تفسير سورة القلم

فتح البيان
تفسير سورة سورة القلم من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة نون
وتسمى سورة القلم اثنتان وخمسون آية، وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وعن ابن عباس وقتادة أن من أولها إلى قوله :﴿ أكبر لو كانوا يعلمون ﴾ مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله :﴿ فهم يكتبون ﴾ مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله :﴿ فهم يكتبون ﴾ مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله :﴿ من الصالحين ﴾ مدني، وباقيها مكي، كذا قال الماوردي، وعن ابن عباس قال كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما شاء، وكان أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم نون ثم المزمل ثم المدثر. وعنه نزلت نون بمكة وعن عائشة مثله.

(ن) قرىء بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو وقرىء بالإظهار وبالفتح على إضمار فعل وبكسرها على إضمار القسم، أو لأجل التقاء الساكنين، وبضمها على البناء؛ عن ابن عباس أنه قال نون: الدواة، أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد، وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله ﷺ " النون السمكة (١) التي عليها قرار الأرضين "، وقال مجاهد والسدي ومقاتل: هو الحوت الذي يحمل الأرض، وبه قال مرة الهمداني، وعطاء الخراساني والكلبي.
وقيل إن نون آخر حرف من حروف الرحمن؛ وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله به؛ وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة وقال عطاء وأبو العالية: هي النون من نصر وناصر؛ وقال محمد بن كعب: أقسم الله بنصره المؤمنين، وقيل اسم للسورة وقيل اسم للقرآن وقيل هو حرف من حروف الهجاء كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك، وقد اختاره المحلي حيث قال أحد حروف الهجاء؛ وأراد بذلك الرد على من قال أنه مقتطع من اسمه تعالى الرحمن أو النصير أو الناصر أو النور.
وقال النسفي: الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم؛ وأما قول الحسن أنه الدواة وقول ابن عباس أنه الحوت الذي عليه الأرض
_________
(١) هذا من المروي بغير تحقيق. رواه الطبري ٢٩/ ١٤ وأبو ظبيان قابوس وفيه لين كما قال ابن حجر في التقريب.
253
واسمه بهموت فمشكل سواء كان جنس أو إسم علم، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم انتهى وقد عرفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أول سورة البقرة.
(والقلم) الواو واو القسم أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان وهو واقع على كل قلم يكتب به في الأرض والسماء، وقال جماعة من المفسرين ومنهم المحلي المراد به القلم الذي كتب به الكائنات في اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيماً له، قال قتادة القلم من نعمة الله على عباده وعن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد " (١) أخرجه الترمذي وصححه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه.
وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً نحوه، وعن ابن عباس قال: " إن الله خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " أخرجه ابن جرير وابن المنذر، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه (٢).
وعن ابن عباس أن أول شيء خلقه الله القلم فقال الله له اكتب فقال: يا رب ما أكتب؟ فقال: اكتب القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ثم طوى الكتاب ورفع القلم وكان عرشه على الماء فارتفع بخار
_________
(١) زاد المسير، ٨/ ٣٢٧.
(٢) رواه ابن عساكر ١٧/ ٢٤٧/١ عن الحسن بن يحيي الخشني عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه بأطول منه، وتمامه: " ثم قال له: أكتب، قال: وما أكتب؟ قال: أكتب ما يكون - أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله: (ن والقلم وما يسطرون) ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصتك ممن أبغضت ". والحسن بن يحيي صدوق كثير الغلط كما قال الحافظ في " التقريب "، والحديث رواه أحمد في " المسند " ٥/ ٣١٧ من طرق عن الوليد بن عبادة عن أبيه عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وليس فيه ذكر النون في أوله ولا ذكر العقل في آخره، ورواه الترمذي ٢/ ١٦٢ بنحو رواية أحمد وقال: حديث حسن صحيح غريب، ورواه أيضاًً أبو داود في " سننه " رقم (٤٧٠٠) والطبري ٢٩/ ١٧ وهو حديث صحيح بهذا القدر.
254
الماء ففتقت منه السموات ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه والأرض على ظهر النون فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو الشيخ وغيرهم.
(وما يسطرون) ما موصولة والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره لأن ذكر آلة الكتابة تدل على الكاتب، والمعنى والذي يكتبون كل ما يكتب أو الحفظة الكاتبون على بني آدم قال ابن عباس يسطرون يكتبون، ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وسطرهم، وقيل الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إِسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء، وعن ابن عباس أيضاًً قال: (وما يسطرون) ما يعلمون.
255
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون) جواب القسم وما نافية أي انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال أنت بحمد الله عاقل، قيل الباء متعلقة بمضمر هو حال كأنه قيل أنت بريء من الجنون متلبساً بنعمة الله التي هي النبوة والرسالة العامة، وقيل الباء للقسم أي ما أنت ونعمة ربك بمجنون، وقيل النعمة هنا الرحمة، والآية رد على الكفار حيث قالوا (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون).
(وإن لك لأجراً) أي ثواباً على ما تحملت من أثقال النبوة وقاسيت من أنواع الشدائد (غير ممنون) أي غير مقطوع، يقال مننت الحبل إذا قطعته وقال مجاهد غير محسوب، وقال الحسن غير مكدر بالمن، وقال الضحاك أجراً بغير عمل وقيل غير مقدر، وقيل غير ممنون به عليك من جهة الناس، وقيل غير منقوص.
(وإنك لعلى خلق عظيم) قيل هو الإسلام والدين، حكاه الواحدي عن الأكثرين، قال الحفناوي أقسم أولاً بالقلم ثم بسطر الملائكة أو بمسطورهم، فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء نفي الجنون عنه وثبوت الأجر
255
له وكونه على دين الإسلام، وقيل هو القرآن، روي هذا عن الحسن والعوفي، وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله، قال الزجاج المعنى أنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن، وقيل هو لرفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقيل المعنى إنك على طبع كريم، قال الماوردي وهذا هو الظاهر وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب.
عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين " أخبريني بخلق رسول الله ﷺ قالت: كان خلقه القرآن " (١) أما تقرأ القرآن (إنك لعلى خلق عظيم)، أخرجه مسلم وابن المنذر والحاكم وغيرهم، وعنها قالت: " ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله (وإنك لعلى خلق عظيم) " أخرجه ابن مردويه وابن نعيم في الدلائل والواحدي.
وعن أبي الدرداء قال: " سئلت عائشة عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه " أخرجه البيهقي في الدلائل وابن مردويه وابن المنذر.
وعن أبي عبد الله الحدلي قال: " قلت لعائشة: كيف خلق رسول الله صلى
_________
(١) هو قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد في " مسنده " ٦/ ٥١، ٥٢، ورواه مسلم ١/ ٥١٢ بنحو حديث أحمد. ورواه الحاكم في " المستدرك " ٢/ ٤٩٩ مختصراً، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في " الدر " ٦/ ٢٥٠ مختصراً، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها. قال ابن كثير: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية له وخُلُقاً تطبعه وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء، والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق جميل.
256
الله عليه وسلم قالت: لم يكن فاحشاً ولا متفاحشاً ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويصفح ". أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن مردويه. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره وهو في كتب الشمائل والسير مستوفى.
257
(فستبصر ويبصرون) أي ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحق وانكشف الغطاء، وذلك يوم القيامة، قال ابن عباس: أي ستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل، وقيل في الدنيا بظهور عاقبة أمرك بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب، وهذا وعد له ووعيد لهم.
(بأيكم المفتون) قال الخطيب: ترسم بأيكم ههنا بيائين انتهى، والباء زائدة للتأكيد أي أيكم المفتون بالجنون كذا قال الأخفش وأبو عبيدة وغيرهما إلا أنه ضعيف من حيث أن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في بحسبك فقط، وقيل ليست الباء زائدة، والمفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور، والتقدير بأيكم الفتون أو الفتنة، وقال الفراء ومجاهد: إن الباء بمعنى في فهي ظرفية أي في أيكم الفتون في الفريق الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة بفي.
وقيل في الكلام حذف مضاف أي بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، روي هذا عن الأخفش أيضاًً تكون الباء سببية وقيل المفتون المعذب. من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ومنه قوله تعالى: (يوم هم على النار يفتنون) وقيل المفتون هو الشيطان، لأنه مفتون في دينه والمعنى بأيكم الشيطان، قال ابن عباس: كانوا يقولون إنه شيطان وإنه مجنون، وعنه قال: المفتون المجنون، وقال قتادة ومقاتل: هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر، والمعنى سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون.
257
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (١٤)
258
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) تعليل للجملة التي قبلها فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما، وتأكيد لما فيه من الوعد والوعيد، والمعنى هو أعلم بمن ضل عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين (وهو أعلم بالمهتدين) إلى سبيله الموصل إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة فهو مجاز كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
(فلا تطع المكذبين) الفاء لترتيب النهي على ما ينبىء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله عليه وآله وسلم وضلالهم، أو على جميع ما فصل من أول السورة، وهذا تهييج للتصميم على مباينتهم، نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين وهم رؤساء كفار مكة لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه الله عن طاعتهم، أو هو تعريض لغيره عن أن يطيع الكفار أو المراد بالطاعة مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير فنهاه الله عن ذلك كما يدل عليه قوله:
(ودّوا لو تدهن فيدهنون) فإن الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة، قال الفراء المعنى لو تلين فيلينوا لك، وكذا قال الكلبي وقال الضحاك والسدي ودوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر، وقال الربيع بن أنس ودوا لو تكذب فيكذبون، وقال قتادة لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك، وقال الحسن لو تصانعهم عن دينك فيصانعونك وقال مجاهد لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمايلونك، قال ابن قتيبة كانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا الله مدة، وقال ابن عباس لو ترخص لهم فيرخصون.
258
وقوله فيدهنون عطف على تدهن داخل في حيز لو أو هو خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون، قال سيبويه وزعم قالون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا بغير نون والنصب على جواب التمني المفهوم من " ودوا " والظاهر من اللغة في معنى الإدهان هو ما ذكرناه أولاً (١).
_________
(١) قال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ودَّ هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) قال: وإنما هو مأخوذ من الدُّهن، شبه التليين في القول بتليين الدُّهن.
259
(ولا تطع كل حلاف) أي كثير الحلف بالباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف (مهين) فعيل من المهانة وهي القلة في الرأي والتمييز، وقال مجاهد: هو الكذاب، وقال قتادة: المكثار في الشر، وكذا قال الحسن: وقيل هو الفاجر العاجز وقيل هو الحقير عند الله، وقيل هو الذليل، وقيل هو الوضيع.
وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال: قال مروان لما بايع الناس ليزيد: سنة أبي بكر وعمر، فقال: عبد الرحمن بن أبي بكر إنها ليست بسنة أبي بكر وعمر لكنها سنة هرقل، فقال مروان: هذا الذي أنزل فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) الآية. قال فسمعت ذلك عائشة فقالت: إنها لم تنزل في عبد الرحمن. ولكن نزل في أبيك (ولا تطع كل حلاف مهين) (١).
_________
(١) راجع دفاع عائشة هذا بالتفصيل في كتاب (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) مطبعة الإمام، وهو من النوادر وقد تم طباعة الكتاب في بيروت.
(هماز) هو المغتاب للناس، قال زيد هو الذي يهمز بأخيه، وقيل الهماز العياب، وقيل الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي
259
يذكرهم في مغيبهم، كذا قال أبو العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح، وقال مقاتل: عكس هذا، وقيل الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمز باللسان، وقيل الهمز كاللمز وزناً ومعنى وبابه ضرب، وهمزات الشيطان خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان.
(مشّاء بنميم) هو الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، يقال نم ينم إذا سعى بالفساد بين الناس، وقيل النميم جمع نميمة أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم (١).
_________
(١) وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رسول الله ﷺ بقبرين، فقال: " إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ". وفي " الصحيحين " أيضاًً من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لا يدخل الجنة قتان " أي: نمام، كما في رواية أخرى لمسلم.
260
(مناع للخير) أي بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه، وقيل هو الذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام، قال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا أنفعه بشيء أبداً (معتد) أي متجاوز الحد في الظلم (١) (أثيم) كثير الآثام.
_________
(١) في " الصحيحين " عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأهل الجنة، كل ضعيف متضعّف لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أنبئكم بأهل النار كل عُتلّ جَوَّاظ مستكبر ". والجوَّاظ: الجموع المنوع.
(عتل) قال الواحدي: المفسرون يقولون هو الشديد الخلق الفاحش الخلق وقال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل، وقال الزجاج: هو الغليظ الجافي في الطبع من عتله إذا قاده بعنف وغلظة، وقال الليث: هو الأكول المنوع، وقيل قاسي القلب وقيل الذي يعتل الناس أي يحملهم ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضرب، ومنه (خذوه فاعتلوه) وقيل هو الفاحش اللئيم.
260
(بعد ذلك زنيم) أي هو بعد ما عد من معايبه ومثالبه الثمانية دعيٌّ ملصق مستلحق بالقوم، وليس هو منهم، مأخوذ من الزنمة المتدلية في حلق الشاة أو الماعز، وقال سعيد بن جبير: الزنيم المعروف بالشر وقيل هو رجل من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة. وقيل هو الظلوم، وقال ابن عباس: له زنمة كزنمة الشاة والعتل هو الدعي والزنيم هو المريب الذي يعرف بالشر وعنه قال: الزنيم الدعي وعنه الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وعنه قال هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء، وقال: أيضاًً الزنيم الظلوم.
وهذه البعدية في الرتبة لا في الخارج، قال الشهاب فبعد هنا كثم للتراخي في الرتبة قال أبو السعود وفيه دلالة على أن دعوته أشد معايبه وأقبح قبائحه؛ وقد قيل أن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق لأنه حليف ملحق في بني زهرة؛ وقيل في الوليد بن المغيرة وبه قال الجمهور، وقيل في أبي جهل بن هشام، وقيل في الأسود ابن عَبْد يغوث، قاله ابن عباس.
261
(أن كان ذا مال وبنين) متعلق بقوله تعالى: (ولا تطع) أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولاً مستظهراً بالبنين، قاله الفراء والزجاج، وقيل متعلق بما دل عليه جملة
(إذا تتلى) من معنى الجحود والتكذيب لا يقال الذي هو جواب الشرط لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله كأنه قيل لكونه مستظهراً بالمال والبنين كذب بآياتنا، وفيه أنه يدل على أن مدار تكذيبه كونه ذا مال وبنين من غير أن يكون لسائر قبائحه دخل في ذلك.
قرىء أن كان بهمزة واحدة على الخبر وقرىء بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام؛ والمراد به التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم التي خوَّله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله، وقرىء بهمزتين مخففتين وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط وجوابه مقدر أي إن كان كذا يكفر وبحد دل عليه ما بعده.
261
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢)
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) أي القرآن (قال) هي (أساطير) أي أكذوبة (الأولين) والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي.
262
(سنسمه على الخرطوم) أي سنكويه بالكي على أنفه مهانة له وعلامة يعير بها ما عاش، قال أبو عبيدة وأبو زيد والمبرد: الخرطوم الأنف وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع؛ وفي التعبير عن الأنف بالخرطوم استهجان واستهزاء باللعين، لأن الخرطوم أنف السباع وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير، وفي القاموس الخرطوم كزنبور الأنف أو مقدمه أو ما ضممت عليه الحنكين كالخرطم كقنفذ. وفي السمين هو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل باسم الجزء لأنه أظهر ما فيه وأعلاه، والأول أولى، وقد جرح أنف هذا اللعين يوم بدر فبقى أثر الجرح في أنفه بقية عمره.
وقال مقاتل سنسمه بالسواد على الأنف وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم، وقال قتادة: سنلحق به شيئاًً لا يفارقه. واختار هذا ابن قتيبة قال: والعرب تقول قد وسمه ميسم سوء يكون ألصق به عاراً لا يفارقه فالمعنى أن الله ألحق به عاراً لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وقيل معنى سنسمه سنحطمه بالسيف وقال النضر بن شميل: المعنى سنجده على شرب الخمر وقد يسمى الخمر بالخرطوم ومنه قول الشاعر:
(إنا بلوناهم) يعني كفار مكة فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة
262
رسول الله ﷺ حتى أكلوا الجيف والرمم، والابتلاء الاختبار، والمعنى أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا فلما بطروا وعادوا محمداً ﷺ ابتليناهم ابتلاء.
(كما بلونا أصحاب الجنة) المعروف خبرهم عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدي حق الله منها فمات وصارت إلى أولاده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، قال الواحدي هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظاً للمساكين عند الحصاد والصرام، فقالت بنوه المال قليل والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه (١).
وقال الحسن: كانوا كفاراً قال النسفي: والجمهور على الأول، وقال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان، ابتلاهم الله بأن حرق جنتهم وقيل هي جنة كانت بصروان وصروان بالصاد المهملة على فراسخ من صنعاء وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بزمن يسير، قاله الزوقاني: في شرح المواهب، وذكره القرطبي أيضاًً ومثله في حواشي البيضاوي، وقال ابن عباس: هم ناس من أهل الحبشة كان لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات أبوهم فقال بنوه: إن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين.
_________
(١) ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمناً. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليهما السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدِّراس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاث بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدُنَّ قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك قوله تعالى: (إذا أقسموا) أي: حلفوا (ليصرمُنها) أي: ليقطعن نخلهم (مصبحين) أي: في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء.
263
(إذ أقسموا) أي حلف معظمهم إلا الأوسط قال لهم لا تفعلوا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنعه أبوكم، قال البقاعي وكأنه تعالى طواه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاًً.
(ليصرمنها مصبحين) أي ليقطعنها داخلين في وقت الصباح قبل انتشار الفقراء، والصرام القطع للثمر والزرع، يقال صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل أي حان وقت صرامه، والانصرام الانقطاع والتصارم التقاطع والتصرم التقطع، وإذ تعليلية أو ظرفية بنوع تسمح لأن الإقسام كان قبل ابتلائهم، وليصرمنها جواب القسم.
264
(ولا يستثنون) يعني ولا يقولون إن شاء الله وسمي استثناء وهو الشرط لأن معنى لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد قاله الزمخشري، وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم أو حال، وقيل المعنى ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إليهم قاله عكرمة، وقيل المعنى لا يثنون عزمهم عن الحرمان.
(فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) أي فنزل على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه أي هلاك أو بلاء في حال نومهم، والطائف غلب في الشر، قال الفراء هو الأمر الذي يأتي ليلاً ورد عليه بقوله تعالى: (إذا مسهم طائف من الشيطان) وذلك لا يختص بليل ولا نهار، وقرىء طيف، والطائف قيل هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء كذا قال مقاتل، وقيل الطائف جبريل اقتلعها، وقال ابن عباس طائف أي أمر من الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: " قال رسول الله ﷺ إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له ثم تلا رسول الله ﷺ فطاف عليها الآية قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ".
وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على
264
أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم، ونظيره قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " (١) وهذا محمول على العزم المصمم. وأما ما يخطر بالبال من غير عزم فلا يؤاخذ به قاله القرطبي.
_________
(١) صحيح الجامع/٣٨٠.
265
(فأصبحت كالصريم) فعيل بمعنى مفعول أي صارت كالشيء الذي صرمت ثماره أي قطعت. وقال الفراء: كالصريم كالليل المظلم، والمعنى أنها حرقت فصارت كالليل الأسود قال: والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة، وقال الأخفش أي كالصبح الصريم من الليل يعني أنها يبست وابيضت بلا شجر، وقال المبرد: الصريم الليل والصريم النهار أي ينصرم هذا عن هذا وذاك عن هذا، وقيل سمي الليل صريماً لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، وقال المؤرج: الصريم الرملة لأنها لا ينبت عليها شيء ينتفع به، وقال الحسن: صرم منها الخير أي قطع.
(فتنادوا مصبحين) أي نادى بعضهم بعضاً داخلين في الصباح معطوف على أقسموا، وما بينهما اعتراض لبيان ما نزل بتلك الجنة، قال مقاتل لما أصبحوا قال بعضهم لبعض
(أن اغدوا) أن هي المفسرة لأن في التنادي معنى القول أو هي المصدرية أي بأن اغدوا والمراد أخرجوا غدوة.
(على حرثكم) وأقبلوا عليه باكرين، والغدو يتعدى بإلى وعلى فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل، والمراد بالحرث الثمار والزرع والعنب (إن كنتم صارمين) أي قاصدين للصرم، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم مريدين صرامه فاغدوا، وقيل معنى صارمين ماضين في العزم من قولك سيف صارم.
265
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١)
266
(فانطلقوا) أي ذهبوا إلى جنتهم (وهم يتخافتون) أي يسرون الكلام بينهم لئلا يعلم أحد بهم، يقال خفت يخفت إذا سكن ولم ينبس، قال ابن عباس الخفت الإسرار والكلام الخفي، وقيل المعنى يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد، والأول أولى لقوله:
(أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) فإن " أن " هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول، والمعنى يسر بعضهم إلى بعض هذا القول وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم، وأوقع النهي على دخول المساكين لأنه أبلغ لأن دخولهم أعم من أن يكون بإدخالهم أو بدونه.
(وغدوا) أي ساروا إليها غدوة (على حرد) الحرد يكون بمعنى المنع والغضب والقصد، قال قتادة ومقاتل والكلبي والحسن ومجاهد: الحرد هنا بمعنى القصد لأن القاصد إلى الشيء حارد، يقال حرد يحرد إذا قصد تقول حردت حردك أي قصدت قصدك وبابه ضرب، وقال أبو نصر صاحب الأصمعي: هو مخفف فعلى هذا بابه فهم، وقال ابن السكيت: وقد يحرك فعلى هذا بابه طرب فهو حارد وحردان انتهى، وقال أبو عبيدة والمبرد
266
والقتيبي: على حرد على منع من قولهم حردت الإبل حرداً إذا قلت ألبانها، والحرود من النوق هي القليلة اللبن، وقال السدي وسفيان والشعبي: على حرد على غضب، وعن قتادة ومجاهد أيضاًً: على حرد على حسد، وقال الحسن أيضاًً: على حاجة وفاقة، وقيل على حرد على انفراد يقال حرد يحرد حرداً وحروداً إذا تنحى عن قومه ونزل منفرداً عنهم ولم يخالطهم. وبه قال الأصمعي وغيره. وقد فسرت الآية الكريمة بجميع ما ذكرت، وقال الأزهري " حرد " اسم قريتهم، وقال السدي اسم جنتهم، قرأ الجمهور حرد بسكون الراء وقرىء بفتحها.
قال الفراء ومعنى (قادرين) قد قدروا أمرهم وبنوا عليه في ظنهم، وأما في الواقع فليس كذلك لهلاك الثمر عليهم وعلى الفقراء، ففي نفس الأمر لم يمنعوهم منه، وقال قتادة قادرين على جنتهم عند أنفسهم، وقال الشعبي يعني قادرين على المساكين. وقال ابن عباس ذوو قدرة أو من التقدير، وهو التضييق أي مضيقين على المساكين.
267
(فلما رأوها) أي جنتهم وشاهدوا ما قد حل بها من الآفة التي أذهبت ما فيها (قالوا إنا لضالون) أي قال بعضهم لبعض بديهة وصولهم قبل التأمل قد ضللنا طريق جنتنا وليست هذه، قال ابن عباس: أي أضللنا مكان جنتنا وقيل معنى قولهم:
(إنا لضالون) أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم، ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا مضربين إضراباً إبطالياً لكونهم ضالين.
(بل نحن محرومون) أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها، فأضربوا عن قولهم الأول إلى هذا القول، قيل إن الحق الذي منعه أصحاب الجنة والمساكين يحتمل أنه كان واجباً عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعاً والأول أظهر، والله أعلم.
(قال أوسطهم) أي أمثلهم وأعقلهم وخيرهم رأياً وعقلاً ونفساً، وقال ابن عباس: أعدلهم وقيل أفضلهم فأنكر عليهم بقوله (ألم أقل لكم) إن ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله لبالمرصاد لمن حاد وغير ما في نفسه.
(لولا تسبحون) أي هلا تستثنون، وسمى الاستثناء تسبيحاً لأنه تعظيم لله وإقرار به، وهذا يدل على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه، وقال مجاهد وأبو صالح وغيرهما: كان استثناؤهم تسبيحاً، قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله لأنه ينزه عن أن يجري في ملكه ما لا يريده، وقيل المعنى هلا تستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها، وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك. وقيل المعنى هلا تتركون شيئاًً للمساكين من ثمر جنتكم والأول أولى.
فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم للجنة على تلك الحالة
(قالوا سبحان ربنا) أي تنزيهاً له عن أن يكون ظالماً فيما صنع بجنتنا، ثم أكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وتحقيقاً لتوبتهم بقوله (إنا كنا ظالمين) أي إن ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه، قيل معنى تسبيحهم الاستغفار أي نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين.
(فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) أي يلوم بعضهم بعضاً في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك، يقول هذا لهذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك لهذا أنت خوفتنا الفقر، ويقول الثالث لغيره أنت رغبتني في جمع المال، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث:
(قالوا يا ويلنا) هذا وقت حضورك إلينا ومنادمتك لنا فإنه لا نديم لنا الآن غيرك (إنا كنا طاغين) أي عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء، قال ابن كيسان أي طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل.
268
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧)
ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم بخير منها فقالوا
269
(عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها) قيل إنهم تعاقدوا فيما بينهم وقالوا إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها بأن أمر الله جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام ويأخذ من الشام جنة فيجعلها بمكانها، قرأ الجمهور يبدلنا بالتخفيف وقرىء بالتشديد وهما لغتان وقراءتان سبعيتان، والتبديل تغيير ذات الشيء أو تغيير صفته، والإبدال رفع الشيء جملة ووضع آخر مكانه كما مضى في سورة سبأ.
(إنا إلى ربنا راغبون) أي طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه وعدّى بإلى وهو إنما يتعدى بعن أو بفي لتضمينه معنى الرجوع.
عن ابن مسعود بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً واحداً، وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت فيها كل عنقود منها كالرجل القائم الأسود، قال الحسن قول أهل الجنة:
(إنا إلى ربنا راغبون) لا أدري أكان إيماناً منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة، فتوقف في كونهم مؤمنين، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار قال لقد كلفتني تعباً، والمعظم يقولون إنهم تابوا وأخلصوا، حكاه القشيري.
(كذلك العذاب) أي مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم (ولعذاب الآخرة أكبر) أي أشد
269
وأعظم من عذاب الدنيا (لو كانوا) أي المشركون (يعلمون) أنه كذلك ولكنهم لا يعلمون.
ولما فرغ سبحانه من ذكر حال الكفار وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة ذكر حال المتقين وما أعده لهم من الخير فقال:
270
(إن للمتقين) ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي (عند ربهم) عز وجل في الدار الآخرة (جنات النعيم) الخالص الذي لا يشوبه كدر ولا ينغصه خوف زوال كما يشوب جنات الدنيا.
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين) الاستفهام للتقريع والتوبيخ للكفار على هذا القول الذي قالوه وقد وبخوا وقرعوا باستفهامات سبعة أولها هذا، والسابع (أم لهم شركاء) والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين، وكأن العبارة مقلوبة والأصل أفنجعل المجرمين كالمسلمين لأنهم جعلوا أنفسهم كالمسلمين بل أفضل لأنه كان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها فلما سمعوا بذكر الآخرة وما يعطي الله المسلمين فيها قالوا إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، فقال الله مكذباً لهم راداً عليهم (أفنجعل) الآية والمعنى أفنجعل المجرمين مساوين للمسلمين في العطاء، لا، كما ذكر في آية أخرى (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) قاله علي القاري، وبعد ذلك ليس في الآية إلا نفي المساواة، والكفار ادعوا الأفضلية أو المساواة إلا أن يقال إذا انتفت المساواة انتفت الأفضلية بالأولى.
ثم قال سبحانه على طريقة الالتفات
(ما لكم كيف تحكمون) هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم تحكمون فيه بما شئتم
(أم لكم كتاب فيه تدرسون) أي تقرأون فيه فتجدون المطيع كالعاصي، ومثل هذا قوله تعالى: (أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم) ثم قال سبحانه (إن) قرأ الجمهور بالكسر على أنها معمولة لتدرسون أي تدرسون في الكتاب.
270
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)
271
(إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) فلما دخلت اللام كسرت الهمزة أو على الحكاية للمدروس، وقيل قد تم الكلام عند قوله (تدرسون) ثم ابتدأ فقال إن لكم الخ أي ليس لكم ذلك، وقرىء بفتح أن على العامل فيه تدرسون مع زيادة لام التأكيد، ومعنى تخيرون تختارون وتشتهون.
ثم زاد سبحانه في التوبيخ فقال
(أم لكم أيمان علينا بالغة) أي عهود مؤكدة بالأيمان موثقة متناهية إذ العهد كلام مؤكد بالقسم فأطلق الجزء وأريد الكل والمعنى أم لكم أيمان على الله استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة ثابتة لكم (إلى يوم القيامة) لا يخرج عن عهدتها حتى يحكمكم يومئذ، قرأ الجمهور (بالغة) بالرفع على النعت لأيمان وقرىء بنصبها على الحال من أيمان لأنها قد تخصصت بالعمل أو بالوصف أو من الضمير في لكم أو في علينا، وجواب القسم قوله:
(إن لكم لما تحكمون) به لأنفسكم لأن معنى أم لكم أيمان أم أقسمنا لكم، وقيل قد تم الكلام عند قوله (إلى يوم القيامة) ثم ابتدأ فقال إن لكم الخ أي ليس الأمر كذلك.
(سلهم) موبخاً لهم ومقرعاً (أيهم بذلك) الحكم الخارج عن الصواب (زعيم) أي كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها، وقال ابن كيسان الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى، وقال الحسن الزعيم الرسول.
(أم لهم شركاء) غيرهم يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم فيه،
271
ويذهبون مذهبهم فيه وقيل معناه شهداء يشهدون بصدق ما ادعوه، وقيل المراد بهم الأصنام والأول أولى وأظهر، وقيل المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة.
(فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) فيما يقولون إذ لا أقل من التقليد وهو أمر تعجيز، وجواب الشرط محذوف، قال القاضي وقد نبه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به لدعواهم من عقل أو نقل أو وعد أو محض تقليد على الترتيب تنبيهاً على مراتب النظر وتزييفاً لما لا سند له.
272
(يوم) ظرف لقوله فليأتوا أي فليأتوا بها يوم (يكشف عن ساق) ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل مقدر أي اذكر يوم يكشف، قال الواحدي: قال المفسرون: في قوله (عن ساق) عن شدة من الأمر وصعوبة الخطب، قال ابن قتيبة: أصل هذا إن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه فيستعار الكشف عن الساق في موضع الشدة قال:
وتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق، قال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والأمر قيل كشف الأمر عن ساقه والأصل فيه من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدة وهكذا قال غيره من أهل اللغة، وقد استعملت ذلك العرب في أشعارها وكثر في كلامهم حتى صار كالمثل للأمر العظيم الشديد فهذا التركيب من قبيل الكناية أو الاستعارة التمثيلية.
قال الزمخشري الكشف عن الساق والإبداء عن الحزام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وقيل ساق الشيء أصله وقوامه كساق الشجرة وساق الإنسان أي يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه، وقيل يكشف عن ساق جهنم، وقيل عن ساق العرش، وقيل هو عبارة عن القرب، وقيل يكشف عن ساق الرب سبحانه عن نوره.
272
وقال النسفي: لا كشف ثمة ولا ساق ولكن كني به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق، وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده انتهى وسيأتي ما هو الحق، قرأ الجمهور يكشف بالتحتية مبنياً للمفعول، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بالفوقية مبنياً للفاعل أي الشدة أو الساعة، وقرىء بالفوقية مبنياً للمفعول وقرىء بالنون وقرىء بالفوقية المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر أي دخل في الكشف.
عن أبي هريرة في الآية قال " يكشف الله عز وجل عن ساقه " (١)، وعن ابن مسعود قال " يكشف عن ساقه تبارك وتعالى "، وعن ابن عباس قال يكشف عن أمر عظيم، وقال: قال ابن مسعود يكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن ويقسو ظهر الكافر فيصير عظماً واحداً.
وعن ابن عباس أنه سئل عن قوله يوم يكشف عن ساق، قال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
قال ابن عباس هذا يوم كرب شديد، وروي عنه نحو هذا من طرق أخرى وعنه هو أشد ساعة يوم القيامة وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً
_________
(١) هو جزء من حديث طويل مشهور في البخاري ١٣/ ٣٥٩ ومسلم ١/ ١٦٨ ورواه البخاري مختصر ٨/ ٥٠٨ ونصه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً ".
273
واحداً " وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ في بعضها طول وهو حديث مشهور معروف.
وعن أبي موسى عن النبي ﷺ في الآية " قال عن نور عظيم فيخرون له سجداً " أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وضعفه، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً فليس كمثله شيء.
تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شراب الخراطيم
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
وهكذا تهيب القول فيه شيوخ الإسلام فأجروه على ظاهر لفظه، ولم يكشفوا عن باطن معناه، والتأويل هو مذهب المتكلمين ومنهم النسفي في المدارك والبيضاوى في أنوار التنزيل.
قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث في كتابه حجة الله البالغة واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث وسموهم مجسمة ومشبهة وقالوا هم المستترون بالبلكفة (١) وقد وضح عليّ وضوحاً بيناً أن استطالتهم هذه ليست بشيء وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى.
(ويدعون إلى السجود) قال الواحدي قال المفسرون يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا (فلا يستطيعون) لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود، وقال الربيع ابن أنس: يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا، والدعاء إلى السجود يكون امتحاناً لإيمانهم لا تكليفاً بالسجود إذ تلك الدار ليسمت دار تكليف:
_________
(١) أي قولهم " بلا كيف ".
274
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
275
(خاشعة أبصارهم) حال من ضمير يدعون ونسبة الخشوع إلى الأبصار وهو الخضوع والذلة لظهور أثره فيها (ترهقهم) أي تغشاهم (ذلة) شديدة وحسرة وندامة وصغار (وقد كانوا) في الدنيا (يدعون إلى السجود) دعوة تكليف.
(وهم سالمون) أي معافون من العلل متمكنون من الفعل فلا يجيبون، قال إبراهيم التيمي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون؛ وقال سعيد ابن جبير: يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون، قال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقال ابن عباس: هم الكفار يدعون في الدنيا وهم آمنون فاليوم يدعون وهم خائفون. وعنه قال: الرجل يسمع الأذان فلا يجيب الصلاة. أخرجه البيهقي في الشعب.
(فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) تسلية لرسول الله ﷺ وتهديد لهم. أي خل بيني وبينه وكل أمره إلي فأنا أكفيكه. قال الزجاج: معناه لا تشغل به قلبك بل كله إليّ فأنا أكفيك أمره. والفاء لترتيب ما بعدها من الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية، والمراد بالحديث القرآن قاله السدي. وقيل يوم القيامة.
(سنستدرجهم) مستأنفة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله فذرني الخ.. والضمير عائد إلى (من) باعتبار معناها والمعنى سنأخذهم بالعذاب على غفلة ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه (من حيث لا يعلمون) أن ذلك استدراج لأنهم يظنونه إنعاماً ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته.
275
قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر، وقال الحسن: من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه، والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال، ويقال استدرج فلان فلاناً أي استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال درجه إلى كذا واستدرجه يعني أدناه إلى التدريج فتدرج هو، ومعنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يسمى الله سبحانه كائداً وماكراً ومستدرجاً.
ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين فقال:
276
(وأملي لهم) أي أمهلهم ليزدادوا إثماً، وقد مضى تفسير هذا في سورة الأعراف والطور، وأصل الملاوة المدة من الدهر، يقال أملى الله له أي أطال له المدة والملا مقصوراً الأرض الواسعة سميت به لامتدادها (إن كيدي متين) أي قوي شديد فلا يفوتني شيء، وسمى سبحانه إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته، ووصفه بالمتانة لقوة أثره في التسبب للهلاك.
(أم تسألهم أجراً) أعاد سبحانه الكلام إلى ما تقدم من قوله أم لهم شركاء أي أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله (فهم من مغرم) المغرم الغرامة أي فهم من غرامة ذلك الأجر (مثقلون) أي يثقل عليهم حمله لشحهم ببذل المال فأعرضوا عن إجابتك لهذا السبب، والاستفهام للتقريع والتوبيخ لهم، والمعنى أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم.
(أم عندهم الغيب) أي اللوح المحفوظ عند الجمهور أو كل ما غاب عنهم (فهم) من ذلك الغيب (يكتبون) ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ويستغنون بذلك عن الإجابة لك والامتثال لما تقوله.
276
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٥٢)
277
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي لقضائه الذي قد قضاه في سابق علمه، وقيل الحكم هنا هو إمهالهم وتأخير نصرة رسول الله ﷺ عليهم. لأنهم إن أمهلوا لم يهملوا، وقيل هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة قيل وهذا منسوخ بآية السيف.
(ولا تكن كصاحب الحوت) يعني يونس عليه السلام أي لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة حتى لا تبتلي ببلائه (إذ نادى) أي لا يكن حالك كحاله أو قصتك كقصته في وقت ندائه، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصب عليها النهي، وإنما ينصب على أحوالها وصفاتها (وهو مكظوم) مملوء غيظاً وكرباً، وقيل غماً، قال الماوردي والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس.
قال قتادة: إن الله يعزي نبيه ﷺ ويأمره بالصبر وأن لا يعجل كما عجل صاحب الحوت، وقد تقدم بيان قصته في سورة الأنبياء ويونس والصافات، وكان النداء منه بقوله: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وقيل إن المكظوم المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المبرد، وقيل هو المحبوس، والكظم الحبس، ومنه قولهم فلان يكظم غيظه أي يحبس غضبه، قاله ابن بحر. والأول أولى، والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء لأنه أمر مستحسن.
(لولا أن تداركه) أي صاحب الحوت (نعمة من ربه) وهي توفيقه للتوبة فتاب الله عليه قال الضحاك: إن النعمة هنا النبوة، وقال سعيد بن
277
جبير: عبادته التي سلفت، وقال ابن زيد: هي نداؤه بقوله لا إله إلا أنت، وقيل إخراجه من بطن الحوت، قاله ابن بحر. وقيل الرحمة.
قرأ الجمهور تداركه على صيغة الماضي، وقرىء بتشديد الدال وهو مضارع أدغمت التاء في الدالى، والأصل تتداركه بتاءين، وهذه على حكاية الحال الماضية، وقرىء تداركته بتاء التأنيث وهو خلاف المرسوم، وتداركه فعل ماضٍ مذكر حمل على معنى النعمة لأن تأنيث النعمة غير حقيقي، وتداركته على لفظها.
(لنبذ بالعراء) أي لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات والأشجار والجبال (وهو مذموم) أي يذم ويلام بالذنب الذي أذنبه ويطرد من الرحمة، وقيل مذموم مبعد من كل خير، وقيل مذنب وقيل معاتب، قال الرازي: مذموم على كونه فاعلاً للذنب، قال: والجواب أن كلمة لولا دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل أو المراد منه ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله تعالى:
278
(فاجتباه ربه) أي استخلصه واصطفاه لدعائه وعذره واختاره لنبوته، وهذا مبني على أنه وقت هذه الواقعة لم يكن نبياً، وإنما نبىء بعدها وهو أحد قولين للمفسرين، والثاني أنه كان نبياً ومعنى اجتباه أنه رد عليه الوحي بعد أن كان قد انقطع عنه (فجعله من الصالحين) أي من الكاملين في الصلاح وعصمه من الذنب، وقيل رد إليه النبوة وشفعه في نفسه وفي قومه وقبل توبته وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بسبب صبره كما تقدم.
(وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك) أي ينفذونك قاله ابن عباس، وإن هي المخففة من الثقيلة، قرأ الجمهور بضم الياء من أزلقه أي أزل رجله، يقال أزلقه عن موضعه إذا نحاه، وقرأ نافع وأهل المدينة بفتحها من زلق عن موضعه إذا تنحى وهما سبعيتان، قال الهروي أي يغتالونك بعيونهم فيزلقونك عن مكانك الذي أقامك الله فيه عداوة لك، وقرأ ابن عباس
278
وابن مسعود وغيرهما ليرهقونك أي يهلكونك، وقال الكلبي: يزلقونك أي يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة وكذا قال السدي وسعيد بن جبير: وقال النضر بن شميل والأخفش: يفتنونك، وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك.
(بأبصارهم) أي ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد أن يصرعك ويسقطك عن مكانك والباء إما للتعدية كالداخلة على الآلة أي جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك كما تقول عملت بالقدوم، وإما للسببية أي بسبب عيونهم، قال الزجاج: في الآية مذهب أهل اللغة والتأويل أنهم من شدة إبغاضهم وعداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في الكلام يقول القائل نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ونظراً يكاد يأكلني، قال ابن قتيبة: ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك كما قال الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في مجلس نظراً يزيل مواطىء الأقدام
وقيل: " أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش المجربة إصابتهم فعصمه الله وحماه من أعينهم فلم تؤثر فيه فنزلت هذه الآية "؛ وذكر الماوردي أن العين كانت في بني أسد من العرب؛ وفيه دليل على أن العين حق، وقد رواه أبو هريرة عنه ﷺ بهذا اللفظ والحديث متفق عليه (١).
_________
(١) قال ابن كثير: وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة. وقد روى مسلم في " صحيحه " ٤/ ١٧١٩ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: " العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا ".
وروى البخاري وأصحاب " السنن " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ يعوِّذ الحسن والحسين يقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامَّة ".
279
وأخذ بظاهر الحديث جماهير العلماء وقالوا إنه حق وإنه ليدخل الرجل القبر والجمل القدر؛ وأنكره طوائف من المبتدعة ولا اعتداد بهم بعد ما ورد في كلام النبوة وصح. قال الحسن: رقية العين هذه الآية (١).
(لما سمعوا الذكر) أي وقت سماعهم القرآن لكراهتهم لذلك أشد كراهة، ولما ظرفية منصوبة بيزلقونك. وقيل هي حرف وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك (ويقولون) حسداً وتنفيراً عنه (إنه لمجنون) أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن. فرد الله عليهم بقوله:
_________
(١) زاد المسير ٨/ ٣٤٤.
280
(وما هو إلا ذكر للعالمين) لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلاً وأمتنهم رأياً، والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال من فاعل يقولون أي والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه أو شرف لهم كما قال سبحانه (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقيل الضمير لرسول الله ﷺ وأنه مذكر للعالمين أو شرف لهم.
280
سورة الحاقة
(هي إحدى أو اثنتان وخمسون آية وهي مكية)
قال القرطبي في قول الجميع قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله وعن أبي هريرة " أن النبي - ﷺ - كان يقرأ في الفجر بالحاقة ونحوها " أخرجه الطبراني.
281

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤)
283
Icon