تفسير سورة الشعراء

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٢٦- سورة الشعراء
نزولها: مكية، وقيل إن آية «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ» وما بعدها إلى: آخر السورة مدنية.
عدد آياتها: مائتان وسبع وعشرون آية.
عدد كلماتها: ألف ومائتان وسبع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسمائة وثنتان وأربعون.. حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٩) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
التفسير:
المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها، واضحة، بحيث يمكن أن تتصل السورتان فى سورة واحدة.
69
فقد كانت سورة الفرقان معرضا لمقولات المشركين الحمقاء الطائشة، فى رسول الله، وفي القرآن الكريم.. ثم كانت مقولتهم حين دعوا إلى أن يسجدوا للرحمن، فأنكروا الرحمن! وقالوا: «وَمَا الرَّحْمنُ؟» ثم كان ختام السورة كاشفا عن الغاية التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عبادة الله والتسبيح بحمده.. وأن هؤلاء المشركين لم يستجيبوا لله، ولم يؤمنوا به، وكذبوا رسوله وإذن فهم في عداد السّقط، الذي لا يؤبه له، ولا يحسب له حساب.
وقد جاء بدء سورة الشعراء، متلاقيا مع هذه المعاني التي ضمّت عليها سورة الفرقان..
فأولا: فى قوله تعالى: «طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» - هو ردّ على قول المشركين، فى سورة الفرقان: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ... »
وثانيا: قوله تعالى «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» - هو نتيجة لازمة لما تضمنه قوله تعالى، فى ختام سورة الفرقان: «قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ».. أي أنه لا وزن ولا حساب لمن لا يؤمن به، ولا يقيم وجهه عليه، إنه شىء تافه، لا يحرص على الإمساك به، ولا يحزن على فقده.. وهؤلاء المشركون وقد رضوا لأنفسهم أن يكونوا على هذا الوصف فإنهم لا يستحقون منك- أيها النبي- هذا الحرص الشديد على هدايتهم، ولا هذا الأسى المضنى على ما هم فيه من ضلال.. فإنك لو نظرت إليهم حسب وضعهم عند الله بين المخلوقات، لوجدتهم في منزلة دون منزلة الهوام والحشرات.. فكيف تهلك نفسك أسى على هلاكهم وضياعهم.
وثالثا: فى قوله تعالى: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» - توكيد لتلك الصفة من صفات الله، التي أنكرها
70
المشركون، حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن، فقالوا: «وَمَا الرَّحْمنُ».
وهكذا، تلتقى السورتان في أكثر من موضع، لقاء تطابق أو تكامل.
قوله تعالى:
«طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ».. هو مثل قوله تعالى:
«الر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (يوسف).
وقوله تعالى: «المر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» (الرعد).
وقوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (إبراهيم).
وقوله سبحانه: «الر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» (الحجر).
وقد قلنا، إن هذه الحروف التي بدئت بها تلك السور، هى إشارة إلى مادة القرآن الكريم، وأنها من هذه الحروف، التي تتألف منها الكلمات، والعبارات، التي يحتويها قاموس اللغة العربية، ويتعامل بها اللسان العربي..
وأن هذه المقاطع من الحروف مبتدأ، وما بعدها خبر.
وقوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» - هو ردّ على المشركين، الذين قالوا في هذا القرآن: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» فإن الأمر ليس في حاجة إلى افتراء.. فمادة هذا الكلام هي بين يدى كلّ عربى، وكلماته، وعباراته، تجرى على ألسنتهم.. فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من صياغة الكلمات والعبارات التي هي ملك مشاع للعرب جميعا، فليفعلوا هذا، متفرقين، أو مجتمعين، وليأتوا بمثل هذا النظم القرآنى، وهم أرباب البيان، وفيهم الشعراء والخطباء.. هذه هي آيات الكتاب المبين، فى معرض التحدي..
فهل من مبارز؟ وأين الأبطال في هذا الميدان؟.
71
قوله تعالى:
«لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».. البخع: الهلاك غمّا وكمدا.. والأسلوب أسلوب ورجاء، يراد به الإنكار..
والمعنى، لم تهلك نفسك أسى وحسرة، على أهلك وقومك إذ لم يؤمنوا بالله، ولم يستجيبوا لك؟ إنهم لا يستأهلون هذا، ولا يستحقون من أحد أن يحرص عليهم، فهم ممن لا وزن لهم في ميزان الإنسانية.
وفي التعبير عن هذا الإنكار، بأسلوب الرجاء، ما يكشف للنبى عن موقفه العجيب من قومه، وأنه إذ يرجو لهم النجاة، كأنما يرجو لنفسه- فى الوقت ذاته- الهلاك، والتلف! وفي هذا ما فيه من التناقض.. فإن من الظلم للنفس أن يطلب الإنسان لغيره السلامة بعطب نفسه وتلفها.. فارفق بنفسك أيها النبي، ولا عليك أن يضل الضالون، ويهلك الظالمون.. «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ».
قوله تعالى:
«إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ».
أي إن حرصك أيها النبي على هداية قومك الضالين المشركين، لن يخرج بهم عماهم فيه من ضلال وشرك، لأن الله سبحانه وتعالى لم يرد هدايتهم: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٣٧: النحل) وإن الله سبحانه وتعالى، لو أراد أن يهديهم لهداهم قهرا وقسرا، ولأنزل عليهم آية لا يملكون معها قولا، ولا يستطيعون من يديها إفلاتا، تلك الآيات المهلكة التي تقطع على الناس سبيل الخروج من سلطانها، فإذا عاينوا آية من تلك الآيات خضعوا لها، وذلوا لسلطانها، وجاءوا إلى الله مؤمنين، كما جاء فرعون إلى الله مؤمنا، حين أدركه الغرق.. فقال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (٩٠: يونس)
72
وخضوع الأعناق: كناية عن الذلة والخضوع، لما يقع على الإنسان من شدائد وأهوال، حيث تثقل الرأس، ويضعف العنق عن حملها، وحمل ما بها من هموم.
قوله تعالى:
«وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ».
أي أن هؤلاء المشركين، لا يتأثرون إلا بما هو مادىّ، يقع على أجسادهم ويصيبهم في جوارحهم، شأنهم في هذا شأن الحيوان.. أما ما يقع لعقولهم من آيات الله وكلماته، فإنهم لا يتأثرون له، ولا يفقهون مواقع العبرة والعظة منه.. وهذه آيات الله وكلماته، تجيئهم يوما بعد يوم، وتطلع عليهم حالا بعد حال، فلا يزيدهم ذلك إلا إعراضا عنها، وكفرا بها.. وإذن فإن تطاول الزّمن بهم، وتوارد الآيات عليهم، لا يغيرّ من أمرهم شيئا. وإن حرصك- أيها النبيّ- على هداهم، وجريك وراءهم، ولقاءك إياهم بكل ما ينزل عليك من السماء- إن كل هذا لا يغنى شيئا، ولا يحقق الغاية التي تسعى إليها من أجلهم.. وآية واحدة تفتح القلوب المستعدة للإيمان، المتفتحة للخير.. وعشرات الآيات، ومئاتها، وألوفها لا تغير من حال القلوب المريضة، والنفوس السقيمة، التي تلتقط كل دواء.. «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (٩٦- ٩٧: يونس)..
قوله تعالى:
«فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»..
أي فقد كذبوا بالآيات السابقة التي تلقوها منك- أيها النبي- فأنكروها وأنكروك.. وإذن فلا ينفعهم ما سينزل عليك من آيات بعد هذا، وإذن فلينتظروا البلاء والعذاب، وسيعلمون علما متيقنا، حقيقة هذا الذي يكذبون به من آيات الله، وأنه الحق من ربهم.. ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان..
73
«يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (١٥٨: الأنعام).
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ».
أي أعمى هؤلاء المشركون عن أن ينظروا إلى هذه الأرض الميتة، كيف ينزل الله سبحانه وتعالى عليها الماء من السماء، فتحيا، وتهتزّ، وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج وإذا كانت عقولهم قد عميت عن أن ترى ما في آيات الله وكلماته من هدى ونور، أفعميت أبصارهم عن أن ترى هذه الظاهرة الحية، التي تطلع عليهم في كل أفق من آفاق الأرض؟ فإذا كانوا قد عموا عن هذا الواقع المحسوس، فإنهم أشد عمى من أن يروا شيئا من آيات الله، وكلمات الله! قوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ»..
إن في هذه الظاهرة لآية مبصرة، يرى فيها أصحاب النظر والعقل من الناس، آثار رحمة الله، وقدرته، وحكمته.. ولكن أكثر الناس لا يلتفتون إليها، وإن التفتوا لا يروا شيئا، وإن رأوا شيئا أنكروه، وتأوّلوه تأويلا فاسدا. وهذا هو شأن هؤلاء العتاة المتكبرين المشركين..
قوله تعالى:
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»..
وإن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله، ولا ينقادون لسلطانه، لن يعجزوا الله، ولن يخرجوا من سلطانه.. فهم في قبضته، لأنه هو العزيز، الذي لا يغلب،
74
القوىّ، الذي لا يحتاج إلى ناصر ينصره من خلقه، وهو- مع عزته، وقوته، ونفاذ سلطانه- «رحيم» يعفوا عن المسيئين، ويتوب على الضالين، ويقبل العاصين، إذا هم رجعوا إليه واستقاموا على صراطه المستقيم. إن الطريق أمامهم مفتوح. فمن شاء فليدخل!!
الآيات: (١٠- ٢٢) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ٢٢]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
التفسير:
هذه الآيات، والآيات التي بعدها، تعرض قصة موسى وفرعون، وقد وردت هذه القصة في معارض متعددة من القرآن الكريم، تختلف بسطا وإيجازا، ولا تختلف محتوى ومضمونا..
75
وهذا الاختلاف في العرض، هو من تصريف القول، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى، وأشار إلى الغاية منه..
فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (٥١: القصص) وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» (١١٣: طه) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» (٥٠: الفرقان).
وقد كان هذا التكرار في القصص القرآنى، موطنا من المواطن التي دخل منها المستشرقون، وأشباه المستشرقين، من أعداء الإسلام، للطعن في القرآن، وأن هذا التكرار، هو اختلال في النظم، جاء نتيجة للحالات العصبية والنفسية التي كانت تعترى النبيّ، كما يقولون، كذبا وبهتانا..
وسنعرض لموضوع التكرار القصصى في القرآن، بعد أن ننتهى من عرض هذه القصة..
ومناسبة هذه القصة لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت لموقف المشركين من النبيّ، وخلافهم عليه مع حرصه على هدايتهم واستنقاذهم.. فكان أشبه الناس بخلافهم، وعنادهم، وعتوهم- فرعون، الذي جاءه موسى بآيات مادية محسوسة- كتلك الآيات التي كان يقترحها المشركون على النبيّ- فما زاده ذلك إلا لجاجا وعنادا.. فناسب ذلك أن يذكر هذا الحديث عن فرعون، فى معرض الحديث عنهم، ليروا على مرآة الزمن وجههم واضحا، فى أعتى العتاة، وأظلم الظالمين.. وليروا مصيرهم في هذا المصير الذي صار إليه صاحبهم، وأقرب الناس إليهم.. فرعون، وهامان، وقارون.
وتبدأ القصة هنا، بالمرحلة الثانية من حياة موسى، بعد أن بلغ أشدّه، وتلقى الرسالة من ربه.. فلم يجىء فيهاهنا ذكر، لميلاده، وإلقاء أمه إياه فى
76
اليمّ، خوفا من فرعون، ثم التقاط آل فرعون له، واتخاذ فرعون له ولدا..
ثم قتله المصري، وفراره إلى مدين، ثم زواجه من ابنة شعيب- عليه السلام- ثم عودته إلى مصر.. ثم تلقيه رسالة السماء وهو في طريق العودة- كل هذا لم تعرض له القصّة هنا، لأنه عرض في مواضع أخرى من القرآن الكريم..
وتبدأ أحداث القصة هنا، بهذا الأمر يتلقاه موسى من ربّه: «أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.. قَوْمَ فِرْعَوْنَ».. فهذا هو الوصف الذي لهم في المجتمع الإنسانى.. ثم جاء التعقيب على هذا الأمر بقوله تعالى: «أَلا يَتَّقُونَ» كاشفا عن بغيهم وظلمهم، وأنهم لا يتقون.. وقد أطلق فعل التقوى، فلم يقيّد بمفعول، للدلالة على أن قلوبهم قد خلت من كل أثر للتقوى، فى أي قول أو عمل، مع الله، أو مع الناس.. فهم على بغى وعدوان في كل أمر، وفي كل حال..
ويتلقى موسى أمر ربّه، وإذا صورة فرعون تطلع عليه، بوجه ظالم غشوم فتعتريه رهبة، واضطراب، من هذا اللقاء، الذي سيكون بينه وبين فرعون، فيضرع إلى ربه قائلا: «رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ».
إن هناك أكثر من جهة يطلع منها الخوف على موسى من فرعون..
ففرعون ظالم جبار، لا يدنو منه أحد إلا افترسه، كما يفترس الأسد فريسته..
إنه لا يسأل عما يفعل، وما هي إلا كلمة، أو إشارة تصدر منه، حتى يمضى زبانيته أمره.. وفوق هذا، فإن موسى مطلوب لفرعون في دم القتيل المصري الذي قتله.. إن الأبرياء لا تشفع لهم براءتهم أمام ظلم فرعون وبغيه، فكيف بأرباب التهم الذين يقعون ليده؟ وموسى مطلوب منه أن يمتثل أمر ربّه، وأنه لممتثل لهذا الأمر، صادع به، ولكنه يسأل الله العون والمدد.. وذلك بأن
77
يبعث معه أخاه هرون، وأن يجعله شريكا له في هذا الأمر، حتى يشتدّ به أزره، ويثبت به جنانه، إذا أخذه هول الموقف ورهبته.
ويتلقى موسى أمداد السماء، ويستمع إلى قول الحق جلّ وعلا: «كلّا» أي لن يقتلوك، «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» ولن ينالوا منك شيئا، فالله معك، يسمع ويرى.. َأْتِيا فِرْعَوْنَ»
أنت وهارون، الذي جعلناه رسولا معك إلى فرعون: َقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
أي إننا- وإن كنا اثنين- فنحن شخص واحد، يحمل إليك رسالة الله إليك.. «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ».. فهذه هي رسالتنا التي أمرنا الله بتبليغها إياك، وهي أن تدع بني إسرائيل وشأنهم، لنمضى بهم إلى حيث يشاء الله، بعيدا عن محيط ملكك وسلطانك! وتنتقل الأحداث في سرعة يطوى فيها الزمن.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه مع فرعون، وإذا بهذه الرسالة قد أعلنت إلى فرعون.. ولا يظهر على مسرح الأحداث شيء من هذا، وإذا المشهد يعرض فرعون، وقد جابه موسى بهذه المجابهة التي تمسّ أضعف جانب منه، ضاربا صفحا عن هرون، متجاهلا الرسالة التي أفضيا إليه بمضمونها.. فيلقى إلى موسى بهذه القذائف:
- «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» ؟
- «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» ؟
فمن أنت حتى تجئ إلينا اليوم في صورة مبعوث سماويّ؟ ألست ربيب نعمتنا، وغذىّ فضلنا وإحساننا؟ فكيف تجئ إلينا من هذا العلوّ، وتطلب إلينا هذا الطلب، الذي هو من خاصة شئوننا، ومن بعض سلطاننا في رعيتنا؟
ثم كيف تحدّثك نفسك بالجرأة علينا، وبالنجاة من عقوبتنا، وقد فعلت
78
ما فعلت بارتكاب هذه الجريمة، والاعتداء على أحد رعايانا؟ أليس هذا كفرا بنعمتنا، وإحساننا؟ أليس هذا عدوانا على سلطاننا واستخفافا بناموسه؟.
ويضطرب موسى أمام هذه المفاجأة، وفي مواجهة هذا الاتهام..
ولكنه يذكر قول الله له.. «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ».. فيسكن جأشه، ويطمئن قلبه.. ويرمى فرعون، بأشدّ مما رماه به..
- «فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ..!!
- «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ.. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ..
- «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ»
؟
إنه يعتذر من قتل المصري بأن ذلك كان عن جهل منه، وضلال..
لأن الله سبحانه وتعالى لم يكن قد خرج به عن هذا الضلال الذي يعيش فيه فرعون، ومن يضمه سلطانه.. فهذه الفعلة هي أثر من آثار تلك الحياة التي يحياها المجتمع الفرعوني، حيث لا حرمة فيه للدماء.. وهكذا يلقى موسى بهذه التهمة في وجه فرعون، لأنه هو الذي أرخص دماء الناس، وأغرى بعضهم ببعض، وأن موسى قد مسّه شىء من هذا الذي رمى به فرعون المجتمع كله!! وأنه- أي موسى- حين فرّ من وجه فرعون، طالبا النجاة لنفسه منه، وخرج من هذا الظلام المطبق- رأى النور، وأبصر الهدى.. وهناك، فى أفق بعيد عن آفاق فرعون، تلقى الكرامة والإحسان من ربّه، وتزوّد بزاد طيب كريم، غير هذا الزّاد الذي تناوله من يد فرعون.. فوهب الله له «حكما» - أي جعل له سلطانا على بني إسرائيل، يقودهم، ويسوس أمرهم، وجعله من المرسلين، إلى هداية الناس..
79
وهذه غمزة أخرى، يغمز بها موسى فرعون، وأنه إنما تلقى الخير من السماء حين فارق هذا الجوّ المظلم الفاسد، ولو بقي فيه لما أصاب خيرا أبدا، ولما كان له هذا السلطان..
وبهذا السلطان الذي وضعه الله في يد موسى على بني إسرائيل، أقبل على فرعون، يحاسبه على هذا الجرم الشنيع الذي أجرمه في حقّ هذه الجماعة، التي أصبح ليد موسى أمرها.. لقد استعبدهم فرعون وأذلهم، وأن موسى إذا كان قد قتل واحدا من رعايا فرعون، فإن فرعون قد قتل معالم الإنسانية، فى هذه الجماعة، وأحالها إلى قطيع من الحيوان، الذليل المهين!! إن موسى قتل نفسا خطأ من غير قصد.. أما فرعون فقد قتل نفوسا لا حصر لها، عن عمد وإصرار!!.
فإذا كان هناك من يحاسب ويدان، فهو فرعون.. وليس موسى!.
وهكذا يتحول الموقف، ويصبح الطالب مطلوبا، والمدّعى متّهما..!
وسنرى بقية المشهد في الآيات التالية..
الآيات: (٢٣- ٣٧) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٣٧]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
80
التفسير:
ولا يلتفت فرعون إلى هذه التّهم التي وجهها إليه موسى، وكأنه يعدّ هذا لغوا من القول، فما كان لموسى أن يحاجّ فرعون، أو يجادله فيما هو من سلطانه! إن فرعون لم يسمع شيئا!! ويسأل فرعون موسى، عن مضمون هذا القول الذي ألقى به إليه، حين واجهه برسالته، فقال: ِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
فيقول فرعون:
«وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟» مجهّلا هذا الربّ، منكّرا ومنكرا له:
«وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ؟
إنه لا يمكن أن يكون هذا الربّ عاقلا.. وكيف وفرعون هو الربّ القائم على رقاب العباد؟ أليس هو القائل: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي!» (٣٨: القصص).
ويجئ جواب موسى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» : أي كنتم ممن يطلبون الحقّ ويستيقنونه! فهذا هو ربّ العالمين.
ويعجب فرعون لهذا الكلام، ويستثير عجب من حوله:
81
«قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ. أَلا تَسْتَمِعُونَ» ؟.. فما هذا اللغو؟ وما هذا الهذيان؟
أهناك ربّ غيرى؟.
ولا يكاد القوم يتجهون بعقولهم إلى ما يدعوهم إليه فرعون، حتى يلقاهم موسى بالجواب الذي كان ينبغى أن يلقوا به هذا السؤال الذي ألقاه إليهم فرعون، فى عجب ودهش:
«قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ»..
هذا هو الربّ الذي ينكره فرعون، ويعجب من أمره.. أفتنكرونه أنتم كذلك؟ فأين عقولكم حتى تنقادوا إلى هذا الضلال؟.
ويأخذ فرعون الطريق على موسى إلى الملأ.. فيقول لهم:
«إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ».. إنّه رسول إليهم، لا إلى فرعون.. ثم إنه لمجنون يهذى بهذا القول.. فلا تستمعوا إليه، ولا تأخذوا كلامه إلّا على أنه كلام مجانين!.
ويردّ موسى على فرعون هذا الاتهام بقوله:
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ»..
إنه يدعوهم جميعا، ومعهم فرعون، إلى أن يستمعوا ويعقلوا، وإنهم لو كانوا عقلاء حقّا لعرفوا أن لهذا الوجود ربّا، وأنه ربّ المشرق والمغرب، وما بين المشرق والمغرب، من كائنات.
ويقطع فرعون هذا الجدل، ويجرد سيف بأسه وسلطانه، ليفحم موسى، ويسكته.. فيقول:
«لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».. هكذا منطق القوة الغاشمة.. إنها لا تحتكم إلى عقل، ولا تخضع لمنطق، إلّا منطق القهر والتسلّط!.
82
وماذا يصنع موسى، فى مواجهة هذا السلطان الغشوم؟ إن لفرعون أن يسجنه، وأن يقتله.. إنه لا يعترض على هذا، ولكن كلمة أخيرة، يريد موسى أن يستمع إليها فرعون، ثم ليفعل ما يشاء..
«قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟» - أي أتنفّذ فيّ هذا الحكم، ولو كان معى شىء مبين، وحجة واضحة على هذه الأقوال التي استمعت إليها، وأنكرتها؟
وهنا يسيل لعاب فرعون إلى هذا السلطان العظيم الذي بين يدى موسى، وهو يخفيه عنه.. فما هو هذا السلطان؟ وكيف يكون مع موسى سلطان وفي يد فرعون كل سلطان؟ أين هو؟ لا بد أن يستولى عليه، ويضيفه إلى سلطانه..!!
وفي لهفة، وحزم، وقوة.. يقول فرعون..
«فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ!».
ولا يقول موسى كلمة.. بل يضرب ضربته في غير تراخ أو تردد..
«فَأَلْقى عَصاهُ.. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ..»
«وَنَزَعَ يَدَهُ.. فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ..»
ولا تعرض القصة هنا لما كان من فرعون، وما لبسه من اضطراب وفزع..
فذلك أمر معلوم، فى مثل هذه الأحوال.. وليس فرعون بدعا من الناس، فيما يطلع عليهم من عالم المجهول.
ويظهر أثر هذا الفزع الذي استولى على فرعون، فى استنجاده بمن حوله، وتعلّقه بهم قبل أن يهوى من هول المفاجأة.. فيشركهم معه في هذه المعركة، بل ويجعل إليهم لا إليه- الرأى فيها، وهو الذي كان يتولى كلّ شىء، ويأمر بما يرى.. أما هنا فإنه صاغر ذليل، يطلب الرأى، وينتظر الأمر، ليفعل ما يؤمر به..
83
«قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ.. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ؟».
إنه يستسلم للملأ حوله، ويسلّم بأن الأرض أرضهم، وقد كانوا منذ قليل هم والأرض ملكا خالصا ليده.
وإذا كانت الأرض أرضهم، وموسى يريد أن يخرجهم من أرضهم هذه بسحره.. فالأمر إذن أمرهم.. فماذا يرون؟ وبماذا يأمرون؟
«قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ».
هذا هو الرأى الذي ارتآه القوم في موسى.. إنه ساحر.. فليلقوه بسلاح مثل سلاحه.. وليجمعوا له السحرة من كل مكان! وهكذا انتهى هذا المشهد، ليبدأ مشهد آخر، على مسيرة الأحداث المتتابعة للقصة.. كما سنرى في الآيات التالية:
الآيات: (٣٨- ٤٢) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٢]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
التفسير:
وفي هذا المشهد نرى حركات سريعة متلاحقة، بعضها خفيّ، وبعضها ظاهر..
ويتشكل من خيوط هذه الحركات صور شتى، تظهر على مسرح الأحداث..
فهاهم أولاء السحرة قد جئ بهم من كل مكان، وقد أنذروا بالسّحر الذي سيلقونه وبالساحر الذي سيرميهم بسحره، وباليوم المعلوم الذي تلتحم فيه المعركة:
«فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ».
ثم هاهم أولاء دعاة فرعون، ينطلقون بين الناس، يغرونهم بالاحتشاد لهذا اليوم، وبشهود تلك المعركة.. بين السحرة، وبين الساحر..
وهذا الحشد للناس.. غايته، هو شدّ ظهر هؤلاء السّحرة، وإلقاء الرعب في قلب موسى بهذه الحشود التي تتربص به، وتنتظر الهزيمة له، لتسخر منه أو تفتك به.
«وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» !.
ثم ها هم أولاء السحرة، يلتقّون بفرعون قبل المعركة، ليتلقّوا كلمته، وليعرضوا بين يديه ما معهم من أسلحة قد أعدوها للقاء هذا الساحر.. ثم إذ ينتهى هذا العرض، يعرضون على فرعون مطلبا خاصّا بهم، وهو الجزاء الذي سيجزيهم به فرعون إذا هم جاءوا له بالنصر المبين..
«قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ».. ولا يتردد فرعون في بذل الجزاء الحسن لهم.. إنه ليس جزاء ماديّا وحسب، بل إنهم سيكونون من خاصة فرعون، ومن المقربين عنده «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» وينتهى هذا المشهد، ليخلى مكانه لمشهد آخر.. تعرضه الآيات الآتية:
الآيات: (٤٣- ٥١) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٣ الى ٥١]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
85
التفسير:
وينتقل المشهد إلى خارج المدينة، حيث احتشد الناس، ليشهدوا هذا اليوم العظيم..
وفي ميدان المعركة، التقى موسى بالسحرة.. ثم ماهى إلا كلمات يتبادلها الطرفان، حتى يلتحم القتال.. ويدعو موسى السحرة إلى أن يبدءوا المعركة، وليصدموه الصدمة الأولى بكل ما معهم..
«قالَ لَهُمْ مُوسى.. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ»..
ويلقى السحرة كل أسلحتهم..!
«فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» ! إن كل ما معهم هي حبال وعصيّ، شكلوها على صفات خاصة، حتى إذا ألقوا بها اضطربت اضطراب الأفاعى والحيّات.. فلما ألقوها، أطلقوا وراءها مشاعر إيمانهم بفرعون، واستمدادهم القوة من قوته.. وهم بهذا الشعور لا بسحرهم- سيغلبون، وينتصرون! ولا يذكر القرآن هنا ماذا كان لهذه الحبال وتلك العصى من أفاعيل، وما كان لها من آثار في مشاعر الناس، وفي موسى نفسه.. وقد ذكر القرآن
86
ذلك في مواضع أخرى.. فقال تعالى في سورة الأعراف: «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ» (الآية: ١١٦).
وقال في سورة طه، عما وقع في نفس موسى من هذا السحر: «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» (الآية: ٦٧).
«فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ».. والإفك: ما كان من واردات الضلال والبهتان..
وهكذا في لمحة خاطفة، يتبدد هذا السراب، وتختفى أشباح هذا الضلال.
وإذا موسى وقد ملك الموقف، واستولى على كل ما في الميدان من مغانم..!
وإذا هذا الهرج والمرج، وهذا الصخب واللجب، يتحول إلى صمت رهيب، وسكون موحش، لا يقطعه إلا السحرة، وقد استبدت بهم نشوة غامرة، وغشيتهم صحوة مشرقة، وإذا هم يخرجون من أحشاء هذا الصمت الرهيب، ويتحركون في وسط هذا السكون الموحش.
َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ..»
ويعود الهرج والمرج، وتختلط أصوات الاستهجان بالاستحسان، ثم تخمد الأنفاس فجأة، وتحتبس الكلمات على الألسنة، وتموت المشاعر في الصدور، ويفيق القوم من وقع هذه الصاعقة، إذ يذكرون أنهم في حضرة «فرعون» فتتعلق به الأبصار.. ليطلّ الناس منها على ما يصنع فرعون، أو يقول.
والحساب هنا مع السحرة أولا، الذين خذلوا فرعون، وأذلوا كبرياءه، وأعلنوا فضيحته على الملأ.
«قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ؟
87
إن خذلانهم على يد موسى، ليس هو الأمر الذي ينظر إليه فرعون الآن، ويحاسب السحرة عليه.. لأنه رأى بعينه، هذه القوى القاهرة التي بين يدى موسى، والتي لا قبل لبشر بمواجهتها.. ولكن الذي يعنيه من أمر السحرة فى هذا الموقف، هو خروجهم عن أمره، ومتابعة موسى من غير إذن منه؟ إذ كيف يكون لهم وجود خاص، وكيف يكون لعقولهم ومشاعرهم سلطان عليهم مع سلطانه؟ إنه يملكهم ويملك ووجودهم الخارجي والداخلى جميعا!! - «آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟» إنها مؤامرة مدبرة، ومكر مبيت بينكم وبينه.. إنه الساحر الأكبر، الذي علمكم السحر.. وهكذا استجبتم له ولم تخرجوا عن سلطانه عليكم، شأن التلميذ مع أستاذه..
«إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» !! ولا ينتظر، حتى يعود إلى كرسيّ سلطانه، ويقدّمهم للمحاكمة.. بل إنه يقيم المحكمة في موقع الجريمة، وينفذ الحكم على أعين الجماهير التي شهدت الحادثة، حتى يكون فيها عبرة وعظة.. إنه يضرب والحديد ساخن كما يقولون..
«لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ!».
وإذا وقع الإيمان في القلب موقعا صحيحا، وجاء إليه عن حجة قاطعة، وبرهان ساطع، لم تستطع قوى الأرض كلها مجتمعة أن تنتزع هذا الإيمان، أو تزحزحه من موضعه..
وبهذا الإيمان يلقى السحرة تهديد فرعون ووعيده في استخفاف، وغير مبالاة.. إن كل شىء هيّن، ماداموا قد حصلوا على الإيمان، وأنزلوه هذا المنزل المكين من قلوبهم..
«قالُوا لا ضَيْرَ».. أي لا ضيم، ولا خسران علينا، إذا ذهب من بين أيدينا كل شىء، ولو كانت حياتنا، وسلّم لنا إيماننا الذي أشرقت شمسه بين جوانحنا.
88
«إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ»..
فلتذهب هذه الحياة غير مأسوف عليها.. فإن لنا حياة أخرى، أفضل، وأكرم.. إنها حياتنا الآخرة.. والآخرة خير وأبقى..!
«إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ»..
إننا بإيماننا هذا نفتح طريقا من النور وسط هذا الظلام الكثيف، فيهتدى بنا الضالون الحائرون.. وبهذا نطمع في مغفرة ربنا، لما كان لنا من خطايا في السير معك على طريق الضلال..
ثم ينتهى هذا المشهد، ويخيل للمشاهد أن المعركة قد انتهت.. وأن فرعون قد جمع وجوده الممزّق، وجرّ وراءه فلّه المهزوم.. ولكن الأحداث تتصل، وتأخذ مسرحا آخر غير هذا المسرح.. كما سنرى في الآيات التالية..
الآيات: (٥٢- ٦٨) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٢ الى ٦٨]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
89
التفسير:
لم تكن تلك المعركة التي أقامها فرعون بين موسى والسحرة، والتي انتهت بتلك الهزيمة المنكرة للسحر والساحرين- لم تكن هذه المعركة، لتحسم الموقف بين موسى وفرعون، فما زاد فرعون بعدها إلا كفرا، وكبرا، واستعلاء، وإلا ضراوة وبغيا وعدوانا على بني إسرائيل..!
وإذا لم يكن في هذه الحرب السافرة، وفي الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلا على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذى سلطان- فقد قامت من وراء هذه الحرب حرب خفية، لا يرى الناس مشاهدها، ولكن يشهدون آثارها..
إنهم لا يرون سيوفا تسلّ، ولا حرابا تشرع، ولكن يرون رءوسا تقطع، وجراحا تفور، ودماء تسيل، وأشلاء تتمزق وتتطاير..!
فلقد سلّط الله على فرعون وملائه ألوانا من البلاء، وصب عليهم مرسلات من النقم، وأخذهم بها حالا بعد حال، وواحدة بعد أخرى.. فما استكانوا، وما تضرّعوا، وما لانت منهم القلوب، ولا استنارت البصائر.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ
90
يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ»
. (١٣٠- ١٣٣: الأعراف)..
وكان فرعون كلّما نزلت به نازلة طلب إلى موسى أن يدعو إلهه بأن يرفع هذا البلاء، وفي مقابل هذا سيؤمن به فرعون، ويرسل معه بني إسرائيل..
وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» (١٣٤: الأعراف).
ولكن ما إن يرفع البلاء، وتسكن العاصفة، حتى يعود فرعون إلى سيرته الأولى، فيصب على بني إسرائيل نقمته ويزيد في قهرهم وإذلالهم، ضراوة وقسوة.. «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (١٣٥: الأعراف).
فيشتد بهذا البلاء على بني إسرائيل، وتزداد محنتهم، كما يقول الله تعالى على لسانهم إلى موسى: «قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» (١٢٩: الأعراف).
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ».. وأن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى إلى موسى، لم يكن بعد التقاء السحرة بموسى
91
وإيمانهم به مباشرة. وإنما كان ذلك بعد زمن، رأى فيه فرعون هذه الآيات من النقم والبلايا. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، أمر الله موسى أن يسرى بقومه ليلا وأن يخرج بهم من مصر.
- وفي قوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» إشارة إلى أن يأخذ موسى وقومه حذرهم، وأن يخرجوا من مصر في خفية وحذر، فإن عيون فرعون ترقبهم، ولهذا جاء الأمر بأن يكون خروجهم ليلا، من غير أن يراهم أحد..
قوله تعالى:
«فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ»..
لقد كان فرعون في أثناء هذه البلايا التي صبت عليه- يعدّ العدة ليضرب بني إسرائيل ضربة قاضية، فأرسل رسله في البلاد يغرون الناس ببني إسرائيل، ويحذرونهم الشر الذي ينجم عن وجودهم بينهم، وأن هذه الجماعة، وإن كانت شرذمة، أي جماعة مفرقة، متناثرة هنا وهنا- إلا أنه يجب الحذر منها، والانتباه إلى خطرها..
قوله تعالى:
«فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ».
يكاد يجمع المفسرون هنا على أن إخراج فرعون وقومه من هذه الجنات والعيون، إنما كان بغرقهم وهلاكهم، حين تبعوا بني إسرائيل، وعبروا وراءهم البحر، فأطبق عليهم وأغرقهم.. ثم يقولون: إن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر مرة أخرى، بعد أن رأوا ما حلّ بفرعون وقومه، وأنهم ورثوا ما كان في يد فرعون وقومه!
92
وهذا، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء، وتيههم في الصحراء أربعين سنة، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة، فأبوا، وخافوا أن يدخلوها على أهلها، وقالوا: «يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» (٢٢: المائدة) وقالوا «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (٢٤: المائدة).
ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى، وقد لبسهم فيها الذل والهوان، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟
ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده.. هل خلت مصر من أهلها؟
وهل خلت البلاد من الجنود؟
ثم إن التاريخ يؤيد هذا، ويشهد بصدق القرآن الكريم، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين..
- أما قوله تعالى: «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» فهو- والله أعلم- ما كان من نقم الله التي حلّت بفرعون وملائه.. من جدب، ونقص في الثمرات، ومن طوفان، وجراد وفمّل.. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم، فأحالت الخصب جدبا، والنعيم والرفه بلاء وكربا.. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم.. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شىء من هذا البلاء، وهم يعايشون المصريين، ويحيون معهم، فكأنهم بهذا، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه..
ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا:
93
«فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ».. أي متجهين جهة الشرق..
«فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ».. أي فلما رأى الجمعان- جمع فرعون، وجمع بني إسرائيل- بعضهم بعضا.. قال أصحاب موسى: إنا لمدركون.
«قالَ كَلَّا.. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ..
«فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ.. فَانْفَلَقَ.. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ»
..
«وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ..» أي جذبناهم إلى البحر، وأغرقناهم، «ثمّ» أي هناك و «الآخرين» فرعون وقومه، إذ كانوا في المؤخرة من القوم.
«وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ».
وهكذا تختتم القصّة، فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى ومن معه ولا تذكر لبني إسرائيل عودة إلى مصر، ولو كان ذلك لما غفل القرآن الكريم عن ذكره، إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد أن يضرب موسى بعصاه البحر مرة أخرى، فينفلق.. ويكون ذلك آية لا يغفل القرآن ذكرها..
هذا، وقد جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ذكر ميراث بني إسرائيل، لما ورثهم الله إياه، سابقا لخروجهم من مصر، ونجاتهم من يد فرعون.
ففى سورة الأعراف يجىء قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ».. ثم يجىء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» (الآيتان: ١٣٧- ١٣٨).. وفي سورة الدخان.. يقول الله تعالى:
94
عن فرعون وملائه: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ».. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» الآيات: (٢٥- ٣١)..
فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر، التي سلط الله عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل، إلى أن خرجوا من مصر.. وتلك آية من آيات الله، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد.. تتناوله يد، فيتحول فيها إلى نقمة، وتمسك به يد أخرى، فإذا هو نعمة! ولا يدفع هذا، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى «الَّتِي بارَكْنا فِيها» إذ قد يقع في بعض الأفهام أن «البركة» تعنى أرضا مخصوصة، هى الأرض المقدسة.. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة، القداسة والبركة، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين، كما يقول تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» (٩٦: آل عمران). ومصر بلد مبارك، لا شك في هذا.. فقد ربى في حجره، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما السلام..
حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام، وأمدّ بخيراته المسلمين، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين.. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن، كما كان- ولا يزال- الحفيظ الأمين على شريعته ولغته، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر، فينهلون من المعارف، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين، وهداة مرشدين..
95
فهل كثير على مصر بعد هذا أن توصف أنها البلد المبارك؟ وأي بركة أعظم من أن تكون مصر هي اليوم مركز الإسلام، والراية التي يجتمع إليها المسلمون؟
وإذا لم يصح الحديث بأن: «مصر كنانة الله في أرضه، من أرادها بسوء قصمه الله». فإنه يصح كلمحة من لمحات الغيب، كشف عنها قلب مؤمن، ونطق بها لسان صدّيق!! وقد آن لنا بعد هذا، أن نقف وقفة، عند التكرار في القصص القرآنى، وما يقال فيه، وأن نجعل من تكرار قصة موسى في القرآن مثلا لهذا التكرار إذ كانت تلك القصة أكثر القصص القرآنى تكرارا..
[التكرار في القصص القرآنى «١» ]
التكرار في القصص القرآنى ظاهرة واضحة، ملفتة للنظر، وداعية لكثير من التساؤل والبحث..
وقد وجد أصحاب الأهواء، ومرضى القلوب، من الملحدين وأعداء الإسلام فى هذا التكرار مدخلا ملتويا، يدخلون منه على هذا الدين، للطعن في القرآن الكريم، والنيل من بلاغته، وإسقاط القول بإعجازه، وليقولوا إن هذا التكرار قد أدخل الاضطراب على أسلوب القرآن، وجعله ثقيلا على اللسان وعلى السمع معا.. ثم يخلصون من هذا إلى القول بأن أسلوب القرآن ليس على المستوي البلاغى الرفيع، الذي يتسع للدعوى التي يدعيها له المسلمون بأنه معجز
(١) اقرأ في هذا كتابنا: القصص القرآنى.
96
وبأنه منزل من السماء، من كلام ربّ العالمين! ثم يتمادون في هذا الضلال، فيقولون: إن هذا الخلط الذي وقع فيه التكرار، إنما هو أثر من آثار تلك الأحوال النفسية التي كانت تنتاب محمدا، فتخرج به عن وعيه، وتجىء الكلمات التي ينطق بها في تلك الحال، مردّدة مقطعة، كما يقع هذا للمحمومين والمصروعين، وأنه لا يكاد يبدأ القصة حتى ينصرف عنها، ثم يذكرها فيعود إليها، ثم ينصرف عنها.. وهكذا..
وإن الذين يقولون هذا القول، أو يحكونه عنهم، هم أعاجم أو أشباه أعاجم، لم يذوقوا البلاغة العربية، ولم يتصلوا بأسرارها.. ولو أنهم رزقوا شيئا من هذا لما اتسع لهم باب الخروج عن الحياء، لأن يقولوا هذا القول، وأن ينطقوا بهذا البهتان العظيم، ولردّهم أقلّ الحياء أن يقولوا قولا لم يقع في حساب «قريش» نفسها، وهي تتصيد التهم والمفتريات على القرآن الكريم، وحتى لقد بلغ بها الأمر في هذا، أنها لو وجدت زورا من القول لقالته فيه، ورمته به..
ولكن الزور نفسه أعياها أن تمسك به، فى وجه هذا الحق المشرق المبين.
فكان أكثر قول القوم فيه ما حكاه القرآن عنهم: «وقالوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ».
وقد ردّ عليهم القرآن هذا القول، فقال تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً».
وإذا لم يكن لقريش أن تقول هذا القول، فى وجه عداوتها وحربها للنبيّ، وهي مرجع الفصاحة والبلاغة وموطنهما، فكيف يساغ هذا القول من أعاجم وتلاميذ أعاجم؟ إن ذلك لهو الضلال البعيد.
وندع الردّ على هذه المفتريات، ويكفى أن نعرض وجوها من هذا التكرار، لنرى ما يطالعنا من بعض أسراره، التي هي وجه من وجوه إعجازه، وفيها الرد أبلغ الردّ على هذا الضلال المبين.
97
ما داعية هذا التكرار:
كانت هذه الظاهرة- ظاهرة تكرار القصص القرآنى- على تلك الصورة الواضحة، مما استرعى أنظار العلماء إليها، وحرك عقولهم وألسنتهم للكشف عن أسرارها ودواعيها..
فهذا أبو بكر الباقلّانيّ، يقول في كتابه «إعجاز القرآن» :
إن إعادة القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدّى معنى واحدا- من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين البلاغة».
وهو يريد بهذا القول أن يقول: إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة من القول، دون أن تتغيّر معالمه، ودون أن يضعف أسلوب عرضه، هو من العسير، الذي لا يقدر عليه إلا من كان ذا ملكة بيانية، واقتدار بلاغي، وذلك في حدود لونين أو ثلاثة من ألوان العرض، فإذا جاوز ذلك اضطرب الأسلوب، وبهتت المعاني، إلا أن يكون ذلك من تدبير الحكيم العليم..
رب العالمين.
ثم يقول «الباقلاني» :
«وأعيد كثير من القصص (القرآنى) فى مواضع مختلفة، ونبّهوا- أي العرب- بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله، مبتدأ، ومكررا».
ويريد الباقلاني بهذا، أن يقرر: أن من صور التحدي الذي عجز العرب عنه، إزاء القرآن، هو عرض القصص القرآنى، عرضا متفاوتا بين الطول والقصر، والبسط والقبض، وقد وسّع عليهم بهذا مجال المعارضة والمحاكاة..
فلم يكن منهم إلّا العجز والاستخزاء! وهذا القول من «الباقلانيّ» لا يكشف عن السرّ الذي نراه في التكرار
98
الذي جاء عليه القصص القرآنى، والذي سنعرض له، بعد أن ننظر في بعض الآراء الأخرى، التي عرضها أصحابها في هذا المقام.
ويقول «الزركشي» فى كتابه: «البرهان في علوم القرآن» :
«ومنه- أي من التكرار- تكرار القصص في القرآن، كقصة إبليس فى السجود لآدم، وقصة موسى، وغيره من الأنبياء.. قال بعض العلماء:
ذكر الله موسى في القرآن في مائة وعشرين موضعا»
!! ثم يكشف الزركشيّ عن وجوه لبعض أسرار هذا التكرار فيقول:
«وإنما كرّرها- أي القصة- لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر، وهي أمور:
أحدها: أنه- أي القرآن- إذا كرر القصّة زاد فيها شيئا.. ألا ترى أنه ذكر «الحيّة»
فى عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا؟
ثم يذكر الزركشي أمرين آخرين.. نتجاوزهما إلى ما بعدهما..
الرابعة: إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة- لا يخفى ما فيه من الفصاحة! الخامسة: أن الله سبحانه أنزل هذا القرآن، وعجّز القوم عن الإتيان بمثل آيه، لصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله، ثم بيّن وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأى نظم جاءوا، وبأى عبارة عبّروا».
والإشارة المقتضبة التي أشار إليها الزركشي، وكأنها جاءت عفوا من غير قصد في قوله: «إنه- أي القرآن- إذا كرر القصة زاد فيها» - هذه الإشارة هى في نظرنا أبرز داعية من دواعى التكرار في القصص القرآنى، وأوضح وجه يطلّ علينا منه..
ولم يذكر «الزركشيّ» ما لهذه الزيادة من قيمة في عرض القصة، وفى
99
إبراز ما يراد إبرازه من أحداثها، واكتفى بالقول: بأن القرآن كلما كرّر قصة جاء فيها بجديد لم يكن موجودا في العرض الأول، أو الثاني أو الثالث..
وهكذا..
دعوى وبرهانها:
والدعوى التي ندّعيها لداعية التكرار في القصص القرآنى، وفي كل تكرار في القرآن الكريم- هى أن هذه الصور المكررة يكمّل بعضها بعضا، وأنها في مجموعها تعطى صورة واضحة، كاملة، مجسّمة، أو شبه مجسّمة للحدث، وأن ما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات، فى الواقعة، الواحدة، أو الحدث الواحد، ليس إلا تجميعا لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة أوليس إلا التقاطا لظاهر القول، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآنى وحده، على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء به..
فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية، يؤدّى وظيفة حيوية، فى إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم، بل لا بدّ أن تعاد العبارة، مرّة ومرّة، لكى تحمل في كل مرة بعضا من مشخّصات المشهد، وإن كانت كل عبارة منها تعطى صورة مقاربة للمشهد كله.
ولنا أن نشبه ذلك- على بعد ما بين المشبّه والمشبّه به- بالتصوير «الفتوغرافى» والتصوير «السينمائى» أو «التليفزيونى»..
ففى التصوير «الفتوغرافى».. اللقطة الواحدة تصوّر المشهد كله، تصويرا كاملا.. صامتا..
والصورة هنا، وإن أعطت جميع ملامح المشهد، فإنها تحتاج في قراءتها
100
إلى مهارة وحذق للكشف عن مضمونها، أو بعض مضمونها.. إذ كانت إنما تكشف المقطع السّطحى للحدث، أو الجسم الذي تصوّره.. منقطعا عن الحركة، والتجسيد.
أما الصورة السينمائية، فإنها تتشكل من مئات وآلاف من «اللقطات» حتى تتجسم الأحداث والشخوص، وتتكشف كل خافية كانت مختفية وراء الصورة «الفتوغرافية»، فإذا هي تجمع بين الحركة والتجسيد..
إن تكرار الأحداث القصصية في القصص القرآنى، هو إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، تتجلّى فيه روعة الكلمة وجلالها، بحيث لا يرى لها وجه في أية لغة، وفي أية صورة من صور البيان، يقارب هذا الوجه، فى جلاله، وروعته، وسطوته.
وهل شهدت الحياة «الكلمة» تؤدّى ما يؤديه العمل «السينمائى» اليوم فى نقل المشاهد والشّخوص بأبعادها الثلاثة: (طولها، وعرضها، وعمقها)، وبحركاتها، وسكناتها، ونطقها، وصمتها؟ وكم تتكلف السينما لهذا العمل من لقطات؟ مئات وألوفا!! أما النظم القرآنى، فإنه يعرض المشاهد بأبعادها، وأعماقها، وحركاتها، وسكناتها، وبنطقها وصمتها، وبوسوسة خواطرها، وهجسات نفوسها، وخلجات قلوبها، ثم لا يكون ذلك كله إلا بعدد محدود من اللقطات، لا يكاد يتجاوز أصابع اليد عدّا.
ومن تدبير القرآن الكريم في هذا، أنه لم يجمع هذه «اللقطات» فى معرض واحد، حتى لا تتراكب وتتراكم، بل جعلها موزعة في مواضع متباعدة أو متقاربة في القرآن الكريم، بحيث يمكن أن تستقل كل «لقطة» منها بذاتها مستغنية عن كل تفصيل، ثم بحيث لو نظر ناظر إليها من خلال «اللقطات»
101
الأخرى المماثلة أو المناظرة لها، لوجد منها جميعا تجاوبا، واتساقا، وائتلافا..
حتى لكأنها اللحن الموسيقى يتألف من أنغام شتى، تجمعها الوحدة التي يسير فى مجراها اللحن.
اعتراضات وتمويهات:
وهناك اعتراضات كثيرة يلقيها بعض الدراسين والباحثين في وجه القول الذي عليه المسلمون في شأن القصص القرآنى، وأن هذا القصص هو تسجيل لأحداث واقعة، وأنه- لكى يقصّ الحق- جاء بالأحداث كما وقعت، دون أن يدخل عليها بشىء من التحويل والتبديل، أو الزيادة، والحذف، حتى لا يغير من وجوهها، أو يخرجها عن أن تكون حقّا..
وتتلخص هذه الاعتراضات، فى القول باستحالة نقل أي حدث من الأحداث مع جميع ملابساته.. فهناك كثير من الأمور التي تصحب وقوع الحدث، ثم لا يكون لها ذكر، إذ لا حاجة إليها في عرض المحتوى المشخّص له.
ولو أنّ نقل الحدث كان يعنى الإمساك بكل جزئية من جزئياته، لكان ذلك- على استحالته- ضربا، بل ضروبا من العبث، الذي يدعو إلى الملل والسآمة، ويذهب بكل ما في النفس من طاقات الاحتمال لهذا اللغو والسّخف!.
تصوّر- مثلا- حادثة عابرة، من الحوادث التي تقع وتتكرر كل يوم، بل كل ساعة، على مرأى ومشهد من الناس، ولتكن «سيارة» صدمت شخصا ما، طفلا، أو رجلا، أو امرأت، فى أحد شوارع القاهرة، وفي وقت من أوقات ازدحامها بالحركة والحياة.
102
وانظر.. أتستطيع قوة بشرية أن ترصد مجريات هذا الحادث، وتمسك بكل قريب وبعيد منه؟.
السيارة.. لونها، وشكلها، ورقمها.. وسائقها.. هيئته، وطوله، وعمره، وزيّه.. ثم الشخص الذي صدم، وأين كانت الصدمة، ومدى آثارها ثم اجتماع الناس، والتفافهم حول الحادثة، ثم بعض ما كان من تعليقات عليها..
ثم عملية رجال الشرطة والإسعاف.. ثم انجلاء الموقف وعودة الحياة إلى سيرتها فى هذا المكان.
ذلك أقصى ما يمكن أن يمسك به إنسان من شهود هذه الحادثة، وما دار فى محيطها.
وإن ذلك لقليل إلى كثير جدا، مما وقع هناك، ولم يلتفت إليه أحد، ولم يكن في حساب أحد..
فكم من الناس من شهدوا هذا الحادث مثلا؟ وكم الذكور وكم الإناث منهم؟ وكم الصغار وكم الكبار؟ وما أسماؤهم؟ وماذا يلبس كل واحد؟
وأين يسكن؟ وأين يعمل؟ ثم ما شأن كل واحد من شهود هذه الحادثة؟
إلى أين كانت وجهته؟ وماذا تركت الحادثة في نفسه؟ وهل انطلق بعدها إلى غايته، أم صرف نفسه إلى غاية أخرى؟.. وهكذا.. وهكذا..
إن لكل إنسان من هؤلاء قصة طويلة، لا تكاد تنتهى..
وهل ينتهى لأمر من هذه الحادثة عند هذا الحد؟ كلا.. فهناك مئات، بل ألوف من الأمور الصغيرة أو الكبيرة، التي تتصل بهذه الحادثة، يمكن أن يجتمع من أيّ منها كتاب ضخم، لو تتبّعها متتبع، ثم يبقى بعد ذلك كثير من
103
مجربات الأمور قد أفلت منه، ولم يقدر على الإمساك به، ولو استعان بمئات من الأشخاص والأدوات المسجلة والمصورة.
وهذا يكشف لنا عن أمرين:
أولهما: استحالة نقل الحدث، مهما صغر، نقلا كاملا بملابساته جميعها، مما حواه زمانه، واشتمل عليه مكانه.
وثانيهما: أن نقل الملابسات التي تتلبس بالحادث- على فرض إمكانها- لا داعية إليه في التعرف على وجه الحادثة، والاستدلال على مشخصاتها، والوقوف على ما يحتاج إليه منها، إذ يكفى من هذه المشخصات ما يصور الملامح الواضحة، للحادث، ويشخّصه.
وبدهيّ أن القصص القرآنى إذ ينقل صورا من أحداث الماضي، فإنه لا ينقل كل ما تلبّس بها من قريب وبعيد، وإنما يأخذ منها ما كان ذا دلالة واضحة عليها، فى الكشف عن الوجه المعبر منها عن الحدث، والمضمون الذي اشتمل عليه..
وإذا كان ذلك كذلك في القصص القرآنى، فإنه يعنى أن هذا القصص لم يجىء بالواقع كله، بل أخذ منه بعضا وأعرض عن بعض، ويعنى أيضا أن هناك تفاوتا واختلافا كثيرا أو قليلا بين هذا القصص وبين الواقع..
وهذا يعنى- مرة ثالثة- أن القصص القرآنى مغاير للواقع على نحو ما.
وهذا يعنى- مرّة رابعة- أن هذا القصص قد تصرّف في الأحداث، كما يتصرف القصصيّ في الأحداث الواقعة، حين يؤلف منها قصة من
104
القصص، أو رواية من الروايات.. وهذا يعنى أخيرا أن أنباء القصص القرآنى، ليست هي الواقع- كما وقع، أو بعبارة أخرى أنها ليست الصدق كلّ الصدق!! هذا مدخل من المداخل التي رآها بعض الباحثين آذنة لهم بالقول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص الأدبى- لم يقف عند حدود الأحداث الواقعة، بل تصرف فيها على الوجه الذي يقيم منه قصصا «فنيّا!!»..
الأمر الذي جعله يغير من وجوه الواقع، ويخرج به على غير مألوف الحياة، حتى تجد النفس إقبالا عليه، لما فيه من جدّة وغرابة، ولما في الجدّة والغرابة من طرافة!! هكذا يذهب هذا التصور المريض، الذي يقع في نفوس أهل الغفلة عن جلال الله وقدرته، يذهب بهؤلاء السّفهاء أن يجعلوا الله سبحانه وتعالى، مع الأدباء والقصاصين، على كفتى ميزان، حتى ليضطر الخالق- كما يضطر المخلوقون- إلى خلط الحق بالباطل، وتزويق الحقيقة بالخيال، وتمويه الواقع بالكذب والاختلاق، حتى يكون له طعم جديد، غير ما اعتاد الناس تذوقه من طعوم الحياة وواقعها!! وماذا بقي لله سبحانه وتعالى إذن من تفاوت بينه وبين خلقه؟
أفتعجز كلمات الله عن أن تمسك بالصدق، وتشتمل عليه؟ ثم أيليق بكلمات الله أن تتلبّس بالكذب والاختلاق، وتتزوّق بالخيال وتتجمل به، حتى يكون لها وجه مقبول غير مردود؟.
يا للسفاهه والضلال، ويا للحمق والجهالة.. بل يا للجرأة على الله، والتطاول على من خلق من التراب لسانا ينطق بهذا البهتان العظيم!!
105
هذا، ومما يراه أصحاب هذا الرأى الأحمق الجهول مؤيدا لوجهة نظرهم هذه، الضالّة المضلّة- أن القرآن الكريم جاء بلسان عربى مبين، والشخصيات التي وردت في القصص القرآنى، لم يكن لسانها عربيا، كموسى وفرعون مثلا..
وقد نطق القصص القرآنى عن هؤلاء الأشخاص، وأنطقهم بهذا اللسان العربي.. وطبيعى أن ما نطقت به هذه الشخصيات في القرآن، لم يكن هو نفس منطوقها، وإنما هو ترجمة أمينة وصادقة لما نطقت به.
وهذه الترجمة، وهذا النقل- أيّا كان من الدقة والإحكام في نقل المعاني من لسان إلى لسان- هو على أي حال مخالفة للواقع، فى الصورة والشكل، وإن لم يكن في المضمون والمحتوى! وأي مخالفة أكبر من أن تتبدل ألسنة الناس، فينطقوا بغير اللغة التي نطقوا بها؟ ففرعون- ولغته المصرية القديمة- ينطق بالعربية الفصحى! وأصحاب الكهف- ولغتهم غبر عربية على وجه قاطع- قد أنطقهم القرآن بلسان عربى مبين.. وهكذا.
وأكثر من هذا.. الحيوانات والجمادات، ينطقها القرآن بهذا البيان المبين.. إذ يقول سبحانه فيما أنطق به السماء والأرض: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (١١: فصلت).
ويقول سبحانه فيما أنطق به النملة: «قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» (١٨: النمل).
فهذه المفارقات وأشباهها، قد جعل منها بعض الدارسين المجددين أو المجدفين
106
منفذا ينفذون به إلى القول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص التأريخي- لا يكون قصصا إلا إذا لوّنه القاصّ بألوان من خارج الواقع، وجعل لنفسه سلطانا على الأحداث، فيغيّر ويبدّل، كما تقتضى الحال، ويستدعى المقام، حتى تكون القصة مقبولة مستساغة، بما فيها من فنّ وإبداع!!
دعاوى متهافتة:
والحق أن هذه الاعتراضات كلها مما حكات باطلة، وتلبيسات فاسدة، لا تقوم على أساس من الحجة الواضحة، والمنطق السليم..
فالقول بأن القصص القرآنى لم يحمل في أطوائه الأحداث التي جاء بها، متلبسة بكلّ ما صحبها من صور وأشكال، ساكنة ومتحركة، فى مجال الزمان والمكان على السواء- هذا القول- على تسليمنا به، لا تقوم منه حجة أبدا على أن القصص القرآنى قد بعد- مع هذا- عن الواقع في كثير أو قليل..
بل إنه احتوى الواقع كلّه، واشتمل عليه، وأخذ لبّه، والصميم منه..
ذلك أن الحياة كلها، بأزمنتها وأمكنتها، وأشخاصها وأحداثها، حاضرة عتيدة كلها، بين يدى الحكيم العليم، واقعة في علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء..
وهذا القصص الذي جاء به القرآن، لم يكن تأريخا للحياة كلها، وأحداثها وإنما هو عرض لبعض المواقف، وكشف عن بعض الأحداث، التي من شأنها أن تحدث في النفس أثرا، وتقيم في الضمير وازعا، وتفتح على العقل والقلب مواقع ماثلة للعبرة والفطنة.
فالقصص القرآنى. لا يمسك بالأحداث الواقعة في الحياة كلها، وإنما يمسك من الأحداث والوقائع، بما يراه مجلّيّا عن عبرة، كاشفا عن عظة،
107
لتنتفع بها الدعوة الإسلامية، فى مقام الدعوة إلى الله، والتعرّف عليه..
وليس يعنيه- فى هذا المقام- أن يكون الحدث مدوّيّا صارخا، أو مزلزلا عاتيا، بقدر ما تعنيه الدلالة التي يدلّ عليها، والعظة التي تتكشف للناس منه.
ولا شك أن هذه الأحداث والوقائع التي يقتطعها القرآن الكريم من «شريط» الحياة، هى الصدق الخالص، والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يقتطعها القرآن.. زمانا، ومكانا، وأشخاصا، وملابسات.. ثم ينفخ فيها نفخة الحياة، فنبعث من مرقدها، وقد تساقط منها ما جفّ من أوراقها، وما ذبل من أغصانها، وإذا هي ثمر دانى القطوف، نأخذه العين وتشتهيه النفس..
وإذن، فليس تخليص القصص القرآنى من الزوائد والحواشي التي لا تغنى شيئا في تصوير الحدث، وعرضه في معرض الاعتبار والعظة- ليس هذا التخليص إلا عملية غربلة وتصفية، غايتها تنقية الحدث من الشوائب، وتخليصه من الغثاء والزّبد، ليصفو مورده، ويسوغ مذاقه للواردين- وليس ذلك عن عجز أو غفلة، عن جميع الملابسات التي انصلت بالحدث من جميع جهاته، والتقت به من قريب أو بعيد.
وهذا التصرف الذي كان من صنيع القرآن الكريم، فى عرض الأحداث وفي أخذ بعضها، والإعراض عن بعض- هذا التصرف لا يصح أن يكون مسوغا لقائل أن يقول: إن القرآن- وقد أباح التصرف على أي وجه من الوجوه- قد أدخل في القصص القرآنى ما ليس من صميم الواقع، وأنه غير وبدّل فى معالمه..
فهذه مغالطة سفيهة- كما قلنا- لأن ما جاء به القصص القرآنى، هو
108
الصميم من الواقع، واللباب من الحدث، وإن يكن قد ترك ما ترك من حواش وأطراف، وزوائد، وقشور! وأما القول بأن القرآن قد تحدث بلسانه العربي، عن ألسنة غير عربية، أو نطق بلسانه العربي عن دلالة الحال، كما في تحديثه عن الجماد والحيوان، فهذا لا يمكن أن يحىء منه الادعاء بأن القرآن قد تقوّل على من نطق عنه.. وإنما هذا الذي نطق به القرآن، مترجما به عما نطق الناطقون، أو نطقت به دلالة الحال- إنما هو المضمون الحق، والمحتوى الصادق الأمين، لما تلبّست به الخواطر، وجمجمت به الصدور، قبل أن تنطق به ألسنة المقال، أو تهمهم به ألسنة الحال..
فإذا جاءت كلمات الله ناطقة بما نطقت به ألسنة الحال أو المقال، كانت تلك الكلمات هي الصورة الكاملة- روحا وشكلا، ومضمونا ومحتوى- لما نطق به الناطقون، ولما أراد أن ينطق به الناطقون، وأعجزهم العجز عن النطق به! ثم ماذا يمكن أن يكون غير هذا في مثل هذه الأحوال، إذا أريد نقلها وعرضها للحياة؟
أكان من التدبير الحكيم هنا أن يجىء القرآن الكريم بالأشخاص والأحداث، فيبعثها من مرقدها، ويحركها على مسرح الحياة من جديد، لتنطق بما كانت قد نطقت به، أو لتشير إلى ما كانت قد أشارت إليه؟
إن قدرة الله- سبحانه وتعالى- لا يعجزها شىء. ولكن أتحمل الحياة هذا، لو أنه حدث؟ وهل يلقاه الناس فلا يفتنون به، ولا يخرجون عن عقولهم، فى تخبط مجنون؟ ثم لو استمع العرب إلى هذه المقولات التي نطق بها
109
أصحابها، كما نطقوها بألسنتهم، أو خواطرهم- أكانوا يفهمون شيئا، أو ينتفعون مما استمعوا بشىء؟
إن القصص القرآنى- لكى يكون قصصا نافعا مثمرا- قد جاء على سنّة الحياة التي يحياها الناس، ولم يخرج على مألوفها، ولو جاء على غير هذا لما كان للناس التفات إليه، ولو أنهم التفتوا إليه لما كان منهم إلا الاضطراب والبلبلة.!
فالناس، يتداولون الأنباء، ويروون الأخبار، ويتناقلونها، على تعدد الأشخاص، واختلاف الألسنة.. ثم لا يكون شىء من ذلك التعدد وهذا الاختلاف، حائلا بينهم وبين أن يفيدوا منها، وينتفعوا بها، ويخلصوا إلى مضامينها.
وغاية ما يمكن أن ينظر إليه في هذه الأحوال، هو الصدق فى الرواية، والأمانة في النقل، والدقة في التصوير والتعبير.
وإنه إذا كان هناك ملتمس تلتمس فيه هذه الغاية، على أتم تمامها، وأكمل كمالها، فلن يكون ذلك، إلّا في القرآن، وفيما نطق به القرآن، وإلا في كلمات الله، وما نطقت به كلمات الله.. «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا؟»..
«وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً؟».
إن القصص القرآنى، وإن يكن سماويّ المطلع، فهو بشريّ الصورة، إنسانيّ المنازع والعواطف، يتحدث عن الناس إلى الناس، ويأخذ من الحياة للحياة.. يقرؤه الناس ويسمعونه، فكأنما يقرءون أطواء نفوسهم، ويسمعون همس ضمائرهم، ووسوسة خواطرهم.. ومن هنا، فهم يحيون معه، وينتفعون به انتفاع الأرض يصوبها الغيث، فيقع منها مواقع مختلفة، بين وديان وسهول، وجبال وقيعان، وأحراش وسهوب، وخصب وجديب!
110
وأحسب أننا بعدنا بهذا الاستطراد عن موضوعنا: «التكرار في القصص القرآنى».. ولكنه كان استطرادا لا بدّ منه، ونحن ننظر من هذا القصص، فى معارض شتّى من البيان.. بين الإيجاز والتفصيل، فى القصة الواحدة، والحدث الواحد، بل والإشارة الواحدة.. إذ كانت معرفة الأصول التي قام عليها القصص القرآنى أمرا لازما لمن يتصدّى لدراسة هذا القصص، وضبط موارده ومصادره، على ميزان الحق الذي نزل به القرآن الكريم.. ثم كانت تلك المعرفة لازمة أيضا لدفع تلك المفتريات التي يفتريها السفهاء والجهلاء من الأعداء والأصدقاء، على القرآن الكريم، وما يقولونه في القصص القرآنى بالذات، وما وقع فيه من تكرار، وما اشتمل عليه- كما يتخرصون- من أساطير..
وقد فرغنا من الردّ على هذا القول الضالّ الآثم، الذمي يقوله القائلون عن مادة القصص القرآنى، وما اشتملت عليه من أساطير.. ورأينا في هذا الردّ- على إيجازه- ما يخرس تلك الألسنة التي نطقت الزور، وجاءت بهذا البهتان العظيم..
أما ما يتخرّص به المتخرصون في شأن التكرار في القصص القرآنى، فقد عرصنا في أول هذا البحث ما يتعلق به أولئك الذين يطعنون في بلاغة القرآن، من مدّعيات ومفتريات، لم تثبت لأول لمحة من النظر، حتى بان عوارها، وانكشف زيغها عن المنطق السليم، الذي يتعامل به في قضايا العلم ومقررات الفنّ وبقي بعد هذا أن نعرض نموذجا من التكرار القصصى في القرآن، لننظر وينظر معنا الذين يأخذون على بلاغة القرآن هذا التكرار- كيف كان هذا التكرار إعجازا من إعجاز النظم القرآنى، إلى جانت إعجاز النظم في ذاته، قبل التكرار، وبعد التكرار..
111
ولا نتخير هذا النموذج من بين القصص القرآنى، بل فأخذ قصة موسى التي عشنا معها في هذه السورة «سورة الشعراء» - إذ كانت قصة موسى أكثر قصص القرآن تكرارا، فقد ذكرت- كما قيل- فى مئة وعشرين موضعا من القرآن الكريم..
ولا نعرض قصة موسى كلها- بل نأخذ منها هذا المقطع، الذي واجه فيه موسى فرعون وسحرته، إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر.. إذ كان هذا المقطع هو أول ما واجهنا من حديث عن موسى وموقفه من فرعون، وسحرة فرعون..
وهذا المقطع الذي نقف عنده من قصة موسى مع فرعون، قد جاء في عدة معارض في القران الكريم.
وها نحن أولاء نعرضها حسب ترتيب نزولها، كما وقع لنا، وكما هو الرأى الراجح في القول بترتيب هذا النزول..
أولا: فى سورة طه
بعد أن يدخل موسى وهرون على فرعون، ليبلغاه رسالة ربهما إليه.. يبدأ الموقف هكذا:
«إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. «قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى. «قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟
112
«قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى. «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى. «قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى. «قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى. «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى. «قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.. «قالُوا يا مُوسى.. إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى. «قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. «قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى.
113
«فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً. «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى. «قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى.
«قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى»
:(الآيات: ٤٨- ٧١).
ثانيا- سورة الشعراء
[الآيات: ١٦- ١٥] فى هذا الموقف، ينتقل المشهد الذي كان عليه موسى بين يدى ربه، إلى فرعون، دون فاصل ما.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه، يسمعان من فرعون، ولا يذكر الموقف أنهما قالا له شيئا..
«فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ. «قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ! «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ..! «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ.. «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ! «قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. «قالَ: لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟
114
«قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. «قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. «قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. «قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. «قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ «قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.. «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ «قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ. «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. «قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ!
«فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ..
«فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ.
«فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
«فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ.
«قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
115
«قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.
«فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ..
«قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ»
.
ثالثا: سورة الأعراف
[الآيات: ١٠٣- ١٢٦]
وجاء الموقف في سورة الأعراف هكذا:
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ.
«قالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ.
«قالَ: الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ. ؟
«قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ.
«وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ.
«قالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
116
«قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ؟ «قالَ: أَلْقُوا. «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ.
«فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
«فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ.
«قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
«قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ.
رابعا: سورة الإسراء
[الآيتان: ١٠١- ١٠٢] ويعرض الموقف في سورة الإسراء عرضا موجزا.. هكذا..
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً.
«قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً»

خامسا: سورة يونس
[الآيات: ٧٥- ٨٢] ويجىء الموقف في سورة يونس، بين الإجمال والتفصيل، هكذا:
117
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ..
«فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
«قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟ أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ..
«قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ.
«وَقالَ فِرْعَوْنُ: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ.
«فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ.
«فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»
.
سادسا: سورة النازعات
[الآيات ١٧- ٢٥] وفي سورة النازعات يجىء الموقف في عرض قصير، سريع.. هكذا:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى».
سابعا: سورة الذاريات
وفي الذّاريات، تعرض القصة كلها في لمحة خاطفة.. هكذا..
«وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» (٣٨- ٣٩).
118
هذه معارض سبعة، قد عرض فيها هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، عرضا مبسوطا اتسع لأهم الأحداث التي جرت فيه، والتقط أدقّ الخلجات النفسية التي تحركت في صدور الناس الذين كان لهم مكان في هذا الحدث.. مباشرا أو غير مباشر..
فهذه المعارض السبعة إذا ضمّ بعضها إلى بعض، قامت منها صورة واحدة، هى صورة مكبرة، لكل واحدة من هذه الصور على حدة..
فإنك إذ تنظر في الصورة التي تجمع هذه الصور كلها، ثم تنظر في أيّ من الصور الصغيرة، تجد الملامح هي الملامح، والصورة هي الصورة، وإن حملت الصورة الكبيرة ألوانا أكثر، وشغلت مساحة أوسع.
ومن صنيع الإعجاز القرآنى في هذا، أنه مع تفرّق هذه الصور، وبعد ما بينها من مسافات، فى عرض القرآن الكريم لها- أنه يمكن أن تضمّ هذه الصور بعضها إلى بعض، على أي ترتيب تقع فيه، وعلى أي وضع تأخذه كل واحدة منها بين أخواتها، ثم يقرؤها القارئ أو يرتلها المرتل وكأنها صورة واحدة، دون أن يشعر أنه يعيد ما قرأ، أو يكرّر ما رتل! وهذه هي الصور السبع كما عرضناها من قبل، دون التفات إلى ترتيب خاص لها- وإن لك أن تقرأها قراءة أو ترتلها ترتيلا، ثم انظر فيما تجد لما تقرأ، من هذا التلاحم والتوافق الذي بينها، وستجد- كلما أعدت القراءة أو الترتيل- أكثر من هذا الذي حدثتك عنه من توافق وتلاحم بين هذه المعارض..
على أننى أودّ أن أصنع صنيعا آخر مع هذه الآيات جميعا، حتى يتضح لنا- بصورة أكثر وضوحا- خلوّ القصص القرآنى من التكرار، بالمعنى الذي فهم عليه، والذي كان في نظر الأغبياء والأدعياء تهمة يرمى بها القرآن فى
119
أعزّ ما يعتز به من فصاحة وبيان.
وننظر في الواقعة ذاتها، فنجد أنها تشتمل على عناصر أربعة:
١- موسى ومعه أخوه هرون، وما عرضا على فرعون من مقولات وآيات.
٢- فرعون، والملأ الذين معه من قومه وسحرته، وما استقبلوا به موسى من مقولات وتحدّيات.
٣- ما كان من موسى والسحرة، وما انتهى إليه أمرهم، من عجز، وتسليم، وإيمان..
٤- ما كان من فرعون حين خذله سحرته، وخرجوا عن طاعته وأمره..
وما توعدهم به من عذاب ونكال، وما كان منهم من استخفاف بهذا الوعيد وعدم التفات إليه.
والذي سنصنعه هنا، هو أن نجمع لكل عنصر من هذه العناصر ما كان له من ذكر في هذه السور الست التي عرض فيها القرآن هذه المواقف..
فأولا: موسى وهرون في مواجهة فرعون..
«إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى»..
(٤٨) (من سورة طه) «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ»..
(١٦- ١٧) (من سورة الشعراء) «يا فِرْعَوْنُ.. إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ»..
(١٠٥ من سورة الأعراف)
120
«هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى»..
(١٨- ١٩) (من سورة النازعات) واقرأ هذه المقولات الأربع، واحدة بعد أخرى، اقرأها على أي ترتيب شئت.. فهل تجد فيها تكرارا؟ وهل يمكن أن تستغنى عن واحدة منها، ثم لا يفوتك شىء مما يتطلبه الموقف، وما حملت تلك الصورة من رؤية جديدة له، ومن مشاعر وخلجات تلبست به؟
والذي أود الإشارة إليه، هو أن هذه المقولات الأربع ليست قولا واحدا جاء به القرآن الكريم في معارض مختلفة من القول، وإنما هي أقوال أربعة فعلا، كل قول منها مستقل بنفسه، قائم بذاته، وإن كان مكملا لغيره..
شارحا له، أو مؤكدا..
١- فهذا موسى ومعه أخوه هرون، يدخلان على فرعون، ويتحدثان إليه بصوت واحد معا.. إذ كان ذلك هو شعور موسى من لقاء فرعون، قبل أن يلقاه، فقد طلب إلى الله أن يشدّ أزره بأخيه هرون، فهو أفصح منه لسانا..
ويدخل موسى وهرون على فرعون.. فينظر إليهما نظرة من يقول: ماذا تريدان؟..
فيقولان معا وبصوت واحد: «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى»..
(٤٨) (سورة طه) ٢- ثم ها هما وقد أخذت تزايلهما رهبة الموقف ودهشة اللقاء فيلقيان فرعون لقاء مباشرا، ويلقيان إليه بهذا الأمر العظيم، فيقولان معا:
«إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ!!» (١٦- ١٧) (سورة الشعراء)
121
ونستشعر من هذا أن «موسى» لا يزال يجد الرهبة والخوف من فرعون، وأنه لم تزايله رهبة الموقف بعد، ولا يزال في حاجة إلى هرون يسنده، ويشدّ أزره، ويثبت جنانه.
٣- ثم ها هو ذا «موسى» بعد أن تمرّس بالموقف، وارتاد الطريق، واختبر المواجهة، واحتمل الصدمات الأولى لها- ها هو ذا يلقى فرعون وحده، ويسمعه بلسانه مضمون رسالته، فى قوة وصراحة، وتحدّ:
«يا فِرْعَوْنُ..
«إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ..
«حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ..
«قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..
«فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ.. (١٠٤- ١٠٥) (الإسراء) فيا للاعجاز الذي تذلّ لجلاله جباه الجبابرة، وتخضع له أعناق المكابرين، وتعنو له وجوه السفهاء المتطاولين..
«يا فرعون»
! هكذا يقولها موسى في وجه فرعون.. يناديه باسمه، متحدّيا، وينتزعه من سلطانه وجبروته انتزاعا.. فى غير تلطف أو رفق، أو مبالاة.
إنّها فعلة من يقدم على أمر محفوف بالمخاطر، بعد خوف، وتردد، حتى إذا لم يجد من المواجهة بدا ألقى بنفسه إليه، مخاطرا، يتوقع ما يطلع عليه وراء فعلته تلك من أهوال.
وما كان لموسى أن يقول هذه القولة: «يا فرعون» ولا أن يقول بعدها:
«إنى» بهذا الضمير المحقّق لشخصيته، المؤكد لذاته: «إنّى» لا أحد غيرى
122
«رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ».. ولحرف الجر «من» هنا ماله من الإشعار بهذا الاعتزاز بتلك الشخصية، والرسالة التي تحملها، والجهة التي جاءت منها.. ففيها ما ليس في قوله تعالى: «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» من الشّحنة القوية، المليئة بالاعتزاز بهذا السلطان، الذي يستند إليه، وهو سلطان رب العالمين.
ما كان لموسى أن يقول هذا، ثم يمضى فيقول:
«حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ».. وهذا اعتزاز بعد اعتزاز لشخصه الذي يحمل رسالة السماء..
ما كان لموسى أن يقول هذا، لولا أن دخل على فرعون هذا المدخل الذي اختبر به الأرض التي تحت قدميه.
ومن هذا الأفق العالي، يتنزل أمر موسى هادرا مدويّا في وجه فرعون:
«فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ».
ولك أن تضع هذا الأمر الصّادع، إلى جانب هذا الرجاء الذي أسمعاه- موسى وهرون- لفرعون من قبل، فى قولهما: «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» وسيتضح لك بعد ما بين الأمرين.
ويستشعر موسى أنّه وقع بين فكى الأسد وبراثنه.. وأن فرعون لن يدعه ينجو من العقاب الأليم، على هذه الجرأة التي اقتحم بها هذا الحمى الذي لا يقتحم.
٤- وهنا لا يجد موسى بدّا من أن يصحح موقفه، وأن يلقى فرعون مترفقا متلطفا، كما أمره الله سبحانه بقوله: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى»..
وهنا يلقاه موسى بهذا الأسلوب اللّين الرقيق، لعله يكسر بهذا حدّة الموقف، الذي وصل إلى هذا الحدّ من الخطر.. فيقول له:
123
«هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» ؟
(١٧- ١٨) [سورة النازعات] وإلى هنا لم نجد حديثا عن فرعون.. ولكنا نقرأ في وجهه، ومن حركاته أكثر من حديث..
ثانيا: فرعون وقومه وسحرته
وماذا يكون من فرعون بعد أن سمع ما سمع مما لم يعهد سماعه من أحد من قبل؟
ننظر فنرى:
أن فرعون- فى هذا الموقف- يواجه موسى وتحدياته، فيلقاه دهشا عجبا، لهذا التطاول عليه، والخروج على المألوف في حضرته.
ثم هو- قبل هذا كله، وبعد هذا كله- هو فرعون! يبسط سلطانه على أهل المجلس.. يلقى نظرة هنا، ونظرة هنا، ويرمى بكلمة هنا وكلمة هنا.. إنه المحور الذي تدور به ومن حوله الأحداث.
وطبيعيّ ألا يأخذ الحديث اتجاها واحدا، فى هذا الموقف، لتعدّد الأطراف المشتركة فيه.. فرعون، وموسى، وحاشية فرعون، وشهود هذه المساجلة من الملأ..
ونودّ أن نشير هنا إلى أن هذه الصور التي عرضها القرآن لهذا الموقف، ليست للقاء واحد بين موسى وفرعون.. وإنما هى «لقطات» مركزة مجمّعة لأكثر من لقاء.. إذ أنه من غير الطبيعي أن ينحسم الأمر بين موسى وفرعون في لقاء واحد.. ولكن المقدّر في هذه الحالة أن يتكرر لقاء موسى وفرعون، ويتكرر الأخذ والعطاء بينهما، إلى أن بيئس كل منهما من الوصول إلى وفاق مع خصمه، فلا يكون بعد هذا إلا التحدّى والصراع.
ومع هذا فإن اقتدار القرآن وإعجازه، فى تصوير مشاهد هذا الموقف فى
124
أزمنة مختلفة، وأحوال مختلفة أيضا، قد جعل منها مشهدا واحدا، يمسك بتلك المشاعر التي كان يعيش بها أصحابها في هذا الموقف، دون أن يحدث الانفصال الزمانيّ أو المكانيّ فيها خلخلة، أو ازدواجا.
ومع هذا- أيضا- فإننا سنعرض هذه المشاهد، على أنها صورة واحدة، فى موقف واحد، وسنرى أنها تقبل مثل هذا العرض، وتتلاقى فيه وجوهها، دون أن تتصادم، أو تتدافع! ولقد رأينا في المشهد السابق، أن فرعون، قد أخذ بالمباغتة، التي طلع بها موسى وهرون عليه، وأنه حين أسمعاه هذا القول، الذي قالاه له في قوّة وجرأة- وجم، ولم ينطق.
ثم صحا من هذا الذهول، وتنبه لحقيقة الموقف، فاتّجه إلى موسى بهذه الأسئلة الهازئة الساخرة:
«أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» (الشعراء) (١٨- ١٩).
وقد قدّر فرعون أن هذه الكلمات ستصيب موسى في الصميم منه، وأنها ستخفض رأسه في حضرته.. إذ أنه سيذكر من هذه الكلمات، طفولته وضياعه ووقوعه ليد فرعون.. ثم إنه ستطلع عليه من هذا الكلام صورة مخيفة لفعلته التي فعلها، وهي قتل المصري، وأن فرعون إذا لم يأخذه بجرأته عليه، أخذه بهذا المصريّ الذي قتله.
ولا يقف موسى عند ما ذكره له فرعون، من تربيته له، وضمه إليه، بل يجعل همّه كلّه دفع هذا الخطر الذي يتهدّده من حادثة القتل.. فيقول مجيبا فرعون:!
125
«فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ؟» (الشعراء).
وهنا يلقاه فرعون سائلا:
«فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟».
وانظر إلى كيد فرعون في هذا السؤال الماكر.. إنه يطلب الجواب من موسى، وهو يعلم ما في لسانه من حبسة، وذلك أمام الجمع..
ويجيب موسى.. وقد أطلق الله سبحانه حبسة لسانه:
«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى».. (٢٠) [طه] ويعاجله فرعون بسؤال آخر:
«فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟»... (٢١) [طه] ويردّ موسى هذا الردّ المفحم:
«عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى».. [طه] وانظر كيف عدل موسى عن الجواب على سؤال فرعون، والدخول معه فى هذا المجال، الذي يكثر فيه اللجاج، ولا يستطيع أحد الخصمين- فى موقف العناد والجدل- أن ينال موقفا حاسما..
«فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» ؟ إنه طوفان يغرق فيه من يتصدى للجواب عليه، إلا إذا كان مع من يطلب الهدى، ويسأل ليعلم، لا ليفحم.
126
وانظر كيف خلص موسى من هذا الموقف الذي كان يدفعه فرعون إليه دفعا- إلى هذا العرض المحسوس الذي لا ينكر، لقدرة الله، وما لهذه القدرة من آثار تملأ وجوه الحياة! ويضيق فرعون بهذا التدبير الذي أفلت به موسى من المصيدة.. فيجىء إلى موسى من طريق آخر.. فيسأله:
«وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ؟ (٢٣) [الشعراء].
ويكون جواب موسى حاضرا:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» [الشعراء] ويتلفت فرعون حوله عجبا، ودهشا، مستنكرا.. يقول لأهل مجلسه «أَلا تَسْتَمِعُونَ» ؟... [الشعراء] وإلى هذه الجبهة الجديدة التي فتحها فرعون يتجه موسى قائلا:
«رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».... [الشعراء] وتثير هذه الجرأة حنق فرعون.. إذ كيف يجرؤ موسى على تخطى فرعون ومخاطبة غيره في حضرته.. أهناك من يكون له وجود مع وجود فرعون؟
ثم إن فرعون يخشى- من جهة أخرى- أن يكون لقول موسى أثر في الملأ الذين حوله.. فيقول لهم:
«إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» !... [الشعراء] ويردّ موسى قول فرعون هذا، ويؤكد لمستمعيه ما قال من قبل، فيقول:
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» [الشعراء] وفي قولة موسى هذه تحريض لهؤلاء الأتباع من قوم فرعون، أن يستقلّوا بوجودهم، وأن يحتفظوا بعقولهم، وأن يفكروا لأنفسهم، وألا يدعوا أحدا يفكّر لهم، ولو كان فرعون.. «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» !
127
ويجنّ جنون فرعون لما يريد موسى أن يبلغه من القوم- قوم فرعون- من إغرائهم على الخروج عن طاعته، والخلاف عليه، فيلقاه بهذا الوعيد..
«لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» [الشعراء] ويلقى موسى هذا الوعيد بقوله:
«أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟»... [الشعراء] ويجيبه فرعون:
«فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.».... [الشعراء] ويتوقف موسى قليلا يستجمع قواه، ويهيىء نفسه لهذا الامتحان الذي يلقى فيه بكل ما معه من أسلحة، وهو على حذر وإشفاق من أن تخونه عصاه، أو لا تستجيب له يده..
ويرى فرعون هذه الحال من موسى، ويخيّل إليه أن موسى لا يملك شيئا بين يديه، فيجدها فرصة للطعنة القاضية، يطعن بها موسى.. فيقول له:
«إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (١٠٦) [الأعراف] وعندها يكون موسى قد استجمع نفسه، واستردّ عزمه الذي ذهب به الموقف.. ولا يتكلم موسى.. بل يدع للآيات التي معه أن تتكلم عنه، وتنطق ببيان أفصح من كل بيان..
«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» (١٠٧- ١٠٨ الأعراف) (٣٢- ٣٣ الشعراء) هكذا يحىء المشهد في كلّ من سورتى الأعراف والشعراء، على نسق واحد في النظم، لم يقع فيه أي خلاف بحرف أو كلمة، أو تقديم أو تأخير..
وهذا أمر يلفت النظر، ويدعو إلى التأمل والبحث.. حيث لا يلتزم
128
القرآن الاحتفاظ بصورة النظم إلا عن قصد، ولغاية مرادة، لا تتحقق إلا بهذا الالتزام، بحيث لو اختلفت صورة النظم قليلا أو كثيرا، لفات الغرض، ولم تتحقق الغاية..
فإن من مألوف النظم القرآنى، أن ينوّع الأساليب، ويغاير بينها، إذا لم يكن في هذا التنويع، وتلك المغايرة، ما يجور على المعنى، أو ينتقص شيئا منه..
أي شىء.. وإلا فإن القرآن يكرر اللفظ ويعيده كما هو ولو عشرات المرات، كما في قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» من سورة «الرحمن» التي تكررت فيها هذه الآية بنظمها هذا، إحدى وثلاثين مرة.
والسؤال هنا:
ما سرّ التزام القرآن لهذا النظم، الذي جاء على هذه الصورة، فى كل من سورتى الأعراف والشعراء؟
والجواب- والله أعلم- أن المشهد الذي وقع من كل من العصا واليد، ظلّ على حالة واحدة ثابتة، لم يطرأ عليها تغيير من أول ما وقعت إلى أن رفعت.
فالعصا.. ألقى بها موسى من يده.. فإذا هي في الحال ثعبان مبين، مرة واحدة.
لم تتحول من حال إلى حال، ولم تتغيّر من صورة إلى صورة. كأن تبدأ صغيرة- كما هو المتوقع عادة في كل عمل إنسانى- ثم تظهر آثار التفاعل فيها، فتكبر شيئا فشيئا حتى تبلغ غايتها..
واليد.. أخرجها موسى من جيبه، فإذا هي كوكب دريّ متألّق.. مرة واحدة.. هكذا!! وهكذا شأن آيات الله ومعجزاته، التي يضعها بين يدى رسله.. تولد كاملة، وتظلّ محتفظة بهذا الكمال، دون أن يدخل عليها أي تغيير، حتى تزايل الموقف، فى الزمن المقدور لها أن تزايله..
129
فثبات المعجزتين- العصا واليد- على هذا الوجه الذي ثبتتا عليه، اقتضى أن يكون النظم المصوّر لهما، والضابط لوقوعهما، ثابتا لا يتغيرّ، قليلا أو كثيرا..
وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن، كما أنه وجه آخر من وجوه صدقه، فى نقل الأحداث وضبطها..
وتكرار النظم لهذه الصورة وعرضها في معرضين على هيئة واحدة، هو الذي يكشف عن هذا المعنى الذي نلحظه في هذا الإعجاز الذي حملته المعجزتين، وبانتا به عن كل ما هو في مستطاع البشر أن يبلغه في مجالهما..
وإذ يرى فرعون والملأ حوله هذا الذي كان من عصا موسى ويده، تدور به الأرض، وتعتريه رعشة الخوف، ممزوجة بالغضب والحنق والنقمة، ثم لا يجد بدا من أن يقول قولا يمسك به وجوده، ووجود الملأ من حوله، وإلا استولى موسى على هذا الموقف، وأصبح السيد المتصرف فيه..
«قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ..
«إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ.. فَماذا تَأْمُرُونَ»
؟ (٣٤- ٣٥ الشعراء) وتعمل هذه القولة عملها في قوم فرعون، ويصحو القوم من هذا الذهول الذي استولى عليهم، ولكنها صحوة أشبه بصحوة المخمور، يطلع عليه ما يزعجه، فيمسك بأى شىء، ويلقى بنفسه إلى أي شىء! والقوم لا يجدون شيئا يمسكون به إلا كلمة فرعون تلك، التي ألقى بها إليهم، إنه.. يسألهم فيجيبون بما سألهم.. إذ لا يملكون- فى تلك الحال المستولية عليهم- عقلا يفكر، أو رأيا يسعف..
130
وقال الملأ من قوم فرعون:
«إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ؟». (١٠٩- ١١٠: الأعراف) نفس الكلمات التي نطق بها فرعون.. يلتقطها القوم، ويجعلونها جوابا على ما سأل..
وهكذا يكشف القرآن الكريم عن المعجزة وأثرها في القوم، واستيلائها على وجودهم كلّه، بما لم ينكشف حتى لمن شهد الواقعة عيانا، أو وقع تحت تأثيرها مباشرة.
ويمسك فرعون مرة أخرى بخيوط واهية من الموقف الذي كاد يفلت منه، وقد شاع في قومه هذا الشعور بأن موسى ساحر عليم، فيجسّد لهم هذه المشاعر في تلك الكلمات المتحدّية المهدّدة.. يواجه بها موسى! «قال:
«أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً»
(٥٧- ٥٨) (طه) ويفزع القوم لما يسمعون من فرعون، وأن موسى يريد أن يخرجهم وفرعون معهم- من أرضهم، بقوة هذا السحر الذي بين يديه، ويتمثل لهم من هذا أنهم في وجه خطر داهم.. إن هم لم يعاجلوه بالعزم والحسم، عاجلهم بالبلاء والتشريد من ديارهم، والخروج عما هم فيه من دولة وسلطان في ظلّ من دولة فرعون وسلطانه.. إن الأمر جدّ ليس بالهزل، وإن فرعون يرى أنها معركة، وها هو ذا يحدد زمانها ومكانها.
وهنا يصحو القوم صحوة أشبه بصحوة المحتضر.. وإذا هم صوت واحد يهدّد ويتوعد، وإذا القرآن الكريم يمسك بالصميم من هذا الصوت، ويجمع
131
ما تفرق منه على كل لسان، وإذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى:
«قالوا:
«أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ»
[يونس] ونلاحظ أن القوم قد أفاقوا شيئا من هذه الضربة، التي فاجأهم بها موسى، فكان لهم قول، لم يأخذوه من لسان فرعون.
وانظر في هذا الإعجاز الذي تتقطع دونه الأعناق.
لقد وزع القرآن هذا المشهد في أربع سور.. فجعل قولة فرعون عن موسى وسحره، فى سورة «الشعراء».. ثم أعاد هذه القولة نفسها على لسان الملأ من قومه في سورة «الأعراف».. ثم جعل مواجهة فرعون لموسى مهددا متوعدا في سورة «طه».. ثم جعل ما ردّده القوم من تهديد فرعون ووعيده، فى سورة «يونس».. وذلك حتى لا تتراكم الصّور وتتراكب، وحتى لا يقع التكرار على أية صورة.. لفظية، أو معنوية..
ثم انظر مرة أخرى، فى هذه المقولة: «فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟.
لقد جاءت على لسان «فرعون» يسأل بها «الملأ» حوله في سورة الشعراء، كما جاءت على لسان «الملأ» يسألون بها «فرعون» فى سورة الأعراف.
إنها الكلمة التي كانت تدور على كل لسان في هذا الموقف.. لا يملك أحد غيرها.. يقولها لنفسه، ويقولها لكل من يلقاه: «ما العمل» ؟
ثم يجىء الجواب ممسكا بالاتجاه الغالب الذي يكاد يستقرّ عليه الرأى، وتجتمع عليه الأكثرية:
«قالوا:
«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ»
[٣٦- ٣٧: الشعراء]
132
«قالوا:
«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ»
[١١١- ١١٢ الأعراف] وقال فرعون:
«ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» [٧٩ يونس] وإذا كان الرأى قد غلب في إرجاء موسى وأخيه حتى يعدّ فرعون العدّة للقائه، فإن الرأى يكاد يتوازن بين دعوة كل ساحر له أيّ إلمام وعلم بالسّحر، وبين دعوة كل من مهر في السحر.. فقال فريق بدعوة كل ساحر، وقال فريق آخر بدعوة كل سحّار..
ثم يجىء أمر فرعون وحكمه قاضيا بدعوة كلّ ساحر، أي كل قادر على حمل السلاح في هذه المعركة الفاصلة: «ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ! هذان مشهدان من المشاهد الأربعة التي ضمّ عليها هذا المقطع الذي قتطعناه من قصة موسى، وهو لقاؤه مع فرعون، ودعوته إلى الله، وإلى أن يرفع يده عن بني إسرائيل، ويرسلهم معه إلى حيث يخرج بهم إلى وجه آخر من الأرض غير أرض مصر..
وقد رأينا في هذين المشهدين، كيف تجتمع الصور فيهما، وكيف تتفرق، وهي في اجتماعها وافتراقها على سواء، فى عرض المشهد، وفي دقة تصويره، والإمساك بكل خاطرة وقعت فيه..
ولا أريد أن أمضى معك في عرض المشهدين الآخرين، حتى لا يطول بنا الوقوف هنا، ونبعد عن الغاية التي نحن على طريقها، مع تفسير كتاب الله..
فاصنع أنت صنيعك مع هذين المشهدين، على نحو ما رأيت في صنيعنا
133
بالمشهدين السابقين، أو على أي نحو تراه أنت.. وستجد بين يديك ألوانا مشرقة من الإعجاز القرآنى، تطالع وجوهها، فى كل وجه تلقاها عليه..
فإن أنت آثرت ألا تكلف نفسك هذا الجهد، ورأيت أن تقطف الثمر من قريب، فإنك ستجد ذلك بين يديك في كتابنا: «القصص القرآنى «١» »..
والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.
الآيات: (٦٩- ٨٩) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٨٩]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
(١) صفحة ٢٧٥ وما بعدها. [.....]
134
التفسير:
مناسبة ذكر قصة إبراهيم، بعد قصة موسى، هى أنه في قصة موسى، قد رأى فيها المشركون أسوأ وجه لهم في فرعون، وما ركبه من عناد واستكبار واستبداد.. كما رأوا المصير الذي صار إليه هو ومن اتبعه..
وفي قصة إبراهيم يرى المشركون الجانب الآخر من هذا الوجه السيّء الذي يعيشون به في الناس.. فهم إذا كانوا قد رأوا في قوم فرعون عتوّهم واستكبارهم، فإنهم يرون في قوم إبراهيم جهلهم، وصغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم، وضآلة قدرهم فى الناس.. إذ ينقادون لأحجار صمّاء، ويعقّرون جباههم بين يدى ودمى خرساء..!
وفى قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ» - يعود الضمير فى «عليهم» إلى المشركين من أهل مكة.. والنبأ: الخبر عن غائب..
وفي إضافة النبأ إلى إبراهيم، دون إشراك قومه معه، مع أن القصة حديث عنه وعنهم- إشارة إلى أن المنظور إليه هو «إبراهيم»، وأنه هو الذي يجب أن يكون موضع القدوة والأسوة، للمؤمنين، ولأصحاب الرسالات الطيبة الداعية إلى الخير.. وعلى رأس أصحاب هذه الرسالات النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- حيث يجتمع في قومه، كبر فرعون واستعلاؤه، وصغار قوم إبراهيم، وحماقتهم..
قوله تعالى:
«إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» إن سؤال إبراهيم، هو من تجاهل العارف، الذي يسأل عن الشيء، وهو يعرف الجواب عنه.. ولكنه يريد بهذا السؤال أن يأخذ الجواب عن هذا الجرم، من فم المجرمين أنفسهم، ليكون ذلك موضعا للمساءلة والمحاسبة
135
على ما نطقت به ألسنتهم.. ولهذا كان تعقيب إبراهيم على هذا الجواب، بأن سألهم قائلا:
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» ؟
وفي قولهم: «نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» تحدّ وقاح لإبراهيم، وإصرار على عبادة هذه المعبودات التي ينكرها إبراهيم.. فهو الذي يقول عنها إنها أصنام، وهو الذي يقول عنها إنما تماثيل، كما يقول: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» (٥٢: الأنبياء).. ونعم إنهم يعبدون الأصنام والتماثيل.. فما شأن إبراهيم؟ وماذا يريد؟ هكذا يردّون في تحدّ وسفه.
ويضع إبراهيم القوم أمام واقع يفضح ضلالهم، ويكشف صغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم.. إن هذه الأصنام التي يظلّون عاكفين عليها، جاثمين بين يديها- لا تسمع ما يقولون.. وإذن فلا يمكن أن تستجيب لما يدعونها إليه، من جلب خير، أو دفع ضر.. هذا ما تمثّل لهم في هذا الموقف، وهذا ما انكشف لهم من أصنامهم، حتى لكأنّهم يرون هذا منها لأول مرّة! ولا يجد القوم مخرجا من هذا الطريق المسدود، إلّا أن يحيلوا الأمر إلى غيرهم، ويعلقوا الجواب المطلوب على هذه الأسئلة برقاب آبائهم وأجدادهم! «قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ!».. وإذن فنحن نفعل ما كان يفعل آباؤنا من قبل.. وما يفعله آباؤنا هو حجة علينا إن لم نفعله، ثم هو حجة لنا في وجه من ينتقص من فعلنا هذا!.
ويحيّل إليهم بهذا المنطق الصبيانى أنهم أفحموا الخصم، وأسقطوا حجته عليهم! وإذا إبراهيم يواجهم بهذا التحدي لهم، ولما يعبدون هم وآباؤهم.
«قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ».
136
العدوّ: يطلق على الواحد والجمع.. والضمير فى «إنهم» يعود إلى «ما» فى قوله تعالى: «ما كُنْتُمْ» أي الذي كنتم تعبدون، وهو الأصنام..
فالعدوّ لإبراهيم، هو تلك المعبودات من الأصنام.. وعداوة إبراهيم لهذه الأصنام، ليست عداوة ذاتية لهذه المعبودات، من حيث هي نصب قائمة، وإنما لأنها مضلّة لهؤلاء الضّالين.. أما هي في ذاتها، فلا تعادى، لأنها لا تعقل، ولم يكن منها فعل تعادى من أجله.
- وفي قوله تعالى: «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» هو استثناء من العداوة التي أوقعها إبراهيم على ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون من معبودات.. ولما كان من بين هذه المعبودات التي كان يعبدها القوم في مرحلة من مراحل حياتهم، الله سبحانه وتعالى، فقد استثنى إبراهيم هذا المعبود الحقّ، من تلك العداوة التي تقوم بينه وبين معبودات القوم.. وفي هذا ما يكشف للقوم على أن من بين ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم، معبودا واحدا، هو الذي ينبغى أن يعبد، وهو الله ربّ العالمين، وأن ما سواه من معبودات هو باطل وضلال، وهو ما لا يمكن أن تقوم بينه وبين إبراهيم صلة، إلا أن تكون صلة عداوة وقطيعة!.
- وفي قول إبراهيم: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» دون أن يقول: «فإنى عدوّ لهم» حيث جعل العداوة منهم هم إليه، ولم يجعلها منه هو إليهم، كما يقضى بذلك ظاهر الأمر- فى هذا إشارة إلى أمور منها:
أولا: أنه لما كان الله سبحانه وتعالى في هذه المعبودات التي ذكرها إبراهيم، فقد حسن أن يجعل إبراهيم العداوة صادرة من تلك المعبودات، إلى من تعاديه.. لأن المعبود، لا العابد، هو الذي يقام لعداوته، أو رضاه،
137
وزن، ويكون لعداوته أو رضاه أثر.. أما العابد، فلا وزن، ولا أثر لعداوته أو رضاه، فى من يعبده.. هكذا يجب أن يكون الحساب والتقدير..
وثانيا: أنه لما كان الوجه البارز من هذه المعبودات هو هذه الأصنام الصمّاء الخرساء- فقد حسن أيضا ألا يكون من عاقل أن يعاديها، لأنها لم يكن لها أن تفعل شيئا تعادى أو تحبّ من أجله.. وأنه إذا كان فيها من يفعل، وهو الله سبحانه وتعالى، فإن عداوته لمن يعادى أو رضاه عمن يرضى عنه، هو من أمره وحده، إذ المعتبر هنا، هو عداوته لمن يعادى، أو رضاه عمن يرضى، لا عداوة من يعاديه، ورضا من يرضى عنه!.
ثم إنه بعد أن استصفى إبراهيم من بين تلك المعبودات، المعبود الحقّ، الذي يعبده، والذي ينبغى أن يعبده العابدون.. أخذ يعرض صفات هذا المعبود، وما بين يديه من سلطان مطلق، يحكم به في عباده.. فقال:
«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ».
هذا هو الإله الحق، مالك الملك، ومن بيده النفع والضرّ..
ويلاحظ هنا أن إبراهيم قد ذكر من صفات الله- سبحانه- ما يتناسب وربوبية الربّ لعباده.. فهو الذي يربّى عباده، ويحوطهم بنعمه وآلائه..
فيهدى الضالّين، ويطعم الجائعين، ويلقى خطايا المخطئين من عباده بالعفو والغفران، يوم الحساب والجزء.. ويروى الظّماء، ويشفى المرضى، ويحيى الموتى.. وفي هذا ما يكشف للقوم عن نعم الله وإحسانه إلى عباده..
وفي هذا ما يغريهم باللّياذ به، واللّجأ إليه، حتى لا يحرموا هذا الخير الكثير الذي في يديه.
138
وإذ يفتح لإبراهيم هذا الباب الواسع من رحمة الله وإحسانه، فإنه يبادر بالدخول إلى هذا الجناب الرحيم، ليأخذ حظّه من الخير الممدود هناك..
فيمدّ يده طالبا الفضل والإحسان، من صاحب الفضل والإحسان.
«رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».
وأول ما طلبه إبراهيم من عطاء ربّه في هذه الدنيا، هو أن يهب الله له حكما أي سلطانا من العلم والحكمة، يمسك به حقائق الأشياء، ويقيمها على ميزانه، وبهذا يكون في المقربين الصالحين من عباد الله. ثم كان الطلب الثاني له من ربّه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين.. أي يبقى له ذكرا طيبا في الحياة من بعده، وذلك لا يكون إلّا لأهل الخير، والصلاح، من الناس..
ففى هذا الذكر الطيب، طريق من طرق الهداية للناس، حيث ينتصب لهم منه المثل الطيب، والقدوة الصالحة، وهذا ما علّم الله عباده المتقين أن يسألوه إباه، ويدعوه به، كما يقول سبحانه على لسانهم «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» (٧٤: الفرقان).. ثم يجىء الطلب الذي تختم به خاتمة الإنسان في هذه الآية، ويدرك به غاية مسعاه، وهو الفوز برضوان الله وجنات النعيم.
«وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».. وفي هذا النعيم العظيم، لا ينسى إبراهيم أباه، وما حرم نفسه منه، بضلاله، وشروده عن الله.. فيسأل ربّه أن يغفر لأبيه، حتى يذوق حلاوة هذا الرضوان: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ».. ثم عاد إبراهيم إلى نفسه، وقد خاف أن يحرم هذا النعيم الذي هو أحرص ما يكون على أن ينال حظّه منه: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ
139
يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»
.. أي قلب خالص من الشرك، معافى من الضلال.
الآيات: (٩٠- ١٠٤) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ١٠٤]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
التفسير:
هذه الآيات، هى تعقيب على هذه المشاهد، التي شهد فيها المشركون من قريش، موقف أهل الضلال، كقوم فرعون وقوم إبراهيم، وما يعبدون من دون الله.. وتأبّيهم على الهدى، وخلافهم لمن يدعونهم إلى الله.. وفي هذا التعقيب، تنكشف عواقب الأمور، للمحسنين والمسيئين جميعا، فينزل كلّ منزلته، وينال كل جزاء ما عمل.
فأما المؤمنون المتقون، فتزلف لهم الجنّة، أي تدنو منهم، وتفتح أبوابها لهم فيدخلونها، وينعمون بما أعد الله سبحانه وتعالى لهم فيها من نعيم مقيم..
وكأن هذه الجنّة التي أزلفت ودنت للمتقين، كأنما هي جواب على سؤال
إبراهيم، واستجابة لدعوته في قوله: «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».. وكأن الجواب: هذه هي الجنة قد أزلفت لك وللمتقين، فتبوأ منها حيث تشاء..
وأما أهل الشقاء، والضلال، فها هي ذى الجحيم تبرز لهم، أي تطلع عليهم، ويحيط بهم سرادقها.. ثم يقال لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ أين هم؟ وما حيلتهم لكم في هذا البلاء الذي تساقون إليه؟ «هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ» ؟ وهل يمدّون إليكم يدا تخرجكم مما أنتم فيه؟ «أَوْ يَنْتَصِرُونَ» هم لأنفسهم، إذا وقعوا فيما أنتم فيه من مهالك؟ لقد تقطع بينكم، وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون! وإذن فإلى مصيركم المشئوم: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» (٧- ٨: الطور).
«فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ».
والكبكبة: أصلها الكبّ، وهو إلقاء الشيء على وجهه، والكبكبة:
تدهور الشيء وسقوطه في هوّة، حيث يكبّ مرة ومرة ومرات.
ثم إذ تجتمع هذه الأخلاط من الضلال بعضها إلى بعض، تتصارع وتتناهش كما تتناهش الحيات، يسوقها سائق عنيف إلى جحر واحد! وفي هذا الجحر الضيق الخائق، يكثر اللدغ والنّهش، ويعلو الصّراخ والعويل! «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٢٥: العنكبوت).
الآيات: (١٠٥- ١٢٢) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١٢٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
141
التفسير:
وعلى نهج القرآن الكريم، فى تنويع المعارض، والانتقال بالناس من مشاهد الحياة الدنيا، إلى مشاهد القيامة، ثم العودة بهم إلى حيث هم في حياتهم الدنيا، وما هم فيه من غفلة، حيث تعرض عليهم الآيات والنذر، ليكون لهم فيها عبرة ومزدجر- على هذا النهج، جاءت قصة نوح وما بعدها من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ليرى فيها هؤلاء المشركون من أهل مكة، بعد أن عادوا لتوهّم من مشاهد القيامة، وما يلقى فيها أهل الضلال من عذاب ونكال.. لعلّ في هذا ما يفتح لهم طريقا إلى الهدى والإيمان..
وفي قصة نوح صورة واضحة، تجرى فيها الأحداث على نحو مماثل تماما لما يجرى بين النبيّ وقومه.. يدعوهم إلى الله- وهو أخوهم- فلا تعطفهم عليه عاطفة النسب والقرابة، ولا ينكشف لأبصارهم شعاع من هذا النور
142
المشرق الذي بين يديه، ولا يستجيب له منهم إلّا قليل من حاشية القوم، من عبيد وإماء، وصغار، وإلا بعض من أهل اللّين والتواضع، ممن لا يراهم القوم من أصحاب الجاه والسلطان فيهم! وهؤلاء الذين آمنوا من المستضعفين وأشباه المستضعفين، هم علة أخرى من العلل المريضة التي تدعو القوم إلى خلاف النبيّ، والوقوف في الجانب الآخر المعادى له.. «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» ؟ وهذا ضلال في التفكير، وسفاهة في الرأى.. فإن أول المستجيبين لأنبياء الله ورسله، كانوا دائما من عامة الناس، ممن لا يمسكهم الخوف على جاه أو سلطان أن يذهب به الدين الجديد.. وهكذا الشأن في دعوات الإصلاح والتجديد.. إن أكثر الناس حربا عليها، ووقوفا في وجهها، هم أصحاب المصالح من ذوى الرياسات المدنية أو الدينية.. على حين يكون أقرب الناس إليها، وأكثرهم استجابة لها هم من خلت أيديهم من كل سلطان مادّيّ، أو روحيّ! هكذا موقف النبيّ مع قومه، وهكذا كان موقف نوح مع قومه..
ولا يملك نوح إزاء هذا العناد الغاشم، إلا أن يرفع شكاته إلى ربّه، قائلا: «رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ».. وإلا أن يسأله الحكم بينه وبينهم فى هذا الموقف، الذي بلغ الغاية من التأزم والحرج بينه وبينهم.. فهو إما أن يمسك عن الدعوة إلى الله، وإما أن يرجموه.. ولا ثالث غير هذين..
«فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».. أي فاحكم بينى وبينهم، فإن الله هو الحكم العدل، الذي يقضى بهلاك الظالمين، ونجاة المؤمنين.. ولهذا طلب نوح النجاة له، ولمن معه من المؤمنين، من هذا البلاء الذي يحمله حكم الله في القوم الكافرين.. وقد نجّى الله نوحا ومن معه، وأغرق الكافرين الضالين.
143
وإن في ذلك لآية، فيها العبرة والموعظة، لهؤلاء المشركين من أهل مكة، ولكن أكثرهم لا يؤمنون بهذه الآيات، ولا يقفون عندها، ليطالعوا وجه العبرة فيها.
الآيات: (١٢٣- ١٤٠) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
التفسير:
وآية أخرى من آيات الله هي في هذا الصراع الذي كان بين «هود» عليه السلام، وبين قومه. إن قوم «هود» على شاكلة قوم نوح.. سواء بسواء.. فهل يجد فيها المشركون عبرة لهم؟.
144
«إن هودا» يدعوهم إلى الله، وإلى أن يستقيموا على طريقه المستقيم، وهو فى هذا الذي يدعوهم إليه، لا يريد إلّا الخير لهم، والنجاة لأنفسهم، من عذاب الله.. وليس له أجر على هذا، يقتضيه منهم، وإنما أجره على ربّه، الذي حمّله رسالته تلك.. إنه الطبيب الذي يكشف لهم عللهم وأدواءهم، ويقدّم لهم الدواء الذي إن قبلوه وتعاطوه، كان فيه شفاؤهم وسلامتهم.
وإن الداء المتمكن منهم، هو تكالبهم على الدنيا، واستعبادهم لزخارفها، دون أن يكون لهم نظر إلى ما وراء هذه الحياة..
«أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ». ؟
الرّيع: المكان المرتفع، وواحده ربعة.
فهذا هو بعض ما يشغلهم في دنياهم.. الافتنان في بناء مجالس ألهو والسّمر، والإبداع في تصويرها ونقشها، وجلب كلّ غريب نفيس إليها.. حتى لتبدو كأنها آية في الحسن والجمال.. ومن شأن الآيات أن تثير العقل، وتغذّى الوجدان، وتعلو بالنفس عن مدارج الأرض إلى معارج السماء! ولكن تلك الآيات، التي يبدعها القوم، هى آيات لاهية عابثة، تعلو بحيوانية الإنسان على آدميته، وتنتصر لجسده على روحه! «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ». ؟
المصانع: الأمكنة الجيدة الصنع، وهي التي للإنسان فيها تقدير وتدبير، كما يقال: «صُنْعَ اللَّهِ».. ويقال: رجل صنع، أي حاذق الصنعة جيّدها، وامرأة صناع.. والصنيعة: ما يصنع من خير للغير..
وهذا وجه آخر من الوجوه التي يصرف القوم فيها جهدهم، وهو أنهم يجوّدون في صناعة منازلهم وأمتعتهم، وأدوات ركوبهم.. حتى لكأنهم خالدون في هذه الدنيا، لا يموتون أبدا.. فليتهم إذ أجادوا الصنعة وأحسنوا
145
العمل فيما هو لدنياهم- أن يجيدوا بعض الإجادة، ويحسنوا بعض الإحسان، لما بعد هذه الحياة الفانية.
«وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ».
فقد كان القوم على بسطة خارقة في الجسم، ومع هذه البسطة الخارقة فى الجسم قوة طاغية في الحرب والقتال.. وتلك نعمة أساءوا استعمالها، فاستبدّوا بمن حولهم، وأزعجوا أمّن جيرانهم، بغيا وعدوانا في غير رحمة..
فكانوا أشبه بالوحوش الكاسرة، تقتل كل ما يقع ليدها من حيوان أو إنسان، فى حال جوعها وشبعها على السّواء.. إنها تغذّى طبيعة الافتراس على أية حال.. وشأن القوم مع هذه العظات، شأن كل غويّ ضال، قد استبدّ به ضلاله، فلم ير إلا ما يراه، وهو الأعمى الذي لا يرى إلا ظلاما وأوهاما..
يلقاهم الداعي الكريم بهذا النذير: «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» فيلقونه بهذا الرد الهازئ الساخر.
«سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» !! إننا لا نسمع لك قولا، ولا نقبل منك رأيا.
«إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ».
أي فما هذا الذي تحدث به إلا أكاذيب وأضاليل، تحدّث بها أناس قبلك، وتوعدوا الناس بالعذاب، فلم يقع شىء مما تحدثوا به.
«وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» إن كان هناك حقا عذاب. فنحن أقوى الناس قوة، وأعزهم مكانا، وأمنعهم سلطانا- فكيف نعذب؟ إنما يعذب هؤلاء الضعفاء، الذين لا يملكون ما يدفعون به عن أنفسهم الأيدى التي تمتد إليهم بأذى!.. ذلك ظن من غرهم
146
ما أنعم الله به عليهم من نعم، فاستكبروا، وعتوا، وقالوا ما قال صاحب الجنتين لصاحبه: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (٣٥- ٣٦: الكهف)
الآيات: (١٤١- ١٥٩) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
التفسير:
وتلك آية أخرى.. فى هذا الموقف الذي كان بين نبي الله صالح عليه السلام، وبين قومه «ثمود»..! «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (١٠١: يونس)
147
«وفي سورة هود» عرض لهذه القصة، فى معرض قصص الأنبياء.. نوح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى.
والعرض الذي جاء هنا، هو مماثل في مضمونه للعرض الذي جاء في سورة هود، كما هو مماثل للمعارض التي جاءت في مواضع أخرى من القرآن، والتي تختلف بسطا وقبضا- ومع هذا، فإن في كل معرض دلالة جديدة، هى في معرضها روح يسرى في كيان الحدث كله، فإذا انضمت إلى غيرها، امتزجت بالروح الساري هناك، كما ينضم النور إلى النور، فتتسع رقعة الضوء، ولا تتغير صفته، أو كما تجتمع قطرات المطر بعضها إلى بعض، فيكثر كمها، والماء، هو الماء، صفاء، ونقاء، وطهرا.
وقد عرضنا لهذا في مبحثنا: «التكرار في القصص القرآنى» وعرضنا نموذجا للتكرار الذي جاء في قصة موسى: ورأينا كيف كان هذا التكرار مجسّما للأحداث، محركا لها، كاشفا عن ظاهرها وباطنها جميعا.. وهذا ما نجده في كل تكرار جاء في القصص القرآنى، أو في غيره من الموضوعات التي عنى القرآن الكريم بإبرازها، فى جميع وجوهها.. وهذا ما سنراه في قصة صالح، إذا نحن جمعنا للواضع التي ورد فيها ذكر من هذه القصة..
هذا، ويلاحظ التشابه القوى بين مواقف الأقوام من رسلهم، على اختلاف أزمانهم وأوطانهم.. إن رسلهم عندهم بموضع تهمة.. فهذا ساحر، أو مسحور، وهذا شاعر أو مجنون، وذك دعى يتلقى من غيره ما يحدّث الناس به.. إلى غير ذلك، مما يرمونهم به، من بذيء القول، وسفيه الحديث..
كما يلاحظ الشبه الكبير بين قوم عاد، وقوم ثمود.. من حيث فراهة الأجسام وقوة البناء. وذلك مما يقوم شاهدا على أنهم كانوا على قرابة قريبة فى النسب والجوار.
148
ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: «وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» : أي داخل بعضه في بعض، كأنما شدخ، والطلع من النخلة أول ما يبدو من ثمرها، وهو حين تزهر، فيخرج منها الطلع على هيئة كيزان، تتشقق جوانبه، وتتفتق كما يتفتق الزهر عن أكمامه..
وقوله سبحانه: «بُيُوتاً فارِهِينَ» أي حاذقين في صناعتها ونحتها وقوله سبحانه: «مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» أي ممن أصابهم السحر، ومسمم أثره..
وقوله جل شأن: «هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» : أي مورد، تشرب منه في يوم معين لها..
وقوله تعالى: «فَعَقَرُوها» أي ذبحوها..
الآيات: (١٦٠- ١٧٥) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
149
التفسير:
ولا تختلف قصة لوط مع قومه، عن قصة كل نبى سبقه، أو جاء بعده مع قومه.. إنه داعية يدعو باسم ربه إلى خير، وإلى هدى، وقومه- إلا قليلا منهم- يتصدون له، ويقفون في وجه دعوته، مهددين، متوعدين، بالهلاك، أو الطرد من الديار..
وإذا كان ثمة اختلاف بين قوم وقوم، فهو في نوع الداء المتمكن منهم، والذي يتسط عليهم، ويحكم تصرفاتهم في الحياة.. فهم- أي الأقوام جميعا يحملون في كيانهم عللا نفسية، وأمراضا روحية، وعقلية، ولكنّ لكل قوم داءهم الغالب عليهم، وعلتهم المتمكنة منهم، إلى جانب العلة الغليظة المشتركة بينهم، وهي الكفر أو الشرك بالله.
والداء المتمكن من قوم «لوط» إلى جانب الكفر بالله، هو هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ويأتونه جهرة من غير حياء أو خجل، وكانوا في ذلك أول من حمل هذا الداء، الذي تفشّى في الناس فيما بعد، كما تتفشى الأمراض الجسدية، التي تظهر في الناس زمنا بعد زمن.. وفي هذا يقول الله تعالى على لسان لوط، مخاطبا إيّاهم بهذا القول: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» (٨٠: الأعراف) ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ» أي أتتصلون بالذكور، من
150
بين العالمين، وبهذا تكونون أول من يذيع هذه الفاحشة في المجتمع الإنسانى! وقوله تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ».. عادون: جمع عاد، وفعله: عدا يعدو عدوانا، والعدوان: مجاوزة الحد، والخروج عن الطريق القويم.
وقوله سبحانه: «قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ».. القالي: المجانب للشىء الكاره له..
وقوله تعالى: «إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ».! العجوز: هى امرأة لوط، فقد كانت من المخالفين للوط، فأهلكها الله بما أهلك به القوم.. وفي هذا يقول الله تعالى:
«إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ. كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» (٣٣: العنكبوت).
والغابرون: أي الماضون، الذي هلكوا.
وقوله تعالى: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» المطر هنا، هو ما رماهم الله سبحانه وتعالى به من حجارة. أتت على القوم، وعلى ديارهم جميعا.. كما يقول سبحانه «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ» (٨٢- ٨٣: هود).. ولهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله:
«فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ».. أي أنه مطر يسوء من يحلّ به، ويقع عليه، وليس هو المطر الذي ينزل بالخصب والخير.. ونسبة السوء إلى المطر.. لأنه هكذا كان مطلعه عليهم، وأثره فيهم..
الآيات: (١٧٦- ١٩١) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٩١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
151
التفسير:
والداء الذي تمكّن من قوم شعيب، وتسلط على سلوكهم في الحياة، إلى جانب الداء الغليظ، وهو الكفر- هذا الداء، هو التلاعب بالمكاييل والموازين، والتعدّى على حقوق الغير بهذه السرقة الخفية، وخيانة الأمانة في الكيل والوزن..
ومع من هذا العدوان؟ إنه مع بعضهم.. فكل منهم يخون صاحبه..
فهذا يخسر الكيل وينقص الميزان مع غيره إذا كال له، أو وزن.. ثم هو يلقى نفس العمل إذا كيل له أو وزن له.. إنه يسرق، ويسرق.. وتلك حال لا ينتظم بها أمر مجتمع، ولا تقوم عليها صلة مودة، وإخاء، بين الناس والناس..
فكل منهم على اتهام لكل الناس، وعلى عداوة لكل من يتعامل معه..
آخذا أو معطيا.
152
ولا يلقى شعيب من قومه- إذ يدعوهم إلى التي هي أحسن- لا يلقى منهم إلا التهديد والتكذيب، وإلا السّفه والتطاول، وإلا التحدي بنزول العذاب عليهم، إن كان صادقا.. «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».
وقد سقط عليهم العذاب الذي طلبوه.. فهلكوا به! ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: «أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الأيكة: الأرض ذات الشجر الكثير الكثيف، وكان أصحابها من أرض مدين بالشام.
وقوله تعالى: «بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ» : الميزان المعتدل، القائم على الحق..
وقوله سبحانه: «وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» : الخلق الذين كانوا قبلهم..
وقوله تعالى: «كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» : أي قطعا تنزل من السماء، من حجارة أو نحوها.
وقوله سبحانه «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ».. الظلة ما أظلهم وأطبق عليهم في هذا اليوم من عذاب الله.
هذا، ويلاحظ أنه لم يقترن «شعيب» بالوصف الذي وصف به الأنبياء، بأنه أخو القوم، فقد جاء النظم القرآنى هكذا: «إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ».. ولم يحىء على هذا النظم: «إذ قال لهم أخوهم شعيب».
وليس هناك من سبب- والله أعلم- إلا البعد عن الرتابة، والتكرار، الذي يخلو من الفائدة، التي تلازم دائما كل تكرار جاء في النظم القرآنى..
فقد ذكر في غير موضع أن شعيبا، هو من القوم وهو بهذا أخ لهم، كما جاء فى قوله تعالى: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» (٨٤: هود).
153
وفي قوله سبحانه: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» (٨٥: الأعراف).
وملاحظة أخرى في التعقيب الذي لزم كل قصة من هذه القصص جميعا، بلا استثناء، وهو قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»..
ففى كل قصة من هذه القصص، آية، فيها مزدجر لمن سيقت فيهم القصة ولمن يأتى بعدهم.. ولكن لم يكن في هذه الآية ولا في الآيات التي تلتها، ما يفتح هذه العقول المغلقة، ولا ما يهدى هذه العيون العمى.. فأبى أكثر الناس إلا كفورا.. وقليل هم أولئك الذين نفعتهم هذه الآيات، وأغنتهم تلك النذر، فآمنوا، واهتدوا، ونجوا من بلاء الدنيا، وعذاب الآخرة..
أما التعقيب على القصص بقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».
فإن وصف الله سبحانه وتعالى بالعزة، يكشف عما لله سبحانه وتعالى من سلطان قاهر عزيز، بحيث يأخذ بناصية كل من يخرج عن سلطانه، ويكذب رسله.. ولكن مع هذه العزة القاهرة، رحمة الرحيم، الذي أمهل الظالمين، ومدّ لهم في العمر، وبسط لهم في الرزق، ولو أخذهم بذنوبهم لحرمهم شربة الماء، ونفس الهواء..
الآيات: (١٩٢- ٢٠٩) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ٢٠٩]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
154
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ».. الضمير فى «إنه» يعود إلى هذا القصص الذي قصه الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم، فى هذه الآيات، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (٦٢: آل عمران).
وكما يقول جل شأنه: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» (١٣: الكهف) وكما يقول سبحانه وتعالى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» (٣: يوسف).
فالتعقيب على هذا القصص الذي اشتمل على أخبار سبعة أنبياء، مع أقوامهم، ومن أرسلوا إليهم، وهم حسب ترتيب ذكرهم: موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب- التعقيب على هذا القصص بهذه الآيات، وهو رد على ما يدور في خواطر المشركين، وما يتهامسون به حينا، ويجهرون به حينا، من أن هذا القصص، إنما هو من أساطير الأولين، ومن
155
وإرادات هذا المورد الذي ينبع من الأوهام والخيالات..
وقوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ».
هو بيان لمتنزل هذا القصص، والمصدر الذي جاءت منه أخباره..
وأن متنزل هذا القصص، هو السماء، وأن مصدره، هو الله رب العالمين، وأن حامله إلى الرسول، هو الروح الأمين، وهو جبريل عليه السلام..
الذي هو أمين على أداء ما اؤتمن على أدائه، من كلمات الله، إلى رسول الله..
وفي قوله تعالى: «عَلى قَلْبِكَ» إشارة تمكن وصول كلمات الله إلى الرسول، وأنها لم تلق على سمعه وحسب، بل إنها نفذت إلى أعماقه، وخالطت مشاعره، واستقرت في قلبه..
[كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي؟]
كان أكبر همّ الذين صوبوا سهامهم إلى سيرة النبي، وإلى الرسالة الكريمة التي تلقاها من ربه، وقام بتبليغها للعالمين- كان أكبر همهم، أن يقطعوا صلة النبي بالسماء، وأن ينفوا عن القرآن أنه كلام الله، وأنه كتاب سماوى لشريعة الإسلام.. ثم لا حرج عندهم بعد هذا أن يسلّموا «لمحمد» بكل شىء..
فليكن مشرّعا عظيما، وليكن مصلحا عبقريا.. ليكن كما يشاء ويشاء له أتباعه، إلا أن يكون نبيا ورسولا، وإلا أن يكون صاحب رسالة سماوية، منزلة من رب العالمين.. فذلك ما يكثر شغبهم عليه، وتشرع سهامهم له، ولو كان في ذلك مصرعهم! وغاية هذا المكر الخبيث، هو أن ينفوا عن شريعة الإسلام صفة القداسة،
156
وأن ينزلوها منزلة الشرائع والمذاهب الوضعية، ليكون ذلك داعية إلى الجرأة على العبث بها، وجعلها في معرض التجريح والتعديل، والتبديل، حسب مقتضيات الأهواء والنوازع..
ومن عجب أن يعوّل الطاعنون في نبوة النبي من المستشرقين، والملحدين- من عجب أن يقولوا في دراستهم لأحوال النبي مع الوحى، على الأحاديث والأخبار التي رواها الثقات من المسلمين، عن رسول الله، - صلوات الله وسلامه عليه- أو شاهدوها من أحواله عند الوحى، ثم يجعلوا هذه الأخبار، والأحاديث دليلا على نفى الوحى، الذي كانت تلك الحالات أعراضا له، وشواهد عليه..
وقد يكون من المستساغ أن يحلى هؤلاء الطاعنون أيديهم من الأحاديث والأخبار، التي تحدّث عن الوحى، وعن الأحوال التي كانت تعرض للنبى منه، ثم لينسجوا من مقولاتهم ومفترياتهم ما يشاءون، للطعن في حقيقة الوحى، وفي صحة ما يوحى إلى النبي.. فذلك على ما فيه من تلفيق وتزييف، أقرب إلى المنطق، من معالجة الحقائق الثابتة، وتحويلها إلى مخلوقات من الباطل الصريح..
إن خلق الشيء ابتداء أيسر من إقامته من أنقاض شىء آخر..
إنه بناء من أول الأمر، ولو كان هذا البناء على شفا جرف هار.. أما الخلق من شىء آخر.. فهو هدم وبناء.. يهدم الشيء ثم يبنيه من أنقاض ما هدم.. إنه أشبه بالثوب الجديد، يمزق قطعا ثم يعاد جمعه من تلك الأمزاق.. ولثوب بال مهلهل، خير من هذا الثوب المرقع.. كذلك فعل الملحدون الطاعنون في رسالة الرسول، وفيما تلقاه وحيا من ربه..
157
جاءوا إلى هذا النسج المتين المتلاحم، فجعلوه أمزاقا، ثم وصلوا تلك الأمزاق بعضها ببعض، فكشف ذلك عن جنايتهم، وفضح مكرهم وسوء تدبيرهم..
إنهم ينقلون الأخبار الصحيحة، ويعمدون إلى الحقائق الثابتة من أوثق المصادر الإسلامية، ثم يتناولونها كما يتناول الحيوان فريسته، بمخالبه وأنيابه حتى إذا أسالوا دمها، وأخمدوا أنفاسها، ومزقوا أشلاءها- حاولوا أن يجمعوا من أشلاء هذه الحقائق الممزقة المتناثرة كائنا آخر، هو هذا الباطل، الذي يريدون أن يقيموه مقام الحق..
وهم- هنا- فى حقيقة الوحى، يعمدون إلى الأحاديث المروية عن الرسول، والأخبار المشاهدة من أحواله مع الوحى ثم يصوّبون إلى هذه الأحاديث وتلك الأخبار، سهاما مسمومة، يحرفون بها الكلم عن مواضعه، ليفسحوا لباطلهم، مكانا يشوّه الحق، ويشوش عليه..
فمن الأحاديث المروية عن الوحى وكيف كان ينزل على النبي، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن السيدة عائشة، أن الحارث بن هشام، سأل النبي صلّى الله عليه وآله: كيف يأتيك الوحى؟ فقال: «أحيانا يأتينى في مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه على، ثم يفصم عنى وقد وعيته.. وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا، فيكلمنى، فأعى ما يقول» ومن ذلك ما يروى عن السيدة عائشة أيضا أنها كانت تقول: «إن كان لينزل- أي الوحى- على رسول الله صلّى الله عليه وآله، فى الغداة الباردة ثم تفيض جبهته عرقا» ومن ذلك ما يروى عن عبادة بن الصامت، أنه قال: «كان نبى الله
158
صلى الله عليه وآله- إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك، وتربّد وجهه»..
أي تغير.
وهذا يعنى- كما هو ظاهر- أن اتصال النبي بالوحى، كان يستدعى منه مجاهدة روحية، ونفسية، وجسدية، كى تتيح له هذه المجاهدة، حالا مناسبة للعالم الروحي، الذي يتصل به.. إنه لقاء بين طبيعتين مختلفتين.. طبيعة بشرية، وطبيعة ملكية.. ولا بد أن يحدث هذا اللقاء احتكاكا، وتفاعلا، وفورانا.. فى الطبيعتين على السواء، حتى يلتقيا لقاء، يتم به التجاوب، والتفاهم! يقول «ابن خلدون»، فيما يعرض للأنبياء عامة عند تلقى الوحى:
«وعلامة هذا الصنف- أي الأنبياء- من البشر، أن توجد لهم في حال الوحى غيبة عن الحاضرين معهم.. مع غطيط، كأنها- أي الحال- غشى أو إغماء في رأى العين، وليست منهما في شىء، وإنما هي في الحقيقة، استغراق في لقاء الملك الروحاني، بإدراكهم المناسب لهم، الخارج عن مدارك البشر بالكلية. ، ثم يتنزل إلى المدارك البشرية، بسماع دويّ من الكلام، فيتفهمه، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله.. تنجلى عنه تلك الحال، وقد وعى ما ألقى إليه.. ويدركه- النبي- أثناء ذلك من الشدة والغطّ ما لا يعبر عنه:
ففى الحديث: «كان مما يعالج من التنزيل شدة»
.. وقالت عائشة: «كان ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا» وقال تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» (٥: المزمل) ثم يقول ابن خلدون: «ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحى، كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون: «له رئىّ» أي تابع من الجن.. وإنما
159
لبّس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال «١» ».
ثم يمضى ابن خلدون، فى تقدير هذا الرأى، فيقول: «وهؤلاء الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم- قد جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، فطرة فطرهم الله عليها، وجبلّة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه، ماداموا ملابسين لها- أي الموانع- بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة، التي يحازون بها تلك الوجهة- أي الوجهة الملكية- ووكز في طباعهم رغبة في العبادة، تكلف بتلك الوجهة، وتسيح «٢» نحوها..
فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ، متى جاءوا- بتلك الفطرة التي فطروا عليها، لا باكتساب ولا صناعة.. فلهذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه، وعاجوا- أي مالوا- به على المدارك البشرية، منزلا في قواها، لحكمة التبليغ للعباد.. فتارة يسمع دويا، كأنه رمز من الكلام، يأخذ منه المعنى الذي ألقى إليه، فلا ينقضى الدويّ، إلا وقد وعاه وفهمه، وتارة يمثل له الملك الذي يلقى إليه، رجلا، فيكلمه، ويعى ما يقوله.
ثم يقول: «واعلم أن الأولى- وهي رتبة الأنبياء غير المرسلين، على ما حققوه- أي العلماء- والثانية- وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب النبي- هى رتبة الأنبياء المرسلين، ولذلك كانت أكمل من الأول..
«إنما كانت الأولى أشد، لأنها مبدأ الخروج، فى ذلك الاتصال من القوة
(١) مقدمة ابن خلدون صفحة ٨٨.
(٢) فى الأصل، تكشف، وتسبغ.. وهو تجويف.
160
إلى الفعل، فيعسر بعض العسر.. ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط، ما هو معروف.
«وسبب ذلك، أن الوحى، كما قررناه، مفارقة البشرية، إلى المدارك الملكية، وتلقّى كلام الملك، فيحدث عنه شدة، من مفارقة الذات ذاتها، وانسلاخها عنها، من أفقها، إلى الأفق الآخر، وهذا معنى الغلط الذي عبر عنه النبي في مبدأ الوحى في قوله: «فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، وكذا ثانية، وثالثة.. كما في الحديث».
ثم يقول ابن خلدون: «وقد يفضى الاعتياد بالتدريج فيه شيئا فشيئا، إلى السهولة، بالقياس إلى ما قبله.. ولذلك كانت تنزل نجوم القرآن، وسوره، وآيه- حين كان بمكة- أقصر منها، وهو بالمدينة..
«وانظر إلى ما نقل- أي روى- فى نزول سورة «براءة»
فى غزوة «تبوك» وأنها نزلت كلها، أو أكثرها، عليه- أي على النبي- وهو يسير على ناقة، بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصّل: فى وقت، وينزل عليه الباقي، فى حين آخر.. وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدّين، وهي ما هي في الطول، بعد أن كانت الآية تنزل بمكة، مثل آيات الرحمن، والذاريات، والمدثر، والضحى، والفلق، وأمثالها... » «١»
هذه بعض الأحاديث والأخبار، التي روتها كتب الحديث والسيرة، فى شأن الوحى، واتصال النبي به.. وقد عرضنا رأى عالم مفكر من علماء المسلمين، ومفكريهم، فى هذه الأحاديث، وفهمه لها، وتصوره للوحى،
(١) مقدمة ابن خلدون ص: ٩٤
161
وللصلة التي بين النبي، وبين الملك المبلّغ له كلمات ربه، على نحو ما يفهمه المسلمون من هذه الأحاديث، وما يتفق ومقررات الشريعة الإسلامية..
وقد اتخذ الملحدون- كما قلنا- من هذه الأحاديث، وتلك الأخبار، مادة لخلق المفتريات، والأكاذيب، للطعن في رسالة الرسول، والتشكيك في صدق ما جاء به.. إذ كان عندهم، أن ذلك الذي نطق به النبي، وسماه قرآنا، ليس إلا هذيان محموم، وأخلاط مصروع، لا يعى ما يقول..
وشاهدهم على هذا، تلك الأحوال الجسدية، التي كانت تعرض للنبى، حين ينزل عليه الوحى، ويلقى إليه بما أمر الله أن يبلغه إياه..
وأعجب ما في هذا الموقف من أولئك الملحدين، الذين يقولون هذه المقولات، أنهم يلتقطون من الآيات، والأحاديث، والأخبار، كلمات، يتخيرونها، ويقتطعونها من الكيان الكلى للحقيقة، ويعزلونها عن السياق الذي تجرى فيه، ثم يقيمون عليها ما يقيمون من دعاوى ومفتريات..
والذي كان يقتضيه الأسلوب العلمي، فى البحث عن الحقيقة هنا، هو التثبت أولا من هذه الآثار، والوصول إلى حكم قاطع فيها، وفي مصادرها..
أهى صادقة، أم كاذبة؟ ثم يأتى بعد ذلك دور التطبيق لها، والتعامل بها..
فإما أن تقبل جميعا، أو تردّ جميعا، - أما أن يؤخذ من الخبر بعضه، ويترك بعضه، فذلك هو التلفيق، الذي لا تقوم به حقيقة أبدا! ونسأل أولا:
ما رأى هؤلاء الملحدين في هذه الأحاديث وتلك الأخبار- ما رأيهم فيها؟
وما مقدار اطمئنانهم إليها؟ أهي من الوثائق الصادقة في نظرهم؟ أم هي أحاديث موضوعة مكذوبة؟ فإن كانت الأولى، كان من المنطق والعدل، أن يأخذوا
162
بها، وبكل ما جاء فيها.. وإن كانت الثانية، طرحوها، وبحثوا عن وثائق أخرى، يجدون فيها الصدق الذي يطمئنون إليه..!
ولو أننا تركنا هذه المفتريات جانبا، وضربنا صفحا عنها، لما وقع عندنا أن أحدا يعقل- مجرد العقل- أو يفهم- أدنى الفهم- يأخذ بهذه المقولات، ويضيف شيئا منها إلى سيرة الرسول، يمس جانب النبوة فيه، أو يغمز الصلة القائمة بينه وبين السماء، ورسول السماء! فليس يصح في عقل عاقل أن تجىء المصادر الإسلامية، بما يتهم الرسول بالصرع والجنون.. إذ كيف يسوغ لمؤمن، أن يروى حديثا عن رسول الله، أو ينقله عنه إمام من أئمة الحديث، ويكون في هذا الحديث، ما يعزل النبي عن النبوة.. ثم يصدّق بنبوته، ويدين بشريعته، ويتعبّد بالقرآن الذي نزل عليه؟.
هذه واحدة، تفضح فهم الملحدين لهذه الأخبار، وتخريجهم الملتوى السقيم لها.. وأخرى.. يسجلها الواقع، ويشهد لها التاريخ شهادة ناطقة بلسان بيّن على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان- وهي أنه ما كان لمصروع أو مجنون أن يقيم مجتمعا يدين لرسالته بالولاء، تلك الأجيال المتعاقبة عبر القرون، وتزداد مع الأيام اتساعا وامتدادا.. لا بعصبيّة أهله، ولا بقوة أتباعه، وإنما بما في الرسالة ذاتها من قوى ذاتية، تلقى الناس في كل أفق من آفاق حياتهم، وتلتقى مع كل طريق يتجهون فيه إلى الحق والخير، والعدل، والإحسان! ويكفى هذا وحده، فى فضح هذا الزور، وإلباس أهله الخزي والصغار! أمجنون، مصروع، يبنى دولة، وينشىء نظاما، ويقيم دينا يعيش في الناس
163
منذ قام إلى اليوم، دون أن يصاب بنكسة أو خلل؟ ثم أمجنون، مصروع، ثبت لهذه العواصف العاتية المزمجرة، وحيدا في وجه أمة صحراوية النفوس صخرية الطباع، ثم لا يكون منه في حال من الأحوال، تخاذل أو ضعف، حتى تخصب هذه النفوس، وتلين تلك الطباع، وتخرج من أحشاء هذه الصحراء قادة الإنسانية، وأساتها، ومطلع شموس العلم والمدنية فيها؟
ثم! ثم أمجنون مصروع، مختلط العقل، هذا الذي يأسر قلوب معاشريه، ويملك أنفسهم، فإذا القلوب خافقة بحبه، وإذا النفوس لا تعرف لها غذاء إلا من ينابيع الحبّ له، ولولاء لشخصه، والتفانى في سبيل مرضاته؟
إن التاريخ، لا يذكر في سجله يوما، أن إنسانا كان له في الناس رصيد من الحب والولاء، ما كان لمحمد في هذه الدنيا من حب وولاء..!
ولا نسوق لهذا كثيرا من الأمثال، ففى كل خطوة من خطوات النبي، على مسيرة دعوته، شواهد تقوم من كل جانب، تنطق بما كان لمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- من سلطان على النفوس، ملكها بالإعجاب، والحب والولاء..
ففى بيعة الرضوان، ومعسكر الرسول بالحديبية، يريد دخول مكة، زائرا للبيت الحرام، وقريش تقف له، وتصده عن بيت الله.. وكادت تكون الحرب.. ثم بعثت قريش عروة بن مسعود، ليجد مع النبي سبيلا للخروج من هذا الموقف.. وقد التقى عروة بالنبي، وتحدث إليه، ورأى عن قرب ما للرسول الكريم عند أصحابه. من حب، يعلو كل حب عرفه الناس بين محب ومحبوب..
فلا يتوضأ النبي إلا ابتدر أصحابه وضوءه، وتسابقوا إليه، ولا يبصق بصاقا إلا تلقّوه، ولا يسقط من شعره شىء إلا تهافتوا عليه- رأى عروة هذا، رأى
164
العين، فلما عاد إلى قريش، حدثهم بما رأى، وما وقع في نفسه من هذا الذي رآه، فقال: «يا معشر قريش.. إنى قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشيّ في ملكه.. وإنى والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل «محمد» فى أصحابه.. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا، فروا رأيكم» «١» وخذ مثلا آخر وقع خبّاب بن عديّ- رضى الله عنه- فى يد قوم من المشركين قبل الفتح، وأراد القوم أن يتقربوا به إلى قريش، ليكون في ذلك بعض الشفاء لهم مما في قلوبهم من موقعة بدر.. وحين قدّم خباب للقتل، قال له أبو سفيان، فى شماتة واستخفاف: «أيسرّك أن محمدا هنا تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟» فقال خبّاب في ثبات جنان، وقوة إيمان: لا، والله ما يسرنى أنى في أهلى وأن «محمدا» فى مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه.» «٢»
فانظر إلى هذا الحب، وإلى تلك المشاعر القوية الصادقة المنبعثة منه، والتي تعلو بصاحبها فوق كل ما يحرص عليه الناس في دنياهم من نفس، وأهل، ومال..
رجل بين النطع والسيف، يهيج فيه أبو سفيان غريزة الحب للأهل والولد، فى تلك الساعة، والموت منه بمرصد، ويعرض عليه أمنية يكون فيها خباب بين أهله، ومحمد في هذا الموقف الذي فيه خباب.. فيندفع خباب يهدر في غيظ وحنق.. لا والله لا أرضى أن أكون في أهلى، على أن تصيب «محمدا» شوكة وهو في أهله!!
(١) السيرة لابن هشام: جزء/ ٣ ص ٥٦
(٢) زاد المعاد، من هدى خير العباد/ جزء/ ٢ ص ٢٧
165
ومثل ثالث..
«أم حبيبة» زوج النبي، وبنت أبى سفيان، يدخل عليها أبوها في منزلها بالمدينة، قبل أن يدخل في الإسلام، وكانت قريش قد بعثته، ليوثّق الهدنة التي كانت بينها وبين المسلمين وليزيد في مدتها..
وليس هذا، هو المهم.. وإنما المهم هو الآنى:
عند ما دخل أبو سفيان على ابنته أم حبيبة، أراد أن يجلس، ولم يكن فى البيت غير فراش الرسول شىء يمكن أن يصلح للجلوس.. فهمّ أن يجلس على هذا الفراش، ولكن ابنته ردته عنه، وطوته دونه.. فعجب لذلك، وقال: يا بنية.. ما أدرى أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنى؟
قالت بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنت رجل مشرك..
نجس.. ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله! فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر «١» !!».
والصورة في غنى عن كل تعليق. وحسبنا أن ننظر فنرى أبا سفيان سيد قريش، يدفع عن أن يلمس فراش رسول الله، ثم أن تكون اليد التي تدفعه، هى يد ابنته.!
وليس هذا الحب والتقدير للنبى، وقفا على أتباعه، بل إن كثيرا من أحرار العقول والقلوب، من مفكرى الغرب، قد انتصروا للحق، فرأوا «محمدا» على صورة أقرب إلى تلك الصورة التي يراها عليه أكثر أتباعه معرفة به، وحبا وإكبارا له..
(١) زاد المعاد. جزء ١ ص ٥٦.
166
يقول «برنارد شو» فيلسوف الغرب في القرن العشرين الميلادى:
«لقد كان دين محمد موضع تقديرى السامي، دائما.. لما ينطوى عليه من حيوية مدهشة.. لأنه- على ما يلوح لى- هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة.. ولذلك فإنه يستطيع أن يجلب إليه كل جيل من الناس..
ثم يقول: لقد عمد رجال «الا كليروس»
فى العصور الوسطى، إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان، وذلك بسبب الجهل أو التعصب الذميم..
والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد، وكراهية دينه، ويعدّونه خصما للمسيح.. أما أنا، فأرى واجبا أن يدعى محمد منقذ الإنسانية.. وأعتقد أن رجلا مثله، لو تولى زعامة العالم الحديث، فإنه سينجح في حل مشكلاته، وإحلال السلام والسعادة، فى العالم، وما أشد حاجة العالم إليها اليوم»..
وحسبنا هذه الشهادة، من رجل لا يدين بالإسلام، ولا يتهم بتعصب لنبى الإسلام، تحت مشاعر الولاء الديني له.. بل إنه ليقول هذه الحقيقة عن منطق العقل الحر، البعيد عن كل تأثير عاطفى..
بقيت هنا مسألة، هى في الواقع كانت مبعث هذا البحث، وهي صورة الوحى الذي كان ينزل على النبي: أهو القرآن الكريم بكلماته ومعانيه؟
أم هو معانى القرآن، ثم يصوغها النبي في قوالب لفظية؟ أو بمعنى آخر.. هل القرآن لفظا ومعنى، كان وحيا من السماء، وليس للنبى إلا تلقى هذا الوحى وتبليغه.. أم أن المعنى من الله، واللفظ من محمد؟.
وقد أثار هذه المسألة، ما جاء في قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى
167
«قَلْبِكَ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» «١٩٣: الشعراء».. فكان من مقولات بعض المفسرين في هذه الآية، أن النبي صلوات الله وسلامه عليه، كان يتلقى من الوحى معانى القرآن، ثم ينقل هذه المعاني إلى كلمات.. وهذا يعنى أن القرآن سماوى المعنى، أرضى اللفظ!.
وهذه المقولة من بعض المفسرين، هى ضمن مقولات كثيرة، ينقلونها حكاية عن بعض الرواة ونقلة الأخبار، وهم يريدون بهذا أن يضعوا كل ما بلغهم من مقولات، دون أن يتحملوا تبعة تجريحها أو تعديلها، تاركين لغيرهم مهمة القبول أو الرد، والتعديل أو التجريح.. ونسوا أن هناك متربصين بكتاب الله وبرسول الله، مهمتهم هي اصطياد هذه المقولات المريضة، ثم محاجّة المسلمين بها، لأنها أبلغ حجة، إذ كانت مما قاله المسلمون فى كتابهم..
وندع هذا، لنقول: إن معنى الآية واضح صريح، فى أن القلب هو وعاء الإدراك السليم، والفهم الصحيح، وهو موطن المعتقدات القائمة على الفهم والإدراك.. فنزول كلمات الله على قلب النبي، معناه تمكن هذه الكلمات من القلب، ونفاذها إليه مباشرة، من غير معوّقات.. فليس كل كلام ينفذ من السمع إلى القلب. وليس كل مستمع بأذنه مصغيا بقلبه.. فهناك كلام هو مجرد ألفاظ جوفاء، تطنّ في الأذن، دون أن تجد طريقها إلى القلوب..
ومن هذا ما يروى عن الحسن البصري- رضى الله عنه- أنه سمع واعظا يعظ في مسجد البصرة، فوقف مليا يستمع إليه، فلما لم يجد ما ينفذ إلى قلبه منه، انصرف عنه قائلا: «يا هذا.. بقلبك شىء أو بقلبي» ! وكم من كلام طيب، لا يجد الآذان التي تسمع، وإن وجد الآذان السامعة
168
لم يجد القلوب الواعية الفاقهة.. وفي هذا يقول الغزالي:
غزلت لهم غزلا رفيعا فلم أجد لغزلى نسّاجا فكسّرت مغزلى
وقد كانت قلوب كثير من المشركين من هذه القلوب المغلقة، التي لا تقبل الهدى، ولا تطمئن إليه.. فكانوا يستمعون إلى كلمات الله دون أن ينفذ إلى قلوبهم شىء من شعاعها السنىّ الوضيء.. وفي هذا يقول الله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» (٥٧: الكهف) إن بين الأذن والقلب ما بين الماء والأرض.. فإذا نزل الماء بالأرض الصلد، زال عنها، وأخذ طريقه إلى غيرها، وإذا نزل بالأرض الطيبة، سكن إليها، فاهتزت به، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج.. وكذلك كلمات الله، إذا مرت بالقلوب القاسية المظلمة، لم تترك فيها أثرا، ولم تثر منها إلا ما كمن فيها من ظلم وظلام، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» «٢٠٠: الشعراء» أما إذا نزلت هذه الآيات في القلوب السليمة، الطيبة، هشّت لها، وغردت بلابل أيكها لهذا الحيا الذي يحيى موات القلوب! «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (٢٨: الرعد).
فالقلوب، هى مستودع المعتقدات، وموطن المعقولات، من كل طيب وفاسد، وصحيح، وسقيم.. ولهذا كان نطق الأعراب بكلمة الإسلام، دون أن تسكن هذه الكلمة إلى مكانها من قلوبهم- كان هذا مجرد مدخل يدخلون به إلى الإسلام، فتعصم به دماؤهم وأموالهم، أما الإيمان، فليس لهم بعد نصيب منه، حتى يدخل الإيمان في قلوبهم.. وفي هذا يقول الله تعالى:
169
«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (١٤: الحجرات).. ومنه قوله تعالى في المنافقين: «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» (١١: الفتح).. أما المؤمنون، فالإيمان ملء قلوبهم، يعمرها باليقين والسكينة، والرضا.. كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» (٢٢: المجادلة).. أي مكنه من قلوبهم، وثبته فيها كما يثبت الشيء بالكتابة..! وأصله من الكتب، وهو ضم الشيء إلى الشيء، ووصله به.
وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» أنه ثبّت ما نزل به الوحى في قلبه، ومكن له فيه- فكان قلبه- صلوات الله وسلامه عليه- مستودع كلمات الله، تجد فيه مستقرها ومستودعها، حيث تعطى أكثر ما فيها من ثمر مبارك طيب، وحيث تنزل الكلمة الطيبة، فى هذا القلب الطيب المصفى من كل دخل، فتكون كما وصفها الله في قوله تعالى: «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (٢٤- ٢٥: إبراهيم) ومن هنا تتحول كلمات الله في قلب الرسول إلى معان شريفة كريمة، وإلى سلوك شريف كريم.. فكان الرسول بهذا الأدب الرّبانى، كما يقول عن نفسه، صلوات الله وسلامه عليه: «أدبنى ربى فأحسن تأديبي».
وكما تقول السيدة عائشة، رضى الله عنها، عنه: «كان خلقه القرآن» هذه واحدة..
وأخرى.. هى أن إعجاز القرآن، ليس في معانيه، وإن كانت تلك المعاني معجزة في سموها، واستوائها على ميزان، الحق، والعدل، والإحسان..
ولكن المعجزة المتحدية في القرآن هي نظمه الذي جاء عليه، وبلاغة هذا النظم هو الذي أعجز منطق العرب، وأخرس ألسنتهم.. ولهذا فقد تحداهم القرآن أن
170
يأتوا بعشر سور من مثله، فى أي معنى يرد على خواطرهم، ولو كان من صيد الوهم والخيال.. «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» (١٣: هود).
وثالثة..
وهي أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه، كان يتلقى من جبريل كلمات ربه، فيحمله الحرص على الإمساك بها أن يبادر بترديدها على لسانه، قبل أن يفرغ جبريل من إلقاء ما أمر بإلقائه إليه، وفي هذا يقول الله تعالى له: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (١١٤: طه) ويقول:
«لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»
(١٦- ١٨: القيامة) فأى شىء كان يقرؤه جبريل على النبي، حتى يتّبع ما يقرؤه عليه؟ أكان معانى مجردة من ألفاظ؟ ثم هل يمكن أن يقوم المعنى مجردا من اللفظ الدال عليه، الكاشف عن حقيقته؟. ، كيف؟ كيف؟
ورابعة..
وهي أن هذا القرآن وصف بأنه كلام الله، وذلك في أكثر من موضع فى القرآن نفسه.
فقال تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» (٦: التوبة).
ويقول سبحانه: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» (١٥: الفتح) ويقول سبحانه:
«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (٧٥: البقرة).
171
فكيف يصحّ مع هذا أن ينسب القرآن إلى الله، بهذا الوصف، فيقال عنه إنه كلام الله، إذا كان المعنى من عند الله، واللفظ من عمل محمد؟ وهل الكلام إلا هذه الألفاظ التي صيغت فيها هذه المعاني، وصبّت في قوالبها؟
إننا نأسف كثيرا، إذ نرى مثل هذه المقولات، تأخذ مكانها في كتب التفسير، ولو كانت على سبيل الحكاية لمقولات غير المؤمنين.. فكيف وهي تنسب إلى أئمة أعلام، وتدس عليهم من أعداء الإسلام. ثم تؤخذ هكذا على علاتها، دون أن تؤد في مهدها، وترد على المفترين والمروجين لها؟
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟».
الضمير فى «إنه» يعود أيضا إلى القصص القرآنى، كما عاد إليه الضمير فى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ».
وقد خالفنا في هذا أكثر المفسرين، الذين جعلوا الضمير في الموضعين عائدا على القرآن الكريم.. وجعلناه نحن عائدا على القصص القرآنى وحده..
وقد رجح عندنا هذا الرأى لأمرين:
أولا: أن أكثر ما كان يتهم به النبي عند المشركين في شأن القرآن، هو ما جاء فيه من أخبار وحوادث، من القرون الغابرة، والعصور السحيقة..
ولهذا، فقد كان الأمر في تقديرهم لا يعدو أن يكون استماعا من النبي لهذه الأخبار، ثم تشكيلها، وتلوينها بألوان الخيال، وإخراجها على الصورة التي يتصورها..
172
ومن أجل هذا حسبوا أنهم قادرون على أن يفعلوا فعله هذا، فقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (٣١: الأنفال).. ثم كان من هذا، أيضا أنهم كانوا يهاجمون النبي من هذا الجانب ويمتحنون صدقه من هذا الباب.. فكانوا يسألون اليهود عن أخبار ماضية، ثم يأتون النبي يسألونه عنها، ويطلبون ما عنده من علم بها، إن كان على صلة بالسماء، كما يدعى.. فقد سألوا الرسول عن ذى القرنين، كما سألوه عن الساعة، وعن الروح، وغيرها من الغيبيات..
وثانيا: ما جاء في قوله تعالى بعد ذلك: «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ».. وفي قوله: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ».. ففى هذا إشارة إلى أن هذه الأخبار، ليست من واردات الوهم والخيال، وأنها ليست من أساطير الأولين، كما يقولون.. فهى من الأخبار التي دونت، وسجلت في زبر الأولين.
والزبر، جمع زبور. والزبور القطعة من الكتاب.!
ومعنى هذا، أن هذه الأخبار، هى من بعض ما ضمت عليه الكتب السابقة، وليست هي كل ما في هذه الكتب، إذ أن الكتب المنزلة على أهل الكتاب، كانت تحوى كثيرا من الشرائع والأحكام، والآداب، إلى جانب هذه الأخبار، فالأخبار، جزء من هذه الكتب، وزير- أي قطع- منها.
ومن جهة أخرى، فإن هذه الأخبار التي جاء بها القصص القرآنى، كانت معلومة عند علماء بني إسرائيل، الذين يلجأ إليهم المشركون في اصطياد الأخبار، التي يختبرون بها النبي. فإذا كانت هذه الأخبار التي جاء بها القرآن لا تخرج في مضمونها عما عند علماء أهل الكتاب، الذين هم موضع ثقتهم..
173
فكيف تكون من جهة النبي أكاذيب وأساطير، ثم تكون هي ذاتها عند أهل الكتاب حقّا وصدقا؟
فالذى يدافع عنه القرآن الكريم هنا، هو دفع التهمة عن هذا القصص القرآنى، وقول المشركين عنه: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».. وفي هذا الموقف ينكشف تعنّت المشركين، وضلالهم، وأنهم يقولون في الخبر يتلقونه من النبيّ بأنه كذب واختلاق، على حين أنهم يأخذونه من أهل الكتاب على أنه الصدق الذي لا جدال لهم فيه؟ أفليس هذا جورا في القضاء، واعوجاجا فى الحكم؟ وإذا كان هذا شأنهم في هذا القصص، فإن هذا هو شأنهم في كلّ موقف لهم مع آيات الله وكلماته..
والسؤال هنا، هو: ماذا للنبيّ في هذا القصص، وما حجته على المشركين وغيرهم به، إذا كان مدوّنا في الكتب السابقة، وكان معلوما لعلماء بني إسرائيل؟
إنه- والأمر كذلك- ليس للنبى فضل يبين به على القوم، حتى يأخذ مكان القيادة، فى الدعوة إلى الله، ويدّعى فيهم هذه الدعوى بأنه رسول ربّ العالمين؟ إن الأمر لا يعجز أيّا منهم أن ينقل هذا الأخبار من الكتب السابقة، أو أن يتلقّاها عن أحد علماء بني إسرائيل.. فما حجة النبيّ على القوم بهذا القصص، وهو سلعة معروضة لمن يشترى بأقل ثمن، وأقل جهد؟
والجواب- والله أعلم- هو أن حجة النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا القصص، ليس في مجرد الأخبار التي ضمّ عليها.. فهذه الأخبار- وإن كانت ذات دلالة عظيمة، على صدق النبيّ، من حيث صدقها الخالص، المصفّى من المفتريات، والأباطيل، التي عند أهل الكتاب- قد جاءت على هذا النظم المعجز من الكلام، الأمر الذي قام به التحدي، والذي استخزى أمامه القوم، وعجزوا عن أن يأتوا بشىء من مثله.. وهذا ما يشير إليه وقوله تعالى:
174
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ/ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (١٣- ١٤: هود).. ثم تحدّاهم- سبحانه- بسورة واحدة، فقال تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٢٣: البقرة).
وإذ عجز القوم أن يقفوا هذا الموقف، وأن ينزلوا إلى هذا الميدان، إذ رأوا أن ما ينسجونه من تلك الأخبار، لا يعدو أن يكون رقعا مهلهلة، وخرقا بالية، لا يلتفت إليها أحد، وهي في مواجهة هذا النسج الإلهى، المعجب، المعجز- نقول إذ عجز القوم عن هذا، فإنهم لجأوا إلى أسلوب آخر، يروّجون به لهذا الزيف، ويغرون الناس بالإقبال عليه، بهذا الأسلوب الذي يقدمونه به، ويعرضونه فيه.. فجلبوا القيان، وعقدوا لهنّ مجالس السّمر والغناء، حيث يغنون ويرقصون، ثم يحىء في أثناء ذلك من يقصّ عليهم ضروبا من القصص الخرافيّ، لا تجد لها مساغا في الآذان إلا في هذا الجوّ الذي دارت فيه الرءوس، وغايت العقول، بين الكأس، والرقص!.. حتى إذا صحا القوم من خمارهم، طارت هذه الخرافات، كما تطير أضغاث الأحلام.. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (٦: لقمان).
قوله تعالى:
«وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ».
والضمير فى «نزلناه» يعود أيضا إلى هذا القصص، الذي جاء في الآيات السابقة.. كما يمكن أن يعود إلى القرآن الكريم كلّه، إذ كان هذا القصص
175
بعضا منه.. وما يصدق على بعضه يصدق عليه كلّه..
والمعنى: أن هذا القصص، أو هذا القرآن، لو نزل على بعض الأعجمين، ممن لا يعرفون العربية، ولا ينطقون باللسان العربي، فقرأ على القوم هذا القصص أو هذا القرآن، بلسان عربيّ مبين، ما صدّقوه، وما كان لهم من ذلك آية، على أن هذا الكلام ليس من عند هذا الأعجمى، وإنما هو آية من آيات الله، تجلّت فيه.. وإلا فمن أين له هذا البيان المبين باللسان العربي، وهو الأعجمى الذي لا يحسن أن ينطق بكلمة عربية؟ ولكن القوم قد استبدّ الضلال بعقولهم، واستولى العناد على منطقهم..!
وفي الآية إشارة إلى أن النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو بالنسبة إلى هذا القرآن أشبه بالأعجمى.. إذ أنه لا يعرف من ذاته شيئا من تلك الأخبار، التي يحدّث بها هذا القصص الذي يتلوه على القوم.. تماما كما لا يحسن أن ينطق باللسان العربي من لم يتعلم هذا اللسان ويتقنه.. ومن جهة أخرى، فإن النبيّ لو عرف هذه الأخبار، ما أمكنه نسجها، وإخراجها على هذا النظم البديع المعجز.. فهو بالنسبة إلى هذا البيان القرآنى، أشبه بالأعجميّ كذلك حين يكلّف أن ينطق باللسان العربي! قوله تعالى:
«كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» سلك الشيء في الشيء، أو معه.. نظمه معه، وضمه إليه.. ومنه قوله تعالى:
«اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» أي أدخلها إلى جيبك، وأسقطها إسقاطا، كما تسقط الحبة على الحبّة في نظم العقد..
والإشارة في قوله تعالى: «كَذلِكَ سَلَكْناهُ» - يشار بها إلى تلك الصورة المتمثلة للمشركين، وهم يستمعون إلى رجل أعجميّ خالص العجمة، لم ينطق أبدا
176
بكلمة عربية، ثم يطلع عليهم فجأة، دون أن يبرح مكانه، وقد نطق بهذا اللسان العربي المبين، من آيات الله وكلماته- ثم هم مع هذا لا يجدون في هذا آية، لهم تدلّ على صدقه، وأن هذا الكلام ليس من عنده! فهذا القرآن يقع من قلوبهم، ويسلك فيها هذا المسلك، حين يسمعونه من رجل منهم، لم يكن يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه.. إنه أشبه بأعجمى ينطق بلسان عربى مبين، كأنما ولد بهذا اللسان، وعاش بين أهله..
ومع هذا فإنهم لا يجدون فيما يتلوه عليهم النبي الأمى آية، كما لا يجدون فيما يسمعهم إياه الأعجمى من لسانهم العربي المبين آية.. وهكذا تنتظم هذه الصورة الواقعة إلى تلك الصورة المفترضة وتسلك معها في خيط واحد.. النبي الذي يحدث بهذه الآيات، والأعجمى الذي ينطق بها لسانه.. إنهم لا يؤمنون بهذا أو ذاك، ولا يجدون آية في حديث النبي، أو منطق الأعجمى! ولهذا جاء قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي لا يؤمنون بهذا الحديث، سواء أكان من أمي، أو أعجمى.. وهذا لا يكون إلا من قلوب قد ضمت على داء خبيث، يغتال كل خير يمر بها، ويدفع كل هدى يطرق بابها، ولذا وصفوا بالإجرام..
«فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» وقوله تعالى: «يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» - إشارة إلى أنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم كل آية.. وذلك حتى يروا بأعينهم ما أنذروا به من عذاب أليم، وعندئذ يؤمنون إيمان المضطر المكره، والذي لا حيلة من النجاة من هذا العذاب، إلا بأن يتعلق بحبل الإيمان، الذي كان ممدودا له من قبل.. ولكن قد فات الأوان، وحيل بينهم وبين ما يشتهون! قوله تعالى:
«فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ» (م ١٢ التفسير القرآنى ج ١٩)
177
أي أن هذا العذاب الأليم سيقع بهم فجاءة، على غير توقع، أو انتظار..
وعندها يكربهم الكرب، ويأخذهم الفزع، فيسألون، الإمهال والانتظار، حتى يؤمنوا، ويصلحوا ما أفسدوا.. ولكن ذلك لن يكون.. «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ.. لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (٤: نوح) والمنظر: هو من يؤخّر الوقت الموقوت له، لقاء دين أو نحوه.. ومنه قوله تعالى: «فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (٢٨٠: البقرة) قوله تعالى:
«أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟» هو استفهام تهديد للمشركين، الذين يستخفون بعذاب الله، أو ينكرون وقوعه.. فهم لا يؤمنون به حتى يقع بهم ويروه عيانا.. وإن لهذا العذاب وقتا موقوتا يقع فيه.. وإنه إذا كان إيمانهم لا يقع حتى يقع بهم العذاب- أفنعجل لهم هذا العذاب حتى يؤمنوا؟
إننا قد فعلنا ذلك بكثير من الأمم قبلهم، فعجلنا لهم العذاب في هذه الدنيا، وأخذناهم بما كذبوا، فآمنوا حين رأوا هذا العذاب الواقع بهم، ولكن لم ينفعهم إيمانهم بما كذبوا به من قبل.. أما هؤلاء المشركون، فإن الله سبحانه- قد وعد نبيه الكريم ألا يعذب قومه، وهو فيهم، كما يقول سبحانه:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (٣٣: الأنفال) حتى لا يسوءه ما يراه من مصارعهم، وخراب ديارهم، وهو الذي قد جاء ليحيى مواتهم، وليرفع خسيستهم، ويكشف الجهل والظلام المطبق عليهم.. ولكن هذا الإمهال، إلى حين.. فإنهم إن أفلتوا من عذاب الدنيا، فإن هناك العذاب العظيم الذي ينتظرهم في الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآيات التالية..
«أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ» أي إننا إذا أمهلناهم في هذه الدنيا، ولم نرسل عليهم
178
المهلكات، التي أرسلناها على المكذبين قبلهم.. ثم هم إذا تركوا، حتى آخر يوم من أيام حياتهم- أليس بعد هذه السنين التي يقضونها في هذه الدنيا، موت؟ ثم إذا هم ماتوا، وجاءهم العذاب الذي أعدّ لهم في الآخرة، أينفعهم شىء مما كانوا فيه في دنياهم، من مال وبنين، وجاه وسلطان، وأهل وعشير؟ إنه لن يغنى عنهم من عذاب شىء مما كانوا فيه..
وقد نسب الاستعجال بالعذاب إليهم، لأنهم بكفرهم وعنادهم، قد أوجبوا وقوع العذاب عليهم، وتعجيله لهم.. لأن هذا المعجل هو انتقام منهم لتكذيبهم بآيات الله، وتحديهم لرسول الله، والله سبحانه وتعالى يقول في فرعون وآله:
«فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» (٥٥: الزخرف) ويقول في ثمود، قوم صالح: «فَعَقَرُوها.. فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ.. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» (١٥٧- ١٥٨: الشعراء) ويجوز أن تكون نسبة تعجيل العذاب إليهم، على سبيل الحقيقة، لأنهم كانوا يستعجلون العذاب فعلا على سبيل التحدّى، كما يقول الله سبحانه وتعالى:
«وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣٢: الأنفال) قوله تعالى:
«وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو تعقيب على التهديد الذي حملته الآيات السابقة إلى المشركين، فى قوله تعالى: «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.. الآيات».. أي أن هذا العذاب المرصود لمن يكذب برسل الله، ويمكر بآياته، إنما يقع في أعقاب ما يحمل الرسول إلى قومه من نذر بين يدى دعوته إياهم، إلى الإيمان بالله، حتى إذا بلغهم ما أنذروا
179
به، ولم يتحولوا عن موقفهم الضال الذي هم عليه- أخذهم الله بالعذاب المقدر لهم.. وقد رأى المشركون في القصص الذي قصه الله عليهم، لسبعة أنبياء كرام، ما حل بالمخالفين لكل نبى، من بلاء ونكال، كما يقول سبحانه:
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (٤٠: العنكبوت) وهؤلاء المشركون، قد أنذروا، كما أنذر هؤلاء المكذبون المهلكون قبلهم.. وإنهم بهذا الإنذار ليقفون على حافة الهوة التي تردّى منها المكذبون إلى العذاب، ويردون المورد الذي ذاقوا منه البلاء، وكانوا في الهالكين!! فماذا ينتظر هؤلاء المشركون بعد هذا؟ إنه لا شىء غير العذاب.. فإذا لم يحل بهم في مصبحهم أو ممساهم، فذلك من إكرام الله سبحانه لنبيه الكريم، ومنزلته عنده.. أما إذا أهلكوا فإنما يهلكون بذنوبهم.. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
..
وقوله تعالى: «ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هو ذكرى.. أي هذا الذي نقدمه بين يدى الإهلاك من نذر، هو ذكرى، لما في الناس من فطرة تدعوهم إلى الإيمان بالله.. فهذا الإنذار بالرسل، هو إيقاظ لهذه الفطرة الغافية، أو الغافلة، وتنبيه لها، وتذكير! وقوله تعالى: «وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو جملة حالية، لبيان فضل الله على الناس، وأنه سبحانه، قد أقام في كيانهم رسلا تهديهم إلى الله، وتكشف لهم الطريق إليه، وهي هذه الفطر، وتلك العقول.. وأنه سبحانه لو أهلك الكافرين منهم، لكان ذلك جزاءا وفاقا لهم، على هذا الانحراف، الذي
180
خرجوا به عن داعى الفطرة، ومنطق العقل.. ولكنه سبحانه، عزز هذه الرّسل المودعة في كيان الناس، برسل من عنده، يحملون إلى الناس آياته، ويذكرونهم بما عهد الله به إليهم في النشأة الأولى، فى قوله سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ.. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى.. شَهِدْنا!» (١٧٢: الأعراف).. وهذا ما يشير إليه بعض المتصوفة في تفسيرهم لقوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» (١٣- ١٤ يس).. فهم- أي الصوفية- يقولون: إن الاثنين، هما العقل والقلب، والقرية، هى الجسد.. والرسول الثالث هو رسول الله..
وهذا المعنى، وإن كان بعيدا، إلا أنه يشير إلى أن في الإنسان فطرة هي أشبه برسول من رسل الله إليه..
الآيات: (٢١٠- ٢٢٠) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٠ الى ٢٢٠]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
181
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، من أكثر من جهة..
فأولا: أنه جاء في آيات سابقة قوله تعالى: «إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ».. ثم أعقب هذه الآيات تعقيب على موقف المشركين من هذا الكتاب، المنزل من ربّ العالمين، ومقولاتهم المفتراة عليه.. فكان قوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» توكيدا لقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ».
وثانيا: فى قوله تعالى: «ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» - إشارة إلى أن المشركين قد جاءهم ما جاء المنذرين قبلهم، من آيات الله.. ليكون لهم منها موعظة وذكرى.. وأن هذا الذي جاء إلى المشركين، هو كتاب الله، الذي تلقاه محمد وحيا من ربه.. وأنه ليس مما تنزلت به الشياطين، كما يتنزّل على الكهان والسحرة..
قوله تعالى:
«وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ».
أي أنه ما ينبغى للشياطين، أن يأخذوا هذا الموقف، وأن يكونوا سفراء بين الله وبين من يتخيرهم من عباده لرسالته.. إن الشياطين يعرفون قدرهم، والحدّ الذي ينبغى أن يقفوا عنده.. ومن جهة أخرى، فإنهم إذا أرادوا أن يخرجوا عن طورهم، ويتجاوزوا حدودهم، فإنهم لن يستطيعوا
182
أن يرتقوا هذا المرتقى، وأن يبلغوا تلك المنزلة.. إنهم معزولون عن أن يسمعوا شيئا مما في الملأ الأعلى.. إذا أن بينهم وبين ملائكة الرحمن حجازا، كما أن بين الناس وبين الشياطين حجابا.. فكلّ يعيش في عالم، دون أن ينفذ الى العالم والآخر..
قوله تعالى:
«فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ».
هو تهديد للمشركين، بهذا الوعيد الموجّه إلى النبيّ في مواجهتهم..
فالنبيّ الذي يعرف المشركون- كما يقول لهم- هذه الصلة التي بينه وبين ربه، يتلقى هذا التهديد، إذا هو دعا مع الله إلها آخر، كما يفعل هؤلاء المشركون- فكيف يكون حال غيره ممن ليس لهم عند الله هذا المقام الذي له؟
فليس المراد بهذا النهى، وبهذا الوعيد، النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- إذ كان أبعد الناس من أن يطوف به طائف من الشرك بالله.. ولكن ذلك للتعريض، بالمشركين، والتلويح لهم بهذا العذاب الراصد لكل من يشرك بالله، ولو كان من أقرب المقرّبين إلى الله..!
قوله تعالى:
«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ».
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين، الذين انكشف لهم حالهم، وهم في مواجهة هذا العذاب، الذي يتهدّد به الله كلّ من يشرك به..
فهذه الدعوة إلى إنذارهم وتخويفهم من عذاب الله، تلقاهم وهم يتحسّسون أنفسهم، ليجلوا عنها هذا الشرك، الذي يوقعهم في العذاب الأليم.
183
ثم إنّ في قوله تعالى: «عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» داعية أخرى تدعوهم إلى الاستجابة للرسول، وفتح عقولهم وقلوبهم لما يدعوهم إليه.. إنهم عشيرته، وهم أقرب الناس إليه من عشيرته، وهو- بحكم هذه الصلة- لا يريد لهم إلا الخير، ولا يرتاد بهم إلا مواقع الرشاد.. وبخاصة في تلك البينة التي يعيش كل فرد فيها من أجل أهله وعشيرته، لأن حياته مرتبطة بها، وإن أي خطر يتهدّدها هو خطر عليه، وعلى كل فرد فيها..
قوله تعالى:
«وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
هو أمر بما يقضى به العدل، فى التسوية بين عباد الله، فيما ينزل عليهم من آيات الله، وفيما يفيضه رسول الله على الناس من بر ورحمة..
فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وإن بدأ بدعوة أهله إليه، فلأن ذلك الذي يدعوهم إليه هو برّ وضعه الله بين يديه، والأهل والأقربون هم أولى الناس بهذا البرّ، بعد نفسه، كما في الحديث الشريف: «ابدا بنفسك ثم بمن تعول» ثم إنه إذ كان هذا الخير هو مما لا ينفد أبدا بالعطاء، والإنفاق، بل إنه يزيد على الإنفاق، ويحلو طعمه كلّما كثرت الأيدى الممدودة إليه- فقد كان على النبيّ أن يسع بهذا الخير الذي بين يديه الناس جميعا، قريبهم، وبعيدهم.. وأنه إذا بدأ بدعوة أهله إلى هذا الخير، فإن ذلك لا يجعله يقف عند أهله، ولا أن ينتظر حتى يجتمع أهله على هذا الخير، بل إن عليه أن يحتفى بهؤلاء الضيوف الذي سبقوا أهله إلى هذه المائدة التي أعدّها، ودعا الناس إليها..
فمن سبق كان أولى الناس بأن يأخذ مكان الصدارة منها، وأن يكون بموضع لحفاوة والتكريم من ربّ الدعوة، وصاحب المائدة.. سواء أكانوا من الأقربين، أو الأبعدين..! «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ».
184
قوله تعالى:
«فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ».
هذا هو الموقف الذي ينبغى أن يأخذه النبي من أهله الذين لا يستجيبون له، ولا يقبلون على دعوته.. إنهم حينئذ لا أهل ولا أقارب، وإن عليه أن يتبرأ مما هم فيه من ضلال، وألا يمد بصره إليهم، بل ينبغى أن يكون نظره قائما على هؤلاء الذين استجابوا له، واتبعوا سبيله! قوله تعالى:
«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».
أي دع هؤلاء المتأبّين عليك من أهلك وعشيرتك، وما هم فيه من شرك، وتوكل على الله وحده، فهو الذي يشد أزرك، ويمدك بأمداد القوة والعزة، فهو «العزيز» الذي من اعتز به عزّ «الرحيم» الذي يلقاك برحمته، ولا يدعك لأيدى الباغين والسفهاء من قومك..
وفي قوله تعالى: «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ»
- تأكيد لرعاية الله سبحانه وتعالى للنبى، وإحاطته بعزته ورحمته.. فالله سبحانه وتعالى يراه، ويطلع على كل حال منه، فى سر وجهر، وفي نوم ويقظة.. وخصّت الرؤية بحال القيام، لأنها أشرف الأحوال، التي يحبّ النبي أن يراه الله عليها، وهو حال قيامه بين يدى ربه للصلاة.
وقوله تعالى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» - معطوف على الكاف في «يراك» أي يراك في قيامك، ويرى تقلبك في الساجدين..
185
وتقلّب النبي في الساجدين، هو لقاء المؤمنين في الصلاة. وترديد نظره فيهم، وملاحظة كل منهم، وإعطاؤه حظّه من عنايته ورعايته.. وخصت حال السجود من أحوال المؤمنين، لأنها الحال التي تقربهم من الرسول، هذا القرب، وتنزلهم منه تلك المنزلة..
هذا ما نحب أن نفهم الآية الكريمة عليه.. أما ما يذهب إليه كثير من المفسرين من أن المراد بتقلّب النبي في الساجدين، هو تنقله من الأصلاب الزّاكية إلى الأرحام الطاهرة، منذ آدم، إلى مولده، صلوات الله وسلامه عليه.. فهذا لا يزيد من شرف النبي، إن صحّ، ولا ينقص من قدره، إن لم يصح.. فإن شرفه- صلوات الله وسلامه عليه- فى ذاته، وفيما اختصه الله به من فضله وإحسانه.
وقد تحدث القرآن، عن إبراهيم، خليل الرحمن، وأبى الأنبياء، بما يدمغ أباه بالكفر، وبعداوته لله.. كما تحدث عن ابن نوح عليه السلام، بأنه من الذين حق عليهم العذاب! وفي هذا ما يقطع بأن الأنساب لا شأن لها فيما يريد الله بعباده من خير وإحسان، أو ما يرميهم به من بلاء وهلاك..!
وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» - تأكيد لرعاية الله سبحانه وتعالى، للنبى، وملاحظته له، وأنه في ضمان ربّ عزيز رحيم، سميع عليم..
الآيات: (٢٢١- ٢٢٧) [سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
186
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ».
هو توكيد للنفى الوارد في قوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ»..
فهذا النفي كان ردا على التهم التي يرمى بها المشركون النبي صلّى الله عليه وآله من مخالطة الشياطين له، وتآخيهم معه، وأن معه رئيّا منهم يلقى إليه بهذه المقولات التي يحدثهم بها.. فقد كان من تصورات الجاهليين، أن الشياطين والجن يخالطون بعض الناس، ويعيشون معهم، وأن الشعراء خاصة هم أقرب الناس إلى هذا العالم الخفي، وأكثرهم اتصالا به، وأن مع كل شاعر فحل، شيطانا، ينظم له الشعر.. وفي تاريخ الأدب العربي كثير من الشعر الذي ينسب إلى الجن، إذ لم يعلم له قائل.. ومن هذا ما يروى من الشعر في حديث الهجرة وما كان من نزول الرسول- صلى الله عليه وآله- وصاحبه أبى بكر، بأمّ معبد.. ومما يروى من هذا الشعر، قولهم:
187
ومن هذا أيضا، ذلك الشعر الذي قيل إن الجن رثت به أبا بكر..
ومثله هذا الشعر الذي ينسب إلى الجن في رثاء عمر.. وغير ذلك كثير، يمكن أن يجتمع منه ديوان كامل..
فقوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ» هو عزل للقرآن الكريم، عن أن يكون من تلك المصادر التي يتلقى منها الشعراء شعرهم، كما يزعم العرب.. ثم إن قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» - هو عزل للرسول الكريم، عن أن يكون على شاكلة هؤلاء الشعراء الذين يأخذون شعرهم عن الشياطين، كما يزعمون.
فالقرآن الكريم، فى علوه الذي لا ينال، أبعد من أن يدخل في وهم الشياطين أن يتطلعوا إليه، وأن يطوفوا بحرمه.. ثم على فرض أنهم أرادوا ذلك- تطاولا وسفها- فإنهم لن يبلغوا من هذا مأربا..
وقد تحدى القرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال تعالى:
«قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» (٨٨: الإسراء) فما لهم لا يتصلون بالجن، ويأخذون عنهم مثل ما أخذ النبي؟
وشأن الرسول في هذا شأن القرآن، فهو في مقام عال، وفي حراسة من طهره، وسموه، من أن تلمّ به الأرواح الخبيثة، أو تتعامل معه.. لبعد ما بينها وبينه، وللاختلاف الشديد الذي بين طبيعتها وطبيعته..
إن الشياطين، إنما تتنزل، وتتعامل مع أقرب الناس شبها بها، وأكثرهم
188
تجاوبا معها، فى الاتجاه إلى غايات الشر، ومواقع الضلال.. «تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ».. فهذا هو متنزل الشياطين ومهبط وحيهم.. أن يتنزّلوا على أهل الإفك والإثم، وعلى من يتعامل بالإفك والإثم، الذي هو كل بضاعتهم.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ» (١٢١: الأنعام) والأفّاك: كثير الإفك، وهو افتراء الأحاديث واختلاقها ونسجها من خيوط الباطل والبهتان..
والأثيم: كثير الإثم، وهو المقرف للآثام والمنكرات، دون تحرّج أو تأثّم..
وإذن، فالقرآن- فى ذاته- بمعزل عن الشياطين، لا يدنون منه، ولا يطوفون بحرمه.
والنبيّ- فى ذاته- على طبيعة من الصفاء والنّقاء والطهر، لا يقترب منها الشيطان، الذي هو طبيعة خبيثة قذرة، لا تميل إلا إلى الخبث والقذر..
شأن الذباب الذي يتهافت على الأقذار، ويتجنب كل نظيف طاهر! وإذن، فإن ما يتحدث به الرسول لن يكون من تلقيات الشياطين أبدا، سواء أكان ما يتحدث به منسوبا إلى السماء، أو منسوبا إليه.
قوله تعالى:
«يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ».
الضمير فى «يلقون» يعود إلى الشياطين.. والمراد بإلقائهم السّمع، أنهم يتجهون بأسماعهم إلى الملأ الأعلى، ليسترقوا السّمع، ويتحسّسوا ما يكون من أنباء عن العالم الأرضى هناك.. حتى إذا وقع لهم شىء من ذلك ألقوا به إلى أوليائهم من الإنس، ليضلّوهم، ويجعلوا منهم صنائع لهم..
189
وقد كان الشياطين يفعلون ذلك قبل نزول القرآن، فيقع لهم شىء من بعض أخبار السماء، فيحدّثون به أولياءهم، حديثا مختلطا، يجمع بين الصدق والكذب، والحق، والباطل، وفي هذا يقول الله تعالى على لسان الجنّ، «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (٩: الجن).
وقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» جملة حالية من الضمير فى «يلقون» أي أن أكثر هؤلاء الشياطين الذين يتسمعون إلى أخبار السماء، كاذبون فيما يلقون إلى أوليائهم من الناس من أخبار، فالمستمع إليهم، والمتلقى عنهم ضالّ، ومضلّ لغيره، إذ يقع في يقينه أن ما سمعه هو الصدق كلّه، فيأخذ به جميعه، فتسوء العاقبة، وينكشف الحال عما يجلب الحسرة والندم..
والسؤال هنا: إذا كان أكثر الذين يتسمعون إلى أخبار السماء كاذبين، فهل هناك قلّة منهم لا تتصف بهذه الصفة؟
والجواب: نعم، فإنّ من الجن، مؤمنين صادقى الإيمان، يتحرّون الصّدق، ويلزمون أنفسهم به، شأنهم في هذا شأن المؤمنين الصادقين من الناس..
قوله تعالى:
«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ».
هو تأكيد لبعد النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، عن أن يكون على أية صلة قريبة أو بعيدة من الشياطين، وما يتنزلون به على أوليائهم- إنهم لا يتنزلون إلا على كل أفّاك أثيم.. وقد عرفت قريش فى «محمد» ما لم تعرفه في إنسان
190
قط، من صدق الحديث، واستقامة السلوك، وطهارة النفس، حتى لقد كانت تلقّبه قبل البعثة بالصادق الأمين.
وإذا كانت قريش، وكان الجاهليون عموما، يزعمون أن الشعراء، يتلقون أشعارهم مما يوحيه إليهم شياطينهم، فإن محمدا ليس شاعرا، لا بالقوة ولا بالفعل.
فمحمد لم يقل شعرا في حياته أبدا.. لا قبل البعثة ولا بعدها.
ومحمد ليس من طبيعته أن يكون شاعرا، كما عرفت قريش من حياته معها، ومعاشرتها له، واطلاعها على كل شأن من شئونه.. إذ كان في بيئة عارية، لا يختفى فيها شىء عن أبصار الناس وسمعهم..
فمحمد أبعد الناس عن أن يكون شاعرا، بطبعه، أو بلسانه.. وهذا الكلام الذي يحدّث الناس به، ليس من واردات الشعر، سواء أكانت نسبته إلى السماء. أم إلى محمد نفسه..
فالقول، الذي تقوله قريش على محمد بأنه شاعر، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (٣٠: الطور) وكما يقول جلّ شأنه: «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (٥: الأنبياء) - هذا القول الذي تقوله قريش- ساقط، يكذّبه الواقع الذي تعرفه قريش، وتستيقنه من أمر محمد..
وفي هذا يقول الحق جلّ وعلا: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، وَما يَنْبَغِي لَهُ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» (٦٩: يس) وفي قول تعالى: «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ».. إلفات لقريش، إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا وآمنوا به، وأنهم جميعا كانوا على حال من الاستقامة والقصد، بحيث لا تميل بهم أنفسهم إلى جانب الشعراء، ولا تهفو
191
طباعهم إلى أن يكونوا في موكبهم، ومن بطانتهم، أو شيعتهم.. وفي هذا دليل مادى آخر، على أن محمدا ليس بشاعر، وأن ما يحدّث به ليس من قبيل الشعر، وإلا لكان أتباعه من الشعراء.. لسانا، وطبيعة.. فالشعراء إنما ينضوى إليهم من كان على شاكلتهم، من أهل الغواية، والبطالة..
وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ».. هو بيان للصفة الغالبة على الشعراء، وأنهم لا يلتزمون الواقع، ولا يتحرّون الصدق، وذلك لما في طبيعة الشاعر من توفّز الشعور، وجموح الخيال، وتقلّب العاطفة..
فيخرج به ذلك كله عن أن يرى الأمور على حقيقتها، بل يلونها بخياله، ويصفيها بمشاعره، ويتعامل معها كما تقع في وجدانه.. ومن هنا جاء القول المشهور: «أعذب الشعر أكذبه».. كاشفا عن الصفة الغالبة على الشعر، وهو الخيال لذى يلوّن الحقيقة، ويضع عليها من الأصباغ ما يغير وجهها، فيبدو القبيح جميلا، والجميل قبيحا، كما تفعل الأصباغ والألوان التي تلوّن بها وجوه الممثلين، والثياب التي يلبسونها، والشّعر المستعار لرءوسهم، ولحياهم- كما يفعل ذلك كله في إخفاء شخصية الممثل، وإظهاره في الصورة التي يقتضيها الدور الذي يقوم به على مسرح التمثيل..
قوله تعالى:
«وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ».. هو بيان لحال من تلك الأحوال التي تلبس الشعراء التي أشارت التي إليها الآية السابقة:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ».. إذا أن من مقتضى هيامهم في كل واد، أنهم لا يستقرون على حال، ولا يثبتون على رأى، ولا يتقيدون بأى قيد..
192
ومن القيود التي يتقيد بها الناس- غير الشعراء- قيد الكلمة، وإخراجها من حيّز الكلام إلى عالم الواقع.. أما أن يرسل المرء الكلام هكذا، من غير أن يكون هذا الكلام صادرا عن إحساس به، وتصور له فى صورة عمل يعمله الإنسان، وسلوك يعيش به في الناس، فهو من غير الشعراء، كذب ونفاق، ثم هو من الشعراء خيال، هو من مستلزمات هذا الضرب من الكلام، الذي لا يطلب منه الناس الحقيقة عارية، وإنما يروقهم أن يروها في هذا الجوّ الشاعريّ الحالم!! يروى أن عبد الملك بن مروان سمع الفرزدق الشاعر، وهو ينشد بين يديه هذه الأبيات، من قصيدة له:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه رفيقين حلّا خيمتى أم معبد
هما نزلا بالبرّ ثم ترحلا فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد
ثلاث واثنتان فهنّ خمس وواحدة تميل إلى شمام
فبتن بجانبيّ مصرّعات وبتّ أفض أغلاق الختام
فقال عبد الملك، يا فرزدق، قد أوجبت عليك حدّ الزنا، ولا بدّ من رجمك، فقال وبم أوجبت عليّ الحدّ يا أمير المؤمنين؟ قال بكتاب الله.. قال فإن كتاب الله يدرأ عنى الحدّ! قال وكيف؟ قال فإن الله سبحانه وتعالى يقول في الشعراء: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» وأنا هنا شاعر، وقد قلت ما لم أفعله! هكذا يرى الشاعر نفسه، وكهذا ينبغى أن يراه الناس! قوله تعالى:
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» - هو استثناء من الحكم العام الذي أوقعته الآيات الثلاث السابقة، على الشعراء.. ووصفتهم بتلك الصفة الغالبة عليهم، وهي أنهم غواة يتبعهم الغاوون لأنهم يهيمون فى كل واد من أودية الخيال، والضلال، وأنهم يقولون ولا يلتزمون بما يقولون. (م ١٣- التفسير القرآنى- ج ١٩)
193
فهذه هي الصفات الغالبة على أكثر الشعراء، ولكن من الشعراء من غلبت طبيعتهم شياطين الشعر، وقهرت النوازع التي تحركها فيهم هذه الشياطين، فكان لهم من خلقهم، عاصم يعصمهم من الانزلاق في مهاترات الشعراء، ولهوهم ومجونهم، قولا، وفعلا.. وليس هنا عاصم يعصم الإنسان من المزالق والعثرات، مثل الإيمان بالله، والتمسك بآداب الدين وأحكامه.. حيث يجد الإنسان من دينه وازعا يزعه عن الشر، ويمسك لسانه عن الفحش والهجر..
فالذين آمنوا بالله، وذكروا الله كثيرا، أي استحضروا دائما جلاله وعظمته.. هم- وإن كانوا شعراء- مستثنون من تلك الأوصاف التي وصف بها عامة الشعراء، لأنهم ليسوا غواة ولا دعاة إلى غواية. ولأنهم لا يقولون إلا ما يفعلون.. فلا كذب. ولا نفاق.. حيث لا يجتمع الإيمان وذكر الله كثيرا، مع شىء من هذا الضلال..
وفي قوله تعالى: «وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا».. إشارة إلى ما يكون من الشعراء المسلمين، إذا حاربهم المشركون بالشعر، وسلقوهم منه بألسنة حداد.. فماذا يكون عليه موقف الشعراء المسلمين هنا؟ أيسكتون على هؤلاء الذين يرمونهم بهذه الطعنات المسمومة القاتلة من شعر الهجاء، الذي يشيع على ألسنة الناس، ويصبح حديث المحافل، وسمر السمار، وحداء الحداة، ونشيد الرعاة والصبيان؟ وكيف وفي أيديهم السلاح الذي يفلّ هذه الأسلحة، ويخرس تلك الأفواه التي تنفث هذه السموم؟ ومن أجل هذا فقد أذن الله سبحانه للشعراء المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم هذا الشرّ بالشرّ، وأن يضربوا الشعر بالشعر.. انتصارا من ظلم، وردعا للظالمين.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» (١٤٨: النساء) ويقول
194
سبحانه: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (٤١:
الشورى).
وفي قوله تعالى: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».. تهديد لهؤلاء الشعراء من المشركين، الذين يعتدون بشعرهم الآثم على الناس، ويمزّقون الحرمات، ويهتكون الأعراض.. ثم هو من جهة أخرى- تحذير لشعراء المسلمين من أن يعتدوا ويظلموا، وأن يجاوزوا الحدّ الذي يأخذون فيه بحقّهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (١٩٠: البقرة) وقد فهم كثير من الناس- ومن المسلمين- نظرة الإسلام إلى الشعر، وإلى الفنون عامة، فهما خاطئا، إذ أخذوا بظاهر النصّ القرآنى، ولم ينفذوا إلى شىء من وراء هذا الظاهر، الأمر الذي يدعونا إلى أن نقف وقفة قصيرة عند هذه القضية، قضية الشعر، وموقف الإسلام منه.
(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)
الشعر طبيعة في الإنسان، وهو فن من الفنون الإنسانية الجميلة، وليس هناك أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات، لم يكن الشعر أداة من أدوات التعبير الجارية على لسانها.. والأمة العربية، بخاصة- كان الشعر إدام حياتها في هذه الحياة القاسية المجدبة، التي كانت تعيش فيها قبل الإسلام..- كما سنعرض لذلك بعد قليل- وإذا كان الشعر على تلك الصفة في حياة الناس، وفي حياة العرب بخاصة، فإن الإسلام بسماحته وإنسانيته، لا يمكن أن يقيم حظرا على هذا المتنفّس، الذي تنطلق منه مشاعر الناس، وتغرد على أوتار ألسنتهم بلا بله..!
والذي كان من الإسلام هنا، فى هذا الوصف الذي وصف به الشعراء،
195
هو تخليص هذا الفن الجميل، مما دخل عليه من تلك الألوان الصارخة من الفحش، والهذر واللغو، حتى تصفو موارده، ويكون للكلمة الصادقة فيه، وزنها وقدرها، فى تربية النفوس، وتقويم الأخلاق، إذ كان للثوب الذي تلبسه الكلمة فى القالب الشعرى، تأثير عظيم في كشف مضمونها، وتجسيد محتواها، حتى لتكاد تتمثل كائنا حيا، يعيش في وجدان السامع، ويتحرك في كيانه..
ومن هنا كان موقف الإسلام من الشعر، قائما على تقديره له، ووزن خطره وأثره في النفوس، وسلطانه على العقول والقلوب.. فإذا لم يقم على هذا الفن حارس من خلق أو دين، كان قوة من قوى الشر المدمرة، التي تأنى على كل صالحة في المجتمع، الذي تتحرك فيه شياطين هذا الفن! وهناك كلمة مضلّلة، وبما أغرت كثيرا من الشعراء- أعنى صغار الرجال من الشعراء- أن يأخذوا بها، وأن يتلقوا الدرس الأول عنها، تلك الكلمة، هى قولهم: «أعذب الشعر أكذبه» يعنون بهذا أن أجمل الشعر وأرقه، ما اصطاد بشباك الخيال، الغرائب والعجائب، وموّه الحق والواقع، بألوان وأصباغ، تغير صورته، وتطمس معالمه، فيرى على غير ما هو.. ومن هنا كان التعامل بالصور التي يرسمها مثل هذا الشعر، مزلقة إلى الضلال، والانحراف عن قصد السبيل! والحق، أن الكذب هو الكذب.. أيا كان الزي الذي يتزيا به.. فى الفنون والعلوم على السواء.
وفي المأثور: «ما كان الصدق فى شىء إلّا زانه، وما كان الكذب في شىء إلا شانه». فكيف يزدان قول أو عمل، يكون الزور لحمته والباطل سداه؟
وإذن فأحق ما ينبغى أن يقال في الشعر- من حيث هو فن رفيع من
196
الفنون الجميلة- أن يقال: «أعذب الشعر أصدقه».. فبقدر ما يحمل الشعر من الصدق، بقدر ما تكون عذوبته وحلاوته، وبقدر ما يكون بهاؤه وجلاله..
إن الحق- فى ذاته- مستغن عن الزيف والبهرج، وفي غير حاجة إلى هذا الطلاء المموه، من الزور والبهتان.
إن الفنون الرخيصة المبتذلة، هى التي يتستر ضعفها وهزالها، وراء هذا الطلاء الزائف، من الزور والبهتان..
أما الفنون الرفيعة العالية، فهى لا تكون على هذا الوصف من العلوّ والرفعة، إلا إذا كانت حقا خالصا، وصدقا مصفّى وفي الأعمال الفنية المصوغة من الكلمة، أو الحجر، أو الوتر، أو اللون- شاهد لهذا.. فما لبس ثوب الحقيقة منها، فهو الخالد الذي يعيش في الإنسانية، ويطلّ عليها من عليائه، كما يطل شعاع الشمس في يوم قارس البرد، لافح الزمهرير، فينعش النفوس، ويثير المشاعر، ويحرك الهمم، ويشد العزائم.. وعلى عكس هذا، ما تزيا بالكذب والخداع من الفنون، فإنما هو سراب خادع، يلوح في العين ببريقه، فيحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
فصدق الشاعر مع نفسه، وإلزامها طريق الحق- أيا كان وقعه عليه، وأثره فيه- يجعله يصدق مع الناس، ومع الأشياء.. فإذا قال شعرا جاء شعره ممسكا بالصميم من الحق، كاشفا عن أسرار هذا الوجود، فى عوالمه الحية والجامدة، على السواء.. فيحدّث عن دخائل النفس الإنسانية، كما يحدث عن أحلام هذا الحجر الملقى في عرض الطريق! والصدق لا ينزل إلا حيث النفوس العظيمة، التي، تتسع له، وتحتمل تبعاته،
197
وتقدر على الوفاء به، على المنشط والمكره.. أمّا صغار النفوس فإنها تضيق بكلمة الصدق، وتضعف عن أن تحتملها.. إن طريقها لا تستقيم أبدا مع الطريق المستقيم.. تماما كالجبان يتحرك نحو ساحة القتال، ولقاء الأبطال.. إنه يتقدم ويتأخر، ويستقيم ويلتوى.. وهيهات أن يكون الثعلب والأسد على سواء..
فى مواجهة الواقع وتحديه! وهكذا نجد شاعرا من أصحاب النفوس الكبيرة، كالمتنبى، مثلا، تحمله نفسه الكبيرة على أن يقف موقف النّدّ مع ممدوحه سيف الدولة، أمير الدولة الحمدانية، ولا يرضى أن يكون حاشية من حواشيه.. حتى إذا التقى بكافور صاحب مصر، نظر إليه من سماء عالية، ولم يستطع أن يكتم ما بنفسه، من مشاعر العظمة لذاته، والإحقار لكافور، فيظهر ذلك في كل شعر قاله فيه.. ومن هنا لم يلتقيا على طريق، فافترقا من أول لقاء! وأكثر من هذا..
فإن المتنبي، أبى عليه صدقه مع نفسه، أن يلتزم ما التزمه الشعر العربي من مطالع الغزل في كل قصيدة، مدحا كانت، أو ذما، أو رثاء.. فصرخ من أعماقه تلك الصرخة المدوية، التي رمى بها في وجه هذا الغزل المصطنع، وقال:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم؟ أكل فصيح قال شعرا متيّم؟
بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا، فلم يرتض من أسلوب الحياة إلّا ما كان صميم الحياة ذاتها، ومن واقعها البعيد عن الصنعة والدّخل، حتى إنه ليعيب المرأة المتجمّلة بغير جمال الفطرة، الأمر الذي يكاد يكون طبيعة فى بنات حواء.. فيقول:
198
والمتنبي في هذا، لا يقول ما لا يفعل، كما هو الشأن الغالب في الشعراء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ».. بل إنه ليأخذ نفسه بالصدق قولا وعملا، وإنه ليأبى- مثلا- أن يغيّر لون شعره، حين نسخ الشيب سواده.. فيقول:
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب
ومن هوى الصّدق في قولى وعادته رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
وقل مثل هذا، فى «أبى العلاء المعرّى» الذي وقف أمّة وحده من الناس، ومن الدهر، موقف التحدّى، قولا، وعملا، فأعلنها حربا مشبوبة الأوار، على كل ما لم يقبله عقله، أو تستسغه نفسه، من آراء ومعتقدات، وعادات، حتى إذا وجد الحياة كلها حربا عليه، انسحب إلى بيته، أو محبسه، وأغلق عليه بابه، وأخذ يرمى الناس والحياة برجوم وصواعق، لا تزال منطلقة إلى اليوم، تدور في كل مدار، وتصدم أو تصطدم بكل ما يعوقها، أو يعترض طريقها.
نقول هذا، لنصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الدارسين للأدب العربي، الذين نسبوا إلى الدعوة الإسلامية، أنها أصابت الشعر العربي في الصميم من حياته، وأنها دمغت الشعراء بهذا الوصف الذي يخرجهم من دائرة الإسلام، وينأى بهم بعيدا عن المثل الفاضلة، التي يتمثلها الإسلام في أهله.! أليس القرآن الكريم يقول في الشعراء: «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟» فأى مسلم حريص على سلامة دينه يرضى لنفسه أن يكون من زمرة الشعراء؟ وعلى هذا فقد حبس كثير من المسلمين في صدر الإسلام، ملكة الشعر التي كانت تغرد في صدورهم، ومن كان منهم شاعرا في الجاهلية، أمسك عن قول الشعر جملة في الإسلام،
199
ويضربون لهذا مثلا، بالشاعر لبيد، أحد أصحاب المعلقات، ويحكون أنه لم يقل بيتا من الشعر، منذ أن دخل في الإسلام..
هذا وكثير غيره مما يقال، فى موقف الإسلام من الشعر والشعراء..
وهو- فى رأينا- قول يخالف الحقيقة ويظلم الإسلام بتلك التهمة!.
فالقرآن الكريم. بأسلوبه المبين المعجز، هو الذي رفع قدر الكلمة العربية، وجعل للبيان العربي هذه المكانة العالية الرفيعة، حتى ليكاد يكون معجزة، لا يلقاه في ميدان الإعجاز، إلا كلمات الله، متحدية، قاهرة..
والشعر العربي، هو مجلى اللغة العربية، ومظهر بيانها، وشاهد بلاغتها..
فكيف يجىء القرآن الكريم، ليقتل هذا الشاهد الوحيد، الذي ينطق بإعجازه، ويحكى عن وجه الإعجاز فيه؟ وإذا مات هذا الشعر العربي، أو اختفى من الميدان، فمن أين يعرف للقرآن الكريم، إعجازه، ومن أين يؤخذ الدليل على مواقع الإعجاز فيه؟
إن القرآن الكريم، إذا وقف وحده في الميدان، فكيف يستدلّ على إعجازه؟ وبم يبين فضله على غيره من الكلام، وليس ثمة كلام غيره؟.
وندع هذا، لنقول: إن الإسلام لم يكن له موقف من الشعر العربي، من حيث هو شعر، وإنما كان موقفه هذا، من الشعر الذي غلب عليه الكذب، والذي اتخذ منه أصحابه أسلحة لنهش الأعراض، وفضح الحرائر، وبهت الشرفاء والأمجاد من الناس، وإلباسهم لباس الخزي والمذلة.. ببيت من الشعر، يصير. مثلا في الناس- ويصبح المقول فيه أمثولة.. فلا تقوم له بعد
200
ذلك قائمة!! فهذا هو الشعر الذي عابه الإسلام، وأبى على المسلم أن يتخذ منه زادا له، لأنه زاد خبيث، تجتمع على مائدته الخبائث.. من كذب، وبهتان، وبغى وعدوان.. وكلها أطعمة يحرّمها الدين، كما تأباها النفوس الطيبة، التي لا تدين بدين!.
أما ما طاب من الشعر، وخلص من هذه الخبائث، فإن الإسلام حفيّ به، مكرم له، احتفاءه بالكلمة الطيبة، وإكرامه للقول الطيب.
ولقد سجل التاريخ الإسلامى، للصحابة رضوان الله عليهم، مواقف من الشعر الجاهلى، تدل على تقديرهم له، وحرصهم عليه، بل وتعلقهم به!.
فعمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان يحفظ كثيرا من الشعر الجاهلى، ينشره حينا، ويستمع إليه أحيانا، ويسأل الوفود القادمة عليه، من قبائل العرب، عن شعرائهم، وعن أحسن ما عندهم من شعرهم..
بل وأكثر من هذا، فإن عمر رضى الله عنه- كان إذا حضره موقف من المواقف، وهو يخطب على منبر رسول الله- صلى الله عليه وآله- واستدعى هذا الموقف شاهدا لمعنى من معانى القرآن الكريم، فى بيت من الشعر- استمع إليه، ووعاه، وأخذ به!.
روى أنه- رضى الله- قرأ.. وهو على المنبر- قول الله تعالى:
«أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» (٤٧: النحل) - فسئل عن معنى التخوف، فقال، وقيل له.. فقام رجل من هذيل، فقال: التخوف عندنا: النقص..
ثم أنشد:
201
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السّفن «١»
فقال عمر: «أيها الناس.. تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم».
وأمر ابن العباس- رضى الله عنه- فى موقفه من الشعر الجاهلى، وحفظه له، وإنشاده إياه في مسجد الرسول- أظهر من أن ينبه عليه، فلقد كان صدره- رضوان الله عليه- خزانة هذا الشعر، كما كان قلبه، مستودع القرآن الكريم، حفظا، وعلما.
ونشكّ كثيرا في أن أحدا من الصحابة، لم يلتفت إلى هذا الشعر، ويتمثل به في موقف أو أكثر من موقف!.
وكيف بعقل أن يكون الأمر في شأن الشعر على غير هذا، وقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يرون الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، وإن لم يكن شاعرا، وما ينبغى له أن يكون، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» (٦٩: يس). ذلك لأن في الشعر- كما قلنا- خيالا، وفيه شطحات بعيدة مغربة عن الواقع.. وهذا ما لا يطوف منه طائف بآيات الله وكلماته..
ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه الآية: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ».
ولكن- مع هذا، فإن في الشعر عيونا متخيرة من الحكمة.. ومن أجل هذا، كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه
(١) هذا الشعر في وصف ناقة، طالت بها الأسفار، فنحل وبرها، وهزل جسمها.. والتامك: السنام.. والقرد: الذي تجعد شعره من الهزال والضعف والنبع: شجر القسي، والسفن: أداة تنحت بها العصى ونحوها حتى تسوى وتصقل.
202
لغلتقط منه هذه الحكم، وتؤخذ منه تلك الدرر، من بين هذا الغثاء الكثير، الذي كان يحمله هذا السيل المتدفق من الشعر! يروى عن أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- أنها كانت تقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله، كثيرا ما يقول لى: «أبياتك» ! (أي أنشدى أبياتك المعهودة).
تقول السيدة عائشة.. فأقول:
ارفع ضعيفك لا يحربنّك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نما
يجزيك، أو يثنى عليك، وإنّ من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
ففى هذا الشعر الذي كان يستمع إليه الرسول الكريم، دعوة كريمة من من دعوات البرّ، التي دعا إليها الإسلام.. فلا غرابة في أن يهش الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لسماعه، والإصغاء إليه.
وروى الزبير بن بكار، قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومعه أبو بكر رضى الله عنه، برجل، ينشد في بعض طرق مكة، هذا البيت:
يا أيها الرجل المحول رحله هلّا نزلت بآل عبد الدار؟
فقال- صلوات الله وسلامه عليه- يا أبا بكر.. أهكذا قال الشاعر؟
قال لا، يا رسول الله، ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله هلّا نزلت بآل عبد مناف
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «هكذا كنا نسمعها «١» ».
(١) أي القصيدة التي فيها هذا البيت، ورويها حرف الفاء.. وبعد هذا البيت:
203
وأكثر من هذا، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يستمع إلى الشعر، ويجيز على الطيب العفيف منه، كما استمع إلى قصيدة كعب بن زهير، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- قد أهدر دمه.. فلما جاءه مستخفيا وأنشده قصيدته التي مطلعها:
ثكلتك أمك لو نزلت بحيهم منعوك من عدم ومن إقراف
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول متيّم إثرها، لم يفد، مكبول
والتي يقول فيها:
نبئت أن رسول الله أوعدنى والعذر عند رسول الله مقبول
هشّ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- له، وعفا عنه، وخلع عليه بردته التي كان يلبسها.. وأكثر من هذا فقد كان للنبى صلوات الله وسلامه عليه شعراء، على رأسهم حسان ابن ثابت، يردّون بشعرهم على شعراء المشركين، ويلقونهم في ميدان القول، كما كانوا يلقونهم في ميدان الحرب، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- يقول لحسان: «اهجهم وروح القدس معك» !! فكيف يكون روح القدس (وهو جبريل عليه السلام) مع شاعر يقول هذا الشعر الهجائى، ويطعن به في وجوه القوم وأعراضهم؟ أليس ذلك لأنه سلاح من أسلحة الحرب، وأنه بهذا السلاح إنما يقاتل المشركين بمثل أسلحتهم؟
ولهذا جاء قوله تعالى معقبا على آية الشعراء.. «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا».
إن لكل مقام مقالا.. وإذا كان هذا المقام- فى حرب المشركين- يقتضى أن يكون لشعر الهجاء مكانه، فإن للشعر في مقام الخير، والإحسان، مكانا أوسع وأرحب!
204
٢٧- سورة النّمل
نزولها: مكية.. نزلت بعد الشعراء..
عدد آياتها: ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون، وقيل خمس وتسعون.
عدد كلماتها: ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت الآيات التي ختمت بها سورة الشعراء، دفاعا عن القرآن الكريم، من أن يكون من واردات الشعر، كما كانت دفاعا عن النبيّ، أن يكون من زمرة الشعراء.. فمعدن القرآن، غير هذا المعدن الذي يصاغ منه الشعر، ونسيج القرآن، غير نسيج الشعر.. نظما ومعنى.. والنبيّ على طبيعة تخالف كل المخالفة طبيعة الشعراء.. قولا وفعلا.. سلوكا وخلقا!.
وكان بدء سورة «النّمل».. حديثا عن هذا القرآن، الذي هو منقطع عن كل سبيل يصله بالشعر، حيث أنه هدى وبشرى للمؤمنين الذين يؤمنون به، يتعاملون بأحكامه وآدابه، على حين أن الشعر يقوم عموده على غير هذا الطريق الجادّ المستقيم.. كما كان هذا البدء حديثا عن النبيّ، بأنه بمعزل عن الموارد التي يردها الشعراء، ويملئون دلاءهم منها.. إنهم يأخذون ما توحيه إليهم شياطينهم، على حين أن النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذا القرآن وحيا من لدن حكيم عليم.. «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ».
فالمناسبة بين بدء سورة النمل، وختام سورة الشعراء، ظاهرة، والالتحام بينهما. قويّ، كما ترى.
205
Icon