ﰡ
آيها ست وثلاثون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) التطفيف: نقص الكيل والوزن، من الطفف وهو القليل؛ لأن الذي يسرق من كيل أو وزن واحد لا يكون إلا قليلاً، وعن الزجاج: مأخوذ من طفّ الشيء: جانبه. روى النسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما " أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - قدم المدينة وهم أخبث الناس كيلاً، فنزلت، فأحسنوا الكيل ". وروى أنه لما قرأ الآية عليهم قال: " خمس بخمس ما نقض قوم العهد إلا سلط اللَّه عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل به إلا سلط عليهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا أخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ".وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أي: كالوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل، أو مكيلهم فحذف المضاف. وقيل: الضمير للفصل راجع إلى المطففين وليس كذلك؛ لأن الغرض بيان اختلاف حالهم في الأخذ والإعطاء لا بيان المباشرة وعدمها، ولاستدعائه إثبات الألف بعد الواو كما في نظائره، ولم يذكر الاتزان مع الاكتيال اكتفاء به. وقيل. كأنهم كانوا يأخذون الموزون بالمكيال ليتمكنوا من الاستيفاء والسرقة لاحتمال أن تزعزع الكيل ويحتال في المليء، بخلاف الميزان؛ لأنه لا يقبل ذلك.
(أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) صدر الكلام بحرف التنبيه إيقاظاً، وذكر الظن؛ دلالة على أن الظن كاف في الكَفِّ عن التطفيف، كيف والفاعل قاطع متيقن؟. ووصف اليوم بالعِظَمِ؛ لعِظمِ ما يقع فيه. واسم الإشارة للشتم نحو: ذلك اللعين. وكل هذه التشديدات ليس من حيث التطفيف؛ بل لأن الميزان قانون العدل الذي به قامت السماوات والأرض.
(كَلَّا... (٧) ردع عن التطفيف. (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) عقب ذكر التطفيف حديث الفجار؛ زيادة تنفير عنه. والسجّين: فعيل من السجن وهو الضيق، سمي به الكتاب الجامع لأعمال الشياطين والكفرة؛ لأنه سبب للتضييق، أو لأنه مطروح في مكان مظلم تحت الأرض السابعة، فيقدّر مضاف أي: أن موضع كتاب الفجار، ونقل الواحدى بإسناده: " أن السِّجِّين بئر مفتوح في جهتم ". والغرض من وصف كتابهم بالوصف الشنيع تقبيح حالهم وسفالة محلّهم.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩) معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، أو مسطور بيّن الكتابة. وإن كان اسم موضع فالتقدير: ما كتاب السجين، أو محلّ كتاب مرقوم، حذف منه المضاف.
(وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ... (١٢) متجاوز عن الحدّ حيث تقلد فيما لا يصح فيه، وقطع النظر عن الآيات والنذرَ (أَثِيمٍ) كثير الإثم منهمك في الشهوات حيث شغله ذلك عن التفكر.
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) من فرط جهله وعدم تأمله، لا ينفعه شواهد النقل كما لا ينفعه دلائل العقل.
(كَلَّا... (١٤) ليس الأمر كما قالوا من أنه أساطير (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الرين: صدأٌ يعتري القلب من تكاثر الذنوب. عن الحسن: " هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب ". روى النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " إذا أذنب العبد ذنباً كانت نكتة في قلبه فإن هو نزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد ازدادت حتى يعلو القلب فهو الرين الذي قال اللَّه تعالى: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ".
(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) تقريعاً لهم، وزيادة في العذاب.
(كَلَّا... (١٨) تكرير للأول؛ ليعقب له وعد الأبرار كما عقب به وعيد الفجار، أو ردع عن التكذيب (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) علم كتاب الأبرار، أو موضع يكون فيه الكتاب. جمع علّيّ في الأصل، من العلو، سمي به؛ لأنه سيب العلو والارتفاع في الجنة، أو لأنه مرفوع إلى السماء السابعة.
(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) الكروبيون يحفظون منه المعارف، أو ليشهدوا على ما فيه يوم القيامة.
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) على الأسرة الحجال ينظرون إلى ما شاءوا مدّ أبصارهم مما تستلذه الأعين.
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) بهجة التنعم ورونقه كما ترى وجوه أهل الثروة والملوك في الدنيا.
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ... (٢٥) من أسماء الخمر (مَخْتُومٍ)؛ لئلا يبتذله الأيدي.
(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) اسم عين، في الأصل مصدر سنَّمَة: إذا رفعه. إما لأنها أرفع شراب في الجنة، أو لأنَّها تجري في الهواء متسنمة، فتنصب في أوانيهم.
(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) صِرفاً؛ لأنهم لم يلتفتوا إلى غير طاعة اللَّه تعالى ولم يشغلوا سرِّهم بغيره، وانتصاب " عَيْنًا " على المدح، أو الحال " مِنْ تَسْنِيمٍ "، و " الباء " في " بِهَا " مزيدة، أو بمعنى " مِن ".
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) هم أبو جهل وأضرابه كانوا إذا رأوا صهيباً وبلالاً وعماراً، وسائر الفقراء يضحكون استهزاء بهم.
(وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠)
يشير بعضهم إلى بعض بالعين والحاجب استحقاراً.
(وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) طريق الرشاد في اتباع محمد وترك دين الأشياخ.
(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) موكلين بهم حتى يقولوا فيهم بالضلال والرشد. رد منه تعالى عليهم، أو هو كلام الكفار لهم إذا دعوهم إلى الإيمان. وكان الظاهر: وما أرسلوا علينا حافطين إلا أنه سلك طريقة الغيبة كقولك: قال زيد ليفعلن كذا.
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) بدل ما كانوا يضحكون منهم في الدنيا. (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) حال من " يَضْحَكُونَ ".
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) المخاطب: هم المؤمنون عَلَى الْأَرَإئِكِ إذا نظروا إلى الكفار في جهنم؛ زيادة في سرورهم، وأن اللَّه تعالى قد كافأهم. والتثويب: الإثابة، استعمل في العذاب؛ تهكماً، والاستفهام للتقرير.
* * *
تمّت سورة التطفيف، والحمد للكريم اللطيف، والصلاة على الرسول الشريف، وآله وصحبه ذوي الفضل المنيف.
* * *