ﰡ
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطه فأنزل الله ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين﴾.
التفسِير: ﴿
الار﴾ إشارة إلى إعجاز القرآن أي هذا الكتاب العجيب المعجز كلام الله تعالى وهو منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية الألف واللام والراء ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ أي هذه آيات الكتاب، الكامل في الفصاحة والبيان، المتعالي عن الطاقة البشرية، ﴿وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ﴾ أي قرآنٍ عظيم الشأن، واضحٍ بيّن، لا خلل فيه ولا اضطراب ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي ربما تمنى الكفار ﴿لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ أي لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك عند معاينة أهوال الآخرة ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ﴾ أي دَعْهم يا محمد يأكلوا كما تأكل البهائم، ويستمتعوا بدنياهم الفانية ﴿وَيُلْهِهِمُ الأمل﴾ أي يشغلهم الأمل بطول الأجل، عن التفكر فيما ينجيهم من عذاب الله ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ أي عاقبة أمرهم إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا، وهو ويعد وتهديد ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى الظالمة التي كذبت رسل الله ﴿إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ أي إلا لها أجل محدود لإهلاكها ﴿مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾ أي لا يتقدم هلاك أمةٍ قبل مجيء أوانه ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ أي ولا يتأخر عنهم قال ابن كثير: وهذا تنبيهٌ لأهل مكة وإِرشاد لهم غلى الإِقلاع عما هم عليه من العِناد والإِلحاد الذي يستحقون به الهلاك ﴿وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر﴾ قال كفار قريش لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على جهة الاستهزاء والتهكم: يا من تزعم وتدعي أن القرآن نزل عليك ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ أي إنك حقاً لمجنون، أكّدوا الخبر بإنَّ واللام مبالغة في الاستخفاف والاستهزاء بمقامه الشريف عليه السلام ﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي هلاّ جئتنا بالملائكة لتشهد لك بالرسالة إن كنت صادقاً في دعواك أنك رسول الله!! قال تعالى رداً عليهم ﴿مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق﴾ أي ما ننزّل ملائكتنا إلا بالعذاب لمن أردنا إهلاكه ﴿وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ﴾ أي وفي هذه الحالة وعندئذٍ لا إمهال ولا تأجيل، والغرض أن عادة الله تعالى قد جرت في خلقه أنه لا ينزل الملائكة إلا لمن يريد
﴿بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله﴾ [المائدة: ٤٤] وانظر الفرق بين هذه الآية ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ حيث ضمن حفظه وبين الآية السابقة حيث وكل حفظه إليهم فبدَّلوا وغيَّروا ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين﴾ أي ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً في طوائف وفرق الأمم الأولين ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي وما جاءهم رسولٌ إلاّ سخروا منه واستهزءوا به، وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فُعل بمن قبلك من الرسل فلا تحزن ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين﴾ أي كذلك نسلك الباطل والضلال والاستهزاء بأنبياء الله في قلوب المجرمين، كما سلكناه وأدخلناه في قلوب أولئك المستهزئين ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين﴾ أي لا يؤمنون بهذا القرآن وقد مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك والدمار؟ ثم بيَّن تعالى أن كفار مكة لا ينقصهم توافر براهين الإيمان فهم معاندون مكابرون، وفي ضلالهم وعنادهم سائرون فقال ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ أي لو فرض أننا أصعدناهم إلى السماء، وفتحنا لهم باباً من أبوابها، فظلوا يصعدون فيه حتى شاهدوا الملائكة والملكوت ﴿لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ أي لقالوا - لفرط مكابرتهم وعنادهم - إنما سُدَّت أبصارنا وخُدعت بهذا الارتقاء والصعود ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ أي سحرنا محمد وخيَّل إلينا ذلك وما هو إلا سحر مبين قال الرازي: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلكانه، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكّوا في تلك الرؤية، وبقوا مصرين على لاكفر والعناد كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر، والقرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإِنس أن يأتوا بمثله، ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً﴾ أي جعلنا في السماء منازل تسير فيها الأفلاك والكواكب ﴿وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ أي زيناها بالنجوم ليُسرَّ الناظر إليها ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ أي حفظنا السماء الدنيا من كل شيطان لعين مطرود من رحمة الله ﴿إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾ أي إلا من اختلس شيئاً من أخبار السماء فأدركه ولحقه شهاب ثاقب فأحرقه ﴿والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي بسطناها ووسعناها وجعلنا فيها جبالاً ثوابت ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ أي أنبتنا في الأرض من الزروع والثمار من كل شيءٍ موزون بميزان
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠] ؟ ﴿وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون﴾ أي الحياة والموت بيدنا ونحن الباقون بعد فناء الخلق، نرث الأرض الأرض ومن عليها وإلينا يُرجعون ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين﴾ أي أحطنا علماً بالخلق أجمعين، الأموات منهم والأحياء قال ابن عباس: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة وقال مجاهد: المستقدمون: الأمم السابقة، والمستأخرون أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والغرضُ أنه تعالى محيطٌ علمه بمن تقدم وبمن تأخر، لا يخفى عليه شيء من أحوال العباد، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ﴾ أي وإن ربك يا محمد هو يجمعهم للحساب والجزاء ﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه، ولما ذكر تعالى الموت والفناء، والبعث والجزاء، نبّههم إلى مبدأ أصلهم وتكوينهم من نفسٍ واحدة، ليشير إلى أن القادر على الإِحياء قادر على الإِفناء والإِعادة، وذكّرهم بعداوة إبليس لأبيهم آدم ليحذروه فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ﴾ أي خلقنا آدم من طين يابسٍ يسمع له صَلْصلة أي صوت إذا نُقر ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ أي من طين أسود متغيّر ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ أي ومن قبل آدم خلقنا الجانَّ - أي الشياطين ورئيسهم إبليس - من نار السموم وهي النار الحارة الشديدة التي تنفذ في المسامّ فتقتل بِحرها قال المفسرون: عني بالجانِّ هنا «إبليس» أبا الجنِّ لأن منه تناسلت الجن فهو أصل لها كما أن آدم أصل للإِنس ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ أي اذكر يا محمد وقت قول ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين يابسٍ، أسود متغيّر قال ابن كثير: فيه تنويهٌ بذكر آدم في الملائكة قبل خلقه له، وتشريفه إيّاه بأمر الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أي سويت خَلْقه وصورته، وجعلته إنساناً كاملاً معتدل الأعضاء ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ أي أفضتُ عليه من الروح التي هي خلقٌ من خلقي فصار بشراً حياً ﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ أي خرو له ساجدين، سجود تحيةٍ
١ - المجاز المرسل في ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ المراد أهلها وهو من باب إطلاق المحل وإرادة الحالّ.
٢ - الاستعارة التخيليَّة في ﴿عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ فهو تمثيل لكمال قدرته، شبَّه قدرته على كل شيء بالخزائن المودوعة فيها الأشياء، وإخراج كل شيء بحسب ما اقتضته حكمته على طريق الاستعارة.
٣ - الطباق بين ﴿نُحْيِي... وَنُمِيتُ﴾ وبين ﴿المستقدمين... المستأخرين﴾.
٤ - جناس الاشتقاق في ﴿خَزَائِنُهُ... وخَازِنِينَ﴾.
٥ - السجع الذي له وقع على السمع مثل ﴿المجرمين، الأولين، المنظرين﴾ الخ.
لطيفَة: ذكر أن رجلاً أراد أن يمتحن الأديان أيها أصح وأحسن؟ فعمد إلى التوراة والإِنجيل والقرآن - وكان خطاطاً - فنسخ من كل كتاب نسخة بخط جميل وزاد فيها ونقص، ثم عرض التوراة على علماء اليهود فقبلوها وتصفحوها وأكرموه بالمال، ثم عرض الإِنجيل الذي نسخه بيده على القسس فاشتروه بثمن كبير وأكرموه، ثم عرض نسخة القرآن على شيوخ المسلمين فنظروا فيه فلما رأوا فيه بعض الزيادة والنقص أمسكوا به فضربوه ثم رفعوا أمره إلى السلطان فحكم بقتله، فلما أراد قتله أشهر إسلامه وأخبرهم بقصته وأنه امتحن الأديان فعرف أن الإسلام دين حق. انظر تفسير القرطبي ١٠/٦.
اللغَة: ﴿نَصَبٌ﴾ تعب وإعياء ﴿وَجِلُونَ﴾ خائفون فزعون ﴿الغابرين﴾ الباقين في العذاب ﴿القانطين﴾ القنوط: كمالُ اليأس ﴿تَفْضَحُونِ﴾ الفضيحةُ: أن يُظهر من أمره ما يلزمه به العارُ، يقال: فضحه الصبح إذا أظهره للناس قال الشاعر:
ولاح ضوءُ هلالٍ كاد يفضحنا | مثلُ القلامةِ قد قُصَّت من الظُّفُر |
إني توسَّمتُ فيك الخير أعرفه | والله يعلم أني ثابتُ البصر |
سَبَبُ النّزول: روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: أتضحكون وبين أيديكم الجنةُ والنار؟ فشقَّ ذلك عليهم فنزلت ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾ ».
التفسِير: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي إن الذين اتقوا الفواحش والشرك لهم في الآخرة البساتين الناضرة، والعيون المتفجرة بالماء والسلسبيل والخمر والعسل ﴿ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ أي يقال لهم: أُدخلوا الجنة سالمين من كل الآفات، آمنين من الموت ومن زوال هذا النعيم ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ أي أزلنا ما في قلوب أهل الجنة من الحقد والبغضاء والشحناء ﴿إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ أي حال كونهم إخوةً متحابين لا يكدّر صفوهم شيء، على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه قال مجاهد: لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض زيادةً في الانس والإِكرام، وقال ابن عباس: على سررٍ من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت والزبرجد ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾ أي لا يصيبهم في الجنة إعياءٌ وتعب ﴿وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ أي لا يُخرجون منها ولا يُطردون، نعيمهم خالد، وبقاؤهم دائم، لأنها دار الصفاء والسرور ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم﴾ أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين بأني واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾ أي وأخبرهم أنَّ عذابي شديد لمن أصرَّ على المعاصي والذنوب قال أبو حيان: وجاء قوله ﴿وَأَنَّ عَذَابِي﴾ في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة (وأني المعذّب المؤلم) وكل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي وأخبرهم عن قصة ضيوف إبراهيم، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط، وكانوا عشرة على صورة غلمانٍ حسانٍ معهم جبريل ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً﴾ أي حين دخلوا على إبراهيم فسلَّموا عليه ﴿قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾ أي قال إبراهيم إنّا خائفون منكم، وذلك حين عرض عليهم الأكل فلم يأكلوا ﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ أي قالت الملائكة لا تخف فإنا نبشرك بغلام واسع العلم، عظيم الذكاء، هو إسحاق ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ أي قال إبراهيم أبشرتموني بالولد على حالة الكبر والهرم، فبأي شيء تبشروني؟ قال ذلك على وجه التعجب والاستبعاد ﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين﴾ أي بشرناك باليقين الثابت فلا تستبعدْه ولا تيأس من رحمة الله ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون﴾ استفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة الله إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب، الجاهلون برب الأرباب، أما القلب العامر بالإِيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط قال البيضاوي: وكان تعجب إبراهيم عليه السلام با.
.. العادة دون القدرة فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن
«الحمدُ للهِ رب العالمين هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه» وقيل: هي السور السبع الطوال، والأول أرجح ﴿والقرآن العظيم﴾ أي وآتيناك القرآن العظيم الجامع لكمالات الكتب السماوية ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
١٦٤٨ - ; مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾ أي لا تنظر إلى ما متعنا به بعض هؤلاء الكفار، فإن الذي أعطيناك أعظم منها وأشرف وأكرم، وكفى بإِنزال القرآن عليك نعمة ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي لا تحزن لعدم إيمانهم ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي تواضعْ لمن آمن بك من المؤمنين وضعفائهم ﴿وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين﴾ أي قل لهم يا محمد أنا المنذر من عذاب الله، الواضح البيِّن في الإِنذار لمن عصى أمر الجبار ﴿كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين﴾ الكاف للتشبيه والمعنى أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فانقسموا إلى قسمين ﴿الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ﴾ أي جعلوا القرآن أجزاءٌ متفرقة وقالوا فيه أقوالاً مختلفة قال ابن عباس: آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم له بقولهم سحر، وشعر، وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب مثل فعل كفار مكة ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي فأقسمُ بربك يا محمد لنسألنَّ الخلائق أجميعن عما كانوا يعملون في الدنيا ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين﴾ أي فاجهر بتبليغ أمر ربك، ولا تلتفت إلى ما يقول المشركون ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين﴾ أي كفيناك شرَّ أعدائك المستهزئين بإهلاكنا إياهم وكانوا خمسة من صناديد قريش ﴿الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي الذين أشركوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدارين ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ أي يضيق صدرك بالاستهزاء والتكذيب ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين﴾ أي فافزع فيما نالك من مكروه إلى التسبيح والصلاة والإِكثار من ذكر الله ﴿واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين﴾ أي اعبد ربك يا محمد حتى يأتيك الموت، سمي يقيناً لأنه متيقن الوقوع والنزول.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - الإِيجاز بالحذف في ﴿ادخلوها بِسَلامٍ﴾ أي يقال لهم أدخلوها.
٢ - المقابلة اللطيفة في ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم﴾ مع الآية بعدها ﴿وَأَنَّ عَذَابِي﴾ فقد قابل بين العذاب والمغفرة وبين الرحمة الواسعة والعذاب الأليم، وهذا من المحسنات البديعية.
٣ - الكناية في ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ﴾ كنَّى به عن عذاب الاستئصال.
٤ - المجاز في ﴿قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين﴾ أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مجازاً
٥ - الجناس الناقص في ﴿الصيحة مُصْبِحِينَ﴾ وجناس الاشتقاق في ﴿فاصفح الصفح﴾.
٦ - صيغة المبالغة في ﴿الغفور الرحيم﴾ وفي ﴿الخلاق العليم﴾.
٧ - الطباق في ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾.
٨ - السجع بلا تكلف في مواطن عديدة مثل ﴿آمِنِينَ، مُّصْبِحِينَ، مُعْرِضِينَ﴾.
٩ - عطف العام على الخاص في ﴿سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾.
١٠ - الاستعارة التبعية في ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث شبّه إلانة الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كلٍ واستعير اسم المشبَّه به للمشبَّه، وهذا من بليغ الاستعارات لأن الطائر إذا كف عن الطيران خفض جناحيه.
تنبيه: الجمع بين هذه الآية ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وبين قوله ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون﴾ [القصص: ٧٨] وقوله ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩] أن القيامة مواطن، فموطنٌ يكون فيه سؤال وكلام، وموطنٌ لا يكون ذلك فيه، هذا قول عكرمة، وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا، لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟