تفسير سورة المطفّفين

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

المؤمنين في الحياة الدنيا، وما سيقابل به المؤمنون الكفار يوم القيامة كفاء ما صنعوا معهم في الحياة الأولى.
أسباب النزول
سبب نزولها: ما أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما قدم النبي - ﷺ - المدينة.. كانوا من أبخس الناس كيلًا، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلًا إلى يومهم هذا، وورد عن ابن عباس أيضًا قال: هي أول سورة نزلت على رسول الله - ﷺ - ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم، كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أوفى الناس كيلًا إلى يومهم هذا كما مر آنفًا. وقال قوم: نزلت في رجل كان بالمدينة يعرف بأبي جهينة، واسمه: عمرو، وكان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر، قاله أبو هريرة رضي الله عنه.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: هلاك عظيم، وشر شديد، وعذاب أليم كائن ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾؛ أي: للناقصين (١) في المكيال والميزان بالشيء القليل التافه على سبيل الخفية. قال ابن كيسان (٢): الويل: كلمة تقال لكل مكروب واقع في البلية، فقولك: ويل لك، عبارة عن استحقاق المخاطب لنزول البلاء والمحنة عليه، الموجب له أن يقول: واويلاه ونحوه. وقيل: وي لفلان؛ أي: الحزن، فقرن بلام الإضافة تخفيفًا، وهو مبتدأ، وإن كان نكرة لوقوعه في معرض الدعاء على ما سبق بيانه في المرسلات، خبره قوله: ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾؛ أي: كائن للباخسين حقوق الناس في المكيال والميزان، فإن التطفيف البخس في الكيل والوزن، والنقص والخيانة فيهما؛ بأن لا يعطي المشتري حقه تامًا كاملًا، وذلك لأن ما يبخس شيء خفيف؛ أي: يسير حقير على وجه الخفية من جهة دناءة الكيال والوزان وخساستهما؛ إذ الكثير يظهر، فيمنع منه، ولذا سمي: مطففًا.
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
قال الراغب: يقال: طفف الكيل إذا قلل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه. وقال سعدي المفتي: والظاهر: أن بناء التفعي للتكثير؛ لأن البخس لما كان من عادتهم.. كانوا يكثرون التطفيف، ويجوز أن يكون للتعدية. انتهى.
وروي: أن رسول الله قدم المدينة، وكان أهلا من أبخس الناس كيلًا، فنزلت، فخرج فقرأها عليهم وقال: "خمس بخمس، ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنيين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر"؛ فعملوا بموجبها، وأحسنوا الكيل، فهم أوفى الناس كيلًا إلى اليوم. قال مكي بن أبي طالب (١): والمختار في ﴿وَيْلٌ﴾ وشبهه إذا كان غير مضاف: الرفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافًا أو معرفًا.. كان الاختيار فيه النصب نحو قوله تعالى: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا﴾، والمرافى بالويل هنا: شدة العذاب، أو نفس العذاب، أو الشر الشديد - كما مر - أو هو وادٍ في جهنم.
ومعنى الآية: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾؛ أي: عذاب، (٢) وخزي شديد يوم القيامة لمن يطفف وينقص في المكيال والميزان، وقد خص سبحانه المطففين بهذا الوعيد من قبل أنه كان فاشيًا منتشرًا بمكة والمدينة، فكانوا يطففون المكيال ويبخسونه، ولا يوفون حق المشتري.
روي: أنه كان بالمدينة رجل يقال له: أبو جهينة، له كيلان، أحدهما كبير، والآخر صغير، فكان إذا أراد أن يشتري من أصحاب الزروع والحبوب والثمار.. اشترى بالكيل الكبير، وإذا باع للناس.. كال للمشتري بالكيل الصغير. وهذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع، واستولى على نفوسهم الجشع، هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد، وهم الذين توعدهم النبي - ﷺ - وتهددهم بقوله "خمس بخمس" كما مر آنفًا.
٢ - وقد بين سبحانه عمل المطففين الذين استحقوا عليه هذا الوعيد بقوله:
(١) الشوكاني
(٢) المراغي.
﴿الَّذِينَ...﴾ إلخ (١) صفة كاشفة للمطففين، شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الذم والدعاء بالويل ﴿إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾؛ أي: إذا أخذوا مكيلهم وحقوقهم بحكم الشراء ونحوه من الناس، والاكتيال: الأخذ بالكيل، كالاتزان: الأخذ بالميزان، ولم يقل: اتزنوا لأن الكيل والوزن المراد بهما الشراء والبيع، فأحدهما يدل على الآخر.
﴿يَسْتَوْفُونَ﴾؛ أي: يأخذونه وافيًا وافرًا تامًا، والاستيفاء: عبارة عن الأخذ الوافي، وتبديل كلمة من بـ ﴿عَلَى﴾ لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء، أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضرُّ بهم، لكن لا على اعتبار الضرر في حيز الشرط الذي تتضمنه كلمة ﴿إذا﴾ لإخلاله بالمعنى، بل في نفس الأمر بموجب الجواب، فإن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيًا من غير نقص، بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس الكيل، وتحريك المكيال، والاحتيال في ملئه، فيسرقون أفواه المكاييل، وألسنة الموازين.
٣ - ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾؛ أي (٢): وإذا كالوا للناس المبيع ونحوه ﴿أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾؛ أي: وزنوه للناس، فحذف الجار، وأوصل الفعل كما قال في "تاج المصادر": وزنت فلانًا درهمًا، ووزنت لفلان بمعنى، والأصل اللام، ثم حذفت، فوصل الفعل، ومنه الآية. انتهى.
فلفظ ﴿هم﴾ منصوب المحل على المفعولية، لا مرفوعه على التأكيد للواو؛ لأن واو الجمع، إذا اتصل به ضمير المفعول.. لا يكتب بعده الألف كما في نصروك، ومنه الآية إذا لم يكتب الألف في المصحف، وإذا وقع في الطرف بأن يكون الضمير مرفوعًا واقعًا للتأكيد.. فحينئذٍ يكتب بعده الألف؛ لأن المؤكد ليس كالجزء مما قبله بخلاف المفعول، وأما نحو: شاربوا الماء، فالأكثر على حذف الألف؛ لقلة اتصال واو الجمع بالاسم هذا.
فإن قلت: خط المصحف خارج عن القياس؟
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
218
قلت: الأصل في أمثاله إثباته في المصحف، فلا يعدل عنه. ويروى (١) عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدًا لما في ﴿كالوا﴾ و ﴿وزنوا﴾ ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا، ثم يقولان: ﴿هم يخسرون﴾؛ أي: إذا كالوا هم لغيرهم، أو وزنواهم لغيرهم.. ينقصون، وإثبات الألف قبل ﴿هم﴾ لو لم يكن معتادًا في زمان الصحابة.. لمنع من إثباتها في سائر الأعصار. اهـ من "المراح".
قال أبو عبيد (٢): والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين:
إحداهما: الخط، ولذلك كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين.. لكانتا كالواو، أو وزنوا بالألف.
والأخرى: أن يقال: كلتك، ووزنتك بمعنى: كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي، كما يقال: شكرتك وشكرت لك، وقيل: هو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف: المكيل والموزون؛ أي: وإذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا موزونهم ﴿يُخْسِرُونَ﴾، أي: ينقصون حقوق الناس مع أن وضع الكيل والوزن إنما هو للتسوية والتعديل، يقال: خسر الميزان وأخسره بمعنى، كقوله: ﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ ولعل ذكر (٣) الكيل والوزن في صورة الإخسار، والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء، بأن لم يقل: إذا اكتالوا على الناس أو اتزنوا، لما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكنهم منه عند الكيل والوزن، كما قال في "الكشاف": كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة؛ لأنهم يزعزعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا.. كالوا أو وزنوا؛ لتمكنهم من البخس في النوعين جميعًا. انتهى. ولأن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب، دون التطفيف في الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير، ولأن ما يوزن أكثر قيمةً في كثير من الأحوال مما يكال، ويؤيده الاقتصار على التطفيف في الكيل في الحديث المذكور سابقًا، وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين؛ لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملتهم في الأخذ والإعطاء، لا في
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
219
خصوصية المأخوذ والمعطى. قال أبو عثمان رحمه الله: حقيقة هذه الآية عندي: هو من يحسن العبادة على رؤية الناس ويسيء إذا خلا.
والمعنى (١): أي إذا كان لهم عند الناس حق في شيء من المكيلات.. لم يقبلوا أن يأخذوه إلا وافيًا كاملًا، وإذا كان لأحد عندهم شيء، وأرادوا أن يؤدوه له.. أعطوه ناقصًا غير وافٍ، وكما يكون التطفيف في الكيل والميزان.. يكون في أشياء أخرى، فمن استأجر عاملًا، ووقف أمامه يراقبه، ويطالبه بتجويد عمله، ثم إذا كان هو عاملًا أجيرًا لم يراقب ربه في العمل، ولم يقم به على الوجه الذي ينبغي أن يقوم به.. يكون واقعًا تحت طائلة هذا الوعيد، مستوجبًا لأليم العذاب مهما يكن عمله، جلَّ، أو حقر، وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت، فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيلٍ ولا وزن، بل يسلبونهم ما بأيديهم، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم، فيحرمونهم التمتع بها اعتمادًا على قوة الملك، أو نفوذ السلطان، أو باستعمال الحيل المختلفة. لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا في عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين.
٤ - ثم هول في شأن هذا العمل وخوفهم، فقال: ﴿أَلَا يَظُنُّ﴾ ويوقن ﴿أُولَئِكَ﴾ المطففون الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل ﴿أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾
٥ - لمجيء ﴿يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لا يُقادَر قدر عظمه، وقدر عظم ما فيه من الأهوال، ومحاسبون فيه على مقدار الذرة والخردلة، والظن هنا (٢): بمعنى اليقين، أي: لا يوقنون ذلك، ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن، وقيل: الظن على بابه.
والمعنى: إن كانوا لا يستيقنون البعث.. فهلا ظنوه حتى يتدبروا فيه، وببحثوا عنه، ويتركوا ما يخشون من عاقبته، فإن من يظن ذلك وإن كان ظنًا ضعيفًا في حد الشك والوهم.. لا يتجاسر على أمثال هاتيك القبائح، فكيف بمن يتيقنه؟ فذكر الظن للمبالغة في المنع عن التطفيف، وإلا فالمؤمن لا يكفي له الظن في أمر البعث والمحاسبة، بل لا بد من الاعتقاد الجازم.
و ﴿أَلَا﴾ (٣) هنا ليست هي التي للتنبيه؛ لأن ما بعد حرف التنبيه مثبت، وهنا
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
منفي؛ لأن ﴿أَلَا﴾ التنبيهية إذا حذفت لا يختل المعنى نحو قوله تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)﴾، وإذا حذفت ﴿أَلَا﴾ هذه اختل المعنى، بل الهمزة الاستفهامية الإنكارية دخلت هنا على لا النافية.
وجوز أن تكون للعرض والتخصيص على الظن، واليوم العظيم: هو يوم القيامة، ووصفه بالعظيم لكونه زمانًا لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب، ودخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار. والمعنى: أي (١): إن تطفيف الكيل والميزان، واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة لا يصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة، ويحاسب على عمله؛ إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل، ولا بخس الميزان.
والخلاصة: أنه لا يَجْسُر على فعل هذه القبائح من كان يظن بوجود يوم يحاسب الله فيه عباده على أعمالهم، فما بالك بمن يستيقن ذلك.
٦ - ثم وصف سبحانه هذا اليوم فقال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾ بتقدير المضاف؛ أي: لمجرد أمره وحكمه بذلك، لا لشيء آخر، أو لمحاسبة رب العالمين ومجازاته، فيظهر هناك تطفيفهم ومجازاتهم، أو يقومون من قبورهم؛ ليرد ربّ العالمين أرواحهم إلى أجسادهم.
وانتصاب (٢) الظرف بـ ﴿مَبْعُوثُونَ﴾ المذكور قبله، أو بفعل مقدر يدل عليه ﴿مَبْعُوثُونَ﴾؛ أي: يبعثون يوم يقوم الناس، أو على البدل من محل ﴿لِيَوْمٍ﴾، وإنما بني على الفتح في هذين الوجهين لإضافته إلى الفعل، وفي تخصيص (٣) ﴿رب العالمين﴾ من بين سائر الصفات إشعار بالمالكية والتربية، فلا يمنع عليه الظالم القوي لكونه مملوكًا مسخرًا في قبضة قدرته، ولا يترك حق المظلوم الضعيف؛ لأن مقتضى التربية أن لا يضيع لأحد شيئًا من الحقوق، وفي هذه التشديدات إشارة إلى أن التطفيف، وإن كان يتعلق بشيء حقير، لكنه ذنب كبير، قيل: كل من نقص حق الله من زكاة وصلاة وصوم، فهو داخل تحت هذا الوعيد، وقيل: المراد بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ﴾: قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم، وقيل: المراد: قيامهم بما
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
عليهم من حقوق العباد، وقيل: المراد: قيام الرسل بين يدي الله للقضاء، والأول أولى.
٧ - وقوله: ﴿كَلَّا﴾ هي للردع والزجر عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، فيحسن الوقف عليه، فيستأنف بما بعدها، وقال أبو حاتم: إن ﴿كَلَّا﴾ بمعنى: حقًا، فتكون متصلة بما بعدها على معنى حقًا ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ على الأول تعليل للردع؛ أي: ازدجروا وكفوا مما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن الحساب والمجازاة، فإن الفجار سيحاسبون على أعمالهم، وقد أعد الله لهم كتابًا أحصى فيه أعمالهم، وكذا جميع ما يأتي، من ﴿كَلَّا﴾ من هذه السورة.
والحاصل: أن ﴿كَلَّا﴾ إنْ كانت بمعنى حقًا.. فهي ابتداء كلام متصلة بما بعدها، فيكون الوقف على ما قبلها، وإنْ كانت بمعنى الردع والزجر.. فهي متصلة بما قبلها متممة له، فيكون الوقف عليها.
والكتاب مصدر (١) بمعنى: المكتوب، كاللباس بمعنى: الملبوس، أو على حاله بمعنى الكتابة، واللام للتأكيد، و ﴿سِجِّينٍ﴾ علم لكتاب جامع هو ديوان الشر، دوَّن أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين، منقول من وصف؛ أي: ساجن كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد، وهو التعريف، وأصله: فعيل من السجن، وهو: الحبس مبالغة الساجن، كخمير وسكير وفسيق من الخمر والسكر والفسق، كما قاله أبو عبيدة والمبرد والزجاج، أو لأنه مطروح - كما قيل - تحت الأرض السابعة في مكان مظلم وحش، وهو مكان إبليس وذريته إذلالًا لهم، وتحقيرًا لشأنهم، وتشهده الشياطين المدحورون، كما أن كتاب الأبرار يشهده المقربون، فالسجين مبالغة المسجون.
والمعنى: أن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون؛ أي: ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون فيه قبائح أعمالهم المذكورين المختص بالشر، وهو السجين.
(١) روح البيان.
والخلاصة: أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان المسمى بالسجين، فعيل من السجن، وهو الحبس والتضييق؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، وهذا لا ينافي في كونه اسمًا لجبٍّ في جهنم، أو لأسفل سبع أرضين مكان أرواح الكفار؛ لجواز الاشتراك في الاسم.
٨ - ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨)﴾؛ أي: هو بحيث لا يبلغه دراية أحد، و ﴿مَا﴾ اسم (١) استفهام إنكاري مبتدأ، و ﴿أَدْرَاكَ﴾ خبره، و ﴿مَا سِجِّينٌ﴾ مبتدأ وخبر، و ﴿مَا﴾ استفهامية أيضًا، والجملة سادة مسد المفعول الثاني لـ ﴿أَدْرَاكَ﴾، والأول الكاف، والاستفهام الأول للإنكار، والثاني للتفخيم والتعظيم، والمعنى: ما أعلمك يا محمد عظمة سجين وفظاعته؛ أي: أنت لا تعلمه في الدنيا تفصيلًا، وإنما تعلمه في الآخرة، أو المراد: أنت لا تعلمه قبل نزول الوحي به عليك، وإنما علمته بالوحي. تأمل.
٩ - وقوله: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩)﴾ تفسير (٢) وبيان للكتاب المذكور في قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ﴾ وليس تفسير السجين؛ أي: هو كتاب مرقوم؛ أي: مسطور بيِّن الكتابة، بحيث كل من نظر إليه يطلع على ما فيه بلا دقة نظر، وإمعان توجه، مكتوب فيه أعمالهم، مثبت عليهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازون به، أو معلم يعلم من راه أنه لا خير فيه لأهاليه؛ أي: ذلك الكتاب مشتمل على علامة دالة على شقاوة صاحبه، وكونه من أصحاب النار، وكونه علامة الشر يستفاد من المقام؛ لأنه مقام التهويل، وقيل: الرقم: الختم بلغة حمير.
وقال القفال: قوله ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩)﴾: ليس تفسير السجين، بل هو خبر ثانٍ لـ ﴿إِنَّ﴾، والمعنى: إن كتاب الفجار لفي سجين، وإنه كتاب مرقوم، وقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨)﴾ وقع معترضًا بين الخبرين.
وقصارى ما سلف (٣): إن للشر سجلًا وصحيفة دونت فيها أعمال الفجار، وهو كتاب مسطور بيَّن الكتابة، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين، كما تقول: إن كتاب حساب قرية كذا في السجل الفلاني المشتمل على
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
حسابها وحساب غيرها من القرى، فلكل فاجر من الفجار صحيفة، وهذه الصحائف في السجل العظيم المسمى بسجين.
١٠ - وقوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠)﴾ كلام متصل بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾، وما بينهما اعتراض، والمعنى: ويل عظيم، وهلاك شديد يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين، وقال بعضهم: أي يوم إذ أعطى ذلك الكتاب واقع لمن وقع منه التكذيب بالبعث، وبما جاءت به الرسل.
١١ - ثم بيَّن سبحانه هؤلاء المكذبين، فقال: ﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)﴾ صفة ذم لـ ﴿المكذبين﴾، أو بدل منه كقولك: فعل ذلك فلان الفاسق، الفاسق الخبيث؛ لأن تكذيبهم بيوم الدين علم من قوله: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ﴾ إلخ.
والمعنى: أي شدة عذاب لمن يكذب بيوم الجزاء، سواء كان بجحد أخباره، أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب، وأعظم دليل على عدم المبالاة هو الإصرار على الجرائم، والمداومة على اقتراف السيئات.
١٢ - ثم بيَّن أوصاف من يكذب بهذا اليوم فقال: ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ﴾؛ أي: بيوم الدين والجزاء ﴿إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ﴾؛ أي: متجاوز عن حدود النظر والاعتبار؛ قال في "التقليد": حتى استقصر قدرة الله على الإعادة مع مشاهدته للبدء، كالوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث وأضرابهما. ﴿أَثِيمٍ﴾؛ أي: كثير الإثم، منهمك في الشهوات الناقصة الفانية، بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية، وحملته على إنكارها، فالاعتداء دل على إهمال القوة النظرية التي كمالها أن يعرف الإنسان وحدة الصانع، واتصافه بصفات الكمال مثل العلم والإرادة والقدرة ونحوها، والإثم دل على إهمال القوة العملية التي كمالها أن يعرف الإنسان الخير لأجل العلم به
والمعنى (١): أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق، وعمي عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الجرائم؛ إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة؛ لأنه يأبى النظر في أدلتها، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها إلا أنه يعلل نفسه بالإنكار، ويهون عليها الأمر بالتغافل.
(١) المراغي.
أما من كان ميالًا إلى العدل، واقفًا عند ما حد الله لعباده في شريعته، وسننه في نظام الكون، فأيسر شيء عليه التصديق باليوم الآخر، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه.
١٣ - ﴿إِذَا تُتْلَى﴾ قرأ الجمهور (١): ﴿إذا﴾، والحسن: ﴿أئذا﴾ بهمزة الاستفهام التوبيخي، وقرأ الجمهور: ﴿تُتْلَى﴾ بتاء التأنيث، وأبو حيوة وابن مقسم وأبو السمال والأشهب العقيلي والسلمي بالياء التحتانية. ﴿عليه﴾؛ أي: على ذلك المعتدي ﴿آيَاتُنَا﴾ الناطقة بذلك ﴿قَالَ﴾ من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: هي حكايات الأولين وأخبارهم الباطلة، وأحاديثهم الكاذبة. قال في "فتح الرحمن": هي الحكايات التي سطرت قديمًا، وهي جمع أسطورة بالضم، وإسطارة بالكسر، وهي الحديث الذي لا نظام له.
والمعنى: أي وإذا قرىء على هذا المعتدي الأثيم القرآن المنزل على محمد - ﷺ -.. أنكر كونه منزلًا من عند الله، وزعم أنه أخبار الأولين أخذها محمد من غيره من السابقين، ونحو الآية قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (٤) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦)﴾.
وقد يكون المعنى (٢): إنها أباطيل ألقيت على آبائهم الأولين فكذبوها، ولم تجز عليهم، فلسنا أول من يكذب بها حتى تزعموا أن تكذيبنا بها يعتبر عجلةً منا، فإنا إنما تأسينا في تكذيبنا بها بآبائنا الأولين الذين سبقونا.
١٤ - ﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر للمعتدي الأثيم، يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين عن ذلك القول الباطل، وتكذيب له فيه، ويجوز أن تكون ردعًا عن مجموع التكذيب.
ثم بيَّن السبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأولين، فقال: ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ قرأ حفص (٣) عن عاصم: ﴿بَلْ﴾ بإظهار اللام مع
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
225
سكتة عليها خفيفة بدون القطع، ويبتدىء ﴿رَانَ﴾، وقرأ الباقون: بإدغام اللام في الراء، ومنهم حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر عن عاصم يميلون فتحة الراء، قال بعض المفسرين (١): هرب حفص من اجتماع ثقل الراء المفخمة والإدغام. انتهى.
ويرد عليه: ﴿قُل رَبِّ﴾ فإنه لا سكتة فيه، بل هو بإدغام أحد المتقاربين في الآخر، فالوجه: أنه إنما سكت حفص على لام ﴿بَلْ رَانَ﴾، وكذا على نون ﴿مَنْ رَاقِ﴾ خوف اشتباهه تثنية: البر، ومبالغة: مارق؛ حيث يصير: بران، ومراق، وقال الزمخشري: وقرىء بإدغام اللام في الراء، وبالإظهار والإدغام أجود، وأميلت الألف، وفخمت الراء. انتهى.
قال أبو عبيدة (٢): ران على قلوبهم - غلب عليها -: رينًا وريونًا، وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك. قال الفراء: إنه كثرت منهم المعاصي والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. قال الحسن: الرين: الذنب على الذنب، حتى يعمي القلب. وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين. والإقفال: أشد من الطبع. قال الزجاج: الرين: هو كالصدأ يغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، و ﴿ما﴾ في قوله: ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ موصولة، والعائد محذوف، ومحلها الرفع على الفاعلية.
والمعنى (٣): ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها هذه المقالات الباطلة، بل ركب قلوبهم وغلب عليهم ما كانوا يكسبون من الكفر والمعاصي حتى صارت كالصدأ في المرآة، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق، كما قال - ﷺ -: "إن العبد كلما أذنب ذنبًا.. حصل في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود قلبه".
والخلاصة (٤): أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها، فصارت سببًا لحصول الرين على قلوبهم، فالتبست عليهم الأمور، ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح،
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
226
والصدق الواضح، والدليل اللائح،
١٥ - وبعد أن بيَّن منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين.. دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة، فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر عن الكسب الرائن؛ أي: الموقع في الرين ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن المكذبين، والجار في قوله: ﴿عَنْ رَبِّهِمْ﴾، والظرف في قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين، متعلقان بقوله: ﴿لَمَحْجُوبُونَ﴾ فلا يرونه؛ لأنهم بأكسابهم القبيحة صارت مرآة قلوبهم ذات صدأ، وسرت ظلمة الصدأ منها إلى قوالبهم، فلم يبق محل لنور التجلي، بخلاف المؤمنين، فإنهم يرونه تعالى؛ لأنهم بأكسابهم الحسنة صارت مراة قلوبهم مصقولة صافية، وسرى نور الصقالة والصفوة منها إلى قوالبهم، فصاروا مستعدين لانعكاس نور التجلي في قلوبهم وقوالبهم، وصاروا وجوهًا من جميع الجهات، بل أبصارًا بالكلية.
والمعنى: أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله، فإنكم ستطردون من رحمته، ولا تنالون رضاه، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده، كما قال: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾.
سئل (١) مالك بن أنس رحمه الله عن هذه الآية، فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه، لا بد أن يتجلى لأوليائه حتى يروه، يعني: احتج الإمام مالك بهذه الآية على مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل.. لم يبقَ للتخصيص فائدة، فالآية من جملة أدلة الرؤية. وقال جل ثناؤه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ فأعلم جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون، وقيل (٢): ﴿كَلَّا﴾ بمعنى حقًا؛ أي: حقًا إنهم - يعني: الكفار - عن ربهم يوم القيامة محجوبون لا يرونه أبدًا، قال مقاتل: يعني: أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم.
١٦ - ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ﴾ مع كونهم محجوبين عن رؤية الله تعالى ﴿لَصَالُو الْجَحِيمِ﴾؛ أي: داخلوا النار، ومباشروا حرها من غير حائل، أصله صالون، حذفت نونه للإضافة، و ﴿ثُمَّ﴾ لتراخي الرتبة، فإن صِلي الجحيم أشد
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
من الحجاب والإهانة والحرمان من الرحمة والكرامة، فإن الحجاب، وإن كان من قبيل العذاب الروحاني، وهو أشد من العذاب الجسماني، لكن مجرد النجاة من النار أهون من العذاب؛ لأن في العذاب الحسي حصول العذابين لما لا يخفى.
والمعنى: أي وبعد أن يحجبوا في عرصات القيامة عن الدنو من ربهم، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونا، يقذف بهم في النار، ويصلون سعيرها، ويقاسون حرها.
١٧ - ثم أرشد إلى أنهم حينئذٍ يبكَّتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام، فقال: ﴿ثُمَّ يُقَالُ﴾ لهم توبيخًا وتقريعًا من جهة الزبانية، وإنما طوى ذكرهم؛ لأن المقصود ذكر القول لا القائل، مع أن فيه تعميمًا لاحتمال القائل، وبه يشتد الخوف؛ أي: تقول لهم خزنة جهنم توبيخًا لم: ﴿هَذَا﴾ العذاب، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿الَّذِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِهِ﴾ متعلق بقوله: ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ فانظروه وذوقوه، وتقديمه لرعاية الفاصل لا للحصر، فإنهم كانوا يكذبون أحكامًا كثيرة.
والمعنى (١): أي هذا الذي عوقبتم به هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق، كزعمكم أنكم لن تبعثوا، وأن القرآن أساطير الأولين، وأن محمدًا ساحر أو كذاب، إلى نحو ذلك من مقالاتكم، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم، وعاينتم بانفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه، وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكر - وهو يتألم - بأن وسائل نجاته. من مصابه كانت في متناول يديه، وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريًّا.
١٨ - وقوله ﴿كَلَّا﴾ ردع عما كانوا عليه بعد ردع، وزجر بعد زجر، والتكرير للتأكيد، وجملة قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ﴾؛ أي: إن الأعمال المكتوبة للأبرار على أن ﴿الكتابَ﴾ مصدر مضاف إلى مقدر. ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ جملة مستأنفة لبيان ما تمضنته ﴿كَلَّا﴾ ويجوز أن تكون ﴿كَلَّا﴾ بمعنى: حقًا، والأبرار هم المطيعون، وكتابهم صحائف حسناتهم؛ أي (٢): إن كتاب أعمال الأبرار لفي عليين؛ أي: لفي ديوان جامع لجميع أعمال الأبرار، فـ ﴿عِلِّيِّينَ﴾ علم لديوان الخير الذي دون فيه ما عملته
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الملائكة وصلحاء الثقلين، منقول من جمع عِلي فِعِّيلٌ، من العلو؛ للمبالغة فيه، سمي بذلك؛ إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريمًا له وتعظيمًا.
وروى: أن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه، فإذا انتهوا إلى ما شاء الله من سلطانه.. أوحى إليهم؛ إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيزكونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله. أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، لانه لم يخلص في عمله، فاجعلوه في السجين. وفيه إشارة إلى أن الحفظة لا يطلعون على الإخلاص والرياء إلا بإطلاع الله تعالى.
ومعنى الآية (١): أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث، ومن أن كتاب الله أساطير الأولين، فإن كتاب أعمال الأبرار مودع في أعلى الأمكنة، بحيث يشهده المقربون من الملائكة تشريفًا لهم، وتعظيمًا لشأنهم، كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين إذلالهم وتحقير شأنهم، وبيان أنه لا يؤبه بهم، ولا يعني بأمرهم.
١٩ - ثم عظم شأن ﴿عِلِّيِّينَ﴾، وفخم أمره، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩)﴾؛ أي: وما أعلمك يا محمد أيُّ شيء عليون على جهة التفحيم والتعظيم لعليين؛ أي: هو خارج عن دائرة دراية الخلق،
٢٠ - ثم فسره وبين المراد منه، فقال: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠)﴾؛ أي: هو (٢) كتاب مسطور بيِّن الكتابة، يقرأ بلا تكلف، أو معلم بعلامة تدل على سعادة صاحبه، وفوزه بنعيم دائم، وملك لا يبلى.
ولما كان عليون علمًا منقولًا من الجمع.. حكم عليه بالمفرد، وهو كتاب مرقوم، وأعرب بإعراب الجمع؛ حيث جر أولًا بـ ﴿في﴾، ورفع بالخبرية لما الاستفهامية؛ لكونه في صورة الجمع، وقيل: اسم مفرد على لفظ الجع كعشرين وأمثاله، فليس له واحد من لفظه،
٢١ - وجملة: ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)﴾ صفة ثانية لـ ﴿كِتَابٌ﴾؛ أي: يحضر ذلك الكتاب المرقوم الملائكة المقربون عند الله سبحانه،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
قرب المكانة والكرامة، ويحفظونه من الضياع، وقيل: يشهدون بما فيه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وقال وهب وابن إسحاق (١): المقربون هنا: إسرافيل، فإذا عمل المؤمن عمل البر.. صعدت الملائكة بالصحيفة، ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى تنتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها. قال في "فتح الرحمن": هم سبعة أملاك من مقربي السماء، من كل سماء ملك مقرب، فيحضر ذلك الكتاب المرقوم، ويشيعه حتى يصعد به إلى حيث شاء الله تعالى، ويكون هذا في كل يوم. وبهذا (٢) تبين سر ترك الظاهر بأن يقال: طوبى يومئذ للمصدقين، في مقابلة: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠)﴾؛ لأن الإخبار بحضور الملائكة تعظيمًا وإجلالًا يفيد ذلك مع زيادة، فختم كل واحد بما يصلح سواه مكانه.
والمعنى (٣): أي أن كتابهم في هذا السجل الكبير الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكما وكل سبحانه أمر اللوح المحفوظ إليهم.. وكل إليهم حفظ كتاب الأبرار، وقد يكون المراد أنهم ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب.
٢٢ - وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار.. أي: يفصل حال الأبرار، فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾؛ أي: إن السعداء الأتقياء عن درن صفات النفوس ﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾؛ أي: لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره،
٢٣ - ثم وصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة:
أولها: قوله: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾؛ أي: على الأسرة في الحجال، ولا يكاد تطلق الأريكة على السرير عندهم إلا عند كونه في الحجلة: وهو - بالتحريك - بيت العروس، يزين بالثياب والأسرَّة والستور، والجار والمجرور في قوله: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ يجوز أن يكون خبرًا بعد خبر لـ ﴿إنَ﴾، وأن يكون حالًا من المنوي في الخبر، أو من فاعل ﴿يَنْظُرُونَ﴾، والتقديم حينئذٍ لرعاية فواصل الآي، وجملة قوله: ﴿يَنْظُرُونَ﴾ يجوز (٤) أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالًا، إما من المنوي في الخبر، أو في الظرف؛ أي: ناظرين، وحذف مفعول ﴿يَنْظُرُونَ﴾ للتعميم؛ أي: ينظرون ما شاؤوا مد أعينهم إليه من رغائب مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم من النعمة والكرامة، وكذا إلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
للطافتها وشفوفها؛ أي: رقتها؛ وقيل: ينظرون إلى وجه الله سبحانه، قال ابن عطاء الله رحمه الله تعالى: على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف، وعلى أرائك القربة، ينظرون إلى الرؤوف الرحيم.
والمعنى (١): أي إن البررة المطيعين لربهم الذين يؤمنون بالبعث والحساب، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله - ﷺ - لفي لذة، وخفض عيش، وراحة بال، واطمئنان نفس، وعلى الأسِرَّة في حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم في الجنة من الحور العين، والولدان، وأنواع الأطعمة والأشربة، والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك.
٢٤ - وثانيها: أنه بيَّن أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال: ﴿تَعْرِفُ﴾ أيها المخاطب، أو يا محمد ﴿فِي وُجُوهِهِمْ﴾؛ أي: في وجوه أولئك الأبرار ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾؛ أي: بهجة التنعم، وماءه، وروقه، وهو ثاني الأوصاف الثلاثة المذكورة سابقًا؛ أي: إنك إذا رأيتهم ونظرت إليهم.. عرفت أنهم أهل النعمة، لما ترى في وجوههم من القرائن الدالة على ذلك؛ كالضحك والاستبشار، كما يرى في الدنيا في وجوه الأغنياء، وأهل الترفه، فمن (٢) هذا اختير: ﴿تَعْرِفُ﴾ على ترى، مع أن المعرفة تتعلق بالخفيات غالبًا، والرؤية بالجليات غالبًا، والخطاب في ﴿تَعْرِفُ﴾ لكل أحد ممن له حظ من الخطاب؛ للإيذان بأن لهم من آثار النعمة، وأحكام البهجة بحيث لا يختص برؤية راء دون راء. قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: يعني: لذة النظر تتلألأ مثل الشمس في وجوههم إذا رجعوا من زيارة الله إلى أوطانهم، وقال بعضهم: تعرف في وجوههم رضي محبوبهم عنهم قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)﴾.
وقرأ الجمهور: ﴿تَعْرِفُ﴾ بفتح الفوقية وكسر الراء خطابًا للرسول الله - ﷺ -، أو لأي ناظر، ونصب ﴿نضرة﴾ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، ويعقوب وشيبة وطلحة وابن إسحاق والزعفراني بضم الفوقية، وفتح الراء مبنيًا للمفعول، ورفع ﴿نضرةُ﴾ على النيابة، وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ: ﴿يعرف﴾ بالياء التحتانية إذ تأنيث ﴿نضرة﴾ مجازي.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
٢٥ - ثم ذكر ثالث الأوصاف، فقال: ﴿يُسْقَوْنَ﴾؛ أي: يسقى الأبرار في الجنة ﴿مِنْ رَحِيقٍ﴾؛ أي: من شراب خالص لا غش فيه، ولا ما يكرهه الطبع، ولا شيء يفسده، وأيضًا صافٍ من كدورة الخمار، وتغيير النكهة، وإيراث الصداع؛ أي: يسقون خمرًا لا غش فيها، ولا يصيب شاربها خمار، ولا يناله منها أذى، كما قال: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧)﴾ وسقى: يتعدى إلى مفعولين، والأول هنا ﴿الواو﴾ القائم مقام الفاعل، والثاني ﴿مِنْ رَحِيقٍ﴾؛ لأن ﴿من﴾ تبعيضية، كأنه قيل: بعض رحيق، أو مقدر معلوم؛ أي: شرابًا كائنًا من رحيق مبتدأ منه، فـ ﴿من﴾ ابتدائية، و ﴿الرحيق﴾: صافي الشراب وخالصها ﴿مَخْتُومٍ﴾ إناؤه ومغطى رأسه؛ لئلا يدخله القذى بغطاء بيته
٢٦ - بقوله: ﴿خِتَامُهُ﴾، أي: ختام ذلك الشراب، وغطاؤه، أي: ما يختم ويطبع به ويغطى ﴿مِسْكٌ﴾ وهو طيب معروف؛ أي: مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته، وطيب رائحته. قال في "كشف الأسرار": ما ختم به مسك رطب ينطبع فيه الخاتم، أمر الله بالختم عليه إكرامًا لأصحابه، فختم ومنع أن يمسه قياس، أو تتناوله يد إلى أن يفك ختمه الأبرار، والأظهر: أنه تمثيل لكمال نفاسته، كما مر آنفًا؛ إذ الشيء النفيس يختم لا سيما إذا كان ما يختم به المسك بدل الطين. وقيل: ختام الشيء آخره وخاتمته، فمعنى ختامه مسك: أن الشارب إذا رفع فاه من آخر شربه.. وجد رائحة كرائحة المسك، أو وجد رائحة المسك؛ لكونه ممزوجًا به كالأشربة الممسكة في الدنيا، فإنه يوجد فيها رائحة المسك عند خاتمة الشرب، لا في أول زمان الملابسة بالشرب. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن الرحيق شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به آخر شربهم، ولو أن رجلًا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها.. لم يبق ذو روح إلا وجد طيب ريحه. انتهى. وهذا النوع من الخمر غير النوع الآخر الذي يجري في الأنهار الذي أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾.
وقرأ الجمهور: ﴿خِتَامُهُ﴾؛ أي: خلطه ومزاجه، قاله محبد الله وعلقمة، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن: معناه: ختامه؛ أي: رائحته عند خاتمة الشراب رائحة المسك، وقرأ علي والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي: ﴿خاتمه﴾ بعد الخاء ألف وفتح التاء، وهذه بينة المعنى أنه يراد الطبع على الرحيق، وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي:
كسر التاء؛ أي؛ آخره، مثل قوله: ﴿وخاتم النبيين﴾، وفيه حذف؛ أي: خاتم رائحته المسك، أو خاتمه الذي يختم به ويطبع، والخاتم والختام يتقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر، كذا قاله الفراء. قال في "الصحاح": والختام الطين الذي يختم به، وكذا قال ابن زيد. قال الفرزدق:
وَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ صُرَّعَاتٍ وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَافَ الْخِتَامَهْ
ثم رغب في العمل لذلك النعيم، فقال: ﴿وَفِي ذَلِكَ﴾ الرحيق خاصة دون غيره من النعيم المكدر السريع الفناء، أو فيما ذكر من أحوالهم لا في أحوال غيرهم من أهل الشمال ﴿فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾؛ أي: فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وقيل: ﴿فِي﴾ بمعنى: إلى؛ أي: وإلى ذلك فليتسابق المتسابقون بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
والأمر فيه للتحضيض والترغيب ظاهر (١)، وللوجوب باطنًا بوجوب الإيمان والطاعة، وأصل التنافس: التغالب والتنازع في الشيء النفيس؛ أي: المرغوب، كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به، وأصله من النفس لعزتها، وقال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي يحرص عليه نفوس الناس، ويريده كل أحد لنفسه، وينفس به على غيره؛ أي: يبخل. وفي "المفردات": المنافسة: مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره. قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: علامة التنافس تعلق القلب به، وطيران الضمير إليه، والحركة عند ذكره، والتباعد من الناس، والإنس بالوحدة، والبكاء على ما سلف، وحلاوة سماع الذكر، والتدبر في كلام الرحمن، وتلقي النعم بالفرح والشكر، والتعرض للمناجاة.
٢٧ - وقوله: ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)﴾ معطوف على ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ على أنه صفة أخرى لـ ﴿رَحِيقٍ﴾ مثله، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته؛ أي (٢): ما يمزج ويخلط به ذلك الرحيق من ماء تسنيم: وهو اسم علم لعين بعينها تجري من جنة عدن، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه: إذا رفعه؛ إما لأنها أرفع شراب في الجنة
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
قدرًا، فيكون من علو المكان، وإما لأنها تأتيهم من فوق، فيكون من علو المكانة؛ أي: ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب الجنة، وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى سفل. ومنه: سنام البعير، لعلوه من بدنه، ومنه: تسنيم القبور، روي: أنها تجري في الهواء متسنمة، فتنصب في أوانيهم، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض، فلا يحتاجون إلى الاستقاء،
٢٨ - ثم بين هذا التسنيم فقال: ﴿عَيْنًا﴾، وانتصابه على المدح، وقال الزجاج (١): على الحال، وإنما جاز أن تكون ﴿عَيْنًا﴾ حالًا مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ من جناب الله قربًا معنويًا روحانيًا، والباء في ﴿بِهَا﴾؛ إما زائدة؛ أي: يشربها، أو بمعنى: من؛ أي: يشرب منها، قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش، قيل: يشرب بها المقربون صرفًا، ويمزج بها كأس أهل اليمين.
والمعنى (٢): أمدح عينًا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجًا إذا أرادوا، ويشرب منها المقربون صرفًا، وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه، فبيَّين لهم أنهم في الآخرة يشربون رحيقًا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر إذا شاؤوا أن يمزجوه.
٢٩ - ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾؛ أي: إن الذين كانوا ذوي جرم وذنب، ولا ذنب أكبر من الكفر وأذى المؤمنين لإيمانهم، فالمراد بهم: رؤساء قريش، وأكابر المجرمين المشركين، كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأضرابهم ﴿كَانُوا﴾ في الدنيا ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانًا صادقًا ﴿يَضْحَكُونَ﴾؛ أي: يستهزئون بفقرائهم، كعمار وصهيب وبلال وخباب وغيرهم، وتقديم (٣) الجار والمجرور لمراعاة الفواصل؛ أي: إن (٤) المعتدين الأئمة الذين ضربت نفوسهم على الشر، وصمت آذانهم عن سماع دعوة الحق، كانوا في الدنيا يضحكون من الذين امنوا، ذاك أنه حين رحم الله تعالى العالم ببعثة
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
محمد - ﷺ -.. كان كفار القوم وعرفاؤهم على الرأي الدهماء من عبادة الأوثان والأصنام، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرفع بها إلا صوته - ﷺ -، ثم يهمس بها بعض من يلبي دعوته من الضعفاء، فيسر بها إلى من يرجو الخير فيه، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه.
ومن شأن القوي المعتز بقوته وكثرة ماله وعزة نفره، أن يضحك ممن يخالفه في المنزع، ويدعوه إلى غير ما يعرف، كما كان ذلك شأن جماعة من قريش، كأبي جهل وشيعته، وأمثالهم كثيرون في كل زمان ومكان، متى عمت البدع، وخفي طريق الحق، وتحكمت الشهوات، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، وإذا صار الناس إلى هذه الحال ضعف صوت الحق، وازدرى السامعون منه بالداعي إليه.
٣٠ - وقد روي أن صناديد قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وأضرابهم، كانوا يؤذون رسول الله - ﷺ - وأصحابه، ويستهزئون بهم، ويحرضون عليهم سفهاءهم وغلمانهم، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾ روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه جاء في نفر من المسلمين، فرآه بعض هؤلاء الكفار، فسخروا منه، وممن معه، وضحكوا منهم وتغامزوا بهم، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك، فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه، فنزل قبل وصول علي إلى رسول الله - ﷺ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا﴾؛ أي: فقراء المؤمنين ﴿بِهِمْ﴾؛ أي: المشركين، وهم في أنديتهم، وهو الأظهر، وإن جاز العكس أيضًا. يقال: مرَّ مرًا ومرورًا: إذا جاز وذهب، كاستمر ومره ومر به: جاز عليه، كما في "القاموس": ويعدى بالباء وعلي ﴿يَتَغَامَزُونَ﴾؛ أي: يغمز بعضهم بعضًا، ويشيرون بأعينهم، ويعيبونهم، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم، ويتركون اللذات، ويتحملون المشقات لما يرجونه في الآخرة من المثوبات، وأمر البعث والجزاء لا يقين به، وإنه بعيد كل البعد، والتغامز: تفاعل من الغمز، وهو الإشارة بالجفن والحاجب، ويكون بمعنى العيب أيضًا.
٣١ - ﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا﴾؛ أي: وإذا انقلب الكفار ورجعوا من مجالسهم ﴿إِلَى أَهْلِهِمُ﴾؛ أي: إلى أهل بيتهم وأصحابهم الجهلة الضالة التابعة لهم، والانقلاب: الانصراف
والتحول والرجوع. ﴿انْقَلَبُوا﴾ ورجعوا حال كونهم ﴿فَكِهِينَ﴾؛ أي: فرحين متلذذين بذكرهم بالسوء، والسخرية منهم، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بمرأى من المارين، ويكتفون حينئذٍ بالتغامز.
والمعنى (١): أي وإذا رجعوا إلى ذوي قرابتهم، وبني جلدتهم، وأشياعهم من أهل الشرك والضلالة.. رجعوا معجبين بما فعلوا من العيب على أهل الإيمان، ورميهم بالسخف وقلة العقل، ويقولون: عجبًا لهم إذ يقولون لا تدعوا إلا إلهًا واحدًا، ولا تتوجوا بالطلب إلا إليه، فأين الأولياء والشفعاء، فكم ضروا وكم نفعوا إلى نحو ذلك مما يتندرون به، ويعدونه فكاهة، ويتلذذون بحكايته.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فاكهين﴾ بالألف؛ أي: أصحاب فاكهة ومزح ولسرور باستخفافهم بأهل الإيمان. وقرأ أبو رجاء والحسن وعكرمة وأبو جعفر وحفص وابن القعقاع والأعرج والسلمي: ﴿فَكِهِينَ﴾ بغير ألف. قال الفراء: هما لغتان، مثل: طمع وطامع، وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة الدخان، أن الفكه: الأشر البطر، والفاكه: الناعم المتنعم.
٣٢ - ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ﴾؛ أي: وإذا رأى المشركون المسلمين أينما كانوا، فالضمير المرفوع عائد على المجرمين ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المجرمون مشيرين إلى المؤمنين بالتحقير: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ المسلمين ﴿لَضَالُّونَ﴾ في اتباعهم محمدًا - ﷺ -، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر، ويجوز أن يكون المعنى: وإذا رأى المؤمنون المشركين.. قالوا هذا القول، والأول أولى.
نسبوا (٣) المسلمين ممن رأوهم، ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد، وقالوا: تركوا دين آبائهم القديم، ودخلوا في الدين الحادث، أو قالوا: تركوا التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدرى هل له وجود أم لا.
والمعنى (٤): وإذا رأى الكفار المؤمنين، قالوا: إن هؤلاء لضالون؛ إذ نبذوا ما عليه الكافة، وذهبوا يعيبون العقائد الموروثة، والمناسك التي نقلها الخلف عن السلف كابرًا عن كابر، وجيلًا بعد جيل،
٣٣ - فرد سبحانه على هؤلاء الكفار، فقال:
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣)﴾، والجملة (١) حال من واو قالوا؛ أي: قالوا ذلك، والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم، يحفظون عليهم أمورهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وإنما أمروا بإصلاح أنفسهم، وأي نفع لهم في تتبع أحوال غيرهم، وهذا تهكم بهم، وإشعار بأن ما اجترؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى. وقد جوِّز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين، كأنهم قالوا: إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا علينا حافظين إنكارًا لصدهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام، وإنما قيل نقلًا له بالمعنى.
والمعنى (٢): أي إن الله تعالى لم يرسل الكفار رقباء على المؤمنين، ولم يؤتهم سلطة محاسبتم على أفعالهم، وتعريف باطلها من صحيحها، فلا يسوغ لهم أن يعيبوا عليهم ما يعتقدونه ضلالًا بعقولهم الفاسدة، وإنما كلفهم أن ينظروا شؤون أنفسهم فيعدلوا منها ما اعوج، فإذا فعلوا ذلك.. قاموا بما يجب عليهم في هذه الحياة.
٣٤ - ثم شرع يذكر معاملة المؤمنين لهم يوم القيامة تسلية لهم على ما ينالهم منهم من أذى، وتقويةً لقلوبهم، وشدًا لعزائمهم على التذرع بالصبر، فقال: ﴿فَالْيَوْمَ﴾ المراد بـ ﴿اليوم﴾: اليوم الآخر ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: المعهودون من الفقراء ﴿مِنَ الْكُفَّارِ﴾ المعهودين؛ أي: المستهزئين لهم، وهو الأظهر، وإن أمكن التعميم من الجانبين ﴿يَضْحَكُونَ﴾.
والمعنى: أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين، وغشيهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر، ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه، يضحك الكفار منهم في الدنيا. قال (٣) بعض المفسرين: لعل الفاء في قوله: ﴿فَالْيَوْمَ﴾ فاء الإفصاح، واقعة في جواب شرط مقدر؛ كأنه قيل: إذا عرفتم ما ذكر، وأردتم بيان حال المؤمنين مع الكفار في ذلك اليوم.. فأقول لكم: إن في ذلك اليوم يضحك المؤمنون من الكفار جزاءً وفاقًا، فاللام في ﴿اليوم﴾: لام العهد، وهو يوم القيامة، والظرف متعلق بـ ﴿يَضْحَكُونَ﴾، و ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿مِنَ الْكُفَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يَضْحَكُونَ﴾ أيضًا، وحرام على الوهم أن يتوهم كونه بيانًا للموصول نظرًا إلى ظاهر الاتصال من غير تفكر في المعنى، وجملة ﴿يَضْحَكُونَ﴾ خبر المبتدأ، وهو ناصب ﴿اليوم﴾، كما قلنا آنفًا؛ لصحة المعنى حينئذٍ.
٣٥ - وقوله: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ والأسرة متعلق بـ ﴿يَنْظُرُونَ﴾ أو حال من فاعله، وجملة ﴿يَنْظُرُونَ﴾ حال من فاعل ﴿يَضْحَكُونَ﴾؛ أي: يضحكون منهم حال كونهم ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع، والعذاب الأليم حال كونهم مستقرين على الأرائك في منازلهم من الجنة.
والحاصل (١): أن المؤمنين في يوم الدين يضحكون من الكفار ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسر به، وينكشف لهم ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم، وخذلان أعدائهم، فضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلت لهم عاقبة أعمالهم، وظهر لهم عاقبة سفه عقولهم، وفساد أقوالهم حال كونهم ينظرون على الأرائك إلى ما صنع الله بأعدائهم، وتنكيله بمن كانوا يفخرون عليهم، ويهزؤون بهم.
قال الواحدي: قال المفسرون: إن أهل (٢) الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله، وهم يعذبون في النار، فضحكوا منهم، كما ضحكوا منهم في الدنيا. وقال أبو صالح: يقال لأهل النار: اخرجوا، ويفتح لهم أبوابها، فإذا رأوها قد فتحت.. أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها.. غلقت دونهم، فذلك قوله: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤)﴾.
٣٦ - وقوله: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾ كلام (٣) مستأنف من قبل الله، أو من قبل الملائكة، والاستفهام للتقرير، وجوابه: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله. وثوب بمعنى: يثوب، عبر عنه بالماضي لتحققه، والتثويب والإثابة: المجازاة، استعمل في المكافأة بالشر. قال الراغب: الإثابة تستعمل في المحبوب نحو: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ﴾، وقد قيل ذلك في المكروه، نحو: {فَأَثَابَكُمْ
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
238
غَمًّا بِغَمٍّ} على الاستعارة والتثويب في القرآن لم يجيء إلا في المكروه نحو: ﴿هَلْ ثُوِّبَ...﴾ إلخ. انتهى. وفي "القاموس": التثويب: التعويض. انتهى. والمراد بـ ﴿مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾: استهزاؤهم بالمؤمنين، وضحكهم منهم، وهو صريح في أن ضحك المؤمنين منهم في الآخرة إنما هي جزاء لضحك الكافرين منهم في الدنيا.
والمعنى: يقول الله سبحانه، أو تقول الملائكة: هل ثوب؛ أي: قد ثوب الكفار، وجوزوا على ما كانوا يفعلون بالمؤمنين من استهزائهم، والضحك منهم، وهذا على سبيل التهكم، كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا للكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم، واستهزاؤهم بشريعتكم، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة، فيكون هذا زائدًا على سرورهم، كذا في "المراح"، وعبارة القرطبي هنا: ومعنى ﴿ثُوِّبَ الْكُفَّارُ﴾؛ أي: هل جوزوا على سخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك، فالجواب: نعم.
وفيه تسلية للمؤمنين (١) بأنه ينقلب الحال، ويكون الكفار مضحوكًا منهم، وتعظيم لهم، فإن إهانة الأعداء تعظيم للأولياء، والله ينتقم لأوليائه من أعدائهم، فإنه يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الجريء لجروه. وعلم منه أن الضحك والاستهزاء والسخرية والغمز من الكبائر، فالخائض فيها من المجرمين الملحقين بالمشركين، نسأل الله سبحانه السلامة من غضبه وسخطه، وقيل: الجملة في محل نصب بـ ﴿يَنْظُرُونَ﴾ معلقًا عنها بالاستفهام بعد إسقاط حرف الجر الذي هو: إلى.
والمعنى: أنهم ينظرون ليتحققوا هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون بهم في الدنيا، وقيل: منصوبه بقول وقع حالًا من فاعل ﴿يَنْظُرُونَ﴾؛ أي: على الأرائك ينظرون حال كونهم قائلين: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾؛ أي: يقول المؤمنون ذلك بعضهم لبعض، والله أعلم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿هَلْ ثُوِّبَ﴾ بإظهار لام ﴿هَلْ﴾، وقرأ النحويان: أبو عمر والكسائي حمزة وابن محيصن بإدغامها في الثاء المثلثة، وفي قوله: ﴿مَا كَانُوا﴾..
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
239
حذف، تقديره: جزاء أو عقاب ما كانوا يفعلون، وإنما سمي الجزاء على العمل ثوابًا؛ لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمله من خير أو شر.
الإعراب
﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾.
﴿وَيْلٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ خبره، والجملة مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿اكْتَالُوا﴾ فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة ﴿عَلَى النَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿اكْتَالُوا﴾، و ﴿عَلَى﴾: بمعنى: من؛ أي: إذا قبضوا من الناس لأنفسهم، وجملة ﴿يَسْتَوْفُونَ﴾ جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ الشرطية صلة الموصول ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إِذَا﴾: ظرف مضمن معنى الشرط، ﴿كالوا﴾: فعل وفاعل، و ﴿هم﴾ ضمير متصل منصوب بنزع الخافض، والأصل: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، وحذف الجار، وأوصل الفعل، فصار كالوهم، ومفعول ﴿كالوا﴾ محذوف تقديره: كالوا لهم الطعام، أو وزنوا لهم النقود، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها ﴿أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾: معطوف على ﴿كَالُوهُمْ﴾ مماثل له في إعرابه، وجملة ﴿يُخْسِرُونَ﴾ جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الأولى. ﴿إذا﴾ الأولى ﴿أَلَا يَظُنُّ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، و ﴿لا﴾: نافية ﴿يَظُنُّ﴾: فعل مضارع، وظن هنا بمعنى اليقين ﴿أُولَئِكَ﴾: فاعل، والإشارة لـ ﴿المطففين﴾؛ أي: لا يوقن أولئك ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والميزان ﴿أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿ظن﴾ ﴿لِيَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿مَبْعُوثُونَ﴾، واللام في بمعنى في الظرفية، ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة ﴿يومٍ﴾، و ﴿يَوْمَ﴾، بدل من ﴿لِيَوْمٍ﴾ بدل كل من كل، تابع له على المحل، ومحله النصب بـ ﴿مَبْعُوثُونَ﴾، أو بمقدر مثله؛ لأن البدل على نية تكرار العامل، وبني على الفتح لإضافته إلى الفعل، ﴿يَقُومُ النَّاسُ﴾: فعل
240
وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَقُومُ﴾، ولكنه على حذف مضاف، أي: لمحاسبة رب العالمين.
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)﴾.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر. ﴿إِنَّ كِتَابَ﴾: ناصب واسمه ﴿الْفُجَّارِ﴾: مضاف إليه ﴿لَفِي﴾: اللام حرف ابتداء ﴿في سجين﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾ والجملة مستأنفة. ﴿وما﴾: ﴿الواو﴾ اعتراضية. ﴿مَا﴾: اسم استفهام للإنكار في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿أَدْرَاكَ﴾: خبره، والجملة الاسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الخبرين لـ ﴿إنَّ﴾ كما مر عن القفال، ﴿أدرى﴾ فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على: ﴿مَا﴾ الاستفهامية، والكاف في محل النصب مفعول أول ﴿لأدرى﴾، ﴿مَا﴾: اسم استفهام للتفخيم والتعظيم في محل الرفع مبتدأ: ﴿سِجِّينٌ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ ﴿أَدْرَاكَ﴾، ﴿كِتَابٌ﴾: خبر ثانٍ لـ ﴿إنَّ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّار﴾، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو كتاب مرقوم، و ﴿مَرْقُومٌ﴾: صفة ﴿كِتَابٌ﴾ ﴿وَيْلٌ﴾: مبتدأ كما تقدم، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف أضيف إلى مثله متعلق بـ ﴿وَيْلٌ﴾؛ لأنه مصدر بمعنى: هلاك ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ﴾: خبر ﴿وَيْلٌ﴾، والجملة مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿المكذبين﴾، وجملة ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ صلة ﴿الَّذِينَ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿بِيَوْمِ الدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿يُكَذِّبُونَ﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿مَا﴾: نافية ﴿يُكَذِّبُ﴾: فعل مضارع ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُكَذِّبُ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿كُلُّ مُعْتَدٍ﴾: فاعل ﴿يُكَذِّبُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾، ﴿كُلُّ﴾: مضاف ﴿مُعْتَدٍ﴾: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص أعل كقاض ﴿أَثِيمٍ﴾: صفة ﴿مُعْتَدٍ﴾، وسبق لك بيان الفرق بين الاعتداء والإثم ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾، ﴿آيَاتُنَا﴾: نائب فاعل لـ ﴿تُتْلَى﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على
241
﴿كُلُّ مُعْتَدٍ﴾، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿مُعْتَدٍ﴾، ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي أساطير الأولين، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)﴾.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل ﴿بَل﴾: حرف عطف وإضراب على محذوف تقديره: ليس الأمر كما يقولون ﴿رَانَ﴾: فعل ماضٍ مبني على الفتح ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿رَانَ﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل بـ ﴿رَانَ﴾، والجملة معطوفة على تلك المقدرة، ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يكسبون، ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر عن الكسب الرائن، ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿عَنْ رَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿محجوبون﴾. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف أضيف إلى مثله متعلق بـ ﴿محجوبون﴾ أيضًا، والتنوين - فيه عوض عن الجملة المحذوفة تقديرها: يوم إذ يقوم الناس، ﴿لَمَحْجُوبُونَ﴾ خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب لتراخي رتبة ما بعدها عما قبلها ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿لَصَالوُا﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿صالوا﴾: خبر ﴿إن﴾ مرفوع بالواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه جمع مذكر سالم، ﴿الْجَحِيمِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف للترتيب والتراخي أيضًا ﴿يُقَالُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ نائب فاعل محكي لـ ﴿يُقَالُ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إن﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَذَا﴾: مبتدأ ﴿الَّذِي﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُقَالُ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول لا محل لها من الإعراب ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر، أو بمعنى: حقًا ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ﴾: ناصب واسمه، ومضاف إليه ﴿لَفِي﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء {في
242
عليين}: جار ومجرور خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، و ﴿عِلِّيِّينَ﴾: مجرور بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: اعتراضية ﴿مَا﴾ اسم استفهام للإنكار في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿أَدْرَاكَ﴾ خبره، والجملة الاسمية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين خبري ﴿إنَّ﴾، ﴿مَا﴾: اسم استفهام للتفخيم في محل الرفع مبتدأ، ﴿عِلِّيُّونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد المفعول الثاني لـ ﴿أَدْرَاكَ﴾، ﴿كِتَابٌ﴾: خبر ثانٍ لـ ﴿إنَّ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ﴾، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كتاب مرقوم، و ﴿مَرْقُومٌ﴾: صفة لـ ﴿كِتَابٌ﴾، ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿كِتَابٌ﴾، ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْظُرُونَ﴾، وجملة ﴿يَنْظُرُونَ﴾ في محل النصب حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إنَّ﴾، أو مستأنفة ﴿تَعْرِفُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على أي مخاطب ﴿فِي وُجُوهِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿تَعْرِفُ﴾. ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لإيذان المخاطب بالالتفات إليهم والتأمل في آثار النعيم.
﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾.
﴿يُسْقَوْنَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بالنون، والواو نائب فاعل له ﴿مِنْ رَحِيقٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُسْقَوْنَ﴾ ﴿مَخْتُومٍ﴾: صفة ﴿رَحِيقٍ﴾؛ أي: من خمر خالصة من كل غشٍ أو شائبة، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿رَحِيقٍ﴾، ﴿وَفِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿في ذَلِكَ﴾: متعلق بقوله: ﴿فَلْيَتَنَافَسِ﴾، و ﴿الفاء﴾ عاطفة أيضًا لزيادة الاهتمام، و ﴿اللام﴾ لام الأمر، ﴿يتنافس﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ﴿الْمُتَنَافِسُونَ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يُسْقَوْنَ﴾، وقيل: الواو عاطفة لقول
243
محذوف تقديره: ويقولون: فليتنافس في ذلك المتنافسون، والفاء زائدة لتحسين الخط، كفاء قولهم: فقط، وقيل: الواو زائدة، والفاء عاطفة، وقيل: الواو اعتراضية، والفاء زائدة، وفي "الجمل" واستشكل في هذا العاطف، إذ لا يصح أن يقال: وفليتنافس، فقيل: إنه بتقدير القول؛ أي: ويقولون لشدة التلذذ في ذلك: فليتنافس. ﴿وَمِزَاجُهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مزاجه﴾: مبتدأ ﴿مِنْ تَسْنِيمٍ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ ﴿عَيْنًا﴾: منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره: أمدح عينًا، أو أعني بالتسنيم عينًا، أو على الحال من ﴿تَسْنِيمٍ﴾، كما قاله الزجاج، وجملة ﴿يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ صفة لـ ﴿عَيْنًا﴾، و ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَشْرَبُ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَجْرَمُوا﴾ صلة الموصول ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص، واسمه ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿يَضْحَكُونَ﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿يَضْحَكُونَ﴾ خبر ﴿كَانُوا﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، ﴿مَرُّوا﴾: فعل وفاعل ﴿بِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿مَرُّوا﴾، وجملة ﴿مَرُّوا بِهِمْ﴾ في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وجملة ﴿يَتَغَامَزُونَ﴾ جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ الشرطية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿كَانُوا﴾ على كونها خبر ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾، ﴿وإذا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿إِذَا﴾: شرطية، وجملة ﴿انْقَلَبُوا﴾ في محل الخفض بإضافة ﴿إذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿إِلَى أَهْلِهِمُ﴾ متعلق بـ ﴿انْقَلَبُوا﴾، وجملة ﴿انْقَلَبُوا﴾، جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿فَكِهِينَ﴾: حال من فاعل ﴿انْقَلَبُوا﴾، وجملة ﴿إذَا﴾ الشرطية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿إذَا﴾ الأولى، ﴿وإذا﴾: ﴿إذَا﴾: ظرف مضمن معنى الشرط، وجملة ﴿رَأَوْهُمْ﴾ في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إذَا﴾، وجملة ﴿قَالُوا﴾ جوابها لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الأولى، ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿مَا﴾: نافية ﴿أُرْسِلُوا﴾ فعل ماض، ونائب فاعل، والجملة في محل النصب حال من الواو في ﴿قَالُوا﴾: ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق
244
بـ ﴿حَافِظِينَ﴾، و ﴿حَافِظِينَ﴾ حال من الواو في ﴿أُرْسِلُوا﴾ ﴿فَالْيَوْمَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره؛ إذا عرفتم ما ذكر، وبيان حال المؤمنين مع الكفار، في ذلك اليوم. ، فأقول لكم: ﴿اليوم﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يَضْحَكُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول ﴿مِنَ الْكُفَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يَضْحَكُونَ﴾، وجملة ﴿يَضْحَكُونَ﴾ خبر ﴿الَّذِينَ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْظُرُونَ﴾، وجملة ﴿يَنْظُرُونَ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿يَضْحَكُونَ﴾؛ أي: يضحكون حال كونهم ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الخزي والهوان، ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التقريري ﴿ثُوِّبَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿الْكُفَّارُ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل ﴿يَنْظُرُونَ﴾؛ أي: ينظرون إليهم حال كونهم قائلين: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ﴾ إلخ، أو جملة ﴿ثُوِّبَ﴾ مستأنفة ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿ثُوِّبَ﴾، وجملة ﴿كَانُوا﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: هلاك عظيم وعذاب شديد، قال ابن كيسان: هي كلمة مكروب وقع في البلية، وأصله: وي لفلان، أي: الحزن له، فقرن بلام الإضافة، فقيل: وبل تخفيفًا.
﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ جمع مطفف، وهو المنقص في الكيل أو الوزن، سمي بذلك لأن ما ينقص فيهما شيء طفيف أي: حقير، يقال: طفف الكيل: إذا نقصه قليلًا، وقال الزجاج: وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان، إلا الشيء الطفيف؛ أي: اليسير الحقير التافه.
﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا﴾ قال الفراء: يقال: اكتلت على الناس: استوفيت منهم، واكتلت منهم: أخذت ما عليهم فـ ﴿عَلَى﴾ بمعنى من، وأصله: اكتيلوا بوزن افتعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿يَسْتَوْفُونَ﴾؛ أي: يأخذون حقوقهم وافية كاملة، وأصله: يستوفيون، استثقلت
245
الضمة على الياء، فحذفت للتخفيف، ثم لما التقى ساكنان.. حذفت الياء، وضمت الفاء لمناسبة الواو.
﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾؛ أي: كالوا للناس حقوقهم، أو وزنوا لهم حقوقهم، وفيه إعلال بالقلب أيضًا، أصله: كيلوهم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح: ﴿يُخْسِرُونَ﴾: أي: ينقصون الكيل والميزان، مع أن وضع الكيل والوزن، إنما هو للتسوية والتعديل، يقال: خسر الميزان وأخسره بمعنى، وهو يتعدَّى بالهمزة، ويقال: خسر الرجل وأخسره. اهـ "خطيب".
﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾؛ أي: للعرض على خالقهم، ويطول بهم الموقف إجلالًا لعظمة ربهم.
﴿أَلَا يَظُنُّ﴾ أصله: يظنن بنونين، أدغمت الأولى منهما في الثانية.
﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾ والسجين: علم لكتاب جامع لأعمال الشياطين، وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين، منقول من وصف، كحاتم، وهو منصرف؛ لأنه ليس فيه إلا سبب واحد، وهو التعريف، واختلف في نونه، هل هي أصلية: فيكون فعيلًا من السجن، أو بدل من لام: فيكون أصله: سجيلًا من السجل، وأورد صاحب "القاموس" في مادة: سجن ما نصه: سجين، كسكين: الدائم الشديد، وموضع فيه كتاب الفجار، وواد في جهنم أعاذنا الله تعالى منها، أو حجر في الأرض السابعة. انتهى.
﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩)﴾؛ أي: مكتوب مسطور، قال الراغب: الرقم: الكتابة والخط الغليظ، ومنه قول الشاعر:
سَأَرْقُمُ فِيْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ إِلَيْكُمُ عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ
﴿إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ﴾؛ أي: متجاوز عن منهج الحق، أصله: معتديٌ، استثقلت الكسرة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان، وهما الياء والتنوين، ثم حذفت الياء لبقاء دالها، وهو كسرة الدال، فصار معتد بوزن: مفتع.
﴿أَثِيمٍ﴾؛ أي: كثير الذنوب والآثام.
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ﴾؛ أي: غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء، وفي
246
"المختار": الرين: الطبع والدنس، ويقال: ران ذنبه على قلبه - من باب باع رينًا وريونًا أيضًا -: إذا غلب، وقال أبو عبيدة: كل ما غلبك فقد ران بك، ورانك وران عليك، ورين الرجل: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به، أي: لا طاقة له به، وعبارة الزمخشري: وران على قلوبهم: ركبها كما يركب الصدأ، وغلب عليها، وهو أن يصر على الكبائر، ويسوف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه، وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب.
قلت: وران يائية وواوية، وهي هنا يائية، أصله: رين كبيع، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وأما الواوية فيقال فيها: ران يرون رونًا - من باب دخل - يقال: ران الأمر: اشتد، ورانت الليلة: اشتد هولها أو غمها، والرون - بضم الراء المشددة -: الشدة، والجمع رؤون، ورونة الشيء - بالضم -: معظمه وشدته، يقال: كشف الله عنك رونة هذا الأمر؛ أي: شدته وغمته.
﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦)﴾؛ أي: لداخلوا النار وملازموها، أصله: لصاليون، فلما أضيف الوصف.. حذفت منه نون الجمع، فصار لصاليوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقت ساكنة مع واو الجمع، فحذفت الياء، وضمت اللام لمناسبة الواو، وقد تقدم هذا في سورة: ص.
﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)﴾ أصل يقال: يقول بوزن: يفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف، ثم قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها الآن.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩)﴾ قال الزمخشري: وعليون: علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، منقول من جمع عليّ فعيل من العلو، كسجين من السجن، سمي بذلك؛ إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة. وعبارة أبي حيان: عليون: جمع واحده: عِلىٌّ مشتق من العلو، وهو المبالغة، قاله يونس وابن جني. قال أبو الفتح: وسبيله أن يقال: علية، كما قالوا للغرفة: علية، فلما حذفت التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون، وقيل: هو وصف للملائكة، فلذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظه، كقولهم: عشرين وثلاثين، والعرب إذا جمعت جمعًا، ولم يكن له بناء من واحده،
247
ولا تثنية قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون. وقيل غير ذلك.
قلت: عليون: اسم لمكان عالٍ كما أن سجينًا: اسم لمكان في نهاية السفل، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين، وأعمال الخاسرين، وليس علينا أن نعرف ما هما، أمن أوراق وأخشاب أو معادن أخرى.
﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ هي الأسرة في الحجال، والحجال: واحدها حجلة، وهي مثل القبة، وحجلة العروس: بيت؛ أي: خيمة تزين بالثياب والأسرَّة والستور.
و ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ بهجته ورونقه ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ﴾؛ أي: من شراب خالص لا غش فيه، وأصل يسقون: يسقيون بوزن يفعلون، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين ﴿مَخْتُومٍ﴾؛ أي: ختمت أوانيه وسدت.
﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾؛ أي: ما يختم به رأس قارورته هو المسك بدل الطين.
﴿فَلْيَتَنَافَسِ﴾ وأصل التنافس: التشاجر على الشيء والتنازع فيه، بأن يحب كل واحد أن ينفرد دون صاحبه، وفي "المختار": ونفس الشيء من باب ظرف: صار مرغوبًا فيه، ونافس في الشيء منافسةً ونفاسًا بالكسر: إذا رغب فيه على وجه المباراة في الكرم، وتنافسوا فيه: أي: رغبوا. اهـ. والمراد: فليستبق المتسابقون، وليجاهدوا النفوس ليلحقوا بالعاملين.
﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)﴾ والمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج: خلط أحد الشيئين بالآخر، والتسنيم: عين من ماء تجري من أعلى إلى أسفل، وهو أشرف شراب في الجنة، ويكون صرفًا للمقربين، ممزوجًا لأصحاب اليمين، وسائر أهل الجنة، والمقربون هم: الأبرار الذين سبق ذكرهم.
﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ﴾ يقال: مر مرًا ومرورًا إذا جاز وذهب، كاستمر ومره وبه: جاز عليه. كما في "القاموس".
﴿يَتَغَامَزُونَ﴾؛ أي: يشيرون إليهم بأجفانهم من التغامز: تفاعل من الغمز، وهو الإشارة بالجفن والحاجب، ويكون بمعنى العيب، يقال: غمز فلان فلانًا إذا عابه وذكره بسوء، ويقال: فلان لا مغمز فيه؛ أي: ليس فيه ما يعاب به.
﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ﴾ من الانقلاب: وهو الانصراف والتحول والرجوع.
248
﴿انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾؛ أي: معجبين راضين بما فيه من الشرك والضلالة والعصيان، أو متلذذين بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم، والضحك من المؤمنين.
﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣)﴾؛ أي: رقباء يتفقدونهم ويهيمنون على أعمالهم.
﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢)﴾ أصل رأوهم: رأيوهم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين، وأصل ﴿ضالون﴾: ضاللون بلامين، أدغمت أولاهما في الثانية.
﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ﴾ من التثويب، والتثويب والإثابة: المجازاة يقال: ثوبه وأثابه إذا جازاه، كما قال الشاعر:
سَأَجْزِيْكِ أَوْ يَجْزِيْكِ عَنِّيْ مُثَوِّبٌ وَحَسْبُكِ أَنْ يُثْنَى عَليْكِ وَتُحْمَدِيْ
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تنكير ﴿وَيْلٌ﴾ لإفادة التهويل والتفخيم.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ وقوله ﴿إِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)﴾ وهي مقابلة أتت على أحسن وجه وأنظمه؛ أي: إذا كان الكيل من جهة غيرهم.. استوفوه، وإذا كان الكيل من جهتهم.. أخسروه، سواء باشروه، أو لا، فالضمير لا يدل على مباشرة، ولا إشعار أيضًا بذلك، والذي يدلك على أن الضمير لا يعطي مباشرة الفعل، أن لك أن تقول: الأمراء هم الذين يقيمون الحدود لا السوقة، لست تعني أنهم يباشرون ذلك بأنفسهم، وإنما معناه: أن فعل ذلك من جهتهم خاصة. اهـ من "الدرويش".
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿إِذَا اكْتَالُوا﴾؛ لأنه حذف الاتزان لعلمه من الاكتيال؛ لأن مقتضى المقابلة أن يقال: الذين إذا اكتالوا، أو اتزنوا على الناس يستوفون، وقد مر لك بيان حكمة حذفه في مبحث التفسير.
249
ومنها: الطباق بين ﴿يَسْتَوْفُونَ﴾ و ﴿يُخْسِرُونَ﴾؛ لأن الاستيفاء الأخذ وافيًا، والإخسار: الإعطاء ناقصًا.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)﴾ لأن ﴿أَلَا﴾ في قوله: ﴿أَلَا يَظُنُّ﴾ ليست استفتاحية، بل هي همزة الاستفهام دخلت على لا النافية، فأفادت التوبيخ والإنكار والتعجيب، كما في "الرازي". وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين.. بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. اهـ "خطيب".
ومنها: تخصيص وصف رب العالمين من بين سائر الصفات إشعارًا بالماليكة والتربية، بحيث لا يمتنع عليه الظالم القوي؛ لكونه مملوكًا مسخرًا في قبضة قدرته، ولا يترك حق المظلوم الضعيف؛ لأن مقتضى التربية أن لا يضيع لأحد شيئًا من الحقوق، وفي هذه التشديدات إشارة إلى أن التطفيف، وإن كان يتعلق بشيء حقير، لكنه ذنب كبير.
ومنها: المقابلة بين حال الفجار، وحال الأبرار في قوله: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ...﴾ إلخ، وقوله: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَار...﴾ إلخ.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨)﴾ إفادة للتهويل، وفي قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩)﴾ إفادةً للتعظيم والتفخيم لمراتب الأبرار.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)﴾ حيث مثل احتجاب الله وسخطه عليهم، وإهانته بهم باحتجاب ملك من الملوك عن بعض رعيته؛ لأنه لا يؤذن على ذوي المقامات العلية والمراتب السامية إلا للمقربين المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء الموسومون بالمهانة والقماءة والصَّغَار، وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى، فقال مبرزًا احتجاب المعتصم عن الرعية:
250
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
ومنها: الإطناب بذكر أوصاف نعيم المتقين في قوله: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)...﴾ إلخ.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾؛ أي: كالمسك في طيب الرائحة، فحذف منه الأداة ووجه الشبه، فأصبح بليغًا.
ومنها: حذف مفعول ﴿يَنظُرُونَ﴾ في قوله: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣)﴾ إفادة للتعميم؛ أي: ينظرون ما شاؤوا مد أعينهم إليه من رغائب مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله تعالى من النعمة والكرامة.
ومنها: تقديم الجار والمجرور على متعلقه في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩)﴾ لمراعاة الفواصل، أو للحصر إشعارًا بغاية شناعة ما فعلوا؛ أي: كانوا من الذين آمنوا لا من غيرهم يضحكون، مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾. اهـ "فتوحات".
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ إشعارًا بمبالغتهم في استهزائهم، وسخريتهم من المسلمين، وإنكارهم لصدهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإِسلام.
ومنها: تقديم الجار على متعلقه في قوله: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ﴾ إفادةً للحصر؛ أي: في ذلك لا في خمور الدنيا.
ومنها: تقديمه عليه في قوله: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤)﴾ لرعاية الفواصل.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ﴾ إشعارًا بتحققه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
251
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - وعيد المطففين.
٢ - بيان أن صحائف أعمال الفجار في أسفل السافلين.
٣ - الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار في أعلى عليين.
٤ - وصف نعيم الأبرار في مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.
٥ - استهزاء المجرمين بالمؤمنين في الدنيا، وتغامزهم بهم، وحكمهم عليهم بالضلال.
٦ - تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة؛ نظر المؤمنين إلى المجيرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعد لهم من النكال (١).
والله أعلم
* * *
(١) إلى هنا تم تفسير سورة المطففين بعون الملك المعين، ضحوة يوم السبت اليوم السابع من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: ٧/ ٩/ ١٤١٦ ألف وأربع مئة وست عشر سنة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
252
سورة الانشقاق
سورة الانشقاق مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الانفطار، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الانشقاق بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: ثلاث أو خمس وعشرون آية. وكلماتها: مئة وتسع كلمات. وحروفها: سبع مئه وثلاثون حرفًا. وسميت سورة الانشقاق لذكر انشقاق السماء فيها، وكلها محكمة لا ناسخ فيها ولا منسوخ.
ومناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى ختم سورة المطففين بذكر أحوال القيامة، وأهوال يوم الحشر، وافتتح هذه السورة بمثل ذلك من أحوال يوم البعث والنشور، فاتصلت السورتان اتصال النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه.
وأوجز بعضهم القول في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث، فقال: إن في ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾ ذكر الحفظة الكرام الكاتبين، وفي سورة المطففين: بيان لمقر كتبهم، وفي سورة الانش قال: البداية بذكر بعض أحوال يوم القيامة من الانقلابات الكونية الهائلة.
ومما ورد في فضلها: ما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي رافع قال: صليتُ مع أبي هريرة العتمة، فقرأ: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾ فسجد، فقلتُ له، فقال: سجدتُ خلف أبي القاسم - ﷺ -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.
وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله - ﷺ - في: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾ و ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾.
وأخرج ابن خزيمة والروياني في مسنده والضياء المقدسي في "المختارة" عن بريدة: أن النبي - ﷺ - كان يقرأ في الظهر: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾ ونحوها.
* * *
253

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢) إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)﴾.
المناسبة
مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في أواخر السابقة أحوال الفجار والأبرار في يوم القيامة، ثم ذكر في أوائل هذه السورة أهوال ذلك اليوم، فذكر أنه حين انشقاق السماء، واختلال نظام العالم، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال، وتخليها عما في جوفها، يلاقي المرء ربه فيوفيه حسابه، وينقسم الناس حينئذٍ فريقين:
١ - فريق الصالحين البررة: وهؤلاء يحاسبون حسابًا يسيرًا، ويرجعون مسرورين إلى أهلهم.
٢ - فريق الكفرة والعصاة: وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم، ثم يصلون حر النار؛ لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات، والجري وراء الشهوات، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه، إما حسابًا يسيرًا إن كان قد عمل الصالحات، أو حسابًا عسيرًا إن كان قد اجترح السيئات.. أقسم بآيات له في الكائنات ظاهرات باهرات على أن البعث كائن لا
254
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
لَيْسَ الْحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لِىْ أمَلًا إِنَّ السَّمَاءَ تُرَجَّى حِيْنَ تَحْتَجِبُ