تفسير سورة سورة المطففين من كتاب بيان المعاني
المعروف بـبيان المعاني
.
لمؤلفه
ملا حويش
.
المتوفي سنة 1398 هـ
ﰡ
ﯖﯗ
ﰀ
وهذا قياس عقيم مشتق من قياس إبليس المار في الآية ١٢ من سورة الأعراف المارة في ج ١، وأماني باطلة توجب الإقبال على الذنوب والإعراض عن الثواب، وإذا كان يعتقد يقينا بأن الله غفور رحيم ويقدم على معصيته فلم لا يقول الله رزاق كريم ويترك العمل؟ ولكن اعتقاده ذلك باطل من تسويل إبليس. هذا وقد ألمعنا قبل إلى أن هذه الآية من باب تلقين الحجة للعبد حتى يقول غرني كرمك يا رب تفطينا للجواب الذي لقنه وتعريضا لألطافه عليه كالتعريض بذكر الرحمن في بعض الآيات دون غيره من الصفات، وقد يكون هذا لمن يريد الله رحمته من المؤمنين العاصين ولهم أعمال صالحة، لا للكافرين والمشركين، وقد وصف جل شأنه بقوله «الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» ٧ وجعلك متناسب الخلق ماشيا على قدميك آكلا بيدك «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» ٨ من الصور التي اقتضتها مشيئته من الحسن والكمال والشبه بأبويك أو أحدهما أو غيرهما من جنسك في الطول والقصر والبياض والحمار «كَلَّا» لا تغتروا بكرم الله فتعبدوا غيره أو تشركوا به شيئا أو تجعلوه ذريعة لارتكاب المعاصي ولا تغفلوا عمن أنشأكم من العدم إلى الوجود وغمركم بنعمه «بَلْ تُكَذِّبُونَ» باعتقادكم هذا «بِالدِّينِ» ٩ الذي جاءكم به رسولكم، دين أبيكم إبراهيم، دين الاعتقاد بالإله الواحد والرسل والبعث والجزاء عقابا وثوابا، وكيف تكذبون به «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» ١٠ مراقبين يدونون كل ما يقع منكم
«كِراماً كاتِبِينَ» ١١ لأقوالكم وأفعالكم وإثباتها في صحفكم المحفوظة لديهم بأمرنا «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» ١٢ بسركم وجهركم لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
مطلب في الحفظة الكرام وعددهم، وبحث في الشفاعة وسلمان بن عبد الله:
كان الفضيل رحمه الله إذا قرأ هذه الآية قال ما أشدها على الغافلين. وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء، وإعلام بأنه عند الله من جلائل الأمور، إذ استعمل عليه هؤلاء الكرام عنده الذين لا يعصونه طرفة عين. وهؤلاء غير الحفظة المذكورين في الآية ١٣ من سورة الرعد الآتية في ج ٣ لأن مع كل إنسان عددا من الملائكة، روي عن عثمان أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان
«كِراماً كاتِبِينَ» ١١ لأقوالكم وأفعالكم وإثباتها في صحفكم المحفوظة لديهم بأمرنا «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» ١٢ بسركم وجهركم لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
مطلب في الحفظة الكرام وعددهم، وبحث في الشفاعة وسلمان بن عبد الله:
كان الفضيل رحمه الله إذا قرأ هذه الآية قال ما أشدها على الغافلين. وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء، وإعلام بأنه عند الله من جلائل الأمور، إذ استعمل عليه هؤلاء الكرام عنده الذين لا يعصونه طرفة عين. وهؤلاء غير الحفظة المذكورين في الآية ١٣ من سورة الرعد الآتية في ج ٣ لأن مع كل إنسان عددا من الملائكة، روي عن عثمان أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان
427
فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا. قال المهدوي في الفيصل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك. وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله تعالى الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات: الغائط والجنابة والغسل. ولا يمنع هذا من كتبها ما يصدر عنه فيها ويجعل لها امارة على الاعتقاد القلبي ونحوه، ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا، ويلعنانه إن كان كافرا إلى يوم القيامة. راجع الآية ١٨ من سورة ق في ج ١، وله صلة في سورة الرعد ج ٣ عند قوله تعالى (لَهُ مُعَقِّباتٌ... يَحْفَظُونَهُ) الآية.
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» ١٣ بالغ وسرور جليل في ذلك اليوم «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» ١٤ عظيم فظيع خارج عن عقل أهل الدنيا معرفته أجارتا الله منه، والمراد بالفجار هنا الكفرة المتوغلين في الكفر لا العصاة إذ تطلق كلمة فجر على الكاذب والزاني والكافر «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» ١٥ حينما يدانون بأعمالهم القبيحة بعد الحساب يوم القيامة «وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» ١٦ بل محضرون ومطروحون فيها لا يفارقونها طرفة عين، فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وهذه كقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآيتين ٤٨ من سورة الحجر المارة و ١٦٧ من البقرة في ج ٣، ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» ١٧ أيها الإنسان الغافل «ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» ١٨ استفهام تعجب جوابه هو يوم ترتعد فيه الفرائص وتشقق لهوله القلوب، وإن ما فية لا تجابهه قوى البشر، وهذا الخطاب عام إلى كل من يتأتى منه الدّراية، وفي التكرير زيادة التفخيم والتعجب.
وما قيل إن الخطاب خاص بالكافر أو خاص بحضرة الرسول لم يثبت فيه شيء، وإن بين هذين القولين وبين الآية المفسرة من البعد ما لا يخفى. ثم وصف ذلك ببعض صفاته فقال «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» فيه من المنافع مؤمنة كانت أو كافرة، وتخصيصها بالكافرة على قول بعض المفسرين لا مبرر له أيضا،
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» ١٣ بالغ وسرور جليل في ذلك اليوم «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» ١٤ عظيم فظيع خارج عن عقل أهل الدنيا معرفته أجارتا الله منه، والمراد بالفجار هنا الكفرة المتوغلين في الكفر لا العصاة إذ تطلق كلمة فجر على الكاذب والزاني والكافر «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» ١٥ حينما يدانون بأعمالهم القبيحة بعد الحساب يوم القيامة «وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» ١٦ بل محضرون ومطروحون فيها لا يفارقونها طرفة عين، فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وهذه كقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآيتين ٤٨ من سورة الحجر المارة و ١٦٧ من البقرة في ج ٣، ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» ١٧ أيها الإنسان الغافل «ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» ١٨ استفهام تعجب جوابه هو يوم ترتعد فيه الفرائص وتشقق لهوله القلوب، وإن ما فية لا تجابهه قوى البشر، وهذا الخطاب عام إلى كل من يتأتى منه الدّراية، وفي التكرير زيادة التفخيم والتعجب.
وما قيل إن الخطاب خاص بالكافر أو خاص بحضرة الرسول لم يثبت فيه شيء، وإن بين هذين القولين وبين الآية المفسرة من البعد ما لا يخفى. ثم وصف ذلك ببعض صفاته فقال «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» فيه من المنافع مؤمنة كانت أو كافرة، وتخصيصها بالكافرة على قول بعض المفسرين لا مبرر له أيضا،
428
لأن النفس المؤمنة بما فيها نفوس الأنبياء فمن دونهم لا تملك شيئا فيه إلا بتمليك الله تعالى إياها. راجع الآية ٢٨ من سورة الأنبياء المارة، «وَالْأَمْرُ» يكون كله «يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم كما في غيره «لِلَّهِ» ١٩ وحده اللهم عاملنا فيه بما أنت أهله بلطفك وأنت المنفرد فيه، فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك. قال ابن عباس كل ما في القرآن (ما أدرك) فقد أدراه وكل ما فيه (وما يدريك) فقد طوى عنه. وقال سليمان بن عبد الملك وهو من خير ملوك بني أمية بعد عمر ابن عبد العزيز لأنه افتتح خلافته بعمارة البيت المقدس والجامع الأموي بدمشق، إذ كان والده بدأ بهما وتوفي قبل إكمالهما، كما أن داود عليه السلام بدأ بعمارة الأول وتوفي قبل إكماله، فأكمله ابنه سليمان صلوات الله عليهما وسلامه، وختمها باستخلاف عمر بن عبد العزيز الذي كان في أعماله وأقواله يعد من الخلفاء الراشدين، لأبي حازم المزني: ليت شعري مالنا عند الله؟ قال يا أمير المؤمنين اعرض عملك على كتاب الله تعالى فتعلم مالك عنده، قال أين أجد ذلك في كتابه جل شأنه؟ قال عند قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ) الآية المارة، قال وأين رحمة الله إذا، قال هي قريب من المحسنين، قال صدقت. وليس في هذه الآية ما يدل على نفي الشفاعة كما زعمه بعضهم، لأن كونها لا تكون إلا بأمر الله دليل على وجودها، ولو أنها يراد بها النفي لما قيدها بالأمر ولم يقيدها به إلا لأنه يريد وجودها، وتفويض من ارتضاه لها من أنبيائه وأوليائه، وحاشاه من منعها، كيف وهو أرحم الراحمين، وقد أمر عباده بأن يشفع بعضهم لبعض وما كان أمر الرسول قط إلا من أمر الله لأنه لا ينطق عن هوى، راجع الآية ٢٥٥ من البقرة في ج ٣، والآية ١٤ من من النساء في ج ٣ في بحث الشفاعة. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الانشقاق عدد ٣٣- ٨٣ و ٨٤
نزلت بمكة بعد سورة الانفطار، وهي خمس وعشرون آية، ومئة وسبع كلمات، وأربعمائة وثلاثون حرفا، وتسمى سورة انشقت. لا يوجد مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
تفسير سورة الانشقاق عدد ٣٣- ٨٣ و ٨٤
نزلت بمكة بعد سورة الانفطار، وهي خمس وعشرون آية، ومئة وسبع كلمات، وأربعمائة وثلاثون حرفا، وتسمى سورة انشقت. لا يوجد مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
429
ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم فيوقع فيهم عذابه الذي لا مرد له. قال بعض العارفين إن الآية صالحة للمجاهدة الظاهرة والباطنة، فالذين جاهدوا أنفسهم في رضاء الله تعالى لنهدينهم إلى محل الرضاء. واعلم أن من عرف الله تعالى عرف كل شيء، ومن وصل إليه هان عنده كل شيء، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، قال عبد الله ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألته فليسأل أهل الثغور، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية، لأن الجهاد هداية أو مرتب على الهداية، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) الآية ١٨ من سورة محمد ج ٣، وجاء في الحديث من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. وقال بعض الكمل والذين يشغلون ظواهرهم بالوظائف ليوصلن أسرارهم إلى اللطائف. وقال سفيان ابن عينيه إذا أختلف الناس فانظروا ما عليه أهل التقوى فإن الله تعالى يقول (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية. والتقوى هي المخرج من الشدائد، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية ٣ من سورة الطلاق ج ٣ هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة المطففين عدد ٣٦- ٨٦- ٨٣
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
تفسير سورة المطففين عدد ٣٦- ٨٦- ٨٣
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» ١ الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (ويل) واد في جهنم508
يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، وفي صحيح ابن حبان والحاكم واد بين جبلين يهوي فيه الكافر إلخ. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قيح.
مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» ٢ الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» ٣ ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
واعلم أن هذه السورة آخر ما نزل بمكة قبل الهجرة، وقد ذم الله فيها التطفيف وحذر منه، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم قادم إلى المدينة، وعادة أكثر أهلها التطفيف ليتلوها عليهم أول قدومه كي ينزجروا عن هذه الخصلة القبيحة المستوجبة العذاب الأكبر في الآخرة، والذم الكثير في الدنيا، وهذه أول رحمة من الله نالت أهل المدينة بقدومه صلّى الله عليه وسلم، وكان كذلك، لأنه عند دخوله استفتحهم فيها فظن من سمعها أنها نزلت بالمدينة حتى قال بعضهم إنه كان رجل في المدينة يدعى أبا جهينة يشتري بصاع ويبيع بصاع دونه، وأنها نزلت فيه. ومنهم من قال إنها نزلت بالطريق بين مكة والمدينة، والصحيح أنها نزلت في مكة كما ذكرنا وهو أرجح الأقوال الواردة فيها، والله اعلم. وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع لغيره ناقصا، ويتناول القليل والكثير، وإنما شدد الله تعالى في هذا لأن عامة خلقه
مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» ٢ الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» ٣ ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا | ولقد نهيتك عن بنات الأوبر |
509
محتاجون إلى معاملات الناس وهي مبنية على الكيل والوزن والذراع، والبايع أمين فيما يكيل ويزين ويذرع، والناس يتبايعون ويتعاقدون بالأمانة التي هي ملاك الأمر بينهم أنفسهم وبينهم وبين ربهم، والخيانة مذمومة ملعونة ملعون مرتكبها، لهذا بدأ صلّى الله عليه وسلم دعوته في المدينة بها ليرتدعوا عما هم عليه من التطفيف، وليصدقوا في معاملاتهم، ويتناهوا فيما بينهم فتحسن معاملاتهم بعضهم مع بعض، وينجرّ عملهم إلى الإحسان مع خلق الله قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق. وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب ان يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وقال الفضيل بخس الميزان سوء يوم القيامة. قال تعالى «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ» المطففون «أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ» ٤ من قبورهم محشورون مساقون «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» ٥ ألا يتحققون نشرهم من قبورهم فيه ألا يعلمون عظم ذلك اليوم وهوله، وأدخلت هزة الاستفهام على لا النافية للتوبيخ، لأنها ليست للتنبيه بل للإنكار والتعجب من سوء حالهم وجرأتهم على التطفيف الذميم وعدم خوفهم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» في الموقف للحساب ويعرضون «لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ٦ فيتمثلون أمامه فيحاسبهم على النقير والفتيل والقطمير. روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر أنه تلا هذه قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه. وروى البغوي عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل. زاد الترمذي أو ميلين. قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو ما يكتحل به العين. قال يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق الجاما، وأشار صلّى الله عليه وسلم إلى فيه. وروى الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خمس بخمس قيل يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، وما طفقوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا
510
بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. ورواه غيره مرفوعا. وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له إن ابنك كيال ووزان، فقال أشهد أنه في النار وكأنه رحمه الله أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف، ومن هذا ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه لا تلتمسوا الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسنة الموازين. وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وليس بشيء، لأن هذا القيام خاص للمرء بين يدي ربه، وأما القيام للشخص إذا قدم عليه فلا بأس به، كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم. إذ في القيام زيادة احترام للمسلم وإظهار للمودة والمحبة ومدعاة للتآلف والتراحم. وفي عدمه احتقار له، وقد يؤدي إلى التقاطع والتباغض، وربما أدى
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية ١٤ من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية ٢٢ الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» ٧ وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية ١٤ من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية ٢٢ الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» ٧ وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال
511
ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم فيوقع فيهم عذابه الذي لا مرد له. قال بعض العارفين إن الآية صالحة للمجاهدة الظاهرة والباطنة، فالذين جاهدوا أنفسهم في رضاء الله تعالى لنهدينهم إلى محل الرضاء. واعلم أن من عرف الله تعالى عرف كل شيء، ومن وصل إليه هان عنده كل شيء، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، قال عبد الله ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألته فليسأل أهل الثغور، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية، لأن الجهاد هداية أو مرتب على الهداية، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) الآية ١٨ من سورة محمد ج ٣، وجاء في الحديث من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. وقال بعض الكمل والذين يشغلون ظواهرهم بالوظائف ليوصلن أسرارهم إلى اللطائف. وقال سفيان ابن عينيه إذا أختلف الناس فانظروا ما عليه أهل التقوى فإن الله تعالى يقول (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية. والتقوى هي المخرج من الشدائد، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الآية ٣ من سورة الطلاق ج ٣ هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة المطففين عدد ٣٦- ٨٦- ٨٣
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
تفسير سورة المطففين عدد ٣٦- ٨٦- ٨٣
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» ١ الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (ويل) واد في جهنم508
يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، وفي صحيح ابن حبان والحاكم واد بين جبلين يهوي فيه الكافر إلخ. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قيح.
مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» ٢ الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» ٣ ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
واعلم أن هذه السورة آخر ما نزل بمكة قبل الهجرة، وقد ذم الله فيها التطفيف وحذر منه، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم قادم إلى المدينة، وعادة أكثر أهلها التطفيف ليتلوها عليهم أول قدومه كي ينزجروا عن هذه الخصلة القبيحة المستوجبة العذاب الأكبر في الآخرة، والذم الكثير في الدنيا، وهذه أول رحمة من الله نالت أهل المدينة بقدومه صلّى الله عليه وسلم، وكان كذلك، لأنه عند دخوله استفتحهم فيها فظن من سمعها أنها نزلت بالمدينة حتى قال بعضهم إنه كان رجل في المدينة يدعى أبا جهينة يشتري بصاع ويبيع بصاع دونه، وأنها نزلت فيه. ومنهم من قال إنها نزلت بالطريق بين مكة والمدينة، والصحيح أنها نزلت في مكة كما ذكرنا وهو أرجح الأقوال الواردة فيها، والله اعلم. وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع لغيره ناقصا، ويتناول القليل والكثير، وإنما شدد الله تعالى في هذا لأن عامة خلقه
مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» ٢ الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» ٣ ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا | ولقد نهيتك عن بنات الأوبر |
509
محتاجون إلى معاملات الناس وهي مبنية على الكيل والوزن والذراع، والبايع أمين فيما يكيل ويزين ويذرع، والناس يتبايعون ويتعاقدون بالأمانة التي هي ملاك الأمر بينهم أنفسهم وبينهم وبين ربهم، والخيانة مذمومة ملعونة ملعون مرتكبها، لهذا بدأ صلّى الله عليه وسلم دعوته في المدينة بها ليرتدعوا عما هم عليه من التطفيف، وليصدقوا في معاملاتهم، ويتناهوا فيما بينهم فتحسن معاملاتهم بعضهم مع بعض، وينجرّ عملهم إلى الإحسان مع خلق الله قال نافع كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق. وقال قتادة أوف يا ابن آدم كما تحب ان يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وقال الفضيل بخس الميزان سوء يوم القيامة. قال تعالى «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ» المطففون «أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ» ٤ من قبورهم محشورون مساقون «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» ٥ ألا يتحققون نشرهم من قبورهم فيه ألا يعلمون عظم ذلك اليوم وهوله، وأدخلت هزة الاستفهام على لا النافية للتوبيخ، لأنها ليست للتنبيه بل للإنكار والتعجب من سوء حالهم وجرأتهم على التطفيف الذميم وعدم خوفهم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» في الموقف للحساب ويعرضون «لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ٦ فيتمثلون أمامه فيحاسبهم على النقير والفتيل والقطمير. روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر أنه تلا هذه قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه. وروى البغوي عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل. زاد الترمذي أو ميلين. قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو ما يكتحل به العين. قال يكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبته، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق الجاما، وأشار صلّى الله عليه وسلم إلى فيه. وروى الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خمس بخمس قيل يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، وما طفقوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا
510
بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. ورواه غيره مرفوعا. وقال عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له إن ابنك كيال ووزان، فقال أشهد أنه في النار وكأنه رحمه الله أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف، ومن هذا ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه لا تلتمسوا الحوائج ممن رزقه في رءوس المكاييل وألسنة الموازين. وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وليس بشيء، لأن هذا القيام خاص للمرء بين يدي ربه، وأما القيام للشخص إذا قدم عليه فلا بأس به، كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم. إذ في القيام زيادة احترام للمسلم وإظهار للمودة والمحبة ومدعاة للتآلف والتراحم. وفي عدمه احتقار له، وقد يؤدي إلى التقاطع والتباغض، وربما أدى
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية ١٤ من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية ٢٢ الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» ٧ وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية ١٤ من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية ٢٢ الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» ٧ وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال
511
تهويلا بكتاب الفجار وقبحه «وَما أَدْراكَ» أيها الإنسان «ما سِجِّينٌ» ٨ هو شيء عظيم لا تدركه دراية دار فهو «كِتابٌ مَرْقُومٌ» ٩ مكتوب فيه بخط غليظ لأن الرقم الخط الغليظ بحيث يعلم ما فيه من اطلع عليه عن بعد لأول نظرة بلا تفكر ولا إمعان، قال الشاعر:
وهذا الكتاب علامة على شقاوة صاحبه وكونه من أهل النار وفي لفظة سجين إشارة إلى سجن صاحبه في جهنم ومبالغة في شؤم ذلك السجن، بفتح السين ولقب به الكتاب لأنه سبب الحبس، وهو شر موضع في جهنم في مكان موحش مظلم في مسكن إبليس وذريته، كما وردت الآثار بذلك، وقيل إن سجين اسم الموضع لما أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: إن الفلق جب من جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح، وهذا أولى، إذ يكون الكتاب وسجين على ظاهرهما لولا قوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) إذ أبدل الكتاب منه، وقد أجاب الإمام النسفي عن هذا في تفسيره بأن سجين كتاب جامع هو ديوان أهل الشر دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الإنس والجن، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلوم بحيث يعلم من رآه أنه لا خير فيه، وعليه يكون المعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان بخط غليظ مميز عن غيره، وقال بعضهم إن نون سجين بدل من لام، وأصله سجيل مثل جبرين في جبريل، ومرقوم من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه، ويطلق الرقم على العدد عند أهل الحساب، وليس بمراد هنا. هذا والله أعلم. «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ» يوم يخرج ذلك الكتاب في ذلك اليوم العصيب «لِلْمُكَذِّبِينَ» ١٠ بذلك اليوم الفظيع لما ينالهم من وبال وحقارة على رءوس الأشهاد، وذل ومهانة وعذاب لا تطيقه الأوتاد، اللهم إنا نتبرأ إليك مما يوجب فضيحتنا يوم التناد
ثم وصفهم بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» ١١ يوم الجزاء صفة كاشفة موضحة لحالهم. قال تعالى متعجبا من جرأتهم على التكذيب في ذلك اليوم المهول «وَما يُكَذِّبُ بِهِ» أحد «إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» ١٢ كثير الإثم منهمك في الشهوات القبيحة متجاوز
سأرقم في الماء القراح إليكم | على بعدكم إن كان للماء راقم |
ثم وصفهم بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» ١١ يوم الجزاء صفة كاشفة موضحة لحالهم. قال تعالى متعجبا من جرأتهم على التكذيب في ذلك اليوم المهول «وَما يُكَذِّبُ بِهِ» أحد «إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» ١٢ كثير الإثم منهمك في الشهوات القبيحة متجاوز
512
الحد فيها غال في التقليد، لأنه جعل قدرة الله قاصرة عن الإعادة وعلمه تعالى قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد منها في الإعادة، وجعل علة الإعادة محالة عليه، وهو تعالى ليس عليه شيء محال البتة «إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا» الدالة على البعث والجزاء «قالَ» ذلك الأثيم لفرط جهله وقلة عقله وكثرة طيشه وشدة إعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه لو كان فيه لمحة من حلم أو لمعة من علم لما قال «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ١٣ خرافاتهم المتناقلة وأباطيلهم التي ألفوها على الآباء من قبل، ولم يظهر لها أثر حتى الآن. قيل نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث أو الوليد بن المغيرة، وأيا كان فالآية عامة، والكلام مطلق يدخل فيه كل من اتصف بصفات الذّم المارة هما وغيرهما «كَلَّا» ليس الأمر كذلك، أي مثل ما قال ذلك الأثيم وأضرابه من الباطل والتكذيب «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ١٤ من الآثام الخبيثة، وهذه الجملة بيان لما أدى بهم إلى التقوه بذلك الكلام الفظيع، أي ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة، ولكن أغشيت قلوبهم وغطبت بأوساخ الذنوب وصداها حتى غلب عليها السوء وحال بينهم وبين معرفة الحق كثافة الحجب الحاصلة من طبقات الرين عليها، فلم تقدر أن تعي شيئا أو يوقر فيها شيء من الحق، فقالوا ما قالوا.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا أخطأ بكت في قلبه نكتة، فإذا نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلق قلبه، وهو الران الذي قال الله (بل ران) إلخ. وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه والسنائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عنه بلفظ: من أذنب ذنبا وبزيادة سوداء صفة لنكتة، وقد يأتي الرّين بمعنى الطبع، أخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم؟ قال كل غني قد أبطره غناه.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا أخطأ بكت في قلبه نكتة، فإذا نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلق قلبه، وهو الران الذي قال الله (بل ران) إلخ. وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه والسنائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عنه بلفظ: من أذنب ذنبا وبزيادة سوداء صفة لنكتة، وقد يأتي الرّين بمعنى الطبع، أخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم؟ قال كل غني قد أبطره غناه.
513
مطلب القراءات السبع، ورؤية الله في الآخرة، والقيام للزائر:
هذا، وقد وقف حفص على/ بل/ وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار، وهذا الانفصال باللفظ تباعدا بين التنوين والنون الساكنة وأحد حروف الإظهار الخمسة عشر، وقرأ غيره بإدغام اللام في الراء ولم يقف، وقرىء/ ران/ بالإمالة وهي إحدى القراءات السبع الجائز تداولها إذ لا نقص ولا زيادة فيها، وقد ذكرنا قبلا أن المد والإشباع وتخفيف الحرف بالسكون عند توالي الحركات والوصل والقطع والتفخيم والترقيق والإمالة والإتباع ونقل الحركة وحذفها كله جائز لا حرج فيه، وإن الممنوع هو ما يخالف رسم القرآن من دون ذلك، وان ما قيل إن ابن عباس قرأ كذا وابن مسعود قرأ كذا وغيرهما بما فيه زيادة أو نقص أو تبديل لبعض الكلمات فهو عبارة عن كلمات تفسيرية لبعض كلم القرآن كتبوها على هامش أو بين سطور مصاحفهم لا غير، فلا يجوز عدها من القرآن، لأن تفسير الكلمات أو تأويلها لا يكون من القرآن، ولا يجوز أن ينطق بها أو يقرأها على أنها من القرآن، بل يتكلم بها في غير القراءة على أنها معان لبعض كلماته تدبر، قال تعالى «كَلَّا» حقا وصدقا «إِنَّهُمْ» الذين اعتراهم الرين بسبب كثرة الذنوب حتى أعمى قلوبهم «عَنْ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَوْمَئِذٍ» في يوم الدين «لَمَحْجُوبُونَ» ١٥ عنه لا يرونه في الآخرة والحجاب عن رؤيته فيها عذاب أليم لهم غير العذاب الذي يستحقونه على كسبهم القبيح. هذا، وان الله تعالى حاضر في ذلك الموقف الذي هو حاكمه وناظر فيه جميع خلقه، ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإن الحرمان من رؤيته عذاب عظيم لا بضاهيه عذاب. وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة، ولأن الله ذكر الحجاب في معرض التهديد للكافرين، فلا يجوز حصوله للمؤمنين، ولأنه كما حجب قوما بسخطه دل على أن قوما يرونه برضاه، لأن الكفار كما حجبوا في الدنيا عن التوحيد حجبوا في الآخرة عن الرؤية، قال مالك بن أنس رحمه الله لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، ومن أنكر رؤيته كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم والإهانة لهم، لأنه لا يؤذن بالدخول على الملوك إلا
هذا، وقد وقف حفص على/ بل/ وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار، وهذا الانفصال باللفظ تباعدا بين التنوين والنون الساكنة وأحد حروف الإظهار الخمسة عشر، وقرأ غيره بإدغام اللام في الراء ولم يقف، وقرىء/ ران/ بالإمالة وهي إحدى القراءات السبع الجائز تداولها إذ لا نقص ولا زيادة فيها، وقد ذكرنا قبلا أن المد والإشباع وتخفيف الحرف بالسكون عند توالي الحركات والوصل والقطع والتفخيم والترقيق والإمالة والإتباع ونقل الحركة وحذفها كله جائز لا حرج فيه، وإن الممنوع هو ما يخالف رسم القرآن من دون ذلك، وان ما قيل إن ابن عباس قرأ كذا وابن مسعود قرأ كذا وغيرهما بما فيه زيادة أو نقص أو تبديل لبعض الكلمات فهو عبارة عن كلمات تفسيرية لبعض كلم القرآن كتبوها على هامش أو بين سطور مصاحفهم لا غير، فلا يجوز عدها من القرآن، لأن تفسير الكلمات أو تأويلها لا يكون من القرآن، ولا يجوز أن ينطق بها أو يقرأها على أنها من القرآن، بل يتكلم بها في غير القراءة على أنها معان لبعض كلماته تدبر، قال تعالى «كَلَّا» حقا وصدقا «إِنَّهُمْ» الذين اعتراهم الرين بسبب كثرة الذنوب حتى أعمى قلوبهم «عَنْ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَوْمَئِذٍ» في يوم الدين «لَمَحْجُوبُونَ» ١٥ عنه لا يرونه في الآخرة والحجاب عن رؤيته فيها عذاب أليم لهم غير العذاب الذي يستحقونه على كسبهم القبيح. هذا، وان الله تعالى حاضر في ذلك الموقف الذي هو حاكمه وناظر فيه جميع خلقه، ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإن الحرمان من رؤيته عذاب عظيم لا بضاهيه عذاب. وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة، ولأن الله ذكر الحجاب في معرض التهديد للكافرين، فلا يجوز حصوله للمؤمنين، ولأنه كما حجب قوما بسخطه دل على أن قوما يرونه برضاه، لأن الكفار كما حجبوا في الدنيا عن التوحيد حجبوا في الآخرة عن الرؤية، قال مالك بن أنس رحمه الله لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، ومن أنكر رؤيته كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم والإهانة لهم، لأنه لا يؤذن بالدخول على الملوك إلا
514
للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم، قال:
ومعنى اعتروا غشوا، والعبيّة بضم العين وتشديد الباء والياء الملك المتكبر، ورجبوا هابوا وفزعوا لعظمة ودهشة مقابلته، راجع بحث الرؤية في الآية ٢٣ من سورة القيامة في ج ١ وما ترشدك إليه من المواضع. ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفرة بأنهم مع كونهم محجوبين يحرقون في النار أيضا بقوله جل قوله «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ» ١٦ يقاسون حرقها عند ما يزجون فيها، وهذا عندهم أشد بلاء من الحجاب، أما عند المؤمنين فالحجاب عندهم أعظم أنواع العذاب، قال الحسن:
لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا «ثُمَّ يُقالُ» لهم من قبل خزنة جهنم تقريعا وتوبيخا «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ١٧ في الدنيا فذوقوه الآن جزاء تكذيبكم «كَلَّا» ليس الأمر كما يتوهم المتوهمون ويزعم الزاعمون من إنكار البعث، فهو حاصل لا محالة. ثم طفق يذكر مقام المؤمنين الموقنين القائمين بالعدل بالكيل والميزان الموقين للناس حقوقهم المؤدين حق الله المصدقين بكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء بقوله عزّ قوله «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» ١٨ وهذا بمقابلة كتاب الفجار، ومقرّه بالسماء السابعة تحت العرش، ولهذا قال منوها بعلوه ومعظما لشأنه «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ» ١٩ أيها الإنسان هو في الحسن والعلو والكرامة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، معناه بما يريده الله، وإن ما جاء في تفسيره وتأويله فبحسب ما يحتمله اللفظ بالنسبة العقول البشر كالحالة في سجين في القبح والمذمة، وهو أيها السائل عنه «كِتابٌ مَرْقُومٌ» مكتوب بخط غليظ يعلم ما فيه من يطلع عليه عن بعد الأول نظرة دون دقة ورويّة، وهو علامة على سعادة صاحبه وكونه من أهل الجنة، وفيه إشارة إلى علو درجات صاحبه فيها، ومبالغة في بركة ذلك العلو وشرفه، لأنه وصف من العلو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولقب به لأنه سبب لارتفاع صاحبه إلى أعالي درجات الجنة، وهو في أحسن موضع بالجنة موضوع في مكان مؤنس منير تحت العرش، وهو عبارة
إذا اعتروا باب ذي عبيّة رجبوا | والناس من بين مرجوب ومحبوب |
لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا «ثُمَّ يُقالُ» لهم من قبل خزنة جهنم تقريعا وتوبيخا «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ١٧ في الدنيا فذوقوه الآن جزاء تكذيبكم «كَلَّا» ليس الأمر كما يتوهم المتوهمون ويزعم الزاعمون من إنكار البعث، فهو حاصل لا محالة. ثم طفق يذكر مقام المؤمنين الموقنين القائمين بالعدل بالكيل والميزان الموقين للناس حقوقهم المؤدين حق الله المصدقين بكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء بقوله عزّ قوله «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» ١٨ وهذا بمقابلة كتاب الفجار، ومقرّه بالسماء السابعة تحت العرش، ولهذا قال منوها بعلوه ومعظما لشأنه «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ» ١٩ أيها الإنسان هو في الحسن والعلو والكرامة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، معناه بما يريده الله، وإن ما جاء في تفسيره وتأويله فبحسب ما يحتمله اللفظ بالنسبة العقول البشر كالحالة في سجين في القبح والمذمة، وهو أيها السائل عنه «كِتابٌ مَرْقُومٌ» مكتوب بخط غليظ يعلم ما فيه من يطلع عليه عن بعد الأول نظرة دون دقة ورويّة، وهو علامة على سعادة صاحبه وكونه من أهل الجنة، وفيه إشارة إلى علو درجات صاحبه فيها، ومبالغة في بركة ذلك العلو وشرفه، لأنه وصف من العلو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولقب به لأنه سبب لارتفاع صاحبه إلى أعالي درجات الجنة، وهو في أحسن موضع بالجنة موضوع في مكان مؤنس منير تحت العرش، وهو عبارة
515
عن كتاب جامع هو علم لديوان أهل الخير دون الله به أعمال الأنبياء والشهداء والملائكة والعارفين وصلحاء الأمة من الأولين والآخرين، وعليون على ما ظهر لك من التفسير هو كتاب مرقوم مسطور فيه كل عمل صالح ظاهر الكتابة، معلم بعلامة يعلم منها من رآه لأول لمحة أنه جامع لكل خير فيما كتب من أعمال الأبرار، مدون فيه بخط واضح مميز عن غيره، ومنه رقم الثوب أي نقشه لظهوره للرائي عن بعد وتمييزه عن الثوب
«يَشْهَدُهُ» من الملائكة «الْمُقَرَّبُونَ» ٢١ لكرامة أهله وشرفهم عند ربهم، أخرج ابن المبارك عن قمرة بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الملائكة يرفعون اعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي في عمله فاجعلوه في عليين.
مطلب مقام الأبرار والفجار، وشراب كل منهما، والجنة والنار:
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» ٢٢ جمع بار وهم المتصفون بطاعة الله المنتهون عن مخالفته، المؤمنون بالبعث، الموفون الكيل والميزان، وهذا بمقابلة قوله تعالى (إِنَّ الْفُجَّارَ) بما يدل على أن المراد بهم الكفار لا غير، فهؤلاء الكرام مقرهم عند الله في نعيم الجنة الدائم، وهذا بيان الله تعالى بحسن أحوالهم في الآخرة جزاء أعمالهم الطاهرة، كأنه قيل قد علمنا كتابهم فما هو حالهم، فيقال نعيم الجنان تراهم «عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة في الحجال «يَنْظُرُونَ» ٢٣ إلى عظمة ربهم جل جلاله وإلى ما أعده إليهم في داره الباقية، وإلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة، وهم في محلهم لا يحجب أبصارهم الحجال التي هم فيها ولا غيرها، وفي قوله تعالى ينظرون إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة، كما وردت بذلك الأخبار، لما في النوم من زوال الشعور وغفلة الحواس، وهذا لا يناسب ذلك المقام. قال تعالى «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» الباهية الحسنة اللامعة النضرة «نَضْرَةَ النَّعِيمِ» ٢٤ بهجته
«يَشْهَدُهُ» من الملائكة «الْمُقَرَّبُونَ» ٢١ لكرامة أهله وشرفهم عند ربهم، أخرج ابن المبارك عن قمرة بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الملائكة يرفعون اعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي في عمله فاجعلوه في عليين.
مطلب مقام الأبرار والفجار، وشراب كل منهما، والجنة والنار:
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» ٢٢ جمع بار وهم المتصفون بطاعة الله المنتهون عن مخالفته، المؤمنون بالبعث، الموفون الكيل والميزان، وهذا بمقابلة قوله تعالى (إِنَّ الْفُجَّارَ) بما يدل على أن المراد بهم الكفار لا غير، فهؤلاء الكرام مقرهم عند الله في نعيم الجنة الدائم، وهذا بيان الله تعالى بحسن أحوالهم في الآخرة جزاء أعمالهم الطاهرة، كأنه قيل قد علمنا كتابهم فما هو حالهم، فيقال نعيم الجنان تراهم «عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة في الحجال «يَنْظُرُونَ» ٢٣ إلى عظمة ربهم جل جلاله وإلى ما أعده إليهم في داره الباقية، وإلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة، وهم في محلهم لا يحجب أبصارهم الحجال التي هم فيها ولا غيرها، وفي قوله تعالى ينظرون إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة، كما وردت بذلك الأخبار، لما في النوم من زوال الشعور وغفلة الحواس، وهذا لا يناسب ذلك المقام. قال تعالى «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» الباهية الحسنة اللامعة النضرة «نَضْرَةَ النَّعِيمِ» ٢٤ بهجته
516
ورونقه لما ترى من النور الساطع عليها الحاصل من سرور قلوبهم، وفيها أيضا رمز لعدم النوم لأنه يسلب نور الوجه ويغير بهجته كما هو مشاهد في الدنيا، والخطاب لكل من له حظ من الخطاب إيذانا بأن ما لهم من آثار النعمة واضحة لا يختصّ بها راء دون راء «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ» ٢٥ لم تمسه يد البتة، والرحيق اسم نوع من أشربة الجنة أبيض اللون طيب الطعم كريم الرائحة لا غول فيها ولا إثم، وقد ختم عليها لشرفها وبفاستها بكلمة كن فكانت، كما أنها تفتح عند شربها بالإرادة، ولذلك فلا يفض ختمها لمن يشربها إلا عند إرادة الشرب، قال حسان:
وهذه الخمرة غير الأنهار الجارية في الجنة، ولها أناس مخصوصون، فكما أن أهل الجنة درجات متفاوتون في السكنى والمقام والنزهة، فكذلك هم درجات في المأكل والمشرب والملبس، متفاوتون متفاضلون بنسبة تفاضلهم في الأعمال، والفرق بينهما لا يقاس بالفرق بين تفاضل أهل الدنيا، كما لا تقاس الدنيا بالآخرة، وهذا الشراب «خِتامُهُ مِسْكٌ» خالص لا بضاهيه مسك الدنيا باللون والرائحة والطعم، وانك أيها الشارب له تجد طعمه فيها عند شربها من غير طوح الشدادة لأنها ليست من خشب أو شمع أو غيره مما يفعله أهل الدنيا لخمرتهم الخبيثة، بل هي بحيث عند ما تضعها بين الشفتين تصمحل في الشراب كأنها لم تكن، ولهذا بقول الله تعالى لأهل الدنيا «وَفِي ذلِكَ» الشراب المختص للأبرار والكرام «فَلْيَتَنافَسِ» وليرغب فيه لا في خمرة الدنيا الدنسة المزيلة للعقل، ولا في شهواتها المنافية للعزة والمهابة والكرامة، «الْمُتَنافِسُونَ» ٢٦ الراغبون، ويتباهى به المتباهون، فعلى العاقل أن يبادر لطاعة الله في دنياه ليتوصل إلى هذا النعيم المقيم، لأنه مما يحرص عليه ويطمع فيه ويريده كل أحد لنفسه، وينفس به أي يعز عليه ويبخل به ويفضله على غيره، ويستأثر به، وأصل التنافس التغالب في الشيء، والنفيس مأخوذ من النفس لعزّتها، كأن كلّا من الشخصين يريد أن يختص به لنفسه، وقال البغوي: أصله من النفيس الذي تحرص عليه النفوس وتشح به على غيرها «وَمِزاجُهُ» مخلوط
يسقون من ورد البريص عليهم | بردى يصفق بالرحيق السلسل |
517
ذلك الشراب المسمى بالرحيق ليس ماء عاديا مثل ما يخلط أهل الدنيا شرابهم البدي ليخفف نتنه وحدته، بل يشاب «مِنْ تَسْنِيمٍ» ٢٧ علم لماء عين بالجنة على غاية من الصفاء والحلاوة والبهاء والرقة، خلقه الله تعالى خاصة لمزج شراب أهل الجنة الذي هو من ذلك النوع. روي عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة بن اليمان أنها عين من عيون إحدى الجنان العالية. وهو مصدر مأخوذ من سنم إذا ارتفع ومنه سنام البعير. وهذه العين هي ارفع شراب أهل الجنة، ومن خواصها أنها تأتي أهلها الذين يشربون منها أو يمزجون شرابهم منها من جهة الفوق، لأنها تجري بالهواء بلا أخدود، ماؤها كريم لكونه «عَيْناً» حال من تسنيم، وضح يجيء الحال منه مع أنه جامد، لتأويله بمشتق، كجارية مثلا، أو لأنه وصف بقوله تعالى «يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» ٢٨ من الله تعالى الدانون عنده بتفضله عليهم لما أسلفوه من أعمال طيبة، وهذه هي المدامة التي تواصى بها أهل الذوق من أهل الحقيقة الكاملين، وقد أطنبوا في مدحها ووصفها، ولم أقف على أفضل من أقوال ابن الفارض رحمه الله فيها بقصيدته الرنانة التي لم يسبق بمثلها والله أعلم وأولها:
وآخرها:
وأحسن بيت فيها قوله فيها:
وكل بيت فيها أحسن من الآخر وأبلغ وأفصح، وفيها من أنواع البديع ما لا يستغني عنه البديع. هذا وقدمنا في الآية ٤٦ من الصافات ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من عامة الخلق وخاصة الرؤساء منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشباههم في كل عصر «كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» كعمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وشبههم من فقراء المسلمين الصادقين المخلصين في الدنيا «يَضْحَكُونَ» ٢٩ منهم لمّا يرونهم
شربنا على ذكر الحبيب مدامة | سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم |
على نفسه قليبك من ضاع عمره | وليس له فيها نصيب ولا سهم |
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا | ونور ولا نار وروح ولا جسم |
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي | بها لطريق العزم من لا له عزم |
518
استهزاء بهم وسخرية «وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ»
٣٠ أيضا بأن يشير بعضهم إلى بعض بأعينهم وجوارحهم وشفاههم إشارات وحركات تدل على استحقارهم وإهانتهم والطعن بهم، والسب والشتم والتغيير بما هم عليه من الفقر والكآبة، فنزلت هذه الآية بهم. وجاء في البحر أن عليا كرم الله وجهه وجماعة من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فصاروا يضحكون منهم ويستخفون بهم فنزلت قبل أن يصل علي وجماعته لحضرة الرسول ليخبروه بذلك، وعند وصولهم إليه تلاها عليهم، وهي صالحة للوجهين وعامة في كل من يفعل فعلهم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وهنا الآية واقعة حال من أولئك الكفرة قبل نزول هذه الآية بدليل قوله تعالى (كانُوا) وجيء بها هنا تمهيدا لذكر بعض أحوال أولئك الأشرار مع هؤلاء الأبرار.
قال تعالى «وَإِذَا انْقَلَبُوا» في مجالسهم ورجعوا «إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» ٣١ متلذذين فرحين مستبشرين بما فعلوه من الاستخفاف بأولئك الكرام، معجبين بما ذكروهم فيه في غيبتهم عن أهلهم ويتفكهون به لما له من الوقع في قلوبهم الخبيثة «وَإِذا رَأَوْهُمْ» رأى الكافرون المؤمنين «قالُوا» بعضهم لبعض على مسمع منهم «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» ٣٢ في انتسابهم إلى محمد وإيمانهم به، يريدون جنس المؤمنين لا الذين مروا بهم فقط، وجاء التأكيد بأن واللام لمزيد الاعتناء بسبهم فيقولون إنه خدعهم بقوله وتركوا هذه اللذائذ المحسوسة لما يرجيهم به من شهوات الآخرة الموهومة، فهم قوم تركوا الحقيقة أملا بالخيال، وهذا هو عين الضلال لأنهم يظنون أنهم على شيء والحال ليس هم على شيء أصلا، قاتلهم الله أتى يؤفكون، ألم يعلموا أنهم هم الظالمون الضالون، ولكن السيء لا يرى إلا السيء، فالمؤمن مرآة أخيه، والكافر مرآة نفسه، والدن ينضح بما فيه، فلماذا يقولون هذا، والله تعالى يقول «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» ٣٣ لهم يراقبون أعمالهم، ولم يتوكلوا عليهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم وتهذيبها مما يضرها، وتطهيرها مما يدنسها، فاشتغالهم بها أولى من تتبع أحوال غيرهم وتسفيه أحلامهم وترك أنفسهم تمرح في هواها وتحارب مولاها، ألا يحملون أنفسهم على قبول الحق، وينهونها عن الضلال؟ قال تعالى «فَالْيَوْمَ» أي يوم القيامة
٣٠ أيضا بأن يشير بعضهم إلى بعض بأعينهم وجوارحهم وشفاههم إشارات وحركات تدل على استحقارهم وإهانتهم والطعن بهم، والسب والشتم والتغيير بما هم عليه من الفقر والكآبة، فنزلت هذه الآية بهم. وجاء في البحر أن عليا كرم الله وجهه وجماعة من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فصاروا يضحكون منهم ويستخفون بهم فنزلت قبل أن يصل علي وجماعته لحضرة الرسول ليخبروه بذلك، وعند وصولهم إليه تلاها عليهم، وهي صالحة للوجهين وعامة في كل من يفعل فعلهم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وهنا الآية واقعة حال من أولئك الكفرة قبل نزول هذه الآية بدليل قوله تعالى (كانُوا) وجيء بها هنا تمهيدا لذكر بعض أحوال أولئك الأشرار مع هؤلاء الأبرار.
قال تعالى «وَإِذَا انْقَلَبُوا» في مجالسهم ورجعوا «إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» ٣١ متلذذين فرحين مستبشرين بما فعلوه من الاستخفاف بأولئك الكرام، معجبين بما ذكروهم فيه في غيبتهم عن أهلهم ويتفكهون به لما له من الوقع في قلوبهم الخبيثة «وَإِذا رَأَوْهُمْ» رأى الكافرون المؤمنين «قالُوا» بعضهم لبعض على مسمع منهم «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» ٣٢ في انتسابهم إلى محمد وإيمانهم به، يريدون جنس المؤمنين لا الذين مروا بهم فقط، وجاء التأكيد بأن واللام لمزيد الاعتناء بسبهم فيقولون إنه خدعهم بقوله وتركوا هذه اللذائذ المحسوسة لما يرجيهم به من شهوات الآخرة الموهومة، فهم قوم تركوا الحقيقة أملا بالخيال، وهذا هو عين الضلال لأنهم يظنون أنهم على شيء والحال ليس هم على شيء أصلا، قاتلهم الله أتى يؤفكون، ألم يعلموا أنهم هم الظالمون الضالون، ولكن السيء لا يرى إلا السيء، فالمؤمن مرآة أخيه، والكافر مرآة نفسه، والدن ينضح بما فيه، فلماذا يقولون هذا، والله تعالى يقول «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» ٣٣ لهم يراقبون أعمالهم، ولم يتوكلوا عليهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم وتهذيبها مما يضرها، وتطهيرها مما يدنسها، فاشتغالهم بها أولى من تتبع أحوال غيرهم وتسفيه أحلامهم وترك أنفسهم تمرح في هواها وتحارب مولاها، ألا يحملون أنفسهم على قبول الحق، وينهونها عن الضلال؟ قال تعالى «فَالْيَوْمَ» أي يوم القيامة
519
يوم البعث والحساب والجزاء ترى «الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» ٣٤ بمقابلة ضحكهم عليهم بالدنيا حين كانوا يرونهم أذلاء مهانين بأعينهم بسبب تسلطهم عليهم وإيقاع الهوان بهم بعد العزة والرفاه، وإرهاقهم بأنواع العذاب بعد التنعم والترف إذ انقلب الأمر بالعكس عند ما أفضى المؤمنون إلى الآخرة، فصاروا يسخرون من الكفار كما كانوا يستهزئون بهم في الدنيا حالة عزّهم وكبريائهم، إذ غاب عنهم ما كانوا فيه، وتباعد عنهم ما كانوا يأملون، وزجوا في العذاب، ولاقوا من الأسى ما لم يكن بالحسبان، وذلك سبب ضحك المؤمنين منهم، لأن ما لا قوه في الدنيا من الوبال قد زال وانقلبوا إلى رضاء ربهم ورحمته، كما أن أولئك زال عنهم نعيم الدنيا، وغشيهم عذاب الآخرة الدائم، فاستوجبوا الضحك عليهم لما هم فيه من البلاء، والمؤمنون في السرور والهناءة، وهناك الضحك لا هنا:
قال تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية ٣٣ من تبارك المارة، فأولئك في الجحيم وهؤلاء «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» ٣٥ هذه الجملة حال من فاعل يضحكون أي يضحكون منهم حالة كونهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان وهم متكئون على سررهم، وأرائك الجنة من الدر والياقوت، قال أبو صالح: تفتح للكافرين أبواب النار وهم فيها ويقال لهم أخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم، فيفعل فيهم ذلك مرارا، والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم.
مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم:
قال تعالى «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ» بعمل الله هذا بهم في الموقف وفي الجحيم، وهل جوزوا في الآخرة جزاء «ما كانُوا يَفْعَلُونَ» ٣٦ بالمؤمنين في الدنيا من الأذى والاستهتار والضحك وغيره، وهذا الاستفهام استفهام تقرير، أي بل إنهم جوزوا حق جزائهم على إجرامهم في الدنيا، وحق لهم أن يفعل بهم هذا لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابا. واعلم أن ثوّب وأثيب بمعنى واحد، قال أوس:
هذى الجمال لا جمال خيبر | هذا أبرّ ربنا وأظهر |
مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم:
قال تعالى «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ» بعمل الله هذا بهم في الموقف وفي الجحيم، وهل جوزوا في الآخرة جزاء «ما كانُوا يَفْعَلُونَ» ٣٦ بالمؤمنين في الدنيا من الأذى والاستهتار والضحك وغيره، وهذا الاستفهام استفهام تقرير، أي بل إنهم جوزوا حق جزائهم على إجرامهم في الدنيا، وحق لهم أن يفعل بهم هذا لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابا. واعلم أن ثوّب وأثيب بمعنى واحد، قال أوس: