بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرمكية بالاتفاق والإجماع كما قال القرطبي. وعن ابن عباس وابن الزبير مثله. وهي تسع وتسعون آية. والحجر واد بين المدينة والشام.
ﰡ
(وقرآن مبين) أي الكامل الظاهر رشده وهداه وخيره وتنكير القرآن للتفخيم
قال الكوفيون: أي يود الكفار في أوقات كثيرة، وقيل هي هنا للتقليل لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب، وقيل إن هذا التقليل أبلغ في التهديد فإن الأهوال تدهشهم فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وقيل معناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً لك عن الفعل؛ فكيف بكثيره.
(لو كانوا مسلمين) أي منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله، وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة، والمراد أنه لما انكشف لهم الأمر واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر، وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره، حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل هي لمجرد التحسر والتندم ولوم النفس على ما فرطت في جنب الله.
وقيل كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين، وقيل عند خروج عصاة الموحدين من النار، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم، ولو مصدرية أو امتناعية وجوابها محذوف أي لسروا بذلك أو تخلصوا مما هم فيه والأول أولى.
والتعبير عن متمناهم بالغيبة نظراً للإخبار عنهم، ولو نظر لصدوره منهم لقيل لو كنا.
عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي ﷺ قالوا: ود المشركون يوم بدر حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود قال: هذا في الجهنمين إذا رأوهم يخرجون من النار.
وعن ابن عباس قال: لا يزال الله يشفع ويدخل ويشفع ويرحم حتى يقول: من كان مسلماً فليدخل الجنة، فذلك قوله ربما يود الذين كفروا.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند قال السيوطي صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن ناساً من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم، فلا يبقى أحد إلا أخرجه الله من النار. ثم قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية " وفي الباب أحاديث مرفوعة عن جمع من الصحابة في تعيين هذا السبب في نزول هذه الآية.
(ويلههم الأمل) أي يشغلهم طول الأمل والعمر وبلوغ الوطر واستقامة الحال عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى، يقال ألهاه كذا أي شغله ولهى هو
(فسوف يعلمون) عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم، وفيه من التهديد والزجر ما لا يقادر قدره وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين، قال بعض أهل العلم ذرهم تهديد، وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين.
قال عليّ بن أبي طالب: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن الأول ينسي الآخرة والثاني يصد عن الحق.
أحدها: وهو الظاهر أنها واو الحال.
والثاني: أنها مزيدة.
الثالث: أنها داخلة على الجملة الواقعة صفية تأكيداً، وبه قال الزمخشري.
وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ولذلك حذف الحار والمجرور، والجملة مبينة لما قبلها فكأنه قيل إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العقلاء فإن لكل أمة وقتا معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر، وقال الزهري: نرى أنه إذا حضره أجله فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدم، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما يشاء ويقدم ما يشاء.
قلت وكلام الزهري هذا لا حاصل له ولا مفاد فيه، وقد تقدم تفسير الأجل في أول سورة الأنعام.
ثم لما فرغ من تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوهم في الكفر وتماديهم في الغيّ مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب فقال:
(تأتينا بالملائكة) ليشهدوا على صدقك، وقيل المعنى لوما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك (إن كنت من الصادقين) في قولك وادعائك الرسالة والحاصل أنهم قالوا مقالتين تعنتا، الأولى يا أيها الذي إلخ، والثانية لو ما تأتينا فقال الله سبحانه مجيباً على الكفار لما طلبوا إتيان الملائكة إليهم وراداً عليهم المقالتين على سبيل اللف والنشر المشوش.
(وما كانوا إذاً منظرين) قال السدي: أي وما كانوا لو نزلت الملائكة منظرين من أن يعذبوا فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة.
قال صاحب النظم إذن مركبة من إذ وإن وهي اسم بمنزلة حين ثم ضم إليها أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن، ومجيء لفظة إن دليل على إضمار فعل بعدما، والتقدير وما كانوا إذ كان ما طلبوا.
ثم أنكر سبحانه على الكفار استهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم المذكور فقال سبحانه
وهذا مختص بالكتاب العزيز بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها تلك الأشياء، ولما تولى الله حفظ ذلك الكتاب بقي مصوناً على الأبد محروساً من الزيادة والنقصان وغيرهما، وفيه دليل على أنه منزل من عنده آية إذ لو كان من البشر لتطرق إليه الزيادة والنقصان كما يتطرق إلى كل كلام سواه. وقيل المعنى نزله محفوظاً من الشياطين. وقيل حفظه بأن جعله معجزة باقية إلى آخر الدهر، وقيل حفظه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارض ولو بأقصر آية.
وقيل أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض له العلماء الراسخين يحفظونه ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله ومن أسباب حفظه حدوث العلوم الكثيرة الآلية التي تذب عن الدخول في أبواب إفساده وإبطاله وتحريفه وتصحيفه وزيادته ونقصانه كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الحديث والفقه والتفسير وغير ذلك مما له مدخل في هذا الشأن.
وأخرج مسلم عن عياض عن النبي ﷺ عن ربه تعالى " نزلت عليك قرآناً لا يغسله الماء " (١).
_________
(١) مسلم ٢٨٦٥.
وأيضاً في الآية وعيد شديد للمكذبين به المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الضمير في له لرسول الله ﷺ والأول أولى بالمقام. قال الخطابي: إنما لم يجمع رسول الله ﷺ القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه وتلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ﷺ ألهم الله تعالى الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر رضي الله عنه، انتهى. ذكره السيوطي في الإتقان، وقد بسطنا الكلام على جمع القرآن في رسالتنا المسماة بالأكسير في أصول التفسير فليرجع إليه. ثم ذكر سبحانه أن عادة أمثال هؤلاء الكفار مع أنبيائهم كذلك تسلية لرسول الله ﷺ فقال:
قال الفراء: الشيع الأمة التابعة بعضهم بعضاً فيما يجمعون عليه، وأصله من شاعه إذا تبعه، وهم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم، وشيعة الرجل أتباعه، وقيل الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.
وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ولم يعاند، قال الواحدي: أضاف الله سبحانه إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار وحسن ذلك منه، فمن آمن بالقرآن فليستحسنه. وقال الرازي: احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل والضلال في قلوب الكفار.
ثم حكى الله سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء فقال
(يعرجون) يصعدون بآلة أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل الضمير في فظلوا للملائكة، أي فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب والكفار يشاهدونهم وينظرون صعودهم من ذلك الباب. قاله ابن عباس.
وروي عنه أيضا أنه من سكر الشراب أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشى السكران ما غطى عقله، وعلى التخفيف بمعنى سحرت، وقيل أصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت وسكنت عن النظر، قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة والتشديد لأجل التكثير والمبالغة، قال ابن عباس قريش تقوله.
ولما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك على وحدانيته فقال:
والعرب تعد المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجل العلوم ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب، وقالوا الفلك إثنا عشر برجاً وأسماء هذه البروج: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدي الدلو الحوت، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة عند المشتغلين بهذا العلم، ويسمون الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والدلو والميزان هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مائية.
وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلاً، لكل برج منزلان
وأصل البروج الظهور، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها، وقال الحسن وقتادة البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها، وقيل السبعة السيارة منها، قاله أبو صالح.
وقيل هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس، قاله عطية. وقال مجاهد: البروج الكواكب.
(وزيناها) أي السماء بالشمس والقمر والنجوم والبروج (للناظرين) إليها أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها وصانعها إذا كان من النظر وهو الاستدلال، أي بأبصارهم أو بصائرهم، وفي السمين النظر عينيّ، وقيل قلبيّ وحذف متعلقه ليعم.
قال أبو السعود: محله النصب على المتصل إن فسر الحفظ بمنع الشياطين من التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة أو المنقطع إن فسر ذلك بالمنع من دخولها والتصرف فيها انتهى. قال ابن عباس: أراد أن يخطف السمع كقوله إلا من خطف الخطفة.
(فأتبعه شهاب مبين) والمعنى حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنه تتبعه وتلحقه الشهب فتقتله أو تخبله أو تحرقه أو تثقبه، ومعنى فأتبعه تبعه ولحقه أو أدركه والشهاب الكوكب نفسه أو النار المشتعلة الساطعة منه كما في قوله بشهاب قبس.
وصنيع البيضاوي يقتضي أن الشهاب بمعنى الشعلة هو الحقيقة والكثير وبمعنى الكوكب هو القليل، وسمي الكوكب شهاباً لبريقه شبه بشهاب النار وانفصاله منها، والمبين الواضح الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي: واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا، فقال ابن عباس: يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل، يقال خبلته خبلاً من باب ضرب إذا أفسدت عضواً من أعضائه أو أذهبت عقله، والخبال بالفتح يطلق على الفساد والجنون.
وقال الحسن وطائفة يقتل. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان:
أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء ولذلك انقطعت الكهانة.
والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن قال ذكره الماوردي ثم قال: والقول الأول أصح.
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ووصف سفيان بكفه فحرفها (١) وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أْن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال له أليس قد قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سعت من السماء " أخرجه البخاري (٢).
قال كثير من أهل العلم: نحن نرى انقضاض الكواكب فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم تصير ناراً إذا أدرك الشيطان ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسري.
_________
(١) أي أمالها انتهى مجمع البخار.
(٢) البخاري كتاب التوحيد الباب ٣٢ - كتاب التفسير سورة ١٥/ ١ سورة ٣٤/ ١ الترمذي تفسير سورة ٣٤/ ٢.
والمقصود من الإنبات الإنشاء والإيجاد، قال ابن زيد: الأشياء توزن، وقيل الضمير راجع إلى الجبال أي أنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة والنحاس والكحل والرصاص ونحو ذلك، وقيل موزون بميزان الحكمة ومقدر بقدر الحاجة، وقيل الموزون هو المحكوم بحسنه كما يقال كلام موزون أي حسن وخص ما يوزن لانتهاء الكيل إلى الوزن.
(ومن لستم له برازقين) عطف على معايش أو على محل لكم وهم المماليك والعبيد والخدم والدواب والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب، وهذا في غاية الامتنان والمعنى على الثاني وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، وهم من تقدم ذكره ويدخل في ذلك الدواب على اختلاف أجناسها، وقيل أراد الوحش قاله منصور. وقال مجاهد: الأنعام، وقيل الطيور، ومنه قوله (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها).
والمعنى أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة لله تعالى يخرجها من العدم إلى الوجود بمقدار كيف شاء، وقال جمهور المفسرين إن المراد بما في الآية هو المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش، وعن ابن مسعود وابن عباس: ما نقص المطر منذ أنزله الله ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى، ثم قرأ وما ننزله الآية.
قال ابن الخطيب: وتخصيص قوله هذا بالمطر تحكم محض لأن قوله وإن من شيء يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وقيل الخزائن المفاتيح أي ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه والأولى ما ذكرناه من العموم لكل
وأخرج البزار وأبو الشيخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئاً قال له كن فكان " (١)
(وما ننزله) من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد (إلا بقدر) أي بمقدار (معلوم) والمعنى أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئاً من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبساً ذلك الإيجاد بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال تعالى (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء) وقد فسر الإنزال بالإعطاء وبالانشاء وبالإيجاد والمعنى متقارب.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٢٨٢٤.
قال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح ذهب إلى أنها جمع ملقحة، وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل ولقاح الشجر بلقاح الحمل، قال ابن مسعود: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدر كما تدر اللقحة، ثم تمطر، وعن ابن عباس نحوه، وعن عبيد بن عمير قال: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب فتجعله
وأخرج ابن جرير وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول " ريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه " (١) قال أبو بكر بن عياش لا تقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها فالصبا تهيج السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه.
(فأنزلنا من السماء) أي من السحاب وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وقيل من جهة السماء (ماء) المراد هنا ماء المطر (فأسقيناكموه) أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم؛ قال أبو علي: يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروي وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له، وعلى هذا فأسقيناكموه أبلغ من سقيناكموه، وقيل سقى وأسقى بمعنى واحد.
(وما أنتم له بخازنين) بل نحن الخازنون له، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) وقيل إن المعنى ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم، أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير والأحاديث الضعيفة ٣٦٥٢.
وقيل المستقدمون من قتل في الجهاد والمستأخرون من لم يقتل. وقيل من خلق ومن لم يخلق بعد، وقيل من أسلم أولاً ومن يسلم آخراً، واللفظ أوسع من ذلك، واللام في الموضعين هي الموطئة للقسم. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله ﷺ حسناء من أحسن النساء، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه؛ فأنزل الله هذه الآية، وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال الترمذي وهذا أشبه أن يكون أصح.
وقال ابن كثير: في هذا الحديث نكارة شديدة وعن ابن عباس قال: المستقدمين الصفوف المتقدمة والمستأخرين الصفوف المؤخرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وعن مقاتل وعطاء إن الآية في صفوف القتال. وقال الحسن المستقدمين في طاعة الله والمستأخرين في معصية الله.
وعن ابن عباس يعني بالمستقدمين من مات والمستأخرين من هو حي لم يمت، وقال أيضاً المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته، والمستأخرين في أصلاب الرجال، وعن قتادة نحوه.
(إنه حكيم) يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة (عليم) أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كل شيء مما وسعه علمه وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو.
قال أبو عبيدة: هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرك، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار، وهذا قول أكثر المفسرين وقال الكسائي هو الطين المنتن مأخوذ من قول العرب صل اللحم، وأصل إذا أنتن مطبوخاً كان أو نيئاً.
وهذا الطور آخر أطوار آدم الطينية. وأول ابتدائه أنه كان تراباً متفرق الأجزاء ثم بل فصار طيناً ثم أنتن وأسود فصار حمأً مسنوناً أي متغيراً ثم يبس فصار صلصالاً، وعلى هذه الأطوار والأحوال تتخرج الآيات الواردة في أطواره
قال ابن السكيت: تقول منه حمأت البئر حمأً بالتسكين إذا نزعت حمأها؛ وحميت البئر حمأً بالتحريك كثرت حمأتها، وأحميتها أحماء ألقيت فيها الحمأة. قال أبو عبيدة: الحمأة سكون الميم مثل الحمأة يعني بالتحريك، والجمع حمأ مثل تمرة وتمر والحمأ مصدر مثل الهلع والجزع ثم سمي به. والمسنون قال الفراء: هو المتغير وأصله من سننت الحجر على الحجر إذا حككته وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسنين، ويقال أسن الماء إذا تغير؛ ومنه قوله (لم يتسنه) وقوله (من ماء غير آسن) وكلا الاشتقاقين يدل على التغيير لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتناً.
وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب وهو من قول العرب سننت الماء على الوجه أذا صببته والسن الصب.
وقال سيبويه: المسنون المصور مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته، وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم. من قولهم وجه مسنون إذا كان فيه طول، والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بُل صار طيناً فلما أنتن صار حمأً مسنوناً فلما يبس صار صلصالاً، فأصل الصلصال هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما، وعن ابن عباس قال: خلق الإنسان من ثلاث: من طين لازب وصلصال وحمأ مسنون، فالطين اللازب اللازم الجيد والصلصال المدقق الذي يصنع منه الفخار، والحمأ المسنون الطين الذي فيه الحمأة.
وقال أيضا الصلصال الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق، وعنه قال: الصلصال هو التراب اليابس الذي يبل بعد يبسه، وقال أيضاً طين خلط برمل. وقال أيضاً الذي إذا ضربته صلصل، وعنه قال الطين تعصر بيدك فتخرج الماء من بين أصابعك، وقال
وفي الجن مسلمون وكافرون، وهم يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس منهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات أبليس أبوهم. ذكره الخازن.
قال ابن عباس: الجان مسيخ الجن كالقردة والخنازير مسيخ الإنس، وقيل كان إبليس من حي الملائكة يسمون الجان، خلقوا من نار السموم، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وخلقت الملائكة من النور.
(خلقناه من قبل) أي من قبل خلق آدم (من نار السموم) وهي الريح الحارة النافذة في المسام لشدة لطفها وقوة حرارتها يكون بالنهار، وقد يكون بالليل، كذا قال أبو عبيدة.
وقال أبو صالح: السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار تكون بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمراً أخرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به، فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. قاله الخطيب.
وقيل السموم نار جهنم، وقيل هي جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، قاله ابن مسعود، وفي السمين: السموم ما يقتل من إفراط الحر من شمس أو ريح أو نار لأنها تدخل في المسام، وقيل السموم ما كان ليلاً والحرور ما كان نهاراً، وقيل هو من باب إضافة الموصوف لصفته.
وذكر خلق الجان والإنسان في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى. قال ابن عباس: من نار السموم من أخس النار الحارة التي تقتل، وعن ابن مسعود قال: السموم التي
(ونفخت فيه من روحي) النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر صالح لإمساكها والامتلاء بها، فمن قال إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيؤ البدن لتعلق النفس الناطقة به، ومن زائدة أو تبعيضية. قال النيسابوري: ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم، مثل ناقة الله وبيت الله.
قال القرطبي: والروح جسم لطيف أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، قال ومثله روح منه، وقد تقدم في النساء.
قال أبو السعود: وليس ثمة نفخ ولا منفوخ فيه وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحبى به من الروح التي هي من أمري.
(فقعوا له ساجدين) الفاء تدل على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ وهو أمر بالوقوع، من وقع يقع أي أسقطوا وخروا، وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود الحقيقي أي وضع الجبهة على الأرض لا مجرد الانحناء كما قال السيوطي، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء. وقيل كان السجود لله تعالى وكان آدم قبله لهم تشريفاً له، وهذا وإن كان معنى صحيحاً لكن يخالفه
قال النيسابوري: وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً، ولو صح أن يكون حالاً لكان منتصباً، قال الكرخي: فيه تأكيدان لزيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن ولا يكون تحصيلاً للحاصل؛ لأن نسبة أجمعون إلى كلهم كنسبة كلهم إلى أصل الجملة، أو أجمعون يفيد معنى الاجتماع. وقيل هما تأكيدان للمبالغة وزيادة الاعتناء.
ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال
زاد أبو السعود إما لأنه كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً، وإما لأن من الملائكة جنساً يتوالدون وهو منهم، وقيل أن الاستثناء منقطع منفصل بناء على عدم كونه منهم وعدم تغليبهم عليه، أي ولكن إبليس أبى من السجدة، وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة.
وهذه الحملة على الأول استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء لأن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد، فبيَّن سبحانه أنه كان على وجه الإباء والاستكبار.
قيل معنى (مالك) أيُّ غرض لك وأي سبب حملك على (أن لا تكون مع الساجدين) لآدم مع الملائكة، وهم في الشرف وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها، وعلى هذا فليست لا زائدة وإليه مال البيضاوي، وقيل زائدة بدليل ما في سورة (ص) ما منعك أن تسجد.
وأيضاً فآدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون، وهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هي النار وهي أشرف العناصر، فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون، فهذا مجموع شبه إبليس فأجاب الله سبحانه عليه بقوله:
وفي القاموس الرجم اللعن والشتم والطرد والهجران؛ وفي المصباح الرجم بفتحتين الحجارة والرجم القبر سمي بذلك لما يجتمع عليه من الأحجار ورجمته رجماً من باب قتل ضربته بالرجم.
وفي البيضاوي أراد بهذا السؤال أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة عند الموت إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، وقيل أنه لم يطلب أن لا يموت بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا.
ثم بيَّن سبحانه الغاية التي امهله إليها فقال
وقال ابن عباس: هو النفخة الأولى يموت فيها إبليس وبين النفختين أربعون سنة، وهي مدة موته.
قلت: وإقسامه هنا بإغواء الله له لا ينافي اقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره لأن الإغواء هو من جملة ما يصدق عليه العزة، وقال أهل العراق الحلف بصفة الذات كالقدرة والعظمة والعزة يمين، والحلف بصفة الفعل كالرحمة والسخط ليس بيمين، قيل والأصح أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يميناً وما لا فلا.
وجواب القسم (لأزينن لهم) أي لذرية آدم وإن لم يجر لهم ذكر للعلم بهم (في الأرض) أي ما داموا في الدنيا والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها أو بشغلهم بزينة الدنيا وحبها عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها.
(ولأغوينهم أجمعين) أي لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية وأحملهم عليها بالقاء الوسوسة في قلوبهم، وذلك أن إبليس لما علم أنه يموت على الكفر غير مغفور له حرص على إضلال الخلق بالكفر وإغوائهم، وفي الآية حجة على المعتزلة في خلق الأفعال وحملهم على التسبب عدول عن الظاهر.
وقال أبو السعود: والأظهر أن ذلك رد لما وقع في عبارة إبليس حيث قال (لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) الآية، وقرأ عليّ على أنه صفة مشبهة ومعناه رفيع.
(إلا من اتبعك) استثنى سبحانه من عباده هؤلاء وهم المتبعون لإبليس (من الغاوين) عن طريق الحق الواقعين في الضلال وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصون).
ويمكن أن يقال بين الكلامين فرق، فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلا من اتبعه من الغاوين، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس، وكلام إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلا المخلصين، فدخل فيهم من لم يكن مخلصاً ولا تابعاً لإبليس غاوياً.
والحاصل أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس، وقد قيل أن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون ويدل على ذلك قوله تعالى (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) قال أبو السعود: وفيه مع كونه تحقيقاً لما قاله اللعين تفخيم لشأن المخلصين، وبيان لمنزلتهم، ولانقطاع مخالب الإغواء عنهم وإن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم.
ثم قال الله تعالى متوعداً لأتباع إبليس
قال ابن جريج: النار سبع دركات وهي: جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية. فأعلاها لعصاة الموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطبقات ثم ما بعدها تحتها، ثم كذلك، كذا قيل.
والمعنى أن الله تعالى يجزئ أتباع إبليس سبعة اجزاء فيدخل كل جزء وقسم دركة من النار، والسبب فيه أن مراتب الكفر والمعاصي مختلفة، فلذلك اختلفت مراتبهم في النار.
قال الخطيب: تخصيص هذا العدد لأن أهلها سبع فرق، وقيل جعلت
ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحداً فجعلت أبواب الجنان ثمانية، انتهى.
أقول: الحكمة في تخصيص هذا العدد لا تنحصر فيما ذكر، بل الأولى تفويضها إلى جاعلها وهو الله سبحانه، إلا أن يرد خبر صحيح عن رسول الله ﷺ فيجب المصير إليه.
وعن عليّ رضي الله عنه قال: أطباق جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها.
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي واستغربه عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " لجهنم سبعة أبواب؛ باب منها لمن سل السيف على أمتي " (١) وأخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ " في الآية جزء أشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله " وقد وردت في صفة النار وأهوالها أحاديث وآثار كثيرة ليس هذا موضع استقرائها (٢)
_________
(١) الترمذي، كتاب التفسير، سورة ١٥/ ٢ - أحمد بن حنبل ٢٩/ ٩٤.
(٢) وللمفسر كتاب جيد في التخويف من النار نشرته مطبعة الإمام.
(بسلام آمنين) أي بسلامة من جميع الآفات وأمن من المخافات أو من زوال هذا النعيم أو مسلمين على بعضهم بعضاً أو مسلماً عليهم من الملائكة أو من الله عز وجل.
وقال الضحاك: أمنوا الموت فلا يموتون ولا يكبرون ولا يسقمون ولا يعرون ولا يجوعون.
(إخواناً) حال مقدرة قاله أبو البقاء يعني من فاعل ادخلوها ولا حاجة إليه بل هي حال مقارنة من ضمير صدورهم، والمعنى حال كونهم إخوة في الدين بالتعاطف والمحبة والمودة والمخالطة، وليس المراد منه إخوة النسب، يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد وصاروا إخواناً حال كونهم (على سرر) من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدر والياقوت.
قال أبو البقاء: يجوز أن يتعلق بنفس إخواناً لأنه بمعنى متصافين أي متصافين على سرر، وفيه نظر من حيث تأويل جامد بمشتق بعيد منه والسرر جمع سرير، وهو مثل ما بين صنعاء إلى الجابية، وقيل هو المجلس العالي الرفيع المهيأ للسرور ومنه قولهم سر الوادي لأفضل موضع منه.
(متقابلين) أي ينظر بعضهم إلى وجه بعض. قال مجاهد: لا يرى بعضهم قفا بعض، وعن ابن عباس نحوه فإذا اجتمعوا وتلاقوا ثم أرادوا الانصراف يدور سرير كل واحد منهم به بحيث يصير راكبه مقابلاً بوجهه لمن كان عنده، وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير، وهذا أبلغ في الإنس والإكرام.
وأخرج الطبراني والبغوي وابن أبي حاتم وغيرهم عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله ﷺ فتلا هذه الآية قال: " المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض ".
ثم قال سبحانه بعد أن قص علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مرّ النبي ﷺ على ناس من أصحابه يضحكون فقال: " اذكروا الجنة واذكروا النار " فنزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل
_________
(١) مسلم ٢٧٥١ - البخاري ١٥٠٩.
ثم إن الله سبحانه لما أمر رسوله أن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة أمره بأن يذكر لهم شيئاً مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال
_________
(١) لم يوجد بهذا اللفظ عند مسلم وورد ما جاء في حديثين مختلفين ٢٧٥٢ - ٢٧٥٥ وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب ١٩.
وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير، صاروا في حالة وسطاً بين اليأس والرجاء وخير الأمور أوسطها، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف، وبين حالتي الإنس والهيبة، وقيل لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لما أقدم على ذنب.
وفي هذه الآية لطائف منها أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله (نبئ عبادي) وهذا تشريف لهم وتعظيم كما أضاف في قوله (أسرى بعبده ليلاً) ولم يزد عليه ومنها أنه أكد ذكر الرحمة والمغفرة بمؤكدات ثلاثة:
أولها: قوله (أني).
وثانيها: (أنا).
وثالثها: التعريف في (الغفور الرحيم). وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة، ولم يقل في ذكر العذاب أني أنا المعذب ولم يصف نفسه بذلك بل قال على سبيل الإخبار (أن عذابي هو العذاب الأليم).
ومنها أنه أمر رسوله أن يبلغ عباده هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.
ثم أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها
وأصل الضيف الميل، يقال أضفت إلى كذا إذا ملت إليه، والضيف من مال إليك نزولاً بك، وصارت الضيافة متعارفة في القرى، وهو في الأصل مصدر ولذلك وحد، وإن كانوا جماعة ملائكة اثني عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل على صورة غلمان حسان أرسلهم الله إليه ليبشروه بالولد ويهلكوا قوم لوط عليه السلام، وقد مر تفسير القصة مفصلاً في سورة هود عليه السلام، وسمي الضيف ضيفاً لإضافته إلى المضيف، وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان
وفي الشهاب يجوز أن يكون سلاماً منصوباً بفعل مقدر أي سلمنا أو نسلم سلاماً، ويجوز نصبه بقالوا، ولم تذكر هنا تحية إبراهيم لهم، وقد ذكرت في سورة هود فالقصة هنا مختصرة.
(قال إنا منكم وجلون) أي خائفون فزعون، وإنما قال هذا بعد أن قرب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه كما تقدم في سورة هود، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة. وقيل أنكر السلام منهم لأنه لم يكن في بلادهم، وقيل أنكر دخولهم عليه بغير استئذان.
لا تأجل وتوجل من أوجله أي أخافه (إنا نبشرك بغلام عليم) مستأنفة لتعليل النهي عن الوجل لأن المبشر لا يخاف منه، والعليم كثير العلم، وقيل هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن. وهذا الغلام هو إسحاق كما تقدم في هود، ولم يسمه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف.
(فلا تكن من القانطين) أي الآيسين من ذلك الذي بشرناك به فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر، وكان تعجب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ولذلك:
(إلا الضالون) أي المكذبون أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب والمعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته، كما قال الله تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، أي إني إنما استبعدت الولد لكبر سني لا لقنوطي من رحمة ربي.
ثم سألهم عما لأجله أرسلهم الله سبحانه
ثم ذكروا ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في إجرامهم فقالوا (إنا لمنجوهم) أي آل لوط (أجمعين) وهم أتباعه وأهل بيته ودينه لايمانهم، قرئ من التنجية والإنجاء ومعناهما التخليص مما وقع فيه غيرهم وهذا الكلام استئناف إخبار بنجاتهم بكونهم لم يجرموا ويكون الإرسال
(قدرنا أنها لمن الغابرين) أي قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة، والغابر الباقي والماضي، وهو من الاضداد وبابه دخل.
قال الزجاج: معنى قدرنا دبرنا وهو قريب من معنى قضينا، وأصل التقدير جعل الشيء على مقدار الكفاية، وقرئ قدرنا بالتخفيف وبالتشديد.
قال الهروي: هما بمعنى وقيل ضمن قدرنا معنى العلم فلذلك علق باللام مع كون التعليق من خصائص أفعال القلوب فكسرت إن.
وقيل هذا لا يصلح علة لكسرها إنما يصلح علة لتعليقها الفعل قبلها فقط، والعلة في كسرها وجود اللام ولولاها لفتحت، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة مع كونه من فعل الله سبحانه مجازاً لما لهم من القرب عند الله، أو أنهم رسل الله وواسطة بينه وبين خلقه.
وقد تقدم تفسير قوله
(ولا يلتفت منكم أحد) أي أنت ولا أحد منهم فيرى ما نزل بهم من
(أن دابر هؤلاء مقطوع) الدابر هو الآخر، أي أن آخر من يبقى منهم يهلك (مصبحين) أي حال كونهم داخلين في وقت الصبح، ومثله (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) وقدره الفراء وأبو عبيدة إذا كانوا مصبحين، قال الكرخي: فإن كان تفسير معنى فصحيح، وأما الإعراب فلا ضرورة تدعو إليه، قال ابن عباس: يعني استئصال هلاكهم.
ثم ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال
قال الكرخي: ذكر القصة في هود بترتيب الوقوع، وهنا أخر ذكر مجيئهم عن قول الرسل، بل جئناك مع تقدمه ليستقل الأول ببيان كيفية نصرة الصابرين، والثاني بتساوي الأمم (يستبشرون) أي مستبشرين بأضياف لوط طمعاً في ارتكاب الفاحشة منهم، والاستبشار إظهار الفرح والسرور.
وفي المختار فضحه فافتضح، أي كشف مساويه وبابه قطع، والاسم الفضيحة والفضوح أيضًا بضمتين، والمعنى لا تفضحوني عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون إني عاجز عن حماية من نزل بي، أو لا تفضحوني بفضيحة ضيفي، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل مايفضح المضيف.
قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد ﷺ تشريفاً له، قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد ﷺ لأنه أكرم البرية عنده.
وعن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال (لعمرك) الآية يقول وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا وعيشك بها.
وعن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: " ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد ﷺ قال (لعمرك) الآية " أخرجه ابن مردويه، كذا في الدر المنثور للسيوطي.
فإن قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين ونحو ذلك فما فيها من فضل، وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه، وقيل الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به، أي وخالق التين وكذلك ما بعده، وفي قوله (لعمرك) أي وخالق عمرك.
وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا القسم هو من الملائكة على إرادة القول، أي قالت الملائكة للوط لعمرك، ثم قال: وقيل الخطاب لرسول الله ﷺ وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له. انتهى.
وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
(إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أي أنهم لفي غوايتهم وشدة غِلمَتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم
(وأمطرنا عليهم) أي على من كان خارجاً عن قراهم بأن كان غائباً في سفر أو غيره (حجارة من سجيل) أي من طين متحجر طبخ بالنار، وقد تقدم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود.
أحدهما: ما يوقعه الله في قلوب الصلحاء فيعلمون بذلك أحوال الناس بإصابة الحدس والنظر والظن والتثبت.
والثاني: ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق، وللناس في هذا العلم تصانيف قديمة وحديثة، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك، والمعنى متقارب، وأصل التوسم التثبت والتفكر تفعل مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو البقر، وقيل أصله استقصاء التعرف يقال توسمت أي تعرفت مستقصياً وجوه التعرف، وقيل هو من الوسم بمعنى العلامة.
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير سورة ١٥/ ٦.
وجمع الآيات أولاً باعتبار تعدد ما قص من حديث لوط وضيف إبراهيم وتعرض قوم لوط لهم وما كان من إهلاكهم وقلب المدائن على من فيها وإمطار الحجارة على من غاب عنها، وحدها ثانياً باعتبار وحدة قرية قوم لوط المشار إليها بقوله (وأنها لبسبيل مقيم) فلا يرد كيف جمع الآية أولاً ووحدها ثانياً والقصة واحدة.
فالمعنى وإن كان أصحاب الشجر المجتمع وأرباب بقعة الأشجار باعتبار إقامتهم فيها وملازمتهم لها (لظالمين) بتكذيبهم شعيباً، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق، واللام فيه للتأكيد وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها، قال أبو عبيدة: أيكة وليكة مدينتهم كمكة وبكة، وأصحابها هم قوم شعيب، وقد تقدم خبرهم.
وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً "، وعن ابن عباس قال: " أصحاب الأيكة هم قوم شعيب " والأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها.
(وإنهما) الضمير يرجع إلى مدينة قوم لوط ومكان أصحاب الأيكة أي وإن المكانين (لبإمام مبين) أي لبطريق واضح ظاهر، قاله ابن عباس، وقيل يعود على الخبرين خبر إهلاك قوم لوط وخبر إهلاك قوم شعيب، وقيل يعود على أصحاب الأيكة وأصحاب مدين لأنه مرسل إليهما فذكر أحدهما مشعر بالآخر وأرجح الأقوال هو الأول.
والإمام اسم لما يؤتم به ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك، قال الفراء والزجاج، سمي الطريق إماماً لأنه يؤتم به ويتبع، وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده، وقيل الضمير للأيكة، ومدين لأن شعيباً كان ينسب إليهما.
ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال
وقال بعضهم المراد أنهم يتخذون بيوتاً في الجبال بنقرها وقطع الصخر منها بالمعاويل حتى تصير مساكن من غير بنيان.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " (١) وأخرج ابن مردويه عنه قال نزل رسول الله ﷺ عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم بإهراق القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا فقال إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم فلا تدخلوا عليهم " (٢).
_________
(١) مسلم ٢٩٨٠ - البخاري ٢٨٤.
(٢) مسلم ٢٩٨١ - البخاري ١٥٩٥.
(وإن الساعة لآتية) وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بأن يصفح عن قومه فقال (فاصفح الصفح الجميل) أي تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً، وقيل فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم بالانتقام وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.
قال عليّ: الصفح الجميل الرضا بغير عتاب؛ وعن ابن عباس مثله وعن مجاهد قال: هذه الآية قبل القتال: وعن عكرمة مثله، يعني هذا منسوخ بآية السيف وفيه بعد، لأن الله أمر نبيه أن يظهر الخلق الحسن وأن يعاملهم بالعفو والصفح الخالي من الجزع والخوف والأمر بالصفح الجميل لا ينافي قتالهم.
قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي، وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا العالية، وزاد النيسابوري الضحاك. وسعيد بن جبير، وقد روي ذلك من قول رسول الله ﷺ كما سيأتي بيانه فتعين المصير إليه.
وقيل السابعة هي سورة يونس، وقيل المراد بها السبعة الأحزاب فإنها سبع صحائف: وقيل هي السور التي دون الطوال وفوق المفصل وهي التين.
والمثاني جمع مثناة من التثنية وهي التكرير أو جمع مثنية. وقال الزجاج: يثنى بما يقرأ بعدها معها؛ فعلى القول الأول يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني أنها تثنى أي تكرر في كل صلاة، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية أن العبر والأحكام والحدود كررت فيها، وعلى القول بأنه السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها.
وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحاك وطاووس وأبو مالك وهو رواية عن ابن عباس، واستدلوا بقوله تعالى (كتاباً متشابهاً مثاني) وقيل المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن: وهي الأمر والنهي والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعريف النعم، وأنباء القرون الماضية، قاله زياد بن أبي مريم. ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا يستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم، وقد تقرر أنها المرادة بهذه الآية فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها (والقرآن العظيم) المراد به سائر القرآن؛ قاله ابن مسعود، فيكون من عطف العام على الخاص لأن الفاتحة بعض من القرآن؛ وكذلك أن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال لأنها بعض من القرآن إن أريد به القدر المشترك الصادق على الكل والبعض أو من عطف الكل على البعض إن أريد به المجموع الشخصي.
وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه من باب عطف أحد الوصفين على الآخر.
ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكيّة وأكثر
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد؛ فذهب النبي ﷺ ليخرج فذكرت فقال " الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم " (١).
وأخرج البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم " (٢).
فوجب بهذا المصير إلى القول بأنها فاتحة الكتاب، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدمنا، وعن الضحاك قال: المثاني القرآني يذكر الله القصة الواحدة مراراً، وعن زياد بن أبي مريم في الآية قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مُرْ، وأنْهَ، وبشِّر، وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واتل نبأ القرآن.
ثم لما بيَّن الله لرسوله ﷺ ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره الله عن اللذات العاجلة الزائلة فقال
_________
(١) البخاري التفسير سورة ١/ ١ - ١٥/ ٣. الترمذي كتاب ثواب القرآن الباب١.
(٢) البخاري، كتاب فضائل القرآن، الباب ٩ - الترمذي، كتاب ثواب القرآن، باب١.
وقال بعضهم: المعنى لا تحسدن أحداً على ما أوتي من الدنيا، ورد بأن الحسد منهى عنه مطلقاً، وإنما قال في هذه السورة لا تمدن بغير واو؛ لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه.
وعن سفيان بن عيينة قال: من أعطي القرآن فمد عينيه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن ألم تسمع قوله (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) إلى قوله (ورزق ربك خير وأبقى) وقد فسر ابن عيينة أيضاً الحديث الصحيح " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (١) فقال إن المعنى لم يستغن به.
ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال (ولا تحزن عليهم) حيث لم يؤمنوا وصمموا على الكفر والعناد. وقيل المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا وفاتك من مشاركتهم فيها فإن لك الآخرة؛ والأول أولى.
روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال؛ قال رسول الله ﷺ " لا تغبطن فاجراً بنعمته فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته إن له عند الله قاتلاً لا يموت، قيل وما هو؟ قال النار " (٢).
وعنه عند مسلم مرفوعاً " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " (٣) قال عوف: كنت أصحب الأغنياء فما كان أحداً أكثر هماً مني، كنت أرى دابة خيراً من دابتي وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت.
ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار وأن يحزن عليهم وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم أمره أن يتواضع للمؤمنين فقال (واخفض
_________
(١) البخاري، كتاب التوحيد، باب ٤٤ - أبو داود، كتاب الوتر، الباب ٢٠.
(٢) مشكاة المصابيح ٥٢٤٨.
(٣) مسلم ٢٩٦٣ - البخاري ٢٤٣٤.
وقيل هو متعلق بقوله (ولقد آتيناك) أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون قاله الزمخشري، والأولى أن يتعلق بقوله (إني أنا النذير المبين) لأنه في قوة الأمر بالإنذار.
وقد اختلف في المقتسمين من هم على أقوال سبعة، فقال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها، يقولون لمن دخل مكة لا تغتروا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن، فقيل لهم المقتسمون لأنهم اقتسموا هذه الطرق.
وقيل إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين، قاله قتادة، وقيل هم أهل الكتاب وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقسمون القرآن استهزاء فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك، روي هذا عن ابن عباس، وقيل أنهم اقتسموا كتابهم وفرقوه وبددوه وحرفوه.
قلت: وفي هذا الوجه قرب من حيث المقاسمة وبعد من حيث وصفهم بجعلهم القرآن عضين، وأما الأوجه الآخرة فهي مستقيمة، وقيل تقاسموا أيماناً تحالفوا عليها قاله الأخفش، وقيل أنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري والنضر بن الحرث وأمية بن خلف وشيبة بن الحجاج؛ ذكره الماوردي.
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ لعن العاضهة والمستعضهة وفسر بالساحرة والمستسحرة، والمعنى أنهم أكثروا البهت على القرآن وسموه سحراً وكذباً وأساطير الأولين، ونظير عضة في النقصان شفة والأصل شفهة وكذلك سنة أصلها سنهة، قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون وقال الفراء: أنه مأخوذ من العضاة وهي شجرة تؤذي وتجرح كالشوك، ويجوز أن يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ ويراد بالمقتسمين هم اليهود والنصارى، أي جعلوهما أجزاء متفرقة وهو أحد الأقوال المتقدمة.
وقد أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي ﷺ في الآية قال عن قول لا إله إلا الله، وروي عن أنس موقوفاً، وعن ابن عمر مثله، والعموم يفيد ما هو أوسع من ذلك.
وقيل أن المسؤولين هاهنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار، ويدل عليه قوله: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) وقوله: (وقفوهم إنهم مسؤولون) وقوله (إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم) وممكن أن يقال إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم.
قال الواحدي: قال المفسرون أي اجهر بالأمر أي بأمرك بعد إظهار الدعوة وما زال النبي ﷺ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه وقال ابن عباس هذا أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه، واصدع بمعنى أمضه وأعلن.
ثم أمره الله سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين فقال (وأعرض عن المشركين) أي لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة.
قال ابن عباس نسخه قوله تعالى (واقتلوا المشركين) وليس للنسخ وجه لأن معنى الإعراض ترك المبالاة بهم والالتفات إليهم، فلا يكون منسوخاً.
ثم أكد هذا الأمر وثبت قلب رسوله ﷺ بقوله
وقد أهلكهم الله جميعاً يوم بدر، وكفاه أمرهم في يوم أحد، وقد روي هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم ونقص على طول في ذلك.
ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال
ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال
وقال أبو حيان: أن اليقين من أسماء الموت وبنزوله يزول كل شك، ووقَّت العبادة بالموت إعلاماً بأنها ليست لها نهاية دون الموت، فلا يرد ما قيل أي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات.
وإيضاح الجواب أن المراد واعبد ربك في جميع زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة والله أعلم بمراده.
قال الزجاج: المعنى اعبد ربك أبداً لأنه لو قيل أعبد ربك بغير توقيت لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعاً فإذا قال حتى يأتيك اليقين فقد أمره بالإقامة على العبادة أبداً ما دام حياً، ومثله قوله تعالى في سورة مريم (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) وكان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل(مائة وثمان وعشرون آية)
وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن عبد الله، وروي عن ابن عباس وأبي الزبير أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من أحد وهي قوله تعالى: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلاً) إلى قوله (تعملون) وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) وقوله: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) وقوله: (وإن عاقبتم) إلى آخر السورة، وزاد مقاتل قوله: (من كفر بالله من بعد إيمانه) الآية (وضرب الله مثلاً قرية)، وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية، والأول أولى وتسمى هذه سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧)