاً لعزائمهم أن لا يقصّروا في ذلك.
فقد روي أن صناديد قريشٍ مثلَ أبي جهلٍ، والوليدِ بن المغيرة، والعاصي بن وائل السُّهمي، وشَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأميةَ بن خلف، وغيرهم كانوا يؤذون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرّضون عليهم سفَهاءَهم وغلمانهم. وفي ذلك كله يقول تعالى :
﴿ إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ.... ﴾.
إن المجرِمين الجاحدين، كانوا في الحياة الدنيا يضحكون من المؤمنين.
قراءات :
قرأ الجمهور : فاكهين، وقرأ حفص : فكِهين.
إن الله لم يرسِل الكفارَ رقباءَ على المؤمنين، ولم يُؤتهم سلطةَ محاسَبتهم على أفعالهم.