قال مقاتل : وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا ثماني آيات من قوله :" إن الذين أجرموا " إلى آخرها مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة.
ﰡ
[تفسير سورة المطففين]
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضِّحَاكِ وَمُقَاتِلٍ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ. وَهِيَ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ آيَةً قَالَ مُقَاتِلٌ: وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة: مدنية إلا ثمان آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى آخِرِهَا، مَكِّيٌّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (٨٣): الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَهُمْ مِنْ أَوْفَى النَّاسِ كَيْلًا إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: هِيَ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةَ نَزَلَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ هَذَا فِيهِمْ، كَانُوا إِذَا اشْتَرَوُا اسْتَوْفَوْا بِكَيْلٍ رَاجِحٍ، فَإِذَا بَاعُوا بَخَسُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ انْتَهَوْا، فَهُمْ أَوْفَى النَّاسِ كَيْلًا إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا. وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ يُعْرَفُ بِأَبِي جُهَيْنَةَ، وَاسْمُهُ عَمْرٌو، كَانَ لَهُ صَاعَانِ يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا، ويعطي بالآخر، قال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ أَيْ شِدَّةُ عَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أَيِ الَّذِينَ يَنْقُصُونَ مَكَايِيلَهُمْ وَمَوَازِينَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمُطَفِّفُ: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْمِكْيَالَ
(٢). في ا، ح، ز، ط، ل، وابن العربي: (استوى). [..... ]
[سورة المطففين (٨٣): الآيات ٤ الى ٦]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
إنكار وتعجيب عَظِيمٌ مِنْ حَالِهِمْ، فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى التَّطْفِيفِ، كَأَنَّهُمْ لَا يُخْطِرُونَ التَّطْفِيفَ بِبَالِهِمْ، وَلَا يُخَمِّنُونَ تَخْمِينًا (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فَمَسْئُولُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ. وَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، أَيْ أَلَا يُوقِنُ أُولَئِكَ، وَلَوْ أَيْقَنُوا مَا نَقَصُوا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَقِيلَ: الظَّنُّ بِمَعْنَى التَّرَدُّدِ، أَيْ إِنْ كَانُوا لَا يَسْتَيْقِنُونَ بِالْبَعْثِ، فَهَلَّا ظَنُّوهُ، حَتَّى يَتَدَبَّرُوا وَيَبْحَثُوا عَنْهُ، وَيَأْخُذُوا بِالْأَحْوَطِ (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) شَأْنَهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي يَوْمَ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، دَلَّ عَلَيْهِ مَبْعُوثُونَ. وَالْمَعْنَى يُبْعَثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يَوْمٍ فِي لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي يَوْمٍ، وَيُقَالُ: أَقِمْ إِلَى يَوْمِ يَخْرُجُ فُلَانٌ، فَتَنْصِبُ يَوْمَ، فَإِنْ أَضَافُوا إِلَى الِاسْمِ فَحِينَئِذٍ يَخْفِضُونَ وَيَقُولُونَ: أَقِمْ إِلَى يَوْمِ خُرُوجِ فُلَانٍ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: إِنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ليوم عظيم.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٨٢.
[سورة المطففين (٨٣): الآيات ٧ الى ١٣]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤًا وَعَسَاقِلًا | وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ بنات الاوبر |
وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً | ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينًا «١» |
سَأَرْقُمُ فِي الْمَاءِ الْقَرَاحِ «٣» إِلَيْكُمُ | عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ |
ورجلة يضربون الهام عن عرض
(٢). راجع ج ١ ص ٦٨.
(٣). القراح بوزن سحاب: الماء الذي لا ثقل به.
[سورة المطففين (٨٣): الآيات ١٤ الى ١٧]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ): كَلَّا: رَدْعٌ وَزَجْرٌ، أَيْ لَيْسَ هُوَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهَا حَقًّا رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: فِي التِّرْمِذِيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا، حَتَّى تَعْلُوَ عَلَى قَلْبِهِ (، وَهُوَ (الرَّانُّ) الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُحِيطُ الذَّنْبُ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحِيطُ الذَّنْبُ بِقَلْبِهِ، حَتَّى تُغْشِيَ الذُّنُوبُ قَلْبَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِثْلُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة «١»: ٨١] الْآيَةَ. وَنَحْوَهُ عَنِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: يَقُولُ كَثُرَتِ الْمَعَاصِي مِنْهُمْ وَالذُّنُوبُ، فَأَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ، فَذَلِكَ الرَّيْنُ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ: الْقَلْبُ مِثْلُ الْكَهْفِ وَرَفَعَ كَفَّهُ، فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ الذَّنْبَ انْقَبَضَ، وَضَمَّ إِصْبَعَهُ، فَإِذَا أَذْنَبَ الذَّنْبَ انقبض، وضم
وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ | فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ وَانْجَلَى |
ثُمَّ لَمَّا رَآهُ رَانَتْ بِهِ الْخَمْ | - رُ وأن لا ترينه باتقاء «٤» |
(٢). [وعلاك [: زيادة من (اللسان: ران) تتميما لكلام أبي عبيد.
(٣). في النهاية لابن الأثير: أي أحاط الدين بماله.
(٤). البيت في (اللسان: ران) منسوبا لابي زبيد يصف سكرانا غلبت عليه الخمر.
[سورة المطففين (٨٣): الآيات ١٨ الى ٢١]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا، وَالْوَقْفُ عَلَى تُكَذِّبُونَ. وَقِيلَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ وَلَا كَمَا ظَنُّوا بَلْ كِتَابُهُمْ فِي سِجِّينٍ، وَكِتَابُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَلَّا، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَصْلَوْنَهُ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ مَرْفُوعٌ فِي عِلِّيِّينَ عَلَى قَدْرِ مَرْتَبَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ فِي الْجَنَّةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَعْمَالُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَوَى ابْنُ الْأَجْلَحِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هِيَ سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَا يَعْدُوهَا، فَيَقُولُونَ: رَبِّ! عَبْدُكَ فُلَانٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ، فَيَأْتِيهِ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَخْتُومٌ بِأَمَانِهِ مِنَ الْعَذَابِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ صُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَفُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتَلَقَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبُشْرَى، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مَعَهَا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى الْعَرْشِ، فَيَخْرُجُ لَهُمْ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، رَقٌّ فَيُرْقَمُ وَيُخْتَمُ فِيهِ النَّجَاةُ مِنَ الْحِسَابِ يَوْمَ القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا: لَفِي عِلِّيِّينَ هِيَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عِنْدَ قَائِمَةِ الْعَرْشِ الْيُمْنَى. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عِلِّيُّونَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ (. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ لَوْحٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ، أَعْمَالُهُمْ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عِلِّيُّونَ ارْتِفَاعٌ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ. وَقِيلَ: عِلِّيُّونَ أَعْلَى الْأَمْكِنَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عُلُوٌّ فِي عُلُوٍّ مُضَاعَفٍ، كَأَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَذَلِكَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ، وَلَا وَاحِدَ له من
[سورة المطففين (٨٣): الآيات ٢٢ الى ٢٨]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرارَ) أَيْ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالطَّاعَةِ. (لَفِي نَعِيمٍ) أَيْ نِعْمَةٍ، وَالنَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ: التَّنْعِيمُ، يُقَالُ: نَعَّمَهُ اللَّهُ وَنَاعَمَهُ فَتَنَعَّمَ وَامْرَأَةٌ مُنَعَّمَةٌ وَمُنَاعَمَةٌ بِمَعْنًى. أَيْ إِنَّ الْأَبْرَارَ فِي الْجَنَّاتِ يَتَنَعَّمُونَ. (عَلَى الْأَرائِكِ) وَهِيَ الْأَسِرَّةُ فِي الْحِجَالِ (يَنْظُرُونَ) أَيْ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَنْظُرُونَ إِلَى أَعْدَائِهِمْ فِي النَّارِ) ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى أَرَائِكِ أَفْضَالِهِ يَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِهِ وجلاله. وله تَعَالَى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أَيْ بهجته غضارته ونوره، قال: نَضَرَ النَّبَاتُ: إِذَا أَزْهَرَ وَنَوَّرَ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تَعْرِفُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ نَضْرَةَ نَصْبًا، أَيْ تَعْرِفُ يَا مُحَمَّدُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بن القعقاع ويعقوب وشيبة وأبا أَبِي إِسْحَاقَ: (تُعْرَفُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ على الفعل المجهول نَضْرَةَ ريعا. (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي من شراب لاش فِيهِ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ الرَّحِيقُ الْخَمْرُ الصافية. وفي الصحاح: لرحيق صَفْوَةُ الْخَمْرِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. الْخَلِيلُ: أَقْصَى «١» الْخَمْرِ وَأَجْوَدُهَا وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ الْخَمْرُ الْعَتِيقَةُ الْبَيْضَاءُ الصَّافِيَةُ مِنَ الْغِشِّ النَّيِّرَةُ، قَالَ حَسَّانُ:
يسقون من، ورد البريص عليهم | بردى يصفق بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «١» |
أَمْ لَا سَبِيلَ إِلَى الشَّبَابِ وَذِكْرِهِ | أَشْهَى إِلَيَّ مِنَ الرَّحِيقِ السَّلْسَلِ |
وَبِتُّ أَفُضَّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ «٣»
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ «٤»
أَيْ عَلَيْهَا طِينَةٌ مَخْتُومَةٌ، مِثْلَ نَفْضٍ بِمَعْنَى مَنْفُوضٍ، وَقَبْضٍ بِمَعْنَى مَقْبُوضٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ وَهْبٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خِتامُهُ مِسْكٌ: خَلْطُهُ، لَيْسَ بِخَاتَمٍ يَخْتِمُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِكُمْ: إِنَّ خِلْطَهُ مِنَ الطيب كذا وكذا.
(٢). هو أبو كبير الهذلي.
(٣). صدر البيت:
فبتن جنابتي مصرعات
(٤). صدره:
وصهباء طاف يهوديها
[سورة المطففين (٨٣): الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) وَصَفَ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِمْ وَالْمُرَادُ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. رَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، والعاص ابن هِشَامٍ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُولَئِكَ (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ عَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ (يَضْحَكُونَ) عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ)
عِنْدَ إِتْيَانِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَتَغامَزُونَ)
: يَغْمِزُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُشِيرُونَ بِأَعْيُنِهِمْ. وَقِيلَ: أَيْ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَيَعِيبُونَهُمْ بِهِ يُقَالُ: غَمَزْتُ الشَّيْءَ بِيَدِي، قَالَ:
وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ | كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا |
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٥٥.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٠٨