تفسير سورة الشعراء

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة الشعراء
كلّها مكية إلا آيات في آخرها وهي مائتان وسبع وعشرون آية
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
قول الله سبحانه وتعالى: طسم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: بإمالة الطاء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتفخيم، وهما لغتان معروفتان عند العرب، ويجوز كلاهما.
وقرأ نافع بين ذلك، وقرأ حمزة بإظهار النون، والباقون بالإدغام لتقارب مخرجهما. ومن لم يدغم أراد التبيين، وكلاهما جائز. وأما التفسير، فروى معمر عن قتادة أنه قال: «اسم من أسماء القرآن.» «١» ويقال: والطاء طوْله، والسين سَنَاؤُهُ، والميم ملكه ومجده «٢». ويقال: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. وقال بعضهم: عجزت العلماء عن تفسيرها. ويقال: هو قسم أقسم الله تعالى به.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني: هذه آيات الكتاب. ويقال: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ التي كنت وعدت في التوراة أن أنزلها على محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابِ الْمُبِينِ يعني: القرآن يبين لكم الحق من الباطل لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ يعني: مهلك نفسك. ويقال: قاتل نفسك بالحزن أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يعني: إذا لم يصدقوا بالقرآن، وذلك حين كذبه أهل مكة شقّ ذلك عليه وحزن بذلك، فقال له: ليس عليك سوى التبليغ، ولا تقتل نفسك إن لم يؤمنوا.
ثم قال عز وجل: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً يعني: علامة فَظَلَّتْ يعني:
فصارت أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ يعني: وننزل عليهم آية تضطرهم إلى أن يؤمنوا، ولكنه لم يفعل، لأنه لو فعل ذلك لذهبت المحنة، فلم يستوجبوا الثواب إذا آمنوا بعد معاينة العذاب، كمن آمن يوم القيامة لا ينفعه إيمانه، لأنه قد ظهر له بالمعاينة. ويقال: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ يعني:
ساداتهم وكبراؤهم للآية خاضِعِينَ، والأعناق: الكبراء، فإن قيل: جمع الأعناق مؤنث.
(١) عزاه السيوطي ٦/ ٢٨٨ إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) عزاه السيوطي: ٦/ ٢٨٨ إلى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب.
وقال: خاضعين، ولم يقل: خاضعات؟ قيل له: لأن الكلام انصرف إلى المعنى، فكأنه قال:
هم لها خاضعون.
قوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ وقد ذكرناه إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ يعني: مكذبين معرضين عن الإيمان به فَقَدْ كَذَّبُوا يعني: كذبوا بالقرآن، كما قال في آية أُخرى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ [الأنعام: ٥]. ثمّ قال: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا يعني: أخبار مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني: يوم القيامة. ويقال: قد جاءهم بعض ذلك في الدنيا، وهو القتل والقهر والغلبة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٧ الى ٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ يعني: أو لم ينظروا في عجائب الأرض، ويتفكروا فيها كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ يعني: من كل نوع من النبات. ويقال: من كل لون حسن. وقال القتبي: الكريم يقع على الأنواع، والكريم: الشريف الفاضل. قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: ٧٠] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: ١٢٩] وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء: ٣١] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النمل: ٢٩] أي: شريف فاضل، والكريم: الصفوح، وذلك من الشرف كما قال: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: ٤٠] ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦] أي الصفوح، والكريم: الكثير كما قال: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: ٤] أي: كثير، والكريم: الحسن وذلك من الشرف والفضل كما قال: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [الشعراء: ٧] أي: حسن وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: ٢٣] أي: حسناً. وروي عن الشعبي أنه قال: كَمْ أَنْبَتْنا فِيها يعني: بني آدم، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
ثم قال عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: في اختلاف النبات وألوانه لَآيَةً يعني:
لعبرة لأهل مكة أنه إله واحد.
ثم قال: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: مصدقين بالتوحيد، ولو كان أكثرهم مؤمنين لم يعذّبوا. وقال مقاتل: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: وما كانوا مؤمنين بل كلهم كانوا كافرين وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ يعني: المنيع بالنقمة لمن لم يجب الرسل الرَّحِيمُ حيث لم يعجل بعقوبتهم. ويقال: رحيم بالمؤمنين.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ١٥]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
قوله عز وجل: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى يعني: اتل عليهم إذ نادى ربك موسى كما قال:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ وقال مقاتل: إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى يعني: أمر ربك يا محمد موسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني: اذهب إلى القوم المشركين قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قال مقاتل: يعني، قل لهم ألا تتقون عبادة غيره وتوحدونه. ويقال: أَلا يَتَّقُونَ يعني: ألا يعبدون الله تعالى قالَ رَبِّ يعني: قال موسى يا رب. إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ بما أقول وَيَضِيقُ صَدْرِي إذا كذبوني في رسالتك وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي لمهابته. قرأ الحضرمي، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ كلاهما بنصب القاف، وجعله نصباً بأن، ومعناه: أخاف أن يكذبون، وأن يضيق صدري، وأن لا ينطلق لساني. وقراءة العامة: بالضم على معنى الاستئناف.
ثم قال: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ يعني: أرسله معي لكي يكون عوناً لي في أداء الرسالة. ثم قال: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ يعني: قصاص بقتل القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وقال القتبي: على معنى عندي، أي: لهم عندي ذنب قالَ الله تعالى كَلَّا أي لا تخف. وقال الزجاج: كلا رَدْعٌ وتنبيه، أي: لا يقدرون على ذلك فَاذْهَبا بِآياتِنا خاطب به موسى خاصة بأن يذهب مع أخيه بآياتنا التسع إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ يعني: سامعين، وقد بيَّن ذلك في موضع آخر وهو قوله: أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] والاستماع سبب للسمع فيعبر به عنه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
قوله عز وجل: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
يعني: موسى وحده، ويضاف الشيء إلى اثنين، والمراد به أحدهما. وقال القتبي: الرسول يكون بمعنى الجمع، كما يكون الضيف بمعنى الجمع. قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي [الحجر: ٦٨]. وقال أبو عبيد: رسول بمعنى رسالة. ويقال رسول: يعني: به رسولين كقوله: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: ٤٧] فقال: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ يعني: قل لفرعون ذلك، ولم يذكر إتيانه إلى فرعون، لأن في الكلام دليلاً عليه. وقد بيّن في موضع آخر حيث قال: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ [القصص: ٣٦] وقال مقاتل: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
وانقطع الكلام، ثم انطلق موسى، وكان هارون بمصر، فانطلقا إلى فرعون قال مقاتل: فلم يأذن لهما سنة ثم أخبر البواب
فرعون أن هاهنا إنساناً يذكر أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه. وقال السدي: لما أتى باب فرعون ضرب موسى عليه السلام عصاه على الباب، ففزع من ذلك فرعون، فأذن له في الدخول من ساعته، فلما دخل عليه عرفه، فأدى الرسالة، فقال له فرعون:
أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً. - قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أول ما بدأ فرعون بكلام السفلة، ومنَّ على نبي الله صلّى الله عليه وسلّم أنما أطعمه «١» -. فقال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً. يعني: ألم تكن فينا صغيراً قد ربيناك وَلَبِثْتَ فِينا يعني: مكثت عندنا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ يعني: ثلاثين سنة وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني: قتلت النفس التي قتلتها.
وقرأ في الشاذ: فَعْلَتَكَ بكسر الفاء هي قراءة الشعبي، وقراءة العامة بالنصب، والنصب يقع على فعل واحد، والكسر على المرات. يعني: قتلت مرة، وهممت بالقتل ثانياً ثم قال: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: مِنَ الكافرين بنعمتي. ويقال: كفرت بي حيث قتلت النفس.
ويقال: وأنت من الجاحدين للقتل. يعني: لم تقر بالقتل، فأخبره موسى أنه غير جاحد للقتل قالَ فَعَلْتُها إِذاً يعني: قتلت النفس وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ عن النبوة كقوله وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: ٧] ويقال: من الجاهلين ولم أتعمد القتل. قال القتبي: أصل الضلالة العدُول عن الحق، ثم يكون لمعاني منها النسيان، لأن الناسي عادل عنه، فكما قال هاهنا فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: من الناسين وكما قال: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة:
٢٨٢].
ثم قال عز وجل: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ يعني: هربت منكم إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسي أن تقتلوني فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً قال الكلبي: يعني النبوة، وقال مقاتل: يعني العلم والفهم، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ إليكم.
ثم قال عز وجل: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني: أو كان هذا نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل، فكأنه أنكر عليه. فقال: كيف تكون نعمتك التي تمن علي؟ فإنك قد عبدت بني إسرائيل، أي استعبدتهم، ولم تعبدني. ويقال: معناه تِلْكَ نِعْمَةٌ إنما صارت نعمة بتعبيدك بني إسرائيل، لأنك لو لم تعبدهم لم تجعلني أمي في التابوت حتى صرت في بيتك، ولكن إنما صارت نعمة لأجلك، حيث عبدت بني إسرائيل. وقال مقاتل:
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تمنها على يا فرعون بإحسانك إلي خاصة، وبترك أبنائك أن عبدت بني إسرائيل.
وقال الكلبي يقول: تستعبد بني إسرائيل، وتمن علي بذلك.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٣٣]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «ب».
قالَ فِرْعَوْنُ لموسى وَما رَبُّ الْعالَمِينَ منكراً له، وهذا جواب لقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
فجاء بجواب قطع حجته قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بتوحيد الله تعالى. فعجز فرعون عن الجواب قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ إلى قول موسى عليه السلام قَالُواْ له: فما تقول يا موسى؟ فجاء بحجة أُخرى ليؤكد عليهم قالَ رَبُّكُمْ يعني: أدعوكم إلى ربكم وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ يعني: إلى توحيد خالقكم وخالق آبائكم الأولين. قالَ فرعون لجلسائه: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ موسى عليه السلام ليس بمجنون مثلي أدعوكم إلى رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يعني: إن كان لكم ذهن الإنسانية.
فلما عجز عن الجواب، مال إلى العقوبة كما يفعل السلاطين قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي يعني: لئن عبدت رباً غيري. لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ يعني: لأحبسنك في السجن. قال ابن عباس: «وكان سجنه أشد من القتل» قالَ موسى أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ يعني: ولو جئتك بحجة بينة يستبين لكم أمري قالَ فرعون فَأْتِ بِهِ يعني: فَأَرِنَاهُ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بأنك رسول فَأَلْقى عَصاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ يعني: حية صفراء من أعظم الحيات وَنَزَعَ يَدَهُ يعني: أخرج يده فقال لهم: ما هذه؟ فقالوا: يدك، فأدخلها في جيبه وأخرجها فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ يعني: لها شعاع غلب شعاع الشمس، وانتشر الضوء حوالي مصر للناظرين، لمن نظر إليها من غير برص، فعجبوا من ذلك.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٤ الى ٥١]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣)
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨)
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
553
قوله عز وجل: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يعني: قال فرعون لمن حوله من الرؤساء والأشراف، وأصله في اللغة: من ملأ. قال بعضهم: الملأ بما يراد بهم مائتان وخمسون، وقال بعضهم: ثلاثمائة وخمسون، وهم جماعة الملّي. ويقال: يملأ العين هيبة يعني: إذا نظر إليها الناظر.
ثم قال: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ يعني: من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ يعني: تشيرون قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ يعني: أحسبهما وأخّرهما ولا تقتلهما، ولا تؤمن بهما.
وأصله: من التأخير، يعني: أخر أمرهما حتى تنظر وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يحشرون عليك السحرة يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يعني: حاذقاً فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم عيد لهم، وهو يوم الزينة. قال مقاتل: هم اثنان وسبعون ساحراً. ويقال: سبعون ألفاً.
وقال الزجاج: ذكر أن السحرة كانوا اثني عشر ألفاً وَقِيلَ لِلنَّاسِ يعني: أهل مصر هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ للسحرة للميعاد لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ على أمرهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ.
قوله عز وجل: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ يعني: إلى الميقات قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً يعني: جعلا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ يعني: أتجازينا إن غلبناه قالَ نَعَمْ أجازيكم وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ يعني: لكم مع الجائزة المنزلة والكرامة عندي قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ يعني: اطرحوا فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ يعني: نغلب موسى فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ يعني: تلتقم وتبتلعُ ما يَأْفِكُونَ يعني: ما يطرحون من الحبال والعصي.
قوله عز وجل: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي خروا سجداً لله تعالى قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ فقال فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: رَبِّ مُوسى وَهارُونَ يعني: خالق موسى وهارون عليهما السلام قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ماذا أصنع بكم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ على شاطئ نهر مصر قالُوا يعني: السحرة لاَ ضَيْرَ أي: لا يضرنا ما فعلت بنا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ يعني: إلى خالقنا راجعون إِنَّا نَطْمَعُ يعني: نرجو أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا يعني:
شركنا وسحرنا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أول المصدقين من قوم فرعون. وذكر عن الفراء أنه قال: كانوا أول مؤمني أهل دهرهم. وقال الزجاج: لا أحسبه عرف الرواية، لأن الذين كانوا مع موسى روي في التفسير أنهم ستمائة ألف وسبعين ألفاً، ولكن معناه: أول من آمن في هذه الساعة.
554

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٢ الى ٦٢]

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)
قوله عز وجل: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي يعني: ببني إسرائيل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يعني: يتبعكم فرعون وقومه. ويقال: أسرى يسري إسراء، إذا سار ليلاً، يعني: اذهبْ بهم بالليل فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يحشرون الناس لقتال موسى عليه السلام ليخرج في طلبه. وقال: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ يعني: طائفة وعصبة وجماعة قليلون.
وقال الزجاج: الشرذمة في كلام العرب القليل. ويروى أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يعني: لمبغضين ويقال: إنا لغائظون يعني: لمبغضين بخلافهم لنا، وذهابهم بحليّنا.
ثم قال عز وجل: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي: مودون شاكون في السلاح. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو حذرون بغير ألف، والباقون بالألف، والحاذر: المستعد، والحذر:
المستيقظ. ويقال: الحاذر الذي يحذر في الفور، والحذر الذي لا تلقاه إلا حذراً. وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: حاذِرُونَ بالألف، وكان يقول: «يعني ذا أداة من السلاح». ومعناه:
إنا قد أخذنا حذرنا من عدونا بسلاحنا.
قال الله تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ يعني: فرعون وقومه مِنْ جَنَّاتٍ يعني: البساتين وَعُيُونٍ يعني: الأنهار الجارية وَكُنُوزٍ يعني: من الأموال الكثيرة وَمَقامٍ كَرِيمٍ يعني:
المنازل الحسنة. ويقال: المنابر التي يعظم عليها فرعون. قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وَعُيُونٍ بضم العين في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان، وكلاهما جائز.
وقال بعضهم: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ كلام فرعون إنا أخرجنا بني إسرائيل من أرض مصر، والطريق الأول أشبه كما قال في موضع آخر: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان: ٢٥] الآية. ثم قال: كَذلِكَ يعني: هكذا أفعل بمن عصاني.
ثم استأنف فقال عز وجل: وَأَوْرَثْناها ويقال: كذلك أورثناها يعني: هكذا أنزلنا فيها، يعني: في مساكن فرعون بَنِي إِسْرائِيلَ بعد ما غرق فرعون، ثم قال: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ يعني: عند طلوع الشمس.
قوله عز وجل: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ يعني: تقاربا ورأى بعضهم بعضاً، وذلك أن فرعون أرسل في المدائن حاشرين ليحشروا الناس، فركب وركب معه ألف ألف ومائتا ألف
فارس سوى الرجّالة، أي المشاة، فلما دنوا من عسكر موسى قالَ أَصْحابُ مُوسى لموسى عليه السلام إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعني: يدركنا فرعون قالَ موسى كَلَّا لا يدرككم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ يعني: سينجيني ويهديني إلى طريق النجاة.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٨]
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
قوله عز وجل: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ وفي الآية مضمر، ومعناه: فضربه بالعصا فانفلق البحر فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ يعني: كالجبل العظيم وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ يعني: قربنا قوم فرعون إلى البحر، وأدنيناهم إلى الغرق، ومنه قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء: ٩٠] أي أدنيت وقربت.
وروي عن الحسن قال: وَأَزْلَفْنا. يعني: أهلكنا. وقال غيره: وَأَزْلَفْنا أي جمعناهم في البحر حتى غرقوا، وفيه قيل لجمع: المزدلفة. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ يعني:
من البحر ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني: فرعون وقومه، وقد ذكرنا القصة في موضع آخر.
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: فيما صنع لَآيَةً، يعني: لعبرة لمن بعدهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: مصدقين، يعني: لو كان أكثرهم مؤمنين لم يهلكهم الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
بالنعمة الرَّحِيمُ لمن تاب
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٨٥]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥)
قوله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ يعني: أخبر أهل مكة خبر إبراهيم، كيف قال لقومه، ثم أخبرهم عن ذلك فقال: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ وذلك أن إبراهيم عليه السلام، لما ولدته أمه في الغار، فلما خرج وكبر دخل المصر، فأراد أن يعلم على أي مذهب هم، وهكذا ينبغي للعاقل إذا دخل بلدة أن يسألهم عن مذهبهم، فإن وجدهم على الاستقامة
دخل معهم، وإن وجدهم على غير الاستقامة أنكر عليهم. فقال لهم إبراهيم: ما تَعْبُدُونَ؟
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي: فنقيم عليها عابدين، فأراد أن يبين عيب فعلهم فقال: قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ يعني: هل تجيبكم الآلهة، سمَّى الإجابة سمعاً، لأن السمع سبب الإجابة إِذْ تَدْعُونَ يعني: هل يجيبونكم إذا دعوتموهم أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ إذا عبدتموهم أَوْ يَضُرُّونَ يعني: يضرونكم إن لم تعبدوهم قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ يعني: وجدنا آباءنا يعبدونهم، هكذا فنحن نعبدهم. قالَ لهم إبراهيم عليه السلام أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الإعلام، يعني: اعلموا أن الذي كنتم تعبدون أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ وَأَجْدَادُكُمْ يعني: معبودكم ومعبود آبائكم وأجدادكم الْأَقْدَمُونَ يعني: الماضين فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي يعني: هم أعدائي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ يقال معناه: إلا من يعبد رب العالمين. ويقال: كانوا يعبدون مع الله الآلهة، فقال لهم: جميع ما تعبدون من الآلهة، فهو عدو لي إلا رب العالمين، فإنه ليس بعدوّ لي. ويقال: معناه أتبرأ من أفعالكم وأقوالكم، إلا الذي تقولون: رب العالمين وهو قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: ٨٧] ويقال: إِلَّا بمعنى لكن، ومعناه: فإنهم عدو لي، لكن رب العالمين، يعني: لكن أعبد رب العالمين.
ثم وصف لهم رب العالمين فقال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ يعني: يحفظني ويثبتني على الهدى وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ يعني: هو الذي يرزقني ويرحمني. ثم قال: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فقد أضاف سائر الأشياء إلى الله تعالى، وأضاف المرض إلى نفسه، لأن المرض بكسب يده كقوله عز وجل: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:
٣٠] وفيه كفارة وإذا كان أصله من كسب نفسه، أضافه إلى نفسه.
ثم قال: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ يعني: يميتني في الدنيا، ويحييني للبعث وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ يعني: أرجو أن يغفر خطيئتي، وهو قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٩] ويقال قوله: هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٨] ويقال: ما كان نبي من الأنبياء عليهم السلام إلا وقد همّ بزلة.
ثم قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً يعني: النبوة وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يعني: بالمرسلين في الجنة وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ يعني: الثناء الحسن في الباقين، وإنما أراد بالثناء الحسن، لكي يقتدوا به، فيكون له مثل أجر من اقتدى به وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ يعني: اجعلني ممن ينزل فيها.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
557
ثم قال: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ يعني: اهده إلى الحق من الضلالة والشرك.
يعني: إنه كان من المشركين في الحال كقوله عز وجل: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم: ٢٩] يعني: من هو في الحال صبي. ويقال: إنه كان من الضالين حين فارقته كقوله: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: ٧٩] وهذا الاستغفار حين كان وعده بالإسلام.
وقال مقاتل: إن إبراهيم عليه السلام قد كذب ثلاث كذبات، وأخطأ ثلاث خطيئات، وابتلي بثلاث بليات، وسقط سقطة. فأما الكذبات فقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٩] وقوله:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٦٣] وقوله لسارة حين قال هي أختي. والخطايا: قوله للنجم القمر والشمس: هذا رَبِّي [الأنعام: ٧٨] وأما البليات: حين قذف في النار، والختان والأمر بذبح الولد. وسقط سقطة حين دعا لأبيه، وهو مشرك. وقال غيره: لم يكذب ولم يخطئ، ولم يسقط، لأنه قال: إِنِّي سَقِيمٌ يعني: سأسقم، لأن كل آدمي سيصيبه السقم. وقوله:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا قَد قرنه بالشرط، وهو قوله: إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: ٦٣] وقوله لسارة: هي أخته، فكانت أخته في الدين. وقوله: هذا رَبِّي كان على وجه الاسترشاد لا للتحقيق. ويقال: كان ذلك القول على سبيل الإنكار والزجر. يعني: أمثل هذا ربي. وأما دعاؤه لأبيه، فلوعدة وعدها إياه، وقد بيّن الله تعالى بقوله: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤]- يعني: أن أباه وعده أنه سيؤمن، فما دام حياً يرجو أو يدعو. وإذا مات ضالاً ترك الاستغفار. ويقال: إن إبراهيم كان وعده أن يستغفر له حيث قال:
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي فاستغفر له ليكون منجز الوعد «١» - ثم قال: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يعني: لا تعذبني يَوْمِ يُبْعَثُونَ من قبورهم، إلى هاهنا كلام إبراهيم، وقد انقطع كلامه.
ثم إن الله تبارك وتعالى وصف ذلك اليوم فقال: يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ يعني: يوم القيامة لا ينفع الذي خلفوه في الدنيا، وأما المال الذي أنفقوا في الخير، فإنه ينفعهم، وَلا بَنُونَ يعني: للكفار لأنهم كانوا يقولون: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: ٣٥]، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في ذلك اليوم المال ولا البنون، وأما المسلمون فينفعهم المال والبنون، لأن المسلم إذا مات ابنه قبله يكون له ذخراً وأجراً في الجنة، وإن تخلف بعده، فإنه يذكره بصالح دعائه، فينفعه ذلك.
ثم قال: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يعني: من جاء بقلب سليم يوم القيامة ينفعه المال والبنون. ويقال: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فذلك الذي ينفعه، والقلب السليم: هو القلب المخلص. وقال ابن عباس: «يعني: بقلب خالص من الشرك».
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
558
وروى أبو أسامة عن عوف قال: قلت لابن سيرين، «ما القلب السليم؟ قال: أن تعلم أن الله عز وجل حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور»، ويقال: سليم من اعتقاد الباطل. ويقال: سليم من النفاق والهوى والبدعة. وسئل أبو القاسم الحكيم عن القلب السليم، فقال: له ثلاث علامات، أولها: أن لا يؤذي أحداً، والثاني: أن لا يتأذى من أحد، والثالث: إذا اصطنع معروفا إلى أحد لم يتوقع منه المكافأة، فإذا هو لم يؤذ أحداً، فقد جاء بالورع، وإذا لم يتأذ من أحد، فقد جاء بالوفاء، وإذا لم يتوقع المكافأة بالاصطناع، فقد جاء بالإخلاص.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ١٠١]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)
ثم قال عز وجل: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني: قربت الجنة للمتقين الذين يتقون الشرك والفواحش، يعني: أن المتقين قربوا من الجنة.
ثم قال: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ يعني: والجحيم أظهرت، وكشفت غطاءها لِلْغاوِينَ يعني: للكافرين. ويقال: يؤتى بها في سبعين ألف زمام وَقِيلَ لَهُمْ يعني: للكفار أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعني: أين معبودكم الذين كنتم تعبدون من دون الله هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ يعني: هل يمنعونكم من العذاب؟ أَوْ يَنْتَصِرُونَ يعني: هل يمتنعون من العذاب؟ فاعترفوا أنهم لا ينصرونهم، ولا ينتصرون، فأمر بهم في النار. ويقال: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الشياطين، لأنهم أطاعوها في المعصية، فكأنهم عبدوها.
قوله عز وجل: فَكُبْكِبُوا فِيها يعني: جمعوا فيها هُمْ وَالْغاوُونَ. ويقال: فَكُبْكِبُوا فِيها فقذفوا من النار، هُمْ وَالْغاوُونَ يعني: الكفار والآلهة، والشياطين الذين أغووا بني آدم، وهذا قول مقاتل. ويقال: فَكُبْكِبُوا فِيها يعني: ألقي بعضهم على بعض. وقال القتبي:
الأصل كببوا، أي ألقوا على رؤوسهم فيها، فأبدلت مكان إحدى الباءين كاف. وقال الزجاج:
هو تكرير الانكباب، لأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر فيها. ويقال: جمعوا فيها، ومنه حديث جبريل عليه السلام «أنه ينزل في كبكبة من الملائكة». يعني: جماعة من الملائكة عليهم السلام.
ثم قال عز وجل: وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ يعني: جمعوا فيها جميعاً قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ- يعني: الكفار والأصنام. ويقال: الكفار والشياطين ويقال: الرؤساء والأتباع.
ومعناه: قالوا وهم يختصمون فيها «١» - على معنى التقديم تَاللَّهِ يعني: والله إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني: في خطأ بين إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ يعني: نطيعكم كما يطيع المؤمنون أمر الله عز وجل. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ يعني: ما صرفنا عن الإيمان إلا الشياطين. ويقال: رؤساؤنا ويقال: آباؤنا المشركون فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يعني: حيث يرون الأنبياء عليهم السلام يشفعون للمؤمنين، والملائكة عليهم السلام يشفعون، ولا يشفع أحد للكفار. فيقولون: ليس أحد يشفع لنا وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ يعني: قريب يهمه أمرنا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٢ الى ١١٠]
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠)
قوله عز وجل: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً يعني: رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني:
من المصدقين على دين الإسلام إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: لعبرة لمن يعبد غير الله تعالى، ليعلم أنه يتبرأ منه في الآخرة، ولا ينفعه وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: الذين جمعوا في النار، لم يكونوا مؤمنين وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ بالنقمة لمن عبد غيره الرَّحِيمُ بالمؤمنين.
قوله عز وجل: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ يعني: نوحاً عليه السلام وحده. ويقال:
جميع الأنبياء عليهم السلام، لأن نوحاً عليه السلام دعاهم إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل عليهم السلام، فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ يعني: نبيهم، سماه أخوهم، لأنه كان منهم وابن أبيهم أَلا تَتَّقُونَ يعني: ألا تخافون الله تعالى فتوحدوه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فيما بينكم وبين ربكم، وجعلني الله عز وجل أميناً في أداء الرسالة إليكم. ويقال: إنه كان أميناً فيهم قبل أن يبعث فَاتَّقُوا اللَّهَ أي: خافوا الله وَأَطِيعُونِ يعني:
فاتبعوني فيما أمركم به وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ يعني: على الإيمان مِنْ أجر يعني: أجرا إِنْ أَجْرِيَ يعني: ما ثوابي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وقد ذكرناه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١١١ الى ١٢٢]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «ب».
قوله عز وجل: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ يعني: أنصدقك وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ يعني: سفلتنا ويقال: المساكين، ويقال: الضعفاء. قرأ يعقوب الحضرمي: وأتباعك الأرذلون وهو جمع تابع ومعناه: وأتباعك الأرذلون، وقراءة العامة وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ بلفظ الماضي اتّبعك من تبعك قالَ لهم نوح: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: ما كنت أعلم أن الله تعالى يهديهم من بينكم ويدعكم إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي يعني: ما حسابهم إلا على ربي. ويقال:
ما سرائرهم إلا عند ربي لَوْ تَشْعُرُونَ أن الله تعالى علام الغيوب.
قالوا لنوح: اطردهم حتى نؤمن بك. قال لهم نوح: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني: ما أنا إلا منذر لكم بلغة تعرفونها قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي من المقتولين. ويقال: من المرجومين بالحجارة.
قوله عز وجل: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ بالعذاب والتوحيد فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً يعني: اقض بيني وبينهم قضاء، ويقال للقاضي: فتاح، وهذه لغة أهل اليمن وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من العذاب ومن أذى الكفار فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ يعني: السفينة المملوءة الموقرة من الناس والأنعام، وغير ذلك ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ يعني:
من بقي ممن لم يركب السفينة، ولفظ البعد والقبل إذا كان بغير إضافة يكون بالرفع مثل قوله:
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم: ٤] وكقوله: ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ وإذا كانت بالإضافة يكون نصباً في موضع النصب كقوله: وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ [الأنبياء: ١١].
ثم قال عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: لعبرة لمن استخف بفقراء المسلمين واستكبر عن قول الحق وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فلم يؤمن من قومه إلاَّ ثمانون من الرجال والنساء وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ بالنقمة لمن تعظم عن الإيمان، واستخف بضعفاء المسلمين، واستهزأ بهم الرَّحِيمُ لمن تاب.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٣٢]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
وقوله عز وجل: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ يعني: كذبوا هوداً عليه السلام إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وقد ذكرناه أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ يعني: بكل طريق آيَةً علامة،
ويقال: بكل شرف علماً تَعْبَثُونَ يعني: تلعبون ويقال: تضربون، فتأخذون المال ممن مر بكم.
وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: آيَةً تَعْبَثُونَ «يعني: تبنون ما لا تسكنون». وقال أهل اللغة: كل لعب لا لذة فيه فهو عبث. واللعب: ما كان فيه لذة، فهم إذا بنوا بناء ولا منفعة لهم فيه، فكأنهم يعبثون.
ثم قال عز وجل: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ يعني: القصور. وقال مجاهد: المصانع قصور وحصون. وقال القتبي: المصانع البناء، واحدها مصنعة ويقال: الريع الارتفاع من الأرض.
ومعناه: أنكم تبنون البناء والقصور، وتظنون أن ذلك يحصنكم مِنْ أقدار الله تعالى. ويقال:
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ يعني: الحياض لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ يعني: كأنكم تخلدون في الدنيا.
قوله عز وجل: وَإِذا بَطَشْتُمْ يعني: عاقبتم ويقال: يعني: ضربتم بالسوط وقتلتم بالسيف بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ يعني: فعلتم كفعل الجبارين، لأن الجبارين يضربون ويقتلون بغير حق، وأصل البطش في اللغة: هو الأخذ بالقهر والغلبة فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ يعني: أعطاكم بِما تَعْلَمُونَ ما تعلمون من الخير.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٤٠]
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
ثم بيّن فقال: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ يعني: أعطاكم الأموال والبنين وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني: البساتين والأنهار الجارية، فاعرفوا رب هذه النعمة، واشكروه ليديم عليكم النعمة، فإنكم إن لم تشكروه ف إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني: أعلم أنه يصيبكم العذاب في الدنيا والآخرة.
قوله عزّ وجل: قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ يعني: نهيتنا وخوفتنا من العذاب أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ يعني: من الناهين. روي عن ابن عباس أنه قال: «هو الوعظ بعينه» إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرأ أبو عمرو والكسائي وابن كثير: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ بنصب الخاء، وقرأ الباقون بالضم. فمن قرأ بالنصب، فمعناه: ما هذا العذاب الذي تذكره إلا أحاديث الأولين.
ويقال: الإحياء بعد الموت لا يكون، وإنما هذا خلق الأولين، أنهم يعيشون ثم يموتون وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قال القتبي: الخلق الكذب كقوله: إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: ٧] وكقوله: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ١٣٧] أي: خوضهم للكذب. والعرب تقول للخرافات: أحاديث الخلق قال: وأصل الخلق التقدير، وهاهنا أراد به: اختلافهم وكذبهم. وأما من قرأ بضم الخاء، فمعناه: إن هذا إلا عادة الأولين، والعادة أيضاً تحتمل المعنيين، مثل الأول.
ثم قال عز وجل: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ يعني: كذبوا هودا فأهلكناهم بالريح إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: لعبرة لمن يعمل عمل الجبارين، ولا يقبل الموعظة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: قوم عاد، ولو كان أكثرهم لم يهلكهم الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ يعني: المنيع بالنقمة لمن يعمل عمل الجبارين، ولا يقبل الموعظة، وهو تخويف لهذه الأمة لكيلا يسلكوا مسالكهم، الرَّحِيمُ لمن تاب ورجع.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٣]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣)
قوله عز وجل: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ يعني: صالحاً ومن قبله من المرسلين عليهم السلام إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ يعني: نبيهم صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ وقد ذكرناه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وقد ذكرناه أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ يعني: في هذا الخير والسعة آمنين من الموت فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني: البساتين والأنهار. ويقال: العيون هاهنا الآثار، لأن قوم صالح لم يكن لهم أنهار جارية.
ويقال: كانت لهم بالشتاء آبار، وكانوا يسكنون في الجبال، وفي أيام الصيف كانوا يخرجون إلى القصور والكروم والأنهار.
ثم قال عز وجل: وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ قال مقاتل: يعني: متراكباً بعضه على بعض. وقال القتبي: الهضيم الطلع قبل أن تنشق عنه القشر يريد أنه منضمّ متكثر، يقال: رجل أهضم الكشحين، إذا كان منضماً. ويقال: هَضِيمٌ أي طري لين ويقال: هَضِيمٌ متهشهش في الفم وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ قرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: فرهين بغير ألف، وقرأ الباقون فارِهِينَ بالألف، فمن قرأ فرهين، فهو بمعنى أشرين بطرين، وهو الطغيان في النعمة، وإنما صار نصباً على الحال. ومن قرأ فارِهِينَ، يعني: حاذقين فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به.
قوله عز وجل: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ يعني: قول المشركين وهم تسعة رهط الَّذِينَ كانوا يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ يعني: لا يأمرون بالصلاح، ولا يطيعونه فأجابه قومه: قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يعني: من المخلوقين. ويقال: ذو سحر،
والسحر هو الدية، يعني: إنك مثلنا. وروي عن ابن عباس أنه قال: مِنَ الْمُسَحَّرِينَ «أي من المخلوقين، وقال: أما سمعت قول لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
ويقال: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. يعني: سوقة مثلنا، والسّوقه إذا كان دون الملوك.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٩]
مآ أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
ثم قال: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يعني: آدمي مثلنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنك رسول الله تعالى: قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ والشرب في اللغة: النصيب من الماء، والشُرب بضم الشين المصدر، والشَرب بنصب الشين جماعة الشراب، فكان للناقة شرب يوم، ولهم شرب يوم، فذلك قوله: وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ يعني: لا تصيبوها بعقر يعني: لا تقتلوها، فإنكم إن قتلتموها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني: صيحة جبريل عليه السلام فَعَقَرُوها يعني: قتلوا الناقة فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ يعني:
فصاروا نادمين على عقرها.
قوله عز وجل: فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ يعني: عاقبهم الله تعالى بالعذاب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: لعبرة لمن يعظم آيات الله تعالى، وكانت النَّاقة علامة لنبوة صالح عليه السلام، فلما أهلكوها ولم يعظموها صاروا نادمين، والقرآن علامة لنبوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فمن رفضه، ولم يعمل بما فيه، ولم يعظمه يصير نادماً غداً، ويصيبه العذاب وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: قوم صالح عليه السلام وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ يعني: المنيع بالنقمة لمن لم يعظم آيات الله تعالى، الرَّحِيمُ لمن تاب ورجع.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
قوله عز وجل: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ يعني: لوطاً وغيره إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وقد ذكرناه.
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ يعني: أتجامعون الرجال من بين العالمين وَتَذَرُونَ يعني: وتتركون مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ يعني: من نسائكم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ يعني: معتدين من الحلال إلى الحرام قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ من مقالتك لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من قريتنا قالَ لوط إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ يعني: من المبغضين ويقال:
قليت الرجل إذا بغضته، ومنه قوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: ٣].
قوله عز وجل: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من الفواحش فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ يعني: الباقين في العذاب. يعني: وامرأته. ويقال: إن هذا من أسماء الأضداد. يقال: غبر الشيء إذا مضى، وغبر الشيء إذا بقي: وقال بعض أهل اللغة: القالي التارك للشيء الكاره له غاية الكراهة ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ يعني: أهلكنا الباقين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني: الحجارة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ يعني: بئس مطر من أنذر، فلم يؤمن إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: لعبرة لمن عمل الفواحش، أي وارتكب الحرام وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ بالنعمة لمن ارتكب الفواحش، وعمل الحرام الرَّحِيمُ لمن تاب.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٨٠]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
قوله عز وجل: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي الْأَيْكَةِ بكسر الهاء وبالألف، وقرأ الباقون ليكة بغير ألف ونصب الهاء، لأن ليكة اسم بلد ولا تنصرف.
من قرأ الأيكة فلأنها عرفت بالألف واللام، فيصير خفضا بالإضافة وقرئ في الشاذ: ليكة بكسر الهاء بغير ألف، لأن الأصحاب مضاف إلى ليكة، فصار اسماً واحداً. ويقال: الْأَيْكَةِ هي الشجرة الملتفة يقال: أيك وأيكة، مثل أجم وأجمة، ويقال: شجرة الدوم، وهو شجر المقل كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ.
ثم قال عز وجل: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل أخوهم، قال بعضهم: كان شعيب بعث إلى قومين أحدهما: مدين، وكان شعيب منهم، فسماه أخاهم حيث قال: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [هود: ٨٤]، والآخر: أصحاب الأيكة، ولم يكن شعيب عليه السلام منهم، فلم يقل
أخوهم وقال بعضهم: كان مدين والأيكة واحداً، وهو الغيضة بقرب مدين، فذكره في موضع أخوهم، ولم يذكره في الآخر. ثم قال: أَلا تَتَّقُونَ يعني: ألا تخافون الله تعالى فتوحدوه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وقد ذكرناه.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٨١ الى ١٩١]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
ثم قال عز وجل: أَوْفُوا الْكَيْلَ لا تنقصوها وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ يعني: من الناقصين في الكيل والوزن، وفي هذا دليل على أنه أراد بهذا أهل مدين، لأنه ذكر في تلك الآية وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ
[الأنعام: ١٥٢] كما ذكرها هنا.
ثم قال: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ يعني: بميزان العدل بلغة الروم. ويقال: هو القبان وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يعني: لا تنقصوا الناس حقوقهم. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بالقسطاس بكسر القاف، وقرأ الباقون بالضم، وهما لغتان.
ثم قال: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يعني: لا تسعوا فيها بالمعاصي. يقال: عثا يعثو، وعاث يعيث، وعثى يعثي إذا ظهر الفساد.
ثم قال عز وجل: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يعني: الخليقة الأولين قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وقد ذكرناه وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ يعني:
ما نظنك إلا من الكاذبين فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي جانبا من السماء، وقرئ كِسَفاً بنصب السين، أي قطعاً، وهو جمع كسفة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ شعيب عليه السلام: رَبِّي أَعْلَمُ من غيره بِما تَعْمَلُونَ من نقصان الكيل فَكَذَّبُوهُ ثانية فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ لأنه أصابهم حر شديد، فخرجوا إلى الغيضة، فاستظلوا بها، فأرسل عليهم ناراً فأحرقت الغيضة، فاحترقوا كلهم إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ صار العذاب نصباً، لأنه خبر كان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: لعبرة لمن نقص في الكيل والوزن وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني: قوم شعيب وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ بالنقمة لمن نقص الكيل والوزن الرَّحِيمُ لمن تاب ورجع.

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ١٩٩]

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَّا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
قوله عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني: القرآن، ويقال: إنه إشارة إلى ما ذُكر في أول السورة تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، وأنه يعني: الكتاب لتنزيل رب العالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر نَزَّلَ بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن قرأ بالتشديد، فمعناه: نَزَّلَ الله تعالى بالقرآن الروح الأمين، يعني:
جبريل عليه السلام، نصب الروح لوقوع الفعل عليه، يعني: أنزل الله تعالى جبريل بالقرآن. ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: نزل جبريل عليه السلام بالقرآن، فجعل الروح رفعاً لأنه فاعل. ثم قال:
عَلى قَلْبِكَ أي نزله عليك ليثبت به قلبك، ويقال: أي لكي يحفظ به قلبك. ويقال: عَلى قَلْبِكَ أي نزل على قدر فهمك وحفظك. ويقال: أي نزله عليك فوعاه قلبك، وثبت فيه، فلا تنساه أبداً كما قال: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦] ويقال: عَلى قَلْبِكَ يعني: على موافقة قلبك ومرادك لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ يعني: من المخوفين بالقرآن للكفار من النار.
ثم قال عز وجل: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ يعني: يبيّن لهم بلغتهم. ويقال: بلغة قريش وهوازن، وكان لسانهما أفصح. قال مقاتل: وذلك أنهم كانوا يقولون: إنه يُعلمه أبو فكيهة، وكان أعجمياً رومياً، فأخبر أن القرآن بلغة قريش وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعني: أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وصفته في كتب الأولين، كما قال: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: ١٥٧] والزبر: الكتب، واحدها زبور، مثل رسل ورسول، ويقال: إنه يعني: القرآن لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعني: بعضه كان في كتب الأولين، ويقال: نعت القرآن، وخبره كان في كتب الأولين.
ثم قال عز وجل: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً قرأ ابن عامر وحده تكن وآية بالضم، وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير آيَةً بالنصب. فمن قرأ بلفظ التذكير والنصب جعل أَنْ يَعْلَمَهُ اسم كان، وجعل آيَةً خبر كان، والمعنى: أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل على جهة المعنى. ومن قرأ بلفظ التأنيث والضم، جعل آية هي الاسم، وأَنْ يَعْلَمَهُ خبر تكن، ومعنى القراءتين واحد، وذلك أن كفار مكة بعثوا رسولاً إلى يهود المدينة، وسألوهم عن بعثته فقالوا: هذا زمان خروجه ونعته كذا، فنزل: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً يعني: لكفار مكة آيَةً يعني: علامة أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني: إن هذا علامة لهم ليؤمنوا به.
ثم قال: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ يعني: القرآن لو نزلناه بالعبرانية على رجل ليس بعربي اللسان من العبرانيين فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ يعني: على كفار مكة مَّا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ
يعني: بالقرآن، فهذا منة من الله تعالى، حيث خاطبهم بلغتهم ليفهموه. وقال القتبي: في قوله عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ يقال: رجل أعجمي إذا كان في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، ورجل عجمي بغير ألف إذا كان من العجم وإن كان فصيح اللسان.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٠ الى ٢٠٧]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ مَّا كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)
ثم قال عز وجل: كَذلِكَ سَلَكْناهُ يعني: جعلنا التكذيب بالقرآن فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يعني: المشركين مجازاة لهم، أي طبع على قلوبهم، وسلك فيها التكذيب. ويقال:
جعل حلاوة الكفر في قلوبهم لا يُؤْمِنُونَ يعني: بالقرآن ويقال: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ في الدنيا والآخرة فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً يعني: يأتيهم العذاب فجأة وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ به فيتمنون الرجعة والنظرة فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ فلما وعدهم العذاب قالوا:
فأين العذاب؟ تكذيباً به. يقول الله تعالى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ يعني: أبمثل عذابنا يستهزئون ثم قال أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ يعني: سنين الدنيا كلها. ويقال: سنين كثيرة ثُمَّ جاءَهُمْ مَّا كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب.
قال عز وجل: مَا أَغْنى عَنْهُمْ يعني: ما ينفعهم مَّا كانُوا يُمَتَّعُونَ في الدنيا.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٨ الى ٢١٣]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
ثم خوفهم فقال: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني: من أهل قرية فيما خلا إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ يعني: رسلاً ينذرونهم ذِكْرى يعني: العذاب تذكرة وتفكراً، قال بعضهم: إن ذِكْرى في موضع النصب. وقال بعضهم: في موضع رفع. أما من قال: في موضع النصب، فيقول: لها منذرون يذكرونهم ذكرى، يعني: يعظونهم عظة. ومن قال: إنه في موضع رفع فيقول: لها منذرون هم ذكرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ يعني: بإهلاكنا إياهم.
ثم قال عز وجل: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. روي عن الحسن أنه قرأ وما تنزلت به الشياطون شبههُ بقوله: كافرون ومسلمون. قال أبو عبيدة: وهذا وهم، لأن واحدها شيطان، والنون فيه أصلية، أما مسلمون وكافرون فالنون فيهما زائدة في الجمع، لأن واحدهما مسلم وكافر. وقال بعضهم: هذا غلط على الحسن، لأنه كان فصيحاً لا يخفى عليه، وإنما الغلط من الراوي، ومعنى الآية: أن المشركين كانوا يقولون: إن الشيطان هو الذي يقرأ عليه. قال الله
تعالى ردا لقولهم: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ يعني: وما جاز لهم وَما يَسْتَطِيعُونَ ذلك، وقد حيل بينهم وبين السمع.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «لا يستطيعون أن يحملوا القرآن، ولو فعلوا ذلك لاحترقوا».
ثم قال عز وجل: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ يعني: إنهم عن الاستماع لمحجوبون وممنوعون.
ثم قال فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وذلك حين دعي إلى دين آبائه، فأخبره الله تعالى أنه لو اتخذ إلها آخر عذبه الله تعالى، وإن كان كريماً عليه كقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:
٦٥] فكيف بغيره.
وروي في الخبر: «أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: أرميا، بأن يخبر قومه بأن يرجعوا عن المعصية، فإنهم إن لم يرجعوا أهلكتهم، فقال أرميا: يا رب إنهم أولاد أنبيائك، أولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، أفتهلكهم بذنوبهم؟ قال الله تعالى: وإنما أكرمت أنبيائي لأنهم أطاعوني، ولو أنهم عصوني لعذبتهم، وإن كان إبراهيم خليلي» ويقال:
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم المراد به غيره، لأنه علم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يتخذ إلهاً آخر ثم قال فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ إن عبدت غيري، فتكون من الهالكين.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٤ الى ٢٢٠]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
قوله عز وجل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ يعني: خوف أقرباءك بالنار لكي يؤمنوا، ويثبتوا على الإيمان من كان منهم مؤمناً. وروى هشام عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل بيته فقال لهم: «يَا بَنِي هَاشِمٍ يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ تَعْلَمُونَ أني رسول الله إليكم، وَأَنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً، لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، وَإِنَّما أَوْلِيائِي مِنْكُمُ المُتَّقُونَ، فَلا أَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالآخِرَةِ، وَجِئْتُمْ بِالدُّنْيا تَحْمِلُونَها عَلَى رِقَابِكُمْ» «١» وذكر السدي هكذا ثم قال: «أَلا فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لما نزل وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصفا فصعد عليه، ثم نادى بأعلى صوته: «يا صباحاه»، فاجتمع الناس فقال عليه
(١) بنحوه حديث عائشة: عند مسلم (٢٠٥) وأحمد ٦/ ١٨٧ والترمذي (٣١٨٤). وحديث أبي هريرة عند البخاري (٢٧٥٣) و (٤٧٧١) ومسلم (٢٠٤) وأحمد ٢/ ٣٣٣ و ٣٦٠.
السلام: «يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هذا الجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي؟» قالوا: نعم. قال: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم وما دعوتنا إلا لهذا! فنزل تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: ١] «١».
ثم قال عز وجل: وَاخْفِضْ جَناحَكَ يعني: لين جانبك لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني: من المصدقين بك فَإِنْ عَصَوْكَ قال مقاتل: فيها تقديم يعني: الأقربين فإن خالفوك فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من الشرك.
ثم قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ قرأ نافع وابن عامر فتوكل بالفاء، لأنه متصل بالكلام الأول، ودخلت الفاء للجزاء. وقرأ الباقون: وَتَوَكَّلْ بالواو على وجه العطف، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ يعني: ثق بالله، وفوض جميع أمورك إلى العزيز الرحيم الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
في الصلاة وحدك وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يعني: وحين تصلي في الجماعة.
وقال عكرمة: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال: في حال القيام والركوع والسجود يعني: يرى قيامك وركوعك وسجودك، ويراك مع المصلين، ويقال: الذى يراك حين تقوم من منامك للصلاة بالليل، ويقال: حين تقوم وتدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، ويقال: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يعني: تقلبك في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات من آدم إلى نوح، وإلى إبراهيم، وإلى من بعده صلوات الله عليهم. قوله عز وجل: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني:
بآبائهم وبأعمالهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
قوله عز وجل: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يعني: هل أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ هذا موصول بقوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يعني: كذاب صاحب الإثم، فاجر القلب. الأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر، يعني به: كهنة الكفار يُلْقُونَ السَّمْعَ يعني:
يلقون بآذانهم إلى السمع من السماء لكلام الملائكة عليهم السلام وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ يعني:
حين يخبرون الكهنة. وروى معمر عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حق، فتقذفها في أذن وليها، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة». وهذا كان قبل أن يحجبوا من السماء.
(١) حديث ابن عباس أخرجه البخاري (٤٩٧١) ومسلم (٢٠٨) وأحمد ١/ ٢٨١ و ٣٠٧ والترمذي (٣٣٦٣).
570
ثم قال عز وجل: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال قتادة ومجاهد: يتبعهم الشياطين.
وقال في رواية الكلبي: الغاوون هم الرواة الذين كانوا يروون هجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. ويقال:
الْغاوُونَ هم الضالون. ويقال: شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيتبعهم الكفار.
ثم قال عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ يعني: في كل وجه وفن يذهبون ويخوضون، يأخذون مرة يذمون، ومرة يمدحون، وذكر عن القتبي أنه قال: فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ من القول، وفي كل مذهب يذهبون كما تذهب البهائم على وجهها. وقال غيره: هام الرجل والبعير، إذا مضى على وجهه، لا يدري أن يذهب، فكذلك الشاعر يأخذ كلامه لا يدري أين ينتهي. قرأ نافع وحده يَتَّبِعُهُمُ بجزم التاء، والتخفيف، وقرأ الباقون يَتَّبِعُهُمُ بنصب التاء والتشديد، وهما بمعنى واحد: يتبعهم، ويتبعهم.
ثم قال: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ يعني: أن الشعراء يقولون قد فعلنا كذا وكذا، وقلنا كذا، فيمدحون بذلك أنفسهم وهم كذبة. ثم استثنى شعراء المسلمين حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله عنهم، فقال عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً يعني: ذكروا الله في أشعارهم. ويقال: وذكروا الله عز وجل في الأحوال كلها وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا يعني: انتصر شعراء المسلمين من شعراء الكافرين، فكافؤوهم والبادئ أظلم. ويقال: انتصروا من أهل مكة من بعد ما أخرجوا، لأن الحرب تكون بالسيف وباللسان، فأذن القتال بالشعر، كما أذن بالسيف، إذ فيه قهرهم.
ثم أوعد شعراء الكافرين فقال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: الذين هجوا المسلمين أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ يعني: أي مرجع يرجعون إليه في الآخرة، يعني: إلى الخسران والنار. ويقال: هاتان الآيتان مدنيتان، وذكر أنه لما نزل وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ جاء عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وهما يبكيان فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَالشُّعَراءُ إلى قوله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فقال: عليه السلام «هذا أنتم» وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أنتم. وروي عن عكرمة قال عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً، وَإِنَّ مِنَ الشُّعَرَاءِ لَحُكَمَاءَ» «١» وفي رواية أخرى: «إنّ من الشعر لحكما وَإِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» والله سبحانه وتعالى أعلم- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم «٢».
(١) حديث ابن عباس: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» أخرجه الترمذي (٢٨٤٥) وأبو داود (٥٠١١) وابن ماجة (٣٧٥٦) وأحمد ١/ ٢٦٩، ٢٧٢. وحديث أبي بن كعب عند أحمد ٥/ ١٢٥ والبخاري (٦١٤٥) وحديث ابن عباس «إن من البيان سحرا وإنّ من الشعر حكما، عند الترمذي (٢٨٤٥) والطيالسي (٢٦٧٠) وأحمد ١/ ٣٠٣، ٣٠٩.
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة «أ»
. [.....]
571
Icon