تفسير سورة الحجر

فتح البيان
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحجر
مكية بالاتفاق والإجماع كما قال القرطبي. وعن ابن عباس وابن الزبير مثله. وهي تسع وتسعون آية. والحجر واد بين المدينة والشام.

(الر) قد تقدم الكلام عليه في محله مستوفى مراراً (تلك) أي ما تضمنته السورة من الآيات (آيات الكتاب) التعريف للتفخيم وقيل هو للجنس، والمراد جنس الكتب المنزلة المتقدمة. قال مجاهد: يعني التوراة والإنجيل، وقيل المراد به هذه السورة والإضافة بمعنى من وقيل المراد القرآن، ولا يقدح في هذا ذكر القرآن بعد الكتاب فقد قيل إنه جمع له بين الاسمين عطفاً للتغاير اللفظي لأجل التعدد في الاسم بزيادة صفة.
(وقرآن مبين) أي الكامل الظاهر رشده وهداه وخيره وتنكير القرآن للتفخيم
(ربما يود الذين كفروا) قرئ ربما بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون وتميم وربيعة يثقلون، وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير.
قال الكوفيون: أي يود الكفار في أوقات كثيرة، وقيل هي هنا للتقليل لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب، وقيل إن هذا التقليل أبلغ في التهديد فإن الأهوال تدهشهم فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وقيل معناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً لك عن الفعل؛ فكيف بكثيره.
143
قيل وما هنا لحقت رب لتهيأ للدخول على الفعل وقيل نكرة بمعنى شيء وإنما دخلت رب هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلا على الماضي لأن المترقب في أخباره سبحانه كالواقع المتحقق، فكأنه قيل ربما ود الذين كفروا بهذا الكتاب والقرآن، فهذا مرتبط بما قبله.
(لو كانوا مسلمين) أي منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله، وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة، والمراد أنه لما انكشف لهم الأمر واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر، وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره، حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل هي لمجرد التحسر والتندم ولوم النفس على ما فرطت في جنب الله.
وقيل كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين، وقيل عند خروج عصاة الموحدين من النار، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم، ولو مصدرية أو امتناعية وجوابها محذوف أي لسروا بذلك أو تخلصوا مما هم فيه والأول أولى.
والتعبير عن متمناهم بالغيبة نظراً للإخبار عنهم، ولو نظر لصدوره منهم لقيل لو كنا.
عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي ﷺ قالوا: ود المشركون يوم بدر حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود قال: هذا في الجهنمين إذا رأوهم يخرجون من النار.
وعن ابن عباس قال: لا يزال الله يشفع ويدخل ويشفع ويرحم حتى يقول: من كان مسلماً فليدخل الجنة، فذلك قوله ربما يود الذين كفروا.
144
وعن ابن عباس وأنس أنهما تذاكرا هذه الآية فقالا: حيث يجمع الله من أهل الخطايا من المشركين والمسلمين في النار، فيقول المشركون ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، فيغضب الله لهم فيخرجهم بفضله ورحمته، أخرجه البيهقي في البعث وابن المبارك في الزهد.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند قال السيوطي صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن ناساً من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم، فلا يبقى أحد إلا أخرجه الله من النار. ثم قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية " وفي الباب أحاديث مرفوعة عن جمع من الصحابة في تعيين هذا السبب في نزول هذه الآية.
145
(ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) هذا تهديد لهم أي خل هؤلاء الكفرة ودعهم عما أنت بصدده من الأمر لهم والنهي فهم لا يرعوون أبداً ولا يخرجون من باطل: ولا يدخلون في حق بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل والتمتع بزهرة الحياة الدنيا من إلهاء العمل لهم عن اتباعك فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره وهذا الأمر لا يستعمل له ماض إلا قليلا استغناء عنه بترك بل يستعمل منه المضارع نحو ونذرهم في طغيانهم، ومن مجيء الماضي قوله صلى الله عليه وسلم: " ذروا الحبشة ما وذرتكم " وترك ووذر يكونان بمعنى صير أي ذرهم مهملين أي أترك كفار مكة والعموم أولى.
(ويلههم الأمل) أي يشغلهم طول الأمل والعمر وبلوغ الوطر واستقامة الحال عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى، يقال ألهاه كذا أي شغله ولهى هو
145
عن الشيء يلهي والمعنى يشغلهم الأمل عن اتباع الحق، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذى عينين وانكشف الأمر، ورأوا العذاب يوم القيامة فعند ذلك يذوقون ما صنعوا وأكثر ما يستعمل الأمل فيما يستبعد حصوله والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر، وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
(فسوف يعلمون) عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم، وفيه من التهديد والزجر ما لا يقادر قدره وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين، قال بعض أهل العلم ذرهم تهديد، وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين.
قال عليّ بن أبي طالب: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن الأول ينسي الآخرة والثاني يصد عن الحق.
146
(وما أهلكنا من قرية) من القرى بنوع من أنواع العذاب في حال من الأحوال (إلا ولها) أي ولتلك القرية (كتاب معلوم) أي أجل مؤقت مقدر لهلاكها لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه معلوم غير مجهول ولا منسي، فلا يتصور التخلف عنه بوجه من الوجوه والواو فيها أوجه:
أحدها: وهو الظاهر أنها واو الحال.
والثاني: أنها مزيدة.
الثالث: أنها داخلة على الجملة الواقعة صفية تأكيداً، وبه قال الزمخشري.
(ما تسبق من أمة) من الأمم (أجلها) المضروب لها المكتوب في اللوح المحفوظ والمعنى أنه لا يأتي هلاكها قبل مجيء أجلها قيل من زائدة، وقيل على
146
بابها لأنها تفيد التبعيض في هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد (وما يستأخرون) عنه، والسين زائدة فيكون مجيء هلاكهم بعد مضي الأجل المضروب له.
وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ولذلك حذف الحار والمجرور، والجملة مبينة لما قبلها فكأنه قيل إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العقلاء فإن لكل أمة وقتا معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر، وقال الزهري: نرى أنه إذا حضره أجله فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدم، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما يشاء ويقدم ما يشاء.
قلت وكلام الزهري هذا لا حاصل له ولا مفاد فيه، وقد تقدم تفسير الأجل في أول سورة الأنعام.
ثم لما فرغ من تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوهم في الكفر وتماديهم في الغيّ مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب فقال:
147
(وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر) أي قال كفار مكة مخاطبين لرسول الله ﷺ ومتهكمين به حيث أثبتوا له إنزال الذكر عليه مع إنكارهم لذلك في الواقع أشد إنكار ونفيهم له أبلغ نفي (إنك) بسبب هذه الدعوى التي تدعيها من كونك رسولاً لله مأموراً بتبليغ أحكامه (لمجنون) فإنه لا يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة عندهم من كان عاقلاً فقولهم هذا لمحمد ﷺ هو كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.
(لو ما) حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني (ومن ما) المزيدة
147
فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخلة هي عليه، قال الفراء: الميم في لو ما بدل من اللام في لولا، وقال الكسائي لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام، قال النحاس: لوما ولولا وهلا واحد والمعنى هلا.
(تأتينا بالملائكة) ليشهدوا على صدقك، وقيل المعنى لوما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك (إن كنت من الصادقين) في قولك وادعائك الرسالة والحاصل أنهم قالوا مقالتين تعنتا، الأولى يا أيها الذي إلخ، والثانية لو ما تأتينا فقال الله سبحانه مجيباً على الكفار لما طلبوا إتيان الملائكة إليهم وراداً عليهم المقالتين على سبيل اللف والنشر المشوش.
148
(ما ننزل) نحن الملائكة (إلا) تنزيلاً متلبساً (بالحق) الذي يحق عنده تنزيلنا لهم فيما تقتضيه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية، وليس هذا الذي اقترحتموه مما يحق عنده تنزيل الملائكة، وهذا رد للثانية وقرئ من الإنزال، وقيل معنى بالحق بالرسالة، وقيل بالقرآن وقيل بالعذاب قاله مجاهد، وقيل وقت الموت.
(وما كانوا إذاً منظرين) قال السدي: أي وما كانوا لو نزلت الملائكة منظرين من أن يعذبوا فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة.
قال صاحب النظم إذن مركبة من إذ وإن وهي اسم بمنزلة حين ثم ضم إليها أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن، ومجيء لفظة إن دليل على إضمار فعل بعدما، والتقدير وما كانوا إذ كان ما طلبوا.
ثم أنكر سبحانه على الكفار استهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم المذكور فقال سبحانه
(إنا نحن نزلنا الذكر) الذي أنكروه ونسبوك بسببه إلى الجنون وهو القرآن واعتقدوا أنه مختلق من عندك.
148
(وإنا له لحافظون) عن كل ما لا يليق به من تصحيف وتحريف وزيادة ونقصان ونحو ذلك، فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر واحد من جميع الخلق من الإنس والجن أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفاً واحداً أو كلمة واحدة.
وهذا مختص بالكتاب العزيز بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها تلك الأشياء، ولما تولى الله حفظ ذلك الكتاب بقي مصوناً على الأبد محروساً من الزيادة والنقصان وغيرهما، وفيه دليل على أنه منزل من عنده آية إذ لو كان من البشر لتطرق إليه الزيادة والنقصان كما يتطرق إلى كل كلام سواه. وقيل المعنى نزله محفوظاً من الشياطين. وقيل حفظه بأن جعله معجزة باقية إلى آخر الدهر، وقيل حفظه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارض ولو بأقصر آية.
وقيل أعجز الله الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض له العلماء الراسخين يحفظونه ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله ومن أسباب حفظه حدوث العلوم الكثيرة الآلية التي تذب عن الدخول في أبواب إفساده وإبطاله وتحريفه وتصحيفه وزيادته ونقصانه كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الحديث والفقه والتفسير وغير ذلك مما له مدخل في هذا الشأن.
وأخرج مسلم عن عياض عن النبي ﷺ عن ربه تعالى " نزلت عليك قرآناً لا يغسله الماء " (١).
_________
(١) مسلم ٢٨٦٥.
149
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٨)
وأيضاً في الآية وعيد شديد للمكذبين به المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الضمير في له لرسول الله ﷺ والأول أولى بالمقام. قال الخطابي: إنما لم يجمع رسول الله ﷺ القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه وتلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ﷺ ألهم الله تعالى الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر رضي الله عنه، انتهى. ذكره السيوطي في الإتقان، وقد بسطنا الكلام على جمع القرآن في رسالتنا المسماة بالأكسير في أصول التفسير فليرجع إليه. ثم ذكر سبحانه أن عادة أمثال هؤلاء الكفار مع أنبيائهم كذلك تسلية لرسول الله ﷺ فقال:
150
(ولقد أرسلنا) رسلاً كائنة (من قبلك) وحذف المفعول لدلالة الإرسال عليه (في شيع الأولين) أي في أممهم وأتباعهم وسائر فرقهم وطوائفهم.
قال الفراء: الشيع الأمة التابعة بعضهم بعضاً فيما يجمعون عليه، وأصله من شاعه إذا تبعه، وهم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم، وشيعة الرجل أتباعه، وقيل الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.
150
وفي المصباح: الشيعة الأتباع والأنصار وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت الشيعة اسماً لجماعة مخصوصة والجمع شيع والأشياع جمع الجمع وإضافته إلى الأولين من إضافة الصفة إلى الموصوف عند بعض النحاة أو من حذف المضاف إليه عند آخرين منهم، أي في شيع الأمم الأولين، وفي البيضاوي من قبيل إضافة الموصوف لصفته كقوله حق اليقين.
151
(وما) كان (يأتيهم) أي الشيعة (من رسول) من الرسل (إلا كانوا به يستهزئون) كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد صلى الله عليه وسلم.
(كذلك) أي مثل ذلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم (نسلكه) أي الذكر (في قلوب المجرمين) فالإشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء، والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط قاله الزجاج، والسلوك النفاذ في الطريق، قال والمعنى كما فعل بالمجرمين الذين استهزؤوا نسلك الضلال في قلوب المجرمين، وقال ابن عباس الشرك نسلكه في قلوب المشركين. وعن قتادة مثله.
وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ولم يعاند، قال الواحدي: أضاف الله سبحانه إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار وحسن ذلك منه، فمن آمن بالقرآن فليستحسنه. وقال الرازي: احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل والضلال في قلوب الكفار.
(لا يؤمنون به) أي بالذكر الذي أنزلناه أو بمحمد ﷺ حال من ضمير نسلكه أو مستأنفة لبيان ما قبلها، وقيل أن الضمير في نسلكه للاستهزاء وفي به للذكر وهو بعيد، والأولى أن الضميرين للذكر (وقد خلت سنة الأولين) أي مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حيث فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء.
151
وقال قتادة: مضت وقائع الله فيمن خلا من الأمم فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب، وقال الزجاج: قد مضت سنة الله فيهم بأن سلك الكفر والضلال في قلوبهم.
ثم حكى الله سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء فقال
152
(ولو فتحنا عليهم) أي على هؤلاء المعاندين لمحمد ﷺ المكذبين له المستهزئين به (باباً من السماء) من أبوابها المعهودة ومكناهم من الصعود إليه (فظلوا فيه) أي في ذلك الباب، يقال ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار.
(يعرجون) يصعدون بآلة أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ولا يعاند عند مشاهدتها معاند، وقيل الضمير في فظلوا للملائكة، أي فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب والكفار يشاهدونهم وينظرون صعودهم من ذلك الباب. قاله ابن عباس.
(لقالوا) أي الكفار لفرط عنادهم وزيادة عتوهم (إنما سكرت أبصارنا) قرئ مشدداً ومخففاً وهم سبعيتان وهو من سكر الشراب أو من السكر وهو سدها عن الإحساس، قاله مجاهد، يقال سكر النهر إذا سده وحبسه عن الجري. وعن قتادة نحوه. قال أبو عمرو بن العلاء: سكرت غشيت وغطت، وبه قال أبو عبيد وأبو عبيدة.
وروي عنه أيضا أنه من سكر الشراب أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشى السكران ما غطى عقله، وعلى التخفيف بمعنى سحرت، وقيل أصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت وسكنت عن النظر، قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة والتشديد لأجل التكثير والمبالغة، قال ابن عباس قريش تقوله.
152
(بل نحن) أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا، ثم ادعوا أنهم (قوم مسحورون) أي سحرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح، ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحد فلا تنفع فيه موعظة ولا يهتدي بآية. وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.
ولما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك على وحدانيته فقال:
153
(ولقد جعلنا) الجعل إن كان بمعنى الخلق فقوله (في السماء بروجاً) متعلق به، وإن كان بمعنى التصيير فهو خبره، والبروج في اللغة القصور والمحال والطرق والمنازل، والمراد بها هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة السبعة وهي الاثنا عشر المشهورة، كما يدل على ذلك التجربة.
والعرب تعد المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجل العلوم ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب، وقالوا الفلك إثنا عشر برجاً وأسماء هذه البروج: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدي الدلو الحوت، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة عند المشتغلين بهذا العلم، ويسمون الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والدلو والميزان هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مائية.
وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلاً، لكل برج منزلان
153
وثلث منزل، وتلك البروج منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل وله الجدي والدلو، ذكره السيوطي وهي مقسومة على ثلثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرة وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً.
وأصل البروج الظهور، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها، وقال الحسن وقتادة البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها، وقيل السبعة السيارة منها، قاله أبو صالح.
وقيل هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس، قاله عطية. وقال مجاهد: البروج الكواكب.
(وزيناها) أي السماء بالشمس والقمر والنجوم والبروج (للناظرين) إليها أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها وصانعها إذا كان من النظر وهو الاستدلال، أي بأبصارهم أو بصائرهم، وفي السمين النظر عينيّ، وقيل قلبيّ وحذف متعلقه ليعم.
154
(وحفظناها) أي السماء بالشهب (من) دخول (كل شيطان رجيم) قال أبو عبيدة الرجيم المرجوم بالنجوم كما في قوله (رجوماً للشياطين) والرجم في اللغة هو الرمي بالحجارة، ثم قيل للعن والطرد والإبعاد رجم، لأن الرمي بالحجارة يوجب هذه المعاني وقال قتادة: الرجيم الملعون.
(إلا) أي لكن (من استرق السمع) من غير دخول، وهذا وجه الانقطاع، والسمع بمعنى المسموع وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً
154
حتى يبلغوا إلى السماء فيسترقوا السمع من الملائكة، وقيل الاستثناء متصل، أي إلا من استرق فإنها لا تحفظ منه.
قال أبو السعود: محله النصب على المتصل إن فسر الحفظ بمنع الشياطين من التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة أو المنقطع إن فسر ذلك بالمنع من دخولها والتصرف فيها انتهى. قال ابن عباس: أراد أن يخطف السمع كقوله إلا من خطف الخطفة.
(فأتبعه شهاب مبين) والمعنى حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنه تتبعه وتلحقه الشهب فتقتله أو تخبله أو تحرقه أو تثقبه، ومعنى فأتبعه تبعه ولحقه أو أدركه والشهاب الكوكب نفسه أو النار المشتعلة الساطعة منه كما في قوله بشهاب قبس.
وصنيع البيضاوي يقتضي أن الشهاب بمعنى الشعلة هو الحقيقة والكثير وبمعنى الكوكب هو القليل، وسمي الكوكب شهاباً لبريقه شبه بشهاب النار وانفصاله منها، والمبين الواضح الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي: واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا، فقال ابن عباس: يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل، يقال خبلته خبلاً من باب ضرب إذا أفسدت عضواً من أعضائه أو أذهبت عقله، والخبال بالفتح يطلق على الفساد والجنون.
وقال الحسن وطائفة يقتل. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان:
أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء ولذلك انقطعت الكهانة.
والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن قال ذكره الماوردي ثم قال: والقول الأول أصح.
155
قال: واختلف هل كان رمى بالشهب قبل المبعث فقال الأكثرون نعم: وقيل لا، وإنما ذلك بعد المبعث، قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبي ﷺ مما حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم والجمع بين هذين القولين إن الرمي بالنجوم كان موجوداً قبل مبعث النبي ﷺ فلما بعث شدد ذلك وزيد في حفظ السماء وحراستها صوناً لأخبار الغيوب.
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ووصف سفيان بكفه فحرفها (١) وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أْن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال له أليس قد قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سعت من السماء " أخرجه البخاري (٢).
قال كثير من أهل العلم: نحن نرى انقضاض الكواكب فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم تصير ناراً إذا أدرك الشيطان ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسري.
_________
(١) أي أمالها انتهى مجمع البخار.
(٢) البخاري كتاب التوحيد الباب ٣٢ - كتاب التفسير سورة ١٥/ ١ سورة ٣٤/ ١ الترمذي تفسير سورة ٣٤/ ٢.
156
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)
157
(والأرض) نصب على اشتغال ولم يقرأ بغيره لأنه أرجح من حيث العطف على جملة فعلية قبلها (مددناها) أي بسطناها وفرشناها على وجه الماء كما في قوله والأرض بعد ذلك دحاها وفي قوله والأرض فرشناها فنعم الماهدون وفيه رد على من زعم أنها كالكرة (وألقينا) أي جعلنا ووضعنا (فيها رواسي) أي جبالاً ثابتة لئلا تتحرك بأهلها جمع راسية كما في المختار، وقد تقدم بيان ذلك في سورة الرعد (وأنبتنا فيها من) تبعيضية وهو الصحيح أو مزيدة عند الكوفيين والأخفش (كل شيء موزون) أي مقدر معلوم فعبر عن ذلك بالوزن لأنه مقدار تعرف به الأشياء، وقيل موزون مقسوم وقيل معدود.
والمقصود من الإنبات الإنشاء والإيجاد، قال ابن زيد: الأشياء توزن، وقيل الضمير راجع إلى الجبال أي أنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة والنحاس والكحل والرصاص ونحو ذلك، وقيل موزون بميزان الحكمة ومقدر بقدر الحاجة، وقيل الموزون هو المحكوم بحسنه كما يقال كلام موزون أي حسن وخص ما يوزن لانتهاء الكيل إلى الوزن.
(وجعلنا لكم فيها) أي في الأرض (معايش) تعيشون بها من المطاعم والمشارب جمع معيشة وهي ما يعيش به الإنسان مدة حياته في الدنيا، وقيل هي الملابس، وقيل هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة، قال الماوردي: وهو الظاهر.
157
قلت: والأول أظهر قال النسفي هي بياء صريحة بخلاف الخبائث ونحوها فإن تصريح الياء فيها خطأ انتهى. وقرئ بالهمز على التشبيه بشمائل، وقد ذكر في الأعراف وهي شاذة وقراءة الجمهور بالياء لأنها في المفرد أصلية لأن مفرده معيشة من العيش فالياء أصلية والمد في المفرد لا يقلب همزاً في الجمع إلا إذا كان زائداً في المفرد قاله في الجمل.
(ومن لستم له برازقين) عطف على معايش أو على محل لكم وهم المماليك والعبيد والخدم والدواب والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله وإن ظن بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب، وهذا في غاية الامتنان والمعنى على الثاني وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش، وهم من تقدم ذكره ويدخل في ذلك الدواب على اختلاف أجناسها، وقيل أراد الوحش قاله منصور. وقال مجاهد: الأنعام، وقيل الطيور، ومنه قوله (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها).
158
(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) إن هي النافية ومن مزيدة للتأكيد، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادق على كل فرد منها، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء، والخزائن جمع خزانة وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور.
والمعنى أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة لله تعالى يخرجها من العدم إلى الوجود بمقدار كيف شاء، وقال جمهور المفسرين إن المراد بما في الآية هو المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش، وعن ابن مسعود وابن عباس: ما نقص المطر منذ أنزله الله ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى، ثم قرأ وما ننزله الآية.
قال ابن الخطيب: وتخصيص قوله هذا بالمطر تحكم محض لأن قوله وإن من شيء يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وقيل الخزائن المفاتيح أي ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه والأولى ما ذكرناه من العموم لكل
158
موجود بل قد يصدق الشيء على المعدوم على الخلاف المعروف في ذلك، وقيل في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر وهو تأويل هذه الآية.
وأخرج البزار وأبو الشيخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئاً قال له كن فكان " (١)
(وما ننزله) من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد (إلا بقدر) أي بمقدار (معلوم) والمعنى أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئاً من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبساً ذلك الإيجاد بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال تعالى (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء) وقد فسر الإنزال بالإعطاء وبالانشاء وبالإيجاد والمعنى متقارب.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٢٨٢٤.
159
(وأرسلنا الرياح) جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجو سريع المرور (لواقح) أي حوامل لأنها تحمل السحاب أي تقله وتصرفه ثم تمر به فتنزله، قال تعالى (إذا أقلت سحاباً ثقالاً) أي حملت وناقة لاقح إذا حملت الجنين في بطنها قاله الأزهري، وبه قال الفراء وابن قتيبة، وقيل لواقح بمعنى ملقحة، قال ابن الأنباري: تقول العرب أبقل النبت فهو باقل أي مبقل والمعنى أنها تلقح الشجر أي تقويها، وقيل معنى لواقح ذوات لقح، قال الزجاج: معناه ذوات لقحة لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة، يقال رامح أي ذو رمح ولابن أي ذو لبن وتامر أي ذو تمر.
قال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح ذهب إلى أنها جمع ملقحة، وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل ولقاح الشجر بلقاح الحمل، قال ابن مسعود: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدر كما تدر اللقحة، ثم تمطر، وعن ابن عباس نحوه، وعن عبيد بن عمير قال: يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب فتجعله
159
كسفاً ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه فتجعله ركاماً ثم يبعث الله اللواقح فتلقحه فتمطر.
وأخرج ابن جرير وابن أبي الدنيا وأبو الشيخ والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول " ريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه " (١) قال أبو بكر بن عياش لا تقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها فالصبا تهيج السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه.
(فأنزلنا من السماء) أي من السحاب وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وقيل من جهة السماء (ماء) المراد هنا ماء المطر (فأسقيناكموه) أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم؛ قال أبو علي: يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروي وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له، وعلى هذا فأسقيناكموه أبلغ من سقيناكموه، وقيل سقى وأسقى بمعنى واحد.
(وما أنتم له بخازنين) بل نحن الخازنون له، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) وقيل إن المعنى ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم، أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير والأحاديث الضعيفة ٣٦٥٢.
160
(وإنا لنحن نحيي ونميت) أي نوجد الحياة في المخلوقات ونسلبها عنها متى شئنا، وأن واللام تفيدان الحصر، يعني لا يقدر على ذلك سوانا وبيدنا إحياء الخلق وإماتتهم؛ والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته عز وجل وإنه القادر على البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته، ولهذا قال (ونحن الوارثون) أي للأرض ومن عليها لأنه سبحانه هو الباقي بعد فناء خلقه، الحي الذي لا يموت، الدائم
160
الذي لا ينقطع وجوده ومصير الخلق إليه، ولله ميراث السماوات والأرض.
161
(ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) المراد علمنا من تقدم ولادة وموتاً ومن تأخر فيهما؛ وقيل من تقدم طاعة ومن تأخر فيها، وقيل من تقدم في صف القتال ومن تأخر، وقيل المستقدمون هم الأمم المتقدمون على أمة محمد ﷺ من لدن آدم والمستأخرون هم أمة محمد ﷺ إلى يوم القيامة.
وقيل المستقدمون من قتل في الجهاد والمستأخرون من لم يقتل. وقيل من خلق ومن لم يخلق بعد، وقيل من أسلم أولاً ومن يسلم آخراً، واللفظ أوسع من ذلك، واللام في الموضعين هي الموطئة للقسم. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله ﷺ حسناء من أحسن النساء، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه؛ فأنزل الله هذه الآية، وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال الترمذي وهذا أشبه أن يكون أصح.
وقال ابن كثير: في هذا الحديث نكارة شديدة وعن ابن عباس قال: المستقدمين الصفوف المتقدمة والمستأخرين الصفوف المؤخرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وعن مقاتل وعطاء إن الآية في صفوف القتال. وقال الحسن المستقدمين في طاعة الله والمستأخرين في معصية الله.
وعن ابن عباس يعني بالمستقدمين من مات والمستأخرين من هو حي لم يمت، وقال أيضاً المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته، والمستأخرين في أصلاب الرجال، وعن قتادة نحوه.
161
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١)
162
(وإن ربك هو يحشرهم) أي هو المتولي لذلك القادر عليه دون غيره كما يفيده ضمير الفصل من الحصر، وفيه أنه سبحانه يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته لأنه الأمر المقصود من الحشر.
(إنه حكيم) يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة (عليم) أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كل شيء مما وسعه علمه وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو.
(ولقد خلقنا الإنسان) أي آدم عليه السلام لأنه أصل هذا النوع (من) لابتداء الغاية أو للتبعيض (صلصال) أي طين يابس إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرك تقعقع، وإذا نقرته سمعت له صلصلة. أي صوتاً.
قال أبو عبيدة: هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرك، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار، وهذا قول أكثر المفسرين وقال الكسائي هو الطين المنتن مأخوذ من قول العرب صل اللحم، وأصل إذا أنتن مطبوخاً كان أو نيئاً.
وهذا الطور آخر أطوار آدم الطينية. وأول ابتدائه أنه كان تراباً متفرق الأجزاء ثم بل فصار طيناً ثم أنتن وأسود فصار حمأً مسنوناً أي متغيراً ثم يبس فصار صلصالاً، وعلى هذه الأطوار والأحوال تتخرج الآيات الواردة في أطواره
162
الطينية كآية خلقه من تراب وآية بشراً من طين، وهذه الآية التي نحن فيها. (من) ابتدائية (حمأ مسنون) الحمأ الطين الأسود المتغير أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير.
قال ابن السكيت: تقول منه حمأت البئر حمأً بالتسكين إذا نزعت حمأها؛ وحميت البئر حمأً بالتحريك كثرت حمأتها، وأحميتها أحماء ألقيت فيها الحمأة. قال أبو عبيدة: الحمأة سكون الميم مثل الحمأة يعني بالتحريك، والجمع حمأ مثل تمرة وتمر والحمأ مصدر مثل الهلع والجزع ثم سمي به. والمسنون قال الفراء: هو المتغير وأصله من سننت الحجر على الحجر إذا حككته وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسنين، ويقال أسن الماء إذا تغير؛ ومنه قوله (لم يتسنه) وقوله (من ماء غير آسن) وكلا الاشتقاقين يدل على التغيير لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتناً.
وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب وهو من قول العرب سننت الماء على الوجه أذا صببته والسن الصب.
وقال سيبويه: المسنون المصور مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته، وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم. من قولهم وجه مسنون إذا كان فيه طول، والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بُل صار طيناً فلما أنتن صار حمأً مسنوناً فلما يبس صار صلصالاً، فأصل الصلصال هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما، وعن ابن عباس قال: خلق الإنسان من ثلاث: من طين لازب وصلصال وحمأ مسنون، فالطين اللازب اللازم الجيد والصلصال المدقق الذي يصنع منه الفخار، والحمأ المسنون الطين الذي فيه الحمأة.
وقال أيضا الصلصال الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق، وعنه قال: الصلصال هو التراب اليابس الذي يبل بعد يبسه، وقال أيضاً طين خلط برمل. وقال أيضاً الذي إذا ضربته صلصل، وعنه قال الطين تعصر بيدك فتخرج الماء من بين أصابعك، وقال
163
حمأ مسنون من طين رطب وقال من طين منتن.
164
(والجان) منصوب على الاشتغال وهو أبو الجن عند جمهور المفسرين، وقال الحسن وعطاء وقتادة ومقاتل هو أبليس أبو الشياطين وسمي جاناً لتواريه عن الأعين، يقال جن الشيء إذا ستره، فالجان يستر نفسه عن أعين بني آدم، وهما نوعان يجمعهما وصف الاستتار عنا.
وفي الجن مسلمون وكافرون، وهم يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس منهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات أبليس أبوهم. ذكره الخازن.
قال ابن عباس: الجان مسيخ الجن كالقردة والخنازير مسيخ الإنس، وقيل كان إبليس من حي الملائكة يسمون الجان، خلقوا من نار السموم، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وخلقت الملائكة من النور.
(خلقناه من قبل) أي من قبل خلق آدم (من نار السموم) وهي الريح الحارة النافذة في المسام لشدة لطفها وقوة حرارتها يكون بالنهار، وقد يكون بالليل، كذا قال أبو عبيدة.
وقال أبو صالح: السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار تكون بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمراً أخرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به، فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. قاله الخطيب.
وقيل السموم نار جهنم، وقيل هي جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، قاله ابن مسعود، وفي السمين: السموم ما يقتل من إفراط الحر من شمس أو ريح أو نار لأنها تدخل في المسام، وقيل السموم ما كان ليلاً والحرور ما كان نهاراً، وقيل هو من باب إضافة الموصوف لصفته.
وذكر خلق الجان والإنسان في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى. قال ابن عباس: من نار السموم من أخس النار الحارة التي تقتل، وعن ابن مسعود قال: السموم التي
164
خلق منها الجان جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً.
165
(و) اذكر (إذ قال ربك للملائكة) بين سبحانه بعد ذكره لخلق الإنسان ما وقع له عند خلقه، وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة (إني خالق بشراً) مأخوذ من البشرة وهي ظاهر الجلد (من صلصال) قد تقدم تفسيره قريباً مستوفى وكذا تفسير (من حمأ مسنون
فإذا سويته) أي سويت خلقه وعدلت صورته الإنسانية وخلقته البشرية وأكملت أجزاءه وأتممت خلقه، أو سويت أجزاء بدنه بتعديل لبائعه.
(ونفخت فيه من روحي) النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر صالح لإمساكها والامتلاء بها، فمن قال إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيؤ البدن لتعلق النفس الناطقة به، ومن زائدة أو تبعيضية. قال النيسابوري: ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم، مثل ناقة الله وبيت الله.
قال القرطبي: والروح جسم لطيف أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، قال ومثله روح منه، وقد تقدم في النساء.
قال أبو السعود: وليس ثمة نفخ ولا منفوخ فيه وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحبى به من الروح التي هي من أمري.
(فقعوا له ساجدين) الفاء تدل على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ وهو أمر بالوقوع، من وقع يقع أي أسقطوا وخروا، وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود الحقيقي أي وضع الجبهة على الأرض لا مجرد الانحناء كما قال السيوطي، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء. وقيل كان السجود لله تعالى وكان آدم قبله لهم تشريفاً له، وهذا وإن كان معنى صحيحاً لكن يخالفه
165
ظاهر النظم القرآني. والأولى ما دل عليه ظاهر اللفظ فالأول أولى والخطاب للملائكة الذين قال الله لهم إني خالق بشراً.
166
(فسجد الملائكة كلهم أجمعون) عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخ، قال المبرد: قوله كلهم أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم هل سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت؟ فلما قال (أجمعون) ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة، وهو إيضاح لما سبق، وقيل قوله أجمعون توكيد بعد توكيد، ورجح هذا الزجاج.
قال النيسابوري: وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً، ولو صح أن يكون حالاً لكان منتصباً، قال الكرخي: فيه تأكيدان لزيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن ولا يكون تحصيلاً للحاصل؛ لأن نسبة أجمعون إلى كلهم كنسبة كلهم إلى أصل الجملة، أو أجمعون يفيد معنى الاجتماع. وقيل هما تأكيدان للمبالغة وزيادة الاعتناء.
ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال
(إلا إبليس) قيل هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنسن الملائكة ولكنه (أبى أن يكون مع الساجدين) استكباراً واستعظاماً لنفسه وحسداً لآدم فحقت عليه كلمة الله وقيل أنه لم يكن من الملائكة ولكنه كان معهم وبينهم فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلاً.
زاد أبو السعود إما لأنه كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً، وإما لأن من الملائكة جنساً يتوالدون وهو منهم، وقيل أن الاستثناء منقطع منفصل بناء على عدم كونه منهم وعدم تغليبهم عليه، أي ولكن إبليس أبى من السجدة، وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة.
وهذه الحملة على الأول استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء لأن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد، فبيَّن سبحانه أنه كان على وجه الإباء والاستكبار.
166
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢)
167
(قال يا إبليس) مستأنفة أيضاً، وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم بل على سبيل الإهانة والإذلال والتقريع والتوبيخ، وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة، لأنه قال في الجواب (لم أكن لأسجد لبشر خلقته) فقوله (خلقته) خطاب الحضور لا خطاب الغيبة، فقول بعض المتكلمين أنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى أبليس على لسان بعض رسله ضعيف.
قيل معنى (مالك) أيُّ غرض لك وأي سبب حملك على (أن لا تكون مع الساجدين) لآدم مع الملائكة، وهم في الشرف وعلو المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها، وعلى هذا فليست لا زائدة وإليه مال البيضاوي، وقيل زائدة بدليل ما في سورة (ص) ما منعك أن تسجد.
(قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته) مستأنفة كالتي قبلها، أي لا ينبغي لي ولا يصح مني ولا يليق بحالي؛ فاللام لتأكيد النفي جعل العلة لترك سجوده كون آدم بشراً مخلوقاً (من صلصال من حمأ مسنون) زعماً منه أنه مخلوق من عنصر نار، وهي أشرف من عنصر آدم عليه السلام وهو الطين المتغير المنتن لأنها نيرة والطين كثيف مظلم.
167
وفيه إشارة إجمالية إلى كونه خيراً منه وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) وقال في موضع آخر (أأسجد لمن خلقت طيناً) ولم يدر الخبيث أن الفضل فيما فضله الله تعالى، قال الكرخي: وحاصل كلامه أن كونه بشراً يشعر بكونه جسماً كثيفاً وهو كان روحانياً لطيفاً فكأنه يقول البشر الجسماني الكثيف أدوَن حالاً من الروحاني اللطيف فكيف يسجد الأعلى للأدنى.
وأيضاً فآدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون، وهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هي النار وهي أشرف العناصر، فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون، فهذا مجموع شبه إبليس فأجاب الله سبحانه عليه بقوله:
168
(قال فاخرج منها) أي فحيث عصيت وتكبرت فاخرج منها (فإنك رجيم) والضمير في منها قيل عائد إلى الجنة، وقيل إلى السماء، وقيل إلى زمرة الملائكة، والرجيم المرجوم بالشهب، وقيل معناه ملعون أي مطرود، لأن من يطرد يرجم بالحجارة.
وفي القاموس الرجم اللعن والشتم والطرد والهجران؛ وفي المصباح الرجم بفتحتين الحجارة والرجم القبر سمي بذلك لما يجتمع عليه من الأحجار ورجمته رجماً من باب قتل ضربته بالرجم.
(وإن عليك اللعنة) أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمراً عليك لازماً لك (إلى يوم الدين) وهو يوم القيامة والجزاء، وقيل هو ملعون في السماوات والأرض وجعل يوم الدين غاية للعنة لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت لأن المراد دوامها من غير انقطاع وذكر يوم الدين للمبالغة كما في قوله تعالى (ما دامت السماوات والأرض) أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يُعَذَّب بما هو أشد من اللعن من أنواع العذاب بما ينسى اللعن معه فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسه العذاب.
(قال رب فانظرني) أي أخرني وأمهلني ولا تمتني (إلى يوم يبعثون) أي آدم وذريته طلب أن يبقى حياً إلى هذا اليوم؛ لأنه لما سمع ذلك علم أن الله قد أخر عذابه إلى الدار الآخرة وكأنه طلب أن لا يموت أبداً لأنه إذا أخر موته إلى ذلك اليوم وأمهل إلى يوم البعث الذي هو وقت النفخة الثانية لا يموت بعد ذلك الانقطاع الموت من حين النفخة الأولى فهو يوم لا موت فيه.
وفي البيضاوي أراد بهذا السؤال أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة عند الموت إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، وقيل أنه لم يطلب أن لا يموت بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا.
(قال فإنك من المنظرين) لما سأل الإنظار أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه، وأخبره بأنه من جملة المنظرين ممن أخر آجالهم من مخلوقاته أو من جملة من أخر عقوبتهم بما اقترفوا ولم يكن إجابة الله إياه في الإمهال إكراماً له بل زيادة في بلائه وشقائه وعذابه.
ثم بيَّن سبحانه الغاية التي امهله إليها فقال
(إلى يوم الوقت المعلوم) الذي عينت وهو يوم القيامة فإن يوم الدين، ويوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، كلها عبارات عن القيامة وسمي معلوماً لأن ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى فهو معلوم عنده، وقيل أن جميع الخلائق تموت فيه، فهو معلوم بهذا الاعتبار وقيل المراد بالوقت المعلوم هو الوقت القريب من البعث فعند ذلك يموت.
وقال ابن عباس: هو النفخة الأولى يموت فيها إبليس وبين النفختين أربعون سنة، وهي مدة موته.
(قال رب بما أغويتني) الباء للقسم وما مصدرية أي أقسم بإغوائك إياي واختار البيضاوي في الأعراف كونها للسببية، ونقل كونها للقسم بصيغة التمريض لأنه وقع في مكان آخر قال فبعزتك والقصة واحدة إلا أن أحدهما أقسام بصفة ذاته، والثاني إقسام بفعله والفقهاء قالوا الإقسام بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال ومنهم من فرق بينهما، ولأن جعل الإغواء
169
مقسما به غير متعارف، قاله الكرخي.
قلت: وإقسامه هنا بإغواء الله له لا ينافي اقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره لأن الإغواء هو من جملة ما يصدق عليه العزة، وقال أهل العراق الحلف بصفة الذات كالقدرة والعظمة والعزة يمين، والحلف بصفة الفعل كالرحمة والسخط ليس بيمين، قيل والأصح أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يميناً وما لا فلا.
وجواب القسم (لأزينن لهم) أي لذرية آدم وإن لم يجر لهم ذكر للعلم بهم (في الأرض) أي ما داموا في الدنيا والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها أو بشغلهم بزينة الدنيا وحبها عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها.
(ولأغوينهم أجمعين) أي لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية وأحملهم عليها بالقاء الوسوسة في قلوبهم، وذلك أن إبليس لما علم أنه يموت على الكفر غير مغفور له حرص على إضلال الخلق بالكفر وإغوائهم، وفي الآية حجة على المعتزلة في خلق الأفعال وحملهم على التسبب عدول عن الظاهر.
170
(إلا عبادك منهم المخلصين) أي الذين استخلصتهم من العباد أو الذين أخلصوا لك العبادة والطاعة فلم يقصدوا بها غيرك، وإنما استثناهم لأنه علم أن كيده ووسوسته لا تعمل فيهم ولا يقبلون منه وحقيقة الإخلاص فعل الشيء خالصاً لله عن شائبة الغير.
(قال) الله تعالى (هذا صراط عليّ مستقيم) لا عوج فيه والمعنى حق عليّ أن أراعيه وأحفظه وهو أن لا يكون لك على عبادي سلطان، فالكلام على التشبيه عند أهل السنة كما في قوله تعالى (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) إذ لا تجب رعاية الأصلح عندنا، وقيل قال الكسائي هذا على الوعيد والتهديد كقولك لمن تهدده: طريقك عليّ ومصيرك إليّ وكقوله (إن ربك لبالمرصاد) فكان معنى هذا الكلام هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلا بعمله.
170
وقيل (عليّ) هنا بمعنى (إليّ) وقيل المعنى على أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والحجة، وقيل بالتوفيق والهداية، وقيل عائد إلى الإخلاص أي أن الإخلاص طريق عليَّ وإليّ يؤدي إلى كرامتي ورضواني.
وقال أبو السعود: والأظهر أن ذلك رد لما وقع في عبارة إبليس حيث قال (لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) الآية، وقرأ عليّ على أنه صفة مشبهة ومعناه رفيع.
171
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) المراد بالعباد هنا هم المخلصون، والمراد أنه لا تسلط أنت عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء أو نحوهما فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه قال أهل المعاني معنى (عليهم) على قلوبهم، وقال سفيان بن عيينة: معناه ليس لك عليهم قوة وقدرة على أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وهؤلاء خاصته أي الذين هداهم واجتباهم من عباده.
(إلا من اتبعك) استثنى سبحانه من عباده هؤلاء وهم المتبعون لإبليس (من الغاوين) عن طريق الحق الواقعين في الضلال وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصون).
ويمكن أن يقال بين الكلامين فرق، فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلا من اتبعه من الغاوين، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس، وكلام إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلا المخلصين، فدخل فيهم من لم يكن مخلصاً ولا تابعاً لإبليس غاوياً.
والحاصل أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس، وقد قيل أن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون ويدل على ذلك قوله تعالى (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) قال أبو السعود: وفيه مع كونه تحقيقاً لما قاله اللعين تفخيم لشأن المخلصين، وبيان لمنزلتهم، ولانقطاع مخالب الإغواء عنهم وإن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم.
171
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢)
ثم قال الله تعالى متوعداً لأتباع إبليس
172
(وإن جهنم لموعدهم) أي موعد المتبعين الغاوين (أجمعين) تأكيد للضمير أو حال
(لها سبعة أبواب) يدخل أهل النار منها وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها (لكل باب منهم) أي من الأتباع الغواة (جزء مقسوم) أي نصيب وقدر معلوم متميز عن غيره. والجزء بعض الشيء، وجزأته جعلته أجزاء، والمراد هنا بالجزء الحزب والطائفة والفريق وقيل المراد بالأبواب الأطباق طبق فوق طبق.
قال ابن جريج: النار سبع دركات وهي: جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية. فأعلاها لعصاة الموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطبقات ثم ما بعدها تحتها، ثم كذلك، كذا قيل.
والمعنى أن الله تعالى يجزئ أتباع إبليس سبعة اجزاء فيدخل كل جزء وقسم دركة من النار، والسبب فيه أن مراتب الكفر والمعاصي مختلفة، فلذلك اختلفت مراتبهم في النار.
قال الخطيب: تخصيص هذا العدد لأن أهلها سبع فرق، وقيل جعلت
172
سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين والإذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل لأنها مصادر السيئات فكانت مواردها الأبواب السبعة.
ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحداً فجعلت أبواب الجنان ثمانية، انتهى.
أقول: الحكمة في تخصيص هذا العدد لا تنحصر فيما ذكر، بل الأولى تفويضها إلى جاعلها وهو الله سبحانه، إلا أن يرد خبر صحيح عن رسول الله ﷺ فيجب المصير إليه.
وعن عليّ رضي الله عنه قال: أطباق جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها.
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي واستغربه عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " لجهنم سبعة أبواب؛ باب منها لمن سل السيف على أمتي " (١) وأخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ " في الآية جزء أشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله " وقد وردت في صفة النار وأهوالها أحاديث وآثار كثيرة ليس هذا موضع استقرائها (٢)
_________
(١) الترمذي، كتاب التفسير، سورة ١٥/ ٢ - أحمد بن حنبل ٢٩/ ٩٤.
(٢) وللمفسر كتاب جيد في التخويف من النار نشرته مطبعة الإمام.
173
(إن المتقين) أي الذين اتقوا الشرك بالله سبحانه كما قاله جمهور الصحابة والتابعين وهو الصحيح، وقيل هم الذين اتقوا جميع المعاصي، وبه قال الجبائي وجمهور المعتزلة والأول أولى، وأجمعت الأمة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول الحكم بدخول الجنة، وليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً أن يكون آتياً بجميع أنواع التقوى لأن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى كما أن الضارب هو الآتي بالضرب ولو مرة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل ولو مرة واحدة وكل فرد من أفراد الماهية يجب أن يكون مشتملاً على تلك الماهية، وبهذا التحقيق استدلوا على أن الأمر لا يفيد التكرار.
173
(في جنات) هي البساتين (وعيون) هي الأنهار الجارية أي مستغرقون فيهما والتركيب يحتمل أن يكون لجميعهم جنات وعيون أو لكل واحد منهم جنات وعيون أي عدة منهما كقوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) أو لكل واحد منهم جنة وعين تجري في قصوره ودوره فينتفع بها هو ومن يختص به من حوره وولدانه، قال الرازي: يحتمل أن يكون منها ما ذكره الله تعالى في قوله (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) الآية ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار.
174
(ادخلوها) أي قيل لهم ادخلوها وقرئ على أنه فعل مبني للمفعول أي أدخلهم الله إياها، وقد قيل إنهم إذا كانوا في جنات وعيون فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها، وأجيب بأن المعنى إنهم لما صاروا في الجنات فإذا انتقلوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها ادخلوها، والقائل هو الله تعالى أو بعض ملائكته.
(بسلام آمنين) أي بسلامة من جميع الآفات وأمن من المخافات أو من زوال هذا النعيم أو مسلمين على بعضهم بعضاً أو مسلماً عليهم من الملائكة أو من الله عز وجل.
وقال الضحاك: أمنوا الموت فلا يموتون ولا يكبرون ولا يسقمون ولا يعرون ولا يجوعون.
(ونزعنا ما في صدورهم من غل) هو الحقد والعداوة والشحناء والبغضاء والحسد وكل ذلك مذموم داخل في الغل لأنها كامنة في القلب، وقد مر تفسيره في الأعراف، وعن الحسن البصري عن عليّ: فينا والله أهل الجنة نزلت وعنه قال نزلت في ثلاثة أحياء من العرب بني هاشم وبني تميم وبني عدي، وفي أبي بكر وعمر، وعنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان والزبير وطلحة فيمن قال الله (ونزعنا ما في صدورهم من غل) وعن ابن
174
عباس قال: نزلت في عشرة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود، وفي الباب روايات.
(إخواناً) حال مقدرة قاله أبو البقاء يعني من فاعل ادخلوها ولا حاجة إليه بل هي حال مقارنة من ضمير صدورهم، والمعنى حال كونهم إخوة في الدين بالتعاطف والمحبة والمودة والمخالطة، وليس المراد منه إخوة النسب، يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد وصاروا إخواناً حال كونهم (على سرر) من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدر والياقوت.
قال أبو البقاء: يجوز أن يتعلق بنفس إخواناً لأنه بمعنى متصافين أي متصافين على سرر، وفيه نظر من حيث تأويل جامد بمشتق بعيد منه والسرر جمع سرير، وهو مثل ما بين صنعاء إلى الجابية، وقيل هو المجلس العالي الرفيع المهيأ للسرور ومنه قولهم سر الوادي لأفضل موضع منه.
(متقابلين) أي ينظر بعضهم إلى وجه بعض. قال مجاهد: لا يرى بعضهم قفا بعض، وعن ابن عباس نحوه فإذا اجتمعوا وتلاقوا ثم أرادوا الانصراف يدور سرير كل واحد منهم به بحيث يصير راكبه مقابلاً بوجهه لمن كان عنده، وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير، وهذا أبلغ في الإنس والإكرام.
وأخرج الطبراني والبغوي وابن أبي حاتم وغيرهم عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله ﷺ فتلا هذه الآية قال: " المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض ".
175
(لا يمسهم فيها) أي في الجنة مستأنفة أو حالية (نصب) أي تعب
175
وإعياء لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة لأنها نعيم خالص، ولذة محضة تحصل لهم بسهولة وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفواً عفواً قال السدي النصب المشقة والأذى (وما هم منها) أي من الجنة (بمخرجين) أبداً، وهذا نص من الله الكريم في كتابه العزيز على خلود أهل الجنة في الجنة والمراد منه خلود بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمال بلا نقصان وفوز بلا حرمان، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم، فإن علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدر لذته.
ثم قال سبحانه بعد أن قص علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل
176
(نبئ عبادي أني) بفتح الياء فيهما وسكونهما فيهما سبعيتان أي أخبر يا محمد كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع كذلك يدخل فيه المؤمن العاصي (أنا الغفور الرحيم) أي أنا الكثير المغفرة لذنوبهم الكثير الرحمة لهم كما حكمت به على نفسي إن رحمتي سبقت غضبي (١) اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة وأدخلتهم تحت أوسع الرحمة.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مرّ النبي ﷺ على ناس من أصحابه يضحكون فقال: " اذكروا الجنة واذكروا النار " فنزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل
_________
(١) مسلم ٢٧٥١ - البخاري ١٥٠٩.
176
الذي عند الله من رحمته لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار (١).
ثم إن الله سبحانه لما أمر رسوله أن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة أمره بأن يذكر لهم شيئاً مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال
_________
(١) لم يوجد بهذا اللفظ عند مسلم وورد ما جاء في حديثين مختلفين ٢٧٥٢ - ٢٧٥٥ وأخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب ١٩.
177
(وأن عذابي هو العذاب الأليم) أي الكثير الإيلام.
وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير، صاروا في حالة وسطاً بين اليأس والرجاء وخير الأمور أوسطها، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف، وبين حالتي الإنس والهيبة، وقيل لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لما أقدم على ذنب.
وفي هذه الآية لطائف منها أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله (نبئ عبادي) وهذا تشريف لهم وتعظيم كما أضاف في قوله (أسرى بعبده ليلاً) ولم يزد عليه ومنها أنه أكد ذكر الرحمة والمغفرة بمؤكدات ثلاثة:
أولها: قوله (أني).
وثانيها: (أنا).
وثالثها: التعريف في (الغفور الرحيم). وهذا يدل على تغليب جانب الرحمة والمغفرة، ولم يقل في ذكر العذاب أني أنا المعذب ولم يصف نفسه بذلك بل قال على سبيل الإخبار (أن عذابي هو العذاب الأليم).
ومنها أنه أمر رسوله أن يبلغ عباده هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.
ثم أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها
177
مرغباً في العبادة الموجبة للفوز بدرجات السعداء، ومحذراً عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء وذكر هنا أربع قصص: قصة إبراهيم ثم قصة لوط ثم قصة شعيب ثم قصة صالح، وسيأتي تفصيلها. وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال:
178
(ونبئهم عن ضيف إبراهيم) أي أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنة الله في عباده؛ وأيضاً لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين كان في ذلك تقرير لكونه الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم.
وأصل الضيف الميل، يقال أضفت إلى كذا إذا ملت إليه، والضيف من مال إليك نزولاً بك، وصارت الضيافة متعارفة في القرى، وهو في الأصل مصدر ولذلك وحد، وإن كانوا جماعة ملائكة اثني عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل على صورة غلمان حسان أرسلهم الله إليه ليبشروه بالولد ويهلكوا قوم لوط عليه السلام، وقد مر تفسير القصة مفصلاً في سورة هود عليه السلام، وسمي الضيف ضيفاً لإضافته إلى المضيف، وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان
(إذ دخلوا) أي أذكر لهم وقت دخولهم (عليه فقالوا سلاماً) أي هذا اللفظ قالوه تحية لإبراهيم.
وفي الشهاب يجوز أن يكون سلاماً منصوباً بفعل مقدر أي سلمنا أو نسلم سلاماً، ويجوز نصبه بقالوا، ولم تذكر هنا تحية إبراهيم لهم، وقد ذكرت في سورة هود فالقصة هنا مختصرة.
(قال إنا منكم وجلون) أي خائفون فزعون، وإنما قال هذا بعد أن قرب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه كما تقدم في سورة هود، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة. وقيل أنكر السلام منهم لأنه لم يكن في بلادهم، وقيل أنكر دخولهم عليه بغير استئذان.
178
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)
179
(قالوا) أي الملائكة (لا توجل) أي لا تخف، قاله عكرمة، وقرئ
لا تأجل وتوجل من أوجله أي أخافه (إنا نبشرك بغلام عليم) مستأنفة لتعليل النهي عن الوجل لأن المبشر لا يخاف منه، والعليم كثير العلم، وقيل هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن. وهذا الغلام هو إسحاق كما تقدم في هود، ولم يسمه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف.
(قال أبشرتموني) قرئ بألف الاستفهام وبغيرها (على أن مسني الكبر) أي مع حالة الكبر والهرم (فبم تبشرون) استفهام إنكار أو تعجب كأنه عجب من حصول الولد له مع ما قد صار إليه من الهرم الذي جرت العادة بأنه لا يولد لمن بلغ إليه، والمعنى فبأى شيء تبشرون، فإن البشارة بما لا يكون عادة لا تصح
(قالوا بشرناك بالحق) أي بما يكون لا محالة، أو باليقين الذي لا لبس فيه ولا خلف فيه فإن ذلك وعد الله وهو لا يخلف الميعاد ولا يستحيل عليه شيء، فإنه القادر على كل شيء.
(فلا تكن من القانطين) أي الآيسين من ذلك الذي بشرناك به فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر، وكان تعجب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ولذلك:
(قال ومن يقنط من رحمة ربه) قرئ بفتح النون من يقنط وبكسرها
179
وهما لغتان سبعيتان، وحكى فيه ضم النون شاذاً، والقنوط اليأس وبابه جلس ودخل وطرب وسلم فهو قانط وقنوط.
(إلا الضالون) أي المكذبون أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب والمعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته، كما قال الله تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، أي إني إنما استبعدت الولد لكبر سني لا لقنوطي من رحمة ربي.
ثم سألهم عما لأجله أرسلهم الله سبحانه
180
(قال فما خطبكم أيها المرسلون) الخطب الأمر الخطير والشأن العظيم، أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به، وكان قد فهم أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا لأنهم كانوا عدداً والبشارة لا تحتاج إلى عدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لازالة الوجل، ولو كانت البشارة تمام المقصود لابتدأوه بها.
(قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) أي إلى قوم لهم إجرام، فيدخل تحت ذلك الشرك وما هو دونه، وهؤلاء القوم هم قوم لوط عليه السلام، ثم استثنوا منهم من ليسوا بمجرمين فقالوا:
(إلا آل لوط) وهو استثناء متصل لأنه من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ولو كان من قوم لكان منقطعاً لكونهم قد وصفوا بكونهم مجرمين، وليس آل لوط مجرمين البتة، ويجب فيه على هذا النصب.
ثم ذكروا ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في إجرامهم فقالوا (إنا لمنجوهم) أي آل لوط (أجمعين) وهم أتباعه وأهل بيته ودينه لايمانهم، قرئ من التنجية والإنجاء ومعناهما التخليص مما وقع فيه غيرهم وهذا الكلام استئناف إخبار بنجاتهم بكونهم لم يجرموا ويكون الإرسال
180
حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وإنجاء هؤلاء على تقدير الاتصال، وعلى أنه منقطع، جرى هذا الكلام مجرى خبر، لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط ننجيهم.
181
(إلا امرأته) فليست ممن ننجيه بل ممن نهلكه لكفرها، وهذا الاستثناء من الضمير في لمنجوهم إخراجاً لها من التنجية، وقيل من آل لوط باعتبار ما حكم لهم به من التنجية، والمعنى أنها من الهالكين لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، ومنعه الزمخشري وقال: كيف يكون استثناء من استثناء، وقد اختلف الحكمان.
(قدرنا أنها لمن الغابرين) أي قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة، والغابر الباقي والماضي، وهو من الاضداد وبابه دخل.
قال الزجاج: معنى قدرنا دبرنا وهو قريب من معنى قضينا، وأصل التقدير جعل الشيء على مقدار الكفاية، وقرئ قدرنا بالتخفيف وبالتشديد.
قال الهروي: هما بمعنى وقيل ضمن قدرنا معنى العلم فلذلك علق باللام مع كون التعليق من خصائص أفعال القلوب فكسرت إن.
وقيل هذا لا يصلح علة لكسرها إنما يصلح علة لتعليقها الفعل قبلها فقط، والعلة في كسرها وجود اللام ولولاها لفتحت، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة مع كونه من فعل الله سبحانه مجازاً لما لهم من القرب عند الله، أو أنهم رسل الله وواسطة بينه وبين خلقه.
(فلما جاء آل لوط المرسلون) مستأنفة لبيان إهلاك من يستحق الهلاك وتنجية من يستحق النجاة، وفي الكلام حذف، أي فخرجوا من عند إبراهيم وسافروا من قريته إلى قرية لوط، وكان بينهما أربعة فراسخ، ولفظة آل زائدة بدليل ولقد جاءت رسلنا لوطاً.
181
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (٦٩) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١)
182
(قال) لوط مخاطباً لهم (إنكم قوم منكرون) لا أعرفكم بل أنكركم وأخاف أن تصيبوني بمكروه ولا أعرف غرضكم ولا من أي القبائل أنتم.
(قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) أي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه فالإضراب هو عن مجيئهم بما ينكره، كأنهم قالوا ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه، بل جئناك بما فيه سرورك وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك فيه قبل مجيئه.
(وأتيناك) متلبسين (بالحق) أي باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردد أو متلبساً أنت به لإبصارك له، وهو العذاب النازل بهم لا محالة (وإنا لصادقون) في ذلك الخبر الذي أخبرناك.
وقد تقدم تفسير قوله
(فأسر بأهلك بقطع من الليل) في سورة هود أي سر في جزء من الليل بهم، وهم بنتاه، فلم يخرج من قريته إلا هو وبنتاه، وفي القرطبي في سورة هود: فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم (واتبع أدبارهم) أي كن من ورائهم وامش خلفهم تذودهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب، أو لأجل أن تطمئن عليهم وتعرف أنهم ناجون.
(ولا يلتفت منكم أحد) أي أنت ولا أحد منهم فيرى ما نزل بهم من
182
العذاب فيشتغل بالنظر في ذلك ويتباطأ عن سرعة السير والبعد عن ديار الظالمين وقيل معنى لا يلتفت لا يتخلف (وأمضوا حيث تؤمرون) أي إلى الجهة التي أمركم الله سبحانه بالمضي إليها وهي جهة الشام وقيل مصر، وقيل قرية من قرى لوط، وقيل أرض الخليل عليه الصلاة والسلام وقيل الأردن، وزعم بعضهم إن حيث هنا ظرف زمان مستدلاً بقوله (بقطع من الليل) ثم قال (وامضوا حيث تؤمرون) أي في ذلك الزمان، وهو ضعيف، ولو كان كما قال لكان التركيب وامضوا حيث أمرتم، على أنه لو جاء التركيب هكذا لم يكن فيه دلالة
183
(وقضينا إليه) أي أوحينا إلى لوط عليه السلام (ذلك الأمر) هو إهلاك قومه ثم فسره بقوله:
(أن دابر هؤلاء مقطوع) الدابر هو الآخر، أي أن آخر من يبقى منهم يهلك (مصبحين) أي حال كونهم داخلين في وقت الصبح، ومثله (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) وقدره الفراء وأبو عبيدة إذا كانوا مصبحين، قال الكرخي: فإن كان تفسير معنى فصحيح، وأما الإعراب فلا ضرورة تدعو إليه، قال ابن عباس: يعني استئصال هلاكهم.
ثم ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال
(وجاء أهل المدينة) أي أهل مدينة قوم لوط وهي سذوم بسين مهملة فذال معجمة على وزن فعول، وأخطأ من قال بمهملة مدينة من مدائن قوم لوط كما سبق وتقدم أن هذا المجيء قبل قول الملائكة (فأسر بأهلك) فما في سورة هود على الترتيب الواقعي، وما هنا على خلافه، والواو لا تفيد ترتيباً.
قال الكرخي: ذكر القصة في هود بترتيب الوقوع، وهنا أخر ذكر مجيئهم عن قول الرسل، بل جئناك مع تقدمه ليستقل الأول ببيان كيفية نصرة الصابرين، والثاني بتساوي الأمم (يستبشرون) أي مستبشرين بأضياف لوط طمعاً في ارتكاب الفاحشة منهم، والاستبشار إظهار الفرح والسرور.
(قال) لهم لوط (إن هؤلاء ضيفي) وحد الضيف لأنه مصدر كما تقدم، والمراد أضيافي، وسماهم ضيفاً لأنه رآهم على هيئة الأضياف، وقومه رأوهم مرداً حسان الوجوه في غاية الحسن ونهاية الجمال، فلذلك طمعوا فيهم (فلا تفضحون) يقال فضحه يفضحه فضيحة وفضحاً إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بإظهاره.
وفي المختار فضحه فافتضح، أي كشف مساويه وبابه قطع، والاسم الفضيحة والفضوح أيضًا بضمتين، والمعنى لا تفضحوني عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون إني عاجز عن حماية من نزل بي، أو لا تفضحوني بفضيحة ضيفي، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل مايفضح المضيف.
(واتقوا الله) في أمرهم من ركوب الفاحشة (ولا تخزون) يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان، أي لا تذلوني، ويجوز أن يكون من الخزاية وهي الحياء والخجل، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة هود.
(قالوا) أي قوم لوط مجيبين له (أوَ لم ننهك عن العالمين) الاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر، أي ألم نتقدم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة، وقيل نهوه عن ضيافة غرباء الناس قال قتادة: يقولون أو لم ننهك إن تضيف أحداً أو تؤويه في قريتنا، ويجوز حمل مما في الآية على مما هو أعم من ذلك.
(قال هؤلاء بناتي) فتزوجوهن حلالاً إن أسلمتم ولا تركبوا الحرام، وقيل أراد ببناته نساء قومه لكون النبي بمنزلة الأب لقومه أو إنه كان في شريعته يحل تزوج الكافر بالمسلمة، والأول أولى وقد تقدم تفسير هذا في هود (إن كنتم فاعلين) ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي أو ما أمركم به.
184
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (٧٨)
185
(لعمرك) العمر والعمر بالفتح والضم واحد لكنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم؛ ذكر ذلك الزجاج وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح وعيشه والبقاء مدة حياته في الدنيا، والمعنى لعمرك قسمي أو يميني فحذف الخبر لدلالة الكلام عليه.
قال القاضي عياض: اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد ﷺ تشريفاً له، قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد ﷺ لأنه أكرم البرية عنده.
وعن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال (لعمرك) الآية يقول وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا وعيشك بها.
وعن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: " ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد ﷺ قال (لعمرك) الآية " أخرجه ابن مردويه، كذا في الدر المنثور للسيوطي.
185
قال ابن العربي: ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله سبحانه للوط من فضل يؤتى ضعفه من شرف لحمد ﷺ لأنه أكرم على الله منه، أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد ﷺ أرفع، قال القرطبي: ما قاله حسن فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد ﷺ كلاماً معترضاً في قصة لوط عليه السلام.
فإن قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين ونحو ذلك فما فيها من فضل، وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه، وقيل الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به، أي وخالق التين وكذلك ما بعده، وفي قوله (لعمرك) أي وخالق عمرك.
وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا القسم هو من الملائكة على إرادة القول، أي قالت الملائكة للوط لعمرك، ثم قال: وقيل الخطاب لرسول الله ﷺ وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له. انتهى.
وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
(إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أي أنهم لفي غوايتهم وشدة غِلمَتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم
186
يتحيرون، جعل الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة، والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والجملة اعتراض، أو لقوم لوط على أن القسم بلوط، قال قتادة: أي في ضلالهم يلعبون، وقال الأعمش لفي غفلتهم يترددون، وعمه من باب تعب كما في المختار.
187
(فأخذتهم الصيحة) العظيمة أو صيحة جبريل والصيحة العذاب، قال ابن جريج: الصيحة مثل الصاعقة وكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة (مشرقين) أي حال كونهم داخلين في وقت الشروق، يقال أشرقت الشمس أي أضاءت وشرقت إذا طلعت، وقيل هما لغتان بمعنى واحد، وأشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس، وقيل أراد شروق الفجر، وقيل أول العذاب كان عند شروق الفجر حين أصبحوا وامتد تمامه إلى طلوع الشمس حين أشرقوا، فلذلك قال أولاً مقطوع مصبحين وقال هاهنا مشرقين
(فجعلنا) مرتب على أخذ الصيحة (عاليها) أي عالي المدينة أو عالي قرى قوم لوط (سافلها) وقال الزمخشري الضمير لقرى، ورجح الأول بأنه تقدم ما يعود إليه لفظاً بخلاف الثاني، والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه رفعها جبريل إلى السماء من الأرض السفلى وأسقطها مقلوبة إلى الأرض، وكانت أربعة قرى فيها أربعمائة ألف مقاتل.
(وأمطرنا عليهم) أي على من كان خارجاً عن قراهم بأن كان غائباً في سفر أو غيره (حجارة من سجيل) أي من طين متحجر طبخ بالنار، وقد تقدم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود.
(إن في ذلك) المذكور من قصتهم وبيان ما أصابهم (لآيات للمتوَسِّمين) أى للمتفكرين الناظرين في الأمر يستدلون بها، وقال أبو عبيدة للمتبصرين، وقال قتادة: للمعتبرين، وقيل للمتأملين كأنهم يعرفون باطن الشيء بسمة ظاهرة وقال مجاهد للمتفرسين.
187
وأخرج البخاري في التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) " (١) والفراسة على نوعين:
أحدهما: ما يوقعه الله في قلوب الصلحاء فيعلمون بذلك أحوال الناس بإصابة الحدس والنظر والظن والتثبت.
والثاني: ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق، وللناس في هذا العلم تصانيف قديمة وحديثة، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك، والمعنى متقارب، وأصل التوسم التثبت والتفكر تفعل مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو البقر، وقيل أصله استقصاء التعرف يقال توسمت أي تعرفت مستقصياً وجوه التعرف، وقيل هو من الوسم بمعنى العلامة.
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير سورة ١٥/ ٦.
188
(وإنها لبسبيل مقيم) يعني قرى قوم لوط أو مدينتهم على طريق ثابت أو الباء بمعنى (في) وهي الطريق من المدينة إلى الشام فإن السالك في هذه الطريق يمر بتلك القرى ويشاهدها ويرى أثر عذاب الله وغضبه لأنه لم يدثر ولم يخف ولم يزل، وعن ابن عباس معنى لبسبيل لبهلاك، وعن مجاهد لبطريق معلم ليس يخفى وعن قتادة لبطريق واضح.
(إن في ذلك) المذكور من المدينة أو القرى أو ما أنزل بهم من العذاب (لآية للمؤمنين) يعتبرون بها فإن المؤمنين بالله والأنبياء والمرسلين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار ويعرفون إن ذلك إنما كان لانتقام
188
الله من الجهال لأجل مخالفتهم، وأما الذين لا يؤمنون فيحملونه على حوادث العالم وحصول القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية.
وجمع الآيات أولاً باعتبار تعدد ما قص من حديث لوط وضيف إبراهيم وتعرض قوم لوط لهم وما كان من إهلاكهم وقلب المدائن على من فيها وإمطار الحجارة على من غاب عنها، وحدها ثانياً باعتبار وحدة قرية قوم لوط المشار إليها بقوله (وأنها لبسبيل مقيم) فلا يرد كيف جمع الآية أولاً ووحدها ثانياً والقصة واحدة.
189
(وإن كان أصحاب الأيكة) شروع في قصة شعيب وذكرت هاهنا مختصرة وسيأتي بسطها في سورة الشعراء، والأيكة الغيضة وهي جماع الشجر ومجمع الشيء والجمع الأيك، وفي الأصل اسم للشجر الملتف، والمراد بها هنا البقعة التي فيها شجر مزدحم، ففي الكلام مجاز من إطلاق الحال على المحل، ويروى إن شجرهم كان دوماً وهو المقل.
فالمعنى وإن كان أصحاب الشجر المجتمع وأرباب بقعة الأشجار باعتبار إقامتهم فيها وملازمتهم لها (لظالمين) بتكذيبهم شعيباً، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق، واللام فيه للتأكيد وقيل الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها، قال أبو عبيدة: أيكة وليكة مدينتهم كمكة وبكة، وأصحابها هم قوم شعيب، وقد تقدم خبرهم.
وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً "، وعن ابن عباس قال: " أصحاب الأيكة هم قوم شعيب " والأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها.
189
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٨١) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣)
190
(فانتقمنا منهم) أي أهلكناهم بالعذاب وذلك أن الله سلط عليهم شدة الحر سبعة أيام حتى أخذ بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث الله سبحانه لهم سحابة كالظلة فالتجؤوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل يلتمسون الروح، فبعث ناراً فأحرقتهم جميعاً.
(وإنهما) الضمير يرجع إلى مدينة قوم لوط ومكان أصحاب الأيكة أي وإن المكانين (لبإمام مبين) أي لبطريق واضح ظاهر، قاله ابن عباس، وقيل يعود على الخبرين خبر إهلاك قوم لوط وخبر إهلاك قوم شعيب، وقيل يعود على أصحاب الأيكة وأصحاب مدين لأنه مرسل إليهما فذكر أحدهما مشعر بالآخر وأرجح الأقوال هو الأول.
والإمام اسم لما يؤتم به ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك، قال الفراء والزجاج، سمي الطريق إماماً لأنه يؤتم به ويتبع، وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده، وقيل الضمير للأيكة، ومدين لأن شعيباً كان ينسب إليهما.
ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال
(ولقد كذب أصحاب الحجر) قال قتادة: هم أصحاب الوادي وكانوا ثمود قوم صالح، والحجر اسم لديار ثمود قاله الأزهري وهى ما بين مكة وتبوك، وقال ابن جرير: هي أرض بين الحجاز والشام وآثارها موجودة باقية يمر عليها ركب الشام إلى الحجاز وبالعكس.
190
وإنما قال الله سبحانه (المرسلين) ولم يرسل إليهم إلا صالحاً لأن من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله، وقيل كذبوا صالحاً ومن تقدمه من الأنبياء، وقيل كذبوا صالحاً ومن معه من المؤمنين.
191
(وآتيناهم آياتنا) المنزلة على نبيهم ومن جملتها الناقة فإن فيها آيات جمة كخروجها من الصخرة ودنوّ نتاجها عند خروجها وعظمها وكثرة لبنها وإنما إضاف الآيات إليهم وإن كانت لصالح لأنه مرسل إليهم بهذه الآيات (فكانوا عنها) أي عن الآيات (معرضين) أي غير معتبرين بها ولا ملتفتين إليها بل تاركين لها، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم، قال الكرخي: وذلك يدل على أن النظر والاستدلال واجب وأن التقليد مذموم.
(وكانوا ينحتون) النحت في كلام العرب البري والنجر، نحته ينحته بالكسر نحتاً أي براه وفي التنزيل أتعبدون ما تنحتون أي تنجرون وكانوا يتخذون لأنفسهم (من الجبال بيوتاً) بضم الباء وكسرها سبعيتان أي يخرقونها في الجبال (آمنين) أي حال كونهم آمنين من الخراب ونقب اللصوص لها لشدة إحكامها أو من أن يقع عليهم الجبل أو السقف، قاله الفراء، وقيل آمنين من الموت وقيل من العذاب ركوناً منهم على قوتها ووثاقتها.
وقال بعضهم المراد أنهم يتخذون بيوتاً في الجبال بنقرها وقطع الصخر منها بالمعاويل حتى تصير مساكن من غير بنيان.
(فأخذتهم الصيحة) أي العذاب وهو الرجفة أو الزلزلة الشديدة من الأرض (مصبحين) أي داخلين في وقت الصبح، وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف وفي هود وتقدم أيضاً قريباً.
191
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
192
(فما أغنى) أي لم يدفع (عنهم) شيئاً من عذاب الله (ما كانوا يكسبون) من الأموال والحصون في الجبال أو من الشرك والأعمال الخبيثة.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " (١) وأخرج ابن مردويه عنه قال نزل رسول الله ﷺ عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم بإهراق القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا فقال إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم فلا تدخلوا عليهم " (٢).
_________
(١) مسلم ٢٩٨٠ - البخاري ٢٨٤.
(٢) مسلم ٢٩٨١ - البخاري ١٥٩٥.
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا) متلبسة (بالحق) وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح، ولذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعاً
192
لفسادهم وإرشاداً لمن بقي إلى الصلاح، وقيل المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما في قوله سبحانه (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) وقيل المراد بالحق الزوال لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل.
(وإن الساعة لآتية) وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بأن يصفح عن قومه فقال (فاصفح الصفح الجميل) أي تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً، وقيل فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم بالانتقام وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.
قال عليّ: الصفح الجميل الرضا بغير عتاب؛ وعن ابن عباس مثله وعن مجاهد قال: هذه الآية قبل القتال: وعن عكرمة مثله، يعني هذا منسوخ بآية السيف وفيه بعد، لأن الله أمر نبيه أن يظهر الخلق الحسن وأن يعاملهم بالعفو والصفح الخالي من الجزع والخوف والأمر بالصفح الجميل لا ينافي قتالهم.
193
(إن ربك هو الخلاق) أي الخالق للخلق جميعاً (العليم) بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم.
(ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) من للتبعيض أو للبيان على اختلاف الأقوال في المراد، ذكر معنى ذلك الزجاج فقال: هي للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال، وللبيان إذا أردت الاسباع؛ واختلف أهل العلم فيها ماذا هي، فقال جمهور المفسرين أنها الفاتحة.
قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي، وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا العالية، وزاد النيسابوري الضحاك. وسعيد بن جبير، وقد روي ذلك من قول رسول الله ﷺ كما سيأتي بيانه فتعين المصير إليه.
193
وقيل هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والسابعة الأنفال والتوبة لأنهما كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية روي هذا عن ابن عباس.
وقيل السابعة هي سورة يونس، وقيل المراد بها السبعة الأحزاب فإنها سبع صحائف: وقيل هي السور التي دون الطوال وفوق المفصل وهي التين.
والمثاني جمع مثناة من التثنية وهي التكرير أو جمع مثنية. وقال الزجاج: يثنى بما يقرأ بعدها معها؛ فعلى القول الأول يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني أنها تثنى أي تكرر في كل صلاة، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية أن العبر والأحكام والحدود كررت فيها، وعلى القول بأنه السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها.
وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحاك وطاووس وأبو مالك وهو رواية عن ابن عباس، واستدلوا بقوله تعالى (كتاباً متشابهاً مثاني) وقيل المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن: وهي الأمر والنهي والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعريف النعم، وأنباء القرون الماضية، قاله زياد بن أبي مريم. ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا يستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم، وقد تقرر أنها المرادة بهذه الآية فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها (والقرآن العظيم) المراد به سائر القرآن؛ قاله ابن مسعود، فيكون من عطف العام على الخاص لأن الفاتحة بعض من القرآن؛ وكذلك أن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال لأنها بعض من القرآن إن أريد به القدر المشترك الصادق على الكل والبعض أو من عطف الكل على البعض إن أريد به المجموع الشخصي.
وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه من باب عطف أحد الوصفين على الآخر.
ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكيّة وأكثر
194
السبع الطوال مدنية؛ وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه، وظاهر قوله (ولقد آتيناك) الخ أنه قد تقدم إيتاء السبع على نزول هذه الآية.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد؛ فذهب النبي ﷺ ليخرج فذكرت فقال " الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم " (١).
وأخرج البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم " (٢).
فوجب بهذا المصير إلى القول بأنها فاتحة الكتاب، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدمنا، وعن الضحاك قال: المثاني القرآني يذكر الله القصة الواحدة مراراً، وعن زياد بن أبي مريم في الآية قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مُرْ، وأنْهَ، وبشِّر، وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واتل نبأ القرآن.
ثم لما بيَّن الله لرسوله ﷺ ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره الله عن اللذات العاجلة الزائلة فقال
_________
(١) البخاري التفسير سورة ١/ ١ - ١٥/ ٣. الترمذي كتاب ثواب القرآن الباب١.
(٢) البخاري، كتاب فضائل القرآن، الباب ٩ - الترمذي، كتاب ثواب القرآن، باب١.
195
(لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم) أي لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمن لها؛ قال الواحدي: إنما يكون ماداً عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه.
وقال بعضهم: المعنى لا تحسدن أحداً على ما أوتي من الدنيا، ورد بأن الحسد منهى عنه مطلقاً، وإنما قال في هذه السورة لا تمدن بغير واو؛ لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه.
195
وعن ابن عباس قال: في قوله لا تمدن عينيك نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه والأزواج الأصناف قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري: الأزواج القرناء؛ وقيل يعني اليهود والنصارى والمجوس. وعن مجاهد في قوله أزواجاً منهم، قال الأغنياء الأمثال والأشباه.
وعن سفيان بن عيينة قال: من أعطي القرآن فمد عينيه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن ألم تسمع قوله (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) إلى قوله (ورزق ربك خير وأبقى) وقد فسر ابن عيينة أيضاً الحديث الصحيح " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " (١) فقال إن المعنى لم يستغن به.
ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال (ولا تحزن عليهم) حيث لم يؤمنوا وصمموا على الكفر والعناد. وقيل المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا وفاتك من مشاركتهم فيها فإن لك الآخرة؛ والأول أولى.
روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال؛ قال رسول الله ﷺ " لا تغبطن فاجراً بنعمته فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته إن له عند الله قاتلاً لا يموت، قيل وما هو؟ قال النار " (٢).
وعنه عند مسلم مرفوعاً " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " (٣) قال عوف: كنت أصحب الأغنياء فما كان أحداً أكثر هماً مني، كنت أرى دابة خيراً من دابتي وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت.
ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار وأن يحزن عليهم وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم أمره أن يتواضع للمؤمنين فقال (واخفض
_________
(١) البخاري، كتاب التوحيد، باب ٤٤ - أبو داود، كتاب الوتر، الباب ٢٠.
(٢) مشكاة المصابيح ٥٢٤٨.
(٣) مسلم ٢٩٦٣ - البخاري ٢٤٣٤.
196
جناحك للمؤمنين) خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب، ومنه قوله سبحانه (واخفض لهما جناح الذل) وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفاً لتواضع الإنسان لأتباعه، ويقال فلان خافض الجناح أي وقور ساكن، والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه واضمم يدك إلى جناحك.
197
(وقل إني أنا النذير المبين) أي المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله
(كما أنزلنا على المقتسمين) عذاباً، أي إني أنا النذير لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم كقوله تعالى (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) وقيل أن الكاف زائدة، وقيل متعلق بمحذوف والتقدير أنزلنا إليك إنزالاً مثل ما أنزلنا. قاله الكرخي.
وقيل هو متعلق بقوله (ولقد آتيناك) أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون قاله الزمخشري، والأولى أن يتعلق بقوله (إني أنا النذير المبين) لأنه في قوة الأمر بالإنذار.
وقد اختلف في المقتسمين من هم على أقوال سبعة، فقال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها، يقولون لمن دخل مكة لا تغتروا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن، فقيل لهم المقتسمون لأنهم اقتسموا هذه الطرق.
وقيل إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين، قاله قتادة، وقيل هم أهل الكتاب وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقسمون القرآن استهزاء فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك، روي هذا عن ابن عباس، وقيل أنهم اقتسموا كتابهم وفرقوه وبددوه وحرفوه.
197
وقيل المراد قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين كما قال تعالى (تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله).
قلت: وفي هذا الوجه قرب من حيث المقاسمة وبعد من حيث وصفهم بجعلهم القرآن عضين، وأما الأوجه الآخرة فهي مستقيمة، وقيل تقاسموا أيماناً تحالفوا عليها قاله الأخفش، وقيل أنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري والنضر بن الحرث وأمية بن خلف وشيبة بن الحجاج؛ ذكره الماوردي.
198
(الذين جعلوا القرآن عضين) جمع عضة وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء وأجزاء فيكون المعنى على هذا: الذين جعلوه أجزاء متفرقة بعضه شعر وبعضه سحر وبعضه كهانة ونحو ذلك، وقيل مأخوذ من عضهته إذا بهته فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء، وقيل معنى عضين إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، وقيل العضة والعضين في لغة قريش السحر وهم يقولون للساحر عاضه وللساحرة عاضهة.
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ لعن العاضهة والمستعضهة وفسر بالساحرة والمستسحرة، والمعنى أنهم أكثروا البهت على القرآن وسموه سحراً وكذباً وأساطير الأولين، ونظير عضة في النقصان شفة والأصل شفهة وكذلك سنة أصلها سنهة، قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون وقال الفراء: أنه مأخوذ من العضاة وهي شجرة تؤذي وتجرح كالشوك، ويجوز أن يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ ويراد بالمقتسمين هم اليهود والنصارى، أي جعلوهما أجزاء متفرقة وهو أحد الأقوال المتقدمة.
198
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
199
(فوربك) أقسم الله سبحانه بنفسه الكريمة وربوبيته العظيمة (لنسألنهم) أي هؤلاء الكفرة (أجمعين) يوم القيامة سؤال توبيخ
(عما كانوا يعملون) في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها ويسألون عنها، وقيل إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد.
وقد أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي ﷺ في الآية قال عن قول لا إله إلا الله، وروي عن أنس موقوفاً، وعن ابن عمر مثله، والعموم يفيد ما هو أوسع من ذلك.
وقيل أن المسؤولين هاهنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار، ويدل عليه قوله: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) وقوله: (وقفوهم إنهم مسؤولون) وقوله (إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم) وممكن أن يقال إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم.
(فاصدع بما تؤمر) قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به من الشرائع أخذاً من الصديع وهو الصبح انتهى. وأصل الصدع الفرق والشق يقال صدعته فانصدع أي انشق وتصدع القوم أي تفرقوا، ومنه يومئذ يصدعون أي يتفرقون، قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر أي أظهر دينك، فـ (ما) مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر، وقال ابن الأعرابي معناه اقصد، وقيل فرق
199
جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون، والأولى أن الصدع الإظهار كما قاله الزجاج والفراء وغيرهما.
قال الواحدي: قال المفسرون أي اجهر بالأمر أي بأمرك بعد إظهار الدعوة وما زال النبي ﷺ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه وقال ابن عباس هذا أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه، واصدع بمعنى أمضه وأعلن.
ثم أمره الله سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين فقال (وأعرض عن المشركين) أي لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة.
قال ابن عباس نسخه قوله تعالى (واقتلوا المشركين) وليس للنسخ وجه لأن معنى الإعراض ترك المبالاة بهم والالتفات إليهم، فلا يكون منسوخاً.
ثم أكد هذا الأمر وثبت قلب رسوله ﷺ بقوله
200
(إنا كفيناك المستهزئين) مع أنهم كانوا من أكابر الكفار وأهل الشوكة فيهم، فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحرث بن الطلاطلة، كذا قال القرطبي ووافقه غيره من المفسرين.
وقد أهلكهم الله جميعاً يوم بدر، وكفاه أمرهم في يوم أحد، وقد روي هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم ونقص على طول في ذلك.
ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال
(الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر) فلم يكن ذنبهم مجرد الاستهزاء بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه ثم توعدهم فقال (فسوف يعلمون) كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه.
200
ثم ذكر تسلية أخرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه مكرهم فقال
201
(ولقد نعلم إنك يضيق صدرك بما يقولون) الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن عن رسول الله ﷺ بالسحر والجنون والكهانة والكذب وقد كان يحصل ذلك من رسول الله ﷺ بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني وإن كان مفوضاً جميع أموره لربه.
ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال
(فسبح بحمد ربك) أي افزع إلى الله فيما نابك وافعل التسبيح المتلبس بالحمد أو فنزهه عما يقولون حامداً له على أن هداك للحق (وكن من الساجدين) أي من المصلين فإنك إذا فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك، وفي الكلام مجاز ثم أمره بعبادة ربه فقال:
(واعبد ربك) من عطف العام على الخاص أي دم على عبادته إلى غاية هي قوله (حتى يأتيك اليقين) قال الواحدي: قال جماعة المفسرين يعني الموت " لأنه موقن به متيقن الوقوع والنزول، لا يشك فيه أحد.
وقال أبو حيان: أن اليقين من أسماء الموت وبنزوله يزول كل شك، ووقَّت العبادة بالموت إعلاماً بأنها ليست لها نهاية دون الموت، فلا يرد ما قيل أي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات.
وإيضاح الجواب أن المراد واعبد ربك في جميع زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة والله أعلم بمراده.
قال الزجاج: المعنى اعبد ربك أبداً لأنه لو قيل أعبد ربك بغير توقيت لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعاً فإذا قال حتى يأتيك اليقين فقد أمره بالإقامة على العبادة أبداً ما دام حياً، ومثله قوله تعالى في سورة مريم (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) وكان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
201
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله ﷺ ما أوحي إلي أن اجمع المال وكن من التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " وروي بطرق كثيرة.
202

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النحل
(مائة وثمان وعشرون آية)
وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن عبد الله، وروي عن ابن عباس وأبي الزبير أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من أحد وهي قوله تعالى: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلاً) إلى قوله (تعملون) وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) وقوله: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) وقوله: (وإن عاقبتم) إلى آخر السورة، وزاد مقاتل قوله: (من كفر بالله من بعد إيمانه) الآية (وضرب الله مثلاً قرية)، وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية، والأول أولى وتسمى هذه سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم.
203

بسم الله الرحمن الرحيم

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧)
205
Icon