سورة الحجر مكية، عدد آياتها تسع وتسعون، وسميت سورة الحجر لقوله تعالى ﴿ ولقد كذّب أصحاب الحجر المرسلين ﴾.
ومناسبتها للسورة التي قبلها أنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سورة إبراهيم من وصف الكتاب المبين، وشرحت أحوال الكفار يوم القيامة وتمنيهم لو كانوا مسلمين، وإن في كل من السورتين وصف السموات والأرض، وقصصا مفصلا عن إبراهيم عليه السلام، كما أن في كل منهما تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم وكانت العاقبة للمتقين.
وقد ابتدأت بالحروف الصوتية تنبيها إلى أن القرآن مكون من الحروف التي تتكون منها الكلمات العادية، ومع ذلك فهو معجز، لأنه منزل من عند الله تعالى.
والسورة الكريمة تبين العبر بما نزل بالأمم السابقة والإشارة إلى أخبار الأنبياء السابقين، وتشير إلى آيات الله في الكون، من سماء مرفوعة ذات بروج محفوظة، وأرض ممهدة مبسوطة، وجبال راسيات، ورياح حاملة للماء، وما يلقح الأشجار. وتشير إلى المعركة الأولى في الخليقة بين إبليس وآدم وزوجته، واستمرار هذه المعركة بين الخير والشر إلى أن تنتهي هذه الدنيا. ثم تذكر عاقبة الخير والشر يوم القيامة. وبعد ذلك يقص الله سبحانه قصص النبيين إبراهيم ولوط، وأصحاب الحجر، وتشير إلى منزلة القرآن، وحال المشركين في تلقيه، وما يجب على النبي إزاء جحودهم، وهو أن يعلن رسالته، ويجهر بها ويعبد الله حتى يأتيه الأمر اليقين.
ومحور السورة هو إبراز المصير المخوف الذي ينتظر الكافرين المكذبين. وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات، متنوعة الموضوع والمجال، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل.
ويمكن تقسيم سياق السورة إلى خمس جولات أو مقاطع يتضمن كل منها موضوعا :
الأول : بيان أن سنة الله التي لا تتخلف، في الرسالة، والإيمان بها، والتكذيب.
والثاني : يتضمن بعض آيات الله في الكون : في السماء وفي الأرض
وما بنيهما، وكل شيء قدِّر بحكمه وأنزل بقدر.
والثالث : يعرض لقصة البشرية وأصل الهدى والغواية وتركيبها وأسبابها الأصيلة ومصير المهتدين والغاوين... وذلك في خلق آدم من الطين، والنفخ من روح الله في هذا الطين، ثم في غرور إبليس واستكباره وتوليه الغاويين دون المخلصين.
والرابع : في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح. ثم يتابع القصص، ويجلو رحمة الله مع إبراهيم ولوط، وعذابه لأقوام لوط وشعيب وصالح.
وأما المقطع الخامس والأخير فيكشف عن الحق الكامن في خلق هذا الكون بجميع ما فيه، المتلبس بالساعة وما بعدها من ثواب وعقاب، المتصل بدعوة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله وللبدء والمصير.
وتشتمل السورة على الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام بالجهر بالدعوة بقوله تعالى :﴿ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ﴾ حيث كان الرسول الكريم يدعو سرّاً في أول الأمر، وبعدها خرج للناس وأظهر الدعوة.
ومن غرر الآيات فيها قوله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه... الآية ﴾ وقوله تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
سيأتي يوم يتمنّى فيه الذين كفروا لو كانوا مسلمين في دار الدنيا، وهو يومُ القيامة عندما يَرَوْنَ العذاب، لكن هذا التمني لن يفيدَهم شيئا.
قراءات :
قرأ نافع وعاصم :«ربما » بفتح الباء بدون تشديد. والباقون :«ربما » بالتشديد.
دعهم أيها الرسول في غفلَتِهم، يأكلون، ويتمتعون في شهواتهم ولذّاتهم، وتُلهيهم الآمال.. فسوف يعلمون سوءَ أعمالهم عندما يرون العذاب. وفي هذا وعيدٌ شديد
لا يسبقونه ولا يتأخرون عنه.
وقال بعض كفار قريش مستهزئين بالرسول الكريم : يا أيّها الرجلُ، الذي زعم أنّه نُزّلَ عليه القرآن إنك لمجنون.
وقال «مقاتِل » : إن الذين قالوا ذلك هم : عبدُ الله بن أمية، والنضرُ بن الحارث، ونوفل بن خُويلد، والوليدُ بن المغيرة من زعماء قريش.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص «ما ننزل الملائكة » بنونين وبنصب الملائكة. وقرأ أبو بكر «ما تنزل الملائكة » بالتاء والفعل يبنى للمجهول ورفع الملائكة. وقرأ الباقون :«ما تنزل الملائكة » بفتح التاء ورفع الملائكة.
وقد أجاب الله تعالى على ذلك التهكم والاستهزاء، بأن الملائكة لا تنزِلُ على الرسول إلاّ لهلاِك المكذِّبين من قومه حين ينتهي الأجلُ المَعلوم فقال :
﴿ مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ﴾.
إنّنا لا نُنزل الملائكةَ إلاّ عندما نقرِّر أمراً له أهميته، ويكون قد مضى الأجلُ وحقَّ القولُ على الكافرين، ولو أنزلْنا الملائكةَ لأهلكنا أولئك الكافرين، ولم يكونوا مؤخَّرين.
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾.
إن هذه من الآيات الجلية، والقرآن كلّه جليل عظيم، وفيها تحدّ كبير لكل معاند، وطمأنينةٌ للمؤمنين. فالله سبحانه وتعالى يمنُّ علينا بأن هذا القرآن من عنده، وهو حافظٌ له، لم يَكِلْ حِفظه لغيره، فهو ذِكرٌ حيٌّ خالد مصون من التحريف والزيادة والنقصان، وهو باقٍ محفوظ لا يندثر ولا يتبدّل. والتحدي قائمٌ لكل معاند.
ولا تحزن أيها الرسول، فقد أرسلنا قبلك رسُلاً إلى أُممٍ قد مضت.
وكما كانت حالُ الأمم الماضية حين أُنزلتْ عليهم الكتبُ من الملأ الأعلى فأصُّروا على الكفر والاستهزاء بالرسُل، كذلك نلقي القرآنَ في قلوب المجرمين من بني قومك.
وقد مضت سنّةُ الله في إمهالهم، وهكذا تجدنا نفعلُ باللاحقين كما فعلنا بالسابقين.
ثم بين الله تعالى عظيم عنادهم ومكابرتهم للحق فقال :
ولو فتحنا على هؤلاء المعاندين باباً من السماء يصعَدون فيه بأجسامِهم ويَرَوْن مَنْ فيها من الملائكة، وما فيها من العجائب.
لقالوا لِفَرْطِ عنادهم، إنما سُدَّتْ أبصارُنا، فما نراه تخيُّلٌ لا حقيقةَ له، وقد سَحَرَنا محمدٌ بما يَظْهرُ على يده من الآيات، وظلّوا في عنادِهم ومكابَرَتِهم سادِرين.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«سُكرِت » بالتخفيف، والباقون بالتشديد كما هو في المصحف.
بعد بيان مكابرة المعاندين، وأنهم لا يؤمنون حتى بالأشياء المحسوسة، عَرَضَ هنا الآيات الكونية، وما فيها من إبداعٍ لمن يفكّر ويُبْصِر.
لقد أبدْعنا هذا الكونَ، وجعلنا في السماء أشكالاً عديدةً من النجوم، منها تلك البروجُ الظاهرة للعيان، البديعةُ، الدالَّةُ على جَمال هذا الكون، وحُسنِ نظامه وزينّاها بالكواكب للناظِرين المعتبرين والمفكرين.
فهلاّ نظر أولئك المعاندون إلى هذه السماء وما فيها من بروج ظاهرة، ونجومٍ ساطعة وأقمار نّيرة، ومجَرّات عظيمة، فإن فيها عبرةً لمن اعتبر !
ولكن من أرادَ من هؤلاء الشياطين أن يَستَرِقَ الاستماع من عالم الغيب، فنحن نلحقه بشهاب مشتعل محرق، فهم أعجَزُ من أن يَصِلوا إليها.
رواسي : هي الجبال الثابتة.
موزون : مقدر.
وخلقنا لكم الأرضَ ومهّدناها حتى صارت كالبساط الممدود، ووضعنا فيها جبالاً راسياتٍ ثابتة، وأنبتْنا لكم فيها من كلّ أنواعِ النبات ما يحفَظ حياتكم، وجعلناه مقدَّراً بأزمان معيَّنة في نموِّه وغذائه، ومقدِّرا بمقدار حاجتكم، في أشكاله في الخلْق والطبيعة.
وتقرر هذه الآية حقيقةَ كونيةً لم تُعرَفْ إلا في العصور الأخيرة، وهي أن كلَّ صنفٍ من النبات أفرادُه متماثلة من الوجهة الظاهرية، وكذلك في التناسُق الداخلي، التوازنُ دقيق في كل أجهزِة النبات المختلفة، وكذلك بين الخلايا لتحقيق الغرض الذي وُجدت من أجْله.
لواقح : جمع لاقح. معناها حوامل للماء، ومعنى آخر لأنها تلقح النباتات والشجر.
ثم فصّل بعض ما في خزائنه من النعم فقال :
﴿ وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾.
وقد أرسل الله تعالى الرياحَ بالماءِ تحملُه، فتحيي الأمطار الخلقَ والأرض وتعطيها حياةً جديدة، فتُزهرُ بكلّ لونٍ بهيج، ويشرب منها الإنسانُ ويسقي زرعه وحيوانه.
والخلاصة : نحن القادرون على إيجاد الماء وخزنه في السحاب وإنزاله مطراً، وما أنتم على ذلك بقادرين، لأنه في دورة مستمرة، يتبخر من البحر والأرض، ثم تحمله السحب فينزل على الأرض ويعود إلى البحر.
وقد زاد بعض المفسرين معنى آخر لكلمة لواقح فقالوا : إن الرياح تحمل اللقاح من شجرةٍ إلى شجرة، ومن نبته إلى أختها، وهذا أيضا لم يكن معروفا في الأزمان السابقة، فيكون هذا أيضا من معجزات القرآن الكريم.
قراءات :
قرأ حمزة وحده :«وأرسلنا الريح » بالإفراد، والباقون بالجمع كما هو في المصحف.
بعد أن ذكر الله تعالى نظم المعيشة في هذه الحياة بين أن الحياة والموت بيده وأنه هو الحي الباقي يرث الأرض ومن عليها.
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام ﴾ [ الرحمن : ٢٧ – ٢٨ ]
المستأخرين : الأحياء الذين لم يموتوا بعد.
ولقد عَلِمْنا من مضى منكم وأحصيناهم وما كانوا يعملون، وعَلِمْنا من هو حيّ ومن سيأتي بعدكم، فلا تخفى علينا أحوالكم ولا أعمالكم.
من حمأ : طين أسود.
مسنون : يمكن تصويره على هيئة الإنسان، وله معنى آخر وهو المتغير. بعد جولة طويلة في بيان تنزيل الذِكر، وتنزيلٍ الملائكة، ورجْمِ الشياطين، وتنزيلِ الماء من السماء ؛ ثم ذِكر ما في هذا الكون من مشاهدَ وعجائب كالسماء والكواكب والبروج والشهُب والأرض والجبال والنبات والرياح ؛ وبعد ضربِ الأمثلة على المكابرة من الكفّار المعاندين، بعد هذا كِلّه يأتي الحديثُ عن قصة البشرية وخلْقِ الإنسان والجانّ بطبيعتين مختلفتين، وقصة الهدى والضلال. وقد عُرضت هذه القصةُ في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف، وفي كل مرة لها عَرْضٌ مختلف وجوٌّ خاص يلائم السياقَ ويتمشى مع الغرض المطلوب. وهنا يركز سبحانه على سِرّ التكوين في آدم، وسرّ الهدى والضلال وعوامِلهما الأصيلة في كيان الإنسان :
نحن في خلْقِنا للعالمين في هذه الأرض خلقنا طبيعتين : خلَقْنا الإنسان من طينٍ يابس يصلصل ويصوِّت عند نقرِه.
نار السموم : النار الشديدة الحرارة.
أما عالمُ الجن فقد خلقناه من قبلِ آدم من نار السَّموم الشديدةِ الحرارة.
من حمأ : طين أسود.
اذكر أيها النبي إذ قال ربُّك للملائكة إني سأخلقُ بشَراً من طينِ هذه الأرض.
نفخت فيه من روحي : جعلت فيه الحياة.
فإذا أكملتُ خلْقه، وشرَّفتُه على سائر المخلوقات ونفختُ فيه من روحي، ( وبهذه النفخة العلوية فرَّقتُ بينه وبينّ سائر الأحياء، ومنحتُه خصائصهَ الإنسانية، حيث تصِلُه بالملأ الأعلى، وتجعلُه أهلاً للاتصال بالله ) فاسجدوا له سجودَ تحيةٍ وإكرام، لا سجودَ عبادةٍ.... فإن العبادةَ لله وحده.
قال الله تعالى : فاخرجْ من الجنة، أنت مطرودٌ من رحمتي كنتَ فيه من الدرجات الرفيعة.
لقد كتبتُ عليك اللعنةَ إلى يوم القيامة.
قال إبليس، وهو المتمردُ على طاعة الله : يا رب، أمهِلْني إلى يوم القيامة.
إلى اليومِ المعلوم، يوم القيامة.
﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين ﴾.
قراءات :
قرأ يعقوب :«صراط عليٌّ مستقيم » برفع، عليّ، صفة لصراط. والباقون «عَليَّ ».
وجهنمُ هذه ذات سبعة أبواب لكثرة من يرَدُها من المجرمين. ولكل باب طائفةٌ مختصة به، ولكل طائفة مرتبةٌ معلومة تتكافأ مع شرّهم.
ويقول عدد من المفسّرين أن لجهنم سبْعَ طبقات ينزلها مستحقّوها بحسب مراتبهم في الضلال وهي : جهنم والسعير ولظى والحُطَمة وسَقَر والجَحيم، والهاوية.
إن الّذين اتقَوا اللهَ وأطاعوا أوامره يتمتعون في جنّات تجري من تحتِها الأنهار،
ادخُلوها وأنتم على أحسن حال من الفرح والسعادة والأمن، فلا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون.
وهذا أيضاً من أسلوب القرآن الحكيم، فإن الله تعالى فَتَحَ بابَ الرحمة على مصراعيه وهو الغفور ذو الرحمة الواسعة، فنبئ يا محمدُ عبادي بذلك.
ولا استقراء الوقائع، وإنما الغرضُ منه الهداية والعِبرة والعظة. ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ﴾ [ سورة يوسف : ١١١ ].
وقد وردتْ قصةُ إبراهيم ولوطٍ في مواضعَ متعدّدة بأشكال متنوعة، تناسب السياقَ الذي وردت فيه، ووردتْ قصة لوط وحدَه في مواضع أخرى.
وهنا يقول الله تعالى : أخبرهم أيها النبيّ، عن حال ضيف إبراهيم،
عندما دخلوا عليه وسلّموا، فقال : إنّا منكم خائفون.
فطمأنوه وقالوا له : لا تخفْ، إنّا جئنا نبشّرك بغلام عليم.
قراءات :
قرأ نافع :«فبم تبشرونِ » وقرأ ابن كثير :«تبشرونِّ » بكسر النون مشددة. وقرأ الباقون : تبشرونَ بفتح النون
فأجابوه مؤكدين ما بشّروه به : لقد بشّرناك بالحقٌ فلا تكنْ من القانِطين اليائسين.
قراءات :
قرأ أبو عمرو والكسائي :«ومن يقنط » بكسر النون، والباقون «يقنط » بفتح النون.
ثم لما استأنس بهم وعرف أنهم جاؤوا بأمرٍ عظيم، استفسر منهم فقال لهم : ما شأنكم بعد هذه البشرى أيّها المرسلون ؟
دونَ امرأته ( لأنها كفرتْ بالله ولم تتّبع زوجَها ) فستكون من الماكثين في الهلاك مع القوم المجرمين.
ولما وصَل الملائكةُ إلى ديار لوط.
واتبع أدبارهم : وكن أنت وراء أهلك.
ثم شرعوا يرتّبون له كيف ينجو هو وأَهلُه والمؤمنون معه قبل حلول العذاب بقومه، فقالوا له : سِرْ ليلاً بأهلكَ ومن آمنَ معك بعد مرور قِطْعٍ من الليل، وكُنْ خَلْفَهم حتى يتأكد من أن الجميع ساروا ونجوا،
ولا يتلفتْ منكم أحدٌ خلفه، بل امضوا حيث يأمركم ربكم.
بحقّ حياتك أيّها النبيُّ الأمين، إنهم لفي غفلةٍ عما سينزل بهم، جعلتْهم كالسكارى يترددون ويتخبّطون، فلا يرجى أن يفيقوا ولا أن يسمعوا.
مشرقين : عند شروق الشمس.
ثم ذكر الله تعالى عاقبة أمر قوم لوط فقال :
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ ﴾.
فنزل بهم العذابُ المنتظَر وقت شروق الشمس.
جزاء ظُلمهم جعل الله عاليَ المدينة سافلَها، أي أنه قلَبها، وأمطر عليهم حجارةً من طين متحجِّر، مع صيحةٍ عالية تصعق كلَّ من سمعها.
ثم بين أن في هذا القصص عبرةً لمن اعتبر :
إن ما فعلناه بقومٍ لوطٍ من الهلاك والتدمير لآياتٍ للّذين يعقِلون ويفكّرون ويعتبرون.
ثم وجَّه أنظار أهلِ مكة إلى الاعتبار بها لو أرادوا ذلك فقال :
﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾.
إن هذه المدينة - مدينة سدوم - التي أصابها العذابُ والتدمير تقع على طريق ظاهرٍ ثابت هو طريقكُم وأنتم ذاهبون إلى الشام، وآثارها باقية في البحر الميت كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ].
وبعد أن ذكر قصص قوم لوط اتبعه بقصص قوم شعيب فقال :
﴿ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ ﴾.
وإن قوم شعيبٍ، أصحابَ الغابة الكثيفة، كانوا ظالمين، فانتقمنا منهم وأنزلنا عليهم العذابَ. وكذلك أهلُ مَدْيَنَ قد أخذتْهم الصيحة.
يعني : أن كلاً من مدينة لوط والأيكة واقعة على طريق ظاهر لكم تمر عليها قوافل قريش في ذهابهم إلى الشام، فمن حقهم أن يعتبروا بآثارهم وهي باقية إلى الآن.
ثم ذكر الله تعالى قصة صالح فقال :
لقد كذّبت ثمود نبيهم صالحاً، ومن كذّب رسولاً واحدا من رسُل الله فكأنما كذب جميع المرسلين.
وما خلقنا هذا الكون وما فيه إلا بالعدل والإنصاف والحكمة، وإن الساعة لآتية يوم القيامة لا ريبّ في ذلك، فأعرضْ عنهم أيها النبي، واصفحْ الصفح الجميل وخالقْهم بخلق حسن.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم ﴾.
ولقد أكرمناك أيها النبي، بسبع آياتٍ من القرآن هي سورةُ الفاتحة التي تكررها في كل صلاة. وهذه السورة لها مكانتها الخاصة، لأنها تشتمل على مجمل ما في القرآن. فمقاصد القرآن هي : بيانُ التوحيد، وبيان الوعد والبشرى للمؤمنين، وبيانُ الوعيد والإنذار للكافرين والمسيئين، وبيانُ السعادة في الدنيا والآخرة، وقصصُ الذين أطاعوا الله ففازوا، والذين عصَوا فخابوا.
والفاتحة تشتمل بطريق الإيجاز والإشارة على هذه المقاصد ولذلك سميت «أم الكتاب » والسبع المثاني.
واخفض جناحك للمؤمنين : تواضع لهم.
وبعد أن عرف الله رسوله عظيم نِعمه عليه، نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال :
لا تتمنَّينَّ أيها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعاً للأغنياء من اليهود والنصارى والمشرِكين، فإن هذا كله زائلٌ وزهيد بالنسبة لما أُوتيتَه من كمال الاتصال بنا ومن القرآن العظيم.
والخطاب تعليمٌ للمؤمنين، فقد رُوي أنه أتتْ من بُصرى الشام سبع قوافلَ لقريظة والنضير من اليهود في يوم واحد، فيها أنواعُ البضائع من الطيِّب والجواهر والألبسة، فقال المسلمون : لو كانت لنا لتقَوَّيْنا بها، ولأنفقناها في سبيل الله.
فالله تعالى يعلّمهم أن هذا كلَّه لا قيمةَ له بالنسبة لما أُوتيتم، «ولا تحزَن عليهم » بسبب استمرارهم على الغيّ والكفر، وتواضعْ يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين.
وقل أيها الرسول للناس أجمعين : أنا النذيرُ لكم من عذابٍ أليم، فارجعوا إلى الله وآمِنوا بما أنزلَ إليَّ تربحوا وتفوزوا بالجنة.
ثم بعد أن ذَكر الله أنه أكرم الرسولَ بالقرآن العظيم والسبعِ المثاني، يبين هنا أن الذين سبقوه من اليهود والنصارى قسّموا القرآن إلى أجزاء، قبلوا بعضَه وكفروا ببعض منه.
وكما آتيناكَ سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، أنزلْنا من قبِلك على اليهود والنصارى التوراةَ والإنجيلَ،
وهم الّذين اقتسموا القرآنَ فآمنوا ببعضه الذي وافقَ ما عندهم، وكفروا ببعضٍ، وهو ما خالفهم.
ثم يؤكد الله تعالى على نبيه بالجهر والقوة في تبليغ الرسالة جهد المستطاع.
فاجهرْ بدعوة الحق، وإبلاغ ما أُمرتَ به، ولا تلتفت إلى المشركين وما يقولون.
إنا كفيناك شر المستهزئين من قريش الذين كانوا يسخرون منك ومن القرآن، وكانوا طائفةً من قريش لهم قوة، وكانوا كثيري السفاهة والأذى للرسول الكريم، وقد أبادهم الله وأزال كيدهم، فهم : الوليدُ بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعديّ بن قيس، والأَسود بن عبدٍ يغوث. وقد ماتوا جميعا.
إنهم اتخذوا إلها مع الله يعبدونه، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم، يوم القيامة، يوم يرون العذاب الشديد.
وهذا هو ختام السورة : إرشاد من الله تعالى أن يكشف ما يجده من الغم باللجوء إليه بعمل الطاعات، والإكثار من العبادات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر واشتد عليه خطب، فزع إلى الصلاة.
اللهم وفقنا لطاعتك، واهدنا لعبادتك، واجعلنا من المتقين الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليم ولا الضالين.