ﰡ
في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب الله.
واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة. وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة. وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا.
ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك، ومنها ما يتّفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا. غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظنّ بأنها من السور المبكرة في النزول. مثل السور القصيرة المسجّعة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
. (١) التطفيف: البخس في الوزن والكيل.
احتوت الآيات:
١- تقريعا للذين إذا اشتروا لأنفسهم كالوا ما اشتروه أو وزنوه أو أخذوه
٢- وتساؤلا في معرض الإنذار عمّا إذا كانوا حينما يفعلون ذلك لا يعرفون أنهم مبعوثون بعد الموت لليوم العظيم الذي يقف الناس فيه بين يدي الله ربّ العالمين ليقدموا الحساب عن أعمالهم.
وهذه ثانية سورتين ابتدأتا بكلمة (الويل) التقريعية. والآيات تنطوي على صورة من صور أخلاق بعض التّجار في مكة في عهد النبي ﷺ كما هو المتبادر.
وهي في الوقت نفسه عامة تظهر في كل زمان ومكان. والمتبادر أن إطلاق التقريع والإنذار في الآيات هو بسبب ذلك ليكون فيها تلقين مستمر المدى في تقبيح بخس الناس وغشهم وسلب أموالهم بطريق الحيلة والخداع.
ولقد احتوت سورتا الإسراء والأنعام آيات فيها أمر بوفاء الكيل والميزان والوزن بالموازين المستقيمة حيث ينطوي في هذا تقرير كون هذا الأمر من الأخلاق الهامة التي عنى القرآن بإيجابها لما له من صلة بجميع الناس تتكرر في كل وقت.
والإنذار والتقريع في الآيات هما توكيد لما احتوته آيات السورتين بأسلوب آخر.
والتساؤل ينطوي على تقرير ما فتىء القرآن يقرّره وهو أن جرأة كثير من الناس على الآثام تأتي من عدم مراقبتهم الله وحسبانهم حساب الآخرة. وهذا من دون ريب متصل بحكمة الله فيما يقرره القرآن من حقيقة البعث والجزاء الأخرويين.
وقد روى المفسرون «١» عن ابن عباس أن أهل المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا وأنه كان فيها رجل يقال له أبو جهينة معه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أنزل الله الآيات. ومقتضى هذا أن تكون الآيات مدنية. ولا تفهم حكمة لوضع آيات مدنية في رأس سورة تجمع الروايات
ولقد روى البخاري والترمذي في سياق آية يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ حديثا عن ابن عمر قال «قال النبي ﷺ يوم يقوم الناس لربّ العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» «١». وهناك حديث آخر رواه البغوي بطرقه فيه توضيح لتعبير (رشحه) عن المقداد قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما». وفي الحديثين تنبيه إنذاري متساوق مع التنبيه القرآني كما هو واضح.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٧ الى ١٧]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
. (١) إن كتاب الفجار لفي سجّين: قيل في تخريج كلمة سجّين اللغوي إنها صفة مبالغة من السجن على سبيل التخليد لمن يدخلونه. وقيل إنها المكان السحيق أو العميق المظلم أو الأرض السفلى وقيل إنها بئر في جهنّم وعلى كل حال فالذي
(٢) وما أدراك ما سجّين: تعبير بقصد تهويل أمر سجين.
(٣) مرقوم: بمعنى مكتوب أي إن مصير الفجّار قد كتب عليهم وتقرر.
(٤) ران: غطّى أو حجب.
في الآيات حملة شديدة على الفجّار المكذّبين بيوم الدين. وقد ابتدأت بالردع والزجر للتنبيه على أن الأمر أعظم مما يظنون. ثم آذنتهم بأن مصير الفجّار قد كتب وتقرر في الهوة السحيقة المظلمة المعدّة لعذابهم يوم القيامة. وما أعظم هولها. والويل لهم في يوم الجزاء الذي يكذّبون به. ولا يكذّب به إلّا كل أثيم باغ إذا سمع آيات الله هزأ بها وقال إنها ليست إلّا أساطير الأولين. والحقيقة من أمرهم أن ما اقترفوه من آثام وجبلت عليه نفوسهم من شر وخبث قد غطّى على بصائرهم وحجّر قلوبهم. وإنهم لمبعدون عن الله ورضوانه. ولسوف يصلون الجحيم، ويقال لهم عند ذلك هذا الذي كنتم به تكذّبون.
ويربط بين هذه الآيات وما قبلها الإنذار بالبعث ليوم الدين العظيم الذي يقف الناس فيه بين يديّ الله. فهي والحالة هذه متصلة بها سياقا وموضوعا.
والحملة قويّة مفزعة من شأنها بالإضافة إلى واجب الإيمان بالمشهد الأخروي إثارة الرعب في قلوب السامعين وحملهم على الارعواء من جهة، وقد انطوت على صورة لما كان عليه الكفار من شدّة العناد والمكابرة حين نزولها من جهة أخرى، والإنذار متحقق بالنسبة للذين ظلوا على كفرهم وإثمهم.
ولقد روى الترمذي في سياق الآية [١٤] حديثا عن أبي هريرة قال:
«قال النبي ﷺ إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكره الله
ولقد روى المفسرون في مناسبة جملة كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ إلى الكلام عن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة حيث استدل بعضهم وأوردوا أقوالا لبعض علماء التابعين وللإمام الشافعي في الاستدلال بها على ذلك وحيث أورد بعضهم أقوالا تفيد أن المقصود بالجملة حجب الكرامة والرحمة الربانية. وقد قال الطبري إن الجملة قد تحتمل هذا المعنى وقد تحتمل ذلك ولكن ليس فيها وليس هناك أثر نبوي يساعد على ترجيح أحدهما على الآخر.
ولقد شرحنا الموضوع الأصلي وعلقنا عليه في سياق تفسير الآيات وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) في سورة المدثر بما يغني عن الإعادة.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
. (١) إن كتاب الأبرار لفي علّيين: كلمة علّيين صفة مبالغة من العلو. وقد جاءت في مقابل سجّين ومما قيل إنها في السماء السابعة أو في السموات العليا أو عند عرش الله أو الجنة وعلى كل حال فإن الجملة تعني أن كتاب الأبرار قد كتب بأنهم سوف يكونون في عليين التي يتنعمون فيها.
(٢) المقرّبون: الأولى تعني الملائكة. والثانية تعني عباد الله المقربين على ما يلهمه مقام كل منهما.
(٤) مختوم ختامه مسك: إبريق الشراب مختوم بطينة من المسك فيكون طعمه ورائحته مسكا.
(٥) مزاجه من تسنيم: مزاجه بمعنى السائل الذي يمزج به الشراب. وهو من عين ماء في الجنّة تسمّى تسنيما. والتسنيم من السنام وهو الشيء المرتفع. فتكون الكلمة بمعنى عين الماء المسمّاة تسنيما لأنها تجري من مكان مرتفع.
وجريا على الأسلوب القرآني جاءت هذه الآيات لوصف مصير الأبرار الأخروي بالمقابلة: فمصيرهم قد كتب وتقرر في عليين حسب كتاب أعمالهم الذي يشهد عليه الملائكة المقربون. ومنازلهم منازل النعيم حيث تعلو فيها وجوههم بهجة السرور ويتناولون في مجالسهم الشراب الصافي النفيس الذي يمزج بماء عين التسنيم العالية في الجنة، والذي تكون أباريقه مختومة بطينة من المسك ليكون مذاقه ورائحته مسكا. وإن هذا لهو مجال التنافس الممدوح الذي يحسن أن يتنافس فيه المتنافسون للوصول إليه.
واتصال الآيات بالسياق والموضوع قائم. والوصف قوي شائق حقا من شأنه بثّ الطمأنينة والشوق في نفس المؤمنين من جهة وقد انطوى على التنويه بالمؤمنين الذين استحقوا هذه الدرجة من النعيم والتكريم من جهة وعلى الحثّ على الإيمان والعمل الصالح لنيلها من جهة.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
. (١) فكهين: هنا بمعنى معجبين مسرورين بأنفسهم.
وفي هذه الآيات حكاية لموقف الكفار من المؤمنين في الدنيا وموقف المؤمنين من الكفّار في الآخرة، فقد كان المجرمون يسخرون من المؤمنين ويتغامزون عليهم كلما مروا بهم ويرمونهم بالضلال مع أنهم ليسوا عليهم وكلاء ولا حفّاظا. ثم يعودون إلى أهلهم وقد شفوا نفوسهم واغتروا بباطلهم. ولسوف ينقلب الأمر إلى عكسه يوم القيامة حيث يفوز المؤمنون بالعاقبة السعيدة ويتمتعون بمنازل النعيم ويقفون من الكفار موقف الساخر الشامت لما صاروا إليه من مصير رهيب.
وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة التعقيب متسائلة عما إذا لم يكن الكفار بما صاروا إليه قد جوزوا الجزاء الحقّ على ما كانوا يفعلونه. وقد تضمنت جوابا إيجابيا على السؤال.
والآيات جاءت في معرض التعقيب على الآيات السابقة. وانطوت على التنديد بالكفار والبشرى للمؤمنين كما هو المتبادر. وفيها صورة لما كان عليه موقف الكفار من المؤمنين في مكة وقد جاءت ختاما للسورة وهو ختام مشابه لخواتم سور عديدة أخرى.
وقد تكون الصورة التي احتوتها الآيات بنوع خاص قرينة على ما نبهنا إليه من احتمال عدم صحة ترتيب السورة كآخر السور نزولا، ورجحان نزولها مبكرة بالإضافة إلى مضامين السورة وأسلوبها بصورة عامة.
تفسير السور الخمسة التي يروي المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنية وتروى روايات أخرى أنها مكية والتي رجّحنا مكّيتها بدورنا على ما نبهنا عليه في الكلمة التي أضفناها إلى مقدمة التفسير في الجزء الأول. وستكون بالترتيب التالي على ما ذكرناه في الكلمة المذكورة:
الرعد- الحجّ- الرّحمن- الإنسان- الزلزلة.
في السورة مقدمة رائعة في تقرير عظمة الله ونواميس كونه. وفصول من المشاهد الجدليّة التي كانت تقوم بين النبي والمشركين فيها صور من أقوالهم وتحدّيهم ومكابرتهم وإنكارهم رسالة النبي والآخرة، وطلبهم الآيات منه وردود عليهم فيها إفحام وإنذار وتسفيه وتمثيل ومقايسة بين الصالحين وذوي النيّات الحسنة والعقول السليمة، والأشرار ذوي العقول الغليظة والسرائر الخبيثة. وتمثيل للحقّ والباطل وتقرير بقاء الحقّ ونفعه. وتذكير بمواقف الأمم السابقة وإشارة إلى موقف أهل الكتاب المؤيد للرسالة النبوية والوحي القرآني وتثبيت وتطمين للنبي، وبيان مصائر المؤمنين والكفار المشركين في الآخرة.
وفصول السورة منسجمة تكاد تكون سلسلة واحدة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة.
وهذه السورة من السور المختلف في مكيتها ومدنيتها. وقد رجّحنا مكيتها لأن ما احتوته من تقريرات وتنبيهات وأمثال وصور مماثلة لما في السور المكيّة من مثل ذلك ولأنها تمثّل العهد المكيّ دون العهد المدنيّ. ولقد جاءت في المصحف الذي نعتقد أنه مرتّب بأمر النبي ﷺ وفي حياته في سلسلة من السور المكيّة التي تبدأ بحروف متقطعة مماثلة لما بدأت به وهي سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر مما يمكن أن يكون قرينة قوية إضافية على مكيتها والله أعلم.
والروايات التي تذكر مكية السورة تذكر أن بعض آياتها مدنية مع شيء من الاختلاف حيث يذكر بعضها أن من أول السورة إلى الآية [٣٠] مدنيّ والباقي مكيّ، ويذكر بعضها أن الآيتين [٣١ و ٤٣] مدنيتان وبعضها أن الآيات [١١- ١٣]