بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الرابع عشر من أجزاء القرآن الكريمسورة الحجر مكية بالإجماع وحروفها ألف وسبعمائة وواحد وسبعون وكلماتها ستمائة وأربعة وخمسون وآياتها تسع وتسعون.
ﰡ
(سورة الحجر
مكية بالإجماع وحروفها ألف وسبعمائة وواحد وسبعون وكلماتها ستمائة وأربعة وخمسون وآياتها تسع وتسعون
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٥٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩)
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩)
إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
ربما بفتح الباء مخففة: أبو جعفر ونافع وعاصم غير الشموني.
وربما بضم الباء خفيفة: الشموني. الباقون بالفتح والتشديد ما نُنَزِّلُ بالنون الْمَلائِكَةَ بالنصب: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. ما تنزل بضم التاء وفتح الزاي المشددة الْمَلائِكَةَ بالرفع: أبو بكر وحماد الباقون مثله، ولكن بفتح التاء ما تنزل بالإدغام: البزي وابن فليح سكرت خفيفة: ابن كثير فتحنا بالتشديد: يزيد الريح على التوحيد: حمزة وخلف صِراطٌ عَلَيَّ بكسر اللام ورفع الياء على النعت: يعقوب الآخرون علي جارا ومجرورا وَعُيُونٍ بكسر العين: حمزة وعلي وابن كثير وابن ذكوان والأعشى ويحيى وحماد. الباقون بضمها نَبِّئْ عِبادِي مثل نبئنا عبادي أني بالفتح فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والآخرون بالإسكان.
الوقوف
الر قف كوفي مُبِينٍ هـ مُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ هـ مَعْلُومٌ هـ وَما يَسْتَأْخِرُونَ هـ لَمَجْنُونٌ هـ ط لأن التحضيض له صدر الكلام الصَّادِقِينَ هـ مُنْظَرِينَ هـ لَحافِظُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ يَعْرُجُونَ هـ مَسْحُورُونَ هـ لِلنَّاظِرِينَ لا رَجِيمٍ لا هـ مُبِينٌ هـ مَوْزُونٍ هـ بِرازِقِينَ هـ خَزائِنُهُ ز لاتفاق الجملتين مع الفصل بين معنيي الجمع في التقدير والتفريق في التنزيل. فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال بِخازِنِينَ هـ الْوارِثُونَ هـ الْمُسْتَأْخِرِينَ هـ يَحْشُرُهُمْ ط عَلِيمٌ هـ مَسْنُونٍ هـ ج لاتفاق الجملتين مع تقدم المفعول في الثانية السَّمُومِ هـ مَسْنُونٍ هـ ساجِدِينَ هـ
التفسير قال جار الله: تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي والكتاب والقرآن المبين السورة. وتنكير القرآن للتفخيم وقال آخرون: الكتاب والقرآن المبين هو الكتاب الذي وعد الله محمدا ﷺ والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان. أما قوله رُبَما يَوَدُّ فذكر السكاكي أن فيه سبع لغات أخر بعد المشهورة: رب بالراء مضمومة، والباء مخففة مفتوحة أو مضمومة أو مسكنة، ورب بالراء مفتوحة والباء كذلك مشددة، وربة بالتاء مفتوحة والباء كذلك أي مفتوحة مخففة أو مشددة، وإنما دخل على المضارع مع أنه مختص بالماضي لأن المترقب في أخبار الله بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل: ربما ود. و «ما» هذه كافة أي تكف رب عن العمل فتتهيأ بذلك للدخول على الفعل. وقيل: إن «ما» بمعنى شيء أي رب شيء يوده الذين كفروا. ورب للتقليل فأورد عليه أن تمنيهم يكثر ويتواصل فما معنى التقليل؟ وأجيب بأنه على عادة العرب إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظا وضع لأجل التقليل كما إذا أرادوا اليقين ذكروا لفظا وضع للشك. والمقصود إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالتعريض فيقولون: ربما ندمت على ما فعلت، ولعلك تندم على فعلك. وإن كان العلم حاصلا بكثرة الندم ووجوده بغير شك أرادوا لو كان الندم قليلا أو مشكوكا فيه لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من الغم القليل كما يحذرون من الكثير، ومن الغم المظنون كما من المتيقن. فمعنى الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة كان جديرا بالمسارعة إليه فكيف وهو يودونه في كل ساعة. وقوله لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ إخبار عن ودادتهم كقولك «حلف بالله ليفعلن». ولو قيل «لو كنا مسلمين» جاز من حيث العربية كقولك «حلف بالله لأفعلن». ومتى تكون هذه الودادة؟ قال الزجاج: إن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب أو رأى حالا من أحوال المسلم ود لو كان مسلما. وعلى هذا فقد قيل في وجه التقليل: إن العذاب يشغلهم عن كثير التمني فلذلك قلل. وقال الضحاك: هي عند الموت إذا شاهد أمارات العذاب. وقيل: إذا اسودت وجوههم.
روي عن النبي ﷺ «إذا كان يوم القيامة اجتمع أهل النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة. فقال الكفار لهم: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم من
وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الملائكة والأنبياء حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة فهناك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذَرْهُمْ ظاهره أمر لرسول الله ﷺ بأنه يخليهم وشأنهم، فاحتجت الأشاعرة به على أنه سبحانه وتعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون مفسدة في الدين. وقالت المعتزلة: ليس هذا إذنا وتجويزا وإنما هو تهديد ووعيد وقطع طمع النبي عن ارعوائهم، وفيه أنهم من أهل الخذلان ولا يجيء منهم إلا ما هم فيه، ولا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ. وفي الآية تنبيه على أن إيثار التلذذ والتمتع وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين وَمعنى يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يشغلهم الرجاء عن الإيمان والطاعة. لهيت عن الشيء بالكسر ألهى لهيا إذا سلوت عنه وتركت ذكره وأضربت عنه. وألهاني غيره.
عن أنس أن النبي ﷺ خط خطا وقال: هذا الإنسان. وخط آخر إلى جنبه وقال: هذا أجله. وخط آخر بعيدا منه فقال: هذا الأمل.
فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم مزيد تأكيد للتهديد.
ثم ذكر ما هو نهاية في الزجر والتحذير فقال وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ أي مكتوب مَعْلُومٌ وهو أجلها الذي كتب في اللوح. قال جار الله: قوله وَلَها كِتابٌ جملة واقعة صفة لقرية والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وذكر السكاكي في المفتاح أن هذا سهو لأن الفصل بين الموصوف والصفة لا يجوز ولكن الجملة حال من قرية ومثل هذا جائز، ولو كان ذو الحال نكرة محضة كقولك «جاءني رجل وعلى كتفه سيف» لعدم التباس الحال بالوصف لمكان الفاصلة بالواو، وكيف وقد زادت الفاصلة في الآية بكلمة إِلَّا وذو الحال قريب من المعرفة إذ التقدير: وما أهلكنا قرية من القرى من قبل إفادة من الاستغراق. قال قوم: المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان ينزله الله بالمكذبين المعاندين من الأمم السالفة. وقال آخرون: أراد الموت والأول أقرب لأنه في الزجر أبلغ وكأنه قيل: إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل فإن لكل أمة وقتا معينا في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل: أراد مجموع الأمرين. قال صاحب النظم:
إذا كان السبق واقعا على شخص فمعناه جاز وخلف كقولك «سبق زيد عمرا» أي جازه وخلفه وأنه قصر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعا على زمان فعلى العكس كقولك «سبق فلان
وهاهنا نكتة هي أنه سبحانه تولى حفظ القرآن ولم يكله إلى غيره فبقي محفوظا على مر الدهور بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم ووقع التحريف.
ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء كذلك، والغرض تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الكلام إضمار والتقدير وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. ومعنى فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في أممهم وأتباعهم وقد مر معنى الشيعة في آخر «الأنعام» قال جار الله: معنى أرسلنا فيهم جعلناهم رسلا فيما بينهم. قال الفراء:
إضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة:
٩٥] وبِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص: ٤٤] وقوله وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية. وإنما كان الاستهزاء بالرسل عادة الجهلة في كل قرن لأن الفطام عن المألوف شديد وكون الإنسان مسخرا لأمر من هو مثله أو أقل حالا منه في المال والجاه والقبول أشد، على أن السبب الكلي فيه هو الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه ووقوعهم مظاهر القهر في الأزل. قوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ السلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط. وقالت الأشاعرة: الضمير في نَسْلُكُهُ يجب عوده الى أقرب المذكورات وهو الاستهزاء الدال عليه يَسْتَهْزِؤُنَ وأما الضمير في قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ فيعود إلى الذكر لأنه لو عاد إلى الاستهزاء وعدم الإيمان بالاستهزاء حق وصواب لم يتوجه اللوم على الكفار، ولا يلزم من تعاقب الضمائر عودها على شيء واحد وإن كان الأحسن ذلك. والحاصل أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى الأقرب إلا إذا منع مانع من اعتباره. وقال بعض الأدباء منهم:
قوله لا يُؤْمِنُونَ بِهِ تفسير للكناية في قوله نَسْلُكُهُ أي نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به فثبتت دلالة الآية على أن الكفر والضلال والاستهزاء ونحوها من الأفعال كلها بخلق الله وإيجاده. وقالت المعتزلة: الضميران يعودان إلى الذكر لأنه شبه هذا السلك بعمل آخر قبله وليس إلا تنزيل الذكر. والمعنى مثل ذلك الفعل نسلك الذكر في قلوب المجرمين.
ومحل لا يُؤْمِنُونَ بِهِ نصب على الحال أي غير مؤمن به أو هو بيان لقوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ والحاصل أنا نلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزأ به غير مقبول نظيره ما إذا أنزلت
وقيل: قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا قول الزجاج، ويناسب تفسير الأشاعرة. ثم حكى إصرارهم على الجهل والتكذيب بقوله وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا أي هؤلاء الكفار فِيهِ يَعْرُجُونَ يتصاعدون لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا هو من سكر الشراب أو من سكر سدّ الشق يقال: سكر النهر إذا سدّه وحبسه من الجري. والتركيب يدل على قطع الشيء من سننه الجاري عليه ومنه السكر في الشراب لأنه ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو. فمعنى الآية حيرت أبصارنا ووقع بها من فساد النظر ما يقع بالرجل السكران، أو حبست عن أفعالها بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها. عن ابن عباس: المراد لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون لتشككوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي ﷺ من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله. قال في الكشاف: ذكر الظلول يعني أنه قال فَظَلُّوا ولم يقل «فباتوا» ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال: إنما سكرت ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيرا للأبصار. وقيل: الضمير في فَظَلُّوا للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا لقالوا: إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز من جم غفير أن يصيروا شاكين فيما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح؟ وأجيب بأنهم قوم مخصوصون لم يبلغوا مبلغ التواتر وكانوا رؤساء قليلي العدد فجاز تواطؤهم على المكابرة والعناد لا سيما إذا جمعهم غرض معتبر كدفع حجة أو غلبة خصم.
ولا شك أن هذه البروج مختلفة الطباع، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة فلذلك يسمى الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.
ثم إن كانت أجزاء الفلك مختلفة في الماهية على ما يجوّزه المتكلمون، أو كانت متساوية في تمام الماهية مختلفة في التأثير كما يقول به الحكيم، فعلى التقديرين يكون اختصاص كل جزء بطبيعة معينة أو بتأثير معين مع تساوي الكل في حقيقة الجسمية دالا على صانع حكيم ومدبر قدير. الدليل الآخر قوله وَزَيَّنَّاها أي بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ بنظر الاعتبار والاستبصار. وقال المنجمون: إن الكواكب الثابتة كلها على الفلك الثامن وهذا لا ينافي الآية على ما يمكن أن يسبق إلى الوهم، لأنها سواء كن في سماء الدنيا أو في سموات أخر فوقها فلا بد أن يكون ظهورها في السماء الدنيا فتكون السماء الدنيا مزينة بها، والآية لا تدل إلا على هذا القدر. ونظير هذه الآية قوله تعالى في «حم السجدة» وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [فصلت: ١٢] ومثله في سورة الملك. الدليل الثالث قوله وَحَفِظْناها أي البروج أو السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ نصب على الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضا أي إلا ممن استرق.
وعن ابن عباس: يريد الخطفة اليسيرة فَأَتْبَعَهُ أي أدركه ولحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع، وقد يسمى الكوكب شهابا لأجل لمعانه وبريقه. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد ﷺ منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن يتجسس ويخشى منه الفساد. والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفيا. قال الحكماء: إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي ﷺ إلا أنها لم تكن مسلطة
أسئلة: كيف يجوز أن يشاهد هؤلاء الجن واحدا كان أو أكثر من جنسهم يسترقون السمع فيحرقون، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم؟ والجواب: إذا جاء القضاء عمي البصر، فإذا قيض الله لطائفة منهم الحرق لطغيانها قدر له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضي الى الهلاك والبوار.
آخر:
قد ورد في الأخبار أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام،
فهؤلاء الجن إن قدروا على خرق السماء ناقض قوله سبحانه هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: ٣] وإن لم يقدروا فكيف يمكنهم استماع أسرار الملائكة من ذلك البعد البعيد، ولم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض؟ وأجيب بأنا سلمنا أن بعد ما بين كل سماء ذلك القدر إلا أن نحن الفلك لعله قدر قليل،
وقد روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بينما النبي ﷺ جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال: ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟ قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟
فيخبرونهم ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى السماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون» «١».
آخر: الشياطين مخلوقون من نار فكيف تحرق النار النار؟ والجواب: أن الأقوى قد يبطل الأضعف وإن كان من جنسه.
آخر: إن هذا الرجم لو كان من معجزات النبي ﷺ فكيف بقي بعد وفاته؟ الجواب:
هذا من المعجزات الباقية والغرض منه إبطال الكهانة.
آخر: إن الشهب قد تحدث بالقرب من الأرض وإلا لم يمكن الإحساس بها فكيف
آخر: لو كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة إلى الكهنة فكيف لم يقدروا على نقل أسرار المؤمنين إلى الكفار؟ وأجيب بأنه تعالى أقدرهم على شيء وأعجزهم عن شيء ولا يسأل عما يفعل. وأقول: لعل السبب فيه أن نسبتهم إلى الروحانيات أكثر.
آخر: إذا جوّزتم في الجملة اطلاع الجن على بعض المغيبات فقد ارتفع الوثوق عن إخبار النبي ﷺ عن بعض الغيوب فلا يكون دليلا على صدقه. لا يقال: إنه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي ﷺ لأنا نقول: صدق هذا الكلام مبني على صحة نبوّته، فلو أثبتنا صحة نبوّته به لزم الدور؟ والجواب: أنا نعرف صحة نبوّته بدلائل أخر حتى لا يدور، ولكن لا ريب أن إخباره عن بعض المغيبات مؤكد لنبوّته وإن لم يكن مثبتا لها.
الدليل الرابع: قوله وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وقد مرّ تفسير مثله في أوّل سورة الرعد.
الدليل الخامس قوله: وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض أو في الجبال الرواسي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ بميزان الحكمة ومقدر بمقدار الحاجة، وذلك أن الوزن سبب معرفة المقدار فأطلق اسم السبب على المسبب. وقيل: أي له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل: أراد أن مقاديرها من العناصر معلومة وكذا مقدار تأثير الشمس والكواكب فيها. وقيل: أي مناسب أي محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة. يقال:
كلام موزون أي مناسب، وفلان موزون الحركات. وقيل: أراد ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس وغيرها من الموزونات كأكثر الفواكه والنبات. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها أي في الأرض أو في تلك الموزونات مَعايِشَ ما يتوصل به إلى المعيشة وقد مر في أول «الأعراف». وَمَنْ عطف على معايش أي جعلنا لكم من لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أو عطف على محل لكم لا على المجرور فقط فإنه لا يجوز في الأكثر إلا بإعادة الجار والتقدير:
وجعلنا لكم معايش لمن لستم له برازقين، وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى وحده لا الآباء والسادات والمخاديم، ويدخل فيه بحكم التغليب غير ذوي العقول في الأنعام والدواب والوحش والطير كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي
[هود: ٦] وقد يذكر غير من يعقل بصفة من يعقل بوجه ما من الشبه كقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: ١٨] والدواب تشبه ذوي العقول من جهة أنها طالبة لأرزاقها عند الحاجة. يحكى أنه قلت مياه الأودية في بعض السنين واشتد عطش الوحوش فرفعت رأسها إلى السماء فأنزل الله المطر. ثم بين غاية قدرته ونهاية حكمته فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قال جمع من المفسرين: أراد بالشيء هاهنا المطر الذي هو سبب لأرزاق بني آدم وغيرهم من الطير والوحش، وذلك أنه لما ذكر معايشهم بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره.
قوله: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ عن ابن عباس: يريد قدر الكفاية. وقال الحكم: ما من عام بأكثر مطرا من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان في البحر، واعلم أن لفظ الآية لا يدل على هذين القولين فلو ساعدهما نقل صحيح أمكن أن يقبلهما العقل والا كان شبه تحكم والظاهر عموم الحكم، وإن ذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور. والمعنى إن جميع الممكنات مقدورة ومملوكة له يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء، وهي إن كانت غير متناهية بالقوّة لأن كلا منها يمكن أن يقع في أوقات غير محصورة على سبيل البدل، وكذا الكلام في الأحياز وسائر الأعراض والأوصاف.
فاختصاص ذلك الخارج إلى الوجود بمقدار معين وشكل معين وحيز ووقت معين إلى غير ذلك من الصفات المعينة دون أضدادها لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو المراد من قوله: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وقد يتمسك بالآية بعض المعتزلة في أن المعدوم شيء. قيل: المراد أن تلك الذوات والماهيات كانت مستقرة عند الله بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات، ثم إنه تعالى نزل أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود.
الدليل السادس: قوله وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ ومن قرأ الريح فاللام للجنس لَواقِحَ قال ابن عباس: معناه ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح السحاب بمعنى أنها تحمل الماء وتمجه في السحاب، أو لأنها تلقح الشجر أي تقوّيها وتنميها إلى أن يخرج ثمرها. قاله الحسن وقتادة والضحاك. وقد جاء في كلام العرب «فاعل» بمعنى «مفعل» قال:
ومختبط مما تطيح الطوائح يريد المطاوح جمع مطيحة. وقال ابن الأنباري: تقول العرب: أبقل النبت فهو باقل أي مبقل. وقال الزجاج: معناه ذوات لقحة لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة
٥٧] أو حاملة للخير والرزق كما قيل لضدها الريح العقيم فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا قال أبو عليّ: يقال سقيته الماء إذا أعطاه قدر ما يروى، وأسقيته نهرا أي جعلته شربا له. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل: ٦٦] ولم يختلفوا في قوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الدهر: ٢١] ويقال: سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي نحن الخازنون للماء لا أنتم أراد عظيم قدرته وعجز من سواه الدليل السابع: قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ والغرض الاستدلال بانحصار الإحياء والإماتة فيه على أنه واحد في ملكه. قال أكثر المفسرين: إنه وصف النبات فيما قبل فهذا الإحياء مختص بالحيوان، ومنهم من يحمله على القدر المشترك بين إحياء النبات وبين إحياء الحيوان وَنَحْنُ الْوارِثُونَ مجاز عن بقائه بعد هلاك ما عداه كما مر في آخر «آل عمران» في قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: ١٨٠] قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا عن ابن عباس في رواية عطاء الْمُسْتَقْدِمِينَ يريد أهل طاعة الله، والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعته.
ويروى أنه ﷺ رغب الناس في الصف الأول في الجماعة فازدحم الناس عليه فأنزل الله الآية.
والمعنى إنا نجزيهم على قدر نياتهم. وقال الضحاك ومقاتل: يعني في صف القتال.
وقال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله ﷺ وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها، وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها، وكان قوم إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فنزلت.
وقيل: المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وهذا القول شديد المناسبة لما قبل الآية ولما بعدها. وقيل: المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: المستقدمون من خلق، والمستأخرون من لم يخلق بعد.
والظاهر العموم وأن علمه تعالى شامل لجميع الذوات والأحوال الماضية والمستقبلة فلا ينبغي أن تخص الآية بحالة دون أخرى. ثم نبه على أن الحشر والنشر أمر واجب ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فلحكمته بني أمر العباد على التكليف والجزاء، ولعلمه قدر على توفية مقادير الجزاء.
الدليل الثامن: الاستدلال على خلق الإنسان خاصة وذلك أنه لا بد من انتهاء الناس
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر. فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به. قال جار الله:
ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. وتمام الكلام في الروح سوف يجيء إن شاء الله في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: ٨٥]. ولا خلاف في أن الإضافة في قوله: رُوحِي للتشريف والتكريم مثل «ناقة الله» و «بيت الله».
والفاء في قوله: فَقَعُوا تدل على أن وقوعهم في السجود كان واجبا عليهم عقيب التسوية والنفخ من غير تراخ. قال المبرد: قوله كُلُّهُمْ أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجدوا. وقوله: أَجْمَعُونَ أزال احتمال أنهم سجدوا متفرقين، وقال سيبويه والخليل أَجْمَعُونَ توكيد بعد توكيد، ورجح الزجاج هذا القول لأن أجمع معرفة فلا يقع حالا، ولو صح أن يكون حالا وكان منتصبا لأفاد المعنى الذي ذكره المبرد. ثم استثنى إبليس من الملائكة وقد سلف وجه الاستثناء في أول سورة البقرة. ثم استأنف على تقدير سؤال سائل هل سجد؟ فقال: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ يعني إباء استكبار.
ثم قال سبحانه وتعالى خطاب تقريع وتعنيف لا تعظيم وتشريف يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ وقال بعض المتكلمين: خاطبه على لسان بعض رسله لأن تكليم الله بلا واسطة منصب شريف فكيف يناله اللعين؟ قال جار الله: حرف الجر مع أن محذوف ومعناه أيّ غرض لك في الامتناع من السجود قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد لِبَشَرٍ وحاصل شبهة اللعين أنه روحاني لطيف وآدم جسماني كثيف، وأصله نوراني شريف وأصل آدم ظلماني خسيس، فعارض النص بالقياس فلا جرم أجيب بقوله: فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السماء أو من جملة الملائكة.
وضرب يوم الدين أي يوم الجزاء حدا للعنة جريا على عادة العرب في التأبيد كما في قوله: ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: ١٠٧] أو أراد اللعن المجرد من غير تعذيب حتى إذا جاء ذلك اليوم عذب بما ينسى اللعن معه. قال صاحب الكشاف: وأقول: هذا إن أريد باللعن مجرد الطرد عن الحضرة. أما إن أريد به الإبعاد عن كل خير فيتعين الوجه الأول إلا عند من أثبت لإبليس رجاء العفو. وإنما ذكر اللعنة هاهنا بلام الجنس لأنه ذكر آدم بلفظ الجنس حيث قال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ولما خصص آدم بالإضافة إلى نفسه في
ومعنى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار كالمعلوم والمراد منه الوقت القريب من البعث الذي يموت فيه الخلائق كلهم ليشمل الموت اللعين أيضا.
وقيل: لم يجب إلى ذلك وأنظر إلى يوم لا يعلمه إلا الله قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي قد مر مباحثه في «الأعراف». ومفعول لَأُزَيِّنَنَّ محذوف أي أزين لهم المعاصي في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور، أو أراد أنه قدر على الاحتيال لآدم وهو في السماء فهو على التزيين لأولاده وهم في الأرض أقدر، أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض بأن أزين الأرض في أعينهم وأحدثهم أن الزينة هي في الأرض وحدها كقوله:
وإن يعتذر بالمحل من ذي ضروعها | من الضيف يجرح في عراقيبها نصلي |
مُسْتَقِيمٌ لا عوج له. وقال جار الله: هذا إشارة إلى ما بعده وهو قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قال الكلبي: المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس وذلك أنه لما ذكر إِلَّا عِبادَكَ بين به أنه لا يقدر على إغواء المخلصين فصدقه الله تعالى في الاستثناء قائلا إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ أي ولكن من اتبعك من الغواة فلك تسلط عليهم وهذا يناسب أصول الأشاعرة. وقال آخرون: هذا تكذيب لإبليس وذلك أنه أوهم بما ذكر أن له سلطانا على عباد الله الذين لا يكونون من المخلصين فبين تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلا إلا الغواة، لا بسبب الجبر والقسر بل من جهة الوسوسة والتزيين نظيره قوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
[إبراهيم: ٢٢] وهذا يناسب أصول الاعتزال وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
وقيل: إن قرار جهنم مقسوم بسبعة أقسام لكل قسم باب معين لكل باب جزء من أتباع إبليس مقسوم في قسمة الله سبحانه. والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فلا جرم صارت مراتب العقاب أيضا متفاوتة بحسبها.
ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فزعم جمهور المعتزلة أنهم الذين اتقوا جميع المعاصي وإلا لم يفد المدح. وقال جمهور: الصحابة والتابعين هم الذين اتقوا الشرك بالله واحتجوا عليه بأنه إذا اتقى مرة واحدة صدق عليه أنه اتقى، وكذا الكلام في الضارب والكاتب فليس من شرط صدق الوصف كونه آتيا بجميع أصنافه وأفراده إلا أن الأمة أجمعوا على أن التقوى عن الشرك شرط في حصول هذا الحكم. والآية أيضا وردت عقيب قوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فلزمه اعتبار الإيمان في هذا الحكم. والظاهر أن لا يراد شرط آخر لأن التخصيص خلاف الظاهر فكلما كان أقل كان أوفق لمقتضى الأصل، فثبت أن المتقين يتناول جميع القائلين بكلمة الإسلام وهي «لا إله إلا الله محمد رسول الله» قولا واعتقادا سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية. ثم إن الجنات أقلها أربع لقوله تعالى:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: ٤٦] ثم قال وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن:
٦٢] وأما العيون فإما أن يراد بها الأنهار المذكورة في قوله: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: ١٥] الآية وإما أن يراد بها منابع غير ذلك. ثم إن كل واحد من المتقين يحتمل أن يختص بعين وينتفع بها كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهوتهم. ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون من كل حقد وحسد. فإن قيل: إذا كانوا في جنات فكيف يعقل أن يقول لهم الله تعالى وبعض الملائكة ادْخُلُوها فالجواب لعل المراد أنهم لما ملكوا الجنات فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ذلك. ومعنى بِسَلامٍ أي مع السلامة من آفات النقص والانقطاع. قوله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قد مر تفسيره في «الأعراف» إِخْواناً نصب على الحال. وكذلك عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ والمراد بالإخوة
وقال الليث: سرير العيش مستقره الذي يطمئن عليه حال سروره وفرحه. والتركيب يدور على العزة والنفاسة ومنه قولهم: «سر الوادي لأفضل موضع منه» ومنه السر الذي يكتم.
عن ابن عباس: يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، وعن مجاهد:
تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. والتقابل التواجه نقيض التدابر، وتقابل الإخوان يوجب اللذة والسرور ليكون كل منهم مقبلا على الآخر بالكلية، وتقابل الأعداء يكون تقابل التضاد والتمانع فيكون موجبا للتباغض والتخالف، واعلم أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خالصة من الآفات آمنة من الزوال. فقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ إشارة إلى المنفعة وقوله: ادْخُلُوها رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم، وقوله وَنَزَعْنا إلى قوله: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن قوله: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ إشارة إلى نفي المضار الروحانية، وقوله: لا يَمَسُّهُمْ إشارة إلى نفي المضار الجسدانية، وقوله: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ مفيد لمعنى الخلود.
ثم لما ذكر الوعيد والوعد زاده تقريرا وتمكينا في النفوس فقال: نَبِّئْ عِبادِي وفيه من التوكيدات ما لا يخفى: منها إشهاد رسوله وإعلامه، ومنها تشريفهم بإطلاق لفظ العباد عليهم ثم بإضافتهم إلى نفسه، ومنها التوكيد ب «أن» وبالفضل وبصيغتي الغفور والرحيم مع نوع تكرر وكل ذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب كما
قال: «سبقت رحمتي غضبي» «١».
التأويل:
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي النفوس الكافرة لَوْ كانُوا مستسلمين لأوامر الله ونواهيه، وذلك إنما يكون عند استيلاء سلطان الذكر على القلب والروح، وتنور صفاتها بنور الذكر فيغلب النور على ظلمة النفس وصفاتها وتبدلت أحوالها من الأمّارية إلى الاطمئنان فتمنت حين ذاقت حلاوة الإسلام وطعم الإيمان لو كانت من بدء الخلق مسلمة مؤمنة كالقلب والروح. ثم هدد النفس التي ذاقت حلاوة الإسلام ثم عادت الميشوم إلى طبعها واستحلت المشارب الدنيوية بقوله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى البدنية بإفساد استعدادها إِلَّا وَلَها كِتابٌ مكتوب في علم الله من سوء أعماله وأحواله ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها متى يظهر منها ما هو سبب هلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ
الترمذي في كتاب الدعوات باب: ٩٩.
ولقد جعلنا في سماء القلب بروج الأطوار، فكما أن البروج منازل السيارات فكذلك الأطوار منازل شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات وسيارات اللوامع والطوالع وَزَيَّنَّاها لأهل النظر السائرين إلى الله وَحَفِظْناها مِنْ وساوس الشيطان وهواجس النفس الأمارة، ولكن من استرق السمع من النفس والشيطان فأدركه شعلة من أنوار تلك الشواهد فيضمحل الباطل ويتبين الحق وَالْأَرْضَ مَدَدْناها فيه أن أرض البشرية تميل كنفس الحيوانات إلى أن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ هي أسباب الوصول والوصال وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وهو جوهر المحبة وإن غذاءه من مواهب الحق وتجلي جماله فقط. ولكل شيء خزانة فلصورة الأجسام خزانة، ولاسمها خزانة، ولمعناها خزانة، وكذا للونها ولطعمها ولخواصها من المنافع والمضار، وكذا لظلمتها ونورها ولملكها وملكوتها، وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون، وقلوب العباد خزائن صفات الله تعالى بأجمعها وَأَرْسَلْنَا رياح العناية لَواقِحَ لأشجار القلوب بأنهار الكشوف وبأثمار الشواهد كما قال بعضهم: إذا هبت رياح الكرم على أسرار العارفين أعتقهم من هواجس أنفسهم ورعونات طبائعهم، وظهر في القلوب نتائج ذلك وهي الاعتصام بالله والاعتماد عليه. فَأَنْزَلْنا مِنَ سماء الهداية ماءً الحكمة وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ في أصل الخلقة فإن المخلوق لا يوصف بالحكمة إلا مجازا. وإنا لنحن نحيي قلوب أوليائنا بأنوار جمالنا، ونميت نفوسهم بسطوة جلالنا وَنَحْنُ الْوارِثُونَ بعد إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يحشر المستقدمين إلى حظائر قدسه والمستأخرين إلى أسفل سافلين الطبيعة، خاطب إبليس النفس بقوله: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي إلى أن تطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح وتصير أرض النفس مشرقة وتتبدل صفاتها الذميمة المظلمة بالأخلاق الروحانية الحميدة إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يبعث الأرواح في قيامة العشق وهو الوقت المعلوم الذي يتجلى الرب فيه لأرواح العشاق،
لو دنوت أنملة لاحترقت. وَنَزَعْنا فيه أن نزع الغل من الصدور لا يكون إلا بنزع الله، وأن الأرواح القدسية مطهرات عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرءات من حوادث الوهم والخيال، ومعنى تقابلهم أن النفوس المصفاة عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام إذا وقع عليها أنوار جمال الله أو جلاله انعكست منها إلى من في مثل درجاتها كما تتعاكس المرايا الصافية، المتحاذية، فيزداد كل منها في نفسها بخفاء صفاتها.
وفي قوله: نَبِّئْ عِبادِي إشارة إلى أن سلوك السالكين وطير الطائرين يجب أن يكون على قدمي الرجاء والخوف وجناحي الإنس والجن والله الموفق للصواب.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٩٩]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠)
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
إِذْ دَخَلُوا وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف غير هشام إنا نبشرك بسكون الباء وضم الشين: حمزة. الآخرون بالتشديد تُبَشِّرُونَ بالتشديد وكسر النون المخففة: نافع مثله. ولكن مشددة النون: ابن كثير. الباقون بفتح النون على أنها علامة رفع يَقْنَطُ بكسر النون: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وخلف وكذلك بابه.
الآخرون بالفتح آلَ لُوطٍ مدغما حيث كان شجاع لَمُنَجُّوهُمْ بالتخفيف: يعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون بالتشديد قَدَّرْنا بالتخفيف حيث كان: أبو بكر وحماد بَناتِي إِنْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع إِنِّي أَنَا بفتح ياء المتكلم: جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو.
الوقوف:
إِبْراهِيمَ هـ ج لئلا يصير إِذْ دَخَلُوا ظرفا ل نَبِّئْهُمْ فإنه محال سَلاماً ط وَجِلُونَ هـ عَلِيمٍ هـ تُبَشِّرُونَ هـ الْقانِطِينَ هـ الضَّالُّونَ هـ
الْمُقْتَسِمِينَ هـ لا عِضِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا يَعْمَلُونَ هـ الْمُشْرِكِينَ هـ الْمُسْتَهْزِئِينَ هـ لا آخَرَ ج لابتداء التهديد مع الفاء يَعْلَمُونَ هـ يَقُولُونَ هـ لا لاتصال الأمر بالتسبيح تسلية السَّاجِدِينَ هـ لا للعطف الْيَقِينُ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه عطف وَنَبِّئْهُمْ على نَبِّئْ عِبادِي ليكون سماع هذه القصص مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء، ومحذرا من المعصية المستتبعة لدركات الأشقياء، ولما في قصة لوط من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين، وكل ذلك يقوّي ما ذكر من أنه غفور رحيم للمؤمنين، وأن عذابه عذاب أليم للكافرين. وعند المعتزلة غفور للتائبين معذب لغيرهم. وقد مر تفسير أكثر هذه القصة في سورة هود فنذكر الآن ما هو مختص بالمقام. فقوله: وَجِلُونَ معناه خائفون خافهم لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وفي غير وقت. إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى تعليل النهي عن الوجل. بشروه بالولد الذكر بكونه عليما فقيل: أرادوا بعلمه نبوته. وقيل: العلم مطلقا.
وقوله: عَلى أَنْ مَسَّنِيَ في موضع الحال أي مع هذه الحالة استفهم منكرا للولادة في حالة الهرم لأنها أمر عجيب عادة لا لأنه شك في قدرة الله تعالى ولذلك قال: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ «ما» استفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني أو أنكم لا تبشروني بشيء في الحقيقة لأن ذلك أمر غير متصور في العادة؟ وأحسن ما قيل فيه أن لا يكون قوله: «بما» صلة للتبشير بل يكون سؤالا عن الوجه والطريقة يعني إذا كان الطريق
حذف نافع ياء المتكلم مع النون وإسقاط الحرفين لا يجوز. وأجيب بأنه لم يحذف إلا الياء اكتفاء بالكسرة ونون الوقاية لم يوردها كما أوردت في قراءة التشديد، وإنما كسر نون الجمع لأجل الياء وكلتا اللغتين فصيحة. قيل: عظم فرحه بتلك البشارة فدهش عن الجواب المنتظم فتكلم بالكلام المضطرب. وقيل: طلب مزيد الطمأنينة كقوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠] عن ابن عباس: يريد بالحق ما قضى الله أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق ومن صلب إسحق أكثر الأنبياء. وقوله: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ لا يدل على أنه كان قانطا فقد ينهى عن الشيء ابتداء كقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: ٤٨]. ولذلك أنكر إبراهيم نهيهم بقول: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي المخطئون طريق الصواب أو الكافرون نظيره إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: ٨٧] وفيه أنه لم يستنكر ذلك قنوطا من رحمته ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله هما لغتان: قنط يقنط مثل ضرب يضرب، وقنط يقنط مثل علم يعلم. وزعم الفارسي أن الأولى أعلى اللغتين. ثم سأل عما لأجله أرسلهم الله حيث قال: فَما خَطْبُكُمْ والخطب الشأن العظيم. فسئل أنهم لما بشروه بالولد الذكر العليم فما وجه السؤال عن مجيئهم؟
وأجاب الأصم بأن المراد ما الأمر الذي وجهتم فيه سوى البشرى؟. وقال القاضي: إنه علم أن المقصود لو كان التبشير فقط لكان الملك الواحد كافيا. وقيل: علم أنه لو كان تمام الغرض البشارة لذكروها أول ما دخلوا قبل أن يوجس إبراهيم منهم خيفة. قلت: لعله استصغر أمر التبشير إما لأجل التواضع وإما لأنه واقعة خاصة فسألهم عن الأمر الذي هو أعظم من ذلك وأعم تعظيما لشأنهم قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا زعم صاحب الكشاف أن الإرسال هاهنا في معنى التعذيب والإهلاك كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى. وأقول: كأنه لا حاجة إلى هذا التجوز لقوله في سورة الذاريات إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الآيتان: ٣٢، ٣٣] فالتقدير إنا أرسلنا إليهم لنهلكهم إِلَّا آلَ لُوطٍ وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا لاختلاف الجنسين، فإن القوم موصوفون بالإجرام دون آل لوط. يكون قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ جاريا مجرى خبر «لكن» كأنه قيل: لكن قوم لوط منجون، ويكون قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من الاستثناء أي أرسلنا إليهم لنهلكهم إلا آل لوط إِلَّا امْرَأَتَهُ كقول المقر: لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا واحدا، وجوز في الكشاف
والكل متقارب، والمشدد في هذا المعنى أكثر استعمالا وأنه جواب سؤال كأنه قيل: ما بالها استثنيت من الناجين؟ فقيل: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في الهوالك.
ويقال للماضي أيضا غابر وهو من الأضداد. قال في الكشاف: علق فعل التقدير مع أن التعليق من خصائص أفعال القلوب لأنه في معنى العلم. وإنما أسندوا الفعل إلى أنفسهم مع أن التقدير لله عز وجل بيانا لاختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا أو أمرنا بكذا ولعل المدبر والآمر هو الملك وحده.
ثم إن الملائكة لما بشروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وذلك قوله: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ أي لوط إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ تنكركم نفسي وتنفر منكم. وذلك أنهم هجموا عليه فلم يعرفهم وخاف أن يطرقوه بشر فلذلك قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ما جئناك بما توهمت بل جئناك بما فيه فرجك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وهم يشكون في وقوعه. وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ باليقين الثابت. وقال الكلبي: بالعذاب الذي لا شك فيه وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي في آخره وقدم في سورة هود وزاد هاهنا قوله: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم، ولا يخفى حالهم. ففي الآية زيادة بيان لكيفية الإسراء ثم زاد في البيان فقال: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ولم يستثن امرأته اكتفاء بما مر في السورة من قوله: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قال جار الله: إنما أمر باتباع أدبارهم ونهى عن الالتفات ليكون فارغ البال من حالهم فيخلص قلبه لشكر الله، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب، ولئلا يشاهدوا عذاب قومهم فيرقوا لهم مع أنهم ليسوا من أهل الرقة عليهم، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ولا يتحسروا على ما خلفوا. وجوز أن
حاصل الكلام يرجع إلى قوله: اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك. عن ابن عباس: إنه الشام. وقيل: مصر. وقال المفضل: حيث يقول لكم جبرائيل وكانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط. ثم أخبر عن حالهم مجملا فقال: وَقَضَيْنا ضمن معنى أوحينا ولذلك عدي بإلى كأنه قيل: وأوحينا. إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ مقتضيا مبتوتا. ثم فسر ذلك الأمر بقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح ودخولهم فيه. وفي هذا الإجمال والتفسير تفخيم لشأن الأمر وتعظيم له.
ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم.
يَسْتَبْشِرُونَ بظهور السرور بمجيء الملائكة لأنهم رأوهم مردا حسان الوجوه قالَ لوط لما قصدوا أضيافه إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسيء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة وفضيحة للمضيف. يقال: فضحه يفضحه فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ مر في «هود» قالُوا في جواب لوط أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وكانوا يتعرضون لكل أحد، وكان لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء: ١١٦] وقيل: نهوه عن ضيافة الناس وإنزالهم قالَ هؤُلاءِ بَناتِي من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في «هود». قال جار الله إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله كأنه قال وما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل الله دون ما حرم. ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام لَعَمْرُكَ مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو مما أقسم به. والعمر والعمر بالفتح والضم واحد إلّا أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعا للأخف، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم وصوابك يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات؟ وقيل: إنه
ويحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن وإرسال الحجارة عليهم. قال بعض المفسرين: إنما قال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ وفي سورة هود وَأَمْطَرْنا عَلَيْها [الآية: ٨٢] لأنه أراد هاهنا من شذ من القرية منهم. وقيل: سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفرسين.
وحقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشيء فعبر به عن التأمل والتفكر وَإِنَّها يعني تلك القرى وآثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر الله وغضبه هنالك. قال بعضهم: إنما جمع الآيات في قوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ لأنه أشار إلى ما تقدم عن ضيف إبراهيم وقصة لوط وقلب المدينة وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم. وقال في الثانية وَإِنَّها أي القرية لَبِسَبِيلٍ وهذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وقيل: ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه، فلما ذكر عقيبه المؤمنين وهم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في «العنكبوت» خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الآية: ٤٤].
ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ «إن» مخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها. كانوا أصحاب غياض ومواضع ذات شجر فنسبوا إليها. والأيكة الشجر الملتف، والضمير في قوله: وَإِنَّهُما يعود إلى قرى قوم لوط وإلى الأيكة. وقيل: بل إلى الأيكة ومدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فدل بذكر أحد الموضعين هاهنا- وهو الأيكة- على الآخر لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح. قال الفراء والزجاج: سمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع. وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وهو واد بين الشام والمدينة. وجمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد- وهو صالح- كتكذيب جميع الأنبياء، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل، أو أراد صالحا ومن معه من المؤمنين. وَآتَيْناهُمْ أي أعطينا رسولهم آياتِنا أراد الناقة وكانت فيها آيات خروجها من الصخرة وعظم خلقها وكثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا
١٩٩] وقيل: هذا منسوخ بآية السيف والأظهر أن حسن المعاشرة والمخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ كثير الخلق الْعَلِيمُ الكامل العلم يعلم ما يجري بين الخلائق من الأحوال والأخلاق وإن كثروا وكثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك. وقيل: أراد أنه الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح.
ثم حثه على الصفح والتجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أكثر المفسرين على
أن المراد بها فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما
وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وذلك أنها سبع آيات. والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية لأنها تثنى في كل صلاة. وقال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها. وأيضا قسمت
وقد ورد الحديث في هذا المعنى «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» «١»
وقد مر في أول الكتاب. وأيضا كلماتها مثناة مثل: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِيَّاكَ وإِيَّاكَ الصِّراطَ صِراطَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ واشتمالها على ثناء الله تعالى وتحميده مقرر ومما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال: كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب. فقيل: كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ والعطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن. والجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: ٩٨] أو بالعكس كما في الآية. والمقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيها على مزية ذلك البعض وشرفه. فإن قلت: ليس لعطف الكل على البعض نظير، والاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل. قلنا: يكفي بقوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ دليلا على أنه من القرآن. وعن ابن عمر وسعيد بن جبير في رواية: أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، أو لأنها تثني على الله بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. وأنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية وأكثر تلك السورة مدنية. وأجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا، والمكية والمدنية في ذلك سيان، وضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر. وقال قوم: السبع المثاني هي التي دون الطوال والمئين وفوق المفصل، واحتجوا عليه بما
روى ثوبان أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل» «٢».
قال الواحدي: والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني. وروي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: ٢٣] وأنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف. ومعنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله: إلى الملك القرم وابن الهمام. وكأنه قيل: آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعا مثاني ولكونه قرآنا عظيما. قال الزجاج ووافقه صاحب الكشاف: و «من» في مِنَ الْمَثانِي للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول، وللبيان إذا أردت الأسباع.
الحديث «من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به- فليس منا» «١»
وقول أبي بكر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. فمن حق قارئ القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا وزهرتها. قال الواحدي: إنما يكون مادّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال في الكشاف: معنى لا تَمُدَّنَّ لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفار قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري:
الأزواج القرناء. وقال بعضهم: لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحدا على ما أوتي من الدنيا. وضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقا فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ ويمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٤]. أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه ﷺ لجلالة منصبه وإن كانت جائزة لأمته. ويروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله.
فقال لهم الله عز وجل: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. وإنما قال في هذه السورة لا تَمُدَّنَّ بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه. ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم وإن لم يحصل لهم في قلبه قدر ووزن فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وكما أمره بالتكبر على الأغنياء والترفع عنهم إذا كانوا كفارا أمره بالتواضع للفقراء إذا كانوا مؤمنين فقال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الخفض نقيض الرفع، وجناحا الإنسان يداه، وخفضهما كناية عن اللين والرفق. وإنما قال في سورة الشعراء بزيادة لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الآية: ٢١٥] لأنه قال قبله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الآية: ٢١٤] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصا بالأقربين من عشيرته فزيد لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الشعراء: ٢١٥] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة. ولما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
وفي متعلق قوله: كَما أَنْزَلْنا وجهان بعد ما مر به في الوقوف: أحدهما أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك ما أنزلنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ومن هم؟ قيل: أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء وأعضاء، أو «فعلة» من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو. وعن عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة. ولعن رسول الله ﷺ العاضهة والمستعضهة فينقصانها الهاء أيضا. وجمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف، فجعلوا الجمع بالواو والنون عوضا عما لحقها من الحذف كسنين. فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق وباطل وجزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما. ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وتكذيبهم، والإقرار بالبعض والتكذيب بالبعض كقوله:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: ٨٥] وفي هذا تسلية لرسول الله ﷺ عن تكذيب قومه وعداوتهم، ولهذا وسط بين المتعلق بقوله: لا تَمُدَّنَّ الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الإقبال بالكلية على المؤمنين. الوجه الثاني أن يتعلق بقوله: النَّذِيرُ الْمُبِينُ وعلى هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة، أما الإضمار فأن يكون التقدير: أنا النذير عذابا كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وجها كالقمر، وأما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] ويمكن أن يقال: الكاف بمعنى مثل ولا حاجة إلى الالتزام والتقدير: أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم إما اليهود ويراد بالعذاب ما جرى على قريظة والنضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان، وإما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح. قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة ومداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان بالله ورسوله. يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر، ويقول الآخر كذاب، والآخر شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات وكانوا قريبا من أربعين، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب. وقال
الَّذِينَ جَعَلُوا منصوبا بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين.
ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ الآية وقد مر تفسير مثله في أول «الأعراف» وذلك قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: ٦]. والأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين، وأن السؤال يكون عن جميع الأعمال، وقد يخص الضمير بالمقتسمين والسؤال بالاقتسام. ثم شجع نبيه قائلا فَاصْدَعْ أي اجهر بِما تُؤْمَرُ وأظهره وفرق بين الحق والباطل. وأصل الصدع الشق والفصل ومنه سمي الصبح صديعا كما سمي فلقا. وصدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا. قال النحويون: الجار محذوف والمعنى بالذي تؤمر به من الشرائع مثل «أمرتك الخير». وجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بأمرك وشأنك مصدر من المبني للمفعول. وقالوا: وما زال النبي ﷺ مستخفيا حتى نزلت هذه الآية. ثم قال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وهذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها. ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم وقوّى قلبه فقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ولا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره. والآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم وأسماءهم مع اختلاف بينهم. والأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحرث بن الطلاطلة. وعن ابن عباس:
ماتوا كلهم قبل يوم بدر.
وقال جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبة فقطعه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال:
لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر ويضرب وجهه بالشوك حتى مات،
ثم زاد في تسلية نبيه ﷺ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من المطاعن فيك وفي
إذا نزل بالعبد بعض المكاره فعليه أن يفزع إلى الله بالذكر الدائم والسجود وسائر أنواع العبادة فكأنه يقول: وجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكاره.
وقالت المعتزلة: من اعتقد تنزيه الله عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق لأنه يعلم أنه تعالى عدل منزه عما لا فائدة فيه ولا غرض فيطيب قلبه.
التأويل:
في بشارة إبراهيم إشارة إلى أن الطالب الصادق وإن كان مسنا ضعيف القوى كما قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد. فأنه ينبغي أن لا يقنط من رحمة الله، ويتقرب إليه بالأعمال القلبية ليتقرب إليه ربه بأصناف الألطاف وجذبات الأعطاف، فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاما عليما بالعلوم اللدنية وهو واعظ الله الذي في قلب المؤمن إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لأصحاب القلوب المتوسمين بشواهد أحكام الغيب. وما خلقنا سموات الأرواح وأرض الأشباح، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا لمظهر الحق، ومظهره هو الإنسان المخصوص بذلك من بين سائر المخلوقات وَإِنَّ السَّاعَةَ يعني قيامة العشق لَآتِيَةٌ لنفوس الطالبين الصادقين من أصحاب الرياضات لأن أنفسهم تموت بالرياضة ومن مات فقد قامت قيامته فَاصْفَحِ أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تداويها وتواسيها، فإن في قيامة العشق يحصل من تزكية النفس في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة ومن هنا قيل: جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ لصور المخلوقات ولمعانيها ولحقائقها الْعَلِيمُ بمن خلقه مستعدا لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريتهما وليس ذلك في السموات والأرض وما بينهما إلا الإنسان الكامل وغيره مختص بمظهرية الصفات دون الذات وان كان ملكا فلهذا قال: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً أي سبع صفات ذاتية لله تبارك وتعالى: السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والإرادة والقدرة مِنَ الْمَثانِي أي من خصوصية المظهرية، والمظهرية الذات والصفات. وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ولهذا صار خلقه عظيما لأنه كان خلقه القرآن لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ
من أهل الدنيا والآخرة وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بهذا المقام ليصلوا بجناح همتك إليه عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الذين قسموا قهر الله على أنفسهم فصاروا مظاهر القهر الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي جزؤوه في الاستعمال فقوم قرأوه ليقال لهم القراء وبه يأكلون، وقوم حفظوه ليقال لهم الحفاظ وبه يجرّون الرزق، وقوم حصلوا تفسيره وتأويله إظهارا للفضل وطلبا للشهرة، وقوم استنبطوا معانيه وفقه على وفق آرائهم ومذاهبهم فكفروا إذ فسروا القرآن برأيهم. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الذين يستعملون الشريعة بالطبيعة استهزاء بدين الله الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ من الهوى والدنيا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ لأنك لست منهم وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ سجدة الشكر وَاعْبُدْ رَبَّكَ بالإخلاص حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي إلى الأبد لأن كل مقام يحصل فيه اليقين بالعيان بعد العرفان فإنه يحصل فوقه مقام آخر مشكوك فيه إلى أن يحصل برد اليقين فيه أيضا، فهناك مراتب لا تتناهى فاليقين يكون إشارة إلى الأبد والله أعلم.