والحجر اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود. وثمود هم أصحاب الحجر. وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى ﴿ ولقد كذب أصحاب الحجر ﴾. والمكتبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة ﴿ ربما ﴾ لأن كلمة ﴿ ربما ﴾ لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة.
وهي مكية كلها وحكي الاتفاق عليه.
وعن الحسن استثناء قوله تعالى ﴿ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ﴾ بناء على أن سبعا من المثاني هي سورة الفاتحة وعلى أنها مدنية. وهذا لا يصح لأن الأصح أن الفاتحة مكية.
واستثناء قوله تعالى ﴿ كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ﴾ بناء على تفسيرهم ﴿ المقتسمين ﴾ بأهل الكتاب وهو صحيح، وتفسير ﴿ جعلوا القرآن عضين ﴾ أنهم قالوا : ما وافق منه كتابنا فهو صدق وما خالف كتابنا فهو كذب. ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة، وهذا لا نصححه كما نبينه عند الكلام على تلك الآية.
ولو سلم هذا التفسير من جهتيه فقد يكون لأن اليهود سمعوا القرآن قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل فقالوا ذلك حينئذ، على أنه قد روي أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا في أمره يهود المدينة.
وقال في الاتفاق ينبغي استثناء قوله ﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ﴾ لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة اهـ.
وهو يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي من طريق نوح بن قيس الجذامي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر أي من صفوف الرجال فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى ﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ﴾. قال الترمذي ورواه جعفر بن سليمان ولم يذكر ابن عباس. وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح اهـ. وهذا توهين لطريق نوح.
قال ابن كثير في تفسيره : وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع.
وعلى تصحيح أنها مكية فقد عدت الرابعة والخمسين في عدد نزول السور ؛ نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام.
ومن العجيب اختلافهم في وقت نزول هذه السورة وهي مشتملة على آية ﴿ فاصدع بما تؤمر ﴾ وقد نزلت عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم في آخر السنة الرابعة من بعثته.
وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادين.
مقاصد هذه السورة
افتتحت بالحروف المقطعة التي فيها تعريض بالتحدي بأعجاز القرآن.
وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه.
وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم.
وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم في شهواتهم.
وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبان الوعيد الذي عينه الله في علمه.
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم إيمان من لم يؤمنوا، وما يقولونه في شأنه وما يتوركون بطلبه منه، وأن تلك عادة المكذبين مع رسلهم.
وأنهم لا تجدي فيهم الآيات والنذر لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به وأن الله حافظ كتابه من كيدهم.
ثم إقامة الحجة عليهم بعظيم صنع الله وما فيه من نعم عليهم.
وذكر البعث ودلائل إمكانه.
وانتقل إلى خلق نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع.
وقصة كفر الشيطان.
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر.
وختمت بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وانتظار ساعة النصر، وأن يصفح عن الذين يؤذونه، ويكل أمرهم إلى الله، ويشتغل بالمؤمنين، وأن الله كافيه أعداءه.
مع ما تخلل ذلك من الاعتراض والإدماج من ذكر خلق الجن، واستراقهم السمع، ووصف أحوال المتقين، والترغيب في المغفرة، والترهيب من العذاب.
ﰡ
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)الر تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ.
وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ من إعلان التَّحْدِيد بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ مِقْدَارِ مَا نَزَلَ بِالْقُرْآنِ، أَيِ الْآيَاتُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَكُمُ الْمُتَمَيِّزَةُ لَدَيْكُمْ تَمَيُّزًا كَتَمَيُّزِ الشَّيْءِ الَّذِي تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ. وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ لِتَنْزِيلِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ.
والْكِتابِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى الشَّرِيعَةِ. وَسُمِّيَ كِتَابًا لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكِتَابَةِ مَا يَنْزِلُ مِنْهُ لِحِفْظِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ فَقَدْ سُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُجْمَعَ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَكُونُ كِتَابًا.
وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُفْتَتَحِ تَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ لِقَصْدِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ بِاسْتِدْعَائِهِمْ لِلنَّظَرِ فِي دَلَائِلَ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقِّيَّةِ دِينِهِ.
وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ فِي الِاسْمِ الْمَجْعُولِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ جَائِيًا مِنَ التَّوَسُّلِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى كَمَالِ الْجِنْسِ فِي الْمُعَرَّفِ بِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ أَنَّهُ فَائِقٌ فِي جِنْسِهِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ، فَاقْتَضَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ هِيَ آيَاتُ كِتَابٍ بَالِغٍ مُنْتَهَى كَمَالِ جِنْسِهِ، أَيْ مِنْ كُتُبِ الشَّرَائِعِ.
فَاسْمُ الْقُرْآنِ أَرْسَخُ فِي التَّعْرِيفِ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْعَلَمَ الْأَصْلِيَّ أَدْخَلُ فِي تَعْرِيفِ الْمُسَمَّى مِنَ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ، فَسَوَاءٌ نُكِّرَ لَفْظُ الْقُرْآنِ أَوْ عُرِّفَ بِاللَّامِ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى كِتَابِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ نُكِّرَ فَتَنْكِيرُهُ عَلَى أَصْلِ الْأَعْلَامِ، وَإِنْ عُرِّفَ فَتَعْرِيفُهُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَلَمِيَّةِ كَتَعْرِيفِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ لِأَنَّ «الْقُرْآنَ» مَنْقُولٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَى الْقِرَاءَةِ، أَيِ الْمَقْرُوءِ الَّذِي إِذا قرىء فَهُوَ مُنْتَهَى الْقِرَاءَةِ.
وَفِي التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ مِنْ مَعْنَى قُوَّةِ الِاتِّصَافِ بِمَادَّةِ الْمَصْدَرِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي كُلٍّ مِنَ الْعَلَمَيْنِ مِنْ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْعَلَمِ الْآخَرِ حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعَطْفِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ «قُرْآنٍ» بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ «كِتَابٍ» وَهُوَ شَبِيهٌ بِعَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَمَا هُوَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَشْبَهَهُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مَتْبُوعٌ بِوَصْفٍ وَهُوَ مُبِينٍ. وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارٌ بِالْمَعْنَى.
وَابْتُدِئَ بِالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ لِمَا فِي التَّعْرِيفِ مِنْ إِيذَانٍ بِالشُّهْرَةِ وَالْوُضُوحِ وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، وَلِأَنَّ الْمُعَرَّفَ هُوَ أَصْلُ الْإِخْبَارِ وَالْأَوْصَافِ. ثُمَّ جِيءَ بِالْمُنَكَّرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ وَصْفُهُ بِالْمُبِينِ، وَالْمُنَكَّرُ أَنْسَبُ بِإِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّنْكِيرَ يَدُلُّ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَوُزِّعَتِ الدَّلَالَتَانِ عَلَى نُكْتَةِ التَّعْرِيفِ وَنُكْتَةِ التَّنْكِيرِ.
فَأَمَّا تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الذِّكْرِ فَلِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ تَوْبِيخُ الْكَافِرِينَ وَتَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَجِيءُ وَقْتٌ يَتَمَنَّوْنَ فِيهِ أَنْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُنْكِرِينَ نَاسَبَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
حِينَ جادلوا مَا جالوا إِلَّا فِي كِتَابٍ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧] وَلِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْآخَرِينَ بِعُنْوَانِ «كِتَابٍ»، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِعُنْوَانِ «أَهْلِ الْكِتَابِ».
فَأَمَّا عُنْوَانُ «الْقُرْآنِ» فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِكَوْنِ الْكِتَابِ مَقْرُوءًا مدروسا وَإِنَّمَا يقرأه وَيَدْرُسُهُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ. وَلِذَلِكَ قُدِّمَ عُنْوَانُ «الْقُرْآنِ» فِي سُورَةِ النَّمْلِ كَمَا سَيَأْتِي.
والمبين: اسْم فَاعل مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِهِ، أَيْ ظُهُورِ قُرْآنِيَّتِهِ الْعَظِيمَةِ، أَيْ ظُهُورِ إِعْجَازِهِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ الْمُعَانِدُونَ وَغَيْرُهُمْ.
وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلِ الْمُبِينَ بِمَعْنَى أَبَانَ الْمُتَعَدِّي لِأَنَّ كَوْنَهُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَشَدُّ فِي تَوْبِيخِ مُنْكِرِيهِ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. وَسَيَجِيءُ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَة النَّمْل.
[٢]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٢]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ مُفْتَتَحُ الْغَرَضِ وَمَا قَبْلَهُ كَالتَّنْبِيهِ وَالْإِنْذَارِ.
ورُبَما مُرَكَّبَةٌ مِنْ (رُبَ). وَهُوَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى تَنْكِيرِ مَدْخُولِهِ وَيَجُرُّ وَيَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ. وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَفِيهَا عِدَّةُ لُغَاتٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا.
وَاقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) الْكَافَّةُ لِ (رُبَّ) عَنِ الْعَمَلِ. وَدُخُولُ (مَا) بَعْدَ (رُبَّ) يَكُفُّ عَمَلَهَا غَالِبًا. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ دُخُولُهَا عَلَى الْأَفْعَالِ. فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ فَالْغَالِبُ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّقْلِيلُ.
وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَاضِي فِي التَّحَقُّقِ.
وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَوْجَبَ دُخُولَهَا عَلَى الْمَاضِي، وَتَأَوَّلَ نَحْوَ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ هُنَا وَاضِحٌ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَوَدُّوا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ.
وَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى:
قَدْ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا أَسْلَمُوا.
وَالتَّقْلِيلُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّخْوِيفِ، أَيِ احْذَرُوا وَدَادَتَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ، فَلَعَلَّهَا أَنْ تَقَعَ نَادِرًا كَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ فِي التَّوْبِيخِ: لَعَلَّكَ سَتَنْدَمُ عَلَى فِعْلِكَ، وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي تَنَدُّمِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّدَمُ مَشْكُوكًا فِيهِ لَكَانَ حَقًّا عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا قَدْ تَنَدَمُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِيهِ لِكَيْ لَا تَنْدَمَ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَحَرَّزُ مِنَ الضُّرِّ الْمَظْنُونِ كَمَا يَتَحَرَّزُ مِنَ الْمُتَيَقَّنِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وَلَكِنْ بَعْدَ الْفَوَاتِ.
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِيقَاعِهِ، وَذَلِكَ عِنْد مَا يُقْتَلُونَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ حُضُورِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَقَدْ وَدَّ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِينَ شَاهَدُوا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَدَّ كُفَّارُ قُرَيْشٍ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ لِكُفْرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: ٢٧]. وَكَذَلِكَ إِذَا أُخْرِجَ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي النَّارِ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ وَدُّوا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَتَمُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ عِنَادًا وَكُفْرًا. قَالَ تَعَالَى:
ولَوْ فِي لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي لِأَنَّ أَصْلَهَا الشَّرْطِيَّةُ إِذْ هِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، فَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِمَعْنَى التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْأَمْرِ الْمُمْتَنَعِ الْحُصُولِ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمَنِّي اسْتُعْمِلَتْ فِي ذَلِكَ كَأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَقُولُهُ الْمُتَمَنِّي، وَلَمَّا حُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ عَدَلَ فِي حِكَايَةِ الْمَقُولِ إِلَى حِكَايَتِهِ بِالْمَعْنَى. فَأَصْلُ لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ
لَوْ كُنَّا مُسْلِمِينَ.
وَالْتُزِمَ حَذْفُ جَوَابِ لَوْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ شَاعَ حَذْفُ الْقَوْلِ، فَأَفَادَتْ لَوْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فَصَارَ الْمَعْنَى: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَوْنَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ عَدُّوهَا مِنْ حُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَإِنَّمَا الْمَصْدَرُ مَعْنًى عَارِضٌ فِي الْكَلَامِ وَلَيْسَ مدلولها بِالْوَضْعِ.
[٣]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٣]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
لَمَّا دَلَّتْ (رُبَّ) عَلَى التَّقْلِيلِ اقْتَضَتْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى غُلَوَائِهِمْ هُوَ أَكْثَرُ حَالِهِمْ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْكَمَالِ النَّفْسِيِّ، فَبِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِحَيَاةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الِاقْتِصَارُ عَلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، فَخُوطِبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُعَرَّضُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ حَيَاتَهُمْ حَيَاةُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. وَذَلِكَ مِمَّا يَتَعَيَّرُونَ بِهِ فِي مَجَارِي أَقْوَالِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا | وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكاسي |
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٠].
وَالْأَمْرُ بِتَرْكِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ قِلَّةُ جَدْوَى الْحِرْصِ عَلَى إِصْلَاحِهِمْ. وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِذْنِ بِمُتَارَكَتِهِمْ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالدَّوَامِ عَلَى دُعَائِهِمْ. قَالَ تَعَالَى:
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً إِلَى قَوْلِهِ: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [سُورَة الْأَنْعَام: ٧٠]. فَمَا أَمَرَهُ بِتَرْكِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَعْقَبَهُ بِأَمْرِهِ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّرْكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي عَدَمِ الرَّجَاءِ فِي صَلَاحِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِ كَبْشَةَ أُخْتِ عَمْرو بن معد يكرب فِي قَتْلِ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ تَسْتَنْهِضُ أَخَاهَا عَمْرًا لِلْأَخْذِ بِثَأْرِهِ:
وَدَعْ عَنْكَ عَمْرًا إِنَّ عَمْرًا مُسَالِمٌ | وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَمِ |
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [سُورَة المزمل: ١١].
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّرْكِ الْمَجَازِيِّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِ مَنْزِلَةَ الْمُتَلَبِّسِ بِالضِّدِّ كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
دَعُونِي أَنُحْ مِنْ قَبْلِ نَوْحِ الْحَمَائِمِ | وَلَا تَجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ |
وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّرْكِ لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ، إِذِ الْمَعْنِيُّ بِهِ تَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ وَالْبُعْدُ عَنْهُمْ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ فِعْلُ التَّرْكِ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لِيَدُلَّ عَلَى الْيَأْسِ
مِنْهُمْ.
ويَأْكُلُوا مَجْزُومٌ بلام الْأَمر محذوفة كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٣١]. وَهُوَ
وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ مَجْزُومًا فِي جَوَابِ ذَرْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ سَوَاءً تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَتَهُمْ أَمْ دَعَاهُمْ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٤].
وَإِلْهَاءُ الْأَمَلِ إِيَّاهُمْ: هُوَ إِنْسَاؤُهُ إِيَّاهُمْ مَا حَقُّهُمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوهُ بِأَنْ يَصْرِفَهُمْ تَطَلُّبُ مَا لَا يَنَالُونَ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي الْبَعْثِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَة.
والْأَمَلُ: مَصْدَرٌ. وَهُوَ ظَنُّ حُصُولِ أَمْرٍ مَرْغُوبٍ فِي حُصُولِهِ مَعَ اسْتِبْعَادِ حُصُولِهِ.
فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ كَعْبٍ:
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُوَ مَوَدَّتُهَا | وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ |
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ [سُورَة الْفرْقَان: ٤٢].
[٤- ٥]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٤ إِلَى ٥]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
اعْتِرَاضٌ تَذْيِيلِيٌّ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمًا يَشْمَلُهُمْ وَهُوَ حُكْمُ إِمْهَالِ الْأُمَمِ الَّتِي حَقَّ عَلَيْهَا الْهَلَاكُ، أَيْ مَا أَهْلَكْنَا أُمَّةً إِلَّا وَقَدْ مَتَّعْنَاهَا زَمَنًا وَكَانَ لِهَلَاكِهَا أَجَلٌ وَوَقْتٌ مَحْدُودٌ، فَهِيَ مُمَتَّعَةٌ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ عِنْدَ إِبَّانِهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْقُرَى الَّتِي أُهْلِكَتْ مِنْ قَبْلُ لِتَذْكِيرِ هَؤُلَاءِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي إِمْهَالِ الظَّالِمِينَ لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّمَتُّعِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ أَفْلَتُوا مِنَ الْوَعِيدِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَا يَقْتَضِي أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ قَدَّرَ اللَّهُ أَجَلًا لِهَلَاكِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ وَلَكِنْ هَدَى كَثِيرًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالسَّيْفِ وَأَهْلَكَ سَادَتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٩].
وَالْكِتَابُ: الْقَدَرُ الْمَحْدُودُ عِنْدَ اللَّهِ. شُبِّهَ بِالْكِتَابِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ.
وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى.
وَجُمْلَةُ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَفَاكَ عِلْمًا عَلَى ذَلِكَ اقْتِرَانُهَا بِالْوَاوِ فَهِيَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ قَرْيَةٍ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَإِنَّ وُقُوعَهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَّغَ مَجِيءَ الْحَالِ مِنْهُ كَمَا سَوَّغَ الْعُمُومُ صِحَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ النَّكِرَةِ.
وَجُمْلَةُ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ لِبَيَانِ فَائِدَةِ التَّحْدِيدِ: أَنَّهُ عَدِمَ الْمُجَاوَزَةِ بَدْءًا وِنَهَايَةً.
وَمَعْنَى (تَسْبِقُ أَجَلَهَا) تَفُوتُهُ، أَيْ تُعْدَمُ قَبْلَ حُلُولِهِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالسَّبْقِ.
ويَسْتَأْخِرُونَ: يَتَأَخَّرُونَ. فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ.
وَأُنِّثَ مُفْرَدًا ضَمِيرُ الْأُمَّةِ مَرَّةً مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَجُمِعَ مُذَكَّرًا مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْخِرُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ عَنهُ.
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [سُورَة الْحجر: ٣]. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتِ انْهِمَاكَهُمْ فِي الْمَلَذَّاتِ وَالْآمَالِ، وَهَذِهِ تَضَمَّنَتْ تَوَغُّلَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَتَكْذِيبَهُمُ الرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ.
وَالْمَعْنَى: ذَرْهُمْ يُكَذِّبُونَ وَيَقُولُونَ شَتَّى الْقَوْلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.
وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا مِنْ مَقُولِهِمْ.
وَالنِّدَاءُ فِي يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِلتَّشْهِيرِ بِالْوَصْفِ الْمُنَادَى بِهِ، وَاخْتِيَارُ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّهَكُّمِ. وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ قَوْلُهُمْ:
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. وَقَدْ أَرَادُوا الِاسْتِهْزَاءَ بِوَصْفِهِ فَأَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِالْحَقِّ فِيهِ صَرْفًا لِأَلْسِنَتِهِمْ عَنِ الشَّتْمِ. وَهَذَا كَمَا كَانُوا إِذَا شَتَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هَجَوْهُ يَدْعُونَهُ مُذَمَّمًا
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: «أَلَمْ تَرَيْ كَيْفَ صَرَفَ اللَّهُ عَنِّي أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَسَبَّهُمْ، يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ»
. وَفِي هَذَا إِسْنَادُ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ بِحَسب مَا يدعبه صَاحِبُ اسْمِ الْمَوْصُولِ، لَا بِحَسَبِ اعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
والذِّكْرُ: مَصْدَرُ ذَكَرَ، إِذَا تَلَفَّظَ. وَمَصْدَرُ ذَكَرَ إِذَا خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ. فَالذِّكْرُ الْكَلَامُ الْمُوحَى بِهِ لِيُتْلَى وَيُكَرَّرَ، فَهُوَ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُعَادُ إِمَّا لِأَنَّ فِيهِ التَّذْكِيرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّ بِهِ ذِكْرَهُمْ فِي الْآخَرِينَ، وَقَدْ شَمَلَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٠] وَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [سُورَة الزخرف:
٤٤] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْقُرْآنُ.
وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ قَصَدَ مِنْ إِنْزَالِهِ أَنْ يُقْرَأَ، فَصَارَ الذِّكْرُ وَالْقُرْآنُ صِنْفَيْنِ مِنْ أَصْنَافِ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْقَى لِلنَّاسِ لِقَصْدِ وَعْيِهِ وَتِلَاوَتِهِ، كَمَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الشِّعْرُ وَالْخُطْبَةُ وَالْقِصَّةُ وَالْأُسْطُورَةُ.
وَيَدُلُّكَ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [سُورَة يس: ٦٩]، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرًا، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَصْفَهُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، وَهِيَ مُغَايِرَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الصِّفَتَيْنِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. فَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مِنْ صِنْفِ الذِّكْرِ وَمِنْ صِنْفِ الْقُرْآنِ، لَا مِنْ صِنْفِ الشِّعْرِ وَلَا مِنْ صِنْفِ الْأَسَاطِيرِ.
ثُمَّ صَارَ «الْقُرْآنُ» بِالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ ادِّعَاءَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ لَا يَصْدُرُ مِنْ عَاقِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا لَا تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمُ الَّتِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَهُ الْعُقَلَاءُ، فَالدَّاعِي بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ.
وَالْمَجْنُونُ: الَّذِي جُنَّ، أَيْ أَصَابَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ أَثَرِ مَسِّ الْجِنِّ إِيَّاهُ فِي
اعْتِقَادِهِمْ، فَالْمَجْنُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ إِلَّا مُسْنَدَةً لِلْمَجْهُولِ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَهُ لَعَلَّهُ يَرْتَدِعُ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ فِيهِ أَوْ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَهُ لِلسَّامِعِينَ حَاضِرِي مَجَالِسِهِمْ.
ولَوْ مَا حرف تحضيض بِمَنْزِلَةِ لَوْلَا التَّحْضِيضِيَّةِ. وَيَلْزَمُ دُخُولُهَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِتْيَانِ بِالْمَلَائِكَةِ حُضُورُهُمْ عِنْدَهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ بِصِدْقِهِ فِي الرِّسَالَةِ. وَهَذَا كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [سُورَة الْإِسْرَاء:
٩٢].
ومِنَ الصَّادِقِينَ أَيْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصِّدْقُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ (إِنْ كُنْتَ صَادِقًا)، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [٢١٩]، وَفِي قَوْلِهِ: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٦٧].
[٨]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٨]
مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ جَوَابًا لِكَلَامِهِمْ وُشُبُهَاتِهِمْ وَمُقْتَرَحَاتِهِمْ.
وَابْتُدِئَ فِي الْجَوَابِ بِإِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَالُوا: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [سُورَة الْحجر: ٧]. أُرِيدَ مِنْهُ إِزَالَةُ جَهَالَتِهِمْ إِذْ سَأَلُوا نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَامَةً عَلَى التَّصْدِيقِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ طَلَبُوا ذَلِكَ بِقَصْدِ التَّهَكُّمِ فَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَقِدُونَ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ هُوَ آيَةُ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ جَوَابُهُمْ مَشُوبًا بِطَرَفٍ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ صَرْفُهُمْ إِلَى تَعْلِيمِهِمُ الْمَيْزَ بَيْنَ آيَاتِ الرُّسُلِ وَبَيْنَ آيَاتِ الْعَذَابِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يَدَّخِرَهُمْ هَدْيًا وَإِلَّا فَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ لَا يُجَابُوا.
الْكَافِرِينَ، كَمَا أُنْزِلُوا إِلَى مَدَائِنِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلَيْسَ مِثْلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِالشَّرَائِعِ أَوْ بِالْوَحْيِ. قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ زَكَرِيَّاءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [سُورَة آل عمرَان: ٣٩].
وَالْمُرَادُ بِ «الْحَقِّ» هُنَا الشَّيْءُ الحاقّ، أَي الْمُقْتَضِي، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْمَقْضِيِّ. وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ الْعَذَابُ الْحَاقُّ. قَالَ تَعَالَى:
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [سُورَة الْحَج: ١٨] وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ، أَيْ لَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّاسِ غَيْرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ. عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَّا مُصَاحِبِينَ لِلْعَذَابِ الْحَاقِّ عَلَى النَّاسِ كَمَا تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ. وَلَوْ تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لَعُجِّلَ لِلْمُنْزَلِ عَلَيْهِمْ وَلَمَا أُمْهِلُوا.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ مُنْظِرُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدِ اسْتِئْصَالَهُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَشْرُ الدِّينِ بِوَاسِطَتِهِمْ فَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى اهْتَدَوْا، وَلَكِنَّهُ أَهْلَكَ كُبَرَاءَهُمْ وَمُدَبِّرِيهِمْ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨] : وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ. وَقَدْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بدر يقطعون رُؤُوس الْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِنْظَارُ: التَّأْخِيرُ وَالتَّأْجِيلُ.
وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاء. وَقد وسطت هُنَا بَيْنَ جُزْأَيْ جَوَابِهَا رَعْيًا لِمُنَاسَبَةِ عَطْفِ جوابها على قَول: مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ. وَكَانَ شَأْنُ (إِذَنْ) أَنْ تَكُونَ فِي صَدْرِ جَوَابِهَا. وَجُمْلَتُهَا هِيَ الْجَوَابُ الْمَقْصُود لقَولهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [سُورَة الْحجر:
٧]. وَجُمْلَة مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ، فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي الرَّدِّ، وَلِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِإِيجَازِ الْجَوَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا تَنَزَّلُ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ (تَتَنَزَّلُ).
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى النِّيَابَةِ-.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ- بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَنَصْبِ الْمَلَائِكَةِ على المفعولية-.
[٩]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٩]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِبْطَالِ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ، إِذْ قَالُوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [سُورَة الْحجر: ٦]، بَعْدَ أَنْ عَجَّلَ كَشْفَ شُبْهَتِهِمْ فِي قَوْلهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سُورَة الْحجر: ٧].
جَاءَ نَشْرُ الْجَوَابَيْنِ عَلَى عَكْسِ لَفِّ الْمَقَالَيْنِ اهْتِمَامًا بِالِابْتِدَاءِ بِرَدِّ الْمَقَالِ الثَّانِي بِمَا فِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ بِالتَّعْجِيزِ وَالْإِفْحَامِ، ثُمَّ ثُنِّيَ الْعَنَانُ إِلَى رَدِّ تَعْرِيضِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَسُؤَالِ رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ نَوْعِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِتَقْرِيرِ إِنْزَالِ الذِّكْرِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَارَاةً لِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ، فَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّا وَضَمِيرِ الْفَصْلِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا فِي الْوَاقِعِ كَقَوْلِهِ: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [سُورَة المُنَافِقُونَ: ١].
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرَ، وَاللَّامُ لِتَقْوِيَةِ عَمَلِ الْعَامِلِ لِضَعْفِهِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ.
وَشَمَلَ حَفِظُهُ الْحِفْظَ مِنَ التَّلَاشِي، وَالْحِفْظَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ، بِأَنْ يَسَّرَ تَوَاتُرَهُ وَأَسْبَابَ ذَلِكَ، وَسَلَّمَهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ حَتَّى حَفِظَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ ظُهُورِ قُلُوبِهَا مِنْ حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَ حُفَّاظُهُ بِالِغِينَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ فِي كُلِّ مِصْرٍ.
وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» : أَنَّ الْقَاضِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَالِكِيَّ
الْبَصْرِيَّ (١) سُئِلَ عَنْ السِّرِّ فِي تَطَرُّقِ التَّغْيِيرِ لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَسَلَامَةِ الْقُرْآنِ مِنْ طرقِ التَّغْيِيرِ لَهُ. فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْكَلَ لِلْأَحْبَارِ حِفْظَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [سُورَة الْمَائِدَة: ٤٤] وَتَوَلَّى حِفْظَ الْقُرْآنِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ ذَكَرْتُ هَذَا الْكَلَامَ لِلْمُحَامِلِيِّ فَقَالَ لِي: لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ (٢).
_________
(١) هُوَ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل بن حمّاد الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ ثمَّ الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي الإِمَام المفسّر قَاضِي بَغْدَاد ولد سنة ٢٠٠ وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة ٣٨٢ أَخذ عَن أَصْحَاب مَالك بن أنس مثل عبد الله بن مسلمة القعْنبِي، وَأخذ عَن أيمة الحَدِيث مثل إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَأبي بكر بن أبي شيبَة. قَالَ الْبَاجِيّ لم تحصل دَرَجَة الِاجْتِهَاد واجتماع آلَته بعد مَالك إِلَّا لإسماعيل القَاضِي.
(٢) أَبُو الْحسن عبيد الله بن المنتاب الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي قَاضِي الْمَدِينَة المنورة فِي زمن المقتدر (من سنة ٢٩٥ إِلَى سنة ٣٢٠) كَانَ من أَصْحَاب القَاضِي إِسْمَاعِيل. والمحاملي نِسْبَة إِلَى صنع المحامل فَهُوَ بِفَتْح الْمِيم، وَهُوَ الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل. روى عَن البُخَارِيّ. وَولي قَضَاء الْكُوفَة وَتُوفِّي سنة ٣٨٠.
وَفِي هَذَا مَعَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ إِغَاظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَمْرَ هَذَا الدِّينِ سَيَتِمُّ وَيَنْتَشِرُ الْقُرْآنُ وَيبقى على ممرّ الْأَزْمَانِ. وَهَذَا مِنَ التَّحَدِّي لِيَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ آيَةً لَتَطَرَّقَتْ إِلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَلَاشْتَمَلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سُورَة النِّسَاء: ٨٢].
[١٠- ١١]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: ٩] بِاعْتِبَارِ أَنَّ تِلْكَ جَوَابٌ عَنِ اسْتِهْزَائِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] فَإِنَّ جُمْلَةَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ قَوْلٌ بِمُوجَبِ قَوْلِهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ إِبْطَالٌ لِاسْتِهْزَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
وَفِي هَذَا التَّنْظِيرِ تَحْقِيقٌ لِكُفْرِهِمْ لِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ السالفين مقرّر عِنْدَ الْأُمَمِ وَمُتَحَدَّثٌ بِهِ بَيْنَهُمْ.
وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِوَعِيدِ أَمْثَالِهِمْ وَإِدْمَاجٍ بِالْكِنَايَةِ عَنْ تَسْلِيَة الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-.
٢]. وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَوْقِعِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ.
وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي أَمْرُهَا وَاحِدٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥]. وَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٩]، أَيْ فِي أُمَمِ الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ. فَهَذَا وَجْهُ إِضَافَةِ شِيَعِ إِلَى الْأَوَّلِينَ.
وكانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ سُنَّتُهُمْ، فَ (كَانَ) دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُمْ، وَالْمُضَارِعُ دَلَّ عَلَى تَكَرُّرِهِ مِنْهُمْ.
وَمَفْعُولُ أَرْسَلْنا مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفِعْلِ، أَيْ رُسُلًا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
مِنْ رَسُولٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُكْثِرُونَ الِاسْتِهْزَاءَ بِرَسُولِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ سَجِيَّةً لَهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا الِاسْتِهْزَاء بالرسول.
[١٢، ١٣]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ سُؤَالٍ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ لِقَوْلِهِ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سُورَة الْحجر: ١١] فَيَتَسَاءَلُ كَيْفَ تَوَارَدَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ مِنَ الضَّلَالِ فَلَمْ تُفِدْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [سُورَة الذاريات: ٥٣].
٩] إِذْ قَدْ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ حِفْظَ الذِّكْرِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكْفُرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ. فَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لِإِجْرَامِهِمْ وَتَلَقِّيهِمُ الْحَقَّ بِالسُّخْرِيَةِ وَعَدَمِ التَّدَبُّرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتِيرَ لَهُمْ وَصْفُ الْمُجْرِمِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ صَارَ لَهُمْ كَاللَّقَبِ لَا يُشْعِرُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [سُورَة التَّوْبَة: ١٢٥].
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي نَسْلُكُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْلَاكٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ، أَيْ زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلْقُرْآنِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ شِيَعُ الْأَوَّلِينَ مَعَ مَا يُفِيدُهُ الْمُضَارِعُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ الْمُنَاسِبِ لِقَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ تَجَدَّدَ لِهَؤُلَاءِ إِبْلَاغُ الْقُرْآنِ عَلَى سُنَّةِ إِبْلَاغِ الرِّسَالَاتِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إِعْذَارٌ لَهُمْ لِيَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ كَمَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ هُوَ السَّلْكُ الْمَأْخُوذُ مِنْ نَسْلُكُهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهَا الْمُقَرَّرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَالسَّلْكُ: الْإِدْخَالُ. قَالَ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيُّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ أَيْ مِثْلُ السَّلْكِ الَّذِي سَنَصِفُهُ نَسْلُكُ الذِّكْرَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ هَكَذَا نُولِجُ الْقُرْآنَ فِي عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ وَيَفْهَمُونَهُ إِذْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَيُدْرِكُونَ خَصَائِصَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِي عُقُولِهِمُ اسْتِقْرَارَ تَصْدِيقٍ بِهِ بَلْ هُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [سُورَة التَّوْبَة: ١٢٤- ١٢٥].
فَضَمِيرُ نَسْلُكُهُ وبِهِ عَائِدَانِ إِلَى الذِّكْرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [سُورَة الْحجر: ٩] أَيِ الْقُرْآنِ.
وَالْمُجْرِمُونَ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَجُمْلَةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ بَيَانٌ لِلسَّلْكِ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ تَعِيَهُ عُقُولُهُمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَهَذَا عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ مَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ مِنْهُمْ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَقْتًا مَا.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَجُمْلَةِ وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ [الْحجر: ١٤] الْخَ.
وَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مُعَامَلَةً لِلنَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ مَضَتْ أَمْرٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ذِكْرُهُ، فَكَانَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ بِقَرِينَةِ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى أَصْلِ الْخَبَرِيَّةِ.
وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ الْمَأْلُوفَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٣٧]. وَإِضَافَتُهَا إِلَى الْأَوَّلِينَ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ فِيهِمْ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ هُنَا، وَالْإِضَافَةُ لأدنى مُلَابسَة.
[١٤، ١٥]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ [سُورَة الْحجر: ١٣] وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِإِبْطَالِ جَمِيعِ مَعَاذِيرِهِمْ من قَوْلهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ سُورَة الْحجر [٧] وَقَوْلهمْ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سُورَة الْحجر: ٦]
وَالْكَلَامُ الْجَامِعُ لِإِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ: أَنَّهُمْ لَوْ فَتَحَ اللَّهُ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ حِينَ سَأَلُوا آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ بِطَلَبٍ مِنَ الرَّسُولِ فَاتَّصَلُوا بِعَالِمِ الْقُدُسِ وَالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ وَرَأَوْا ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ لَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهَا تَخَيُّلَاتٌ وَأَنَّهُمْ سُحِرُوا فَرَأَوْا مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ شَيْئًا.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سُورَة الْأَنْعَام: ٧].
وَ (ظَلَّ) تَدُلُّ عَلَى الْكَوْنِ فِي النَّهَارِ، أَيْ وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَضَحِ النَّهَارِ وَتَبَيُّنِ الْأَشْبَاحِ وَعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي الْمَرْئِيِّ.
وَالْعُرُوجُ: الصُّعُودُ. وَيَجُوزُ فِي مُضَارِعِهِ ضَمُّ الرَّاءِ وَبِهِ الْقِرَاءَةُ وَكَسْرُهَا، أَيْ فَكَانُوا يَصْعَدُونَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ نَهَارًا.
وسُكِّرَتْ- بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَبِتَخْفِيفِ الْكَافِ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ سُدَّتْ. يُقَالُ: سَكَّرَ الْبَابَ بِالتَّشْدِيدِ وَسَكَرَهُ بِالتَّخْفِيفِ إِذَا سَدَّهُ.
وَالْمَعْنَى: لَجَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا شَيْئًا.
وَأَتَوْا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَتُّوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. وَرَدُّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ظَنٌّ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَعَرَجُوا فِيهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، ثُمَّ أَضْرَبُوا عَنْ ذَلِكَ إِضْرَابَ الْمُتَرَدِّدِ الْمُتَحَيِّرِ يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ فَقَالُوا: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ، أَيْ مَا رَأَيْنَاهُ هُوَ تَخَيُّلَاتِ الْمَسْحُورِ، أَيْ فَعَادُوا إِلَى إِلْقَاءِ تَبِعَةِ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَحَرَهُمْ حِينَ سَأَلَ لَهُمُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَفَتَحَهُ لَهُمْ.
وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْمٌ هُنَا دُونَ أَنْ يَقُولُوا: بَلْ نَحْنُ مَسْحُورُونَ، لِأَنَّ ذِكْرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ السِّحْرَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ وَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُهُمْ حَتَّى صَارَ مِنْ خَصَائِصِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَبْيِينُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وتكرر ذَلِك.
[١٦- ١٨]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي شَأْنِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا توركوا بِهِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحَ التَّكْذِيبِ أَصْلَيْنِ هُمَا إِبْطَالُهُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ، وَإِثْبَاتُهُ الْبَعْثَ، انْبَرَى الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لَهُمْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَذَكَرَ
الدَّلَائِلَ الْوَاضِحَةَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَانْقِرَاضِ أُمَمٍ وَخَلَفَهَا بِأُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [سُورَة الْحجر: ٢٣] الْآيَةَ. وَصَادَفَ ذَلِكَ مُنَاسِبَةَ ذِكْرِ فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فِي تَصْوِيرِ غُلْوَائِهِمْ بِعِنَادِهِمْ، فَكَانَ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ تَخَلُّصًا بَدِيعًا.
وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُكَابَرَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا الْحَقَّ لَكَانَ لَهُمْ فِي دَلَالَةِ مَا هُوَ مِنْهُمْ غُنْيَةٌ عَنْ تَطَلُّبِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ.
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ.
وَالْبُرُوجُ: جَمْعُ بُرْجٍ- بِضَمِّ الْبَاءِ-. وَحَقِيقَتُهُ الْبِنَاءُ الْكَبِيرُ الْمُتَّخَذُ لِلسُّكْنَى أَوْ لِلتَّحَصُّنِ. وَهُوَ يُرَادِفُ الْقَصْرَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٨].
وَأُطْلِقَ الْبُرْجُ عَلَى بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ سَمْتِ طَائِفَةٍ مِنَ النُّجُومِ غَيْرِ السَّيَّارَةِ (وَتُسَمَّى النُّجُومُ الثَّوَابِتُ) مُتَجَمِّعٌ بَعْضُهَا بِقُرْبِ بَعْضٍ عَلَى أَبْعَادٍ بَيْنَهَا لَا تَتَغَيَّرُ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْجَوِّ، فَتِلْكَ الطَّائِفَةُ تَكُونُ بِشَكْلٍ وَاحِدٍ يُشَابِهُ نُقَطًا لَوْ خُطِّطَتْ بَيْنَهَا خُطُوطٌ لَخَرَجَ مِنْهَا شِبْهُ صُورَةِ حَيَوَانٍ أَوْ آلَةٍ سَمَّوْا بِاسْمِهَا تِلْكَ النُّجُومَ الْمُشَابِهَةَ لِهَيْئَتِهَا وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي خَطِّ سَيْرِ الشَّمْسِ.
وَقَدْ سَمَّاهَا الْأَقْدَمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّوْقِيتِ بِمَا يُرَادِفُ مَعْنَى الدَّارِ أَوِ الْمَكَانِ. وَسَمَّاهَا الْعَرَبُ بُرُوجًا وَدَارَاتٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَجْعُولَةِ سَبَبًا لِوَضْعِ الِاسْمِ تَخَيَّلُوا أَنَّهَا مَنَازِلُ لِلشَّمْسِ لِأَنَّهُمْ وَقَّتُوا بِجِهَتِهَا سَمْتَ مَوْقِعِ الشَّمْسِ مِنْ قُبَّةِ الْجَوِّ نَهَارًا فِيمَا يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ الشَّمْسَ تَسِيرُ فِي شِبْهِ قَوْسِ الدَّائِرَةِ. وَجَعَلُوهَا اثْنَيْ عَشَرَ مَكَانًا بِعَدَدِ شُهُورِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ وَمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا سُمُوتٌ لِجِهَاتٍ تُقَابِلُ كُلُّ جِهَةٍ مِنْهَا الْأَرْضَ مِنْ جِهَةٍ وَرَاءَ الشَّمْسِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً. ثُمَّ إِذَا انْتَقَلَ مَوْقِعُ الْأَرْضِ مِنْ مَدَارِهَا كُلَّ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ تَتَغَيَّرُ الْجِهَةُ الْمُقَابِلَةُ لَهَا. فَبِمَا كَانَ لَهَا مِنَ النِّظَامِ تَسَنَّى أَنْ تُجْعَلَ عَلَامَاتٍ لِمَوَاقِيتِ حُلُولِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَحُلُولِ الْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، فَهُمْ ضَبَطُوا لِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ حُدُودًا وَهْمِيَّةً عَيَّنُوا مَكَانَهَا فِي اللَّيْلِ مِنْ جِهَةِ مَوْقِعِ الشَّمْسِ فِي النَّهَارِ وَأَعَادُوا رَصْدَهَا يَوْمًا فَيَوْمًا، وَكُلَّمَا
مَضَتْ مُدَّةُ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ ضَبَطُوا لِلشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَامَاتٍ فِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِمَوْقِعِ الشَّمْسِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَهَكَذَا، حَتَّى رَأَوْا بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا إِلَى
وَهِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ابْتِدَاءٌ مِنْ بُرْجِ مَدْخَلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ: الْحَمَلُ، الثَّوْرُ، الْجَوْزَاءُ، (مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَوْزِ- بِفَتْحٍ فَسُكُونِ الْوَسَطِ- لِأَنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ)، السَّرَطَانُ، الْأَسَدُ، السُّنْبُلَةُ، الْمِيزَانُ، الْعَقْرَبُ، الْقَوْسُ، الْجَدْيُ، الدَّلْوُ، الْحُوتُ.
فَاعْتَبَرُوا لِبُرْجِ الْحمل شهر (أبرير) وَهَكَذَا، وَذَلِكَ بِمُصَادَفَةِ أَنْ كَانَتِ الشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ فِي سَمْتِ شَكْلٍ نَجْمِيٍّ شَبَّهُوهُ بِنُقَطِ خُطُوطِ صُورَةِ كَبْشٍ. وَبِذَلِكَ يُعْتَقَدُ أَنَّ الْأَقْدَمِينَ ضَبَطُوا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ وَقَسَّمُوهَا إِلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِلَى الْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ قَبْلَ أَنْ يَضْبِطُوا الْبُرُوجَ. وَإِنَّمَا ضَبَطُوا الْبُرُوجَ لِقَصْدِ تَوْقِيتِ ابْتِدَاءِ الْفُصُولِ بِالضَّبْطِ لِيَعْرِفُوا مَا مَضَى مِنْ مُدَّتِهَا وَمَا بَقِيَ.
وَأَوَّلُ مَنْ رَسَمَ هَذِهِ الرُّسُومَ الْكَلْدَانِيُّونَ، ثُمَّ انْتَقَلَ عِلْمُهُمْ إِلَى بَقِيَّةِ الْأُمَمِ وَمِنْهُمُ الْعَرَبُ فَعَرَفُوهَا وَضَبَطُوهَا وَسَمَّوْهَا بِلُغَتِهِمْ.
وَلِذَلِكَ أَقَامَ الْقُرْآنُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْبُرُوجِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا دَقَائِقَهَا وَنِظَامَهَا الَّذِي تَهَيَّأَتْ بِهِ لِأَنْ تَكُونَ وَسِيلَةَ ضَبْطِ الْمَوَاقِيتِ بِحَيْثُ لَا تُخْلَفُ مُلَاحَظَةُ رَاصِدِهَا. وَمَا خَلَقَهَا اللَّهُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ إِلَّا لِيَجْعَلَهَا صَالِحَةً لِضَبْطِ الْمَوَاقِيتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [سُورَة يُونُس: ٥]. ثُمَّ ارْتَقَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِكَوْنِ هَذِهِ الْبُرُوجِ الْعَظِيمَةِ الصُّنْعِ قَدْ جُعِلَتْ بِأَشْكَالٍ تَقَعُ مَوْقِعَ الْحُسْنِ فِي الْأَنْظَارِ فَكَانَتْ زِينَةً لِلنَّاظِرِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِمُشَاهَدَتِهَا فِي اللَّيْلِ فَكَانَتِ الْفَوَائِدُ مِنْهَا عَدِيدَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّعْلِيمِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ. وَفِيهِ التَّنْوِيهُ بِعِصْمَةِ الْوَحْيِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ،
وَكَانُوا يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ كَاهِنٌ وَلِذَلِكَ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا حَاوَرَهُمْ فِيمَا أَعَدُّوا
مِنَ الِاعْتِذَارِ لِوُفُودِ الْعَرَبِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ إِذَا سَأَلُوهُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوءَةَ.
وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَقُولُوا هُوَ كَاهِنٌ، فَكَانَ مِنْ كَلَامِ الْوَلِيدِ أَنْ قَالَ «.. وَلَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ فَمَا هُوَ بزمزة الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ»، قَالَ تَعَالَى: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [سُورَة الحاقة: ٤٢]. وَكَانَ الْكُهَّانُ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ شَيَاطِينَ تَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُمْ كَاذِبُونَ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي الْكَذِبِ.
وَالْمُرَادُ بِالْحِفْظِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْحِفْظُ مِنَ اسْتِقْرَارِهَا وَتَمَكُّنِهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ.
وَالشَّيْطَانُ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالرَّجِيمُ: الْمُحَقَّرُ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا احْتَقَرُوا أَحَدًا حَصَبُوهُ بِالْحَصْبَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [سُورَة الْحجر: ٣٤]، أَيْ ذَمِيمٌ مُحَقَّرٌ.
وَالرُّجَامُ- بِضَمِّ الرَّاءِ- الْحِجَارَةُ. قِيلَ وَهِي أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ. وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَرْجُمُونَ قَبْرَ أَبِي رِغَالٍ الثَّقَفِيِّ الَّذِي كَانَ دَلِيلُ جَيْشِ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ. قَالَ جَرِيرٌ:
إِذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ | كَمَا تَرْمُونَ قَبْرَ أَبِي رِغَالِ |
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّجْمُ الْمَذْكُورُ عَقِبِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ.
وَ «أَتْبَعَهُ» بِمَعْنَى تَبِعَهُ. وَالْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ مِثْلَ هَمْزَةِ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٥].
وَالْمُبِينُ: الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ.
وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَهُمْ بِأَنَّ الشُّهُبَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا مُتَسَاقِطَةً فِي السَّمَاءِ هِيَ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ طَرْدًا لَهَا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ كَامِلًا، فَقَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا سَبَبَهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ مَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُمُ الِاطِّلَاعَ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَوْ أَلْقَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي عِلْمِ أَوْلِيَائِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ. وَرُبَّمَا اسْتَدْرَجَ اللَّهُ الشَّيَاطِينَ وَأَوْلِيَاءَهُمْ فَلَمْ يَمْنَعِ الشَّيَاطِينَ مِنَ اسْتِرَاقِ شَيْءٍ قَلِيلٍ يُلْقُونَهُ إِلَى الْكُهَّانِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عِصْمَةَ الْوَحْيِ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بَتَاتًا فَجَعَلَ لِلشُّهُبِ قُوَّةَ خَرْقِ التَّمَوُّجَاتِ الَّتِي تَتَلَقَّى مِنْهَا الشَّيَاطِينُ الْمُسْتَرِقُونَ السَّمْعَ وَتَمْزِيقَ تِلْكَ التَّدَرُّجَاتِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ تَحَكُّكِ مُسْتَرِقِ السَّمْعِ عَلَى السَّمَاوَاتِ لِتَحْصِيلِ انْكِشَافَاتِ جَبْلِ الْمُسْتَرِقِ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهَا. وَفِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْمُسْتَرِقَ يُلْقِي مَا تَلْقَاهُ مِنَ الِانْكِشَافَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ٢٢٣].
وَمُقْتَضَى تَكْوِينِ الشُّهُبِ لِلرَّجْمِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِرَاقَ قَدْ مُنِعَ عَنِ الشَّيَاطِينِ.
وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُنِعَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ إِحْكَامًا لِحِفْظِ الْوَحْيِ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى النَّاسِ بِالْكِهَانَةِ، فَيَكُونُ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأَبِي
وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُودُ مَخْلُوقَاتٍ تُسَمَّى بِالْجِنِّ وَبِالشَّيَاطِينِ مَعَ قَوْلِهِ:
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [سُورَة ص: ٣٧] الْآيَةَ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الْجِنِّ نَوْعٌ لَا يُخَالِطُ خَوَاطِرَ الْبَشَرِ، وَيُخَصُّ بِاسْمِ الشَّيَاطِينِ نَوْعٌ دَأْبُهُ الْوَسْوَسَةُ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ بِإِلْقَاءِ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ.
وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَصْنَافٌ، وَأَنَّهَا سَابِحَةٌ فِي الْأَجْوَاءِ وَفِي طَبَقَاتٍ مِمَّا وَرَاءَ الْهَوَاءِ وَتَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ، وَأَنَّ مِنْهَا أَصْنَافًا لَهَا اتِّصَالٌ بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ دُونَ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْوَسْوَاسُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْبَشَرُ.
وَبَعْضُ ظَوَاهِرِ الْأَخْبَارِ مِنَ السُّنَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ صِنْفًا لَهُ اتِّصَالٌ بِنُفُوسٍ ذَاتِ اسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ لِاسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ الْوَاقِعَاتِ قَبْلِ وُقُوعِهَا أَوِ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بُلُوغُ وُقُوعِهَا، فَتَسْبِقُ بَعْضُ النُّفُوسِ بِمَعْرِفَتِهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا الْمُعْتَادِ. وَهَذِهِ النُّفُوسُ هِيَ نُفُوسُ الْكُهَّانِ وَأَهْلِ الشَّعْوَذَةِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الشَّيَاطِينِ هُوَ الْمُسَمَّى
بِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. فَهَذَا الصِّنْفُ إِذَا اتَّصَلَ بِتِلْكَ النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلِاخْتِلَاطِ بِهِ حُجِزَ بَعْضُ قُوَاهَا الْعَقْلِيَّةِ عَنْ بَعْضٍ فَأُكْسِبَ الْبَعْضُ الْمَحْجُوزُ عَنْهُ ازْدِيَادَ تَأْثِيرٍ فِي وَظَائِفِهِ بِمَا يَرْتَدُّ عَلَيْهِ مِنْ جَرَّاءِ تَفَرُّغِ الْقُوَّةِ الذِّهْنِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمُزَاحَمَةٍ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَتُكْسِبُهُ قُدْرَةً عَلَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ لِأَمْثَالِهِ، فَيَخْتَرِقُ الْحُدُودَ الْمُتَعَارَفَةَ لِأَمْثَالِهِ اخْتِرَاقًا مَا، فَرُبَّمَا خَلُصَتْ إِلَيْهِ تَمَوُّجَاتٍ هِيَ أَوْسَاطٌ بَيْنَ تَمَوُّجَاتِ كُرَةِ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجَاتِ الطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، مِمَّا وَرَاءَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ.
وَلْنَفْرِضْ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ هَذِهِ التَّمَوُّجَاتِ هِيَ تَمَوُّجَاتُ الْأَثِيرِ فَإِنَّهَا تَحْفَظُ الْأَصْوَاتَ مَثَلًا.
وَهُمْ بِحِيلَتِهِمْ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَيَادِينِ النُّفُوسِ وَمُؤْثِرَاتِهَا الْتَزَمُوا أَنْ يَصُوغُوا كَلَامَهُمُ الَّذِي يُخْبِرُونَ بِهِ فِي صِيغَةٍ خَاصَّةٍ مُلْتَزَمًا فِيهَا فِقْرَاتٌ قَصِيرَةٌ مُخْتَتَمَةٌ بِأَسْجَاعٍ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْسَبُونَ مُزَاوَجَةَ الْفِقْرَةِ لِأُخْتِهَا دَلِيلًا عَلَى مُصَادَفَتِهَا الْحَقَّ وَالْوَاقِعَ، وَأَنَّهَا أَمَارَةُ صِدْقٍ.
وَكَانُوا فِي الْغَالِبِ يَلُوذُونَ بِالْعُزْلَةِ، وَيُكْثِرُونَ النَّظَرَ فِي النُّجُومِ لَيْلًا لِتَتَفَرَّغَ أَذْهَانُهُمْ. فَهَذَا حَالُ الْكُهَّانِ وَهُوَ قَائِم على أسس الدَّجَلِ وَالْحِيلَةِ وَالشَّعْوَذَةِ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٍ تَخْتَرِقُ الْحَوَاجِزَ الْمَأْلُوفَةَ.
وَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا
فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ (أَيْ لَا وُجُودَ لِمَا يَزْعُمُونَهُ). فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ
. وَمَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ
مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ نبيء اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ (أَيْ أَمَرَ أَوْ أَوْحَى) وَضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ «فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ كُلٌّ فِي وَظِيفَتِهِ» كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ (أَيْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لَهُمْ. وَتَقْرِيبُهَا حَرَكَاتُ آلَةِ تَلَقِّي الرَّسَائِلِ الْبَرْقِيَّةِ- تِلِغْرَافُ)...
فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعَ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعَ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ (أَيْ هِيَ طَبَقَاتٌ مُفَاوَتَةٌ فِي الْعُلُوِّ). وَوَصْفُ سُفْيَان بِيَدِهِ فحرّفها وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ (فَيَسْمَعُ الْمُسْتَرِقُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ أَوِ السَّاحِرِ)، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قبل أَن يُدْرِكهَا فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ. فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ»
. أَمَّا أَخْبَارُ الْكُهَّانِ وَقِصَصُهُمْ فَأَكْثَرُهَا مَوْضُوعَاتٌ وَتَكَاذِيبُ. وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ».
وَهَذِهِ الظَّوَاهِرُ كُلُّهَا لَا تَقْتَضِي إِلَّا إِدْرَاكَ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهَا مُقَرَّبَةٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ، لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَلَى عَزَائِمِ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ وَتَوَجُّهَاتِهَا نَحْوَ مُسَخَّرَاتِهِا.
وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمْعِ لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إِلَى الْخَبَرِ، فَالَّذِي يَحْصُلُ لِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ شُعُورُ مَا تَتَوَجَّهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَسْخِيرِهِ، وَالَّذِي يَحْصُلُ لِلْكَاهِنِ كَذَلِكَ. وَالْمَآلُ أَنَّ الْكَاهِنَ يُخْبِرُ بِهِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى مسموع.
[١٩، ٢٠]
_________
(١) قرّت الدَّجَاجَة تقرّ قرّا: أخفت صَوتهَا.
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى مَدَدْناها وَعَلَى (الرَّوَاسِيَ) فِي سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَالْمَوْزُونُ: مُسْتَعَارٌ لِلْمِقْدَرِ الْمَضْبُوطِ.
ومَعايِشَ: جَمْعُ مَعِيشَةٍ. وَبَعْدَ الْأَلْفِ يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ لَا هَمْزَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ، إِذْ لَا يَلْزَمُ لِلْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ الْمُنْفَصِلِ الْفَصْلُ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ مَعَايِشَ لِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، أَيْ لِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بمطعمين.
وَمَا صدق مَنْ الَّذِي يَأْكُلُ طَعَامَهُ مِمَّا فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي تَقْتَاتُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ وَلَا يَعْقِلُهَا النَّاسُ.
وَالْإِتْيَانُ بِ مَنْ الَّتِي الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا لِلْعَاقِلِ لِلتَّغْلِيبِ.
وَمَعْنَى لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ نَفْيٌ أَنْ يَكُونُوا رَازِقِيهِ لِأَنَّ الرِّزْقَ الْإِطْعَامُ. وَمَصْدَرُ رَزَقَهُ الرَّزْقَ- بِفَتْحِ الرَّاءِ-. وَأَمَّا الرِّزْقُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- فَهُوَ الِاسْمُ وَهُوَ الْقُوت.
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٢١]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)هَذَا اعْتِرَاض ناشىء عَنْ قَوْلِهِ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [سُورَة الْحجر:
١٩] الْآيَة، وَهُوَ تَذْيِيلٌ.
وَالْمُرَادُ بِـ (الشَّيْءِ) مَا هُوَ نَافِعٌ لِلنَّاسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ الْآيَةَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [سُورَة الْكَهْف: ٧٩] أَيْ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ.
وَالْخَزَائِنُ تَمْثِيلٌ لِصُلُوحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِتَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ. شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِيجَادِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ بِهَيْئَةِ إِخْرَاجِ الْمَخْزُونَاتِ مِنَ الْخَزَائِنِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا وَهُوَ الْخَزَائِنُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٠].
وَشَمَلَ ذَلِكَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي الْعَالَمِ الَّتِي تَصِلُ إِلَى النَّاسِ بِدَوَافِعَ وَأَسْبَابٍ تَسْتَتِبُّ
فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ بِتَرْكِيبِ شَيْءٍ مَعَ شَيْءٍ مِثْلَ نُزُولِ الْبَرْدِ مِنَ السَّحَابِ وَانْفِجَارِ الْعُيُونِ مِنَ الْأَرْضِ بِقَصْدٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْمُصَادَفَةِ.
وَقَوْلُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أُطْلِقَ الْإِنْزَالُ عَلَى تَمْكِينِ النَّاسِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِنَفْعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩]، إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا لِأَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَثَرِ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ شَبَّهَ تَمْكِينَ النَّاسِ مِنْهُ بِإِنْزَالِ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِ اللَّدُنِّيِّ، وَهُوَ عُلُوٌّ مَعْنَوِيٌّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَارِيفَ الْأُمُورِ كَائِنٌ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فِي سُورَةِ الزُّمُرِ [٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ
وَالْمرَاد ب مَعْلُومٍ أَنَّهُ مَعْلُومُ تَقْدِيرِهِ عِنْدَ الله تَعَالَى.
[٢٢]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٢٢]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)
انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِظَوَاهِرِ السَّمَاءِ وَظَوَاهِرِ الْأَرْضِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِظَوَاهِرِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِ الرِّيَاحِ وَالْمِنَّةِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ.
وَالْإِرْسَالُ: مَجَازٌ فِي نَقْلِ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيَاحَ مُسْتَمِرَّةُ الْهُبُوبِ فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ. وَهِيَ تَظْهَرُ فِي مَكَانٍ آتِيَةٍ إِلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ وَهَكَذَا...
ولَواقِحَ حَالٌ مِنَ الرِّياحَ. وَقَعَ هَذَا الْحَالُ إِدْمَاجًا لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ-.
ولَواقِحَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ جَمْعُ لَاقِحٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الْحُبْلَى. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا اسْتِعَارَةً لِلرِّيحِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الرُّطُوبَةِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا فِي نُزُولِ الْمَطَرِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّهَا الْعَقِيمُ ضِدُّ اللَّاقِحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [سُورَة الذاريات:
٤١].
وَصَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ جَمْعُ مُلَقِّحٍ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ لَاقِحًا، أَيِ الْفَحْلُ إِذَا أَلْقَحَ النَّاقَةَ، فَإِنَّ فَوَاعِلَ يَجِيءُ جَمْعَ مُفْعِلٍ مُذَكَّرٍ نَادِرًا كَقَوْلِ الْحَارِثِ أَوْ ضِرَارٍ النَّهْشَلَيِّ:
لَبَّيْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ | وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تطيح الطوائح |
وَمَعْنَى الْإِلْقَاحِ أَنَّ الرِّيَاحَ تُلَقِّحُ السَّحَابَ بِالْمَاءِ بِتَوْجِيهِ عَمِلِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ مُتَعَاقِبَيْنِ فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْبُخَارُ الَّذِي يَصِيرُ مَاءً فِي الْجَوِّ ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا عَلَى الْأَرْضِ وَأَنَّهَا تُلَقِّحُ الشَّجَرَ ذِي الثَّمَرَةِ بِأَنْ تَنْقُلَ إِلَى نَوْرِهِ غَبْرَةً دَقِيقَةً مِنْ نَوْرِ الشَّجَرِ الذَّكَرِ فَتَصْلُحُ ثَمَرَتُهُ أَوْ تَثْبُتُ، وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ أَوْ لَا تَصْلُحُ. وَهَذَا هُوَ الْإِبَّارُ. وَبَعْضُهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَعْلِيقِ الطَّلْعِ الذَّكَرِ عَلَى الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ. وَبَعْضُهُ يُكْتَفَى مِنْهُ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ ذَكَرٍ فِي خِلَالِ شَجَرِ الثَّمَرِ.
وَمِنْ بَلَاغَةِ الْآيَةِ إِيرَادُ هَذَا الْوَصْفِ لِإِفَادَةِ كِلَا الْعَمَلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَعْمَلُهُمَا الرِّيَاحُ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِمَا. وَاقْتَصَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا لَوَاقِحُ السَّحَابِ بِالْمَطَرِ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَلِقَاحُ الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ وَلَا أُرِيدُ مَا يَيْبَسُ فِي أَكْمَامِهِ وَلَكِنْ يُحَبَّبُ حَتَّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَلَقَاحُ الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ تُثْمِرَ ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ وَيَثْبُتُ مَا يَثْبُتُ.
وَفَرْعُ قَوْلِهِ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً عَلَى قَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَرْسَلَنَا الرِّيحَ لَوَاقِحَ بِإِفْرَادِ «الرِّيحِ» وَجَمْعِ «لَوَاقِحَ» عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ وَالْجِنْسِ لَهُ عدَّة أَفْرَاد.
وفَأَسْقَيْناكُمُوهُ بِمَعْنى جَعَلْنَاهُ لكم سُقْيًا، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ. وَكَثُرَ إِطْلَاقُ أَسْقَى بِمَعْنَى سَقَى.
[٢٣]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٢٣]
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَكَانَ مِمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَطَرِ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ جِنْسُ الْإِحْيَاءِ كُلِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْغَافِلِينَ عَنِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْإِحْيَاءِ وَلذَلِك قدم. وَذكر الْإِمَاتَةَ لِلتَّكْمِيلِ.
وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: ١٦] لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَعُمُومِ التَّصَرُّفِ.
وَضَمِيرُ «نَحْنُ» ضَمِيرُ فَصْلٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ. وَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامُ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِتَحْقِيقِهِ وَتَنْزِيلًا لِلْمُخَاطَبِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِلْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ تَكْوِينُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَيَاةُ وَإِحْيَاؤُهَا أَيْضًا بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَامِ. وَقَدْ أُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَدَفْعُ اسْتِبْعَادِ وُقُوعِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُشْركُونَ منكرين نوعا مِنَ الْإِحْيَاءِ كَانَ تَوْكِيدُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالتَّنْزِيلِيِّ.
وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ عَطْفٌ عَلَى جملَة وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ.
وَمَعْنَى الْإِرْثِ هُنَا الْبَقَاءُ بَعْدَ الموجودات تَشْبِيها للبقاء بِالْإِرْثِ وَهُوَ أَخْذُ مَا يَتْرُكُهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَرض وَغَيرهَا.
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٥]
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ وَكَانَ الْإِحْيَاءُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- يُذَكِّرُ بِالْأَحْيَاءِ- بِفَتْحِهَا-، وَكَانَتِ الْإِمَاتَةُ تُذْكَرُ بِالْأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ تَخَلَّصَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِلَازِمِ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ عِلْمِ اللَّهِ وَهُوَ عِلْمُهُ بِالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَعِلْمُ الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ فَأُرِيدَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا الْأَحْيَاءَ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ إِلَى الْآخِرَةِ، فَالتَّقَدُّمُ فِيهِ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا وهم الْبَاقُونَ بَعْدَ انْقِرَاضِ غَيْرِهِمْ إِلَى أَجَلٍ يَأْتِي.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي الْوَصْفَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ اسْتَجَابَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمُ اسْتَقْدَمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ
عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ فِعْلَهُ رُبَاعِيٌّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٤].
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْخَبَرُ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ طَرِيقِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ وَمِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهُوَ خَبَرٌ وَاهٍ لَا يُلَاقِي انتظام هَذِه الْآيَاتِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ التَّفَاسِيرِ الضَّعِيفَةِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ نَتِيجَةُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ [سُورَة الْحجر: ٢٣] فَإِنَّ الَّذِي يُحْيِي الْحَيَاةَ الْأُولَى قَادِرٌ عَلَى الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَوْلَى، وَالَّذِي قَدَّرَ الْمَوْتَ مَا قَدَّرَهُ عَبَثًا بَعْدَ أَنْ أَوْجَدَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَّا لِتَسْتَقْبِلُوا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقُدِّرَ الدَّوَامُ عَلَى الْحَيَاةِ الْأُولَى، قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سُورَة الْملك: ٢].
وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لِأَنَّ شَأْنَ إِنَّ إِذَا جَاءَتْ فِي غَيْرِ مَعْنَى الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكَرِ أَنْ تُفِيدَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ بِمَا قَبْلَهَا.
وَ «الْعَلِيمُ» الْمَوْصُوفُ بِالْعِلْمِ الْعَامِّ، أَيِ الْمُحِيطُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٠].
وَقَدْ أُكِّدَتْ جُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمُ الشَّدِيدِ لِلْحَشْرِ. وَقَدْ أُسْنِدَ الْحَشْرُ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بشأن النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْبَعْثِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سُورَة سبأ: ٧- ٨] أَيْ فَكَيْفَ ظَنُّكَ بِجَزَائِهِ مُكَذِّبِيكَ إِذا حشرهم.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
تَكْمِلَةٌ لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِخَلْقِ أَجْنَاسِ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَمِنْهُ يَتَخَلَّصُ إِلَى التَّذْكِيرِ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِنْهُ وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا يُخَامِرُهَا مِنْ وَسْوَاسِهِ بِمَا يُرْدِيهِمْ. جَاءَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَإِنَّ أَهَمَّ الْإِحْيَاءِ هُوَ إِيجَادُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ. فَفِي هَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَعَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَمَوْعِظَةٍ وَذِكْرَى. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالصَّلْصَالُ: الطِّينُ الَّذِي يُتْرَكُ حَتَّى يَيْبَسَ فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ صَلْصَالٌ وَهُوَ شِبْهُ الْفَخَّارِ إِلَّا أَنَّ الْفَخَّارَ هُوَ مَا يَبِسَ بِالطَّبْخِ بِالنَّارِ. قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ [سُورَة الرَّحْمَن: ١٤].
وَالْمَسْنُونُ: الَّذِي طَالَتْ مُدَّةُ مُكْثِهِ، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فِعْلِ سَنَّهُ إِذَا تَرَكَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً تُشْبِهُ السَّنَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ فِعْلَ (سَنَّ) بِمَعْنَى تَرَكَ شَيْئًا مُدَّةً طَوِيلَةً غَيْرُ مَسْمُوعٍ.
وَلَعَلَّ (تَسَنَّهْ) بِمَعْنَى تَغَيَّرَ مِنْ طُولِ الْمُدَّةِ أَصْلُهُ مُطَاوِعُ سَنَهٍ ثُمَّ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَمْ يَتَسَنَّهْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٩].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ التَّنْبِيهُ عَلَى عَجِيبِ صُنْعِ الله تَعَالَى إِذْ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَهِينَةِ نَوْعًا هُوَ سَيِّدُ أَنْوَاعِ عَالَمِ الْمَادَّةِ ذَاتِ الْحَيَاةِ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَيَاةِ تَتَقَوَّمُ مِنَ التُّرَابِيَّةِ وَالرُّطُوبَةِ وَالتَّعَفُّنِ، وَهُوَ يُعْطِي حَرَارَةً ضَعِيفَةً. وَلِذَلِكَ تَنْشَأُ فِي الْأَجْرَامِ الْمُتَعَفِّنَةِ حَيَوَانَاتٌ مِثْلَ الدُّودِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا تَنْشَأُ فِي الْأَمْزِجَةِ الْمُتَعَفِّنَةِ الْحُمَّى.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَطْوَارِ الَّتِي مَرَّتْ عَلَى مَادَّةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ.
وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَة بلام الْقسم وَبِحَرْفِ (قد) لزِيَادَة التَّحْقِيق تَنْبِيهًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذَا الْخَلْقِ وَأَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ إِدْمَاجٌ وَتَمْهِيدٌ إِلَى بَيَانِ نَشْأَةِ الْعَدَاوَة بَين بني آدَمَ وَجُنْدِ إِبْلِيسَ.
وَأُكِّدَتْ جُمْلَةُ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ بِصِيغَةِ الِاشْتِغَالِ الَّتِي هِيَ تَقْوِيَةٌ للْفِعْل بِتَقْدِير نَظِيره الْمَحْذُوفِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي أُكِّدَتْ بِهِ جُمْلَةُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ الْخَ.
والسَّمُومِ- بِفَتْحِ السِّينِ-: الرِّيحُ الْحَارَّةُ. فَالْجِنُّ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ لِيَحْصُلَ الِاعْتِدَالُ فِي الْحَرَارَةِ فَيَقْبَلَ الْحَيَاةَ الْخَاصَّةَ اللَّائِقَةَ بِخِلْقَةِ الْجِنِّ، فَكَمَا كَوَّنَ اللَّهُ الْحَمَأَةَ الصَّلْصَالَ الْمَسْنُونَ لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، كَوَّنَ رِيحًا حَارَّةً وَجَعَلَ مِنْهَا الْجِنَّ. فَهُوَ مُكَوَّنٌ مِنْ حَرَارَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مِقْدَارِ حَرَارَةِ الْإِنْسَانِ وَمِنْ تَهْوِيَةٍ قَوِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ كُلُّهَا فِي إِتْقَانِ المزج والتركيب.
[٢٨- ٣٥]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٣٥]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.
وإِذْ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظَائِرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْبَشَرُ مُرَادِفُ الْإِنْسَانِ، أَيْ أَنِّي خَالِقٌ إِنْسَانًا. وَقَدْ فَهِمَ الْمَلَائِكَةُ الْحَقِيقَةَ بِمَا أَلْقَى اللَّهُ فِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ بِالْمَعْنَى الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِالْعِبَارَةِ الْجَامِعَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَالتَّسْوِيَةُ: تَعْدِيلُ ذَاتِ الشَّيْءِ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى اعْتِدَالِ الْعَنَاصِرِ فِيهِ وَاكْتِمَالِهَا
بِحَيْثُ صَارَتْ قَابِلَةً لِنَفْخِ الرُّوحِ.
وَالنَّفْخُ: حَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ مَضْغُوطًا بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ كَالصَّفِيرِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِوَضْعِ قُوَّةٍ لَطِيفَةِ السَّرَيَانِ قَوِيَّةِ التَّأْثِيرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَفْخٍ وَلَا مَنْفُوخٍ.
وَتَقْرِيبُ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْحَيِّ أَنَّهُ تَكُونُ الْقُوَّةُ الْبُخَارِيَّةُ أَوِ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الْمُنْبَعِثَةُ مِنَ الْقَلْبِ عِنْدَ انْتِهَاءِ اسْتِوَاءِ الْمِزَاجِ وَتَرْكِيبِ أَجْزَاءِ الْمِزَاجِ تَكَوُّنًا سَرِيعًا دَفْعِيًّا وَجَرَيَانِ آثَارِ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي تَجَاوِيفِ الشَّرَايِينِ إِلَى أَعْمَاقِ الْبَدَنِ فِي تَجَاوِيفِ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ الرَّئِيسَةِ وَغَيْرِهَا.
وَإِسْنَادُ النَّفْخِ وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حَقَائِقَ الْعَنَاصِرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَفَاضَلُ إِلَّا بِتَفَاضُلِ آثَارِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الذَّاتِ أَوِ الرَّائِحَةِ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ كُلُّهُمْ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا يُلَائِمُ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ أَوْ يُنَافِرُهُ تَبَعًا لِطِبَاعِ الْأَمْزِجَةِ أَوْ لِإِلْفِ الْعَادَةِ وَلَا يُؤْبَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ ضَابِطُ وَصْفِ الْقَذَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنِيَّ يُسْتَقْذَرُ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ تَكْوِينَ نَوْعِهِ، وَمِنْهُ تَخَلَّقَتْ أَفَاضِلُ الْبَشَرِ. وَكَذَلِكَ الْمِسْكُ طَيِّبٌ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ لِمُلَاءَمَةِ رَائِحَتِهِ لِلشَّمِّ وَمَا هُوَ إِلَّا غُدَّةٌ مِنْ خَارِجَاتِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَزَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [سُورَة السَّجْدَة: ٧- ٩].
وَفِي الْحَدِيثِ «لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
وَفِيهِ «لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَدَمُهُ يَشْخُبُ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ»
. وَمَعْنَى فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ اسْقُطُوا لَهُ سَاجِدِينَ، وَهَذِهِ الْحَالُ لِإِفَادَةِ نَوْعِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْوُقُوعُ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [سُورَة يُوسُف: ١٠٠].
وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِتَعْظِيمٍ يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ وَأَشْكَالَهُمْ تَقْدِيرًا لِبَدِيعِ الصُّنْعِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِمُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الدَّالِّ عَلَى تَمَامِ عِلْمِ اللَّهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ.
وَأَمْرُ الْمَلَائِكَة السُّجُود لَا يُنَافِي تَحْرِيمَ السُّجُودِ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْإِشْرَاكِ وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ مِنْ تَطَرُّقِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ امْتَازَتْ بِنِهَايَةِ مَبَالِغِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، فَجَاءَتْ بِمَا لم تجىء بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بُلُوغَ أَتْبَاعِهَا أَوْجَ الْكَمَالِ فِي الْمَدَارِكِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّجُودُ مِنْ قَبْلُ مَحْظُورًا فَقَدْ سَجَدَ يَعْقُوبُ وَأَبْنَاؤُهُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَكَانُوا أَهْلَ إِيمَانٍ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَلَا تُقَاسُ أَحْكَامُهُ عَلَى تَكَالِيفِ عَالَمِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ عُنْوَانٌ عَلَى طَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وكُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ، أَيْ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ السُّجُودِ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ. وَمَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكَ، أَيْ مُتَمَكِّنًا مِنْكَ، لِأَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ الْمِلْكَ. وأَلَّا تَكُونَ مَعْمُولٌ لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ (فِي). وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنْ). وَحَرْفُ (أَنْ) يُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ. فَالتَّقْدِيرُ فِي انْتِفَاءِ كَوْنِكَ مِنَ السَّاجِدِينَ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ جُحُودٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَشَدُّ فِي النَّفْيِ مِنْ (لَا أَسْجُدُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ فِي آخر الْعُقُود [الْمَائِدَة: ١١٦].
وَقَوْلُهُ: لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ تَأْيِيدٌ لِإِبَايَتِهِ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ ذَلِكَ الطِّينِ حَقِيرٌ ذَمِيمٌ لَا يَسْتَأْهِلُ السُّجُودَ. وَهَذَا ضَلَالٌ نَشَأَ عَنْ تَحْكِيمِ الْأَوْهَامِ بِإِعْطَاءِ الشَّيْءِ حُكْمَ وَقْعِهِ فِي الْحَاسَّةِ الْوَهْمِيَّةِ دُونَ وَقْعِهِ فِي الْحَاسَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِعْطَاءُ حُكْمٍ مَا مِنْهُ التَّكْوِينُ لِلشَّيْءِ الْكَائِنِ. فَشَتَّانَ بَيْنَ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ:
إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَبَيْنَ مَقْصِدِ الشَّيْطَانِ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ فِي تَعْلِيلِ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِلْمَخْلُوقِ مِنْهُ بِإِعَادَةِ اللَّهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي وَصَفَ بِهَا الْمَلَائِكَةَ. وَزَادَ فَقَالَ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي سُورَةِ ص [٧٦] إِذْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ
طِينٍ
وَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ هُنَا.
وَبِمَجْمُوعِ مَا حُكِيَ عَنْهُ هُنَا وَهُنَاكَ كَانَ إِبْلِيسُ مُصَرِّحًا بِتَخْطِئَةِ الْخَالِقِ، كَافِرًا بِصِفَاتِهِ، فَاسْتَحَقَّ الطَّرْدَ مِنْ عَالَمِ الْقُدُسِ. وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ ص.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ تَفَرَّعَ عَلَى جَوَابِهِ الْمُنْبِئِ عَنْ كَفْرِهِ وَعَدَمِ تَأَهُّلِهِ لِلْبَقَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ.
وَالرَّجِيمُ: الْمَطْرُودُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَقَارَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [سُورَة الْحجر: ١٧].
وَضَمِيرُ مِنْها عَائِدٌ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ لِدَلَالَةِ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ:
إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ.
واللَّعْنَةَ: السَّبُّ بِالطَّرْدِ. وَ (عَلَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ تَمَكُّنُ اللَّعْنَةِ وَالشَّتْمِ مِنْهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَقَعُ فَوْقَهُ.
وَجُعِلَ يَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ غَايَةً لِلَّعْنِ اسْتِعْمَالًا فِي مَعْنَى الدَّوَامِ، كَأَنَّهُ قِيلَ أَبَدًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي أَنَّ اللَّعْنَةَ تَنْتَهِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُفُهَا ضِدُّهَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّعْنَةَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يُلَاقِيَ جَزَاءَ عَمَلِهِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ من اللَّعْنَة.
[٣٦- ٣٨]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٨]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
سُؤَالُهُ النَّظِرَةَ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ مَلْعُونٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَاضَ بِهِ خُبْثُ جِبِلَّتِهِ الْبَالِغُ نِهَايَةِ الْخَبَاثَةِ الَّتِي لَا يَشْفِيهَا إِلَّا دَوَامُ الْإِفْسَادِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الرَّغْبَةُ مُجْلِبَةً لِدَوَامِ شِقْوَتِهِ.
الدِّينِ
عَنْ أَنْ يَسْأَلَ الْإِبْقَاءَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِيَكُونَ مَصْدَرَ الشُّرُورِ لِلنُّفُوسِ قَضَاءٌ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ بَثِّ الْخُبْثِ فَكَانَ بِذَلِكَ حَرِيصًا عَلَى دَوَامِهَا بِمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَسَأَلَ النَّظِرَةَ حُبًّا لِلْبَقَاءِ لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ اسْتِمْرَارِ عَمَلِهِ.
وَخَاطَبَ اللَّهَ بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ تَخَضُّعًا وَحَثًّا عَلَى الْإِجَابَةِ، وَالْفَاءُ فِي فَأَنْظِرْنِي فَاءُ التَّفْرِيعِ. فَرَّعَ السُّؤَالَ عَنِ الْإِخْرَاجِ.
وَوَسَّطَ النِّدَاءَ بَيْنَ ذَلِكَ.
وَذُكِرَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ أَوْصَافِ نَفْسِيَّتِهِ بَعْثًا لِكَرَاهِيَتِهِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ حَقَّ النَّفْسِ الْأَبِيَّةِ أَنْ تَأْنَفَ مِنَ الْحَيَاةِ الذَّمِيمَةِ الْمُحَقَّرَةِ، وَذَلِكَ شَأْنُ الْعَرَبِ، فَإِذَا عَلِمُوا هَذَا الْحَوْصَ مِنْ حَالِ إِبْلِيسَ أَبْغَضُوهُ وَاحْتَقَرُوهُ فَلَمْ يَرْضَوْا بِكُلِّ عَمَلٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ.
وَالْإِنْظَارُ: الْإِمْهَالُ وَالتَّأْخِيرُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٠]. وَالْمُرَادُ تَأْخِيرُ إِمَاتَتِهِ لِأَنَّ الإنظار لَا يكرن لِلذَّاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ لِبَعْضِ أَحْوَالِهَا وَهُوَ الْمَوْتُ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
وَعَبَّرَ عَنْ يَوْمِ الدِّينِ بِ يَوْمِ يُبْعَثُونَ تَمْهِيدًا لِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْعَزْمَ مِنْ إِغْوَاءِ الْبَشَرِ، فَأَرَادَ الْإِنْظَارَ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ وُجُودِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا. وَخَلَقَ اللَّهُ فِيهِ حُبَّ النَّظِرَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لَهُ وَخَلَقَهُ لِأَجْلِهَا وَأَجْلِ آثَارِهَا لِيَحْمِلَ أَوْزَارَ تَبِعَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ تِلْكَ الْحَالَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَسْبَ وَالِاخْتِيَارَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُلَائِمًا لِمَا خُلِقَ لَهُ، كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيَانُ النَّبَوِيُّ
بِقَوْلِهِ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
وَعَبَّرَ عَنْ يَوْمِ الْبَعْثِ بِ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ تَفَنُّنًا تَفَادِيًا مِنْ إِعَادَةِ اللَّفْظِ قَضَاءً لِحَقِّ حُسْنِ النَّظْمِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيمِ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْأَجَلَ. فَالْمُرَادُ: الْمَعْلُومُ لَدَيْنَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْلُومُ لِلنَّاسِ أَيْضًا عِلْمًا إِجْمَالِيًّا.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْبَأُ بِهِمْ فَهُمْ كَالْعَدَمِ.
وَهَذَا الْإِنْظَارُ رَمْزٌ إِلَهِيٌّ عَلَى أَنَّ نَامُوسَ الشَّرِّ لَا يَنْقَضِي مِنْ عَالَمِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَنَّ نِظَامَهَا قَائِمٌ عَلَى التَّصَارُعِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، قَالَ تَعَالَى:
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٨] وَقَالَ: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ [سُورَة الرَّعْد: ١٧]. فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَغْنِ نِظَامُ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ قَوَانِينِ الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ وَإِيدَاعِهَا إِلَى الْكَفَاةِ لِتَنْفِيذِهَا وَالذَّوْدِ عَنْهَا.
وَعُطِفَتْ مَقُولَاتُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالْفَاءِ لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْهَا أَثَارَهُ الْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ فتفرّع عَنهُ.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
الْبَاءُ فِي بِما أَغْوَيْتَنِي لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ، أَيْ بِسَبَبِ أَنْ خَلَقْتَنِي غَاوِيًا فَسَأُغْوِي النَّاسَ.
وَاللَّامُ فِي لَأُزَيِّنَنَّ لَامُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ مُرَادٌ بِهَا التَّأْكِيدُ، وَهُوَ الْقَسَمُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سُورَة ص: ٨٢].
وَالْإِغْوَاءُ: جَعْلُهُمْ غَاوِينَ. وَالْغَوَايَةُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ-: الضَّلَالُ. وَالْمَعْنَى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ.
وَإِغْوَاءُ النَّاسِ كُلِّهِمْ هُوَ أَشَدُّ أَحْوَالِ غَايَةِ الْمُغْوِي إِذْ كَانَتْ غَوَايَتُهُ مُتَعَدِّيَةً إِلَى إِيجَادِ غَوَايَةِ غَيْرِهِ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِما أَغْوَيْتَنِي إِشَارَةٌ إِلَى غَوَايَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ وَهِيَ الَّتِي جَبَلَهُ عَلَيْهَا، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ لِحِكَايَتِهَا طَرِيقَةُ الْمَوْصُولِيَّةِ، وَيُعْلَمُ أَنَّ كَلَامَ الشَّيْطَانِ هَذَا طَفْحٌ بِمَا فِي جِبِلَّتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ تَشَفِّيًا أَوْ إِغَاظَةً لِأَنَّ الْعَظَمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ عِنْدَ خُطُورِ الْغَوَايَةِ لِاقْتِرَانِ الْغَوَايَةِ بِالنُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاخْرُجْ مِنْها [سُورَة الْحجر: ٣٤]، أَيِ اخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [سُورَة الْبَقَرَة: ٢]، وَلِأَنَّ جَعْلَ التَّزْيِينِ فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ
انْتِشَارَهُ فِي جَمِيعِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا.
وَضَمَائِرُ: لَهُمْ، ولَأُغْوِيَنَّهُمْ ومِنْهُمُ، لِبَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ عِلْمًا أُلْقِيَ فِي وِجْدَانِهِ بِأَنَّ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَتَكُونُ لَهُ ذَرِّيَّةٌ، أَوِ اكْتَسَبَ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَيَّامَ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَلَئِهِ.
وَجَعَلَ الْمُغْوَيْنَ هُمُ الْأَصْلُ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لِأَنَّ عَزِيمَتَهُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى الْإِغْوَاءِ، فَهُوَ الْمَلْحُوظُ ابْتِدَاءٌ عِنْدَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُغْوَيْنَ هُمُ الْأَكْثَرُ. وَعَكْسُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [سُورَة الْحجر: ٤٢]. وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ الْمُسْتَثْنَى بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا الْعَكْسِ.
[٤١- ٤٢]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٤]
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقيم: هُوَ الْخَبَر وَالرَّشَادُ.
فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ جُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، وَتَنْزِيلًا لِلْمَسْمُوعِ مَنْزِلَةَ الْمَرْئِيِّ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ هُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، كَمَا يُكْتَبُ فِي الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ فُلَانٌ فَلَانًا أَنَّهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ بَاعَهُ كَذَا وَكَذَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي سَبَقَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ مِنْ قَوْلِهِ:
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سُورَة الْحجر: ٤٠] لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ غَوَايَةَ الْعِبَادِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِلْخَيْرِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ مُسْتَأْنَفَةً
أَفَادَتْ نَفْيَ سُلْطَانِهِ.
وَالصِّرَاطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْهُ عَامِلُهُ فَائِدَةً. شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولَهُ إِلَيْهِ أَيْ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَضَعْتُهَا
ومُسْتَقِيمٌ نَعْتٌ لِ صِراطٌ، أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَاسْتُعِيرَتِ الِاسْتِقَامَةُ لِمُلَازَمَةِ الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ.
وعَلَيَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوُجُوبِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْفِعْل الدَّائِم الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [سُورَة اللَّيْل: ١٢] أَيْ أَنَّا الْتَزَمْنَا الْهُدَى لَا نَحِيدُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَعَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا يُرْسَلُ مِنَ الْأَمْثَالِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَيَّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ- عَلَى أَنَّهَا (عَلَى) اتَّصَلَتْ بِهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْيَاءِ وَتَنْوِينِهَا- عَلَى أَنَّهُ وَصَفٌ مِنَ الْعُلُوِّ وُصِفَ بِهِ صِرَاطٌ، أَيْ صِرَاطُ شَرِيفٍ عَظِيمِ الْقَدْرِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ سُنَّةً فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَسَلَّطُ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ غَاوِيًا، أَيْ مَائِلًا لِلْغَوَايَةِ مُكْتَسِبًا لَهَا دُونَ مَنْ كَبَحَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّرِّ. فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ وَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ عَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالٍ وَعَلِمَ أَنَّ الْهُدَى فِي خِلَافِهِ فَإِذَا تُوِفِّقَ وَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْهُدَى وَصَرَفَ إِلَيْهِ عَزْمُهُ قَوِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ، وَإِذَا مَالَ إِلَى الضَّلَالِ وَاسْتَحْسَنَهُ وَاخْتَارَ إِرْضَاءَ شَهْوَتِهِ صَارَ مُتَهَيِّئًا إِلَى الْغَوَايَةِ فَأَغْوَاهُ الشَّيْطَانُ فَغَوَى. فَالِاتِّبَاعُ مَجَازٌ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ وَاسْتِحْسَانِ الرَّأْيِ كَقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [سُورَة آل عمرَان: ٣١].
وَإِطْلَاقُ الْغاوِينَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَاوِيًا بِالْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ لِسُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَعَلُّقُ نَفْيِ السُّلْطَانِ بِجَمِيعِ الْعِبَادِ، ثُمَّ اسْتِثْنَاءُ مَنْ كَانَ غَاوِيًا. فَلَمَّا كَانَ سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ لَا يَتَسَلَّطُ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ غَاوِيًا عَلِمْنَا أَنَّ ثَمَّةَ
لِلْغَوَايَةِ لَا بِوُقُوعِهَا.
فَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عِبادِي لِلْعُمُومِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيٌّ وَلَا حَيْرَةَ فِي ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ «مَوْعِدُهُمُ» عَائِدٌ إِلَى مَنِ اتَّبَعَكَ، وَالْمَوْعِدُ مَكَانُ الْوَعْدِ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى اللَّهِ اسْتُعِيرَ الْمَوْعِدُ لِمَكَانِ اللِّقَاءِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ بَيْنَ النَّاسِ لِلِقَاءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْوَعْدُ.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ تَحَقُّقُ الْمَجِيءِ بِجَامِعِ الْحِرْصِ عَلَيْهِ شَأْنُ الْمَوَاعِيدِ، لِأَنَّ إخلاف الْوَعْد محاور، وَفِي ذَلِكَ تَمْلِيحٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، فَجُعِلُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَيَّنَ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِلْإِتْيَانِ.
وَجُمْلَةُ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ مُسْتَأْنَفَةٌ لِوَصْفِ حَالِ جَهَنَّمَ وَأَبْوَابِهَا لِإِعْدَادِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا تَضِيقُ عَنْ دُخُولِهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّبْعَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ [سُورَة الرَّعْد: ٢٣] أَوْ أُرِيدَ بِالْأَبْوَابِ الْكِنَايَةَ عَنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْأَبْوَابَ تَقْتَضِي مَنَازِلَ فَهِيَ مَرَاتِبُ مُنَاسِبَةٌ لِمَرَاتِبِ الْإِجْرَامِ بِأَنْ تَكُونَ أُصُولُ الْجَرَائِمِ سَبْعَةً تَتَفَرَّعُ عَنْهَا جَمِيعُ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ. وَعَسَى أَنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ تَشْجِيرِهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ طَبَقَاتِهَا طَبَقَةُ النِّفَاقِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سُورَة النِّسَاء: ١٤٥]. وَانْظُرْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَفْرِيعِ مَا يَنْشَأُ عَنِ النِّفَاقِ مِنَ الْمَذَامِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨].
وَجُمْلَةُ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ صِفَةٌ لِ أَبْوابٍ وَتَقْسِيمُهَا بِالتَّعْيِينِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ لِ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، أَيْ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي صَدَرَتْ مِنَ الشَّيْطَانِ لَدَى الْحَضْرَةِ الْقُدُسِيَّةِ هِيَ انْكِشَافٌ لِجِبِلَّةِ التَّطَوُّرِ الَّذِي تَكَيَّفَتْ بِهِ نَفْسُ إِبْلِيسَ مِنْ حِينِ أَبَى مِنَ السُّجُودِ وَكَيْفَ تَوَلَّدَ كُلُّ فَصْلٍ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّرِ عَمَّا قَبْلَهُ حَتَّى تَقَوَّمَتِ الْمَاهِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ بمقوماتها كَامِلَة عِنْد مَا صَدَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سُورَة
الْحجر: ٣٩، ٤٠]، فَكُلَّمَا حَدَثَ فِي جِبِلَّتِهِ فَصْلٌ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِنُطْقِ الْجَوَارِحِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الضَّلَالَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ.
وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي أُجِيبَتْ بِهَا أَقْوَالُ الشَّيْطَانِ فَمَظْهَرٌ لِلْأَوَامِرِ التَّكْوِينِيَّةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ لِتَطَوُّرِ أَطْوَارِ إِبْلِيسَ الْمُقَوِّمَةِ لِمَاهِيَّةِ الشَّيْطَنَةِ، وَلِلْأَلْطَافِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِمَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا مِنْ عِبَادِهِ لِمُقَاوَمَةِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ. وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا بِمُنَاظَرَةٍ بَيْنَ اللَّهِ وَأَحَدِ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا بِغَلَبَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ لِخَالِقِهِ، فَإِنَّ ضَعْفَهُ تُجَاهَ عِزَّةِ خَالِقِهِ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى ذَلِك.
[٤٥- ٤٨]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، انْتِقَالٌ مِنْ وَعِيدِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى بِشَارَةِ الْمُتَّقِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ.
وَالْمُتَّقُونَ: الْمَوْصُوفُونَ بِالتَّقْوَى. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْعُيُونُ: جَمْعُ عَيْنٍ اسْمٌ لِثُقْبٍ أَرْضِيٍّ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ. فَقَدْ يَكُونُ انْفِجَارُهَا بِدُونِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ. وَأَسْبَابُهُ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٤]. وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ وَهُوَ التَّفْجِيرُ.
وَجُمْلَةُ ادْخُلُوها مَعْمُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ حَالًا مِنَ الْمُتَّقِينَ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوهَا. وَالْقَائِلُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ إِدْخَالِ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ.
وَالْبَاءُ مِنْ بِسَلامٍ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٤].
وَالْأَمْنُ النَّجَاةُ مِنَ الْخَوْفِ.
وَجُمْلَةُ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.
وَالْغِلُّ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- الْبُغْضُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٣]، أَيْ مَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ مِنْ غِلٍّ فِي الدُّنْيَا.
وإِخْواناً حَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَالْإِخْوَانِ، أَيْ كَحَالِ الْإِخْوَانِ فِي الدُّنْيَا.
وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ الدَّافِعُ إِلَيْهَا اخْتِلَافُ الِاجْتِهَادِ فِي إِقَامَةِ مَصَالِحِ
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً
. فَقَالَ جَاهِلٌ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْهَمَذَانِيُّ: كَلَّا، اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: «فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا أُمَّ لَكَ بِفِيكَ التُّرَابُ»
. وَالسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ. وَهُوَ مُحَمَلٌ كَالْكُرْسِيِّ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُ الِاضْطِجَاعُ عَلَيْهِ.
وَالِاتِّكَاءُ: مَجْلِسُ أَصْحَابِ الدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ لِتَمَكُّنِ الْجَالِسِ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَلُّبِ كَيْفَ شَاءَ حَتَّى إِذَا مَلَّ جِلْسَةً انْقَلَبَ لِغَيْرِهَا.
وَالتَّقَابُلُ: كَوْنُ الْوَاحِدِ قُبَالَةَ غَيْرِهِ، وَهُوَ أُدْخِلَ فِي التَّأَنُّسِ بِالرُّؤْيَةِ وَالْمُحَادَثَةِ.
وَالْمَسُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِصَابَةِ.
وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ النَّاشِئُ عَنِ اسْتِعْمَال الْجهد.
[٤٩، ٥٠]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
هَذَا تَصْدِيرٌ لِذِكْرِ الْقَصَصِ الَّتِي أُرِيدَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَا الْمَوْعِظَةُ بِمَا حَلَّ بِأَهْلِهَا، وَهِيَ قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَقِصَّةُ ثَمُودَ.
وَابْتُدِئَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيم- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- لِمَا فِيهَا مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يَقْتَفُوا آثَارَهُ فِي التَّوْحِيدِ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [سُورَة الْحجر: ٤].
وَقُدِّمَتِ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْعَذَابِ لِسَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ.
وَضَمِيرُ أَنَا وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرَا فَصْلٍ يُفِيدَانِ تَأْكِيدَ الْخَبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: نبىء عِبَادِي إِلَى الرَّحِيمُ من المحسّنات البديعية مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ إِذَا سَكَنَتْ يَاءُ أَنِّي عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَسْكِينِهَا، فَإِنَّ الْآيَةَ تَأْتِي مُتَّزِنَةً عَلَى مِيزَانِ بَحْرِ الْمُجْتَثِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخَبْنُ فِي عَرُوضِهِ وَضُرُبِهِ فَهُوَ مُتَفْعِلُنْ فعلاتن مرَّتَيْنِ.
[٥١- ٥٦]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٦]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
هَذَا الْعَطْفُ مَعَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ بِالْفِعْلِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الصِّيغَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِنْبَاءُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا مِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ.
وَجُمْلَةُ قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ جَاءَتْ مَفْصُولَةً بِدُونِ عَطْفٍ لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَن جملَة فَقالُوا سَلاماً. وَقَدْ طُوِيَ ذِكْرُ رَدِّهِ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ إِيجَازًا لِظُهُورِهِ. صرح بِهِ فِي قَوْلِهِ:
قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الذاريات: ٢٥]، أَيْ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ بَعْدَ أَنْ رَدَّ السَّلَامَ. وَفِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّهُ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً حِينَ رَآهُمْ لَمْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ لِلْأَكْلِ.
وَضَمِيرُ إِنَّا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَهُوَ يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، لِأَنَّ
الضَّيْفَ طَرَقُوا بَيْتَهُمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ طُرُوقِ الضَّيْفِ فَظَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ شَرًّا، فَلَمَّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ فَاتَحَهُمْ بِطَلَبِ الْأَمْنِ، فَقَالَ: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، أَيْ أَخَفْتُمُونَا. وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الْحجر: ٢٥].
وَالْوَجِلُ: الْخَائِفُ. وَالْوَجَلُ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- الْخَوْفُ. وَوَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٠] نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً.
وَقَدْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَفَرَّقُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَاوَبَتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ قَوْلِهِ:
إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، فَنِهَايَةُ الْجَوَابِ هُوَ لَا تَوْجَلْ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَهِيَ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ إِلَيْهِمُ الْقِرَى وَحَضَرَتِ امْرَأَتُهُ فَبَشَّرُوهُ بِحَضْرَتِهَا كَمَا فُصِّلَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَالْغُلَامُ الْعَلِيمُ: إِسْحَاقُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَيْ عَلِيمٌ بِالشَّرِيعَةِ بِأَن يكون نبيئا.
وَقَدْ حُكِيَ هُنَا قَوْلُهُمْ لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَحُكِيَ فِي سُورَةِ هُودٍ قَوْلُهُمْ لِامْرَأَتِهِ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ كَانَتْ لَهُمَا مَعًا فَقَدْ تَكُونُ حَاصِلَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهِيَ بِشَارَتَانِ بِاعْتِبَارِ الْمُبَشَّرِ، وَقَدْ تَكُونُ حَصَلَتْ فِي وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ بَشَّرُوهُ بِانْفِرَادٍ ثُمَّ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَبَشَّرُوهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَبَشَّرْتُمُونِي لِلتَّعَجُّبِ.
وعَلى بِمَعْنَى (مَعَ) : دَالَّةٌ عَلَى شِدَّةِ اقْتِرَانِ الْبِشَارَةِ بِمَسِّ الْكِبَرِ إِيَّاهُ.
وَالْمَسُّ: الْإِصَابَةُ. وَالْمَعْنَى تَعَجَّبَ مِنْ بِشَارَتِهِ بِوَلَدٍ مَعَ أَنَّ الْكِبَرَ مَسَّهُ.
وَأُكِّدَ هَذَا التَّعَجُّبُ بِالِاسْتِفْهَامِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ. نَزَلَ الْأَمْرُ الْعَجِيبُ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ غَيْرَ مَعْلُومٍ.
وَقَدْ عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْبِشَارَةِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ صَادِقُونَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّعَجُّبِ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ «بَشَّرْتُمُونِي» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
قَرَأَ نَافِعٌ تُبَشِّرُونِ- بِكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً دُونَ إِشْبَاعٍ- عَلَى حَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ وَحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ فَصِيحٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ- بِكَسْرِ النُّونِ مُشَدَّدَةً- عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ خَاصَّةً. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ النُّونِ- عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمقَام، أَي تبشرونني.
وَجَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُمْ بَشَّرُوهُ بِالْخَبَرِ الْحَقِّ، أَيِ الثَّابِتِ لَا شَكَّ فِيهِ إِبْطَالًا لِمَا اقْتَضَاهُ اسْتِفْهَامُهُ بِقَوْلِهِ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ مِنْ أَنَّ مَا بَشَّرُوهُ بِهِ أَمْرٌ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا وَبَاطِلًا. فَكَلَامُهُمْ رَدٌّ لِكَلَامِهِ وَلَيْسَ جَوَابًا عَلَى اسْتِفْهَامِهِ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ.
ثُمَّ نَهَوْهُ عَنِ اسْتِبْعَادِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ اسْتِبْعَادُ رَحْمَةِ الْقَدِيرِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُبَشِّرِينَ بِهَا مُرْسَلُونَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتِبْعَادُ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ
وَهَذَا النَّهْيُ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [سُورَة هود: ٤٦].
وَقَدْ ذَكَّرَتْهُ الْمَوْعِظَةُ مَقَامًا نَسِيَهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ إِلَّا الضَّالُّونَ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبِ عَنْهُ اجْتِنَابُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ امْتَلَكَهُ الْمُعْتَادُ فَتَعَجَّبَ فَصَارَ ذَلِكَ كَالذُّهُولِ عَنِ الْمَعْلُومِ فَلَمَّا نَبَّهَهُ الْمَلَائِكَةُ أدنى تَنْبِيه تذكّر.
الْقُنُوطُ: الْيَأْسُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَنْ يَقْنَطُ- بِفَتْحِ النُّونِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ النُّونِ- وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فِعْلِ قَنَطَ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَنَطَ يَقْنَطُ- بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ- مِنْ أَعْلَى اللُّغَاتِ. قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [سُورَة الشورى: ٢٨].
قُلْتُ: وَمِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ اخْتِيَارُهُ كُلَّ لُغَةٍ فِي مَوْضِعِ كَوْنِهَا فِيهِ أَفْصَحَ، فَمَا جَاءَ فِيهِ إِلَّا الْفَتْحُ فِي الْمَاضِي، وَجَاءَ الْمُضَارِعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ على الْقِرَاءَتَيْن.
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٦٠]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)حِكَايَةُ هَذَا الْحِوَارِ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَلَائِكَةِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ بَيَانِ فَضْلِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبَيْنَ مَوْعِظَةِ قُرَيْشٍ بِمَا حَلَّ بِبَعْضِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ، انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى سُؤَالِهِمْ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَنْزِلُونَ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْحجر: ٨]. وَقَدْ نُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ لِاسْتِئْصَالِ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَرُؤَسَائِهِمْ.
وَالْخَطْبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ مَا خَطْبُكُنَّ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: ٥١].
وَالْقَوْمُ الْمُجْرِمُونَ هم قوم لوط أهل سَدُومَ وَقُرَاهَا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا آلَ لُوطٍ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُجْرِمِينَ. وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا امْرَأَتَهُ مُتَّصِلٌ لِأَنَّهَا مِنْ آلِ لُوطٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي اسْتِثْنَاءِ آلِ لُوطٍ مِنْ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ أُرْسِلْنا لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلُوا إِلَيْهِمْ وَلَا أُمِرُوا بِإِنْجَائِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى لُوطٍ لِأَجْلِ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، أَيْ لِعَذَابِهِمْ. وَدلّ على ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي إِلَّا آلَ لُوطٍ.
وقرأه حَمْزَةُ وَالْكسَائِيّ وَخلف- بِسُكُون النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ- مُضَارِعُ أَنْجَى الْمَهْمُوزِ.
وَإِسْنَادُ التَّقْدِيرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ عَلَى سَبَبِهِ. وَهُوَ مَا وُكِّلُوا بِهِ مِنْ تَحْذِيرِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلِهِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْعَذَابِ، وَتَرْكِهِمْ تَحْذِيرَ امْرَأَتِهِ حَتَّى الْتَفَتَتْ فَحَلَّ بِهَا مَا حَلَّ بِقَوْمِ لُوطٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدَّرْنا- بِتَشْدِيدِ الدَّالِ- مِنَ التَّقْدِيرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِتَخْفِيفِ الدَّالِ- مِنْ قَدَرَ الْمُجَرَّدِ وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَ (إِنَّ) مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ قَدَّرْنا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولِهِ. وأصل الْكَلَام قَدرنَا غُبُورُهَا، أَيْ ذَهَابُهَا وَهَلَاكُهَا.
وَالتَّعْلِيقُ يَطْرَأُ عَلَى الْأَفْعَالِ كُلِّهَا وَإِنَّمَا يَكْثُرُ فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَيَقِلُّ فِي غَيْرِهَا.
وَلَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهَا عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْغَابِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
[٦١- ٦٥]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٦١ إِلَى ٦٥]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى حِكَايَةِ قِصَّتِهِمْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَقَدْ طُوِيَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ. وَالتَّقْدِيرُ: فَفَارَقُوهُ وَذَهَبُوا إِلَى لُوطٍ فَلَمَّا جَاءُوا لُوطًا.
وَتَوَلَّى لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَلَقِّيَهُمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَبِيرِ الْمَنْزِلِ وَلَكِنَّهُ وَجَدَهُمْ فِي شَكْلٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ فِي الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ تَمُرُّ بِهِمْ فَأُلْهِمَ إِلَى أَنَّ لَهُمْ قِصَّةً غَرِيبَةً وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ:
إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، أَيْ لَا تُعْرَفُ قبيلتكم. وَتقدم عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: نَكِرَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٠].
وَقَدْ أَجَابُوهُ بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِذْ قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ إِضْرَابًا عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وَإِبْطَالًا لِمَا ظَنَّهُ مِنْ كَوْنِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفْ قَبِيلَتَهُمْ فَلَا يَأْمَنُهُمْ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِمَا يَضُرُّهُ.
وَعُبِّرَ عَنِ الْعَذَابِ بِ «مَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ» إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ التَّعْذِيبُ، أَيْ بِالْأَمْرِ الَّذِي كَانَ قَوْمُكَ يَشُكُّونَ فِي حُلُولِهِ بِهِمْ وَهُوَ الْعَذَابُ، فَعَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الْخَبَر الْحق، أَي الصدْق، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِجُمْلَةِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ.
وَقَوْلُهُ: قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ حِكَايَةً لِخِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمَعْنَى عِبَارَاتِهِمْ مُحَوَّلَةً إِلَى نَظْمٍ عَرَبِيٍّ يُفِيدُ مَعْنَى كَلَامِهِمْ فِي نَظْمٍ عَرَبِيٍّ بَلِيغٍ، فَبِنَا أَنَّ نُبَيِّنَ خَصَائِصَ هَذَا النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ:
فَإِعَادَةُ فِعْلِ أَتَيْناكَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ مَعَ أَنَّ فِعْلَ أَتَيْناكَ مُرَادِفٌ لِفِعْلِ جِئْناكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وبِالْحَقِّ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِالْمُرَادِفِ. وَالتَّعْبِيرُ فِي أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ بِمَادَّةِ الْمَجِيءِ وَفِي الْفِعْلِ الْآخَرِ بِمَادَّةِ الْإِتْيَانِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ لِدَفْعِ تَكْرَارِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣٣] : وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً
. وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَقَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ فِعْلِ أَتَيْناكَ وَهُوَ بِالْحَقِّ فَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْإِتْيَانِ فَغُيِّرَتْ مَادَّةُ الْمَجِيءِ إِلَى مَادَّةِ الْإِتْيَانِ تَنْبِيهًا عَلَى إِرَادَةِ مَعْنًى غَيْرِ الْمُرَادِ بِالْفِعْلِ السَّابِقِ، أَعْنِي الْمَجِيءَ الْمَجَازِيَّ. فَإِنَّ هَذَا الْإِتْيَانَ مُسْنَدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَكَانُوا فِي إِتْيَانِهِمْ مُلَابِسِينَ لِلْحَقِّ، أَيِ الصِّدْقِ، وَلَيْسَ الصِّدْقُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ الْإِتْيَانُ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْحَقِّ للملابسة لَا للتعدية.
وَالْقِطْعُ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ- الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٧].
وَأَمَرُوهُ أَنْ يَجْعَلَ أَهْلَهُ قُدَّامَهُ وَيَكُونُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَهُوَ يَتَّبِعُ أَدْبَارَهُمْ، أَيْ ظُهُورَهُمْ لِيَكُونَ كَالْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَحِلُّ بِقَوْمِهِ بِعَقِبِ خُرُوجِهِ تَنْوِيهًا بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ-
عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِأَنَّهُمْ أَمَرُوهُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِمْ لِأَنَّ الْعَذَابَ يَكُونُ قَدْ نَزَلَ بِدِيَارِهِمْ. فَبِكَوْنِهِ وَرَاءَ أَهْلِهِ يَخَافُونَ الِالْتِفَاتَ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُهُمْ. وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ الْتَفَتَتْ فَأَصَابَهَا الْعَذَابُ.
[٦٦]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٦٦]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦)
قَضَيْنا قَدَّرْنَا، وَضُمِّنَ مَعْنَى أَوْحَيْنَا فَعُدِّيَ بِ (إِلَى). وَالتَّقْدِيرُ: وَقَضَيْنَا ذَلِكَ الْأَمْرَ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِمَا قَضَيْنَا.
وذلِكَ الْأَمْرَ إِبْهَامٌ لِلتَّهْوِيلِ. وَالْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ.
وأَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِ ذلِكَ الْأَمْرَ وَهِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَمَّنِ وَهُوَ (أَوْحَيْنَا). فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَقَضَيْنَا الْأَمْرَ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ.
فَنُظِمَ الْكَلَامُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ الْوَافِرَ الْمَعْنَى بِمَا فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْأَمْرَ مِنَ الْإِبْهَامِ وَالتَّعْظِيمِ.
وَمَجِيءُ جُمْلَةِ دابِرَ مُفَسِّرَةٌ مَعَ صُلُوحِيَّةِ أَنَّ لِبَيَانِ كُلٍّ مِنْ إِبْهَامِ الْإِشَارَةِ وَمِنْ فِعْلِ (أَوْحَيْنَا) الْمُقَدَّرِ المضمن، فتم بذلك إِيجَازٌ بَدِيعٌ مُعْجِزٌ.
وَالدَّابِرُ: الْآخِرُ، أَيْ آخِرُ شَخْصٍ.
وَقَطْعُهُ: إِزَالَتُهُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ كُلِّهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٥].
وَإِشَارَةُ هؤُلاءِ إِلَى قَوْمِهِ.
ومُصْبِحِينَ دَاخِلِينَ فِي الصَّبَاحِ، أَيْ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَمَبْدَأُ الصَّبَاحِ وَقْتُ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ
[٦٧- ٦٩]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٩]
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩)
عَطْفُ جُزْءٍ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ الْجُزْءُ الْأَهَمُّ فِيهَا.
وَمَجِيءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ وَمُحَاوَرَتُهُ مَعَهُمْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمَا أَشْفَقَ مِمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمَّا عَلِمَ بِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مُجَادَلَتِهِمْ مَعَهُ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٨١].
وَالْوَاوُ لَا تفِيد تَرْتِيب مَعْطُوفِهَا.
وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لُوطٍ الْمُسْتَتِرِ فِي فِعْلِ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [سُورَة الْحجر: ٦٢]، أَو من الْهَاءِ فِي إِلَيْهِ، وَلَا إِشْكَالَ حِينَئِذٍ. وَالْمَدِينَةُ هِيَ سَدُومُ.
ويَسْتَبْشِرُونَ يَفْرَحُونَ وَيُسَرُّونَ. وَهُوَ مُطَاوِعُ بَشَّرَهُ فَاسْتَبْشَرَ، قَالَ تَعَالَى:
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [١١١]. وَصِيغَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مُبَالَغَةً فِي الْفَرَحِ. ذَلِك أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ رِجَالًا غُرَبَاءَ حَلُّوا بِبَيْتِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَفَرِحُوا بِذَلِكَ لِيَغْتَصِبُوهُمْ كَعَادَتِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَالْفَضْحُ وَالْفَضِيحَةُ: شُهْرَةُ حَالٍ شَنِيعَةٍ. وَكَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِإِهَانَةِ الضَّيْفِ وَيُعَدُّ ذَلِكَ مَذَلَّةً لِمُضِيفِهِ. وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ بِالْوَازِعِ الدِّينِيِّ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا اسْتِقْصَاءً لِلدَّعْوَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا، وَبِالْوَازِعِ الْعُرْفِيِّ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ كَمَا فِي قَوْلِ عَبْدِ بَنِي الْحِسْحَاسِ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥]. وَتَقَدَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَة هود.
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٧٠ إِلَى ٧٧]
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤)إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
الْوَاوُ فِي أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَطْفٌ عَلَى كَلَامِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَطْفِ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْإِنْكَارُ.
والْعالَمِينَ النَّاسُ. وَتَعْدِيَةُ النَّهْيِ إِلَى ذَاتِ الْعَالَمِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ حِمَايَةِ النَّاسِ أَوْ عَنْ إِجَارَتِهِمْ، أَيْ أَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَادَتِنَا حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْمَارُّونَ فِي حِمَايَتِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْمَارِّينَ عَلَى قُرَاهُمْ. والْعالَمِينَ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ. وَأَرَادُوا بِهِ هُنَا أَصْنَافَ الْقَبَائِلِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ بَنَاتَهُ ظَنًّا أَنَّ ذَلِك يردعهم ويطفىء شَبَقَهُمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَعْنَى عَرْضِهِ بَنَاتِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: بَناتِي يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ صُلْبِهِ وَكُنَّ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ بَنَاتِهِ لِأَنَّ النَّبِيءَ كَأَبٍ لِأُمَّتِهِ.
وَجُمْلَةُ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سكراتهم يَعْمَهُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ لِلْعِبْرَةِ فِي عَدَمِ جَدْوَى الْمَوْعِظَةِ فِيمَنْ يَكُونُ فِي سَكْرَةِ هَوَاهُ.
وَكَلِمَةُ لَعَمْرُكَ صِيغَةُ قَسَمٍ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لَفْظِ (عَمْرٍ) لَامُ الْقَسَمِ.
وَالْعَمْرُ- بِفَتْحِ الْعين وَسُكُون اللَّام- أَصْلُهُ لُغَةٌ فِي الْعُمْرِ بِضَمِّ الْعَيْنِ، فَخُصَّ الْمَفْتُوحُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ لِخِفَّتِهِ بِالْفَتْحِ لِأَنَّ الْقَسَمَ كَثِيرُ الدَّوَرَانِ فِي الْكَلَامِ. فَهُوَ قَسَمٌ بِحَيَاةِ الْمُخَاطَبِ بِهِ. وَهُوَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ الْقَسَمِ رَفَعُوهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ وُجُوبًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَعَمْرُكَ قَسَمِي.
وَهُوَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ فِيهَا الْخَبَرُ حَذْفًا لَازِمًا فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ. وَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِغَيْرِ اللَّامِ فَحِينَئِذٍ يُقْرِنُونَهُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَيَنْصِبُونَهُمَا، كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
عَمْرَكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ فَنُصِبَ عَمْرَ بِنَزْعِ الْخَافِض وَهُوَ يَاء الْقَسَمِ وَنُصِبَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الْمَصْدَرِ، أَيْ بِتَعْمِيرِكَ اللَّهَ بِمَعْنَى بِتَعْظِيمِكَ اللَّهَ، أَيْ قَوْلِكِ لِلَّهِ لَعَمْرِكَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ
بِاسْمِ أَحَدٍ تَعْظِيمٌ لَهُ، فَاسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْقَسَمِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُ التَّحِيَّةِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْظِيمِ فِي كَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» أَيْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِتَعْظِيمِكَ رَبَّكَ. هَذَا مَا يَظْهَرُ لِي فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ، وَقَدْ خَالَفْتُ فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ اللُّغَةِ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ لِأَدْفَعَ مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنْ إِشْكَالٍ.
وَالسَّكْرَةُ: ذَهَابُ الْعَقْلِ. مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّكْرِ- بِفَتْحِ السِّينِ- وَهُوَ السَّدُّ وَالْغَلْقُ.
وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الضَّلَالِ تَشْبِيهًا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الْهَوَى عَلَى دَوَاعِي الرَّشَادِ بِذَهَابِ الْعَقْلِ وَغَشْيَتِهِ.
ويَعْمَهُونَ يَتَحَيَّرُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
والصَّيْحَةُ: صَعْقَةٌ فِي الْهَوَاءِ، وَهِيَ صَوَاعِقُ وَزَلَازِلُ وَفِيهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ.
وَقَدْ مَضَى بَيَانُهَا فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَانْتَصَبَ مُشْرِقِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَشْرَقُوا إِذَا دَخَلُوا فِي وَقْتِ شُرُوقِ الشَّمْسِ.
وَضَمِيرَا عالِيَها سافِلَها لِلْمَدِينَةِ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ قَبْلَهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ: تَذْيِيلٌ. وَالْآيَاتُ: الْأَدِلَّةُ، أَيْ دَلَائِلُ عَلَى حَقَائِقَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَضِدِّهَا، وَعَلَى تَعَرُّضِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ لِعِقَابٍ شَدِيدٍ.
وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ الْمَبْدُوءَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [سُورَة الْحجر: ٥١]. فَفِيهَا مِنَ الْآيَاتِ آيَةُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فِي بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَرَامَةً لَهُ، وَبِشَارَتِهِ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، وَإِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِمَا سَيَحِلُّ بِقَوْمِ لُوطٍ كَرَامَةً لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَنَصْرِ اللَّهِ لُوطًا بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِنْجَاءِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلِهِ، وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ وَامْرَأَتِهِ لِمُنَاصَرَتِهَا إِيَّاهُمْ، وَآيَةُ عُمَايَةِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ عَنْ دَلَائِلِ الْإِنَابَةِ، وَآيَةُ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِينَ فِي عِصْيَانِ الرُّسُلِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ آيَةٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٩]. وَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٧].
وَالْمُتَوَسِّمُونَ أَصْحَابُ التَّوَسُّمِ وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي السِّمَةِ، أَيِ الْعَلَامَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْلَمِ، وَالْمُرَادُ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي الْأَسْبَابِ وَعَوَاقِبِهَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ تَرْدَعْهُمُ الْعِبَرُ بِأَنَّهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ النَّظَرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ
وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ الْجُمْلَةَ بِجُمْلَةِ وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أَيِ الْمَدِينَةُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا هِيَ بِطْرِيقٍ بَاقٍ يُشَاهِدُ كَثِيرٌ مِنْكُمْ آثَارَهَا فِي بِلَادِ فِلَسْطِينَ فِي طَرِيقِ تِجَارَتِكُمْ إِلَى الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[سُورَة الصافات: ١٣٧- ١٣٨].
وَالْمُقِيمُ: أَصْلُهُ الشَّخْصُ الْمُسْتَقِرُّ فِي مَكَانِهِ غَيْرُ مُرْتَحِلٍ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِآثَارِ الْمَدِينَةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْمَكَانِ بِتَشْبِيهِهِ بِالشَّخْصِ الْمُقِيمِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنَ الْقِصَّةِ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ قُرَاهُمْ وَاضِحَةٌ فِيهَا آثَارُ الْخَسْفِ وَالْأَمْطَارِ بِالْحِجَارَةِ الْمُحْمَاةِ.
وَعَبَّرَ فِي التَّذْيِيلِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَسِّمِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
وَجَعَلَ ذَلِكَ (آيَةً) بِالْإِفْرَادِ تَفَنُّنًا لِأَنَّ (آيَةً) اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ بِالْمُتَعَدِّدِ، عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ مَا حَصَلَ لَهُمْ آيَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِي مَطَاوِي تِلْكَ الْآيَاتِ آيَاتٌ. وَالَّذِي فِي دُرَّةِ التَّنْزِيلِ، أَيِ الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ الْآيَاتِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِفْرَادِهِ ثَانِيًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مَا قُصَّ مِنْ حَدِيثِ لُوطٍ وَضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ. فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ عِدَّةُ آيَاتٍ. وَأَمَّا كَوْنُ قَرْيَةِ لُوطٍ بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ فَهُوَ فِي جُمْلَتِهِ آيَةٌ وَاحِدَة. فتأمّل.
[٧٨، ٧٩]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٧٨ إِلَى ٧٩]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ.
عَطَفَ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ لِمَا فِي كِلْتَيْهِمَا مِنَ الْمَوْعِظَةِ. وَذِكْرُ هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ تَكْمِيلٌ وَإِدْمَاجٌ، إِذْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ
وإِنْ مُخَفَّفَةُ (إِنَّ) وَقَدْ أُهْمِلَ عَمَلُهَا بِالتَّخْفِيفِ فَدَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَة على (الظَّالِمين) اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنَّ) الَّتِي أَصْلُهَا مُشَدَّدَةٌ وَبَيْنَ (إِنَّ) النَّافِيَةِ.
والْأَيْكَةِ: الْغَيْضَةُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَاسْمُ الْجَمْعِ (أَيْكٌ)، وَأُطْلِقَتْ هُنَا مُرَادًا بِهَا الْجِنْسُ إِذْ قَدْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي غَيْضَةٍ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَرق.
وَقَدْ تُخَفَّفُ الْأَيْكَةُ فَيُقَالُ: لَيْكَةُ.
وأَصْحابُ الْأَيْكَةِ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُمْ مَدْيَنُ. وَقِيلَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ. فَأَهْلُ مَدين هم سُكَّانُ الْحَاضِرَةِ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ بَادِيَتُهُمْ، وَكَانَ شُعَيْبٌ رَسُولًا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٧٦- ١٧٧]. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على ذَلِك مُسْتَوفى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَالظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ.
وَالِانْتِقَامُ: الْعُقُوبَةُ لِأَجْلِ ذَنْبٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّقْمِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ. يُقَالُ:
نَقَمَ عَلَيْهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَقَمَ مِنْهُ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما تَنْقِمُ مِنَّا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٢٦]. وَأُجْمِلَ الِانْتِقَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبُيِّنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ هُودٍ.
وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ضَمِيرُ إِنَّهُما لِقَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ وَأَيْكَةُ قَوْمُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-..
وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [سُورَة الْحجر: ٧٦] فَإِدْخَالُ مَدِينَةِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الضَّمِيرِ هُنَا تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ التَّثْنِيَةِ عَائِدٌ عَلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ قَبِيلَتَانِ، وَهُمَا مَدْيَنُ
وَسُكَّانُ الْغَيْضَةِ الْأَصْلِيُّونَ الَّذِينَ نَزَلَ مَدْيَنُ بِجِوَارِهِمْ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَسْكَنَ ابْنَهُ مَدْيَنَ فِي شَرْقِ بِلَادِ الْخَلِيلِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَرْضٍ مَأْهُولَةٍ. وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مُقْتَضَى ذِكْرِ قَوْمِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِاسْمِ مَدْيَنَ مَرَّاتٍ وَبِاسْمِ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ مَرَّاتٍ. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَة الشّعراء.
[٨٠- ٨٤]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٨٠ إِلَى ٨٤]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
جُمِعَتْ قَصَصُ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ: قَوْمِ لُوطٍ، وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَأَصْحَابِ الْحِجْرِ فِي نَسَقٍ، لِتَمَاثُلِ حَالِ الْعَذَابِ الَّذِي سُلِّطَ عَلَيْهَا وَهُوَ عَذَابُ الصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ وَالصَّاعِقَةِ.
وَأَصْحَابُ الْحِجْرِ هُمْ ثَمُودُ كَانُوا يَنْزِلُونَ الْحِجْرَ- بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ-.
وَالْحِجْرُ: الْمَكَانُ الْمَحْجُورُ، أَيِ الْمَمْنُوعُ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ اخْتِصَاصٍ
وَالْحِجْرُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِوَادِي الْقُرَى وَهُوَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِاسْمِ مَدَائِنِ صَالِحٍ عَلَى الطَّرِيقِ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى تَبُوكَ.
وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ مَدِينَةِ بَنِي حَنِيفَةَ فَهِيَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهِيَ فِي بِلَادِ نَجْدٍ وَتُسَمَّى الْعُرُوضُ وَهِيَ الْيَوْمَ مِنْ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ.
وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ كَانَتْ قُبُورًا، وَتَعَلَّقُوا بِحُجَجٍ وَهْمِيَّةٍ. وَمِمَّا يُفَنِّدُ أَقْوَالَهُمْ خَلُوُّ تِلْكَ الْكُهُوفِ عَنْ أَجْسَادٍ آدَمِيَّةٍ.
وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ قُبُورًا فَأَيْنَ كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَحْيَاءِ؟.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمُودَ لَمَّا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي خَارِجِ الْبُيُوتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ. وَقَدْ وُجِدَتْ فِي مَدَاخِلِ تِلْكَ الْبُيُوتِ نُقَرٌ صَغِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَجْعُولَةٌ لِوَصْدِ أَبْوَابِ الْمَدَاخِلِ فِي اللَّيْلِ.
وَتَعْرِيفُ الْمُرْسَلِينَ لِلْجِنْسِ، فَيَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ، إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا-
عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٠٥].
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: آياتِنا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، وَهِيَ آيَةُ النَّاقَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّهَا آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهَا مِنْ صَخْرَةٍ، وَحَيَاتِهَا، وَرَعْيِهَا، وَشُرْبِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا خَرَجَ مَعَهَا فَصِيلُهَا، فَهُمَا آيَتَانِ.
وَجُمْلَةُ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مُعْتَرِضَةٌ. وَالنَّحْتُ: بَرْيُ الْحَجَرِ أَوِ الْعُودِ مِنْ وَسَطِهِ أَوْ مِنْ جَوَانِبِهِ.
ومِنَ الْجِبالِ تَبْعِيضٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَنْحِتُونَ. وَالْمَعْنَى مِنْ صَخْرِ الْجِبَالِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَنْحِتُونَ.
وَلَكِنَّهُمْ نَسُوا أَنَّهَا لَا تُأَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ قَالَ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ.
وَالْفَاءُ فِي فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ لِلتَّعْقِيبِ وَالسَّبَبِيَّةِ. ومُصْبِحِينَ حَالٌ، أَيْ دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ.
وَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ يَصْنَعُونَ، أَيِ الْبُيُوتُ الَّتِي عُنُوا بِتَحْصِينِهَا وَتَحْسِينِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كانُوا. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَكْسِبُونَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّكَرُّرِ وَالتَّجَدُّدِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ إِتْقَانِ الصَّنْعَةِ. وَبِذَلِكَ كَانَ مَوْقِعُ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ أَبْلَغَ مِنْ مَوْقِعِ لَفْظِ (بُيُوتِهِمْ) مَثَلًا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْءٌ مُتَّخَذٌ لِلْإِغْنَاءِ وَمِنْ شَأْنه ذَلِك.
[٨٥، ٨٦]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٨٥ إِلَى ٨٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
مَوْقِعُ الْوَاوِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَدِيعٌ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا لِقَصَصِ الْأُمَمِ الْمُعَذَّبَةِ بِبَيَانِ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ فَهُوَ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِمَا يُنَاسِبُهَا، وَلِأَنْ تَكُونَ تَصْدِيرًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ. وَالْمُرَادُ سَاعَةُ جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ سَاعَةُ الْبَعْثِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً أَوْ حَالِيَّةً، وَعَلَى الثَّانِي عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَخَبَرًا عَلَى خَبَرٍ.
وَتَشْمَلُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، فَشَمَلَ الْأُمَمَ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا حَلَّ بِهَا، وَشَمَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ، وَشَمَلَ الْحَوَادِثَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي حَلَّتْ بِالْأُمَمِ مِنَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْكِسَفِ.
وَالْبَاءُ فِي إِلَّا بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقْنَا، أَيْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَمُقَارِنًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ بَادِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَالْمُلَابَسَةُ هُنَا عُرْفِيَّةٌ فَقَدْ يَتَأَخَّرُ ظُهُورُ الْحَقِّ عَنْ خَلْقِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ تَأَخُّرًا مُتَفَاوِتًا. فَالْمُلَابَسَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْحَقِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَخَفَائِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ فِي عَاقِبَةِ الْأُمُورِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٨].
وَالْحَقُّ: هُنَا هُوَ إِجْرَاءُ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى نِظَامٍ مُلَائِمٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، وَالسُّمُوِّ وَالْخَفْضِ، فِي كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَلِيقُ بِمَاهِيَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ، وَمَا يَصْلُحُ هُوَ لَهُ، بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ النِّظَامُ الْعَامُّ لَا بِحَسَبِ الْأَمْيَالِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا لَاحَ ذَلِكَ الْحَقُّ الْمَوْصُوفُ مُقَارَنًا وَجُودُهُ لِوُجُودِ مَحْقُوقِهِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَإِذَا لَاحَ تَخَلُّفُ شَيْءٍ عَنْ مُنَاسَبَةٍ فَبِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ يَتَّضِحُ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً قَضَتْ بِتَعْطِيلِ الْمُقَارَنَةِ الْمَحْقُوقَةِ، ثُمَّ لَا يَتَبَدَّلُ الْحَقُّ آخِرَ الْأَمْرِ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُظْهِرُهُ مَوْقِعُ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي طَغَتْ وَظَلَمَتْ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ تَمَرُّدَهَا وَفَسَادَهَا، وَأَنَّهَا وَإِنْ أُمْهِلَتْ حِينًا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ عُمْرَانِ جُزْءٍ مِنَ الْعَالَمِ زَمَانًا فَهِيَ لَمْ تُفْلِتْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ لَهَا، وَهُوَ مِنَ الْحَقِّ أَيْضًا فَمَا كَانَ إِمْهَالُهَا
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فِي الْكَلَامِ يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ الِاسْتِدْلَالِ، فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَأَيْقَنَ بِهِ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَخَلَّفُ
عَنْ مُسْتَحِقِّهِ وَلَوْ غَابَ وَتَأَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نِظَامُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا قَدْ يُعَطِّلُ ظُهُورَ الْحَقِّ فِي نِصَابِهِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْ أَرْبَابِهِ.
فَعَلِمَ أَنَّ وَرَاءَ هَذَا النِّظَامِ نِظَامًا مُدَّخَرًا يَتَّصِلُ فِيهِ الْحَقُّ بِكُلِّ مُسْتَحِقٍّ إِنْ خَيْرًا وَإِنْ شَرًّا، فَلَا يَحْسَبَنَّ مَنْ فَاتَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ مُفْلِتًا مِنَ الْجَزَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ عَالَمًا آخَرَ يُعْطِي فِيهِ الْأُمُورَ مُسْتَحِقِّيهَا.
فَلِذَلِكَ أعقب الله ووَ مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِآيَةِ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، أَيْ أَنَّ سَاعَةَ إِنْفَاذِ الْحَقِّ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُرِيبُكَ مَا تَرَاهُ مِنْ سَلَامَةِ مُكَذِّبِيكَ وَإِمْهَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ [سُورَة يُونُس: ٤١]. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مُقْتَضَى الظَّاهِرِ حَرِيَّةً بِالْفَصْلِ وَعَدَمِ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَقَّهَا الِاسْتِئْنَافُ وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِإِبْرَازِهَا فِي صُورَةِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا، وَلِأَنَّهَا تَسْلِيَة للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَلِيَصِحَّ تَفْرِيعُ أَمْرِهِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ جَزَاءَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ.
وَفِي إِمْهَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ فِي إِنْجَائِهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ حِكْمَةٌ تَحَقَّقَ بِهَا مُرَادُ اللَّهِ مِنْ بَقَاءِ هَذَا الدِّينِ وَانْتِشَارِهِ فِي الْعَالَمِ بِتَبْلِيغِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ وَحَمْلِهِ إِلَى الْأُمَمِ.
وَتَفْرِيعُ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَاهُمْ وَسُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِلدَّعْوَةِ.
والصَّفْحَ: الْعَفْوُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٣]. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ مِنْ صَنِيعِ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الصَّفْحِ لِظُهُورِهِ، أَيْ عَمَّنْ كَذَّبَكَ وَآذَاكَ.
والْجَمِيلَ: الْحَسَنُ. وَالْمُرَادُ الصَّفْحُ الْكَامِلُ.
ثُمَّ إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَرْبًا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، إِذْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: ١٤- ١٦] الْآيَاتِ. وَخُتِمَتْ بِآيَةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ [سُورَة الْحجر: ٢٣- ٢٥].
وانتقل هُنَا لَك إِلَى التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ. ثُمَّ إِلَى سَوْقِ قَصَصِ الْأُمَمِ الَّتِي عَقِبَتْ عُصُورَ الْخِلْقَةِ الْأُولَى فَآنَ الْأَوَانُ لِلْعَوْدِ إِلَى حَيْثُ افْتَرَقَ طَرِيقُ النَّظْمِ حَيْثُ ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَدَلَالَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَاتِ، فَجَاءَتْ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سُورَة الْحجر: ١٦] الْآيَاتِ. فَإِنَّ ذَلِكَ خَلْقٌ بَدِيعٌ.
وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَذْلَكَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ- إِلَى-: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سُورَة الْحجر: ٢٥]، فَعَادَ سِيَاقُ الْكَلَامِ إِلَى حَيْثُ فَارَقَ مَهْيَعَهُ. وَلِذَلِكَ تَخَلَّصَ إِلَى ذِكْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: ٨٧] النَّاظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سُورَة الْحجر: ٩].
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَالِق الْعَلِيمُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ، أَيْ لِأَنَّ فِي الصَّفْحِ عَنْهُمْ مَصْلَحَةً لَكَ وَلَهُمْ يَعْلَمُهَا رَبُّكَ، فَمَصْلَحَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّفْحِ هِيَ كَمَالُ أَخْلَاقِهِ، وَمَصْلَحَتُهُمْ فِي الصَّفْحِ رَجَاءُ إِيمَانِهِمْ، فَاللَّهُ الْخَلَّاقُ لكم وَلَهُم وَلِنَفْسِك وَأَنْفُسِهِمْ، الْعَلِيمُ بِمَا يَأْتِيهِ كُلٌّ مِنْكُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [سُورَة فاطر: ٨].
ومناسبة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَفِي وَصفه ب الْخَالِق الْعَلِيمُ إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يكونُونَ أَوْلِيَاء للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِينَ
وُلِدُوا،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْمُؤْذِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
دَعَانِي دَاعٍ غَيْرُ نَفْسِي وَرَدَّنِي | إِلَى اللَّهِ مَنْ أَطْرَدْتُهُ كُلَّ مُطْرَدِ |
وَتِلْكَ هِيَ نُكْتَةُ ذكر وصف الْخالِقُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.
[٨٧]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [سُورَة الْحجر: ٨٥] وَجُمْلَة وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً الْآيَةَ.
أَتْبَعَ التَّسْلِيَةَ وَالْوَعْدَ بِالْمِنَّةِ لِيُذَكِّرُ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَطْمَئِنَّ بِأَنَّهُ كَمَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِالنِّعَمِ الْحَاصِلَةِ فَهُوَ مُنْجِزُهُ الْوُعُودَ الصَّادِقَةَ.
وَفِي هَذَا الِامْتِنَانِ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ. وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سُورَة الْحجر:
٩].
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ عَطْفُ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ وَالْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ.
وَهَذَا افْتِتَاحُ غَرَضٍ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّحْقِيرِ لِعَيْشِ الْمُشْرِكِينَ.
وَإِيتَاءُ الْقُرْآنِ: أَيْ إِعْطَاؤُهُ، وَهُوَ تَنْزِيلُهُ عَلَيْهِ وَالْوَحْيُ بِهِ إِلَيْهِ.
وَأُوثِرَ فِعْلُ آتَيْناكَ دُونَ (أَوْحَيْنَا) أَوْ (أَنْزَلْنَا) لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ أَظْهَرُ فِي الْإِكْرَامِ وَالْمِنَّةِ.
وَجَعْلُ الْقُرْآنَ مَعْطُوفًا عَلَى سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي يُشْعِرُ بِأَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِي مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي.
وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٢٣] بِالْمَثَانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّبْعَ هِيَ أَشْيَاءُ تَجْرِي
أُجْرِيَ عَلَيْهَا اسْمُ عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتٌ أَوْ سُوَرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَذَلِكَ أَيْضًا شَأْنُ مِنَ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ اسْمِ عَدَدٍ. وَأَنَّ الْمُرَادَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٌ أَوْ سُوَرٌ لَهَا مَزِيَّةٌ اقْتَضَتْ تَخْصِيصَهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْمَثَانِيَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الزُّمَرِ، وَكَمَا اقْتَضَتْهُ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةُ، وَلِكَوْنِ الْمَثَانِي غَيْرَ السَّبْعِ مُغَايَرَةً بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ تَصْحِيحًا لِلْعَطْفِ.
والْمَثانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مُثَنًّى- بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- اسْمَ مَفْعُولٍ مُشْتَقًّا مِنْ ثَنَّى إِذَا كَرَّرَ تَكْرِيرَةً. قِيلَ الْمَثانِي جَمْعُ مَثْنَاةٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ-. فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِي هِيَ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا يُثَنَّى بِهَا، أَيْ تُعَادُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ التَّكْرِيرِ، فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ هَذَا مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، أَوْ كِنَايَةً لِأَنَّ التَّكْرِيرَ لَازِمٌ كَمَا اسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [سُورَة الْملك: ٤] أَيْ كَرَّاتٍ وَفِي قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَدَوَالَيْكَ.
أَوْ هُوَ جَمْعُ مَثْنَاةٍ مَصْدَرًا مِيمِيًّا عَلَى وَزْنِ الْمَفْعَلَةِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ سَبْعَ آيَاتٍ فَالْمُؤْتَى هُوَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ أُمَّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي»
فَهُوَ الْأَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ الْفَاتِحَةِ. وَمَعْنَى التَّكْرِيرِ فِي الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا تُكَرَّرُ فِي الصَّلَاةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ السُّوَرُ السَّبْعُ الطِّوَالُ: أُولَاهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا بَرَاءَةٌ. وَقِيلَ: السُّوَرُ الَّتِي فَوْقَ ذَوَاتِ الْمِئِينَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتهُ»
عَلَى تَأْوِيلِهِ بِأَنَّ كَلِمَةَ «الْقُرْآنِ» مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ «والّذي أُوتِيتُهُ» خَبَرُهُ.
وَأُجْرِيَ وَصْفُ الْعَظِيمَ عَلَى الْقُرْآنِ تَنْوِيهًا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ سُوَرًا كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا بِمَا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ، فَيَكُونُ إِبْهَامُهَا مَقْصُودًا لِصَرْفِ النَّاسِ لِلْعِنَايَةِ بِجَمِيعِ مَا نَزَلْ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ كَمَا أُبْهِمَتْ لَيْلَة الْقدر.
[٨٨، ٨٩]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٨٨ إِلَى ٨٩]
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يُثِيرُهُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سُورَة الْحجر: ٨٥]، وَمِنْ تَسَاؤُلٍ يَجِيشُ فِي النَّفْسِ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِلْمُكَذِّبِينَ فِي النِّعْمَةِ وَالتَّرَفِ مَعَ مَا رُمِقُوا بِهِ مِنَ الْغَضَبِ وَالْوَعِيدِ فَكَانَتْ جُمْلَةُ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ بَيَانًا لِمَا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِكَوْنِهَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فَصْلَ الْبَيَانِ عَنِ الْمُبَيَّنِ.
وَلَوْلَا أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ قَبْلَهَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّمْهِيدِ لَهَا وَالْإِجْمَالِ لِمَضْمُونِهَا لَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدَ نَهْيٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، كَمَا عُطِفَتْ نَظِيرَتُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه [١٢٩- ١٣١] : فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا
وَالْمَدُّ: أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ. وَأُطْلِقَ عَلَى بَسْطِ الْجِسْمِ وَتَطْوِيلِهِ. يُقَالُ: مَدَّ يَدَهُ إِلَى كَذَا، وَمَدَّ رِجْلَهُ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلزِّيَادَةِ مِنْ شَيْءٍ. وَمِنْهُ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَمَدُّ الْبَحْرِ، وَالْمَدُّ فِي الْعُمُرِ. وَتِلْكَ إِطْلَاقَاتٌ شَائِعَةٌ صَارَتْ حَقِيقَةً. وَاسْتُعِيرَ الْمَدُّ هُنَا إِلَى التَّحْدِيقِ بِالنَّظَرِ وَالطُّمُوحِ بِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَدِّ الْيَدِ لِلْمُتَنَاوِلِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَظَرُ الْإِعْجَابِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ فِي رَفَاهِيَةِ عَيْشِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، أَيْ فَإِنَّ مَا أُوتِيتَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانُوا بِمَحَلِّ الْعِنَايَةَ لَاتَّبَعُوا مَا آتَيْنَاكَ وَلَكِنَّهُمْ رَضُوا بِالْمَتَاعِ الْعَاجِلِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْجِبُ حَالَهُمْ.
وَالْأَزْوَاجُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ، أَيِ الْكُفَّارُ وَنِسَائُهُمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ أَنَّ حَالَتَهُمْ أَتَمُّ أَحْوَالِ التَّمَتُّعِ لِاسْتِكْمَالِهَا جَمِيعَ اللَّذَّاتِ وَالْأُنْسِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ عَنِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ أَثْبَتَهُ الرَّاغِبُ. فَوَجْهُ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي تَمْتَدُّ إِلَى مِثْلِهِ الْعَيْنُ لَيْسَ ثَابِتًا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بَلْ هُوَ شَأْنُ كُبَرَائِهِمْ، أَيْ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ هُمْ فِي حَالِ خَصَاصَةٍ فَاعْتَبِرْ بِهِمْ كَيْفَ جُمِعَ لَهُمُ الْكُفْرُ وَشَظَفُ الْعَيْشِ.
وَالنَّهْيُ عَن الْحزن عَلَيْهِم شَامِلٌ لِكُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُحْزِنَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتُؤْسِفُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [سُورَة الْكَهْف: ٦]. وَمِنْهُ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُمْ سَادَةُ أَهْلِ مَكَّة، فلعلّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَحَسَّرَ عَلَى إِصْرَارِهِمْ حَتَّى حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْعَذَابِ. فَفِي هَذَا النَّهْيِ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَعَنْ تَوَعُّدِهِمْ بِأَنْ سَيَحِلُّ بِهِمْ مَا يُثِيرُ الْحُزْنَ لَهُمْ، وَكِنَايَةٌ عَنْ رَحْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ.
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [سُورَة الْفَتْح: ٢٩].
وَخَفْضُ الْجَنَاحِ تَمْثِيلٌ لِلرِّفْقِ وَالتَّوَاضُعِ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ ينحطّ للوقوع حفض جَنَاحَهُ يُرِيدُ الدُّنُوَّ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ إِذَا لَاعَبَ أُنْثَاهُ فَهُوَ رَاكِنٌ إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالرِّفْقِ، أَوِ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لِحَضْنِ فِرَاخِهِ. وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَالْجَنَاحُ تَخْيِيلٌ. وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [سُورَة الْإِسْرَاء: ٢٤] وَقَدْ شَاعَتْ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْمَثَلِ فِي التَّوَاضُعِ وَاللِّينِ فِي الْمُعَامَلَةِ. وَضِدُّ ذَلِكَ رفع الْجنَاح تَمْثِيل لِلْجَفَاءِ وَالشِّدَّةِ.
وَمِنْ شِعْرِ الْعَلَّامَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ يُخَاطِبُ مَنْ كَانَ مُتَوَاضِعًا فَظَهَرَ مِنْهُ تَكَبُّرٌ (ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ) :
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ | فَلَا تَكُ فِي رِفْعَةٍ أَجْدَلَا |
وَجُمْلَةُ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.
فَالْمَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ هُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِالضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْ لَهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُرَادٌ مِنْهُ الْمُتَارَكَةُ، أَيْ مَا عَلَيَّ إِلَّا
إِنْذَارُكُمْ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ ذِكْرُ النذارة دون الْبشَارَة لِأَنَّ النِّذَارَةَ تُنَاسِبُ الْمُكَذِّبِينَ إِذِ النِّذَارَةُ هِيَ الْإِعْلَامُ بِحَدَثٍ فِيهِ ضُرٌّ.
وَالنَّذِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مِثْلُ الْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ، وَضَرْبٌ وَجِيعٌ، أَيْ مُوجِعٌ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَمن تَعْرِيف الجزءين قَصْرُ قلب، أَي لست كَمَا تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَغِيظُونَنِي بِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ فَإِنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ غَيْرُ مُتَقَايِضٍ مَعَكُمْ لِتَحْصِيلِ إِيمَانِكُمْ.
[٩٠، ٩١]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٩٠ إِلَى ٩١]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
التَّشْبِيهُ الَّذِي أَفَادَهُ الْكَافُ تَشْبِيهٌ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُشَبَّهُ بِهِ.
وَأَمَّا الْمُشَبَّهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيتَاءَ الْمَأْخُوذَ مِنْ فِعْلِ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: ٨٧]، أَيْ إِيتَاءً كَالَّذِي أَنْزَلْنَا أَوْ كَإِنْزَالِنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. شَبَّهَ إِيتَاءَ بعض الْقُرْآن للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الْمُقْتَسِمِينَ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَى رُسُلِ الْمُقْتَسِمِينَ بِحَسْبِ التَّفْسِيرَيْنِ الْآتِيَيْنِ فِي مَعْنَى الْمُقْتَسِمِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ الْإِنْذَارَ الْمَأْخُوذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [سُورَة الْحجر: ٨٩]، أَيِ الْإِنْذَارُ بِالْعِقَابِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة الْحجر: ٩٢- ٩٣].
وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أُسْلُوبُ تَخَلُّصٍ مِنْ تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ سَيُحَاسَبُونَ عَلَى مَطَاعِنِهِمْ.
وَهُوَ إِمَّا وَعِيدٌ صَرِيحٌ إِنْ أُرِيدَ بِالْمُقْتَسِمِينَ نَفْسُ الْمُرَادِ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [سُورَة الْحجر: ٨٨].
وَحَرْفُ عَلَى هُنَا بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٨٥] وَقَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ٤]، وَقَوْلِ عَلْقَمَةَ بْنِ شَيْبَانَ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
وَنُطَاعِنُ الْأَعْدَاءَ عَنْ أَبْنَائِنَا | وَعَلَى بَصَائِرِنَا وَإِنْ لَمْ نُبْصِرِ |
وَالْمُقْتَسِمُونَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَنَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ الْعَلَمِ، وَهُوَ كِتَابُ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ طَوَائِفُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَسَّمُوا كِتَابَهُمْ أَقْسَامًا، مِنْهَا مَا أَظْهَرُوهُ وَمِنْهَا مَا أَنْسَوْهُ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ مَصْدَرًا أُطْلِقَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، أَيِ الْمَقْرُوءِ مِنْ كُتُبِهِمْ أَوْ قَسَّمُوا كِتَابَ الْإِسْلَامِ، مِنْهُ مَا صَدَّقُوا بِهِ وَهُوَ مَا وَافَقَ دِينَهُمْ، وَمِنْهُ مَا كَذَّبُوا بِهِ وَهُوَ مَا خَالَفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أُجْمِلَ الْمُرَادُ بِالْمُقْتَسِمِينَ إِجْمَالًا بَيَّنَهُ وَصْفُهُمْ بِالصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَسِمُونَ غَيْرَ الْفَرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا.
وَمَعْنَى التَّقْسِيمِ وَالتَّجْزِئَةِ هُنَا تَفْرِقَةُ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ لَا تَجْزِئَةُ الذَّاتِ.
والْقُرْآنَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْمَ الْمَجْعُولَ عَلَمًا لِكِتَابِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْكِتَابَ الْمَقْرُوءَ فَيُصَدَّقُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
وعِضِينَ جَمْعُ عِضَةٍ، وَالْعِضَةُ: الْجُزْءُ وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَأَصْلُهَا عُضْوٌ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْهَاءُ مِثْلُ الْهَاءِ فِي سَنَةٍ وَشَفَةٍ. وَحَذْفُ اللَّامِ قُصِدَ مِنْهُ تَخْفِيفُ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ تَثْقُلُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهَا، فَعَوَّضُوا عَنْهَا حَرْفًا لِئَلَّا تَبْقَى الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفَيْنِ، وَجَعَلُوا الْعِوَضَ هَاءً لِأَنَّهَا أَسْعَدُ الْحُرُوفِ بِحَالَةِ الْوَقْفِ.
وَجَمْعُ (عِضَةٍ) عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ.
الْمُشْرِكِينَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة الْأَنْعَام: ٢٥]، و «قَول كَاهِن»، و «قَول شَاعِرٍ».
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ نَفَرٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ جَمَعَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا فَتَقَاسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ وَطُرُقَهَا لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الْقُرْآنِ فَهُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَوْلُ كَاهِنٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا، فَقَدْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ أَنْوَاعًا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَوْصَافِهِ.
وَهَؤُلَاءِ النّفر هم: حنظة بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأَخُوهُ الْعَاصُ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ، وَزُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ صَيْفِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَوْسُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.
وَأَنَّ ذَمَّ الْمُشَبَّهِ بِهِمْ يَقْتَضِي ذَمَّ الْمُشَبَّهِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُشَبَّهِينَ قَدْ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بالردّ والتكذيب.
[٩٢، ٩٣]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٩٢ إِلَى ٩٣]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [سُورَة الْحجر: ٨٥].
وَالْوَاوُ لِلْقَسَمِ، فَالْمُفَرَّعُ هُوَ الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ. وَالْمَقْصُودُ بِالْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ. وَلَيْسَ الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِمَّنْ يَشُكُّ فِي صِدْقِ هَذَا الْوَعِيدِ وَلَكِنَّ التَّأْكِيدَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ تَهْدِيدِ مُعَادِ ضَمِيرِ النصب فِي لَنَسْئَلَنَّهُمْ.
وَوَصْفُ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ فِي السُّؤَالِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ حَظًّا مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِ، وَهُوَ سُؤَالُ اللَّهِ الْمُكَذِّبِينَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ سُؤَالَ رَبٍّ يَغْضَبُ لِرَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَالسُّؤَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ عِقَابُ الْمَسْئُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [سُورَة التكاثر: ٨] فَهُوَ وَعِيد لِلْفَرِيقَيْنِ.
[٩٤- ٩٦]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٦]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: ٨٧] بِصَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ عَنِ التَّسْلِيَةِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ.
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الْآيَةَ. وَبِنُزُولِهَا تَرَكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاخْتِفَاءَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ وَأَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ جَهْرًا.
وَالصَّدْعُ: الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ. وَأَصْلُهُ الِانْشِقَاقُ. وَمِنْهُ انْصِدَاعُ الْإِنَاءِ، أَيِ انْشِقَاقُهُ.
فَاسْتُعْمِلَ الصَّدْعُ فِي لَازِمِ الِانْشِقَاقِ وَهُوَ ظُهُورُ الْأَمْرِ الْمَحْجُوبِ وَرَاءَ الشَّيْءِ الْمُنْصَدِعِ فَالْمُرَادُ هُنَا الْجَهْرُ والإعلان.
وَمَا صدق «مَا تُؤْمَرُ» هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَقَصْدُ شُمُولِ الْأَمْرِ كُلُّ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِتَبْلِيغِهِ هُوَ نُكْتَةُ حَذْفِ مُتَعَلِّقِ تُؤْمَرُ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِنَحْوِ بِتَبْلِيغِهِ أَوْ بِالْأَمْرِ بِهِ أَوْ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ. وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ لَا عَنْ ذَوَاتِهِمْ. وَذَلِكَ إِبَايَتُهُمُ الْجَهْرَ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَعَنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَعَنْ تَصَدِّيهِمْ إِلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِعْرَاضَ عَنْ دَعْوَتِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِوَصْفِ الْمُسْتَهْزِئِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ كَفَاهُ اسْتِهْزَاءُهُمْ وَهُوَ أَقَلُّ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَكِفَايَتُهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ مِنَ الْأَذَى مَفْهُومٌ بِطْرِيقِ الْأَحْرَى.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لَا لِلشَّكِّ فِي تَحَقُّقِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ لِلْجِنْسِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كَفَيْنَاك كل مستهزء. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُصَارَى مَا يُؤْذُونَهُ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [سُورَة آل عمرَان: ١١١]، فَقَدْ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُؤْذُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَذَلِكَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ تَوَلِّي الْكَافِيَ مُهِمَّ الْمَكْفِيِّ، فَالْكَافِي هُوَ مُتَوَلِّي عَمَلٍ عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَبْتَغِي رَاحَةَ الْمُكْفَى. يُقَالُ: كَفَيْتُ مُهِمَّكَ، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ثَانِيهِمَا هُوَ الْمُهِمُّ الْمَكْفِيُ مِنْهُ. فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فَإِذَا كَانَ اسْمَ ذَاتٍ فَالْمُرَادُ أَحْوَالُهُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: كَفَيْتُكَ عَدُوَّكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ بَأْسَهُ، وَإِذَا قُلْتَ:
كَفَيْتُكَ غَرِيمَكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ مُطَالَبَتَهُ. فَلَمَّا قَالَ هُنَا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَفَيْنَاكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَإِرَاحَتُكَ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِصُنُوفٍ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَأْتِي فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِأَسْمَاءِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِثْلُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي ذِكْرِ أَسْمَاءِ السُّوَرِ.
وَفِي «الْكَشَّاف» و «الْقُرْطُبِيّ» أَنَّهُ ابْنُ الطُّلَاطِلَةِ، وَمِثْلُهُ فِي «الْقَامُوسِ»، وَهِيَ بِضَمِّ الطَّاءِ
الْأُولَى وَكَسْرِ الطَّاءِ الثَّانِيَةِ) وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، هَلَكُوا بِمَكَّةَ مُتَتَابِعِينَ، وَكَانَ هَلَاكُهُمُ الْعَجِيبُ الْمَحْكِيُّ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ صَارِفًا أَتْبَاعَهُمْ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ لِانْفِرَاطِ عِقْدِهِمْ.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ كِفَايَتِهِمْ زِيَادَةُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ صَارَ بَأْسُ الْمُسْلِمِينَ مَخْشِيًّا وَقَدْ أَسْلَمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاعْتَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ إِلَّا الِاسْتِهْزَاءُ، ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَخَشِيَهُ سُفَهَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْبَعْثَةِ.
وَوَصْفُهُمْ بِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لِلتَّشْوِيهِ بِحَالِهِمْ، وَلِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ مَا اقْتَصَرُوا عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ فَقَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ مُجَدِّدُونَ لَهُ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ الْوَعِيدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ جَزَاء بهتانهم.
[٩٧- ٩٩]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٩٧ إِلَى ٩٩]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
لَمَّا كَانَ الْوَعِيدُ مُؤْذِنًا بِإِمْهَالِهِمْ قَلِيلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [سُورَة المزمل: ١١] كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّنْفِيسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [سُورَة الْحجر: ٩٦] طَمْأَنَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَيْسَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُدَاخِلُهُ الشَّكُّ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ كِنَايَةٌ عَنْ الِاهْتِمَامِ بِالْمُخْبَرِ وَأَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [سُورَة الْحجر: ٩٥] أَوْ حَالٌ.
وَضِيقُ الصَّدْرِ: مَجَازٌ عَنْ كَدَرِ النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٢].
وَفُرِّعَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَمْرُهُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَقُولُونَهُ مِنْ نِسْبَةِ
الشَّرِيكِ، أَيْ عَلَيْكَ بِتَنْزِيهِ رَبِّكَ فَلَا يَضُرُّكَ شِرْكُهُمْ. عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ مَعَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فَيُفِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَقُولُونَ، أَيْ فَاقْتَصِرْ فِي دَفْعِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ كَلَامِهِمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [سُورَة الْإِسْرَاء: ٩٣].
وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّكَ لِلْمُصَاحَبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَسَبِّحْ رَبَّكَ بِحَمْدِهِ فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي. وَتَسْبِيحُ اللَّهِ تَنْزِيهُهُ بِقَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ.
وَالْأَمْرُ فِي وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ مُسْتَعْمَلَانِ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ.
ومِنَ السَّاجِدِينَ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالسُّجُودِ مِنْ (سَاجِدًا) كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [١١٩]، وَقَوْلِهِ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧] وَنَظَائِرِهِمَا.
وَالسَّاجِدُونَ: هُمُ الْمُصَلُّونَ. فَالْمَعْنَى: وَدُمْ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ.
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّقَّاشِ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ (لَعَلَّهُ يَعْنِي بِهِ أَبَا حُذَيْفَةَ الْيَمَانَ
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّاءَ مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ سَجَدَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حِينَ قِرَاءَتِهِ فِي تَرَاوِيحِ رَمَضَانَ وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهَا. وَسُجُودُ الْإِمَامِ عَجِيبٌ وَسُجُودُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ مَعَهُ أَعْجَبُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَجْدَةَ هُنَا، فَالسُّجُودُ فِيهَا يُعَدُّ زِيَادَةً وَهِيَ بِدْعَةٌ لَا مَحَالَةَ.
والْيَقِينُ: الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ النَّصْرُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١٦- سُورَةُ النَّحْلِسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ السَّلَفِ سُورَةُ النَّحْلِ، وَهُوَ اسْمُهَا الْمَشْهُورُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ النَّحْلِ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى.
وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمِ- أَيْ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ-. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
لِمَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ عَلَى عِبَادِهِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [سُورَة النَّحْل: ١٢٦] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَسْخِ عَزْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يُمَثِّلَ بِسَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ مُكَافَأَةً عَلَى تَمْثِيلِهِمْ بِحَمْزَةَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَوَّلَهَا مَكِّيٌّ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [سُورَة النَّحْل: ٤١] فَهُوَ مَدَنِيٌّ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ [سُورَة النَّحْل: ٧٩] مَا يُرَجِّحُ أَنَّ بَعْضَ السُّورَةِ مَكِّيٌّ وَبَعْضَهَا مَدَنِيٌّ، وَبَعْضَهَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
الْآيَاتِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَرَأْتُهَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ فَتَعَجَّبَ وَقَالَ: يَا آلَ غَالِبٍ اتَّبِعُوا ابْنَ أخي تُفْلِحُوا فو اللَّهَ إِن الله أَرْسَلَهُ لِيَأْمُرَكُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ اللَّهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ
. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَبْلَ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ.
وَآيُهَا مِائَةٌ وَثَمَانٍ وَعِشْرُونَ بِلَا خِلَافٍ. وَوَقَعَ لِلْخَفَاجِيِّ عَنِ الدَّانِيِّ أَنَّهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ. وَلَعَلَّهُ خَطَأٌ أَوْ تَحْرِيفٌ أَوْ نَقْصٌ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
مُعْظَمُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ إِكْثَارٌ مُتَنَوِّعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى فَسَادِ دِينِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ شَنَاعَتِهِ.
وَأَدِلَّةُ إِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-.
وَإِنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَائِمَة على صول مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ فَابْتُدِئَ بِالتَّذْكِيرِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِي السَّمَاءِ مِنْ شَمْسٍ وَقَمَرٍ وَنُجُومٍ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ نَاسٍ وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَبِحَارٍ وَجِبَالٍ، وَأَعْرَاضِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَمَا فِي أَطْوَارِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ مِنَ الْعِبَرِ.
وَخُصَّتِ النَّحْلُ وَثَمَرَاتُهَا بِالذِّكْرِ لِوَفْرَةِ مَنَافِعِهَا وَالِاعْتِبَارِ بِإِلْهَامِهَا إِلَى تَدْبِيرِ بُيُوتِهَا وَإِفْرَازِ شَهْدِهَا.
والتّنويه الْقُرْآن وَتَنْزِيهِهِ عَنِ اقْتِرَابِ الشَّيْطَانِ، وَإِبْطَالِ افْتِرَائِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ تَكْوِينٌ كَتَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ.
وَالتَّحْذِيرُ مِمَّا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي أَشْرَكَتْ بِاللَّهِ وَكَذَّبَتْ رُسُلَهُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- عَذَابَ الدُّنْيَا وَمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَابَلَ ذَلِكَ بِضِدِّهِ مِنْ نَعِيمِ الْمُتَّقِينَ الْمُصَدِّقِينَ وَالصَّابِرِينَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ وَظُلِمُوا.
وَالتَّحْذِيرُ مِنْ الِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّرْخِيصُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فِي التُّقْيَةِ مِنَ الْمُكْرَهِينَ.
وَالْأَمْرُ بِأُصُولٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَأْصِيلِ الْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْمُوَاسَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَإِبْطَالِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، وَنَقْضِ الْعُهُودِ، وَمَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَزَاءٍ بِالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.