تفسير سورة سورة الحجر من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير
.
لمؤلفه
محمد نسيب الرفاعي
.
المتوفي سنة 1412 هـ
ﰡ
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، وقوله تعالى :﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ ﴾ إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين، ونقل السدي عن ابن عباس، أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين، وقيل : المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمناً، وقيل : هذا إخبار عن يوم القيامة، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ]، وقال بعضهم : يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار، قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا، قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول :﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾. وقال مجاهد : يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك قال الله : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فعند ذلك قوله :﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾، وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، فقال الحافظ الطبراني، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن ناساً من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم :﴿ لاَ إله إِلاَّ الله ﴾ [ الصافات : ٣٥ ] وأنتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم، فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة فيبرؤون من حرقهم، كما يبرأ القمر من خسوفه، ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين ».
الحديث الثاني : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« » إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى، قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا - قال : ثم قرأ رسول الله ﷺ - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ « وقوله :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ ﴾ تهديد شديد لهم ووعيد أكيد، كقوله تعالى :﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ]، وقوله :﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤٦ ]، ولهذا قال :﴿ وَيُلْهِهِمُ الأمل ﴾ أي عن التوبة والإنابة ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي عاقبة أمرهم.
يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهمن وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم، إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك.
يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم :﴿ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر ﴾ أي الذي تدعي ذلك، ﴿ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا، ﴿ لَّوْ مَا ﴾ أي هلا، ﴿ تَأْتِينَا بالملائكة ﴾ أي هلا، ﴿ تَأْتِينَا بالملائكة ﴾ أي يشهدون لك بصحة ما جئت به كما قال فرعون :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٣ ]، ﴿ وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢١ ]، وكذا قال في هذه الآية ﴿ مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ﴾. وقال مجاهد في قوله :﴿ مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق ﴾ : بالرسالة والعذاب، ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل.
يقول تعالى مسلياً لرسوله ﷺ في تكذيب من كذبه من كفار قريش، إنه أرسل من قبله من الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به، ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى، قال أَنَس والحسن البصري :﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين ﴾ : يعني الشرك، وقوله :﴿ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين ﴾ : أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.
يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم باباً من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك بل قالوا :﴿ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ﴾ قال مجاهد والضحاك : سدت أبصارنا، وقال قتادة عن ابن عباس : أخذت أبصارنا. وقال العوفي عن ابن عباس : شبّه علينا وإنما سحرنا، وقال الكلبي : عميت أبصارنا.
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها، وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات. لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات، ما يحار نظره فيه، ولهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي الكواكب وهذا كقوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً ﴾ [ الفرقان : ٦١ ] الآية. ومنهم من قال : البروج هي منازل الشمس والقمر، ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها، وما جعل فيها من الجبال الرواسي والأودية والأراضي والرمال، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة، وقال ابن عباس :﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴾ : أي معلوم، ومنهم من يقول : مقدر بقدر، وقال ابن زيد : من كل شيء يوزن ويقدر بقدر، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ﴾ المعايش وهي جمع معيشة، وقوله :﴿ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴾، قال مجاهد : هي الدواب والأنعام. وقال ابن جرير : هم العبيد والإماء والدواب والأنعام، والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسرّ لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها، والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزقهم على خالقهم لا عليهم، فلهم هم المنفعة، والرزق على الله تعالى.
يخبر تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه، وأن عند خزائن الأشياء من جميع الصنوف ﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ كما يشاء وكما يريد، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده، لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة. قال ابن مسعود في قوله :﴿ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ ما عام بأكثر مطراً من عام، ولا أقل، ولكنه يمطر قوم، ويحرم آخرون بما كان في البحر، قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم، يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت، وقوله تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ ﴾ أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر، فتفتح عن أوراقها وأكمامها، وذكرها بصيغة الجميع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم، فإنه أفردها ووصفها بالعقيم، وهو عدم الإنتاج، وق أعمش، عن عبد الله بن مسعود في قوله :﴿ وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ ﴾ قال : ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة، وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء، وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا :﴿ وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ﴾ أي أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه ﴿ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ﴾ [ الواقعة : ٧٠ ] كما نبّه على ذلك في قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٨-٧٠ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾، قال سفيان الثوري : بمانعين؛ ويحتمل أن المراد : وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معيناً وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً وحفظه في العيون والآبار والأنهار، ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم. وقوله :﴿ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ﴾ إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيى الخلق من العدم، ثم يميتهم، ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع، وأخبر تعالى بأنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون. ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم فقال :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ ﴾ الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما : المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله. وقال ابن جرير، عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء، فأنزل الله :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين ﴾.
وروي ابن جرير عن محمد بن أبي معشر عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين ﴾ وأنها في صفوف الصلاة، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ ﴾ : الميت والمقتول، ﴿ المستأخرين ﴾ من يخلق بعد، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾، فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيراً.
قال ابن عباس : المراد بالصلصال التراب اليابس، كقوله تعالى :﴿ خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار ﴾ [ الرحمن : ١٤ ]. وعن مجاهد :( الصلصال ) المنتن، وتفسير الآية بالآية أولى، وقوله :﴿ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ أي الصلصال من حمأ وهو الطين، والمسنون الأملس، وروي عن ابن عباس أنه قال : هو التراب الرطب، وعن ابن عباس ومجاهد : أن الحمأ المسنون هو المنتن، وقيل : المراد بالمسنون هاهنا المصبوب. وقوله :﴿ والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل الإنسان، ﴿ مِن نَّارِ السموم ﴾ قال ابن عباس : هي السموم التي تقتل، وعن ابن عباس : أن الجان خلق من لهب النار، وقد ورد في « الصحيح » :« خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم »، والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره وطهارة محتده.
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته، قبل خلقه له وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له، ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً، وعناداً واستكباراً وافتخاراً بالباطل، ولهذا قال :﴿ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾، كقوله :﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ ص : ٧٦ ].
يذكر تعالى أنه أمر إبليس بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى، وأنه رجيم أي مرجوم، وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير أنه قال : لما لعن الله إبليس تغيرت صورته عن صور الملائكة، ورن رنة، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها. وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى اليوم القيامة، وهو يوم البعث، وأنه أجيب إلى ذلك استدراجاً له وإمهالاً، فلما تحقق النظرة قبحه الله قال ما قصّه الله تعالى :
يقول تعالى مخبراً عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب :﴿ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ أي بسبب ما أغويتني وأضللتني ﴿ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ ﴾ أي لذرية آدم عليه السلام، ﴿ فِي الأرض ﴾ أي أحبب إليهم المعاصي وأرعيهم فيها، ﴿ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أي كما أغويتني وقدّرت علي ذلك، ﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾، كقوله :﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ]، ﴿ قَالَ ﴾ الله تعالى له متهدداً ومتوعداً، ﴿ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ أي مرجعكم إليَّ فأجاريكم بأعمالكم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقيل : طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى وإليه تنتهي، كقوله :﴿ وعلى الله قَصْدُ السبيل ﴾ [ النحل : ٩ ]، وقوله :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ أي الذين قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم ﴿ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين ﴾ استثناء منقطع، ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أي جهنم موعد جميع من اتبع إبليس كما قال عن القرآن، ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب ﴿ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله ويستقر في درك بقدر عمله، وعن علي بن أبي طالب أنه قال : إن أبواب جهنم هكذا أطباقٌ بعضها فوق بعض، وعن هبيرة بن أبي مريم عن علي رضي الله عنه قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول ثم الثاني ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها. وقال عكرمة : سبعة أبواب سبعة أطباق، وقال ابن جريج : سبعة أبواب أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقال قتادة :﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ : وهي والله منازل بأعمالهم، وقال الترمذي، عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال :« لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي - أو قال على أمة محمد- » وقال ابن أبي حاتم، عن سمرة بن جندب عن النبي ﷺ في قوله :﴿ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ قال :« إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه، وإن منهم من تأخذه النار إلى حِجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه، منازلهم بأعمالهم »، فذلك قوله :﴿ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾.
لما ذكر تعالى حال أهل النار، عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون. وقوله :
﴿ آمِنِينَ ﴾ أي سالمين من الآفات مسلم عليكم،
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ أي من كل خوف وفزع، ولا تشخوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء. وقوله :
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾. عن أبي أمامة قال : لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري، وهذا موافق لما في
« الصحيح » أن رسول الله ﷺ قال :
« ويخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة » وقال ابن جرير : دخل عمران بن طلحة على عليّ رضي الله عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل فرحّب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله :
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾. وعن أبي حبيبة مولى لطلحة قال : دخل عمران بن طلحة على عليّ رضي الله عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله :
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ قال : ورجلان جالسان إلى ناحية البساط، فقالا : الله أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخواناً، فقال علي رضي الله عنه : قُوما أبعد أرض وأسحقها، فمن هم إذاً إن لم أكن أنا وطلحة؟ وفي رواية : فقام رجل من همدان فقال : الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين، قال : فصاح به علي صيحة، فظننت أن القصر تدهده لها، ثم قال : إذا لم نكن نحن فمن هم؟ وقال سفيان الثوري : جاء ( ابن جرموز )، قاتل الزبير، يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلاً، ثم أذن له : فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم، فقال عليّ : بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله :
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾. وقال الحسن البصري، قال عليّ : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية :
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾. وقال الثوري في قوله :
﴿ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ قال : هم عشرة أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وقوله :
﴿ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ قال مجاهد : لا ينظر بعضهم ثم قفا بعض، وفيه حديث مرفوع.
1333
قال ابن أبي حاتم، عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله ﷺ فتلا هذه الآية :
﴿ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ في الله ينظر بعضهم إلى بعض، وقوله :
﴿ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ﴾ يعني المشقة والأذى، كما جاء في
« الصحيحين » :
« إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب » وقوله :
﴿ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾، كقوله تعالى :
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ [ الكهف : ١٠٨ ]، وقوله :
﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم ﴾ أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم، وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف، وذكر في سبب نزولها ما رواه ابن جرير عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال :
« طلع علينا رسول الله ﷺ من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال : لا أراكم تضحكون » ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع علينا القهقرى فقال :
« إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن الله يقول : لم تقنط عبادي؟ ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم ﴾ » وقال قتادة : بلغنا أن رسول الله ﷺ قال :
« لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه ».
1334
يقول تعالى : وخبرهم يا محمد عن قصة ﴿ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾، والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر، وكيف ﴿ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ أي خائفون، وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة وهو العجل السمين الحنيذ، ﴿ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ ﴾ أي لا تخف، ﴿ نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ أي إسحاق عليه السلام كما تقدم في سورة هود، ثم ﴿ قَالَ ﴾ متعجباً من كبره وكبر زوجته ومتحققاً للوعد ﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ فأجابوه لما بشروه به تحقيقاً وبشارة بعد بشارة، ﴿ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين ﴾، فأجابهم بأنه ليس يقنط ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.
يقول تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى، إنه شرع يسألهم عما جاءوا له فقالوا :﴿ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ يعنون قوم لوط، وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين، ولهذا قالوا :﴿ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين ﴾ أي الباقين المهلكين.
يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فدخلوا عليه داره قال :﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكن في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم، ﴿ وَآتَيْنَاكَ بالحق ﴾ كقوله تعالى :﴿ مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق ﴾ [ الحجر : ٨ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل، وأن يكون لوط عليه السلام يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم؛ وهكذا كان رسول الله ﷺ يمشي في الغزو يزجي الضعيف ويحمل المنقطع، وقوله :﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال، ﴿ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ﴾ كأنه كان معهم من يهديهم السبيل، ﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر ﴾ أي تقدمنا إليه في هذا ﴿ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ﴾ أي وقت الصباح، كقوله في الآية الأخرى :﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ ﴾ [ هود : ٨١ ].
يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحه وجوههم، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين ﴿ قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ ﴾ وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل الله، كما قال في سورة هود، وأما هاهنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب، ولا سيما، إذا دل دليل على خلافه، فقالوا له مجيبين :﴿ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين ﴾ أي أو ما نهيناك أن تضيف أحداً؟ فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة، هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا بصبحهم من العذاب المستقر. ولهذا قال تعالى لمحمد ﷺ :﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾، أقسم تعالى بحياة نبيّه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد ﷺ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى :﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ يقول : وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا ﴿ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾، وقال قتادة :﴿ فِي سَكْرَتِهِمْ ﴾ أي ضلالتهم، ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ أي يلعبون، وقال ابن عباس :﴿ لَعَمْرُكَ ﴾ لعيشك، ﴿ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ قال : يترددون.
يقول تعالى :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة ﴾ وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها، وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها، وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم. وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية، وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته، كما قال مجاهد في قوله :﴿ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ قال : المتفرسين. وعن ابن عباس والضحّاك : للناظرين، وقال قتادة : للمعتبرين، وقال مالك عن بعض أهل المدينة :﴿ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ للمتأملين. وقال ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد مرفوعاً قال : قال رسول الله ﷺ :« اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله »، ثم قرأ النبي ﷺ :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾. وفي رواية عن ابن عمر :« اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله » وروى الحافظ البزار عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ :« إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم » وقوله :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب والقذف للحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة، بطريق مهيع مسالكه مستعمرة إلى اليوم، كقوله :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ]، وقال مجاهد والضحّاك :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ قال : معلم، وقال قتادة : بطريق واضح. وقال قتادة أيضاً : بصقع من الأرض واحد. وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار، وإنجائنا لوطاً وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب، قال الضحاك : الأيكة : الشجر الملتف، وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلمة، وقد كانوا قريباً من قوم لوط بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ أي طريق مبين. قال ابن عباس : طريق ظاهر، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في إنذاره إياهم :﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٩ ].
أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيّهم عليه السلام، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين، وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم، فلما عتوا وعقروها قال لهم :﴿ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ﴾ [ فصلت : ١٧ ]، وذكر تعالى أنهم :﴿ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ ﴾ أي من غير خوف ولا احتياج إليها بل أشراً وبطراً وعبثاً، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مر به رسول الله ﷺ، وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه :« لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم » وقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ ﴾ أي وقت الصباح من اليوم الرابع، ﴿ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
يقول تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ ﴾ أي بالعدل ﴿ لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ [ النجم : ٣١ ]، ثم أخبر نبيّه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به، كقوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار ﴾ [ ص : ٢٧ ]، وقال مجاهد وقتادة : كان هذا قبل القتال، وقوله :﴿ فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٩ ] تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ﴿ العليم ﴾ بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله :﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم ﴾ [ يس : ٨١ ].
يقول تعالى لنبيّه ﷺ : كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزناً عليهم في تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك،
﴿ واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين ﴾ [ الشعراء : ٢١٥ ] أي ألن لهم جانبك، كقوله :
﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ]، وقد اختلف في السبع المثاني ما هي؟ فقال ابن مسعود وابن عباس : هي السبع الطوال، يعنون
« البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس »، وقال سعيد : بين فيهن الفرائض والحدود والقصص والأحكام، وقال ابن عباس : بيَّن الأمثال والخبر والعبر، ولم يعطهن أحد إلا النبي ﷺ، وأعطي موسى منهن ثنتين، ( والقول الثاني ) : إنها الفاتحة وهي سبع آيات. قال ابن عباس : والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها، وقال قتادة : ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع؛ واختاره ابن جرير، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد أورد البخاري رحمه الله هاهنا حديثين ( أحدهما ) عن أبي سعيد بن المعلى قال : مرّ بي النبي ﷺ وأنا أصلي فدعاني، فلم آته حتى صليت فأتيته، فقال :
« ما منعك أن تأتيني »؟ فقلت : كنت أصلي، فقال :
« ألم يقل الله :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ﴾ [ الأنفال : ٢٤ ] ألا أعلمك أعظم صورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد »؟ فذهب النبي ﷺ ليخرج فذكرت فقال :
﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ [ الفاتحة : ٢ ] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
« ( الثاني ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :» أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم «، فهذا نص في الفاتحة هي ( السبع المثاني ) والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضاً، كما قال تعالى :
﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه وهو القرآن العظيم أيضاً، كما أنه ﷺ لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأشار إلى مسجده والآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإذن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة والله أعلم. وقوله :
﴿ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ ﴾ أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية.
1344
ومن هاهنا ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح :
« ليس منا من لم يتغن بالقرآن » إلى أنه يستغنى به عما عداه، وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير، وقال ابن أبي حاتم عن أبي رافع صاحب النبي ﷺ قال :
« ضاف النبي ﷺ ضيف، ولم يكن عند النبي ﷺ شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهمد :» يقول لك محمد رسول الله أسلفني دقيقاً إلا هلال رجب
«، قال : لا، إلا برهن، فأتيت النبي ﷺ فأخبرته فقال :» أما والله إني لأمين من في السماء، وأمين من في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه «، فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية
﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى ﴾ [ طه : ١٣١ ] إلى آخر الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا. قال ابن عباس
﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ قال : نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. وقال مجاهد :
﴿ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ ﴾ هم الأغنياء.
1345
يأمر تعالى نبيّه ﷺ أن يقول للناس :
﴿ إني أَنَا النذير المبين ﴾ البين النذارة، نذير للناس من عذاب أليم، كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام، وقوله :
﴿ المقتسمين ﴾ أي المتحالفين، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم، كقوله تعالى إخباراً عن قوم صالح إنهم :
﴿ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ [ النمل : ٤٩ ] الآية، أي نقتلهم ليلاً، قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا
﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ]،
﴿ أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ﴾ [ الأعراف : ٤٩ ] فكأنهم لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين. قال عبد الرحمن بن زيد :
« المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، وفي » الصحيحين
« عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال :» إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق «، وقوله :
﴿ الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ ﴾ أي جزأوا كتبهم المنزلة عليهم، فأمنوا ببعض وكفروا ببعض، قال البخاري عن ابن عباس :
﴿ جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ ﴾ قال : هم أهل الكتاب جزأوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقال عكرمة : العضة، السحر بلسان قريش، تقول للساحرة : إنها العاضهة، وقال مجاهد : عضوه إعضاء قالوا : سحر، وقالوا : كهانة، وقالوا : أساطير الأولين، وقال عطاء : قال بعضهم : ساحر، وقالوا : مجنون، وقالوا : كاهن، فذلك العضين.
وقال محمد بن إسحاق، عن ابن عباس : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا شرف فيهم، وقد حضر الموسم، فقا لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، فقالوا : وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال : بل أنتم قولوا لأسمع، قالوا : نقول كاهن، قال : ما هو بكاهن، قالوا : فنقول مجنون، قال : ما هو بمجنون، قالوا : فتقول شاعر، قال : ما هو بشاعر، قالوا : فنقول ساحر، قال : ما هو بساحر، قالوا : فماذا تقول؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا : هو ساحر، فتفرقوا عنه بذلك، وأنزل الله فيهم.
﴿ الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ ﴾ أصنافاً :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أولئك النفر الذين قالوا لرسول الله.
1346
وقال ابن عمر في قوله :
﴿ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قال : عن
﴿ لاَ إله إِلاَّ الله ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]، وقال ابن مسعود : والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول : ابن آدم ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ وقال أبو جعفر، عن أبي العالية في قوله :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قال : يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون، وعماذا أجابوا المرسلين، وقال ابن عيينة : عن عملك وعن مالك، وقال ابن أبي حاتم، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله ﷺ :
« يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، فلا ألفينك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك » وقال ابن عباس في قوله :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، ثم قال :
﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] قال : لا يسألهم هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لم عملتم كذا وكذا؟
1347
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ بإبلاغ ما بعثه وبإنفاذه والصدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس في قوله :
﴿ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ : أي أمضه؛ وفي رواية ( افعل ما تؤمر ). وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وعن عبد الله بن مسعود : ما زال النبي ﷺ مستخفياً حتى نزلت :
﴿ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ فخرج هو وأصحابه، وقوله :
﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين ﴾ أي بلغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله
﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [ القلم : ٩ ] ولا تخفهم، فإن الله كافيك إياهم، وحافظك منهم، كقوله تعالى :
﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ]. وعن أنس مرَّ رسول الله ﷺ فغمزه بعضهم، فجاء جبريل - أحسبه قال : فغمزهم - فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. وقال محمد بن إسحاق : كان عظماء المستهزئين خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى ( أبو زمعة ) كان رسول الله ﷺ فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال :
« اللهم أعم بصره وأثكله ولده »، ومن بني زهرة ( الأسود بن عبد يغوث )، ومن بني مخزوم ( الوليد بن المغيرة )، ومن بني سهم ( العاص بن وائل*، ومن خزاعة ( الحارث بن الطلاطلة )، فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله ﷺ الاستهزاء أنزل الله تعالى :
﴿ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين ﴾ إلى قوله :
﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾.
وقوله تعالى :
﴿ الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُون ﴾ تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع الله معبوداً آخر. وقوله :
﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين ﴾ أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض، فلا يضيقنك ذلك، ولا يثنينّك عن إبلاغك رسالة الله وتوكل عليه، فإنه كافيك وناصرك عليهم، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة. ولهذا قال :
﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين ﴾، ولهذا كان رسول الله ﷺ إذا حز به أمر صلى، وقوله :
﴿ واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين ﴾، قال البخاري عن سالم بن عبد الله
﴿ واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين ﴾ قال : الموت. والدليل على ذلك قوله تعالى إخباراً عن أهل النار أنهم قالوا :
﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين * حتى أَتَانَا اليقين ﴾ [ المدثر : ٤٦-٤٧ ]. وفي
« الصحيح » :
1348
« أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير » ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله :
﴿ واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين ﴾ على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في
« صحيح البخاري » عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال :
« صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب »، ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا - هم وأصحابهم - أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة؛ وإنما المراد باليقين هاهنا المو، كما قدمناه، ولله الحمد والمنة.
1349