ﰡ
وهي حروف مقطعة تنطق بأسماء الحروف لا مسمياتها، ونعلم أن لكل حرف اسماً، وله مسمى ؛ فحين نقول أو نكتب كلمة " كتب " ؛ فنحن نضع حروفاً هي الكاف والباء والتاء بجانب بعضها البعض، لتكون الكلمة كما ننطقها أو نقرؤها. ويقال عن ذلك إنها مسميات الحروف، أما أسماء الحروف ؛ فهي " كاف " و " باء " و " تاء ". ولا يعرف أسماء الحروف إلا المتعلم ؛ ولذلك حين تريد أن تختبر واحداً في القراءة والكتابة تقول له : تهج حروف الكلمة التي تكتبها، فإن نطق أسماء الحروف ؛ عرفنا أنه يجيد القراءة والكتابة. وهذا القرآن كما نعلم نزل معجزاً للعرب الذين نبغوا في اللغة، وكانوا يقيمون لها أسواقاً ؛ مثل المعارض التي نقيمها نحن لصناعاتنا المتقدمة. ولذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي معجزة الرسول الخاتم من جنس ما نبغوا فيه ؛ فلو كانت المعجزة من جنس غير ما نبغوا فيه ولم يألفوه لقالوا : لو تعلمنا هذا الأمر لصنعنا ما يفوقه. وجاءتهم معجزة القرآن من نفس الجنس الذي نبغوا فيه، وباللغة العربية وبنفس المفردات المكونة من الحروف التي تكونون منها كلماتكم، والذي جعل القرآن معجزاً أن المتكلم به خالق وليس مخلوقاً. وفي " الر " نفس الخامات التي تصنعون منها لغتكم.
وهذا بعض ما أمكن أن يلتقطه العلماء من فواتح السور. علينا أن نعلم أن لله في كلماته أسراراً ؛ فهو سبحانه :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.. " ٧ " ﴾
( سورة آل عمران )أي : أن القرآن به آيات محكمات، هي آيات الأحكام التي يترتب عليها الثواب والعقاب، أما الآيات المتشابهات فهي مثل تلك الآيات التي تبدأ بها فواتح بعض السور ؛ ومن في قلوبهم زيغ يتساءلون : ما معناها ؟ وهم يقولون ذلك لا بحثاً عن معنى ؛ ولكن رغبة للفتنة.
ولهؤلاء نقول : أتريدون أن تفهموا كل شيء بعقولكم ؟ إن العقل ليس إلا وسيلة إدراك ؛ مثله مثل العين، ومثل الأذن. فهل ترى عيناك كل ما يمكن أن يرى ؟ طبعاً لا ؛ لأن للرؤية بالعين قوانين وحدوداً، فإن كنت بعيداً بمسافة كبيرة عن الشيء فلن تراه ؛ ذلك أن العين لا ترى أبعد من حدود الأفق.
وكل إنسان يختلف أفقه حسب قوة بصره ؛ فهناك من أنعم الله عليه ببصر قوي وحاد ؛ وهناك من هو ضعيف البصر ؛ ويحتاج إلى نظارة طبية تساعده على دقة الإبصار.
فإذا كانت للعين وهي وسيلة إدراك المرائي حدود، وإذا كانت للأذن، وهي وسيلة إدراك الأصوات بحد المسافة الموجية للصوت ؛ فلابد أن تكون هناك حدود للعقل، يفهم ما يمكن أن يفهمه ؛ وهناك ما لا يمكن أن يفهمه. والرسول صلى الله عليه وسلم قال عن آيات القرآن : " ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به ". وذلك حفاظاً على مواقيت ومواعيد ميلاد أي سر من الأسرار المكنونة في القرآن الكريم، فلو أن القرآن قد أعطى كل أسراره في أول قرن نزل فيه ؛ فكيف يستقبل القرون الأخرى بدون سر جديد ؟.
إذن : فكلما ارتقى العقل البشري ؛ أذن الله بكشف سر من أسرار القرآن. ولا أحد بقادر على أن يجادل في آيات الأحكام. ويقول الحق سبحانه عن الآيات المتشابهة :﴿ وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا.. " ٧ " ﴾( سورة آل عمران )وهناك من يقرأ هذه الآية كالآتي : " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم م " وتناسى من يقرأ تلك القراءة أن منتهى الرسوخ في العلم أن تؤمن بتلك الآيات كما هي.
والحق سبحانه يقول :﴿ آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " ١ " ﴾( سورة الحجر )و( تلك )إشارة لما سبق ولما هو قادم من الكتاب، و( آيات )جمع " آية ". وهي : الشيء العجيب الذي يلتفت إليه. والآيات إما أن تكون كونية كالليل والنهار والشمس والقمر لتثبت الوجود الأعلى، وإما أن تكون الآيات المعجزة الدالة على صدق البلاغ عن الله وهي معجزات الرسل، وإما أن تكون آيات القرآن التي تحمل المنهج للناس كافة.
ويضيف الحق سبحانه :﴿ وقرآن مبين " ١ " ﴾( سورة الحجر )
فهل الكتاب هو شيء غير القرآن ؟ ونقول : إن الكتاب إذا أطلق ؛ فهو ينصرف إلى كل ما نزل من الله على الرسل ؛ كصحف إبراهيم، وزبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى ؛ وكل تلك كتب، ولذلك يسمونهم " أهل الكتاب ".
أما إذا جاءت كلمة " الكتاب " معرفة بالألف واللام ؛ فلا ينصرف إلا للقرآن، لأنه نزل كتاباً خاتماً، ومهيمناً على الكتب الأخرى. وبعد ذلك جاء بالوصف الخاص وهو ( قرآن )، وبذلك يكون قد عطف خاصاً على عام، فالكتاب هو القرآن، ودل بهذا على أنه سيكتب كتاباً، وكان مكتوباً من قبل في اللوح المحفوظ.
وإن قيل : إن الكتب السابقة قد كتبت أيضاً ؛ فالرد هو أن تلك الكتب قد كتبت بعد أن نزلت بفترة طويلة، ولم تكتب مثل القرآن ساعة التلقي من جبريل عليه السلام، فالقرآن يتميز بأنه قد كتب في نفس زمن نزوله، ولم يترك لقرون كبقية الكتب ثم بدئ في كتابته.
والقرآن يوصف بأنه مبين في ذاته وبين لغيره ؛ وهو أيضاً محيط بكل شيء. وسبحانه القائل :
﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء.. " ٣٨ " ﴾( سورة الأنعام )وأي أمر يحتاج لحكم ؛ فإما أن تجده مفصلاً في القرآن، أو نسأل فيه أهل الذكر، مصداقاً لقول الحق سبحانه :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ٧ " ﴾( سورة الأنبياء ).
ويقال في اللغة : إن طلبت أمراً يمكن أن يتحقق، ويمكن ألا يتحقق ؛ فإن قلت : " يا ليت الشباب يعود يوماً " فهذا طلب لا يمكن أن يتحقق ؛ لذلك يقال إنه " تمنى ". وإن قلت " لعلي أزور فلاناً " فهذا يسمى رجاء ؛ لأنه من الممكن أن تزور فلاناً. وقد تقول : " كم عندك ؟ " بهدف أن تعرف الصورة الذهنية لمن يجلس إليه من تسأله هذا السؤال، وهذا يسمى استفهاماً.
وهكذا إن كنت قد طلبت عزيزاً لا ينال فهو تمن ؛ وإن كنت قد طلبت ما يمكن أن ينال فهو الترجي، وإن كنت قد طلبت صورته لا حقيقته فهو استفهام، ولكن إن طلبت حقيقة الشيء ؛ فأنت تطلبه كي لا تفعل الفعل.
والطلب هنا في هذه الآية ؛ يقول :﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " ٢ " ﴾( سورة الحجر )
فهل يتأتى هذا الطلب ؟.
ولنر متى يودون ذلك. إن ذلك التمني سوف يحدث إن وقعت لهم أحداث تنزع منهم العناد ؛ فيأخذون المسائل بالمقاييس الحقيقية.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً.. " ١٤ " ﴾( سورة النمل )
وقد حدث لهم حين وقعت غزوة بدر، ونال منهم المسلمون الغنائم أن قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين، وأخذنا تلك الغنائم، أي : أن هذا التمني قد حدث في الدنيا، ولسوف يحدث هذا عند موت أحدهم. يقول الحق سبحانه :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون " ٩٩ " لعلي أعمل صالحاً فيما تركت.. " ١٠٠ " ﴾( سورة المؤمنون ).
ويعلق الحق سبحانه على هذا القول :﴿ كلا إنها كلمة هو قائلها.. " ١٠٠ " ﴾( سورة المؤمنون )
وسيتمنون أيضاً أن يكونوا مسلمين، مصداقاً لقول الحق سبحانه :
﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون " ١٢ " ﴾( سورة السجدة ).
إذن : فسيأتي وقت يتمنى فيه الكفار أن يكونوا مسلمين، إذا ما عاينوا شيئاً ينزع منهم جحودهم وعنادهم، ويقول لهم : إن الحياة التي كنتم تتمسكون بها فانية ؛ ولكنكم تطلبون أن تكونوا مسلمين وقت أن زال التكليف، وقد فات الأوان.
ويكفي المسلمين فخراً أن كانوا على دين الله، واستمسكوا بالتكليف، ويكفيكم عاراً أن خسرتم هذا الخسران المبين، وتتحسروا على أنكم لم تكونوا مسلمين.
وفي اليوم الآخر يعذب الحق سبحانه العصاة من المسلمين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم، ولم يستغفروا الحق سبحانه، أو ممن لم يغفر لهم سبحانه وتعالى ذنوبهم ؛ لعدم إخلاص النية وحسن الطوية عند الاستغفار، ويدخل في ذلك أهل النفاق مصداقاً لقوله تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم.. " ٨٠ " ﴾( سورة التوبة ).
فيدخلون النار ليأخذوا قدراً من العذاب على قدر ما عصوا وينظر لهم الكفار قائلين : ما أغنت عنكم لا إله إلا الله شيئاً، فأنتم معنا في النار. ويطلع الحق سبحانه على ذلك فيغار على كل من قال لا إله إلا الله ؛ فيقول : أخرجوهم وطهروهم وعودوا بهم إلى الجنة، وحينئذ يقول الكافرون : يا ليتنا كنا مسلمين، لنخرج من النار، ونلحق بأهل الجنة.
ويشارك في هذا الفعل فعل آخر هو " دع " بمعنى " اترك ". وقيل : أهملت العرب ماضي " يدع " و " يذر " إلا في قراءة في قول الحق سبحانه :﴿ ما ودعك ربك وما قلى " ٣ " ﴾( سورة الضحى )
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا.. " ٣ " ﴾( سورة الحجر )
ونحن أيضاً نأكل، وهناك فرق بين الأكل كوقود للحركة وبين الأكل كلذة وتمتع، والحيوانات تأكل لتأخذ الطاقة بدليل أنها حين تشبع ؛ لا يستطيع أحد أن يجبرها على أكل عود برسيم زائد.
أما الإنسان فبعد أن يأكل ويغسل يديه ؛ ثم يرى صنفاً جديداً من الطعام فهو يمد يده ليأكل منه ؛ ذلك أن الإنسان يأكل شهوة ومتعة، بجانب أنه يأكل كوقود للحركة.
والفرق بيننا وبينهم أننا نأكل لتتكون عندنا الطاقة، فإن جاءت اللذة مع الطعام فأهلاً بها ؛ ذلك أننا في بعض الأحيان نأكل ونتلذذ، لكن الطعام لا يمري علينا ؛ بل يتعبنا ؛ فنطلب المهضمات من مياه غازية وأدوية.
ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ". أي : أنه صلى الله عليه وسلم ينهانا عن أن نأكل بالشهوة واللذة فقط.
ولنلاحظ الفارق بين طعام الدنيا وطعام الجنة في الآخرة ؛ فهناك سوف نأكل الطعام الذي نستلذ به ويمري علينا ؛ بينما نحن نضطر في الدنيا في بعض الأحيان أن نأكل الطعام بدون ملح ومسلوقاً كي يحفظ لنا الصحة ؛ ولا يتعبنا ؛ وهو أكل مريء وليس طعاماً هنيئاً، ولكن طعام الآخرة هنيء ومريء.
وعلى ذلك نفهم قول الحق سبحانه :﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا.. " ٣ " ﴾( سورة الحجر )أي : أن يأكلوا أكلاً مقصوداً لذات اللذة فقط.
ويقول الحق سبحانه متابعاً :﴿ ويلههم الأمل " ٣ " ﴾( سورة الحجر )أي : أن ينصبوا لأنفسهم غايات سعيدة ؛ تلهيهم عن وسيلة ينتفعون بها ؛ ولذلك يقول المثل العربي : " الأمل بدون عمل تلصص " فمادمت تأمل أملاً ؛ فلابد أن تخدمه بالعمل لتحققه. ولكن المثل على الأمل الخادع هو ما جاء به الحق سبحانه على لسان من غرته النعمة، فقال :﴿ ما أظن أن تبيد هذه أبداً " ٣٥ " وما أظن الساعة قائمة.. " ٣٦ " ﴾( سورة الكهف ).
ولكن الساعة ستقوم رغماً عن أنف الآمال الكاذبة، والسراب المخادع. ويقول الحق سبحانه :
﴿ ويلههم الأمل فسوف يعلمون " ٣ " ﴾( سورة الحجر )وكلمة ( سوف )تدل على أن الزمن متراخٍ قليلاً ؛ فالأفعال مثل " يعلم " تعني أن الإنسان قد يعلم الآن ؛ ويعلم من بعد الآن بوقت قصير، أما حين نقول " سوف يعلم " فتشمل كل الأزمنة. فالنصر يتحقق للمؤمنين بإذن من الله دائماً ؛ أما غير المؤمنين فلسوف يتمنون الإيمان ؛ كما قلنا وأوضحنا من قبل.
وهكذا نرى أن قوله :﴿ فسوف يعلمون " ٣ " ﴾( سورة الحجر )يشمل كل الأزمنة. وقد صنع الحق سبحانه في الدنيا أشياء تؤذن بصدق وعده، والذين يظنون أنهم يسيطرون على كل الحياة يفاجئهم زلزال ؛ فيهدم كل شيء، على الرغم من التقدم فيما يسمى " الاستشعار عن بعد " وغير ذلك من فروع العلم التطبيقي.
وفي نفس الوقت نرى الحمير التي نتهمها بأنها لا تفهم شيئاً تهب وهي الماشية من قبل الزلزال لتخرج إلى الخلاء بعيداً عن الحظائر التي قد تتهدم عليها، وفي مثل هذا التصرف الغريزي عند الحيوانات تحطيم وأدب للغرور الإنساني، فمهما قاده الغرور، وادعى أنه مالك لناصية العلم، فهو مازال جاهلاً وجهولاً.
وكذلك نجد من يقول عن البلاد الممطرة : إنها بلاد لا ينقطع ماؤها، لذلك لا تنقطع خضرتها. ثم يصيب تلك البلاد جفاف لا تعرف له سبباً، وفي كل ذلك تنبيه للبشر كي لا يقعوا أسرى للغرور.
وقد قال الحق سبحانه :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ١١٢ " ﴾( سورة الحجر )
والمثل القريب من الذاكرة " لبنان " التي عاشت إلى ما قبل الخمسينات كبلد لا تجد فيه فندقاً لائقاً، ثم ازدهرت وانتعشت في الستينات والسبعينات ؛ واستشرى فيها الفساد ؛ فقال أهل المعرفة بالله : " لابد أن يصيبها ما يصيب القرى الكافرة بأنعم الله ".
وقد حدث ذلك وقامت فيها الحرب الأهلية، وانطبق عليها قول الحق سبحانه :﴿ ويذيق بعضكم بأس بعضٍ.. " ٦٥ " ﴾( سورة الأنعام )وهذا ما يحدث في الدنيا، وهي مقدمات تؤكد صدق ما سوف يحدث في الآخرة. وسبحان القائل :﴿ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطوراً " ٥٨ " ﴾( سورة الإسراء ).
وبطبيعة الحال ؛ فهذا ما يحدث لأي قرية ظالم أهلها ؛ لأن الحق سبحانه لا يظلم مثقال ذرة. وأذكر أن تفسير النسفي قد صودر في عصر سابق ؛ لأن صاحب التفسير قال عند تفسيره لهذه الآية : " حدثني فلان عن فلان أن البلد الفلاني سيحصل فيه كذا ؛ والبلد الآخر سوف يحدث فيه كذا إلى أن جاء إلى مصر وقال بالنص : ويدخل مصر رجل من جهينة، فويل لأهلها، وويل لأهل سوريا، وويل لأهل الرملة، وويل لأهل فلسطين، ولا يدخل بيت المقدس ".
ومادام الحق سبحانه قد قال :﴿ كان ذلك في الكتاب مسطوراً " ٥٨ " ﴾( سورة الإسراء )
فهو يعلم بعضاً من خلقه بعضاً من أسراره، فلا مانع من أن نرى بعضاً من تلك الأسرار على ألسنتهم. وحين ذاعت تلك الحكاية، وقالوها للرئيس الذي كان موجوداً، وقالوا له : أنت من جهينة وهم يقصدونك. صودر تفسير النسفي.
إذن : فقد ترك الحق سبحانه لنا في الدنيا مثلاً يؤكد صدقه فيما يحكيه عن الوعيد لبعض القرى حتى نصدق ما يمكن أن يكون بعد يوم القيامة. وحين يقول الحق سبحانه :﴿ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم " ٤ " ﴾( سورة الحجر )فليس لأحد أن يقول : " إن ذلك لم يحدث للبلد الفلاني " لأن كل أمر له أجل.
والظاهر من قولهم هو التناقض الواضح ؛ فهم شاؤا أم أبوا يعترفون بالقرآن بأنه " ذكر "، والذكر في اللغة له عدة معانٍ، منها الشرف، وقد أطلق على القرآن، كما قال الحق سبحانه :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون " ٤٤ " ﴾( سورة الزخرف ).
وسبق لهم أن تلمسوا في هذا القرآن هنات ؛ فلم يجدوا، فكيف يصفون من نزل عليه هذا القرآن بالجنون ؛ وهم الذين شهدوا له من قبل بالصدق والأمانة. وقد شاء الحق سبحانه أن ينصف رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ " ٤ " ﴾( سورة القلم ).
وهم في اتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم لم يلتفتوا إلى أنهم قد خاطبوه بقولهم :( يا أيها )، وهو خطاب يتطابق مع نفس الخطاب الذي يخاطبه به الله ؛ وهكذا أجرى الحق سبحانه على ألسنتهم توقيراً واحتراماً للرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يشعروا، وذلك من مشيئته سبحانه حين ينطق أهل العناد بالحق دون أن يشعروا.
فقد قال الحق سبحانه عن المنافقين أنهم قالوا :
﴿ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا.. " ٧ " ﴾( سورة المنافقون )أي : لا تنفقوا على من عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يجوعوا، فينفضوا من حوله. وهم يقولون عنه " رسول الله "، فهل آمنوا بذلك ؟ أم أن هذا من غلبة الحق ؟.
وقد قال الكفار هنا ما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم :﴿ لو ما تأتينا بالملائكة.. " ٧ " ﴾( سورة الحجر )
وسبق لهم أن قالوا :
﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً " ٧ " ﴾( سورة الفرقان )وكأنهم يطلبون نزول ملك مع الرسول ليؤنسه وليصدقوا أنه رسول من عند الله، فهل كان تصديقهم المعلق على هذا الشرط ؛ تصديقاً للرسول، أم تصديقاً للملك ؟ وسبق أن تناول القرآن هذا الأمر في قول الحق سبحانه :
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً " ٩٤ " ﴾( سورة الإسراء )وكأنهم علقوا الإيمان بالرسول على شرط أنه ليس ملكاً ؛ بل من صنف البشر، وجاء الرد عليهم :﴿ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولاً " ٩٥ " ﴾
( سورة الإسراء ).
إذن : فلو نزل رسول من السماء ملكاً ؛ لما استطاع أن يمشي في الأرض مطمئناً ؛ فضلاً عن أنه لا يمكن ان يكون أسوة وقدوة للبشر ؛ لأنه من جنس آخر غير البشر.
ولو نزل عليهم ملك كما زعموا، وقال لهم : افعل ولا تفعل، واستقيموا واستغفروا، وسبحوه بكرة وأصيلا، لردوا عليه قائلين أنت ملك ينطبق عليك قول الحق :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " ٦ " ﴾( سورة التحريم ).
وأنت لا تصلح أسوة لنا. ثم كيف تتكلمون مع ملك وهو من طبيعة مختلفة، ولن يستطيع البشر أن يرتفعوا إلى مستواه ليأخذوا منه، وهو لن يستطيع أن ينزل إلى مستوى البشرية ليأخذوا منه ؛ ولذلك شاء الحق سبحانه أن يرسل الرسول من جنس البشر.
وهكذا أبطل الحق سبحانه حجتهم في عدم الإيمان بالرسول ؛ لأنه لم يأت من جنس الملائكة ؛ وأبطل حجتهم في طلبهم أن ينزل مع الرسول ملائكة ؛ ليؤيدوه في صدق بلاغه عن الله.
ذلك أن البشر لا تستطيع تحمل التواصل مع القوة التي أودعها الله في الملائكة. والحق سبحانه هو القائل :﴿ ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأمر ثم لا ينظرون " ٨ " ﴾( سورة الأنعام ).
ولو جعله الحق سبحانه في هيئة البشر وتواصلوا معه لالتبس عليهم الأمر، ولظنوا أن الملك بشر مثلهم. وفي هذا يقول الحق سبحانه :
﴿ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون " ٩ " ﴾( سورة الأنعام )
لم ينزل الحق سبحانه الملائكة ؛ لأنه لم يشأ أن يهلكهم ورسول الله فيهم، فالحق سبحانه قد قال :
﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ٣٣ " ﴾ ( سورة الأنفال )
وقد آمن معظمهم ودخلوا في دين الله من بعد ذلك واستغفروا لذنوبهم، وكان الله غفوراً رحيماً ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله. وحين ننظر إلى صدر الآية نجد أنه سبحانه قال :﴿ ما ننزل الملائكة إلا بالحق.. " ٨ " ﴾( سورة الحجر ).
فلو نزلت الملائكة لكان عذاباً لهم، فالحق سبحانه إذا أعطى قوماً آية طلبوها، فإما أن يؤمنوا، وإما أن يهلكهم، ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء )فالحق سبحانه لم يجبهم إلى الآيات والمعجزات التي طلبوها ؛ لأن السابقين لهم، كذبوا بها قبل ذلك، وهم يريدون أن يكذبوا أيضاً، فحتى لو نزلت الآية فسيكذبونها، وحين يكذبون في آية مقترحة من عندهم، فلابد أن نهلكهم. أما لو كذبوا في آية منزلة من عند الله فإن الله يمهلهم.
إذن : فلو نزلنا الملائكة كما يريدون فسننزلهم بالحق، والحق هو أن نهلكهم إذا كذبوا. ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ وما كانوا إذاً منظرين " ٨ " ﴾( سورة الحجر )أي : ما كان أجل المشركين قد حان لينزل الله لهم الملائكة لإهلاكهم، كما سبق وأهلك الأمم السابقة التي طلبت الآيات، فنزلت لهم كما طلبوها، ولما لم يصدقوا ويؤمنوا أهلكهم الله.
ومادام المنهج مفصولاً عن المعجزة ؛ فقد طلب الحق سبحانه من الحاملين لكتب المنهج تلك أن يحافظوا عليها، وكان هذا تكليفاً من الحق سبحانه لهم. والتكليف كما نعلم عرضة أن يطاع، وعرضة أن يعصى، ولم يلتزم أحد من الأقوام السابقة بحفظ الكتب المنزلة إليهم. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله.. " ٤٤ " ﴾( سورة المائدة )أي : أن الحق سبحانه وتعالى قد كلفهم وطلب منهم أن يحفظوا كتبهم التي تحمل منهجه ؛ وهذا التكليف عرضة أن يطاع، وعرضة أن يعصى ؛ وهم قد عصوا أمر الحق سبحانه وتكليفه بالحفظ ؛ ذلك أنهم حرفوا وبدلوا وحذفوا من تلك الكتب الكثير.
وقال الحق سبحانه عنهم :﴿ وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون " ١٤٦ " ﴾( سورة البقرة )
بل وأضافوا من عندهم كلاماً وقالوا : هو من عند الله ؛ لذلك قال فيهم الحق سبحانه :
﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " ٧٩ " ﴾( سورة البقرة )وهكذا ارتكبوا ذنوب الكذب وعدم الأمانة، ولم يحفظوا الكتب الحاملة لمنهج الله كما أنزلها الله على أنبيائه ورسله السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لم يشأ الحق سبحانه أن يترك مهمة حفظ القرآن كتكليف منه للبشر ؛ لأن التكليف عرضة أن يطاع وعرضة أن يعصى، فضلاً عن أن القرآن يتميز عن الكتب السابقة في أنه يحمل المنهج، وهو المعجزة الدالة على صدق بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الوقت.
ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ٩ " ﴾( سورة الحجر ).
والذكر إذا أطلق انصرف المعنى إلى القرآن ؛ وهو الكتاب الذي يحمل المنهج ؛ وسبحانه قد شاء حفظه ؛ لأنه المعجزة الدائمة الدالة على صدق بلاغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكان الصحابة يكتبون القرآن فور أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدنا في عصرنا من هم غير مؤمنين بالقرآن ؛ ولكنهم يتفننون في وسائل حفظه ؛ فهناك من طبع المصحف في صفحة واحدة ؛ وسخر لذلك مواهب أناس غير مؤمنين بالقرآن.
وحدث مثل ذلك حين تم تسجيل المصحف بوسائل التسجيل المعاصرة. وفي ألمانيا على سبيل المثال توجد مكتبة يتم حفظ كل ما يتعلق بكل آية من القرآن في مكان معين محدد. وفي بلادنا المسلمة نجد من ينقطع لحفظ القرآن منذ الطفولة، وينهي حفظه وعمره سبع سنوات ؛ وإن سألته عن معنى كلمة يقرؤها فقد لا يعرف معناها.
ومن أسرار عظمة القرآن أن البعض ممن يحفظونه لا يملكون أية ثقافة، ولو وقف الواحد من هؤلاء عند كلمة ؛ فهو لا يستطيع أن يستكملها بكلمةٍ ذات معنى مقارب لها ؛ إلى أن يرده حافظ آخر للقرآن.
ولكي نعرف دقة حفظ الحق سبحانه لكتابه الكريم ؛ نجد أن البعض قد حاول أن يدخل على القرآن ما ليس فيه، وحاول تحريفه من مدخل يرون أنه قريب من قلب كل مسلم، وهو توقير الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وجاءوا إلى قول الحق سبحانه :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.. " ٢٩ " ﴾( سورة الفتح ).
وأدخلوا في هذه الآية كلمة ليست فيها، وطبعوا مصحفاً غيروا فيه تلك الآية بكتابتها " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " وأرادوا بذلك أن يسرقوا عواطف المسلمين، ولكن العلماء عندما أمسكوا بهذا المصحف أمروا بإعدامه وقالوا : " إن به شيئاً زائداً "، فرد من طبع المصحف " ولكنها زيادة تحبونها وتوقرونها "، فرد العلماء : " إن القرآن توقيفي ؛ نقرؤه ونطبعه كما نزل ".
وقامت ضجة ؛ وحسمها العلماء بأن أي زيادة حتى ولو كانت في توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته لا تجوز في القرآن، لأن علينا أن نحفظ القرآن كما لقنه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كنت أنت سيد الرسل وخاتم الأنبياء ؛ فلابد أن تكون مشقتك على قدر مهمتك، ولابد أن يكون تعبك على قدر جسامة الرسالة الخاتمة. و ﴿ شيع " ١٠ " ﴾( سورة الحجر )تعني الجماعة الذين اجتمعوا على مذهب واحد ؛ سواء كان ضلالاً أم حقاً. والمثل على من اجتمعوا على باطل هو قوله الحق :
﴿ أو يلبسكم شيعاً.. " ٦٥ " ﴾( سورة الأنعام )والمثل على من اجتمعوا على الحق قوله سبحانه :﴿ وإن من شيعته لإبراهيم " ٨٣ " ﴾( سورة الصافات )وهكذا تكون كلمة ( شيع )تعني الجماعة التي اجتمعت على الحق أو الباطل. وقول الحق سبحانه :﴿ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين " ١٠ " ﴾( سورة الحجر )
يعني أنك لن تكون أقل من الرسل السابقين عليك، بل قد تكون رحلتك في الرسالة شاقة بما يناسب مهمتك، ويناسب إمامتك للرسل وختامك للأنبياء.
ومعنى ذلك أنهم عجزوا عن مقاومة منهجك ؛ ويحاولون بالاستهزاء أن يحققوا لك الخور لتضعف ؛ معتمدين في ذلك على أن كل إنسان يحب أن يكون كريماً في قومه ومعززاً مكرماً.
وهنا يريد الحق سبحانه من رسوله أن يوطن نفسه على أنه سيستهزأ به وسيحارب ؛ وسيؤذى ؛ لأن المهمة صعبة وشاقة، وكلما اشتدت معاندتك وإيذاؤك، فاعلم أن هذه من حيثيات ضرورة مهمتك.
ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يتأكد من مهمته ؛ أخذته زوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها عند ورقة بن نوفل ؛ وعرف ورقة أنه سيؤذى، وقال ورقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك. فتساءل الرسول صلى الله عليه وسلم : أمخرجي هم ؟ قال ورقة : نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يصحب نزول الرسالة أن يحصنه ضد ما سيحصل له، ليكون عنده المناعة التي تقابل الأحداث ؛ فمادام سيصير رسولاً، فليعلم أن الطريق محفوف بالإيذاء، وبذلك لا يفاجأ بوجود من يؤذيه.
ونحن نعلم أن المناعة تكون موجودة عند من وبها يستعد لمواجهة الحياة في مكان به وباء يحتاج إلى مصل مضاد من هذا الوباء ؛ ليقي نفسه منه، وهذا ما يحدث في الماديات، وكذلك الحال في المعنويات.
ولهذا يوضح سبحانه هذا الأمر لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولتزداد ثقته في الحق الذي بعثه به ربه، ويشتد في المحافظة على تنفيذ منهجه.
والاستهزاء كما نعلم لون من الحرب السلبية ؛ فهم لم يستطيعوا مواجهة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد، ولا أن يردوا منهجه الراقي ؛ لذلك لجئوا إلى السخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تنفعهم سخريتهم في النيل من الرسول، أو النيل من الإسلام وفي هذا المعنى، يقول لنا الحق سبحانه عن مصير الذين يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم :
﴿ ما سلككم في سقر " ٤٢ " قالوا لم نك من المصلين " ٤٣ " ﴾( سورة المدثر )أي : ما أدخلكم في النار ؛ فتأتي إجابتهم :﴿ قالوا لم نك من المصلين " ٤٣ " ﴾( سورة المدثر )
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين " ١٢ " ﴾( سورة الحجر )أي : كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين، كذلك ندخله في قلوب المجرمين.
يعني : مشركي مكة، لأنهم أدخلوا أنفسهم في دائرة الشرك التي دعتهم إلى هذا الفعل، فنالوا جزاء ما فعلوا مثل ما سبق من أقوام مثلهم ؛ وقد يجد من تلك القلوب تصديقاً يكذبونه بألسنتهم، مثلما قال الحق سبحانه :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.. " ١٤ " ﴾( سورة النمل )
فهم أمة بلاغة ولغة وبيانٍ ؛ وقد أثر فيهم القرآن بحلاوته وطلاوته ؛ ولكنه العناد، وهاهو واحد منهم يقول : " إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق ". لقد قال ذلك كافر بالرسول والرسالة.
ونعلم أن الذين استمعوا إلى القرآن نوعان ؛ والحق سبحانه هو القائل عن أحدهما :
﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم " ١٦ " ﴾ ( سورة محمد )أي : أن قوله لا يعجبهم وما يتلوه عليهم لا يستحق السماع، فقال الحق سبحانه رداً عليهم :﴿ قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. " ٤٤ " ﴾( سورة فصلت ).
وهي مسألة كما أقول دائماً تتعلق بالقابل الذي يستقبل الحدث ؛ إما أن يصفي قلبه ليستقبل القرآن ؛ وإما أن يكون قلبه والعياذ بالله ممتلئاً بالكفر، فلا يستقبل شيئاً من كتاب الحق. وقد حدث أن ادخل الحق سبحانه كتبه السماوية في قلوب الأقوام السابقة على رسول الله، ولكنهم لفساد ضمائرهم وظلمة عقولهم ؛ سخروا من تلك الكتب، ولم يؤمنوا بها.
ونعلم أن الإضافة تختلف حسب ما يقتضيه التعبير. ف ( سنة الأولين )تعني الأمور الكونية التي قدرها الله لعباده. و( سنة الله )تعني سنة منسوبة لله، ومن سنن الحق سبحانه أن يهلك المكذبين للرسل إن طلبوا آية فجاءتهم، ثم واصلوا الكفر.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم ساحراً لسحرهم، وجعلهم جميعاً مؤمنين، وعلى الرغم من أن مثل هذا الأمر كان يجب أن يكون بديهياً بالنسبة لهم، لكنهم يتمادون في الكفر، ويقولون : إنه لو نزل سلماً من السماء وصعدوا عليه ؛ لكان ذلك بفعل السحر ؛ ولكان رسول الله هو الذي سحرهم ؛ وأعمى أبصارهم، ولجعلهم يتوهمون ذلك.
وكأن معنى هذا القول الكريم : لو ارتقينا في مطلبهم، وأنزلنا لهم سلماً يصعدون به إلى أعلى ؛ ليقولوا : إن الحق هو الذي بعث محمداً بالرسالة، بدلاً من أن ينزل إليهم ملك حسب مطلبهم ؛ لما آمنوا بل لقالوا : إن هذا من فعل سحر قام به محمد ضدهم. وهكذا يرتقون في العناد والجحود.
ولابد أن نلحظ أن الحق سبحانه قد جاء هنا بكلمة :﴿ فظلوا " ١٤ " ﴾( سورة الحجر )
ولم يقل " وكانوا "، ذلك أن " كان " تستخدم لمطلق الزمن، و " ظل " للعمل نهاراً، و " أمسى " للعمل ليلاً، أي : أن كل كلمة لها وقت مكتوب، والمقصود من " ظلوا " هنا أن الحق سبحانه لن ينزل لهم السلم الذي يعرجون عليه إلا في منتصف النهار، ولكنهم أصروا على الكفر.
لذلك قال سبحانه :
﴿ فظلوا فيه يعرجون " ١٤ " ﴾( سورة الحجر )أي : لن نأخذهم بالليل، حتى لا يقولوا إن الدنيا كانت مظلمة ولم نر شيئاً، ولكنه سيكون في وضح النهار. أي : أن الله حتى لو فتح باباً في السماء يصعدون منه إلى الملأ الأعلى في وضح النهار لكذبوا.
والمعنى الجامع لكل هذا هو الزينة الملفتة بجرمها العالي ؛ وقد تكون ملفتة بجمالها الأخاذ.
والبروج هي جمع برج ؛ وهي منازل الشمس والقمر ؛ فكلما تحركت الشمس في السماء تنتقل من برج إلى آخر ؛ وكذلك القمر، مصداقاً لقول الحق سبحانه :﴿ كل في فلكٍ يسبحون " ٣٣ " ﴾( سورة الأنبياء )
وهو سبحانه القائل :﴿ هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب " ٥ " ﴾( سورة يونس )أي : لنضبط كل التوقيتات على ضوء تلك الحركة لكل من الشمس والقمر، ونحن حين نفتح أي جريدة نقرأ ما يسمى بأبواب الطالع، وفيه أسماء الأبراج : برج الحمل، وبرج الجدي، وبرج العذراء ؛ وغيرها، وهي أسماء سريانية للمنازل التي تنزلها أبراج النجوم. ويقول الشاعر :
حمل الثور جوزة السرطان عقرب القوس جدي دلو ورعى الليث سنبل الميزان وحوت ما عرفنا من أمه السريان.
وهم اثنا عشر برجاً، ولكل برج مقاييس في الجو والطقس. وحين نقرأ القرآن نجد قول الحق سبحانه :﴿ وعلامات وبالنجم هم يهتدون " ١٦ " ﴾( سورة النحل )والبعض يحاول أن يجد تأثيراً لكل برج على المواليد الذين يولدون أثناء ظهور هذا البرج، ولعل من يقول ذلك يصل إلى فهم لبعض من أسرار الله في كونه ؛ ذلك أنه سبحانه قد أقسم بمواقع النجوم، وقال :﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم " ٧٥ " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " ٧٦ " ﴾( سورة الواقعة )
وهناك من يقول : إن لكل إنسان نجماً يولد معه ويموت معه ؛ لذلك يقال " هوى نجم فلان "، ونحن لا نجزم بصحة أو عدم صحة مثل هذه الأمور ؛ لأنه لم تثبت علمياً، والحق سبحانه أعلم بأسراره، وقد يعلمها لبعض من خلقه.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد قول الحق سبحانه :﴿ ولقد جعلنا في السماء بروجاً.. " ١٦ " ﴾( سورة الحجر )أي : أن هناك تأكيداً لوجود تلك البروج في السماء، وليس هذا الجعل لتأثيرها في الجو، أو لأنها علامات نهتدي بها، فضلاً عن تأثيرها على الحرارة والرطوبة والنباتات، ولكنها فوق كل ذلك تؤدي مهمة جمالية كبيرة، وهي أن تكون زينة لكل من ينظر إليها. لذلك قال الحق سبحانه :﴿ وزيناها للناظرين " ١٦ " ﴾( سورة الحجر )ذلك أن الشيء قد يكون نافعاً ؛ لكن ليس له قيمة جمالية ؛ وشاء الحق سبحانه أن يجعل للنجوم قيمة جمالية، ذلك أنه قد خلق الإنسان، ويعلم أن لنفسه ملكاتٍ متعددة، وكل ملكةٍ لها غذاء.
فغذاء العين المنظر الجميل ؛ والأذن غذاؤها الصوت الجميل، والأنف غذاؤه الرائحة الطيبة ؛ واللسان يعجبه المذاق الطيب، واليد يعجبها الملمس الناعم ؛ وهذا ما نعرفه من غذاء الملكات للحواس الخمس التي نعرفها.
وهناك ملكات أخرى في النفس الإنسانية ؛ تحتاج كل منها إلى غذاء معين، وقد يسبب أخذ ملكة من ملكات النفس لأكثر المطلوب لها من غذاء أن تفسد تلك الملكة ؛ وكذلك قد يسبب الحرمات لملكة ما فساداً تكوينياً في النفس البشرية.
والإنسان المتوازن هو من يغذي ملكاته بشكل متوازن، ويظهر المرض النفسي في بعض الأحيان نتيجة لنقص غذاء ملكة ما من الملكات النفسية، ويتطلب علاج هذا المرض رحلة من البحث عن الملكة الجائعة في النفس البشرية.
وهكذا نجد في النفس الإنسانية ملكة لرؤية الزينة، وكيف تستميل الزينة النفس البشرية ؟ ونجد المثل الواضح على ذلك هو وجود مهندسي ديكور يقومون بتوزيع الإضاءة في البيوت بأشكال فنية مختلفة. ولذلك يقول الحق سبحانه عن أبراج النجوم :﴿ وزيناها للناظرين " ١٦ " ﴾( سورة الحجر )
ونجده سبحانه يقول عن بعض نعمه التي أنعم بها علينا :﴿ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة.. " ٨ " ﴾( سورة النحل )وهكذا يمتن علينا الحق سبحانه بجمال ما خلق وسخره لنا، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل هي في خدمة الإنسان في أمور أخرى :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم " ٧ " ﴾( سورة النحل )وهو سبحانه وتعالى الذي جعل تلك الدواب لها منظر جميل ؛ فهو سبحانه القائل :﴿ ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " ٦ " ﴾( سورة النحل )
وهو سبحانه لم يخلق النعم لنستخدمها فقط في أغراضها المتاحة ؛ ولكن بعضاً منها يروي أحاسيس الجمال التي خلقها فينا سبحانه. وكلما تأثرنا بالجمال وجدنا الجميل، وفي توحيده تفريد لجلاله.
﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم.. " ١٢١ " ﴾( سورة الأنعام )ولذلك نجد الشياطين تقول ما ذكره الحق سبحانه على ألسنتهم في كتابه العزيز :﴿ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا " ٨ " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " ٩ " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا " ١٠ " ﴾( سورة الجن )
وهكذا علمنا أنهم كانوا يسترقون السمع ؛ ويأخذون بضعاً من كلمات المنهج ويزيدون عليها ؛ فتبدو بها حقيقة واحدة وألف كذبة. وشاء الحق سبحانه أن يكذب ذلك ؛ فقال :
﴿ وحفظناها من كل شيطان رجيمٍ " ١٧ " ﴾( سورة الحجر )
والشيطان كما نعلم هو عاصي الجن.
لكن إن كان هناك أحد في المنزل ؛ فاللص يتحرك في استخفاء ؛ خوفاً من أن يضبطه من يوجد في المنزل ليحفظه ؛ وهكذا يكون معنى " استرق " الحصول على السرقة مقرونة بالخوف.
وقد كان العاصون من الجن قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترقون السمع للمنهج المنزل على الرسل السابقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ واختلف الأمر بعد رسالته الكريمة ؛ حيث شاء الحق سبحانه أن يحرس السماء ؛ وما أن يقترب منها شيطان حتى يتبعه شهاب ثاقب.
والشهاب هو النار المرتفعة ؛ وهو عبارة عن جذوة تشبه قطعة الفحم المشتعلة ؛ ويخرج منه اللهب. وهو ما يسمى بالشهاب.
أما إذا كان اللهب بلا ذؤابة من دخان ؛ فهذا اسمه " السموم ". وإن كان الدخان ملتوياً، ويخرج منه اللهب، ويموج في الجو فيسمى " مارج " حيث قال الحق سبحانه :﴿ مارج من نارٍ " ١٥ " ﴾( سورة الرحمن )وهكذا نجد السماء محروسة بالشهب والسموم ومارج من نار.
وهذه هي اللفتة التي يلفتنا لها الحق سبحانه ؛ فلو كانت الأرض مربعة ؛ أو مستطيلة ؛ أو مثلثة ؛ لوجدنا لها نهاية وحافة، لكنا حين نسير في الأرض نجدها ممتدة، ولذلك فهي لابد وأن تكون مدورة.
وهم يستدلون في العلم التجريبي على أن الأرض كروية بأن الإنسان إذا ما سار في خط مستقيم ؛ فلسوف يعود إلى النقطة التي بدأ منها، ذلك أن منحنى الأرض مصنوع بدقة شديدة قد لا تدرك العين مقدار الانحناء فيه ويبدو مستقيماً.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ وألقينا فيها رواسي " ١٩ " ﴾( سورة الحجر ).
يعني أشياء تثبتها. ولقائل أن يتساءل : مادامت الأرض مخلوقة على هيئة الثبات فهل كانت تحتاج إلى مثبتات ؟.
ونقول : لابد أن الحق سبحانه قد خلقها متحركة وعرضة لأن تضطرب ؛ فخلق لها المثقلات، وهكذا نكون قد أخذنا من هذه الآية حقيقتين ؛ التكوير والدوران. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه :
﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " ٨٨ " ﴾( سورة النمل )
ونفهم من هذا القول الكريم أن حركة الجبال ليست ذاتية بل تابعة لحركة الأرض ؛ كما يتحرك الحساب تبعاً لحركة الرياح.
وشاء سبحانه أن يجعل الجبال رواسي مثبتات للأرض كي لا تميد بنا ؛ فلا تميل يمنة أو يسرة أثناء حركتها. ويقول الحق سبحانه :﴿ وأنبتنا فيها من كل شيءٍ موزونٍ " ١٩ " ﴾( سورة الحجر )وأنبت سبحانه من الأرض كل شيء موزون بدقة تناسب الجو والبيئة، ويضم العناصر اللازمة لاستمرار الحياة.
وحين نحتاج إلى أي شيء مخزون في أسرار الكون ؛ فنحن نعمل عقولنا الممنوحة لنا من الله لنكتشف هذا الشيء. والمثل هو الوقود وكنا قديماً نستخدم خشب الأشجار والحطب. وسبحانه هو القائل :﴿ أفرأيتم النار التي تورون " ٧١ " أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون " ٧٢ " ﴾( سورة الواقعة )واتسعت احتياجات البشر فاكتشفوا الفحم الذي كان أصله نباتاً مطموراً أو حيواناً مطموراً في الأرض ؛ ثم اكتشف البترول، وهكذا.
أي : أنه سبحانه لن ينشئ فيها جديداً، بل أعد سبحانه كل شيء في الأرض، وقدر فيها الأقوات من قبل أن ينزل آدم عليه السلام إلى الأرض من جنة التدريب ليعمر الأرض، ويكون خليفة لله فيها، هو وذريته كلها إلى أن تقوم الساعة.
فإذا شكونا من شيء فهذا مرجعه إلى التكاسل وعدم حسن استثمار ما خلقه الله لنا وقدره من أرزاقنا في الأرض. ونرى التعاسة في كوكب الأرض رغم التقدم العلمي والتقني ؛ ذلك أننا نستخدم ما كنزه الحق سبحانه ليكون مجال سعادة لنا في الحروب والتنافر.
ولو أن ما يصرف على الحروب ؛ تم توجيهه إلى تنمية المجتمعات المختلفة لعاش الجميع في وفرة حقيقية. ولكن سوء التنظيم وسوء التوزيع الذي نقوم به نحن البشر هو المسبب الأول لتعاسة الإنسان في الأرض ؛ ذلك أنه سبحانه قد جعل الأرض كلها للأنام، فمن يجد ضيقاً في موقع ما من الأرض فليتجه إلى موقع آخر.
ولكن العوامل السياسية وغير ذلك من الخلافات بين الناس تجعل في أماكن في الأرض ؛ رجالاً بلا عمل ؛ وتجعل في أماكن أخرى ثروة بلا استثمار ؛ ونتجاهل قوله سبحانه :﴿ وإن من شيءٍ إلا عندنا خزائنه.. " ٢١ " ﴾( سورة الحجر ).
فلكل شيء في الأرض خزائن ؛ والخزينة هي المكان الذي تدخر فيه الأشياء النفيسة، والكون كله مخلوق على هيئة أن الحق سبحانه قدر في الأرض أقواتاً لكل الكائنات من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة.
فإن حدث تضييق في الرزق فاعلموا أن حقاً من حقوق الله قد ضيع، إما لأنكم أهملتم استصلاح الأرض وإحياء مواتها بقدر ما يزيد تعداد السكان في الأرض، وإما أنكم قد كنزتم ما أخذتم من الأرض، وضننتم بما اكتنزتموه على سواكم.
فإن رأيت فقيراً مضيعاً فاعلم أن هناك غنياً قد ضن عليه بما أفاض الله على الغني من رزق، وإن رأيت عاجزاً عن إدراك أسباب حياته فاعلم أن واحداً آخر قد ضن عليه بقوته. وإن رأيت جاهلاً فاعلم أن عالماً قد ضن عليه بعلمه. وإن رأيت أخرق فاعلم أن حكيماً قد ضن عليه بحكمته ؛ فكل شيء مخزون في الحياة ؛ حتى تسلم حركة الحياة ؛ سلامة تؤدي إلى التساند والتعاضد ؛ لا إلى التعاند والتضارب.
ونعلم أنه سبحانه قد أعد لنا الكون بكل ما فيه قبل أن يخلقنا ؛ ولم يكلفنا قبل البلوغ ؛ ذلك أن التكليف يحدد اختيار الإنسان لكثير من الأشياء التي تتعلق بكل ملكات النفس ؛ قوتاً ومشرباً وملبساً ومسكناً وضبطاً للأهواء، كي لا ننساق في إرضاء الغرائز على حساب القيم.
وشاء سبحانه ألا يكون التكليف إلا بعد البلوغ ؛ حتى يستوفي ملكات النفس القوة والاقتدار، ويكون قادراً على إنجاب مثيل له، ولكي يكون هذا التكليف حجة على الإنسان، هذا الذي طمر له الحق سبحانه كل شيء إما في الأرض ؛ أو كان طمراً في النوع، أو في الجنس.
وكل شيء في الكون موزون، إما أن يكون جنساً، أو نوعاً، أو أفراداً ؛ والميزان الذي توجد به كل تلك العطاءات ؛ إنما شاء به الحق سبحانه أن يهب الرب للكل ؛ وليوافق الكثرة ؛ وليعيش الإنسان في حضن الإيمان. وهكذا يكون عطاء الله لنا عطاء ربوبية، وعطاء ألوهية، والذكي حقاً هو من يأخذ العطاءين معاً لتستقيم حياته.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً " ١٠٠ " ﴾( سورة الإسراء ).
ومن يفعل ذلك إنما يفعل في ظاهر الأمر أنه يؤثر الغير على نفسه ؛ ولكن الواقع الحقيقي أنه يطمع فيما أعده الله له من حسن جزاء في الدنيا وفي الآخرة.
إذن : فأصل العملية الدينية أيضاً هو الذات ؛ ولذلك نجد من يقول : أنا احب الإيمان ؛ لأن فيه الخيرية، يقول الحق سبحانه :﴿ وإنه لحب الخير لشديد " ٨ " ﴾( سورة العاديات )
ونعلم أن الحق سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم أثرياء ؛ ولم يجعل يداً عليا ويداً سفلى، لكنه سبحانه لم يشأ ذلك ؛ ليجعل الإنسان ابن أغيار ؛ ويعدل فيه ميزان الإيمان، وليدك غرور الذات على الذات، وليتعلم الإنسان أن غروره على ربه لن ينال من الله شيئاً، ولن يأتي للإنسان بأي شيء.
وكل مظاهر القوة في الإنسان ليست من عند الإنسان، وليست ذاتية فيه، بل هي موهوبة له من الله ؛ وهكذا شاء الحق سبحانه أن يهذب الناس ليحسنوا التعامل مع بعضهم البعض.
ولذلك أوضح سبحانه أن عنده خزائن كل شيء، ولو شاء لألقى ما فيها عليهم مرة واحدة ؛ ولكنه لم يرد ذلك ليؤكد للإنسان أنه ابن أغيارٍ ؛ وليلفتهم إلى معطي كل النعم.
كما أن رتابة النعمة قد تنسي الإنسان حلاوة الاستمتاع بها، وعلى سبيل المثال أنت لا تجد إنساناً يتذكر عينه إلا إذا آلمته ؛ وبذلك يتذكر نعمة البصر، بل وقد يكون فقد النعمة هو الملفت للنعمة، وذلك لكي لا ينسي أحد أنه سبحانه هو المنعم.
وهكذا يكون كل مكان ؛ هو موقع لإرسال الرياح ؛ وكل مكان هو موقع لاستقبالهم ؛ ولذلك نجد الرياح وهي تسير في دورة مستمرة ؛ ولو سكنت لما تحرك الهواء، ولأصيبت البشرية بالكثير من الأرض ؛ ذلك أن الرياح تجدد الهواء، وتنظف الأمكنة من الركود الذي يمكن أن تصير إليه.
ونعلم أن القرآن حين يتكلم عن الرياح بصيغة الجمع فهو حديث عن خير، والمثل هو قول الحق سبحانه :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته " ٥٧ " ﴾( سورة الأعراف )أما إذا أفرد وجاء بكلمة " ريح " فهي للعذاب، مثل قوله :﴿ وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية " ٦ " ﴾( سورة الحاقة )
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح " ٢٢ " ﴾( سورة الحجر )
ولواقح جمع لاقحة، وتطلق في اللغة مرة على الناقة التي في بطنها جنين ؛ ومرة تطلق على اللاقح الذي يلقح الغير ليصير فيه جنين ؛ لأن الحق سبحانه شاء أن يتكاثر كل ما في الكون ؛ وجعل من كل زوجين اثنين ؛ إما يتكاثر أو تتولد منه الطاقة ؛ كالسالب والموجب في الكهرباء. وهو القائل سبحانه :
﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها.. " ٣٦ " ﴾( سورة يس )ثم عدد لنا فقال :﴿ مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " ٣٦ " ﴾( سورة يس )وهناك أشياء لا يدركها الإنسان مثل شجرة الجميز ؛ التي لا يعلم الشخص الذي لم يدرس علم النبات كيف تتكاثر لتنبت وتثمر، ويعلم العالم أن هناك شجرة جميز تلعب دور الأنثى، وشجرة أخرى تلعب دور الذكر.
وكذلك شجرة التوت ؛ وهناك شجرة لا تعرف فيه الأنثى من الذكر ؛ لأنه مكمور توجد به الأنثى والذكر، وقد لا تعرف أنت ذلك ؛ لأن الحق سبحانه جعل اللقاحة خفيفة للغاية ؛ لتحملها الريح من مكان إلى مكان.
ونحن لم نر كيف يتم لقاح شجرة الزيتون ؛ أو شجرة المانجو، أو شجرة الجوافة، وذلك لنأخذ من ذلك عبرة على دقة صنعته سبحانه.
والمثل الذي أضربه دائماً هو المياه التي تسقط على جبلٍ ما ؛ وبعد أيام قليلة تجد الجبل وقد امتلأ بالحشائش الخضراء ؛ ومعنى هذا أن الجبل كانت توجد به بذور تلك الحشائش التي انتظرت الماء لتنبت.
وتعرف العلماء على أن الذكورة بعد أن تنضج في النبات فهي تنكشف وتنتظر الرياح والجو المناسب والبيئة المناسبة لتنقلها من مكان إلى مكان.
ولهذا نجد بعضاً من الجبال وهي خضراء بعد هبوب الرياح وسقوط المطر ؛ ذلك أن حبوب اللقاح انتقلت بالرياح، وجاء المطر لتجد النباتات فرصة للنمو.
وقد تجد جبلاً من الجبال نصفه أخضر ونصفه جدب ؛ لأن الرياح نقلت للنصف الأخضر حبوب اللقاح، ولم تنقل الحبوب للنصف الثاني من الجبل ؛ ولذلك نجد الحق سبحانه قد جعل للرياح دورة تنتقل بها من مكان لمكان، وتدور فيها بكل الأماكن.
ويتابع سبحانه في نفس الآية :﴿ فأنزلنا من السماء ماءً.. " ٢٢ " ﴾( سورة الحجر )
وقد تبين لنا أن المياه نفسها تنشأ من عملية تلقيح ؛ وبه ذكورة وأنوثة. وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه :﴿ فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين " ٢٢ " ﴾( سورة الحجر )أي : أنكم لن تخزنوا المياه لأنكم غير مأمونين عليه، وإذا كان الله قد هدانا إلى أن نخزن المياه، فذلك من عطاء الله ؛ فلا يقولن أحد : لقد بنينا السدود ؛ بل قل : هدانا الله لنبنيه ؛ بعد أن يسقط المطر ؛ ذلك أن المطر لو لم يسقط لما استطعنا تخزين المياه.
وعلى هذا يكون سبحانه هو الذي خزن المياه حين أنزله من السماء بعد أن هدانا لنبني السدود.
وأنت حين تريد كوباً من الماء المقطر ؛ تذهب إلى الصيدلي ليسخن الماء في جهاز معين ؛ ويحوله إلى بخار، ثم يكثف هذا البخار ليصير ماء مقطراً، وكل ذلك يتم في الكون، وأنت لا تدري به.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يكون الكلام عن الموت الذي يحدث بعد أن يهبنا الله الحياة، ثم نقضي ما كتبه لنا من أجل. ثم يذيل الحق سبحانه الآية بقوله :
﴿ ونحن الوارثون " ٢٣ " ﴾( سورة الحجر )وهذا القول يعني أن هناك تركة كبيرة ؛ وهي هذا الكون الذي خلقه سبحانه ليستخلفنا فيه. ونحن لم نضف شيئاً لهذا الكون الذي خلقه الله ؛ لأنك إن نظرت إلى كمية المياه أو الغذاء التي في الكون، وكل مقومات الحياة لما وجدت شيئاً يزيد أو ينقص ؛ فالماء تشربه ليرويك، ثم يخرج عرقاً وبولاً ؛ ومن بعد الموت يتحلل الجسم ليتبخر منه الماء، وهذا يجري على كل الكائنات.
وحين يتناول الحق سبحانه في هذه الآية أمر الموت والحياة وعودة الكون في النهاية إلى منشئه سبحانه ؛ فهو يحدثنا عن أمرين يعتريان حياة كل موجود ؛ هما الحياة والموت، وكلاهما يجري على كل الكائنات ؛ فكل شيء له مدة يحياها، وأجل يقضيه.
وكل شيء يبدأ مهمة في الحياة فهو يولد ؛ وكل شيء ينهي مهمته في الحياة بحسب ما قدره الله له فهو يموت ؛ وإن كنا نحن البشر بحدود إدراكنا لا نعي ذلك. وهو سبحانه القائل :
﴿ كل شيءٍ هالك إلا وجهه " ٨٨ " ﴾( سورة القصص )
إذن : فكل شيء يطلق عليه " شيء " مصيره إلى هلاك ؛ ومعنى ذلك أنه كان حياً ؛ ودليلنا على أنه كان حياً هو قول الحق :﴿ ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيى من حي عن بينةٍ.. " ٤٢ " ﴾( سورة الأنفال )
وهكذا نعلم أن كل ما له مهمة في الحياة له حياة تناسبه ؛ وفور أن تنتهي المهمة فهو يهلك ويموت، والحق سبحانه وتعالى يرث كل شيء بعد أن يهلك كل من له حياة، وهو سبحانه القائل :
﴿ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون " ٤٠ " ﴾( سورة مريم )وهو بذلك يرث التارك والمتروك ؛ وهو الخالق لكل شيء. ويختلف ميراث الحق سبحانه عن ميراث الخلق ؛ بأن المخلوق حين يرث آخر ؛ فهو يودعه التراب أولاً، ثم يرث ما ترك ؛ أما الحق سبحانه فهو يرث الاثنين معاً، المخلوق وما ترك.
ولذلك نحن نرى من يعز عليهم ميت ؛ قد يمسكون بالخشبة التي تحمل الجثة، ويرفضون من فرط المحبة أن تخرج من منزله ؛ ولو تركناه لهم لمدة أسبوع ورمت الجثة ؛ سيتوسلون لمن يحمل الجثث أن يحمله ليواريه التراب، ثم يبدأون في مناقشة ما يرثونه من الفقيد.
وهم بذلك يرثون المتروك بعد أن أودعوا التارك للتراب، وإذا كان التارك من الذين أحسنوا الإيمان والعمل فيدخل حياة جديدة هي أرغد بالتأكيد من حياته الدنيا ؛ ولسوف يأكل ويشرب دون أن يتعب، وكل ما تمر على ذهنه رغبة فهي تتحقق له، فهو في ضيافة المنعم الأعلى.
وهناك من يقول إن هناك معنى آخر ؛ بأن الحق سبحانه يكتب من يسرع إلى الصلاة ويتقدم إليها فور أن يسمع النداء لها، ويعلم من يتأخر عن القيام بأداء الصلاة، ذلك أن تأثير كلمة " الله اكبر " فيها من اليقظة والانتباه ما يذكرنا بأن الله اكبر من كل ما يشغلك.
ونعلم أن من إعجازات الأذان أنه جعل النداء باسم " الله اكبر " ؛ ولم يقل : الله كبير ؛ وذلك احتراماً لما يشغلنا في الدنيا من موضوعات قد نراها كبيرة ؛ ذلك أن الدنيا لا يجب أن تهان ؛ لأنها المعبر إلى الجزاء القادم في الآخرة.
ولذلك أقول دائماً : إن الدنيا أهم من أن تنسى ؛ وفي نفس الوقت هي أتفه من أن تكون غاية، فأنت في الدنيا تضرب في الأرض وتسعى لقوتك وقوت من تعول ؛ وليعينك هذا القوت على العبادة.
لذلك فلا يحتقر أحد الدنيا ؛ بل ليشكر الله ويدعوه أن يوفقه فيها، وأن يبذل كل جهد في سبيل نجاحه في عمله ؛ فالعمل الطيب ينال عليه العبد حسن الجزاء ؛ وفور أن يسمع المؤمن " الله اكبر " ؛ فعليه أن يتجه إلى من هو اكبر فعلاً، وهو الحق سبحانه، وأن يؤدي الصلاة. هذا هو المعنى المستقي من المستقدم للصلاة والمستأخر عنها.
وهناك من العلماء من رأى ملاحظ شتى في الآية الكريمة فمعناها قد يكون عاماً يشمل الزمن كله ؛ وقد تكون بمعنى خاص كمعنى المستقدم للصلاة والمستأخر عنها.
وقد يكون المعنى أشد خصوصية من ذلك ؛ فنحن حين نصلي نقف صفوفاً، ويقف الرجال أولاً ؛ ثم الأطفال ؛ ثم النساء ؛ ومن الرجال من يتقدم الصفوف كيلا تقع عيونه على امرأة ؛ ومنهم من قد يتحايل ويقف في الصفوف الأخيرة ليرى النساء ؛ فأوضح الحق سبحانه أن مثل هذه الأمور لا تفوت عليه، فهو العالم بالأسرار وأخفى منها.
أو : أن يكون المعنى هو المستقدمين إلى الجهاد في سبيل الله أو المتأخرين عن الجهاد في سبيله. ومن يموت حتف أنفه أي : على فراشه لا دخل له بهذه المسألة.
أما إن دعا داعي الجهاد، ويقدم نفسه للحرب ويقاتل وينال الشهادة، فالحق سبحانه وتعالى يعلم من تقدم إلى لقائه محبة وجهاداً لرفعة شأن الدين.
وقد يكون في ظاهر الأمر وفي عيون غيره ممن يكرهون الحياة ؛ ولكنه في حقيقة الأمر محب للحياة بأكثر ممن يدعون حبها ؛ لأنه امتلك اليقين الإيماني بأن خالق الدنيا يستحق أن ينال الجهاد في سبيل القيم التي أرادها منهاجاً ينعدل به ميزان الكون ؛ وإن استشهد فقد وعده سبحانه الخلد في الجنة ونعيمها.
ونجد أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادع لي يا رسول الله أن استشهد ؛ فيرد عليه النبي الكريم : " متعنا بنفسك يا أبا بكر ".
وعلى ذلك لا يكون المستأخر هنا محل لوم ؛ لأن الإيمان يحتاج لمن يصونه ويثبته ؛ كما يحتاج إلى من يؤكد أن الإيمان بالله أعز من الحياة نفسها ؛ وهو المتقدم للقتال، وينال الشهادة في سبيل الله.
فهم كانوا قد غفلوا عن الإعداد لما بعد الموت، وكأنهم يشكون في أنه قادم، وجاء لهم بخبر الموت كأمر حتمي، وسبقته ( هو )لتؤكد أنه سوف يحدث، فالحشر منسوب لله سبحانه، وهو قادر عليه، كما قدر على الإحياء من عدم، فلا وجه للشك أو الإنكار.
ثم جاء لهم بخبر البعث الذي يشكون فيه ؛ وهو أمر سبق وأن ساق عليه سبحانه الأدلة الواضحة. ولذلك جاء بالخبر المصحوب بضمير الفصل :﴿ يحشرهم " ٢٥ " ﴾( سورة الحجر )وسبحانه يجري الأمور كلها بحكمة واقتدار، فهو العليم بما تتطلبه الحكمة علماً يحيط بكل الزوايا والجهات.
وجاء سبحانه بخبر الخلق في هذه السورة التي تضمنت خبر مد الأرض ؛ ومجيء الرياح، وكيفية إنزال الماء من السماء ؛ وكيف قدر في الأرض الرزق، وجعل في الأرض رواسي، وجعل كل شيء موزوناً.
وهو سبحانه قد استهل السورة بقوله :﴿ تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " ١ " ﴾( سورة الحجر )أي : أنه افتتح السورة بالكلام عن حارس القيم للحركة الإنسانية ؛ ثم تكلم عن المادة التي منها الحياة ؛ وبذلك شمل الحديث الكلام عن المقوم الأساسي للقيم وهو القرآن، والكلام عن مقوم المادة ؛ وكان ذلك أمراً طبيعياً ؛ ودللت عليه سابقاً بحديثي عن مصمم أي جهاز من الأجهزة الحديثة ؛ حيث يحدد أولاً الغرض منه ؛ ثم يضع جدولاً وبرنامجاً لصيانة كل جهاز من تلك الأجهزة.
وهكذا كان خلق الله للإنسان الذي شاء له سبحانه أن يكون خليفته في الأرض، ووضع له مقومات مادة ومقومات قيم ؛ وجاء بالحديث عن مقومات القيم أولاً ؛ لأنها ستمد حياة الإنسان لتكون حياة لا تنتهي، وهي الحياة في الدنيا والآخرة.
وهذا القول يوضح لنا أن آدم ليس هو أول من استعمر الأرض ؛ بل كان هناك خلق من قبل آدم، فإذا حدثنا علماء الجيولوجيا والحفريات عن أن هناك ما يدل على وجود بعض من الكائنات المطمورة تثبت أنه كانت هناك حياة منذ خمسين ألف قرن من الزمان.
فنحن نقول له : إن قولك صحيح.
وحين يسمع البعض قول هؤلاء العلماء يقولون : لابد أن تلك الحيوانات كانت موجودة في زمن آدم عليه السلام، وهؤلاء يتجاهلون أن الحق سبحانه لم يقل لنا أن آدم هو أول من عمر الأرض، بل شاء سبحانه أن يخلقنا ويعطينا مهمة الاستخلاف في الأرض.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلقٍ جديدٍ " ١٦ " وما ذلك على الله بعزيزٍ " ١٧ " ﴾
( سورة فاطر )أي : أن خلق غيرنا أمر وارد، وكذلك الخلق من قبلنا أمر وارد.
ونعلم أن خلق آدم قد أخذ لقطات متعددة في القرآن الكريم ؛ تؤدي في مجموعها إلى القصة بكل أحداثها وأركانها، ولم يكن ذلك تكراراً في القرآن الكريم، ولكن جاء القرآن بكل لقطة في الموقع المناسب لها ؛ ذلك أنه ليس كتاب تاريخ للبشر ؛ بل كتاب قيم ومنهج، ويريد أن يؤسس في البشر القيم التي تحميهم وتصونهم من أي انحراف، ويريد أن يربي فيهم المهابة.
وقد تناول الحق سبحانه كيفية خلق الإنسان في الكثير من سور القرآن : البقرة ؛ الأعراف ؛ الحجر ؛ الإسراء ؛ الكهف ؛ وسورة ص.
قال سبحانه على سبيل المثال في سورة البقرة :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " ٣٠ " ﴾( سورة البقرة ).
وجاء هذا القول من الله للملائكة ساعة خلق الله لآدم، من قبل أن تبدأ مسألة نزول آدم للأرض.
وقد أخذت مسألة خلق الإنسان جدلاً طويلاً من الذين يريدون أن يستدركوا على القرآن متسائلين : كيف يقول مرة : إن الإنسان مخلوق من ماء ؛ ومرة من طين ؛ ومرة من صلصال كالفخار ؟
ونقول : إن ذلك كله حديث عن مراحل الخلق، وهو سبحانه أعلم بمن خلق، كما خلق السماوات والأرض، ولم يشهد الحق أحداً من الخلق كيف خلق المخلوقات :
﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً " ٥١ " ﴾( سورة الكهف )ومن رحمته سبحانه أنه ترك في محسات الحياة وماديتها ما يثبت صدقه في غيبياته ؛ فإذا قال مرة : إنه خلق كل شيء من الماء ؛ فهو صادق فيما قال ؛ لأن الماء يكون أغلب الجسد البشري على سبيل المثال.
وإذا أوضح أنه خلق الإنسان من طين، فالتراب إذا اختلط بالماء صار طيناً، وإذا مر على الطين وقت صار صلصالاً، وإذا قال :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ٢٩ " ﴾( سورة الحجر )
وكل هذا من الأمور الغيبية ؛ التي يشرحها لنا نقضها في الواقع المادي الملموس، فحين يحدث الموت وهو نقض الحياة نجد الروح هي أول ما يخرج من الجسم ؛ وكانت هي آخر ما دخل الجسم أثناء الخلق.
ومن بعد ذلك تبدأ الحيوية في الرحيل عن الجثمان ؛ فيتحول الجثمان إلى ما يشبه الصلصال ؛ ثم يتبخر الماء من الجثمان ؛ ليصير من بعد ذلك تراباً.
وهكذا نشهد في الموت نقض الحياة كيفية بدء مراحل الخلق وهي معكوسة ؛ فالماء أولاً ثم التراب ؛ ثم الطين ؛ ثم الصلصال الذي يشبه الحمأ المسنون ؛ ثم نفخ الروح. وقد صدق الحق سبحانه حين أوضح لنا في النقيض المادي، ما أبلغنا عنه في العالم الغيب.
وعلى ذلك أيضاً نجد أن الذين يضعون التكهنات بأن الشمس خلقت قبل الأرض ؛ وكانت الأرض جزءاً من الشمس ثم انفصلت عنها ؛ على هؤلاء أن يعلموا أن ما يقولونه هو أمر لم يشاهدوه، وهي أمور لا يمكن أن يدرسها أحد في معمل تجريبي ؛ وقد قال القرآن عن أهل هذا اللغو :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً " ٥١ " ﴾( سورة الكهف )وهم قد أعانوا على تأكيد إعجازية القرآن الذي أسماهم المضلين ؛ لأنهم يغوون الناس عن الحق إلى الباطل.
وهكذا نرى أن للعنصر تأثيراً في مقومات حياة الكائنات، فالمخلوق من طين له صفات الطينية، والمخلوق من نار له صفات النارية ؛ ولذلك كان قانون الجن أخف وأشد من قانون الإنس.
والحق سبحانه يقول :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم.. " ٢٧ " ﴾( سورة الأعراف )وهكذا نعلم أن قانون خلق الجن من عنصر النار التي لا لهب لها يوضح لنا أن له قدرات تختلف عن قدرات الإنسان.
ذلك أن مهمته في الحياة تختلف عن مهمة الإنسان، ولا تصنع له خيرية أو أفضلية، لأن المهام حين تتعدد في الأشياء ؛ تمنع المقارنة بين الكائنات.
والمثل على ذلك هو غلبة من عنده علم بالكتاب على عفريت الجن ؛ حين سأل سليمان عليه السلام عمن يأتيه بعرش بلقيس :﴿ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " ٣٨ " ﴾( سورة الحجر )وقال عفريت من الجن : إنه قادر على أن يأتي بالعرش قبل أن يقوم سليمان من مقامه، ولكن من عنده علم بالكتاب قال : إنه قادر على أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان ؛ وهكذا غلب من عنده علم بالكتاب قدرة عفريت الجن.
وقد قص علينا الحق سبحانه هذا في كتابه الكريم، فقال :﴿ قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين " ٣٩ " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي.. " ٤٠ " ﴾( سورة النمل ).
والتماثيل تكون على هيئة واحدة، ولا قدرة لها، عكس الإنسان المخلوق بيد الله، والذي يملك بفعل النفخ فيه من روح الله ما لا يملكه أي كائن صنعته مهارة الإنسان ؛ ذلك أن إعجاز وطلاقة قدرة الخالق لا يمكن أن تستوي مع قدرة المخلوق المحدودة.
وهناك حديث يقول فيه صلى الله عليه وسلم : " خلق الله عز وجل آدم على صورته، ستون ذراعاً ".
واختلف العلماء في مرجع الضمير في هذا الحديث ؛ أيعود إلى صورة آدم ؟ أم يعود إلى آدم ؟
فمن العلماء من قال : إن الضمير يعود إلى آدم ؛ بمعنى أن الله لم يخلقه طفلا، ثم كبر ؛ بل خلقه على الصورة الناضجة ؛ وتلفت آدم فوجد نفسه على تلك الصورة الناضجة ؛ وأنه لم يكن موجوداً من قبل ذلك بساعة ؛ لذلك تلفت إلى الموجد له.
والذين قالوا : إن الحق سبحانه خلق الإنسان على صورته، وأن الضمير يعود إلى الله ؛ فذلك لأن الحق قد جعل الإنسان خليفة له في الأرض ؛ وأعطاه من قدرته قدرة ؛ ومن علمه علماً ؛ ومن حكمته حكمة، ومن قاهريته قهراً.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " تخلقوا بأخلاق الله ".
فخلق آدم داخل في كينونته. يقول الحق :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون " ٥٩ " ﴾( سورة آل عمران )وأمام الكينونة ينتفي التعليل، ولم يبق إلا الإيمان بالخالق.
وقد اختلف العلماء في تعريف الروح، وأرى أنه من الأسلم عدم الخوض في ذلك الأمر ؛ لأن الحق سبحانه هو القائل :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " ٨٥ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقوله الحق :﴿ فقعوا له ساجدين " ٢٩ " ﴾( سورة الحجر )يعني أن عملية السجود قد حدثت بصورة مباشرة وحاسمة وسريعة، وكان سجودهم هو طاعة للآمر الأعلى ؛ لا طاعة لآدم.
وقول الحق سبحانه :﴿ فسجد الملائكة كلهم أجمعون " ٣٠ " ﴾( سورة الحجر )يعني الملائكة الأعلى من البشر، ذلك أن هناك ملائكة أعلى منهم ؛ وهم الملائكة المهيمون المتفرغون للتسبيح فقط.
وكان من الواجب أن يحكم هذا الجدل أمران :
الأمر الأول : أن النص سيد الأحكام.
والأمر الثاني : أن شيئاً لا نص فيه ؛ فنحن نأخذه بالقياس والالتزام. وإذا تعارض نص مع التزام ؛ فنحن نؤول الالتزام إلى ما يؤول النص.
وإذا كان إبليس قد عوقب ؛ فذلك لأنه استثنى من السجود امتناعاً وإباءً واستكباراً ؛ فهل هذا يعني أن إبليس من الملائكة ؟.
لا. ذلك أن هناك نصاً صريحاً يقول في الحق سبحانه :﴿ فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه.. " ٥٠ " ﴾( سورة الكهف )وهكذا حسم الحق سبحانه الأمر بأن إبليس ليس من الملائكة ؛ بل هو من الجن ؛ والجن جنس مختار كالإنس ؛ يمكن أن يطيع، ويمكن أن يعصي.
وكونه سمع الأمر بالسجود ؛ فمعنى ذلك أنه كان في نفس الحضرة للملائكة ؛ ومعنى هذا أنه كان من قبل ذلك قد التزم التزاماً يرفعه إلى مستوى الحضور مع الملائكة ؛ ذلك أنه مختار يستطيع أن يطيع، ويملك أن يعصي، ولكن التزامه الذي اختاره جعله في صفوف الملائكة.
وقالت كتب الأثر : إنهم كانوا يسمونه طاووس الملائكة مختالاً بطاعته، وهو الذي وهبه الله الاختيار، لأنه قدر على نفسه وحمل نفسه على طاعة ربه، لذلك كان مجلسه مع الملائكة تكريماً له ؛ لأنه يجلس مع الأطهار، لكنه ليس ملاكاً.
وبعض العلماء صنفوه بمستوى أعلى من الملائكة ؛ والبعض الآخر صنفه بأنه أقل من الملائكة ؛ لأنه من الجن ؛ ولكن الأمر المتفق عليه أنه لم يكن ملاكاً بنص القرآن، وسواء أكان أعلى أم أدنى، فقد كان عليه الالتزام بما يصدر من الحق سبحانه.
ونجد الحق سبحانه وهو يعرض هذه المسألة، يقول مرة ( أبى )، ومرة ( استكبر )، ومرة يجمع بين الإباء والاستكبار.
والإباء يعني أنه يرفض أن ينفذ الأمر بدون تعال. والاستكبار هو التأبي بالكيفية، وهنا كانت العقوبة تعليلاً لعملية الإباء والاستكبار، وكيف رد أمر الحق أورده سبحانه مرة بقول إبليس :
﴿ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصالٍ من حمأٍ مسنونٍ " ٢٣ " ﴾( سورة الحجر )
وقوله :﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ " ٧٦ " ﴾( سورة ص ).
ولنلحظ أن المتكلم هنا هو الله ؛ وهو الذي يعلم أنه خلق إبليس بخاصية الاختيار ؛ فله أن يطيع، وله أن يعصي. وهو سبحانه هنا يوضح ما علمه أزلاً عن إبليس ؛ وشاء سبحانه إبراز هذا ليكون حجة على إبليس يوم القيامة.
ثم من قال : إن النار افضل من الطين ؟ ونحن نعلم أنه لا يقال في شيء إنه افضل من الآخر إلا إذا استوت المصلحة فيهما ؛ والنار لها جهة استخدام، والطين له استخدام مختلف ؛ وأي منهما له مهمة تختلف عن مهمة الآخر.
ومن توجيه الله في فضائل الخلق أن من يطلي الأشياء بالذهب لا يختلف عنده سبحانه عن الذي يعجن الطين ليصنع منه الفخار، فلا يفضل أحدهما الآخر إلا بإتقان مهمته.
وهكذا أفصح إبليس أن الذي زين له عدم الامتثال لأمر السجود هو قناعته بأن هناك عنصراً افضل من عنصر.
وقد حدث ذلك لرده أمر الله سبحانه، واستكباره، ولقناعته أن النار التي خلق منها افضل من الطين الذي خلق منه آدم، ولم يلتفت إلى أن لكل مخلوق مهمة، وكل كائن يؤدي مهمته هو مساوٍ للآخر.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك ليزاول كل كائن الأسباب التي وجد من أجلها ؛ فآدم قد خلقه الله ليجعله خليفة في الأرض ؛ ذلك أنه سبحانه يباشر الأمر في السببيات بواسطة ما خلق.
فالنار على سبيل المثال تتسبب في إنضاج الطعام ؛ لأنه سبحانه هو الذي شاء ذلك، وجعلها سبباً في إنضاج الطعام. ومزاولة الحق سبحانه لأشياء كثيرة في المسببات معناه أن المخلوقات تؤدي المهام التي أرادها سبحانه لها في الوجود.
والمؤمن الحق هو من يرى في الأسباب التي في الكون ؛ أنها عطاء من الله، وأن يده ممدودة له بتلك الأسباب. وفي هذا القول ما يؤكد أن الجن أيضاً يموتون ؛ ولهم آجال مثلنا،
ولكن إبليس يحاول الالتفاف ؛.
ولو كان إبليس يملك ذرة من وعي لعلم أن الاستكبار والتوهم بأن عنصر النار افضل من الطين هما السبب وراء ما حاق به من الطرد.
ونقول : لم يكلمه الله تشريفاً أو تكريماً ؛ بل غلظ له العقاب، كما أن للحق سبحانه ملائكة يمكنهم أن يبلغوا ما شاء لمن شاء.
ويتابع إبليس :﴿ لأزينن لهم في الأرض.. " ٣٩ " ﴾( سورة الحجر )وفي هذا إيضاح أن كل وسوسة للشيطان تقتصر فقط على الحياة المترفة. وفي الأشياء التي تدمر العافية، كمن يشرب الخمر، أو يتناول المخدرات، أو يتجه إلى كل ما يغضب الله بالانحراف.
ولذلك نجد أن من يحيا بدخل يكفيه الضرورات ؛ فهو يأمن على نفسه من الانحراف. ونقول أيضاً لمن يحاولون أن يضبطوا موازينهم المالية : إن الاستقامة لا تكلف ؛ ولن تتجه بك إلى الانحراف.
وتزيين الشيطان لن يكون في الأمور الحلال ؛ لأن كل الضرورات لم يحرمها الحق سبحانه ؛ بل يكون التزيين دائماً في غير الضرورات، ولذلك فالاستقامة عملية اقتصادية، توفر على الإنسان مشقة التكلفة العالية من ألوان الإسراف.
ولذلك نجد المسرفين على أنفسهم يحسدون من هم على الاستقامة، ويحاولون أخذهم إلى طريق الانحراف ؛ لأن كل منحرف إنما يلوم نفسه متسائلاً : لماذا أخيب وحدي ؛ ولا يخيب معي مثل هذا المستقيم ؟ وتمتلئ نفسه بالاحتقار لنفسه.
وكذلك كان إبليس في حمق رده على الله، ولكنه ينتبه إلى مكانته ومكانة ربه ؛ أيدخل في معركة مع الله، أم مع أبناء آدم الذي خلقه سبحانه كخليفة ليعمر الأرض ؟.
لقد حدد إبليس موقعه من الصراع، فقال :﴿ فأنظرني إلى يوم يبعثون.. " ٣٦ " ﴾( سورة الحجر )
وهذا يعني أن مجال معركته مع الخلق لا مع الخالق ؛ لذلك قال :﴿ ولأغوينهم أجمعين " ٣٩ " ﴾( سورة الحجر )وكلمة ( أجمعين )تفيد الإحاطة لكل الأفراد، وهذا فوق قدرته بعد أن عرف مقامه من نفسه ومن ربه،
ويقول أهل المعرفة والإشراق : " أنت تصل بطاعة الله إلى كرامة الله ".
ولو شاء الله أن يكون جميع خلقه مهديين ما استطاع أحد أن يضلهم، ولكن عزة الله عن خلقه هي التي أفسحت المجال للإغواء، ولذلك نجد إبليس يقر بعجزه عن غواية من أخلصوا لله العبادة.
ونجد رد الحق سبحانه على إبليس واضحاً لا لبس فيه، ولا قبول لما قد يظنه إبليس مجاملة منه لله،
﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " ١٧ " ﴾
( سورة الأعراف )في ذلك القول حدد إبليس جهات الغواية التي يأتي منها وترك " الفوق " و " التحت "، لذلك نقول : إن العبد إذا استحضر دائماً علو عزة الربوبية، وذل العبودية ؛ فالشيطان لا يدخل له أبداً.
وهكذا نجد أن " الغاوين " هي ضد " عبادي "، وهم الذين اصطفاهم الله من الوقوع تحت سلطان الشيطان ؛ لأنهم أخلصوا وخلصوا نفسهم لله، وسنجد إبليس وهو ينطق يوم القيامة أمام الغاوين :
﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل.. " ٢٢ " ﴾( سورة إبراهيم ).
ومن نعم الله علينا أن أخبرنا الحق سبحانه بكل ذلك في الدنيا، ولسوف يقر الشيطان بهذا كله في اليوم الآخر ؛ ذلك أنه لم يملك سلطاناً يقهرنا به في الدنيا، بل مجرد إشارة ونزغ ؛ ولا يملك سلطان إقناع ليجعلنا نفعل ما ينزغ به إلينا.
ولذلك أقول دائماً : هب أن إنساناً قد استولت عليه شراسة الغريزة الجنسية، وعرف عنه الناس ذلك، وأعدوا له ما يشاء من رغبات، وأحضروا له أجمل النساء ؛ وسهلوا له المكان المناسب للمعصية بما فيه من طعام وشراب.
وقالوا : هذا كله لك، شرط أن تعرف أيضاً ماذا ينتظرك. وأضاءوا له من بعد ذلك قبواً في المنزل ؛ به فرن مشتعل. ويقولون له : بعد أن تفرغ من لذتك ستدخل في هذا الفرن المشتعل. ماذا سيصنع هذا الإنسان ؟.
لابد أنه سيرفض الإقدام على المعصية التي تقودهم إلى الجحيم.
وهكذا نعلم أن من يرتكب المعاصي إنما يستبطئ العقوبة، والذكي حقاً هو من يصدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه " الموت القيامة، فمن مات فقد قامت قيامته ". ولا أحد يعلم متى يموت.
ولكل باب من أبواب جهنم جماعة تدخل منه ربطت بينهم في الدنيا معصية ما ؛ وجمعهم في الدنيا ولاء ما، وتكونت من بينهم صداقات في الدنيا، واشتركوا بالمخالطة ؛ ولذلك فعليهم الاشتراك في العقوبة والنكال.
وهكذا يتحقق قول الحق سبحانه :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " ٦٧ " ﴾( سورة الزخرف )وفي الجحيم أماكن تأويهم ؛ فقسم يذهب إلى اللظى ؛ وآخر إلى الحطمة ؛ وثالث إلى سقر، ورابع إلى السعير، وخامس إلى الهاوية.
وكل جزء له قسم معين به ؛ وفي كل قسم دركات، لأن الجنة درجات، والنار دركات تنزل إلى أسفل.
ويأتي الحق سبحانه بالمقابل ؛ لأن ذكر المقابل كما نعلم يعطي الكافر حسرة ؛ ويعطي المؤمن بشارة بأنه لم يكن من العاصين،
ويقول أيضاً :﴿ فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة.. " ٢٤ " ﴾( سورة البقرة )
وقلنا من قبل : إن الحق سبحانه له صفات جلال، وصفات كمال وجمال. يهب بصفات الكمال والجمال العطايا، ويهب بصفات الجلال البلايا ؛ فهو غفار، وهو قهار، وهو عفو، وهو منتقم.
وعلينا أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية ؛ وأن نجعل بيننا وبين صفات الجمال قربى ؛ والطريق أن نتبع منهجه ؛ فلا ندخل النار التي هي جند من جنود الله.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إن المتقين في جنات وعيون " ٤٥ " ﴾( سورة الحجر )
وهم الذين لم يرتكبوا المعاصي بعد أن آمنوا بالله ورسوله واتبعوا منهجه. وإن كانت المعصية قد غلبت بعضهم، وتابوا عنها واستغفروا الله ؛ فقد يغفر الله لهم، وقد يبدل سيئاتهم حسناتٍ.
ومن يدخل الجنة سيجد فيها العيون والمقصود بها الأنهار ؛ والحق سبحانه هو القائل :﴿ فيها أنهار من ماءٍ غير آسين وأنهار من لبن لم يتغير طعمه.. " ١٥ " ﴾( سورة محمد )ولعل هناك عيوناً ومنابع لا يعلمها إلا الحق سبحانه.
والغل كما نعلم هو الحقد الذي يسكن النفوس، ونعلم أن البعض من المسلمين قد تختلف وجهات نظرهم في الحياة، ولكنهم على إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والمثل أن علياً كرم الله وجهه وأرضاه دخل موقعه الجمل، وكان في المعسكر المقابل طلحة والزبير رضي الله عنهما ؛ وكلاهما مبشر بالجنة، وكان لكل جانب دليل يغلبه.
ولحظة أن قامت المعركة جاء وجه علي كرم الله وجهه في وجه الزبير ؛ فيقول علي رضي الله عنه : تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتما تمران علي، سلم النبي وقلت أنت : لا يفارق ابن أبي طالب زهوه، فنظر إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لك : " إنك تقاتل علياً وأنت ظالم له ". فرمى الزبير بالسلام، وانتهى من الحرب.
ودخل طلحة بن عبيد الله على علي كرم الله وجهه ؛ فقال علي رضوان الله عليه : يجعل لي الله ولأبيك في هذه الآية نصيباً. فقال أحد الجالسين : إن الله أعدل من أن يجمع بينك وبين طلحة في الجنة. فقال علي : وفيما نزل إذن قوله الحق :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ.. " ٤٧ " ﴾( سورة الحجر )وكلمة " نزعنا " تدل على أن تغلغل العمليات الحقدية في النفوس يكون عميقاً، وأن خلعها في اليوم الآخر يكون خلعاً من الجذور، وينظر المؤمن إلى المؤمن مثله ؛ والذي عاداه في الدنيا نظرته إلى محسن له ؛ لأنه بالعداوة والمنافسة جعله يخاف أن يقع عيب منه.
ذلك أن المؤمن في الآخرة يذكر معطيات الأشياء، ويجعلهم الحق سبحانه إخواناً ؛ فرب أخ لك لم تلده أمك، والحق سبحانه هو القائل في موقع آخر :﴿ واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها.. " ١٠٣ " ﴾( سورة آل عمران ).
وقد يكون لك أخ لا تكرهه ولا تحقد عليه ؛ ولكنك لا تجالسه ولا تسامره ؛ لأن الأخوة أنواع. وقد تكون أخوة طيبة ممتلئة بالاحترام لكن أياً منكم لا يسعى إلي الآخر، ويجمعكم الحق سبحانه في الآخرة على سرر متقابلين. وسأل سائل : وماذا لو كانت منزلة أحدهما في الجنة أعلى من منزلة الآخر ؟ ونقول : إن فضل الحق المطلق يرفع منزلة الأدنى إلي منزلة الأعلى، وهما يتزاوران. وهكذا يختلف حال الآخرة عن حال الدنيا، فالإنسان في الدنيا يعيش ما قال عنه الحق سبحانه :﴿ يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحاً فملاقيه " ٦ " ﴾ ( سورة الانشقاق ).
ولكن الحال في الآخرة يختلف، .
وشاء الحق سبحانه أن يأتي بلفظ المفلح كصفة للمؤمن في الجنة، لأن المؤمن قد حرث الدنيا بالعمل الصالح وبذل جهده ليقيم منهج الله في الأرض، ونصب قامته، ونعلم أن نصب القامة يدل على أن من يعمل قد أصابه التعب، وذلك في الحياة الدنيا. أما في الجنة، فيقول الحق :
﴿ لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين " ٤٨ " ﴾( سورة الحجر )أي : لا يصيبهم فيها تعب، ولا يخرجون من الجنة، ذلك أنهم قد نالوا فيها الخلود. وهكذا تكلم سبحانه عن الغاوين، وقد كانوا أخلاء في الدنيا يمرحون فيها بالمعاصي ؛ وهم ينتظرهم عقاب الجحيم. وتكلم عن العباد المخلصين الذين سيدخلون الجنة ؛ لكنهم يدخلون الجنة، وتتصافى قلوبهم من أي خلاف قد سبق في الدنيا.
وقال سبحانه أيضاً عن النبأ :
﴿ قل هو نبأ عظيم " ٦٧ " أنتم عنه معرضون " ٦٨ " ﴾( سورة ص ).
ونفهم من القول الكريم أنه الإخبار بنبأ الآخرة ما سوف يحدث فيها، وهنا يأتي سبحانه بخبر غفرانه ورحمته الذي يختص به عباده المخلصين المتقين الذين يدخلون الجنة، ويتمتعون بخيراتها خالدين فيها. ولقائل أن يسأل : أليست المغفرة تقتضي ذنباً ؟ ونقول : إن الحق سبحانه خلقنا ويعلم أن للنفس هواجس ؛ ولا يمكن أن تسلم النفس من بعض الأخطاء والذنوب والوسوسة ؛ بدليل أنه سبحانه قد حر الكثير من الأفعال على المسلم ؛ حماية للفرد وحماية للمجتمع أيضاً، ليعيش المجتمع في الاستقرار الآمن.
فقد حرم الحق سبحانه على المسلم السرقة والزنا وشرب الخمر، وغيرها من الموبقات والخطايا، والهواجس التي تقوده إلي الإفساد في الأرض، ومادام قد حرم كل ذلك فهذا يعني أنها سوف تقع، ونزل منهجه سبحانه محرماً ومجرماً لمن يفعل ذلك، كما يلزم كل المؤمنين به بضرورة تجنب هذه الخطايا. وهنا يوضح سبحانه أن من يغفل من المؤمنين ويرتكب معصية ثم يتوب عنها، عليه ألا يؤرق نفسه بتلك الغفلات ؛ فسبحانه رءوف رحيم. ونحن حين نقرأ العربية التي قد شرف الله أهلها بنزول القرآن بها، نجد أقسام الكلام إما شعراً أو نثراً، والشعر له وزن وقافية، وله نغم وموسيقى، أما النثر فليس له تلك الصفات، بل قد يكون مسجوعاً أو غير مسجوع.
وإن تكلمت بكلام نثري وجئت في وسطه ببيت من الشعر، فالذي يسمعك يمكنه أن يلحظ هذا الفارق بين الشعر والنثر. ولكن القرآن كلام رب قادر ؛ لذلك أنت تجد هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وتقرؤها وكأنها بيت من الشعر فهي موزونة مقفاة : " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " ووزنها من بحر المجتث ولكنها تأتي وسط آيات من قبلها ومن بعدها فلا تشعر بالفارق، ولا تشعر أنك انتقلت من نثر إلي شعر، ومن شعر إلي نثر ؛ لأن تضامن المعاني مع جمال الأسلوب يعطينا جلال التأثير المعجز، وتلك من أسرار عظمة القرآن.
ولذلك نرى أن الآيتين قد نبهتا إلي مقامي الرجاء والخوف، وعلى المؤمن أن يجمع بينهما، وألا يؤجل العمل الصالح وتكاليف الإيمان، وأن يستغفر من المعاصي ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعامل الناس بالفضل لمن أخلص النية واحسن الطوية. لذلك يقول الحديث : " لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي ". ثم ينقلنا الحق سبحانه من بعد الحديث عن الصفات الجلالية والجمالية في الغفران والرحمة والانتقام إلي مسألة حسية واقعية توضح كل تلك الصفات، فيتكلم عن إبراهيم عليه السلام ويعطيه البشرى، ثم ينتقل لابن أخيه لوط فيعطيه النجاة، وينزل بأهله العقاب.
أوقد النار فإن الليل ليل قر ***والريح يا غلام ريح صر
إن جلبت لنا ضيفاً فأنت حر
وهكذا نعرف أصل كلمة انضوى. أي : تبع الضوء. وكلمة ( ضيف )لفظ مفرد يطلق على المفرد والمثنى والجمع، إناثاً أو ذكوراً، فيقال : جاءني ضيف فأكرمته، ويقال : جاءني ضيف فأكرمتها، ويقال : جاءني ضيف فأكرمتهما، وجاءني ضيف فأكرمتهم، وجاءني ضيف فأكرمتهن. وكل ذلك لأن كلمة " ضيف " قامت مقام المصدر. ولكن هناك من أهل العربية من يجمعون " ضيف " على " ضيفان ". ولننتبه إلي أن الضيف إذا أطلق على جمع ؛ فمعناه أن فرداً قد جاء ومعه غيره، وإذا جاءت جماعة، ثم تبعتها
جماعة أخرى نقول : وجاءت ضيف أخرى.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نعلم أنهم ليسوا ضيفاً من الآية التي تليها ؛.
ونعلم أن القرآن يأتي بالقصة عبر لقطات موزعة بين الآيات ؛ فإذا جمعتها رسمت لك ملامح القصة كاملة. ولذلك نجد الحق سبحانه هنا لا يذكر أن إبراهيم قد رد سلامها ؛ وأيضاً لم يذكر تقديمه للعجل المشوي لهم ؛ لأنه ذكر ذلك في موقع آخر من القرآن. إذن : فمن تلك الآية نعلم أن إبراهيم عليه السلام قد رد السلام، وجاء هذا السلام مرفوعاً، فلماذا جاء السلام في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها منصوباً ؟ أي : قالوا هم :﴿ سلاماً " ٥٢ " ﴾( سورة الحجر )وكان لابد من رد، وهو ما جاءت به الآية الثانية :﴿ قال سلام قوم منكرون " ٢٥ " ﴾( سورة الذاريات )والسلام الذي صدر من الملائكة لإبراهيم هو سلام متجدد ؛ بينما السلام الذي صدر منه جاء في صيغة جملة اسمية مثبتة ؛ ويدل على الثبوت. إذا رد إبراهيم عليه السلام أقوى من سلام الملائكة ؛ لأنه يوضح أن أخلاق المنهج أن يرد المؤمن التحية بأحسن منها ؛ لا أن يردها فقط، فجاء رده يحمل سلاماً استمرارياً، بينما سلامهم كان سلاماً تجددياً، والفرق بين سلام إبراهيم عليه السلام وسلام الملائكة : أن سلام الملائكة يتحدد بمقتضى الحال، أما سلام إبراهيم فهو منهج لدعوته ودعوة الرسل. ويأتي من بعد ذلك كلام إبراهيم عليه السلام :
﴿ قال إنا منكم وجلون " ٥٢ " ﴾( سورة الحجر )
وجاء في آية أخرى أنه :﴿ وأوجس منهم خيفة.. " ٧٠ " ﴾( سورة هود )
وفي موقع آخر من القرآن يقول :﴿ قوم منكرون " ٢٥ " ﴾ ( سورة الذاريات )
فلماذا أوجس منهم خيفة ؟ ولماذا قال لهم : إنهم قوم منكرون ؟ ولماذا قال :﴿ إنا منكم وجلون " ٥٢ " ﴾( سورة الحجر )لقد جاءوا له دون أن يتعرف عليهم، وقدم لهم الطعام فرأى أيديهم لا تصل إليه ولا تقربه كما قال سبحانه :﴿ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلي قوم لوطٍ " ٧٠ " ﴾( سورة هود ).
ذلك أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنه إذا قدم ضيفاً وقدم إليه الطعام، ورفض أن يأكل فعلى المرء ألا يتوقع منه الخير ؛ وأنت ينتظر المكارة.
وحين علم أنهم قد أرسلوا إلي قوم لوط ؛ وطمأنوه بالخبر الطيب الذي أرسلهم به الله اطمأنت نفسه ؛
ولم يقل الحق سبحانه أصلحناكم أنتم الاثنين ؛ وفي ذلك إشارة إلي أن العطب كان في الزوجة ؛ وقد أثبت العلم من بعد ذلك أن قدرة الرجل على الإخصاب لا يحددها عمر، ولكن قدرة المرأة على أن تحمل محددة بعمر معين. ثم إذا تأملنا قوله الحق :﴿ ووهبنا.. " ٩٠ " ﴾( سورة الأنبياء )نجد أنها تثبت طلاقة قدرة الله سبحانه فيما وهب ؛ وفي إصلاح ما فسد ؛ فسبحانه لا يعوزه شيء ؛ قادر جل شأنه على الوهب ؛ وقادر على أن يهيئ الأسباب ليتحقق ما يهبه. وهنا تقول الملائكة لإبراهيم :﴿ بشرناك بالحق.. " ٥٥ " ﴾( سورة الحجر )أي : أنهم ليسوا المسئولين عن البشارة، بل عن صدق البشارة ؛ ولذلك قالوا له من بعد ذلك :﴿ فلا تكن من القانطين " ٥٥ " ﴾( سورة الحجر ).
ولنلحظ أنه لم يسأله " أتحيي الموتى "، بل كان سؤاله عن الكيفية التي يحيى بها الله الموتى ؛ ولذلك لسأله الحق سبحانه :﴿ أو لم تؤمن.. " ٢٦٠ " ﴾( سورة البقرة )وكان رد إبراهيم عليه السلام :﴿ بلى ولكن ليطمئن قلبي.. " ٢٦٠ " ﴾( سورة البقرة ).
وحدثت تجربة عندما أمر إبراهيم بأن يأخذ أربعة من الطير ثم يقطعهن ويلقي على كل جبل جزءاً، ثم يدعوهن فيأتينه سعياً، لذلك فلم يكن إبراهيم قانطاً من رحمة ربه، بل كان متسائلاً عن الكيفية التي يجري الله بها رحمته. ولم تكن تلك المحادثة بين إبراهيم والملائكة فقط، بل اشتركت فيه زوجه سارة ؛ إذ أن الحق سبحانه قد قال في سورة هود :﴿ يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب " ٧٢ " قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " ٧٣ " ﴾( سورة هود )وهكذا نجد أن القرآن يكمل بعضه بعضاً ؛ وكل لقطة تأتي في موقعها ؛ وحين نجمع اللقطات تكتمل لنا القصة. وهنا في سورة الحجر نجد سؤالاً من إبراهيم عليه السلام للملائكة التي حملت له بشرى الإنجاب عن المهمة الأساسية لمجيئهم، الذي تسبب في أن يتوجس منهم خيفة ؛ فقد نظر إليهم، وشعر أنهم قد جاءوا بأمر آخر غير البشارة بالغلام ؛ لأن البشارة يكفي فيها ملك واحد.
أما هؤلاء فهم كثيرون على تلك المهمة، .
﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن.. " ١١ " ﴾( سورة الحجر )فلو أن كلمة " القوم " تطلق على النساء ؛ لوصف بها الحق سبحانه النساء أيضاً ؛ وذلك كي نعلم أن الرجال فقط هم الذين يقومون للأحداث ؛ ولنعلم أن للمرأة منزلتها في رعاية أسرتها ؛ فلا تقوم إلا بما يخص هذا البيت. وهنا أخبرت الملائكة إبراهيم عليه السلام أنهم مرسلون إلي قوم مجرمين ؛ وهم قوم لوط الذين أرهقوا لوطا بالتكذيب وبالمعاصي التي أدمنوها.
والحق سبحانه هنا يستثنى امرأة لوط من الذين استثناهم من قبل للنجاة، وهم آل لوط، والملائكة التي تقوم ذلك لم تقدر الأمر بإهلاك امرأة لوط ؛ بل هي تنفذ التقدير الأعلى ؛ فسبحانه هو من قدر وأمر :﴿ أنها لمن الغابرين " ٦٠ " ﴾( سورة الحجر )والغابر هنا بمعنى داخل ؛ أو هو من أسماء الأضداد ؛ وهي لن تنجو ؛ لأن من تقررت نجاتهم سيتركون القرية ؛ وسيهلك من يبقى فيها، وامرأة لوط من الباقين في العذاب والاستثناء من النفي إثبات ؛ ومن الإثبات نفي، فاستثناء امرأة لوط من الناجين يلحقها بالهالكين.
﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا.. " ٤٥ " ﴾( سورة الأنعام )وهكذا نفهم أن قطع الدابر هو أن يأخذهم الحق سبحانه أخذ عزيز مقتدر فلا يبقى منهم أحداً. وموعد ذلك هو الصباح، فبعد أن خرج لوط ومن معه بجزء من الليل وتمت نجاتهم يأتي الأمر بإهلاك المنحرفين في الصباح. والأخذ بالصبح هو مبدأ من مبادئ الحروب ؛ ويقال : إن أغلب الحروب تبدأ عند أول خيط من خيوط الشمس. والحق سبحانه يقول :﴿ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " ١٧٧ " ﴾( سورة الصافات )وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأخذهم وهم في استرخاء ؛ ولا يملكون قدرة على المقاومة. وقول الحق سبحانه هنا :﴿ أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " ٦٦ " ﴾( سورة الحجر )لا يتناقض مع قوله عنهم في موقع آخر :﴿ فأخذتهم الصيحة مشرقين " ٧٣ " ﴾( سورة الحجر )فكأن بدء الصيحة كان صبحاً، ونهايتهم كانت في الشروق. وهكذا رسم الحق سبحانه الصورة واضحة أمام لوط من قبل أن يبدأ التنفيذ ؛ فهكذا أخبرت الملائكة لوطاً بما سوف يجري.
وقوله سبحانه :﴿ وجاء أهل المدينة يستبشرون " ٦٧ " ﴾( سورة الحجر )يجمع لقطات مركبة عن الأمر الفاحش الشائع فيما بينهم، وكانوا يستبشرون بفعله ويفرحون به ؛ فهم من ينطبق عليهم قوله الحق :
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكرٍ لبئس ما كانوا يفعلون " ٧٩ " ﴾( سورة المائدة )وكان لوط يعلم هذا الأمر فيهم، ويعلم ما سوف يحيق بهم ؛ وأراد أن يجعل بينهم وبين فعل الفاحشة مع الملائكة سداً ؛ فهم في ضيافته وفي جواره، والتقاليد تقتضي أن يأخذ الضيف كرامة المضيف، وأي إهانة تلحق بالضيف هي إهانة للمضيف،
كيف نأخذ سلوكاً واحداً تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون ؟ والمعنى : لا تفعلوا ما يغضب الله حتى لا تعذبوا في النار، فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية بأن تركت المعاصي، وإن فعلت المأمورات، ورضيت بالمقدورات، وابتعدت عن المحذورات، فقد اتقيت الله.
﴿ هؤلاء بناتي.. " ٧١ " ﴾( سورة الحجر )أي : أنه تحدث عن جمع كثير ؛ ذلك أن ابنتيه لا تصلحان إلا للزواج من اثنين من هذا الجمع الكثيف من رجال تلك المدينة، ونعلم أن بنات كل القوم الذين يوجد فيهم رسول يعتبرون من بناته. ولذلك يقول الحق سبحانه ما يوضح ذلك في آية أخرى :﴿ أتأتون الذكران من العالمين " ١٦٥ " وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون " ١٦٦ " ﴾
( سورة الشعراء )أي : أن لوطاً أراد أن يرد هؤلاء الشواذ إلي دائرة الصواب، والفعل الطيب. وذيل كلامه :﴿ إن كنتم فاعلين " ٧١ " ﴾( سورة الحجر )ليوحي لهم بالشك في أنهم سيهينون ضيوفه بهذا الأسلوب الممجوج والمرفوض.
( سورة الممتحنة )وفي هذا تكريم عظيم، وهنا في هذه الآية نجد تكريماً آخر، فسبحانه يقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم. ونعلم أن الحق سبحانه يقسم بما شاء، أقسم بالشمس وبمواقع النجوم وبالنجم إذا هوى. فهو الخالق العليم بكل ما خلق ؛ ولا يعرف عظمة المخلوق إلا خالقه، وهو العالم بمهمة كل كائن خلقه، لكنه أمرنا ألا نقسم إلا به ؛ لأننا نجل حقائق الأشياء مكتملة. وقد أقسم سبحانه بكل شيء في الوجود، إلا أنه لم يقسم أبداً بأي إنسان إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقال هنا :
﴿ لعمرك " ٧٢ " ﴾( سورة الحجر )بحياتك يا محمد إنهم سكرة يعمهون. والسكرة هي التخديرة العقلية التي تحدث لمن يختل إدراكهم بفعل عقيدة فاسدة، أو عادة شاذة، أو بتناول مادة تثير الاضطراب في الوعي.
و ﴿ يعمهون " ٧٢ " ﴾( سورة الحجر )أي : يضطربون باختيارهم. ويأتي العقاب ؛.
﴿ إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدةً فكانوا كهشيم المحتظر " ٣١ " ﴾( سورة القمر ).
ومرة يسميها الحق سبحانه بالطاغية ؛ فيقول :﴿ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية " ٥ " ﴾( سورة الحاقة ).
( سورة الذاريات )وقد أرسل الحق سبحانه تلك الحجارة عليهم ليبيدهم، فلا يبقى منهم أحداً.
أي : ساعة تراهم ترى أن الملامح توضح ما في الأعماق من إيمان. ويقول سبحانه أيضاً :﴿ تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً.. " ٢٧٣ " ﴾( سورة البقرة ).
وهكذا نعرف أن المتوسم هو صاحب الفراسة التي تكشف مكنون الأعماق. وهاهو صلى الله عليه وسلم يقول : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور ". وتحمل الذاكرة العربية حكاية الأعرابي الذي فقد جمله، فذهب إلي قيم الناحية أي : عمدة المكان وقال له : " ضاع جملي وأخشى أن يكون قد سرقه أحد ". وبينما هو يحدث القيم جاء واحد، وقال له : أجملك أعور ؟ أجاب صاحب الجمل : نعم، وقال له : أجملك أبتر ؟ أي : لا ذيل له، أجاب صاحب الجمل : نعم. فسأل الرجل سؤالا ثالثاً : أجملك أشول ؟ أي : يعرج قليلاً عندما يسير ؛ فأجاب الرجل : نعم، والله هو جملي.
وأراد قيم الحي أن يعلم كيف عرف الرجل الذي حضر كل هذه العلامات التي في الجمل، فسأله : وما أدراك بكل تلك العلامات ؟ قال الرجل : لقد رأيته في الطريق، وعرفت أنه أعور، ذلك أنه كان يأكل العشب الجاف من جهة، ولا يلتفت إلي العشب الأخضر في الجهة الأخرى، ولو كان يرى بعينيه الاثنتين لرأى العشب الأخضر. وعرفت أنه أبتر مقطوع الذيل نتيجة أن بعره لم يتبعثر مثل غيره من الجمال التي لها ذيل غير مقطوع. وعرفت أنه أشول ؛ لأن أثر ساقه اليمنى أكثر عمقاً في الأرض من أثر ساقه اليسرى. وهكذا شرحت الذاكرة العربية معنى كلمة " المتوسم ".
﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين " ١٣٧ " ﴾( سورة الصافات )فهذه المدينة إذن في طريق ثابت ؛ لن تضيعه عوامل التعرية أو الأغيار، ولن تضعيه تلك العوامل إلا إذا شاء الحق سبحانه له أن يكون محكم التكوين ومحكم التثبيت. وهو ما يسمى " سدوم ".
وقال عن أصحاب الأيكة :﴿ كذب أصحاب الأيكة المرسلين " ١٧٦ " إذ قال لهم شعيب ألا تتقون " ١٧٧ " ﴾
( سورة الشعراء )وهكذا نعلم أن شعيباً قد بعث لأمتين متجاورتين.
وقد انتقم الله من الأمتين الظالمتين ؛ مدين وأصحاب الأيكة. ويقول الحق سبحانه :﴿ وإنهما لبإمام مبين " ٧٩ " ﴾( سورة الحجر )والإمام هو ما يؤتم به في الرأي والفتيا، أو في الحركات والسكنات ؛ أو : في الطريق الموصل إلي الغايات، ويسمى " إمام " لأنه يدل على الأماكن أو الغايات التي نريد أن نصل إليها، ذلك أنه يعلم كل جزئية من هذا الطريق. وفيما يبدو أن أصحاب الأيكة قد تمادوا في الظلم والكفر، وإذا كان سبحانه قد أخذ أهل مدين بالصيحة والرجفة ؛ فقد أخذ أصحاب الأيكة بأن سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ؛ ثم أرسل سحابة وتمنوا أن تمطر، وأمطرت ناراً فأكلتهم، كما قالت كتب الأثر. وهذا هو العذاب الذي قال فيه الحق سبحانه :﴿ فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يومٍ عظيمٍ " ١٨٩ " ﴾( سورة الشعراء ).
وهكذا تكون تلك العبر بمثابة الإمام الذي يقود إلي التبصر بعواقب الظلم والشرك.
وهم قد كذبوا نبيهم " صالح " وكان تكذيبهم له يتضمن تكذيب كل الرسل، ذلك أن الرسل يتواردون على وحدانية الله، ويتفقون في الأحكام العامة الشاملة، ولا يختلف الأنبياء إلا في الجزئيات المناسبة لكل بيئة من البيئات التي يعيشون فيها. فبيئة : تعبد الأصنام، فيثبت لهم نبيهم أن الأصنام لا تستحق أن تعبد. وبيئة أخرى : تطفف الكيل والميزان ؛ فيأتي رسولهم بما ينهاهم عن ذلك. وبيئة ثالثة : ترتكب الفواحش فيحذرهم نبيهم من تلك الفواحش. وهكذا اختلف الرسل في الجزئيات المناسبة لكل بيئة ؛ لكنهم لم يختلفوا في المنهج الكلي الخاص بالتوحيد والمنهج، وقد قال الحق سبحانه عن قوم صالح أنهم كذبوا المرسلين ؛ بمعنى أنهم كذبوا صالحاً فيما جاء به من دعوة التوحيد التي جاء بها كل الرسل.
ونعلم أن الآيات تأتي دائماً بمعنى المعجزات الدالة على صدق الرسول، أو : آيات الكون، أو : آيات المنهج المبلغ عن الله، تكون آية الرسول من هؤلاء من نوع ما نبغ فيه القوم المرسل إليهم ؛ لكنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثلها. وعادة ما تثير هذه الآية خاصية التحدي الموجودة في الإنسان، ولكن أحداً من قوم الرسل أي رسول لا يفلح في أن يأتي بمثل آية الرسول المرسل إليهم. ويقول الحق سبحانه عن قوم صالح :﴿ وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين " ٨١ " ﴾( سورة الحجر )أي : تكبروا وأعرضوا عن المنهج الذي جاءهم به صالح، والإعراض هو أن تعطي الشيء عرضك بأن تبتعد عنه ولا تقبل عليه، ولو أنك أقبلت عليه لوجدت فيه الخير لك. وأنت حين تقبل على آيات الله ستجد أنها تدعوك للتفكر، فتؤمن أن لها خالقاً فتلتزم بتعاليم المنهج الذي جاء به الرسول. وأنت حين تفكر في الحكمة من الطاعة ستجد أنها تريحك من قلق الاعتماد على أحد غير خالقك، لكن لو أخذت المسائل بسطحية ؛ فلن تنتهي إلي الإيمان. ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر من القرآن الكريم :
﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " ١٠٥ " ﴾( سورة يوسف )
وفي هذا تكليف للمؤمن كل مؤمن أن يمعن النظر في آيات الكون لعله يستنبط منها ما يفيد غيره. وأنت لو نظرت إلي كل المخترعات التي في الكون لوجدتها نتيجة للإقبال عليها من قبل عالم أراد أن يكتشف فيها ما يريح غيره به. والمثل في اكتشاف قوة البخار التي بدأ بها عصر من الطاقة واختراع المعدات التي تعمل بتلك الطاقة، وحرك بها القطار والسفينة ؛ مثلما سبقها إنسان آخر واخترع العجلة ليسهل على البشر حمل الأثقال. وإذا كان هذا في أمر الكونيات ؛ فأنت أيضاً إذا تأملت آيات الأحكام في " افعل " و " لا تفعل " ستجدها تفيدك في حياتك ومستقبلك، والمثل على ذلك هو الزكاة ؛ فأنت تدفع جزءً يسيراً من عائد عملك لغيرك ممن لا يقوى على العمل، وستجد أن غيرك يعطيك إن حدث لك احتياج ؛ ذلك أنك من الأغيار.
ولكنهم طغوا وبغوا وأنكروا ما جاء به صالح عليه السلام فما كان من الحق سبحانه إلا أن أرسل عليهم صيحة تأخذهم.
وقال سبحانه عنهم أيضاً :﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " ٧٨ " ﴾( سورة الأعراف )
والرجفة هي الزلزلة، والصيحة هي بعض من توابع الزلزلة، ذلك أن الزلزلة تحدث تموجاً في الهواء يؤدي إلي حدوث أصوات قوية تعصف بمن يسمعها. وهم حسب قول الحق سبحانه قد تمتعوا ثلاثة أيام قبل أن تأخذهم الصيحة كوعد نبيهم صالح عليه السلام لهم :﴿ فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب " ٦٥ " ﴾( سورة هود ).
واقرأ إن شئت قوله الحق :﴿ الرحمن " ١ " علم القرآن " ٢ " خلق الإنسان " ٣ " علمه البيان " ٤ " الشمس والقمر بحسبان " ٥ " والنجم والشجر يسجدان " ٦ " والسماء رفعها ووضع الميزان " ٧ " ألا تطغوا في الميزان " ٨ " ﴾( سورة الرحمن ).
فإن كنتم تريدون أن تنتظم أموركم في الحياة الدنيا ؛ فلا تطغوا في ميزان أي شيء. وهنا يذكرنا الحق سبحانه ألا نقع في خطأ الوهم بأننا سنأخذ نعم الدنيا دون ضابط أو رابط ؛ فالحساب قادم لا محالة، ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون " ٤١ " أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون " ٤٢ " ﴾( سورة الزخرف )أي : ما قدره الله سيقع دون أن يصده شيء مهما كان، وإما ترى ذلك في حياتك، أو تراه لحظة البعث. والدليل هو ما حاق بمن كفروا وظلموا وكذبوا الرسل، وعاثوا في الأرض مفسدين. وأهلكهم الحق سبحانه بعذابه تطهيراً للأرض من فسادهم، هذا جزاؤهم في الدنيا، وهناك جزاء آخر في اليوم الآخر. وفي هذا القول تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حين يعلمه الله ما حاق بالأمم السابقة التي كذبت الرسل ؛ هانت عليه المتاعب والمشاق التي عاناها من قومه، وليسهل عليه من بعد ذلك أن يتذرع بالصبر الجميل، حتى يأتي وعده سبحانه، وليس عليك يا محمد أن تحمل نفسك ما لا تطيق.
﴿ ربك " ٨٦ " ﴾( سورة الحجر )توحي بأنه إن أصابك شيء بسبب دعوتك، وبسبب كنود قومك أمامك وعدائهم لك، فربك يا محمد لن يتركهم. والرب كما نعلم هو من يتولى تربية الشي إلي ما يعطيه مناط الكمال، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط، ولكنه ينطبق على الدنيا والآخرة.
وقوله :﴿ الخلاق " ٨٦ " ﴾( سورة الحجر )مبالغة في الخلق، وهي امتداد صفة الخلق في كل ما يمكن أن يخلق، لأنه سبحانه هو الذي أعد كل مادة يكون منها أي خلق، وأعد العقل الذي يفكر في أي خلق، وأعد الطاقة التي تفعل، وأعد التفاعل بين الطاقة والمادة والعقل المخطط لذلك. وما يفعله الإنسان المخلوق هو التوليف بين ما خلقه الله من مواد، وإن وجد خلاق من البشر ؛ فهو وحده سبحانه الذي يهب إنساناً ما أفكاراً لينقذها، ثم يأتي من هو أذكى منه ليطورها. ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ وفوق كل ذي علمٍ عليم " ٧٦ " ﴾( سورة يوسف ).
وهكذا رأينا كل المخترعات البشرية تتطور ؛ والمثل على ذلك هو آلة الحياكة التي صارت تعمل الآن آلياً بعد أن كانت المرأة تجلس عليها لتكد في ضبطها، وكذلك غسالة الملابس، وغسالة الأطباق والسيارات والطائرات. ونلحظ أن كل ما خلقه الله يمكن أن يستفاد من عادمه مثل روث البهائم ؛ الذي يستخدم كسماد، أما عادم السيارات مثلاً فهو يلوث الجو. وشاشة التلفزيون تصدر من الإشعاعات ما يضر العين، وتم بحث ذلك لتلافي الآثار الجانبية في مثل تلك الأدوات التي يسهل الإنسان بها حياتها. أما ما يخلقه الله فلا توجد له آثار جانبية ؛ فسبحانه ليس صاحب علم مكتسب أو ممنوح ؛ بل العلم صفة ذاتية فيه.
ويقول له الحق أيضاً :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون.. " ٣٣ " ﴾( سورة الأنعام )
وأزاح الحق سبحانه عنه هموم اتهامهم له بأنه ساحر أو مجنون ؛ وقال له سبحانه :
﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ٣٣ " ﴾( سورة الأنعام )ويكشف له سبحانه : إنهم يؤمنون أنك يا محمد صادق، ولكنهم يتظاهرون بتكذيبك. ويتمثل امتنان الحق سبحانه على رسوله أنه أنزل عليه السبع المثاني، واتفق العلماء على أن كلمة " المثاني " تعني فاتحة الكتاب، فلا يثني في الصلاة إلا فاتحة الكتاب. ونجده سبحانه يصف القرآن بالعظيم ؛ وهو سبحانه يحكم بعظمة القرآن على ضوء مقاييسه المطلقة ؛ وهي مقاييس العظمة عنده سبحانه. والمثل الآخر على ذلك وصفه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ " ٤ " ﴾( سورة القلم )وهذا حكم بالمقاييس العليا للعظمة، وهكذا يصبح كل متاع الدنيا أقل مما وهبه الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلا ينظرن أحد إلي ما أعطى غيره ؛ فقد وهبه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم. ونلحظ أن الحق سبحانه قد عطف القرآن على السبع المثاني وهو عطف عام على خاص ؛ كما قال الحق سبحانه :
﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.. " ٢٣٨ " ﴾( سورة البقرة )ونفهم من هذا القول أن الصلاة تضم الصلاة الوسطى أيضاً، وكذلك مثل قول الحق ما جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات.. " ٢٨ " ﴾( سورة نوح )وهكذا نرى عطف عام على خاص، وعطف خاص على عام. أو : أن نقول : إن كلمة " قرآن " تطلق على الكتاب الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول آية في القرآن إلي آخر آية فيه، ويطلق أيضاً على الآية الواحدة من القرآن ؛ فقول الحق سبحانه :﴿ مدهامتان " ٦٤ " ﴾( سورة الرحمن )
هي آية من القرآن ؛ وتسمى أيضاً قرآناً. ونجده سبحانه يقول :﴿ إن قرآن الفجر كان مشهوداً " ٧٨ " ﴾( سورة الإسراء ).
ونحن في الفجر لا نقرأ كل القرآن، بل بعضاً منه، ولكن ما نقرؤه يسمى قرآناً، وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً " ٤٥ " ﴾( سورة الإسراء )وهو لا يقرأ كل القرآن بل بعضه، إذن : فكل آية من القرآن قرآن. وقد أعطى الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم السبع المثاني والقرآن العظيم، وتلك هي قمة العطايا ؛ فلله عطاءات متعددة ؛ عطاءات تشمل الكافر والمؤمن، وتشمل الطائع والعاصي، وعطاءات خاصة بمن آمن به ؛ وتلك عطاءات الألوهية لمن سمع كلام ربه في " افعل " و " لا تفعل ". وسبحانه يمتد عطاؤه من الخلق إلي شربة الماء، إلي وجبة الطعام، وإلي الملابس، وإلي المسكن، وكل عطاء له عمر، ويسمو العطاء عند الإنسان بسمو عمر العطاء، فكل عطاء يمتد عمره يكون هو العطاء السعيد.
فإذا كان عطاء الربوبية يتعلق بمعطيات المادة وقوام الحياة ؛ فإن عطاءات القرآن تشمل الدنيا والآخرة ؛ وإذا كان ما ينغص أي عطاء في الدنيا أن الإنسان يفارقه بالموت، أو أن يذوي هذا العطاء في ذاته ؛ فعطاء القرآن لا ينفد في الدنيا والآخرة. ونعلم أن الآخرة لا نهاية لها على عكس الدنيا التي لا يطول عمرك فيها بعمرها، بل بالأجل المحدد لك فيها. وإذا كانت عطاءات القرآن تحرس القيم التي تهبك عطاءات الحياة التي لا تفني وهي الحياة الآخرة ؛ فهذا هو أسمى عطاء، وإياك أن تتطلع إلي نعمة موقوتة عند أحد منهم من نعم الدنيا الفانية ؛ لأن من أعطى القرآن وظن أن غيره قد أعطى خيراً منه ؛ فقد حقر ما عظم الله.
والمراد بمد العين ليس إخراج حبة العين ومدها ؛ ولكن المراد إدامة النظر والإمعان، ولكن الحق سبحانه عبر في القرآن هذا التعبير، وكأن الإنسان سيخرج حبة عينه ليجري بها، وليمعن النظر، وهذا ما يفهم من منطوق الآية، والمنطوق يشير إلي المفهوم المراد، وهذا عين الإعجاز. وكلمة " متاع " تفيد أن شيئاً يتمتع به وينتهي، ولذلك يوصف متاع الدنيا في القرآن بأنه متاع الغرور، أي : أنه متاع موقوت بلحظة. وقول الحق سبحانه :﴿ أزواجا منهم.. " ٨٨ " ﴾( سورة الحجر )هي جمع زوج، وسبق أن أوضحنا أن كلمة " زوج " هي مفرد، والذكر والأنثى حين يتلاقيان يصبح اسمهما زوجين، والحق سبحانه هو القائل :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها.. " ٣٦ " ﴾( سورة يس )والأزواج كلها تعني الفرد، ومعه الفرد من كل صنف من الأصناف. المراد بكلمة أزواج هنا أن المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا شللاً شللاً ؛ ضال ومضل ؛ وضال آخر معه مضل. ولحظة الحساب سيقول كل منهم :﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين " ٥١ " ﴾( سورة الصافات )وهكذا كانت كلمة " أزواج " تدل على أصناف متعددة من الذين يقفون معاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنكرين لمنهجه. وفي موقع آخر من القرآن يكشف سبحانه عمن أغوتهم الشياطين، ويحشرهم الحق سبحانه مع الشياطين في نار جهنم :﴿ ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس.. " ١٢٨ " ﴾ ( سورة الأنعام )أي : يا معشر الجن قد استطعتم أن توحوا لكثير من الإنس بالغواية والمعصية، ليكونوا أولياءكم، وهكذا نجد أن كل جماعة تتفق على شيء نسميهم أزواجاً. وهنا يوضح الحق سبحانه : إياك أن تمد عينيك إلي ما متعنا به أزواجاً منهم، لأننا أعطيناك أعلى عطاءٍ، وهو معجزة القرآن حارس القيم، والذي يضم النهج القويم. ويتابع سبحانه :﴿ ولا تحزن عليهم.. " ٨٨ " ﴾( سورة الحجر )
ويقال : حزنت منه، وحزنت عليه، وحزنت له ؛ فمن ناله ما يحزن، ولم يصدر عنك هذا السبب في حزنه ؛ فأنت تقول له " حزنت لك ". وآخر ارتكب فعلاً يسيء إلي نفسه ؛ فأنت تحزن عليه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حزن عليهم ؛ فقد كان يحب أن يؤمنوا، وأن يتمتعوا بالنعمة التي يتمتع هو بها. ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " ١٢٨ " ﴾( سورة التوبة )فمن رأفته صلى الله عليه وسلم صعب على نفسه أن ينال قومه مشقة ؛ فالرحمة والرأفة مصدرها ما وهبه الله إياه من فهم لقيمة نعمة الإيمان. وفي آية أخرى يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " ٦ " ﴾( سورة الكهف )أي : أنه لن ينقص منك شيء في حالة عدم إيمانهم، ولن يزيدك إيمانهم أجراً ؛ ذلك أن عليك البلاغ فقط ؛ فلماذا تحزن على عدم إيمانهم ؟ وقول الحق سبحانه هنا :﴿ ولا تحزن عليهم.. " ٨٨ " ﴾( سورة الحجر )دليل على أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يؤمن قومه، محبة فيهم، وليتعرفوا على حلاوة الإيمان بالله. وكان صلى الله عليه وسلم يتألم ويحز في نفسه عدم إيمانهم،
ويوصيه كذلك بألا يحزن عليهم نتيجة انصرافهم عن دعوته فليس عليه إلا البلاغ، وأن يتواضع صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ليزداد ارتباطهم به، فهم خير من كل الكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم. ثم يوصيه الحق سبحانه أن يبلغ الجميع أنه نذير وبشير يوضح ما جاء في القرآن من خير يعم على المؤمنين، وعقاب ينزل على الكافرين. وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال : يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فادلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق ".
وكان انقسامهم كانقسام قومك حول الكتاب المنزل إليك، فلا تحزن إن اتهموك بأنك ساحر، أو أن ما نزل إليك كتاب شعر، أو أنك تمارس الكهانة ؛ أو فقدوا القدرة على الحكم عليك واتهموك بالجنون. وهكذا قسموا القرآن المنزل من الله سبحانه إلي أقسام هي : السحر، والكهانة، والشعر، والجنون، كما فعل من قبلهم أقوام أخرى : فمنهم من قال، وأثبته القرآن عليهم :﴿ إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " ٢٧ " ﴾( سورة الشعراء ).
وهكذا تعلم يا رسول الله أنك لست بدعاً من الرسل، ذلك أن الرسل لا يأتون أقوامهم إلا وقد طم الفساد والبلاء، ولا يوجد فساد إلا بانتفاع واحد بالفساد بينما يضر بالآخرين. وإذا ما جاء رسول ليصلح هذا الفساد يهب أهل الاستفادة من الفساد ليقاوموه ويضعوا أمامه العراقيل ؛ مثلما حدث معك يا رسول الله حين قال بعضهم :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه.. " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت )
ومثل هذا القول إنما يدل على أنهم لو صفوا نفوسهم، واستمعوا للقرآن لاهتدوا ؛ لذلك يقول لهم سادتهم :﴿ والغوا فيه لعلكم تغلبون " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت )أي : شوشوا عليه. وهكذا فالاقتسام الذي استقبل به الكفار القرآن سبق وأن حدث مع الرسل الذين سبقوك.
( سورة المائدة )أي : أن بعضاً من اليهود قد نسوا بعضاً من التوراة، وكذلك نسى البعض من اتباع عيسى بعضاً من الإنجيل الذي نزل عليه. وإن وجدنا لهم العذر في النسيان ؛ فماذا عن الذي كتموه من تلك الكتب ؟ وماذا عن الذي بدلوه وحرفوه من كلمات تلك الكتب ؟ وماذا عن الذي أضافوه عليه، ولم ينزل من عند الله ؟ وقد فضح سبحانه كل ذلك في القرآن. أو : أن اليهود استقبلوا القرآن استقبال من يصدق بعضه مما لا يتعبهم، وكذبوه في البعض الذي يتعبهم، فقد كذبوا مثلاً أن كتابهم قد بشرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا نرى كيف حاولوا أن يجعلوا القرآن عضين، أي : قطعاً مفصولة عن بعضها البعض، وقد حاولوا ذلك بعد أن تبين لهم أن القرآن مؤثر وفاعل. وشاء الحق سبحانه للقرآن أن يحمل النذارة والبشارة ؛ فالرسول نذير بالقرآن المبين الواضح لمن اقتسموا الأمر بالنسبة لمحمد عليه الصلاة والسلام فقسم منهم تفرغ للاستهزاء بمحمد ومن آمنوا معه ؛ وجماعة أخرى قسمت أعضاءها ليجلسوا على أبواب مكة أثناء موسم الحج، ويستقبلون القادمين للحج من البلاد المختلفة ليحذروهم من الاستماع لمحمد عليه الصلاة والسلام. ومن هؤلاء من وصف الرسول صلى الله عليه وسم بالجنون ؛ ومنهم من وصف القرآن بأنه شعر ؛ ومنهم من وصف الرسول بأنه ساحر.
﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين " ٩٢ " ﴾( سورة الحجر )يعني أن الضال والمضال، والتابع والمتبوع سيسألون عما عملوا.
﴿ وما الله بغافل عما تعملون " ٩٢ " ﴾( سورة البقرة )أي : تذكروا أن الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، وأن كل ما تعملونه يعلمه، وأنكم ملاقونه يوم القيامة ومحتاجون إلي رحمته ومغفرته.
وبعد أن ثبت لكل من عاش تلك الفترة أن كل مستهزئ بمحمد صلى الله عليه وسلم قد ناله عقاب من السماء. فهاهو ذا الوليد بن المغيرة الذي يتبختر في ثيابه ؛ فيسير على قطعة من الحديد، فيأنف أن ينحني ليخلص ثوبه الذي اشتبك بقطعة الحديد ؛ فتجرح قدمه وتصاب بالغرغرينا ويقطعونها له، ثم تنتشر الغرغرينا في كل جسده إلي أن يموت. وهاهو الثاني الأسود بن عبد يغوث يصاب بمرض في عينيه ؛ ويصاب بالعمى، وكذلك الحارث بن الطلاطلة، والعاصي بن وائل.
وكل مستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم قد ناله عقاب ما، ومن لم تصبه عاهة أو آفة صرعته سيوف المسلمين في بدر، لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدد المواقع التي سيلقي فيها كل واحد من صناديد قريش حتفه ؛ فقال : هنا مصرع فلان، وهناك مصرع فلان. وقد أوضح صلى الله عليه وسلم تلك المواقع من قبل أن تبدأ المعركة، ونعلم أن الحرب تتطلب كراً وفراً، ولكن ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدث بالضبط.
وهاهو المثل واضح في عكرمة بن أبي جهل ؛ يصاب في موقعة اليرموك ؛ فيضع رأسه على فخذ خالد بن الوليد ويسأله : يا خالد، أهذه ميتة ترضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيرد خالد : " نعم ". فيسلم الروح مطمئناً. وهؤلاء المستهزئون ؛ قد أشركوا بالله ؛ فلم تنفعهم الآلهة التي أشركوها مع الله شيئاً، وحين يتأكد لهم ذلك ؛ فهم يتأكدون من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أبلغ عن الحق سبحانه.
ومعنى ضيق الصدر أن يقل الهواء الداخل عبر عملية التنفس إلي الرئتين ؛ فمن هذا الهواء تستخلص الرئتان الأوكسجين ؛ وتطرد ثاني أوكسيد الكربون ؛ ويعمل الأكسجين على أن يؤكسد الغذاء لينتج الطاقة ؛ فإن ضاق الصدر صارت الطاقة قليلة. والمثل يتضح لمن يصعدون السلم العالي لأي منزل أو أي مكان ؛ ويجدون أنفسهم ينهجون ؛ والسبب في هذا النهج هو أن الرئة تريد أن تسرع بالتقاط كمية الهواء أكبر من تلك التي تصل إليها، فيعمل القلب بشدة اكثر كي يتيح للرئة أن تسحب كمية اكبر من الهواء.
أما من يكون صدره واسعاً فهو يسحب ما شاء من الهواء الذي يتيح للرئة أن تأخذ الكمية التي تحتاجها من الهواء، فلا ينهج صاحب الصدر الواسع. فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يكذبه أحد، أو يستهزئ به أحد كان يضيق صدره فتضيق كمية الهواء اللازمة للحركة ؛ ولذلك يطمئنه الحق سبحانه أن مدده له لا ينتهي. وأنت تلحظ عملية ضيق الصدر في نفسك حين يضايقك أحد فتثور عليه ؛ فيقول لك : لماذا يضيق صدرك ؟ وسع صدرك قليلاً. والحق سبحانه يقول في موقع آخر :
﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " ١٢٥ " ﴾( سورة الأنعام )أي : يوسع صدره، وتزداد قدرته على فهم المعاني التي جاء بها الدين الحنيف. ويقول أيضاً :﴿ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.. " ١٢٥ " ﴾( سورة الأنعام ).
وهنا نجد أن الحق سبحانه يشرح عملية الصعود وكأن فيها مجاهدة ومكابدة، وهذا يخالف المسألة المعروفة بأنك إذا صعدت إلي أعلى وجدت الهواء اكثر نقاء. وقد ثبت أن الإنسان كلما صعد إلي أعلى في الفضاء فلن يجد هواء.
وهكذا يمكن أن تذهب عنك أي ضيق، أن تسبح الله. وإذا ما جافاك البشر أو ضايقك الخلق ؛ فاعلم أنك قادر على الأنس بالله عن طريق التسبيح ؛ ولن تجد أرحم منه سبحانه، وأنت حين تسبح ربك فأنت تنزهه عن كل شيء وتحمده، لتعيش في كنف رحمته. ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر :
﴿ فلولا أنه كان من المسبحين " ١٤٣ " للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " ١٤٤ " ﴾( سورة الصافات )ولذلك إذا ضاق صدرك في الأسباب فاذهب إلي المسبب. ونحن دائماً نقرن التسبيح بالحمد، فالتنزيه يكون عن النقائص في الذات أو في الصفات أو في الأفعال، وسبحانه كامل في ذاته وصفاته وأفعاله، فذاته لا تشبه أي ذات، وصفاته أزلية مطلقة، أما صفات الخلق فهي موهبة منه وحادثة. وأفعال الحق لا حاكم لها إلا مشيئته سبحانه، ولذلك نجده جل وعلا يقول في مسألة التسبيح :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها.. " ٣٦ " ﴾( سورة يس ).
وهو القائل :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون " ١٧ " ﴾( سورة الروم )وكل من المساء والصباح آية منه سبحانه ؛ فحين تغيب الشمس، فهذا إذن بالراحة، وحين تصبح الشمس فهذا إذن بالانطلاق إلي العمل، وتسبيح المخلوق للخالق هو الأمر الذي لا يشارك الله فيه أحد من خلقه أبداً. فكأن سلوى المؤمن حين تضيق به أسباب الحياة أن يفزع إلي ربه من قسوة الخلق ؛ ليجد الراحة النفسية ؛ لأنه يأوي إلي ركن شديد. ونجد بعضاً من العارفين بالله وهم يشرحون هذه القضية ليوجدوا عند النفس الإيمانية عزاءً عن جفوة الخلق لهم ؛ فيقولون : " إذا أوحشك من خلقه فاعلم أنه يريد أن يؤنسك به ".
وأنت حين تسبح الله فأنت تقر بأن ذاته ليست كذاتك، وصفاته ليست كصفاتك، وأفعاله ليست كأفعالك ؛ وكل ذلك لصالحك أنت ؛ فقدرتك وقدرة غيرك من البشر هي قدرة عجز وأغيار ؛ أما قدرته سبحانه فهي ذاتية فيه ومطلقة وأزلية، وهو الذي يأتيك بكل النعم. ولهذا فعليك أن تصحب التنزيه بالحمد، فأنت تحمد ربك لأنه منزه عن أن يكون مثلك، والحمد لله واجب في كل وقت ؛ فسبحانه الذي خلق المواهب كلها لتخدمك، وحين ترى صاحب موهبة وتغبطه عليها، وتحمد الله أنه سبحانه قد وهبه تلك الموهبة ؛ فخير تلك النعمة يصل إليك. وحين تسبح بحمد الله ؛ فسبحانه لا يخلف وعده لك بكل الخير ؛ فكلنا قد نخلف الوعد رغماً عناً، لأننا أغيار ؛ أما سبحانه فلا يخلف وعده أبداً ؛ ولذلك تغمرك النعمة كلما سبحت الله وحمدته. وزد خضوعاً للمنعم، فاسجد امتثالاً لأمره تعالى :
﴿ وكن من الساجدين " ٩٨ " ﴾( سورة الحجر ).
فالسجود هو المظهر الواسع للخضوع، ووجه الإنسان كما نعلم هو ما تظهر به الوجاهة ؛ وبه تلقى الناس ؛ وهو أول ما تدفع عنه أي شيء يلوثه أو ينال من رضاك عنه. ومن يسجد بأرقي ما فيه ؛ فهذا خضوع يعطي عزة، ومن يخضع لله شكراً له على نعمه فسبحانه يعطيه من العزة ما يكفيه كل أوجه السجود، وكلنا نذكر قول الشاعر :
والسجود الذي تجتويه فيه | من ألوف السجود نجاة |
وفي إقامة الأركان إظهار لقوة المسلمين، حين يظهرون كامل الولاء لله بإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم الواحد، فيترك المسلم عمله فور أن يسمع النداء ب " الله أكبر " فيخرج المسلم من صراعات الحياة، ويعلن الولاء للخالق المنعم. وحين يصوم المسلم شهراً في السنة ؛ فهو يعلن الولاء للخالق الأكرم، ويصوم عن أشياء كثيرة كانت مباحة ؛ وأول ما يأتي موعد الإمساك من قبل صلاة الفجر بقليل ؛ فهو يمتنع فوراً. وهذا الامتثال لأوامر الحق سبحانه يذكرك بنعمه عليك ؛ فأنت في يومك العادي لا تقرب المحرمات التي أخذت وقتاً أثناء بدايات الدين إلي أن امتنع عنها المسلمون، فلا أحد من المسلمين يفكر في شرب الخمر ؛ ولا أحد منهم يفكر في لعب الميسر، وانطبعت تلك الأمور ؛ وصارت عادة سلوكية في إلف ورتابة عند غالبية المسلمين ممن ينفذون شريعة الله ويطبقون " افعل " و " لا تفعل ".
وعندما يأتي الصوم فأنت تمتنع عن أشياء هي حلال لك طوال العالم، وتقضي أي نهار في رمضان ونفسك تستشرف سماع أذان المغرب لتفطر. وهكذا تمتثل للأمر بالامتناع والإمساك والأمر بالإفطار، وذلك ليعودك على الكثير من الطاعات التي تصير عند المؤمنين عادة ؛ وسبحانه يريد أن يديك عليك لذة التكليف العبادي. وبعض من الناس يذهبون مذاهب الخطأ عندما يفسرون بأهوائهم قوله الحق :
﴿ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ٩٩ " ﴾( سورة الحجر ).
ويقول الواحد من هؤلاء مخادعاً الغير " لقد وصلت إلي مرتبة اليقين "، ويمتنع عن أداء الفروض من صلاة وصوم وزكاة وحج إلي بيت الله الحرام رغم استطاعته، ويدعي أن التكليف قد سقط عنه ؛ لأن اليقين قد وصله. ونقول لمن يدعي ذلك : أتخادع الله ورسوله ؟ كلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يؤدي الفرائض حتى آخر يوم في حياته. وكلنا يعلم أن اليقين المتفق عليه والمتيقن من كل البشر، ولا خلاف عليه أبداً هو الموت. أما اليقين بالغيبيات فهو من خصوصيات المؤمن ؛ فما أن بلغه أمرها من القرآن فقد صدقها، ولم يسأل كيف يتأتى أمرها. والمثل الواضح هو أبو بكر الصديق حينما كانوا يحدثونه بالأمر الغريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول " مادام قد قال فقد صدق ".
أما الكافر والعياذ بالله فهو يشك في كل شيء غيبي أو حتى مادي ما لم يكن محسوساً لديه، ولكن ما أن يأتيه الموت حتى يعلم أنه اليقين الوحيد. ولذلك نجد عمر بن عبد العزيز يقول : " ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ". وكلنا نتيقن أننا سوف نموت ؛ لكنا نزحزح مسألة اليقين هذه بعيداً عنا رغم أنها واقعة لا محالة. فإذا ما جاء الموت، نقول : هاهي اللحظة التي لا ينفع فيها شيء إلا عمل الإنسان إن كان مؤمناً مؤدياً لحقوق الله. ولذلك أقول دائماً : إن اليقين هو تصديق الأمر تصديقاً مؤكداً، بحيث لا يطفو إلي الذهن ليناقش من جديد، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تبلغك به.
أما عين اليقين ؛ فهي التي ترى الحدث فتتيقنه، أو هو أمر حقيقي يدخل إلي قلبك فتصدقه، وهكذا يكون لليقين مراحل : أمر تصدقه تصديقاً جازماً فلا يطفو إلي الذهن ليناقش من جديد، وله مصادر علم ممن تثق بصدقه، أو : إجماع من أناس لا يجتمعون على الكذب أبداً ؛ وهذا هو " علم اليقين " ؛ فإن رأيت الأمر بعينيك فهذا هو حق اليقين. والمؤمن يرتب تصديقه وتيقنه على ما بلغه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهاهو الإمام علي كرم الله وجهه وأرضاه يقول : " ولو أن الحجاب قد انكشف عن الأمور التي حدثنا بها رسول الله غيباً ما ازددت يقيناً ". وهاهو سيدنا حارثة رضي الله عنه يقول : " كأني انظر إلي أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلي أهل النار يعذبون فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفت فالزم ". وذلك هو اليقين كما آمن به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.