تفسير سورة الشعراء

حومد
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿طَا﴾ ﴿سِينْ﴾ ﴿مِيم﴾
(١) - وهي تُقْرَأُ مُقَطَّعةً، كلُّ حرفٍ على حِدَة - اللهُ أعلمُ بِمُرادِهِ.
﴿آيَاتُ﴾
(٢) - هذه الآياتُ هيَ آياتُ القُرآنِ الجَلِيِّ البيِّنِ الواضِحِ الذي يُفَرِّقُ بينَ الحقِّ والبَاطِلِ.
المُبين - المُوَضَّحُ - الجَلِيُّ.
﴿بَاخِعٌ﴾
(٣) لا تُهْلِكْ يا محمدُ نفسَكَ أَسىً وحُزْناً وحَسْرةً على قومِكَ إذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بما جئتَهُم بهِ من عندِ ربكَ.
(وفي هذا الخِطابِ تَسليةٌ للرَّسولِ ﷺ عَمّا يُلاقِيه من قَوْمِه من عِنَادٍ وكُفْرٍ وتكذيبٍ برسالةِ ربهمْ وتَكذِيبٍ لرَسُولِهِ).
باخِعٌ - مُهْلِكٌ نَفْسَكَ حَسْرَةً وحُزْناً.
﴿آيَةً﴾ ﴿أَعْنَاقُهُمْ﴾ ﴿خَاضِعِينَ﴾
(٤) - ولو نَشَاءُ أن نُنَزِّلَ عليهِمْ من السَّماءِ آيةً تَضْطَرُّهُمْ إلى الإِيمانِ اضْطِرَاراً وقَهْراً لَفَعَلْنَا، كَمَا نَتَقْنا الجَبَلَ فوقَ بني إسرائيلَ، ولكنِّنَا لا نفعلُ ذلكَ، لأنَّنَا لا نُريدُ أَنْ يؤمِنَ أحدٌ إلا طَائِعاً مُخْتَاراً، مُقْتَنِعاً بصدق ما جاءَ بهِ الرُّسُلُ. وقد أنزلَنَا الكُتُبَ، وأَرسَلْنا الرَّسُلَ، لِتَقومَ الحُجَّةُ البالِغَةُ على الخَلْقِ.
وقيلَ إنَّ أَعْناقهُمْ تَعْني قَادَتَهم وَزُعَمَاءَهُم.
(٥) - وما يأتي هؤلاء المُشركينَ، الذين يُكَذِّبُونَكَ، شيءٌ من عندِ اللهِ يُذَكِّرهُم بالدّينِ الحَقِّ، إِلاَّ أعْرَضُوا عنِ اسْتِمَاعِهِ وتَرَكُوا إعْمَالَ الفِكْرِ فيهِ، ولَمْ يُوَجِّهُوا هَمَّهُمْ إلى تَدَبُّرِهِ.
﴿أَنبَاءُ﴾ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾
(٦) - لَقَدْ كَذَّبَ هؤلاءِ المشركونَ بما جاءَهُم من ربهمْ من الحَقِّ، ثم انْتَقَلُوا منَ التَّكْذيبِ إلى الاسْتِهْزَاءِ فاصْبِرْ عليْهِمْ فَسَوْفَ يَرَوْنَ - بَعْدَ حينٍ - عَوَاقِبَ هذا التَّكذِيبِ والاستِهزاءِ، وَسَيَحِلُّ بهم العِقَابُ على ذلِكَ.
(وقدْ يكُونُ ذلكَ في الحَياةِ الدُّنْيا، وقدْ يَكُونُ ذلكَ يومَ القِيامَةِ).
(٧) - كَيفَ يُصِرُّونَ على الكُفْرِ باللهِ، وعَلى تَكْذِيبِ رَسُولِه ومَا جاءَهُم بهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، واللهُ تعالى هو الذي خَلَقَ الأرْض، وأَنْبَتَ فيها الزروعَ والثِّمارَ في أصنافٍ وطُعُومٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبْهَرُ النَّاظِرين، وتَسْتَرْعِي أنْظَارَ الغَافِلين، أفَلَمْ يَرَ هؤلاءِ ذلكَ؟ إنَّهُمْ لو نَظَرُوا مُتَأَمِّلِينَ لاهْتَدَوْا إلى الإِيمانِ باللهِ وَحْدَه لا شَرِيكَ لهُ.
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ - مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ كَريمٍ كَثيرِ النَّفْعِ.
﴿لآيَةً﴾
(٨) - وفي إخراجِ النَّبَاتِ منَ الأرضِ على هذهِ الأشْكَالِ البدِيعةِ، لدلالاتٌ، لأُولي الألْبَابِ والعُقولِ، على قُدْرَةِ الخَالِقِ على البَعْثِ والنُّشورِ، فإنَّ مَنْ أحْيَا الأرضَ بعدَ مَوْتِها، وأخرجَ النَّبَاتَ والأشْجَارَ والزّروعَ والفَوَاكِهَ مِنْها لن يُعْجِزَهُ نَشْرُ الخَلائِق من قُبورِهِمْ يومَ القِيَامَةِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ غَفَلُوا عنْ هَذِهِ الآياتِ فجَحَدُوا بها، وكَفَرُوا باللهِ، وكَذَّبُوا رُسُلَهُ.
(٩) - ورَبُّكَ أيُّها الرَّسُولَ هو العزيزُ الذي لا يُنالُ، وقَد غَلَبَ كلَّ شيء، وهوَ الرَّؤوفُ الرحيمُ بِخَلْقِهِ، فلا يُعَجِّلُ بالعُقُوبةِ علَى مَنْ عَصَاهُ، بل يُؤجِّلُهُ ويُنْظِرهُ، ثمَّ يَأْخُذُهُ أخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ، وسَيَنْتَقِمُ منْ هؤلاءِ المُكذِّبينَ.
﴿الظالمين﴾
(١٠) - واذْكُرْ أيُّها الرسولُ لِقَوْمِكَ، قِصَّةَ مُوسى عليهِ السلامُ، حينَما نَاداهُ ربُّهُ من جَانِِبِ الطُّورِ الأيمنِ، وكَلَّمَهُ ونَاجَاهُ، وأمَرَهُ بالذَّهَابِ إلى القومِ الظالمينَ، الذين ظَلَمُوا أنْفُسَهُم بِكُفْرِهِمْ، والظَّالمِينَ لِبَنِي إسْرائيلَ باسْتِعْبَادِهِمْ، وذَبْحِ الذُّكُورِ من أبْنَائِهمْ.
(١١) - ثُم بَيَّنَ اللهُ تَعالى القَومَ الظَّالمينَ الذينَ أَرْسَلَ إليهم نبيَّهُ مُوسى عليه السلامْ، فقالَ: إِنَّهُمْ فرعونُ ومَلَؤُهُ (أي مَنْ حَوْلَهُ مِنْ كِبَارِ رجالِ دَوْلَتِهِ). وقالَ اللهُ تعالى لمُوسى ألا يَتَّقي هؤلاءِ الظَّالمونَ رَبَّهُمْ ويَحْذَرُونَ عِقَابَهُ، ويَخَافونَ عَاقِبَةَ بَغْيِهِمْ وكُفْرِهِمْ بهِ؟
(١٢) - فقالَ موسى لِرَبِّهِ: إنَّهُ يخَافُ أن يُكَذِّبَهُ فِرْعَوْنَ ومَلَؤُهُ فيما يَأْتيهِمْ بِه، كِبْراً وبَطَراً وعِنَاداً.
﴿هَارُونَ﴾
(١٣) - وإنَّهُ يخافُ إذا كَذَّبوهُ أن يَضِيق صَدْرُهُ، تَأَثُّراً، ويَتَلَجْلَجَ لسانُهُ، وهو يُجَادِلُهُمْ ويُناقِشُهُمْ ويَدْعُوهُمْ إلى اللهِ، ثم رَجَا رَبَّهُ أنْ يُرْسِلَ مَعَهُ أخَاه هارونَ، ويجعَلَهُ نَبِيّاً مَعهُ يُؤازِرُهُ ويَشُّدُّ بهِ عَضُدَهُ.
(١٤) - ثُمَّ عَادَ يَعْتَذِرُ إلى رَبِّهِ بأنهُ كَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنَ القِبْطِ وهَرَبَ مِنْ العقابِ إِلى مَدْيَنَ، ولذلكَ فَإِنَّهُ يَخَافُ أن يقْتُلُوهُ قِصَاصاً بتلكَ الجريمَةِ، إِذا جَاءَهُمْ وَحْدَهُ.
﴿بِآيَاتِنَآ﴾
(١٥) - فَرَدَّ اللهُ تَعالى عَلى مُوسى قَائِلاً: لاَ تَخَفْ شَيئاً منْ ذلك. إِنَّنَا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بأخِيكَ هَارونَ، فاذْهَبْ أَنْتَ وإيَّاهُ إلى فِرْعَوْنَ بالآياتِ التي آتَيْتُكُمْ، ومنْها العَصا واليَدُ، وسَأكونُ مَعَكُما حَاضِراً مُسْتَمِعاً ومُبْصِراً ما سَيَجْري، وأنتُما بِحِفْظِي ورِعَايَتي، وأنتُما الغَالِبَانِ.
﴿العالمين﴾
(١٦) - فاذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ وقُولا لهُ: إِنَّ كُلاًّ منكُما مُرْسَلٌ إِليكَ وإِلى قَوْمِكَ مِنْ رَبِّ العَالَمين.
(وكَلِمةُ رَسُولٍ تُسْتَعْمَلُ لِلفَرْدِ والجَمْعِ).
﴿إِسْرَائِيلَ﴾
(١٧) - وهوَ يَأْمُرُكَ بأنْ تُطْلِقَ بني إسرائيلَ مِنْ قَبْضَتِكَ وإسَارِكَ وقَهْرِكَ وتَكُفَّ عَنْ تَعْذِيبِهِمْ، فإنَّهُمْ عبَادُ اللهِ المُؤْمِنُون، وأًنْ تَتْرُكَهُمْ يَذْهَبُونَ مَعَنا إِلى الأرضِ المُقَدَّسَةِ.
(١٨) - فَرَدَّ فرعَونُ على مُوسى بازْدِرَاءٍ، وعَدَمِ اكْتِرَاثٍ، وقَالَ لَهُ: أَمَا أنْتَ الذي رَبَّيْنَاهُ في بَيْتِنا، وَهُوَ طِفْلٌ صغيرٌ، وأنَعْمَنَا عليهِ عَدَداً مَن السنينَ؟
﴿الكافرين﴾
(١٩) - ثم قابَلْتَ ذلكَ الإحسانَ بقَتْلِ رجُلٍ مِنَّا، وجَحَدْتَ نِعْمَتَنا عليكَ وكَفَرْتَ بها.
الكَافِرينَ - الجَاحِدينَ للنِّعْمَةِ.
(٢٠) - فَقَالَ موسى مُجِيباً: قَدْ فَعَلْتُ تِلْكَ الفَعْلَةَ - وهيَ قَتْلُ القِبْطيِّ - وأنَا إذْ ذَاكَ منَ الجَاهلينَ أنَّ وَكْزَتِي سَتَقْضِي عليهِ.
(وقيل إنَّ المَعْنى هُو: لقدْ فعلْتُها وأنَا في تِلكَ الحَالِ (إذاً) قَبْلَ أًَنْ يُوحِي اللهُ إليَّ بالرِّسَالَةِ، والنُّبُوَّةِ وكُنْتُ جَاهِلاً).
الضَّالِّين - المُخْطِئِينَ عَيرِ المُتَعَمِّدِينَ.
(٢١) - فَهَرَبْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُ أن تَبْطِشُوا بِي، فاخْتَارَنِي اللهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِه، ووَهَبَنِي عِلْماً بالأشْيَاءِ على وجْهِ الصَّوَابِ، وجَعَلَنِي رَسُولاً لِهِدَايَةِ العِبَادِ، وأمَرَنِي بأنْ آتِيَكَ لأَدْعُوَكَ إليهِ، فإنْ أَطَعْتَهُ سَلِمْتَ، وإن خَالَفْتَهُ هَلَكْتَ.
﴿إِسْرَائِيلَ﴾
(٢٢) - وإنَّكَ تَمُنُّ عَلَيَّ بأنَّكَ أحْسَنْتَ إِلَيِّ، وَرَبَّيْتَنِي في بَيْتِكَ، ولكنَّكَ اسْتَعْبَدْتَ بَنِي إسرائيلَ، وجَعَلْتَهُمْ عَبِيداً لكَ وخَدَماً تُصَرِّفُهُمْ في أعْمَالِكَ الشَّاقَةِ، وتَذْبِحُ أبْنَاءَهُمْ، ولولا خَوفُ أُمِّي عليَّ مَنَ الذَّبْحِ لَمَا قَذَفَتْنِي في التَّابُوتِ في الماءِ، ولما صِرْتُ إلى قَصْرِكَ، ولَكَانَ أَبَوَايَ رَبَّيَانِي، ولَمَا كُنتُ بِحَاجَةٍ إِلى تَرْبِيَتِكَ لِي. فَلَيْسَتْ نِعْمَتُكَ عَلَيَّ، وتَرْبِيَتُكَ إِيَّايَ بِشَيْءٍ يُقَاسُ بالنِّسْبَةِ ألى ما فَعَلْتَهُ أنْتَ بِبَني إسرائيلَ.
عَبَّدْتَ بَني إسرائيلَ - اتَّخَذْتَهُمْ عَبِيداً لَكَ مُسْتَذَلِّينَ.
﴿العالمين﴾
(٢٣) - وكانَ فِرْعَوْنُ يَحْمِلُ قَوْمَهُ على عِبَادَةِ شَخْصِهِ هُوَ، ويَقُولُ لَهُمْ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾، فَلَمَّا دَعاه مُوسى إِلى عبادةِ اللهِ، وقالَ لهُ إني رسولُ رَبِّ العَالَمين، قالَ لهُ فِرعونُ مُسْتَخِفّاً جَاحِداً: ومَنْ رَبُّ العَالَمِين هذا الذي تَدَّعِي أًَنَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَيِّ؟ وما هِيَ حَقِيقَتُهُ؟
﴿السماوات﴾
(٢٤) - فَقَالَ لهُ مُوسى: إنَّه خَالِقُ السَّمَاواتِ والأرْضِ وما بينَهُما، ومالِكُ كلِّ شيءٍ وإلهُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ولَوْ كَانَتْ لَكُمْ قُلُوبٌ مُوقِنةٌ، وأبْصَارٌ نَافِذَةٌ لانْتَفَعْتُمْ بِهَذا الجَوابِ، ولاهْتَديتُم، وَلَعرفْتُم أنَّ مُلْكَ فِرعَونَ لا يُقَاسُ بِمُلْكِ اللهِ العظيم.
(٢٥) - فالتَفَتَ فرعَونُ إلى مَنْ حَوْلَهُ من مَلَئِهِ، وكِبَارِ رِجَالِ دَوْلَتِهِ، قائلاً لهُمْ على سَبيلِ التَّهَكُّمِ والاسْتِهْزَاءِ والسُّخْرِيَةِ والتَّكْذِيبِ لمُوسَى: ألاَ تَسْتَمعونَ إلى ما يقُولُه هذا في زعْمِه أنَّ لكمْ إِلَهاً غَيْري.
﴿آبَآئِكُمُ﴾
(٢٦) - فتابَعَ مُوسى عليهِ السلامُ وصْفَ عَظَمَةِ اللهِ تَعالى، قائلاً: إنهُ ربُّكُم وخالِقُكُمْ، وخَالقُ آبائِكُم الأولينَ مِنْ قَبْلِكم.
(٢٧) - فَقَالَ فرَونُ لمَلَئِه: إنَّ هذا الذي يَدَّعِي أنَّهُ رسُولٌ إليكُمْ مِنْ رَبِّ العَالمينَ هوَ رجُللإ مَجْنُونٌ لا عَقلَ لهُ، إذْ يَدَّعِي أنَّ ثَمَّةَ إلهاً غيرَهُ هوَ (أي غَيْرَ فرعَونَ).
(٢٨) - فقالَ لهُ موسَى: إنَّ اللهَ رَبَّهُ هو ربُّكُمُ الذي جَعَلَ المَشْرِقَ مَشْرِقاً، والمغْرِبَ مَغْرِباً، فَتَطْلُعُ الكَواكِبُ من المَشْرِقِ، وتَغْرُبُ في المَغْرِبِ، هذا إنْ كانَتْ عُقُولٌ تَفْقَهُونَ بها ما تَرَوْنَ، وما يُقَالُ لَكُمْ فإذا لَمْ تُؤْمِنُوا باللهِ فأنْتُمْ الذينَ تَسْتَحِقُّونَ أن تُوصَفُوا بالجُنُون.
﴿المسجونين﴾
(٢٩) - فلما شعرَ فرعونُ أنهُ غُلِبَ وانْقَطَعَتْ حُجَّّتُهُ، عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَال جاهِهِ وقوةِ سُلْطَانِهِ، واعْتَقَدَ أنَّ ذَلكَ نافِعُهُ، ونافِذٌ في مُوسى وأخِيه فقال لمُوسى: إذا عَبَدْتَ إلهاً غَيْرِي فَسَأَسْجُنُكَ، وأنتَ تَعْرِفُ سُوْءَ حَالِ مَنْ يَدْخُلُ في سِجْنِي.
(٣٠) - فقالَ مُوسى لفِرعَونَ مُتَلَطِّفاً طَمَعاً في إيمانِهِ: وهَلْ تَسْجُنُنِي حتَى ولو جئْتُكَ بِبُرْهَانٍ قَاطعٍ واضحٍ على صِدقِ ما أقولُ منْ أنَّنِي مُرْسَلٌ إليكَ مِنَ الإِلهِ القادِرِ وأنَّ هذِهِ المُعْجزةَ تَدُلُّ على عَظَمَةِ اللهِ وقُدْرَتِه وحِكْمَتِه؟
﴿الصادقين﴾
(٣١) - فقالَ لهُ فرعونُ هاتِ ما عِنْدَكَ مِنْ بُرْهَانٍ، إنْ كُنْتَ صَادقاً في دَعْوَاكَ أنَّ لَدَيْكَ آيةً ومُعجزة.
(٣٢) - فألقَى موسى العَصَا التي كَانَتْ بيدِهِ، فانْقَلبتْ إلى ثعبانٍ حَقِيقيٍّ ظَاهِرٍ في غَايَةِ الوُضُوحِ والجَلاءِ.
﴿لِلنَّاظِرِينَ﴾
(٣٣) - ونَزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ فإذا بِها تَتَلأَلأُ كَفِلْقَةِ القَمَرِ من غيرِ سُوءٍ ولا مَرَضٍ.
نَزَعَ يَدَهُ - أخْرَجَهَا مِنْ جَيْبهِ (والجَيْبُ فَتْحَةُ الثَّوْبِ عندَ الصَّدْرِ).
﴿لَسَاحِرٌ﴾
(٣٤) - فبادَرَ فرعونُ إلى التَّكْذيبِ والعِنَادِ، فقالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من بِطَانَتِهِ: إنَّ مُوسَى سَاحرٌ بارعٌ في السِّحْرِ (عَليمٌ) فأدْخَلَ في رُوْعِهِمْ أنَّ ما جَاءَ بهِ موسَى هوَ منْ قَبيلِ السِّحْرِ، لا مِنْ قَبِيلِ المُعْجِزَةِ الخَارِقَة، ثم حَرَّضَهُمْ على مُخَالَفَتِه، والكُفْرِ بهِ.
المَلأُ - وُجُوهُ القَوْمِ وكُبَرَاءُ الدولةِ.
(٣٥) - فقال لهُمْ إنَّهُ يُريدُ بسِحْرِهِ هذا أن يَذْهَبَ بقُلُوبِ النَّاسِ، فَيُكَثِّرَ أَعْوَانَهُ وأتْبَاعَهُ، ويَغْلِبَكُم بعدَ ذلكَ على دَوْلَتِكُمْ، فَيَأْخُذَ البِلادَ مِنْكُمْ، ويُخْرِجَكُم مِنْها، فَأَشِيرُوا عليَّ بالذي تَرَوْنَ في أمْرِهِ؟
﴿المدآئن﴾ ﴿حَاشِرِينَ﴾
(٣٦) - فَقَالَ الملأُ لفرعَونَ: أَجِّلِ الفَصْلَ في أمْرِهِ وأمْرِ أَخِيهِ، وأرْسِلْ مِنْ قِبلِكَ رُسُلاً (حاشِرِينَ) يَطُوفُونَ أرْجَاءَ مَمْلَكَتِكَ بَحْثاً عنِ السَّحَرَةِ أَرْجِهْ - أَخِّرْ أمْرَهُمَا ولا تُعَجِّلْ لهُما بالعُقُوبَةِ.
حَاشِرين - أُنَاساً يَجْمَعُون لكَ السَّحَرَةَ.
(٣٧) - ليأتوكَ بكلِّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ كَافٍ بالسِّحْرِ، وفُنُونِه، لِيُقَابِلُوا مُوسى وأَخَاه بِنَظيرِ ما جَاءَ بِه مُوسى فَتَغْلِبَهُ أنْتَ، وتكونَ لكَ النُّصْرَةُ والغَلَبَةُ عليهِ، وعَلى أخِيهِ. فأجَابَهُم فرعَونُ إلى ذلكَ وكَانَ هذا مِنْ تَسْخِير اللهِ تَعالى لِيَجْتَمِعَ السَّحَرةُ والناسُ في صَعِيدٍ واحِدٍ، وتَظْهَرَ آياتُ اللهِ وحُجَجُهُ في النَّهَارِ أمَامَ الخَلائِقِ.
﴿لِمِيقَاتِ﴾
(٣٨) - فَضُرِبُ للسَّحرةِ مَوْعِدٌ يَجْتَمِعُونَ فيهِ في مَكانٍ مُعَيِّنٍ ووقتٍ مُحَدَّدٍ.
(٣٩) - ودُعيَ الناسُ إلى الاجْتماع لِمُشَاهَدَةِ المُبارَزَةِ بينَ السَّحَرةِ وبينَ مُوسى وهَارونَ، فَإخذَ الناسُ يَحُثُّ بعضُهُم بَعْضاً على الاجْتِمَاعِ في اليومِ المَعْلُومِ لحُضُورِ الحَفْلِ المَشْهُودِ.
هَلْ أنتُمْ مُجْتَمِعُونَ - حَثٌّ على الاجْتِمَاعِ واسْتِعْجَالٌ لَهُ.
﴿الغالبين﴾
(٤٠) - وقالَ قائلُهمْ: لعلَّنا نَتَّبعُ السَّحَرَةَ إنْ غَلَبُوا مُوسَى وأخَاه. (ولم يَقُولُوا لعلَّنا نتبعُ الحقَّ سَواءٌ كانَ منَ السَحَرةِ أو مِن موسَى، ولكنهُمْ كانُوا على دِينِ مَلِكِهِمْ فرعونَ).
﴿أَإِنَّ﴾ ﴿الغالبين﴾
(٤١) - وَجَاءَ السَّحَرةُ إلى مَجْلِسِ فرعونَ، وَقَدْ جَلَسَ على كُرْسِيِّهِ وحولَهُ كِبَارُ رِجَالِ دَوْلَتِهِ، وخَدَمُهُ وحَشَمُهُ وجُنْدُهُ، فَقامَ السَّحَرةُ بينَ يديْ فرعونَ يَطْلُبون منهُ الإِحْسَان إليهمْ إنْ غَلَبُوا مُوسى وهَارون، وقالُوا لهُ: وهَلْ لَنَا مِنْ أجرٍ إذا انْتَصَرْنَا عليهِما؟
(٤٢) - فقالَ لهمْ فرعونُ: نَعَمْ إنَّ لَكُمْ لاَجْراً، وإنَّ لَكُمْ عِنْدي أكثرَ مِنْ ذَلِكَ، فإنَّكُمْ سَتَكُونُونَ مِنْ جُلَسَائِي، ومنَ المُقَرَّبِين عِنْدِي.
(٤٣) - ولمَّا اجْتَمَعُوا، في اليومِ المَعْلُومِ، أمَامَ فرعونَ والناسِ المُحْتَشِدينَ، سأَلَ السَّحَرَةُ مُوسى إنْ كَان يُريدُ أن يَبْدَأَ هو بإلقاءِ ما عِنْدَهُ مِنْ فُنُونِ السَّحَرَةُ مُوسى إنْ كَان يُريدُ أن يَبْدَأَ هو بإلقاءِ ما عِنْدَهُ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ، أوْ يكونُونَ هُمُ البَادِئِيْنَ؟ فقالَ لهمْ: بَلْ ألْقُوا أنُتمْ مَا لَدَيْكُم من فُنُونِ السِّحْرِ.
﴿الغالبون﴾
(٤٤) - فأَلَقَوْا حِبَالَهُمْ وعِصِيَّهُمْ فسَحَرُوا أعْيُنَ الناسِ واستَرْهَبُوهم وجَاؤُوا بسحرٍ عَظيمٍ - كَما جَاءَ في آيةٍ أُخْرَى - ونَظَرُوا إلى مَا أَتَوْا منَ السِّحْرِ فظنُّوهُ عَظيماً، وداخَلَهُم الزَّهْوُ، وأيْقَنُوا بالنَّصْرِ، فأقْسَمُوا بِعِزَّةِ فرعَوْنَ، وَقُوَّتِهِ، وَيُمْنِهِ، أنهُمْ سَيًَكونُون الغالبينَ.
بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ - بِعَظَمَةِ فِرْعَوْنَ ويُمْنِهِ.
(٤٥) - فألقَى مُوسى عَصَاهُ فانْقَلَبَتْ ثًعْبَاناً عَظِيماً أخَذَ يُطَارِدُ حِبَالَ السَّحَرةِ، وعِصَيَّهُمْ ويَبتلعُها، حتّى أتَى عَليْها جَميعاً، وقَدْ حَدَثَ كلُّ ذلِكَ أمامَ فرعونَ ومَلِئِ وجُندِهِ وأهلِ مَمْلَكَتهِ.
ما يأفِكُون - ما يَكْذِبُون، ويُمَوِّهُونَ بِهِ على النَّاسِ.
تَلْقَفُ - تَتْتَلِعُ بسرعةٍ.
﴿سَاجِدِينَ﴾
(٤٦) - وعَلِمَ السَّحَرَةُ أنَّ مَا أتَى بهِ مُوسَى لَيْسَ سِحْراً، لأنَّهُ لوَ كانَ سِحْراً لَما غَلَبَهُمْ، وهُمْ جُمُوعٌ من السَّحَرةِ، لهمْ بالسحْرِ علمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وأيْقَنُوا أَنَّ أتَى بهِ مُوسى هوَ الحَقُّ من عندِ اللهِ تَعالى فَخَرُّوا على وُجُوهِهِمْ سَاجِدينَ للهِ ربِّ العالَمينَ، تَائِبينَ مُسْتَغفرينَ رَبَّهُمْ على مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ سِحرٍ وكُفْرٍ، ورَغْبَةٍ في مُعَارَضَةِ الحَقِّ مِنْ عندِ اللهِ بِسْحْرِهِمْ.
﴿العالمين﴾
(٤٧) - وقالُوا: آمَنَّا بربِّ العالِمين الذيْ دَعا موسَى فِرعَونَ إلى عبادَتِهِ حينَما جاءَهُ، وأعْلَنُوا إيْمَانَهُمْ أمامَ فرعونَ ومَلئِهِ.
﴿هَارُونَ﴾
(٤٨) - ثمَّ بَيَّنُوا أنَّ ربَّ العالمينَ الذيْ آمنُوا بهِ هوَ ربُّ مُوسَى وهَارُونَ، ومؤيِّدُهُما بنصْرِهِ.
﴿آمَنتُمْ﴾ ﴿آذَنَ﴾ ﴿خِلاَفٍ﴾
(٤٩) - فشعَرَ فرعَونُ أنُه غُلِبَ عَلَى أمْرِه غَلْباً كَبيراً أمامَ شَعْبِهِ ومَلَئِهِ وسَحَرَتِهِ، فَعَدَلَ إلى المُكَابَرَة والعِنَادِ، ودَعْوَى الباطِلِ، فشرَعَ يَتَهَدَّدُ السحرةَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ، ويقولُ لَهُمْ: إنَّ مُوسى هو كبيرُهُم، وهو الذي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ، وإنهُمْ تَوَاطُؤوا معهُ ليظْهَرَ عليهمْ أمامَ النَّاسِ فيتَّبِعُوه.
وقالَ لَهُمْ فرعونُ: كيفَ تؤمنونَ لهُ قبلَ أن تسْتَأذنُونِي في ذلكَ؟ وقبلَ أنْ أسْمَحَ لكُمْ بهِ؟ ثمّ تَوَعَّدَهمْ بقطعِ أيدِيهمْ وأَرجُلهمْ بصُورةٍ مُتَخَالِفةٍ فإِذا قَطَعَ اليدَ اليُمنى قطعَ الرجلَ اليسرى، وبأَنَّهُ سَيَصْلِبُهُم جَميعاً على جُذوع النَّخلِ.
(٥٠) - فقالُوا لهُ: لا حَرَجَ علينا ولا بأسَ في ذلك، وهوَ لا يَضُرُّنا ولا نُبالي بِهِ، فإنَّنا راجِعُون إلى ربِّنا، وهو تَعالى لا يُضيعُ أجرَ المُحْسنين، لا ضَيْرَ علينا - لا ضَرَرَ علينا فيما يُصِيبُنا.
﴿خَطَايَانَآ﴾
(٥١) - وإنَّنا نَطمعُ في أَنْ يَغفِرَ لنا رَبُّنا ذنُوبَنَا وما اقْتَرفْنَاه في حياتِنَا الماضيةِ من الخَطَايا، وما أكْرَهْتَنَا عليه من السِّحرِ، إذْ كُنَّا أولَ من آمنَ من قومِك بمُوسى ورسالَتِه انْقِياداً للحقِّ، وإعْرَاضاً عن زُخْرُفِ الدُّنيا وزينَتِها.
(٥٢) - ولَمَّا طالَ مُقَامُ موسى في مصرَ، وأقامَ بها حُجَجَ اللهِ وبراهينَهُ على فرعونَ ومَلَئِِهِ، وهُمْ في ذلكَ يُكَابِرُون ويُعَانِدُون، لمْ يَبْقَ إلا العذابُ والنَّكالُ، فأمرَ اللهُ تعالى مُوسى بأَنْ يخرجَ ببني إسرائيلَ ليلاً من مِصْرَ، وأعْلَمَهُ أنَّ فرعونَ سيتْبَعُهُم، وأمَرَهُ بأنْ يتوجَّهَ حيثُ يُؤْمَرُ، فَفَعَلَ موسى ما أمَرَهُ بهِ ربُّهُ.
مُتَّبعُون - يَتْبَعُكُمْ فرعونُ وجنودُهُ.
السُّرى - السَّيْرُ ليلاً.
﴿المدآئن﴾ ﴿حَاشِرِينَ﴾
(٥٣) - وَلمَّا عَلِمَ فِرعَونُ بارتحالِ بني إسْرائيلَ مَعَ مُوسى ليخرُجُوا من أَرْضِ مصرَ اغْتَاظَ وأرسلَ رسُلاً (حاشرينَ) يَجْمَعونَ له الجنودَ من أطرافِ مملكتِهِ، لِتَبْعَهُمْ ويَردَّهمْ إلى أرضِ مصرَ، ويمنَعُهم من الخروجِ منها.
حَاشرينَ - أُنَاساً يَجْمعُون لهُ الجُندَ.
(٥٤) - وَنَادَى فِرعَوْنُ في قومهِ: إنَّ بني إسرائيلَ (هؤلاءِ) طَائفةٌ خَسِيسةٌ في شأنِها، قليلةٌ في عَدَدها (لشِرْذِمةٌ)، ومنَ السَّهْلِ قهرُهُم والسَّيطَرةُ على مُقَاوَمَتِهِمْ في وقتٍ قصيرٍ.
شِرْذمة - طائفة قليلة الأهميَّةِ.
﴿لَغَآئِظُونَ﴾
(٥٥) - وقد أقَدَمُوا على عَمَلِ ما يُثِيرُ غَيْظَنَا بمُخَالَفَةِ أمْرِنا، ومُحَاوَلةِ الخروجِ من أرضِ مصرَ بغيرِ إِذْنِنا، وبذهابِهِم بالحُلِيِّ الرتي استعَارُوها من القِبْطِ.
﴿حَاذِرُونَ﴾
(٥٦) - وَإنَّ علينَا أن نحذَرهم قبلَ أن يستفْحِلَ شرُّهُمْ. ونحنُ قومٌ من عادَتِنا الحَذَرُ والتَّيَقُّظُ، واسْتِعْمَالُ الحَزْمِ فِي الأمور.
حاذِرُون - محُتَرِزُون أو مُتَأَهِّبُون بالسلاحِ.
﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ﴾ ﴿جَنَّاتٍ﴾
(٥٧) - فَأَخْرَجَ اللهُ تَعالى فرعونَ وقومَهُ وجنودَه من نعيمِ الحَياة التي كَانوا يَعِيشُونها، فَتركُوا المَنَازِلَ العَالِيةَ، والبَسَاتينَ النَّضِرَةَ والمِيَاهَ الوَفِيرةَ، لِيُهْلِكَهُمُ اللهُ جَميعاً في البَحْرِ غَرَقاً.
(٥٨) - وتَرَكُوا الكُنوزَ والأَمْوالَ والأرْزَاقَ والجَاهَ الوافِرَ في الدُّنيا.
﴿وَأَوْرَثْنَاهَا﴾ ﴿إِسْرَائِيلَ﴾
(٥٩) - وهكَذا أخرَجَ اللهُ تعالى فرعَونَ وقومَهُ وجنُودَهُ من أرْضِهِم، التي كانُوا مُقيمينَ لِيُهْلِكَهُم في البَحْرِ غَرَقاً، وجَعَلَ بني إِسرائيلَ يَرثُون الأرضَ المُقَدَّسَةَ، وفيها جَنَّاتٌ وعُيونٌ ونَعِيمٌ يُمَاثِلُ ما تَرَكَهُ فِرْعَونُ وقومَه في مصرَ فتحَوَّلَ حالُ بني إسرائيلَ من الرِّقِّ والعُبوديَّةِ والذُّلِّ، إلى الحُرِّيَّةِ والترفِ والنعيم.
(٦٠) - فَاتَّبعَ فِرْعَونُ وقومُه بني إسْرائيلَ، وأدركُوهُمْ عِندَ شُروقِ الشَّمسِ.
مُشرِقين - دَاخِلين في وقْتِ الشُّروقِ.
﴿تَرَاءَى﴾ ﴿أَصْحَابُ﴾
(٦١) - فلمَّا رأَى كُلُّ فريقٍ الفَريقَ الآخَرَ، قالَ أصْحَابُ موسى: إنَّ فرعونَ وقَوْمَهُ قدْ أدركُوهُمْ وَإِنَّهُمْ سيقتُلُونَهُمْ، وذلكَ لأنهمْ وَصَلُوا إلى سَاحِلِ البحرِ، ولمْ يَعُدْ بإِمكانِهِمْ مُتَابَعَةُ السَّيرِ للتَّخَلُّصِ مِنْ مُطَارَدَةِ فرعَونَ وجُنودِهِ.
تَرَاءى الجَمْعَانِ - رَأَى كلٌّ منهُما الآخَرَ.
(٦٢) - فقالَ مُوسى لِقَوْمِه: كَلاَّ. إنَّ فرعونَ وقومَهُ لَنْ يَصِلُوا إليكُمْ، فإنَّ اللهَ تَعالى هُوَ الذي أمَرَنِي بأنْ أَسيرَ بكُمْ إِلى هُنا، وهُو تَعالى لا يُخْلِفُ المِيعَادَ، وإنهُ سيهدينِي سواءَ السَّبيلِ، إلى ما يَجبُ أن أفعَلَهُ لنَنْجُوَ.
(٦٣) - فأمرَ اللهُ تَعالى مُوسى بأنْ يَضربَ البحرَ بِعَصَاهُ فَضَرَبَهُ فانْفَلَقَ البحرُ بإذنِ اللهِ تَعالى، فكانَ كلُّ جَانِبٍ منَ الماءِ كالجَبَلِ العَظيمِ.
(وقال ابنُ عَبَّاسٍ: أصْبَحَتِ الفَتْحَةُ التي انشَقَّ عنها الماءُ كالفَجِّ العَظِيم بينَ جَبَلَيْنِ).
فانْفَلَقَ - انْشَقَّ اثْنَيْ عَشَرَ فِرْقاً.
فِرقٍ - قِطْعَةٍ منَ البَحرِ مُرْتَفِعَةٍ.
كَالطَّودِ العَظيمِ - كَالجَبلِ المرتفعِ في السَّماءِ.
﴿الآخرين﴾
(٦٤) - وَقَرَّبَ اللهُ فرعونَ وجُنودَهُ من البحرِ، وأدْنَاهُمْ منهُ.
أزْلَفْنَا - قرَّبْنَاهُمْ منَ البَحرِ (أي جَمَاعةَ فرعَونَ).
(٦٥) - فَسَارَ موسى وَقومُهُ في المَكَانِ الذِي انْفَتَحَ في البَحرِ وأصْبَحَ يابِساً، وبَلَغُوا الطرفَ الآخَرَ من البحرِ، فَنَجَوْا جَمِيعاً.
﴿الآخرين﴾
(٦٦) - وتَبِعَهُمْ فِرعونُ وجنودُهُ في المَكَان الذي انْفَتَحَ في البَحْرِ، فَلمَّا أصْبَحُوا جَمِيعاً بينَ فِرْقَتَي الماءِ، أطْبَقَ عليهِمُ البحرُ فأغْرَقَهُمْ أجْمَعينِ.
﴿لآيَةً﴾
(٦٧) - وفي هذه القصَّةِ، وما فيها منَ العَجائبِ، والنَّصْرِ، والتَأْييدِ لِعِبَادِ اللهِ المؤمنينَ، لدَلاَلَةٌ واضحةٌ وحُجَّةٌ قاطعةٌ على قُدرةِ اللهِ تَعالى، وعلى صِدْقِ مُوسى، ولكنَّ أكْثَرَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَ أنهُمْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ هذه الآياتِ العِظامَ الباهرة.
(٦٨) - وإنَّ خالقَكَ ومَرُبِّيكَ، يا مُحَمَّدُ، لهوَ القويُّ القادرُ على الانتِقامِ مِنَ المُكَذِّبينَ، المُنعِمُ بالرَّحمَةِ على المُؤمِنينَ.
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾
(٦٩) - واتْلُ يا مُحَمَّدُ عَلَى قَوْمِكَ أخْبَارَ أبيهِمْ إبراهيم عَليهِ السَّلامُ، لَعَلَّهُمْ يَقْتَدُونَ بهِ في الإِخلاصِ والتَّوَكُّلِ على اللهِ تَعالى، وَعِبَادَتِه وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، والتَّبَرُّؤ منَ الشِّرْكِ وأهلِهِ فقدْ أُوتِي رُشْدَهُ من صِغَرِهِ، فَهوَ حينَ نَشَأَ وَتَرَعْرَعَ أنكَرَ على أبيهِ وقومِهِ عبادةَ الأصْنَامِ.
(٧٠) - فقال لأبيه وقومِهِ: مَاذا تَعْبدُونَ؟ وما هذهِ التَّمَاثيلُ التي أَنُتمْ على عِبَادَتِها عَاكِفُونَ؟ مَعَ أنَّها لا تَستحِقُّ العبادَةُ.
﴿عَاكِفِينَ﴾
(٧١) - فقالُوا لَهُ مُبَاهينَ: إنهُمْ يَعْبُدونَ أصْنَاماً يظَلُّونَ مُقيمينَ على عِبَادَتِها ودُعائِها تَعْظِيماً لها وتَمْجِيداً.
(٧٢) - فَسَأَلَهُمْ إبراهيمُ مُسْتَغْرِباً، ومُسْتَهْزِئاً، وَمُنْكِراً تَصَرُّفَهُمْ هذا: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ حِينَما تَدْعُونَهُمْ وهُمْ حِجَارَةٌ، وهَلْ يُجِيبُونَكُمْ إذا دَعَوْتُمُوهُمْ؟
(٧٣) - وَهَلْ يَسْتَطِيعُونَ نَفْعَكُمْ إِذا أطَعْتُمُوهُم، أَوْ ضَرَّكُمْ إِنْ عَصَيْتُموهُمْ؟
﴿آبَآءَنَا﴾
(٧٤) - فَاعْتَرَفُوا بأَنَّهُمْ لا يَعْرِفُون أنَّها تَنْفعُ وتَضُرُّ، وإنَّما وَجَدُوا آباءَهُمْ يَعْبُدُونَها، ويَسجُدُونَ لهَا، ويَنْحَرُونَ لها القَرابينَ، فاقْتَدَوْا بِهمْ، وفَعلُوا فِعلهُمْ.
﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾
(٧٥) - قالَ إبراهيمُ لقومِهِ: هلْ تَرَوْنَ هذهِ الأصنامَ التي تَعْبُدُونها أنتم؟ أفرأيتُمْ - أتَأَمَّلْتُمْ فَعَلِمْتُمْ.
﴿َآبَآؤُكُمُ﴾
(٧٦) - والتي عَبَدَهَا آباؤُكُم الأقْدَمُون من قَبْلِكُمْ؟
﴿العالمين﴾
(٧٧) - إِنَّنِي بَرَاءٌ منها جَميعاً، وَأَنَا لا أَعتَرِفُ برُبوبيَّةِ شَيءٍ منْها، وإِنَّنِي لا أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ سُبحانَهُ، فَهُوَ رَبُّ العَالمِينَ، وَلا رَبَّ سِوَاهُ.
(٧٨) - وهُوَ تَعَالَى الذيْ خَلَقِنِي، وخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وهُوَ الذِي هَدَى الخَلائِقَ إِلَيْهِ، فَكُلٌّ يجرِي عَلى ما قُدِّرَ لَهُ، وهُو الذيْ يَهْدِينِي إلى كلِّ ما يُوصلُني إِلى السَّعَادَةِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
(٧٩) - وهُو خَالِقِي ورَازِقِي بِمَا سَخَّرَ ويَسَّرَ مِنَ الأسْبَابِ.
(٨٠) - وإذَا ألمَّ بِي مَرَضٌ فَرَبِّي هوَ الذي يَشْفِينِي مِنَ المَرضِ، ولا يقْدِرُ عَلى شِفَائي غيرُهُ، بما يُقَدِّرُهُ من الأَسْبَابِ المُوصِلَةِ إليهِ.
(٨١) - وهُوَ الذيْ خَلَقَنِي ثُمَّ يُمِيتُنِي حينَمَا يَحِينُ أَجَلِي، ثُمَّ يَبْعَثُنِي حَيّاً مَرَّةً أُخْرى يَومَ القِيامةِ، ولا يَقْدِرُ أَحُدٌ سواهُ على شَيءٍ مِنْ ذَلكَ.
(٨٢) - وإنِّي أطْمَعُ في أنْ يغْفِرَ تَعالى خَطَايَايَ وذُنُوبِي وهَفَوَاتِي يومَ القِيَامَةِ (يومَ الدِّين)، ولا يَقْدِرُ على مِغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غيرُهُ، في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وهو الفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ.
يومَ الدِّين - يومَ القِيَامَةِ.
﴿بالصالحين﴾
(٨٣) - ثُمَّ دَعَا إبراهيمُ رَبَّهُ أنْ يُؤْتِيَهُ عِلْمَاً ورَأْياً سَدِيداً (حُكْماً - وقِيلَ بلْ المرادُ بِالحُكْمِ هُنا النُّبوةُ) وأن يُوفِّقَهُ إلى العَمَلِ في طَاعَةِ ربِّهِ لِيَكُونَ منْ زُمَرَةِ المُقَرَّبينَ إليهِ، المُطِيعِينَ لَهُ، المُؤْهَّلِينَ لِحَمْلِ رَسَالَتِهِ.
﴿الآخرين﴾
(٨٤) - وأَن يَجْعَلَ لهُ ذِكْراً جَميلاً، يَذْكُرُه بهِ منْ يأتي بعدَهُ، وَأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً يُقْتَدَى بهِ بِمَا يُوفِّقُهُ إليهِ ربُّهُ مِنْ عَمَلِ الخَيْرِ.
لِسَانَ صِدْقٍ - ثَنَاءً جَمِيلاً، وذِكْراً حَسَناً.
(٨٥) - وأَن يُنْعِمَ عليه ربُّهُ في الدُّنْيا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الجَمِيلِ بَعْدَهُ، وأن يُنْعِمَ عَليهِ في الآخِرَة بأنْ يَجْعَلَهُ مِمَّنْ يَرِثُونَ جَنةَ النَّعِيم.
(٨٦) - ودَعَا إبراهيمُ رَبَّهُ لِيَغْفِرَ لأَبِيه (لأنَّهُ كانَ مُشْرِكاً باللهِ، ضَالاً عَنْ طريق الهُدَى).
(ولكنَّ إبْرَاهِيمَ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ فيما بَعْدُ حينَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ للهِ، ورَجَعَ في دُعَائِه هَذا كَما جاءَ في آيةٍ أُخْرَى).
(٨٧) - ودَعَا رَبَّهُ أنْ يُجِيرَهُ من الخِزْيِ والهَوَانِ يومَ القِيِامَةِ، يومَ يَبْعَثُ اللهُ الخَلائقِ، ويحشُرُهُمْ جَميعاً للحِسَابِ.
لا تُخْزِنِي - لا تَفْضَحْنِي ولا تُذِلَّنِي بِعِقَابِكَ.
(٨٨) - وفي يَومِ القِيامةِ، يومَ يُبْعَثُ الخَلائِقُ، لا يَقِي المَرءَ منْ عذابِ اللهِ مالُهُ، ولوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الأرْضِ ذًهَباً، ولا يَنْفَعُهُ بنُوهُ، ولا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.
(٨٩) - ولا يَنْفَعُهُ في ذَلكَ اليوم إِلاَّ إيمَانُه، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ، وأَنْ يأْتِيَ اللهَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ، مُبَرَّإٍ من الشِّرْكِ والدَّنَسِ، والخَطَايا، وقَدْ أَخْلَصَ الإِيمانَ للهِ، وأخْلَصَ العَقِيدَةَ لَهُ، وآمَنَ إيمَاناً صادقاً أنه لا إِلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّ السَّاعَةَ آتيةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأنَّ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ.
بِقَلْبِ سَلِيمٍ - بَرِيءٍ من مَرَضِ النِّفَاقِ والكُفْرِ.
(٩٠) - وأُدْنِيَتِ الجَنَّةُ وقُرِّبَتْ الجَنَّةُ وقُرِّبَتْ منَ السُّعَداءِ المُتَّقِين، حَتى أصْبَحَتْ مِنْهُمْ بِمَرْأَى البصَرِ وهيَ مُزَيَّنَةٌ مُزَخْرَفَةٌ لِيَفْرَحُوا بِرُؤْيَتِها، وهؤلاءِ المُتقونَ هُمُ أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ - قُرِّبَتْ لِتُصْبِحَ بِمَرأَى العَيْنِ.
(٩١) - وأُبْرِزَتْ جَهنَّمُ، وأُظْهِرَتْ لأهْلِها الكَفَرةِ الطُّغَاةِ الغَاوِينَ، لتكون بِمَرْأى العينِ مِنْهُمْ، وفي ذلكَ تَعجِيلٌ لِحَسْرَتِهِمْ وغَمِّهِمْ.
بُرِّزَتِ الجَحِيمُ - أُظْهِرَتْ وأُبْرِزَتْ بِحَيْث تُرى أهْوَالُها.
للغَاوِينَ - الضَّالينَ عَنْ طريقِ الحَقِّ.
(٩٢) - وقِيلَ لأهْلِ النَّارِ تَقْرِيعاً وتَوْبِيخاً: أَينَ الآلهةُ الذينَ كُنتمْ تَعْبُدُونَهُمْ منْ دونِ اللهِ مِنْ أصْنَامٍ وأنْدَادٍ؟
(٩٣) - لقَدْ كُنْتُمْ أنْتُمْ تَعْبُدُونَهُمْ في الدُّنْيا من دونِ اللهِ تَعالى، وتَعْتَقِدُونَ أنَّهُمْ سَيَشْفَعُون لَكُمْ عندَ اللهِ، فهَلْ يَسْتَطِيعونَ اليومَ نَصْرَكُمْ أو نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ؟ وهَلْ يستطيعونَ أن يَدْفَعُوا عَذابَ اللهِ عنكُمْ أو عَنْ أنفُسِهِمْ؟
إنَّكُمْ وإيَّاهُمْ صَائِرونَ إِل جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً ومُسْتَقَرّاً.
﴿الغاوون﴾
(٩٤) - فأَلْقُوا في جَهَنَّمَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، بعْضُهُم فَوقَ بَعضٍ (كُبْكِبُوا) هُمْ وقَادَتُهُمْ وكُبَراؤُهُمْ، الذِينَ دَعَوْهُمْ إِلى الشِّرْكِ.
كُبْكِبُوا - أُلْقُوا بعضُهُمْ فوقَ بَعْضٍ على وُجُوهِهِمْ.
الغَاوُون - الضَّالُّونَ المُضِلُّون، وهُمْ هُنَا الكُبَراءُ
(٩٥) - وقُذِفَ في النَّارِ مَعَهُمْ جنودُ إبْلِيسَ الذينَ كانُوا يُزِيِّنُون لَهُمُ الشِّرْكَ وَالمَعَاصِيَ، فَصَارُوا جَمِيعاً في النَّارِ.
(٩٦) - فَيقُولُونَ مُعْتَرِفِينَ بِخَطًَئِهِمْ، وهُمْ يَتَخَاصَمُونَ في النَّارِ مَعَ مَنْ أَضَلُّوهُمْ مِنْ مَعْبُودَاتِهِم.
﴿ضَلاَلٍ﴾
(٩٧) - واللهِ لَقَدْ كُنَّا ضَالِّينَ بِصُورَةٍ جَلِيَّةٍ وَاضِحَةٍ
﴿العالمين﴾
(٩٨) - إذِ اسْتَجَبْنَا لَكُمْ أيُّهَا المَعْبُودُونَ، وعظَّمْنَاكُمْ تَعْظِيمَ المَعْبُودِ الحَقِّ، وسَوِّيْنَاكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ في اسْتِحَاقِ العِبَادَةِ.
نُسَوِّيكُمْ برَبِّ العَالَمِينَ - نَجْعَلُكُمْ وإيَّاهُ سَواءً في اسْتِحقَاقِ العِبَادَةِ.
(٩٩) - ومَا دَعَانا إلى ذَلِكَ، ولا حَمَلَنَا عَلَيْهِ إِلاَّ المُجْرِمُونَ من السَّادَةِ والكُبَرَاءِ، الذينَ أَضَلُّونَا السَّبِيلَ.
﴿شَافِعِينَ﴾
(١٠٠) - فلَيْسَ لَنَا اليَومَ منْ يَشْفَعُ لَنَا عِنْدَ اللهِ، ويُنْقِذُنَا مِمَّا نَحْنُ فيهِ مِنْ ضِيقٍ وَعَذَاب.
(١٠١) - وَلَيْسَ لَنَا اليوم صَديقٌ مُخْلِصُ الصَّدَاقَةِ وثيقُها (حَمِيم) يُؤازِرُ في الشَّفَاعَةِ لَنَا عِنْدَ اللهِ، أو يَتَوجَّعُ لنا وَيَرْثِي لِحَالِنَا.
حَمِيمٍ - قَريبٍ مُشْفِقٍ يَهْتَمُّ بأمْرِنا.
(١٠٢) - وَيَتَمَنَّونَ فِي ذلِكَ الوَقْتِ لَوْ أَنَّهُمْ يُرَدُّونَ إلى الدَّارِ الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ فِيمَا يَزْعُمُون. واللهُ تَعالى يَعْلَمُ إِنَّهُمْْ لَكَاذِبُونَ، ولَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ.
كَرَّةً - رَجْعَةً إلى الدُّنْيا.
﴿لآيَةً﴾
(١٠٣) - وإنَّ فِي محَاجَّةِ إبراهيمَ لِقَوْمِهِ، وإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ في وُجُوبِ التَّوْحِيدِ لآيةً، وبُرهاناً جَلِيّاً على أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريك لَهُ: ومَعَ وُضُوحِ ذلكَ وجَلائِه لأَعْيُنِهِمْ فإنَّهُ لم يُؤْمِنْ أكثرُهُمْ بِهِ.
(وقدْ يَكُونُ المَعْنَى: وَمَا كَانَ أكثرُ قَوْمِكَ الذين تُتْلُو عليْهِمْ هذا النَّبَأَ مُذْعِنِين لِدَعْوَتِكَ).
(١٠٤) - ورَبُّكَ، يا مُحَمَّدُ، هُوَ العَزِيزُ الجَانِبِ، الذيْ لا يُقَاوَمُ ولا يُغَالَبُ، وهو القَادِرُ على الانْتِقَامِ من المُكَذِّبينَ، وهُوَ الرَّحيمُ، إذْ لَمْ يُهْلِكِ العِبَادَ بِكُفْرِهِمْ وذُنُوبِهِمْ، بل أخَّرَ ذلكَ، وأَرْسَلَ إليهِم الرُّسُلَ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيرجِعُونَ إلى رَبِّهمْ.
(١٠٥) - يُخبرُ اللهُ تَعَالى عَنْ نوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ، وَهُوَ أولُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالى إِلى أَهلِ الأرضِ، بَعدَمَا عَبَدَ النَّاسُ الأَصْنَامَ والأَنْدَادَ، فَبَعَثَهُ اللهُ إلى قومهِ نَاهياً لَهُمْ عَنْ ذَلك، وَمُحَذِّراً إيَّاهُمْ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعالَى، فكَذَّّبَهُ قَومُهُ، واستَمَرُّوا مُقِيمينَ عَلَى عِبَادَةِ الأصْنَامِ والأَوْثَانِ والشِّرْكِ باللهِ. (ومَنْ كَذَّبَ رسُولاً فكأَنَّه كَذَّبَ جَميعَ المُرْسَلين لاتِّحَادِ دَعْوَةِ جميعِ الرُّسُلِ في أُصُولِها وغَايَاتِها، وَلِذلِكَ قَالَ: ﴿كَذَّبَتْ قومُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ.﴾
(١٠٦) - إِذْ قالَ لَهُمْ نوحٌ - وسَمَّاهُ أخَاهُمْ لأَنَّهُ مِنْهُمْ نَسَباً -: ألا تَخَافُونَ الله في عِبَادَتِكُم غَيْرَهُ؟ وَهلاَّ اتَّقَيْتُمْ عِقَابَهُ؟
(١٠٧) - إنِّي رَسُولُ اللهِ إليكُمْ؟ أمينٌ فِيمَا بَعَثَني بهِ إليْكُمْ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالات رَبِّي، ولا أَزيدُ فِيهَا ولا أًُنْقِصُ مِنْهَا.
(١٠٨) - فَأَطِيعُونِي فيما دَعَوْتُكُمْ إليهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، واتَّقُوهُ وأَخْلِصُوا العِبَادَةَ لَهُ، وأَقْلِعُوا عَنِ ارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ والمَعَاصِي.
﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ ﴿العالمين﴾
(١٠٩) - وإِنِّي لا أطْلُبُ منكُمْ أجْراً، ولا جَزَاءً، عَلَى نُصْحِي في إِبْلاَغِ رِسَالَةِ رَبِّكُمْ إلَيْكُمْ، وإنَّمَا أَبْتَغِي الاجْرَ والثَّوَابَ على ذَلك عندَ اللهِ ربِّ العَالَمين.
(١١٠) - فَخَافُوا الله واتَّقُوهُ وأَطِيعُوني واسْتِجِيُبُوا لِنُصْحِي، فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ الأمْرُ، وبَانَ لَكُمْ نُصْحِي وأَمَانَتِي في أداءِ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ إليكُمْ.
(١١١) - قَالُوا: كيفَ نُؤمِنُ لَكَ، وكَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَنَتَأَسَّى في ذَلك بِهَواءِ الأْذَلِينَ الذينَ اتَّبَعُوكَ وصَدَّقُوكَ؟
اتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ - السِّفْلَةُ الاَدْنِيَاءُ منَ النَّاسِ.
(١١٢) - قالَ لَهُمْ نُوحٌ: إنَّنِي دَعَوْتُ هَؤلاءِ فَصَدَّقُونِي واسْتَجَابُوا لِي، وعَلَيَّ أنْ أقْبَلَ منهُمْ ذَلك، وأكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولَيْسَ لِي أنْ أُنَقِّبَ عنْ ضَمَائِرِهِمْ، ولا أَنْ أُدَقِّقَ في أعْمَالِهِمُ السَّابِقَةِ.
(١١٣) - والذي يُحَاسِبُهُمْ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ، وعَلَى أَعْمالِهِم السابِقَةِ واللاحِقَةِ، إنَّمَا هُوَ اللهُ ربُّ العالَمِينَ، فهوَ المُطَّلِعُ عَلَيْهِم، لَوْ كنتمُ من ذَوِي الشُّعُورِ والعَقْلِ.
(١١٤) - وحينما سَأَلُوهُ أنْ يَطْرُدَ هَؤلاءِ المُؤْمِنينَ، ويُبْعِدَهُمْ عنهُ، أجَابَهُمْ: إنَّه لا يَفْعَلُ ذَلك.
(١١٥) - وَقَالَ لَهُمْ إنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَهُ نَذِيراً للنَّاسِ، فَمنْ أطَاعَهُ وصَدَّقَهُ كَانَ مِنْهُ، وَلا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ شَريفٍ وَوَضِيعٍ، وَلا بَيْنَ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ.
﴿لَئِنْ﴾ ﴿يانوح﴾
(١١٦) - طَالَ مُقَامُ نُوحٍ عَلَيه السَّلامُ بَينَ ظَهْرَانِيْ قَومِهِ، يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ لَيلاً ونَهاراً، وسِرّاً وجِهَاراً، وكُلَّمَا كَرَّرَ عليهِمُ الدَّعوةَ ازْدَادوا كُفْراً واسْتِكْبَاراً.
ولَمَّا كَرَّرَ لَهُمْ نوحٌ الدعوةَ تَضَايَقُوا منْهُ ومِمَّنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ الظَّالِمُونَ مِنْ قومِهِ: لَئِنْ لمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عَن دَعَْوَتِكَ إٍِيَّانَا إلى دِينِكَ لَنَرْجُمَنَّكَ بالحِجَارَةِ وَلنقْتُلَنَّكَ.
(١١٧) - فدَعَا نُوحٌ عليهِ السلامُ عَلَيْهِمْ، واسْتَنصَرَ رَبِّهُ عَلَيْهِمْ، وقالَ لِرَبِّهِ: رَبِّ إنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِي.
(١١٨) - ثم رجَا رَبَّهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وبينَ قَوْمِهِ، وأَنْ يَحْكُمَ بينَهُمْ بالحَقِّ، وأنْ يُنَجِّيَه والذينَ آمنُوا معَهُ العَذَابِ الذِيْ سيُنْزِلُهُ اللهُ بِهؤلاءِ الكافرينَ المُكَذِّبينَ.
افْتَحْ - اقْضِ واحْكُمْ، أو افْرُقْ.
﴿فَأَنجَيْنَاهُ﴾
(١١٩) - فأنْجَى اللهُ نُوحاً والمُؤْمِنينَ معَهُ في السَّفينةِ التي أَمَرَهُ اللهُ بصُنْعِها، وبأنْ يَحمِلَ فيها المُؤمنينَ، ومِنْ كُلٍّ زوجَيْنِ اثْنَتِينِ من الحَيَوَاناتِ والنباتَاتِ، ولذلكَ قال المَشْحُون إشارةً إِلى امْتِلاَءِ السفينةِ بالحُمُولَةِ.
الفُلْكِ - السَّفينةِ والمَرْكَبِ.
المَشْحُون - المُمْتَلِئ بالحُمولةِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ.
(١٢٠) - ثمَّ إنَّ الله تَعالى أغرَقَ البَاقينَ جَمِيعاً، بعْدَ أنْ أنْجَى نُوحاً وَالذين آمَنُوا مَعَهُ في السَّفِينةِ.
﴿لآيَةً﴾
(١٢١) - وَفي ذلكَ لآيةٌ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِعبادِهِ المُؤْمنينَ، وعَلى قُدْرَتِهِ تَعالى عَلى إهْلاَكِ المُجْرِمِينَ المُكذِّبينَ. وَمَعَ أنَّ نُوحاً حَذَّرَ قَومَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ ونَكَالِهِ ودعَاهُمْ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعالى لَيلاً ونهاراً، وسِرّاً وَجِهَاراً فإِنَّهُ لمْ يؤمنْ بِهِ كثيرٌ منهُمْ.
(١٢٢) - وإنَّ ربَّكَ مُحَمَّدُ هُو العَزيزُ الجَانبِ الذي لا يُقَاوَمُ ولا يٌغَالَبُ وهُوَ الحَكيمُ في شَرْعِهِ وتدْبِيرِهِ، الرَّحيمُ بعبَادِهِ إذْ لَمْ يُعَاجِلِ المُكَذِّبينَ بالعُقُوبةِ، وأرْسَلَ إليهِم الرَّسُلَ، وأَخَّرَ عُقُوبَتَهُمْ لَعلَّهُمْ يَتُوبُونَ.
(١٢٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعالى أنَّهُ أرْسَلَ رَسُولَهُ هُوداً إلى قَوْمِ عَادٍ - وكَانُوا يَسْكُنُونَ الأحْقَافَ وهِيَ تِلاَلٌ رَمْلِيَّةٌ قُرْبَ حَضْرَمَوْتَ - وكَانُوا بعدَ قومِ نُوحٍ - فَدَعَاهُمْ هُودٌ إلى عِبادَةِ اللهِ تَعَالى وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، والإِقَلاعِ عَنْ عبادةِ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ فكذَّبُوهُ.
(١٢٤) - فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ عليهِ السَّلامُ: أَلاَ تَخَافُونَ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَ اللهِ آلهةً أُخْرى هيَ أَصنامٌ لا تَضرُّ ولا تَتْفَعُ؟
(١٢٥) - إنِّي مُرْسَلٌ إِليكُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى، وَإِني صَادِقٌ فِيما أُبَلِّغُكُمْ إِيَّاهُ مِنْ رَبِّكُمْ.
(١٢٦) - فَأَطْيعُونِي، واتَّبِعُوا قَوْلِي، واسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِي واتَّقُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، واعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.
﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ ﴿العالمين﴾
(١٢٧) - وَأَنَا لا أسْأَلُكُمْ جَزَاءً وأجْراً عَلَى مَا أقُومُ بِهِ منْ دَعْوَتِي إيَّاكُمْ، وَإِنَّمَا أنْتَظِرُ الأجْرَ والثَّوَابَ عَلَى ذَلكَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمينَ الذِي بَعَثَنِي إليْكُمْ.
﴿آيَةً﴾
(١٢٨) - كانَ قومُ عادٍ جَِبَّارينَ في غَايةِ القُوةِ وشِدَّةِ البَطْشِ، وَكَانَتْ لَهُمْ وَفْرَةٌ في الأموالِ والزُّرُوعِ والمِيَاهِ والأَبْنَاءِ، وَمَعَ ذلكَ كانُوا يَعْبُدُونَ غيرَ اللهِ مَعَهُ، فَبَعَثَ اللهُ إِليهمْ هُوداً، وهُو رَجُلٌ منهُم، رَسُولاً ونَذِيراً فَدَعَاهُمْ إلى اللهِ، وَحَذَّرهُمْ نِقَمَهُ وَعَذَابَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَبْنُونَ في كُلِّ مُرْتَفَعِ منَ الأَرضِ (رِيْعٍ) بِنَاءٍ ضَخْماً مُحْكَماً للعَبَثِ والتَّفَاخُرِ والدَّلاَلَةِ على الغِنَى والقُوَّوةِ؟ لِذلِكَ أنْكَرَ علَيْهِمْ نَبيُّهُم الاشْتِغَالَ فيما لا يُجْدِي في الدُّنيا والآخِرَةِ.
رِيْعٍ - مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ - أَوْ طَرِيقٍ.
آيةً - بِنَاءً شَامِخاً كَالعَلَم فِي الارْتِفَاعِ.
تَعْبَثُونَ - بِبِنَائِها أَوْ بمَنْ يَمُرُّ بِهَا.
(١٢٩) - وَتَبْنُونَ قصُوراً مُشَيَّدَةً وَحِيَاضَاً ضَخْمَةً لِجَمْعِ المِيَاهِ، وتظُنُّونَ أنَّكُمْ خَالِدُونَ في هِذه الحَياةِ الدُّنْيا، وَهذَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ لَكُمْ، بَلْ هُوَ زَائِلٌ عنْكُمْ كَمَا زَالَ عَمَّنْ قَبْلَكُمْ.
المَصانِعُ - الأَحْواضُ الضَّخَمَةُ لِجَمْعِ المَاءِ - أَوِ القُصُورُ.
(١٣٠) - ويَصِفُهُمْ نَبِيُّهُم بِالقَسْوَةِ، والغِلْظَةِ، وَالجَبَرُوتِ، فَيَقُولُ لهمْ: إنَّهُمْ حِينَما ينْتَقِمُونَ وَيضْرِبُون، فإنَّهُم يفْعلونَ ذَلِكَ بقَسْوَةٍ بَالِغَةٍ، كَما يَفْعَلُ الجبَّارُونَ الأقْوِياءُ الذينَ لا يَخَافُونَ اللهَ تَعالى.
(١٣١) - فأَطِيعُوني فِيمَا دعوتُكُم إليهِ، وتَجَنَّبُوا ما حَذَّرْتُكُمْ منْهُ، واتَّقُوا الله، وَخَافُوا نِقَمَهُ في الدُّنْيا والآخرةِ.
(١٣٢) - واتَّقُوا الله الذي آتاكمُ الأمْوالَ، والبَنينَ والقُوَّة.
أَمَدَّكُمْ - أنْعَمَ عَلَيْكُمْ ورَزَقَكُمْ.
﴿بِأَنْعَامٍ﴾
(١٣٣) - الذِي أمدَّكُمْ بأنْعَامٍ تَنْتَفِعُونَ بأوْبَارِهَا وأصْوافِها ولُحُومِها وألْبَانِها، وأمَدَّكُمْ بِبَنِينَ يَزيْدُونَ في قُوَّتِكُمْ.
﴿وَجَنَّاتٍ﴾
(١٣٤) - وأمَدَّكُم بِبساتِينَ ومَزَارِعَ وعيونِ ماءٍ تَجْري في أرْضِكُمْ.
(١٣٥) - فإنْ كذَّبْتُمْ وتَوَلَّيْتُم ورَفَضْتُم اتِّبَاعِي فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِليهِ مِنْ عِبادةِ اللهِ تَعَالى، فإِنِّي أخافُ أن تَحِلَّ بِكُمْ نِقَمُ اللهِ وعذابُهُ في يومِ القيامةِ، وهُوَ يَومٌ شديدُ الهَوْلِ.
﴿الواعظين﴾
(١٣٦) - فَرَدَّ القَومُ عَلَى هُوُدٍ قائِلينَ: إنَّهُمْ لا يُبَالُون بنُصْحِهِ، ووَعْظِهِ، وَدَعْوَتِهِ، وإِنَّهُمْ لنْ يَرْجِعُوا عمَّا هُمْ عليهِ من الضَّلاَلِ، ولنْ يَتْرُكُوا آلِهَتَهُمْ كَمَا جاءَ في آيةٍ أُخْرى.
(١٣٧) - وإنَّ مَا هُمْ عَلَيهِ منَ الدِّينِ هُوَ دينُ آبائِهمُ الأولينَ (خُلُقُ الأوَّلِينَ)، وإنَّهمْ يتَّبِعُونَ ما وَجَدُوا آباءَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَعِيشُونَ كَمَا عاشُوْا، ويَمُوتُونَ كمَا مَاتُوا.
خُلُقُ الأوَّلِين - عَادَتُهُم في اعْتِقَادِهمْ أنَّهُ لا بَعْثَ ولا نُشُورَ.
(١٣٨) - وإنَّهمْ لا يَعْتَقِدُونَ أنَّهُ سَيكُونُ هَناكَ بَعْثٌ، أَوْ نُشورٌ أَوْ حِسَابٌ، أَوْ قِيامةٌ، أَوْ جَنَّةٌ، أَوْ نَارٌ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يُعَذَّبُوا عَلَى مَا يأْتُونَهُ منَ الأَعْمالِ.
﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ ﴿لآيَةً﴾
(١٣٩) - واسْتَمَرُّوا في تَكْذِيبِهِمْ نبيَّهُمْ هُوداً عَلَيهِ السَّلامُ، وفي مُخَالَفَتِهِ ومُعَانَدَيِهِ فأهْلَكَهُمُ اللهُ بأنْ أرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً شَدِيدَةَ البُرودَةِ، بالغةَ العُنْفِ والقَسْوَةِ (عَاتِيَةً)، لَقَدْ كَانُوا عُتَاةً فَأَهلَكَهُمْ اللهُ تَعَالى بِمَا هُوَ أَعْتَى مِنْهُمْ، وفي ذَلك آيَةٌ وعِظَةٌ، وَعِبْرَةٌ لمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، إِلا أنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
(١٤٠) - واللهُ رَبُّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزيزُ الذِي لا يُقْهَرُ، وَلا يُغَالَبُ، وَهوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ يُرِيدُ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُتُوبُوا إليهِ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، ويَتَجَاوَزَ عَنْ سَيئَاتِهِمْ.
(١٤١) - يُخبرُ اللهُ تَعالى أَنَّهُ أرْسَلَ عَبْدَهُ صَالِحاً رَسُولاً إلى قَوْمِهِ ثُمودَ، وَكَانُوا عَرَباً يَسْكُنُونَ الحِجْرَ، بينَ وَادِي القُرى وبِلادِ الشَّامِ، ومَسَاكِنُهُمْ مَعْرُوفةٌ باسْمِ مَدَائِنِ صَالِحٍ، وَكَانُوا بَعْدَ عادٍ، وَقَبْلَ إبراهيمَ عليهِ السلامُ، فدَعَاهُمْ نَبيُّهُمْ صَالِحٌ إلى عِبادةِ اللهِ تعالَى وَحْدَه لا شَريكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ، وبِذَلكَ يَكُونُون قَدْ كَذَّبُوا جَميعَ الرُّسُلِ لاتِّحَادِ رِسَالاتِ الرُّسُلِ في أصُولِها وغَايَاتِها.
﴿صَالِحٌ﴾
(١٤٢) - وَقَالَ لَهُمْ نبيُّهُمْ صَالِحٌ: أَلا تَخَافُونَ أَنْ تُشْرِكُوا معَ اللهِ آلهةً أُخْرى في العِبَادَةِ؟ (وَصَالحٌ مِنْ ثمودَ لِذَلكَ قَالَ تَعَالى عَنهُ إِنهُ أخُوهمْ).
(١٤٣) - فَأنَا مُرسلٌ إِليكمْ مِنَ اللهِ تَعَالى، وَإِنِّي أمينٌ في نُصْحي لكُمْ، وفِي إِبْلاغِكُمْ رِسَالَة رَبِّي.
(١٤٤) - فأَطِيعُوني فِيما دَعَوْتُكُمْ إليهِ من عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وفِي الإِقْلاَعِ عَنْ عِبَادَةِ الأصْنَامِ والأنْدَادِ.
﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ ﴿العالمين﴾
(١٤٥) - وإنِّي لا أبْتَغِي مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى مَا أقومُ بهِ من إبْلاَغِكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وإنَّمَا أطْلُبُ الأجْرَ والثَّوَابَ عليهِ منَ اللهِ وَحْدَهُ.
﴿هَاهُنَآ﴾ ﴿آمِنِينَ﴾
(١٤٦) - وذَكَّرَهُمْ بِمَا أنْعَمَ اللهُ بِهِ عليهِمْ من الأرْزَاقِ والجَنَّاتِ، والزُّرُوعِ والثمارِ، ثُمَّ قالَ لهمْ: هلْ تَظُنُّونَ أنْ تُتْرَكُوا طَوِيلاً في هَذا النّعيمِ والرَّفَاهِ والأمْنِ، وأنتُمْ كافِرُون، جَاحِدُون نِعَمَ اللهِ، مُخَالِفُونهَ أوامِرَهُ؟
﴿جَنَّاتٍ﴾
(١٤٧) - في هذهِ الجَنَّاتِ والعُيُونِ والخَيْراتِ الحِسَانِ.
(١٤٨) - وفي هذِهِ الزُّرُوعِ وَالنَّخِيلِ، وَقَدْ أيْنَعَ ثمرُهَا، وبَلَغَ، فأصْبَحَ نَاضِجاً هَضِيماً.
الطَّلْعُ - الثَّمَرُ الذي يَؤُولُ إِليهِ الطَّلْعُ.
هضِيمٌ - نَاضِجٌ يَانِعٌ.
﴿فَارِهِينَ﴾
(١٤٩) - وتَنْحِتُون بُيُوتاً في الجِبَالِ أَشَراً وبَطَراً وعَبَثاً (فَارِهِينَ)، منْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى سُكْنَاهَا.
(كَانَ قومُ ثمودَ مَهَرةً حَاذِقينَ في نَحْتِ البيُوتِ في الجِبَال ونَقْشِها).
فَارِهِينَ - بَطِرِينَ مُتْرَفينَ - أو حَاذِقِينَ في نَحْتِها.
(١٥٠) - فأطِيعُوني فيمَا دَعَوْتُكُم إليهِ منْ عِبَادَةِ اللهِ وحدَهُ، والإٍِقْلاَعِ عنِ الكُفْرِ والضَّلاَلِ والطُّغيَانِ وعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَأقْبِلُوا عَلَى مَا يَعُودُ عليكُمْ نَفْعُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، وتسبيحهِ بُكْرَةً وأَصِيْلاً.
(١٥١) - وَلاَ تُطِيعُوا أمْرَ الرُّؤسَاءِ والكُبَراءِ، الدُّعَاةِ إلى الشِّرْكِ والكُفْرِ ومُخَالَفَةِ الحَقِّ (المُسْرِفِينَ).
المُسْرِفِين - المُتَجَاوِزِينَ الحُدُودَ.
(١٥٢) - وَهَؤُلاءِ الكُبراءُ يُفْسِدُونَ في الأَرْضِ، وَيَدْعُونَ إِلى الضَّلالِ وَيَصْرِفُون النَّاسَ عَنِ الحقِّ، وَلا يَدْعُونَ إلى الهُدى وَالإِصْلاحِ.
(وقِيلَ إنَّ المَقصُودَ بِهُؤُلاءِ الكُبَراءِ هُمُ الرَّهْطُ التِّسْعَةُ الذينَ تآمَرُوا على قَتْلِ صَالحٍ وعَقْرِ نَاقَتِهِ).
(١٥٣) - فأجَابُوه: إِنَّكَ رَحُلٌ غَلَبَ السِّحرُ عَلَى عَقْلِهِ، فَلاَ يُقْبَلُ لَهُ قَوْلٌ، وَلا يُسْمَعُ لَهُ نُصْحٌ.
المُسَحَّرِينَ - المَغْلوبِ عَلَى عُقُولِهِمْ بالسِّحْرِ.
﴿بِآيَةٍ﴾ ﴿الصادقين﴾
(١٥٤) - فَلَسْتَ إلا بَشَراً مثْلَنَا فكَيْفَ أَوْحَى اللهُ إِليكَ مِنْ دُونِنا؟ ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَليهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بمُعْجِزةٍ خَارِقَةٍ لِلعَادةِ (آيةٍ)، لِيَعْلَمُوا أنهُ صادِقٌ فِيما جاءَهُمْ بِهِ من ربِّهِمْ.
(١٥٥) - ولمَّا سَألَهُمْ صَالحٌ عليهِ السَّلامُ عنِ الآيةِ التي يُريدونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِهَا، اجتَمَعَ مَلؤُهُم وطلَبُوا مِنهُ أَنْ يُخْرِجَ لهمْ من صَخْرةٍ عَيَّنُوها لهُ ناقةً عُشَرَاءَ منْ صِفَتِها كذَا وكَذا. وحِينئذٍ أخَذَ عليهِمْ صالحٌ العَهْدَ والمِيثاقَ لِئنْ أجَابَهُم إلى ما سَأَلوا لَيُؤْمِنُنَّ باللهِ، وبِمَا جَاءَهُمْ بهِ منْ عندِ اللهِ. ثم دَعَا اللهَ ربَّهُ أن يُجِيبَهُمْ إلى سُؤَالِهِمْ، فانْفَطَرتِ الصَّخْرَةُ التي أَشَارُوا إِليها عَنْ ناقةٍ عُشَرَاءَ، لَها الصِّفَاتُ التي طَلَبُوها. فآمَن بعضُهُمْ، وكَفَرَ أكثرُهُمْ، فقالَ لهمْ صالِحٌ هَذهِ النَّاقَةُ التي سَأَلتُمُوهَا، وَإِنَّها سَتَرِدُ الماءَ يَوْماً، لا يُشَارِكُونَها فيهِ، ويَرِدُونَهُ هُمْ يومَاً لا تُشَارِكُهُمْ هيَ فيهِ.
لها شِرْبٌ - نَصِيبٌ مَشْرُوبٌ من المَاءِ.
(١٥٦) - وحَذَّرَهُمْ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ إنْ هُمْ مَسُّوا الناقَةَ بِسُوءٍ، فَمَكَثَتِ النَّاقةُ بينَ أظهُرِهِمْ حيناً منَ الدَّهرِ تَرِدُ المَاءَ وتَرْعَى في أَرْضِ اللهِ، وينْتَفِعُون بِلبَنِها، يَحْلبُونَ منْها ما يكْفِيهِمْ شُرْباً وَرِيّاً. فَلَمَّا طالَ عَلَيهِمُ الأمَدُ وحَضَرَ أشْقَاهُمْ تَمالؤوا على قَتْلِها وعَقْرِها.
﴿نَادِمِينَ﴾
(١٥٧) - فقَتَلُوا النَاقَةَ. فَقَالَ لَهُمْ نبيُّهُمْ صالِحٌ: تَمَتَّعُوا في دِيَارِكُمْ ثَلاثةَ أيامٍ، وَبعْدَ ذَلك يَحِلُّ بِكُمُ العَذابُ، فنَدِمُوا عَلى مَا فَعَلَهُ أشقياؤُهُمْ.
﴿لآيَةً﴾
(١٥٨) - وفي المَوْعِد الذي حَدَّدَهُ لَهُمْ صالحٌ، حَلَّ بهِمْ عذابُ اللهِ، فَزَلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزَالاً شديداً، وجاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ اقْتَلَعَتِ القُلوبَ ممنْ مَحَالِّها، وأتَاهُمْ منَ الأمرِ ما لمْ يَكونوا يَحْتَسِبُون، وأصْبَحُوا في دِيَارِهم هَلْكَي جَاثِمِين، ولمْ يكنْ أكثرُهُمْ مُؤْمِنينَ بِمَا جَاءَهُمْ بهِ صَالِحٌ، وفي ذَلك لآيةٌ وعبرةٌ وعظةٌ للعاقِلين.
(١٥٩) - وإنَّ رَبَّكَ، يَا مُحَمَّدُ، هُوَ العَزيزُ الذِي لا يُقَاوَمُ ولا يُغَالَبُ وَهُوَ الرَّحِيمُ بِعبادِهِ.
(١٦٠) - وأَرْسَلَ اللهُ تَعَالى لُوطاً علَيهِ السَّلامُ - وهُوَ ابنُ أَخي إِبراهيمَ - إلى قَومٍ عُرِفُوا فيما بعْدُ بقومِ لوطٍ، وكَانُوا يَسْكُنُونَ مَدينةَ سَدُومٍ جَنُوبِيِّ البَحْرِ المَيِّتِ في الأُرْدُنَّ فَدعَاهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُ الذِي بَعَثَهُ اللهُ إلَيْهِمْ، ونَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى، وعنِ ارْتِكَابِ الفَواحِشِ التي لَمْ يَسْبِقْهُمْ أحَدٌ منَ العَالَمِينَ إلى ارْتِكَابِها، فكذَّبُوهُ.
(١٦١) - فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ: أَلا تَتَّقٌونَ اللهَ، وتَخَافُونَ عِقَابَهُ، وأنتُمْ تَعْبَدُونَ منْ دُونِهِ آلهةً أصْنَاماً لا تَضُرُّ ولا تْنَفَعُ، وتَرْتَكِبُونَ الفَواحِشَ؟
(١٦٢) - فإِنيّ رَسُولُ اللهِ إليكمُ، وَإِنيّ أَمينٌ في إِبْلاَغِكُم مَا أتَلَقَّاهُ مِنْ رَبِّي.
(١٦٣) - فأَطِيعُوني وَاسْمَعُوا قولي، وَاتَّقُوا الله وأخْلِصُوا العِبَادَةَ لَهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ.
﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ ﴿العالمين﴾
(١٦٤) - وَأَنا لا أَسْأَلُكُمْ جَزَاءً، وَلاَ أَجْراً عَلى نُصْحِي لَكُمْ، ودَعْوَتي إيَّاكُمْ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى، وَإِنَّما أبْغِي الأَجْرَ والثَّوَابَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ عِنْدِ اللهِ ربِّ العَالَمِين.
﴿العالمين﴾
(١٦٥) - وَقَالَ لَهُمْ: إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنَ دُونِ النِّسَاءِ، وَهذَا أمرٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَسْبِقْكُمْ إِليهِ أََحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.
﴿أَزْوَاجِكُمْ﴾
(١٦٦) - وتَذَرُونَ نَِاءَكُمْ وَمَا خَلَقَ اللهُ لَكُمْ مِنْهُنَّ، فَأَنْتُمْ بِذَلِكَ قَوْمٌ مُعْتَدُون، مُتَجَاوِزُونَ حُدودَ اللهِ، وشَرائِعَهُ.
عَادُون - مُتَجَاوِزُونَ الحَدِّ فِي الْمَعَاصِي.
﴿لَئِن﴾ ﴿يالوط﴾
(١٦٧) - فَقَالُوا لَهُ: لئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عَمَّا جِئْتَنَا بهِ مِنْ دَعْوَتِنا إلى التَّطَهُّرِ، وتَركِ ما وَجَدْنا عَليه آباءَنا، لَنُنْخِرجَنَّكَ مِنْ بينِ أظْهُرِنا، ولَنَنْفِيَنَّكَ منْ بَلْدَتِنا أنْتَ وأَهْلَكَ، فإِنَّكُمْ أُنَاسٌ تَتَطَهَّرُون.
(١٦٨) - فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ إنَّهُ كَارِهٌ لِمَا يفْعَلونَهُ، وَلا يَرْضَى بهِ، وإِنَّه بَراءٌ مِنهُمْ.
القَالينَ - المُبْغِضِينَ أشَدَّ البُغْضِ.
(١٦٩) - وَدَعَا لُوطٌ ربَّهُ قَائِلاً: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُ هؤلاءِ منَ المُنْكَرَاتِ، وأنْقِذْنَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ حينَما تُنْزِلُ بالضَّالِّينَ عَذَابَكَ الأَليمَ.
﴿فَنَجَّيْنَاهُ﴾
(١٧٠) - فأنْجَاهُ اللهُ تَعَالى وأهلَهُ جَمِيعاً.
﴿الغابرين﴾
(١٧١) - إِلاَّ امرَأَتَهُ، وكَانَتْ عَجُوزَ سَوْْءٍ، بَقِيَتْ مَعَ قَوْمِها الهَالِكِينَ حِينَ أَمَرَهُ اللهُ بأنْ يُسْرِيَ بِأَهْلِهِ، فَهَلَكَتْ مَعَ قَوْمِها.
فِي الغَابِرينَ - فِي البَاقِينَ فِي العَذابِ كَأَمْثَالِها - أوْ في الهَالِكِينَ.
﴿الآخرين﴾
(١٧٢) - وأمَرَ اللهُ تَعالَى لوطاً بأن يُسْرِيَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ جَانِبٍ منَ اللَيلِ، بِقِطْعٍ منْهُ - وأَنْ لا يَلتَفِتَ منهُمْ أحدٌ إلى الورَاءِ حِينَما يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ تُدَمِّرُ القَومَ الظَّالِمِينَ، وَقَريَتَهُمْ. وَلمَّا خَرَجَ لُوطٌ وأَهلُهُ، وابْتَعَدُوا صَبَّ اللهُ عَذَابَهُ عَلَى القَريةِ، وأَمْطَرَها حِجَارةً من سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَها، ولَمْ يُبْقِ أحَداً مِنْ أهْلِها عَلَى قَيدِ الحَياةِ.
دَمَّرْنَا الآخَرِينَ - أهْلَكْنَاهُمْ إهْلاَكاً شَدِيداً.
(١٧٣) - وأَمْطَرَ اللهُ تَعالى عَلَى القَرْيَةِ مَطَراً مُهْلِكاً، وَكَانَ بِئْسَ المَطَرُ يَنْزِلُ بالقَوْمِ الذِينَ أنْذَرَهُمُ اللهُ بالهَلاَكِ والدَّمَارِ.
مَطَراً - حِجَارَةً مِنَ سِجِّيلٍ مُهْلِكَةٍ.
﴿لآيَةً﴾
(١٧٤) - وفِي ذَلك لبُرْهَانٌ ودَليلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالى، وفِيهِ عِظَةٌ للعَاقِلِينَ، وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرُهُم مُؤمِنينَ بما جَاءهُمْ بِهِ لُوطٌ عليهِ السَّلامُ.
(١٧٥) - وَرَبُّكَ يا مُحَمَّدُ، هُوَ العَزيزُ الذي لاَ يَقَاوَمُ ولا يُغَالَبُ، وهو الرَّحِيمُ بعبادِهِ، يُريْدَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِيَغْفِرَ لَهُمْ.
﴿أَصْحَابُ﴾ ﴿الأيكة﴾
(١٧٦) - أهْلُ الأَيْكَةِ هُمْ أصْحَابُ مَدْيَنَ، والأَيْكَةُ هيَ الشَّجَرُ المُلْتَفُّ كَالغَيْضَةِ، كَانُوا يَعْبُدونَها، وَمَدْينُ تَقَعُ جَنُوبِيِّ الأُرْدُنِّ قَريباً مِنَ العَقَبَةِ.
وَنتبيُّهُمْ شُعيبٌ عليهِ السلامُ، وَهُوَ مِنْهُمْ، وَقَدْ أرْسَلَهُ اللهُ إليهمْ ليَدْعُوَهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ، وَتَرْكِ مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الفَسَادِ والضَّلالِ فَكَذَّبُوهُ.
الأيْكَةِ -الغَيْضَةِ المُلْتَفَّةِ الأشْجَارِ
(١٧٧) - فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شُعَيْبٌ: ألا تَعْبُدونَ اللهَ وتُطِيعُونَ أَمْرَهُ، وتُقْلِعُونَ عَنْ عِبَادَةِ ما سِواهُ منَ الأصْنَامِ والأَنْدَادِ؟ وتَكُفُّونَ عَنْ تَطْفِيفِ المِكْيَالِ والمِيزانِ؟ إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفعَلُوا ذَلكَ فإِنَّ اللهَ سَيُعَاقِبُكُمْ عِقَاباً شَدِيداً.
(١٧٨) - وإِنِّي رَسُولٌ إليْكُمْ منَ اللهِ، أمينٌ في إبْلاَغِكُم مَا أَتَلَقَّاهُ مِنْ رَبِّي.
(١٧٩) - فَأَطِيعُونِي وَاسْمَعُوا قَوْلِي، وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ ﴿العالمين﴾
(١٨٠) - وَأَنَا لاَ أَسْألُكُمْ جَزَاءً أو أَجْراً عَلَى نُصْحي لكُمْ، وَدَعْوَتي إيَّاكُمْ إِلى عِبادةِ اللهِ تَعالى وَحْدَه لا شَريكَ لهُ، وإِنَّما أبْغِي الأَجْرَ والثَّوابَ على ذَلِكَ مِنَ اللهِ الكَرِيمِ وَهُوَ رَبُّ العَالَمينَ.
(١٨١) - ثمَّ أمرَهُمْ بإِيفَاءِ المِكْيَالِ والمِيزانِ، وَنَهَاهُمْ عن التَّطْفِيفِ، وقالَ لهمْ: إذا دَفْعْتُمْ للنَّاسِ فأوْفُوا الكَيلَ والمِيزانَ حقَّهُمَا، ولا تَبْخَسُوا الكَيْلَ فَتُعْطُوا ناقِصاً، وَتَأْخُذُوهُ وَافياً إِذا كَانَ لَكُمْ، وَلكِنْ خُذُوا كَما تُعْطُوْنَ، وأعْطُوا كَمَا تأخُذُون.
المُخْسِرِين - المُنْقِصِينَ لِلحُقُوقِ بالتَّطفِيفِ.
(١٨٢) - وزِنُوا بالمِيزَانِ العَادِلِ المَضْبُوطِ (القِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ).
القِسْطَاسِ - العَادِلِ - أو المَضْبُوطِ.
(١٨٣) - ولا تُنْقِصُوْا النَّاسَ شَيْئاً مِنْ حُقُوقِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ، وَلاَ تَعِيثُوا في الأَرضِ فَسَاداً، وَلا تَقْطَعُوا الطَّريقَ عَلَى النَّاسِ، كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾.
لا تَبْخَسُوا - لا تَنْقِصُوا.
لا تَعْثَوْا - لا تُفْسِدُوا أشَدَّ الإِفْسَادِ.
(١٨٤) - وَحَذَّرَهُمْ شُعَيْبٌ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ وبأْسِهِ، وَهُوَ الذي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آباءَهُمُ الأوَّلينَ مِنَ العَدَمِ ليَكُونُوا مُصْلِحِينَ في الأرضِ.
الجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ - الخَلْقَ الأوَّلِينَ. وَجَاءَ في آيةٍ أخْرَى ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ﴾ أي خَلْقاً كَثِيراً.
(١٨٥) - فقالُوا لهُ: إنَّما أنتَ رجلٌ مَسْحُورٌ فَاقِدُ العَقْلِ.
المُسَحَّرِينَ - المَغْلوبَةِ عُقولُهُمْ بكَثْرَةِ السِّحْرِ.
﴿الكاذبين﴾
(١٨٦) - فَلَسْتَ إٍِلا بَشَراً مِثلَنَا فَكَيفَ أُوحِيَ إِلَيكَ مِنْ دُونِنا؟ وَمَا نَظُنَّكَ إِلاَّ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُهُ مِنْ أنَّ اللهَ أرْسَلَكَ نَبِياً إِلَينا.
﴿الصادقين﴾
(١٨٧) - فأَسْقِطْ عَلَيْنَا السَّمَاءَ قِطَعاً فِيها العَذَابُ لَنا، هَذا إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا زَعَمْتَ مِنْ أنَّكَ رسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعالى، وأنَّ اللهَ حَفِيٌّ بِكَ.
(وَهَذا مِثْلُ مَا قَالَتْهُ قُرَيشٌ للرَّسُولِ ﷺ: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً﴾.
كِسَفاً - قِطَعاً.
(١٨٨) - قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: اللهُ أعْلَمُ بِأعْمَالِكُمْ، فإِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ العَذابَ جَازَاكُم اللهُ بِهِ، وهُوَ غيرُ ظَالِمٍ لَكُمْ (أوْ إنْ شَاءَ عَجَّلَ لكُمُ العَذَابَ، وَإِنْ شَاء أخَّرَهُ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ.
(١٨٩) - فأَصرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ شُعَيْباً، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ على ذَلك التَّكْذِيبِ، وعلى جُحُودِهِمْ بآيَاتِ اللهِ رَبِّهِمْ، بِأَنْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ حَرّاً شَديداً مُدَةَ سَبْعَةِ أيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ، لا يَقِيهِمْ منهُ شيءٌ، ثم أقْبَلَتْ إليهِمْ سحَابةٌ أظَلَّتْهُمْ فَجَعَلُوا يَنْطَلِقُونَ إليها يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحتَها، أرسَلَ اللهُ عَليْهِمْ مِنْهَا شَرراً منْ نَارٍ، ولَهَباً ووَهْجاً عَظيماً، وَرَجَفَتْ بِهِم الأرضُ، وَجَاءَتْهُمْ صيحةٌ عظيمةٌ أزْهَقَتْ أرواحَهُمْ في يومٍ شَديدِ الهَوْلِ.
الظُّلَّةُ - سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ ثُمَّ أَمْطَرَتْهُمْ نَاراً.
﴿لآيَةً﴾
(١٩٠) - وفِيمَا نَزَلَ بأَصْحَابِ الأَيْكَةِ منَ العُقُوبَةِ دَلِيلٌ، وَبُرْهَانٌ على كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ تَعالى، وَعِظَةٌ للعَاقِلينَ ولمْ يَكُنْ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنينَ، بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ شُعَيْبٌ عليهِ السلامُ.
(١٩١) - وَرَبُّكَ هُوَ العَزِيزُ في انْتِقَامِهِ، وَهُوَ لا يُغَالَبُ ولا يُقَاوَمُ، وهُوَ الرَّحِيمُ بِعبَادِهِ المُؤْمِنينَ.
﴿العالمين﴾
(١٩٢) - وإنَّ القرآنَ الذِيْ تَقَدَّمَ التَّنْوِيهُ بِهِ في أَوَّلِ السُّورَةِ ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن﴾ أَنْزَلَهُ اللهُ ربُّ العالَمِين عليكَ يا مُحَمَّدُ، وأوْحَاهُ إِليكَ، وَهُوَ ربُّ العَالَمِين، فَخَبَرُهُ صَادِقٌ، وحُكْمُهُ نَافِذٌ.
(١٩٣) - وهَذا القُرآنُ أنْزَلَهُ اللهُ تَعالى عَلَيكَ يا مُحَمَّدُ، وجَاءَكَ بهِ جِبْرِيلُ عَليهِ السَّلامُ (الرُّوحَ الأمِينُ).
(١٩٤) - وهَذا القُرآنُ أنْزَلَهُ عليكَ يا مُحَمَّدُ، وتَلاهُ عليكَ الرُّوحُ الأمينُ حَتَّى وَعَيْتَهُ بِقَلْبِكَ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ.
(١٩٥) - وقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعالى هَذا القرآنَ عليكَ بِلسَانٍ عَربيٍّ فَصيحٍ واضِحٍ لِيكونَ بَيِّناً واضِحاً في دَلاَلَتِهِ، قَاطِعاً لِلْعُذْرِ.
(١٩٦) - وقدْ وردَ ذِكْرُ هذَا القُرآنِ والتَّنْويهُ بهِ في كُتُب الأُوَّلينَ المَأْثُورَةِ عن أَنبيَائِهِم الَّذِينَ بَشَّرُوا بهِ في سَالِفِ الأيامِ، كَمَا أخَذَ اللهُ الميثاقَ علِيْهِمْ بأنْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
(الزُّبُرُ - الكُتُبُ ومثْلُه قولُهُ تعالى ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر﴾ أيْ إِنَّهُ مُسَجَّلٌ في صُحُفِ المَلاَئِكَةِ).
زُبُرُ الأولينَ - كُتُبِ الأنْبِيَاءِ السَّابِقينَ.
﴿آيَةً﴾ ﴿عُلَمَاءُ﴾ ﴿اإِسْرَائِيلَ﴾
(١٩٧) - أَوَلَيْسَ يَكْفِيهِمْ شَاهداً على صِدْقِ هَذا القرآنِ أنَّ علماءَ بني إسرائيلَ يَجِدُونَ ذِكْرَهُ في كُتُبِهِمُ التي يَدْرُسُونها، كمَا أخبرَ بذلِكَ مَنْ آمَنَ منهُمْ - مثلُ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَّمٍ.
﴿نَزَّلْنَاهُ﴾
(١٩٨) - يُخبِرُ اللهُ تَعالى عَنْ عِنَادِ المُشْرِكينَ وَشِدَّةِ كُفْرِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى إنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ هذَا القرآنَ على رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ لا يَعْرِفُ العَرَبيةً، ولا يَستَطيعُ التَّكَلُّمَ بِها.
(١٩٩) - وَكَانَ هذا الأعجمِيُّ لا يَعرِفُ اللُغَةَ العَربيَّةَ، وكُفَّارُ قٌريشٍ يَعِرفُونَ ذَلِكَ منْهُ، ثُمَّ قَرأَ عَلَيِهِمْ هذا الأعجميُّ هذا القُرآنَ قِراءةً صَحيحةً واضِحةً، وهُمْ مُتَأَكِّدُونَ مِنْ أنَّهُ لا يستطيعُ أنْ يأْتِيَ بمِثْلِهِ بَيَاناً وفَضَاحَةً، لَمَا آمنُوا بهِ، ولاسْتَمَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وعِنَادِهِمْ، ولَوَجَدُوا عُذْرَاً لَهُمْ على اسْتِمْرَارِهِمْ في كُفْرِهِمْ وعِنَادِهِمْ.
﴿سَلَكْنَاهُ﴾
(٢٠٠) - وقَدْ أدْخَلْنَا الكُفْرَ والتكَّذِيبَ والجُحُودَ في قُلُوبِ الكَفَرَةِ المُكَابِرِينَ المُجْرِمينَ، وَقَرَّرْنَاهُ فِيها، مِثْلَمَا قَرَّرْنَاهُ في قُلوبِ مَنْ هُمْ على صِفَتِهِمْ.
(٢٠١) - لِذَلِكَ فإِنًَّهمْ لا يُؤمنونَ بالحَقِّ، ولا يتأَثَّرونَ بالأمورِ الدَاعيةِ إلى الإِيمَانِ، وسَيَظَلُّونَ مُقِيمينَ على كُفْرِهِمْ وعِنَادِهِمْ، حَتَّى يَرَوا العَذَابَ الأَليمَ الذيْ وُعِدُوا بهِ، وحِينَئِذٍ يُؤمِنُونَ ولكنَّ إيْمانَهُمْ في ذلك الحِينِ لا يَنْفَعُهُمْ شَيئاً.
(٢٠٢) - فَيَنْزِلُ بِهِمُ العذابُ فَجْأةً عَلَى غَيْرِ تَنوَقُّعٍ مِنْهُمْ ولا انْتِظَارٍ، وَهُمْ لا يَشْعُرونَ أنهُ آتيهِمْ.
بغْتَةً - فَجْأةً.
(٢٠٣) - وحينَ ينزِلُ بهم العذابُ يَتَمنَّوْنَ أنْ لَوْ أُنْظِرُوا قليلاً ليعْمَلُوا بطاعَةِ اللهِ، وكلُّ كافرٍ ظالمٍ يشعُرُ بالنَّدَمِ حينَ يَرى عُقُوبةَ اللهِ.
هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ - هَلْ نَحْنُ مُمْهَلُونَ لِنُؤْمِنَ.
(٢٠٤) - وَيَردُّ اللهُ تَعَالى عَلى هؤَلاءِ المُجْرمين، مُنْكِراً ومُتَهَدِّداً لَهُمْ على قَوْلِهِمْ للرَّسُولِ الكَريمِ اسْتِبْعاداً وتَكْذِيباً ﴿ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ فَيَقُولُ لَهُمْ تَعالى: أَيَسْتَعْجِلُ هؤلاءِ بِعَذابِنَا، ويَسْتَخِفُّونَ بِهِ؟
﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ ﴿مَّتَّعْنَاهُمْ﴾
(٢٠٥) - فَلَوْ أنَّنَا أخَّرْنَاهُمْ وأَنْظَرْنَاهُمْ حِينَاً من الدَّهْرِ، يتَمتَّعُونَ خِلاَلَهُ بما هُمْ فيهِ من النَّعيمِ.
(٢٠٦) - وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ تَمَتُّعِهِمْ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللهِ، ونَزَلَ بِهِم العَذَابُ الأليمُ الذي كَانُوا يُوعَدُونَ بهِ.
(٢٠٧) - فأيُّ شيءٍ يُغْنِي عنهُمْ تَمَتُّعُهُمْ بِطُولِ العُمُرِ، وطِيبِ العَيْشِ؟ وهَلْ يُخَفِّفُ عنهُمْ ما كَانُوا فيهِ منَ النَّعِيمِ شَيئاً مِنَ العَذَابِ، أو يصْرِفَهَ عَنْهُمْ؟ فَعَذابُ اللهِ وَاقعٌ بهِمْ، عاجِلاً أو آجِلاً، ولا خَيْرَ في نَعِيمٍ يعقُبُهُ عذابٌ سَرْمَدِيٌّ.
ما أغْنَى عنهُمْ - أيُّ شيءٍ يُغْنِي عنهُمْ وينْفَعُهُمْ.
(٢٠٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعالى عَنْ عَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ فيقولُ: إنَّهُ لَمْ يُهْلِكُ أُمةً مِنَ الأُمَمِ الخَاليةِ إلاَّ بَعْدَ أًَنْ يُرْسِلَ الرُّسُلَ إليها يُنْذِرونَهُمْ بَأْسَ اللهِ وعِقَابَهُ الأليمَ، إذا اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وفِسْقِهِمْ وطُغْيَانِهِمْ، ويَدْعُونَهُمْ إلى اللهِ، ويُعَرِّفُونَهُمْ ما فِيهِ النَّجَاةُ من العَذَابِ، لِتَقُومَ عليْهِم الحُجَّةُ.
﴿ظَالِمِينَ﴾
(٢٠٩) - واللهُ تَعالى يُرْسِلُ الرُّسُلَ إليْهِمْ لِيُنْذِرُوهُمْ ويُذَكِّرُوهُم، ويَدْعُوهُمْ إِلى اللهِ، وَاللهُ تَعالى لا يَظْلِمُ أحَداً من خَلْقِهِ.
﴿الشياطين﴾
(٢١٠) - ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تَعالى عَلَى قَولِ مَنْ قَالَ من المُشْرِكِينَ إنَّ مُحَمَّداً كَاهنٌ، وإِنَّ ما يَأْتِيهِ هُوَ مِنْ نَوْعِ ما تَأْتِي بهِ الشَّياطِينُ إلى الكَهَنَةِ.. فَيَقُولُ لَهُمْ تَعالى: إنَّ القرآنَ لم تَتَنَزَّلْ بهِ الشياطيِنُ ليكونَ كَهَانَةً وسِحْراً.
(٢١١) - وما يَنْبِغِي لِلشَّياطِينِ أَنْ يَتَنَزَّلُوا بهِ، لأَنَّ من سَجِيَّةِ الشَّياطِينِ الفَسَادَ، وَإِضْلاَلَ العِبَادِ، والقُرآنُ هُدىً، وَبُرهَانٌ عظيمٌ لِلعبادِ على وُجُودِ اللهِ، وَعَلى الخَيْرِ، والحَقِّ، فَبَيْنَهُ وبَينَ الشَّياطِينِ مُنَافاةٌ عظيمةٌ.
ثمَّ يقولُ تَعالى إنَّهمْ لا يَسْتَطيعُونَ حَمْلَهُ ولا تَأْدِيَتَهُ، لأَنَّ حَمْلَ القُرآنِ لَيْسَ بالأَمرْ السَّهْلِ. ثُمًَّ إِنَّهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَعْزلٍ عنِ اسْتِمَاعِ القرآنِ حَال نُزُولِهِ، كَمَا جَاءَ في الآيةِ التَّالِيَةِ.
(٢١٢) - والشَّياطِينُ مَعْزُولونَ عنِ استْمَاعِ حَرْفٍ واحِدٍ من القُرآنِ لِئلاَّ يَشْتَبِهَ الأمْرُ، وهَذا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ ومِنْ حِفْظِهِ لِشَرْعِهِ، وَتأْيِيدِهِ لِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ.
(٢١٣) - يَأْمُرُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بعبادَتِهِ وحْدَه لا شريكَ لهُ، ويُخْبِرُهُمْ أنَّهُ مَنْ أشرَكَ باللهِ عَذَّبَهُ. وجَاءَ الخِطَابُ للرَّسُولِ ﷺ والمَقْصُودُ بِهِ أُمَّتَهُ لأنَّ الرَّسُولَ معصومٌ من ذَلِك.
(٢١٤) - يَأمُرُ اللهُ تَعالى رَسُولَهُ ﷺ بِأْنَ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الأَدْنَيْنَ لَهُ، وأَنْ يُعْلِمَهُمْ أنَّهُ لا يَنْفَعُ أحَداً منُهمْ يَوْمَ القِيامةِ إِلا إِيمانُهُ بربِّهِ، وعَمَلُه الصَّالحُ.
(٢١٥) - ويَأْمُرُ اللهُ تَعالى رسُولَه محمداً ﷺ، بأنْ يُلِينَ جَانِبَهُ لِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ عِبادِ اللهِ المُؤمنينَ، وأَنْ يَتَرَفَّقَ بِهِمْ، فَذَلِكَ أَدْعَى لاِخْلاصِهِمْ للرّسُولِ، ولِزِيَادَةِ مَحَبِتَّهِ.
اخْفِضْ جَنَاحَكَ -أَلِنْ جَانِبَك وتَواَضَعْ.
(٢١٦) - فإِنْ عَصَاكَ مَنْ أَنْذَرْتَهُمْ مِنْ عشيرَتِكَ الأدْنينَ فلا ضَيْرَ عَلَيْكَ، فَقَدْ أَدَّيْاَ مَا أُمِرْتَ بهِ، وقُلْ لَهُمْ إنِّي بَرِيءٌ منكُمْ، وممَّا تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللهِ.
(وفي الحَديثِ: " والذِي نَفْسي بيدِهِ لا يسْمَعُ بِي أحدٌ من هذِه الأُمةِ يَهودِيٌّ ولا نصرانيٌّ ولا يؤمنُ بي إلا دَخَلَ النارَ "). (رواه مسلم).
(٢١٧) - وتوكَّلْ على اللهِ القويِّ العزيزِ، في جميعِ أُمُوْرِكَ، فإِنَّهُ مُؤَيِّدُكَ وحَافِظُكَ وناصِرُكَ، ومُظْفِرُكَ ومُعْلِي كَلِمَتِكَ بِعِزَّتِهِ ورَحْمَتِهِ.
﴿يَرَاكَ﴾
(٢١٨) - الذِي يَرَاكَ في تَقَلُّبِكَ وفي جميعِ حَالاَتِك.
﴿الساجدين﴾
(٢١٩) - وَيَرَاكَ وأنْتَ تَتَقَلَّبُ في صَلاتِكَ وتُؤمُّ المُصَلِّين.
(وقالَ ابْنُ عَباسٍ إنَّ المَعْنى هُوَ: تُقَلُّبُهُ عَلَيهِ السَّلامُ مِنْ صُلْبِ نبيِّ إلى صُلْبِ نبيٍّ، حَتَّى أخْرَجهُ اللهُ تعالى نَبِياً).
(٢٢٠) - وهُوَ تَعالى السَّميعُ لأَقوالِ العِبَادِ، العَليمُ بحرَكَاتِهِمْ وسكَناتِهِمْ، ونِيَّاتِهِمْ.
﴿الشياطين﴾
(٢٢١) - زعَمَ بعضُ المُشركينَ أنَّ ما جَاءَ بهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ ليسَ بِحَقٍّ، وأنَّهُ شيءٌ افْتَعَلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وأتَاهُ بِهِ رِئيٌّ مِنَ الجَانِّ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعالى عَلَى هَؤلاءِ المُفْتَرِينَ مُنَزِّهاً رَسُولَهُ الكَريمَ عَنْ قولِهِمْ وافْتِرَائِهِمْ، ومُنَبِّهاً إلى أنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ إنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وليْسَ مِنْ قِبَلِ الشَّيَاطينِ، لأنَّ الشَّياطِينَ إنَّمَا تَتَنَزَّلُ عَلى مَنْ يُشَاكِلُهُمْ ويُشَابِهُهُمْ مِنَ الكهَّانِ الكَذَبَةِ الفَسَقَةِ.
(٢٢٢) - إِنَّهُمْ يَتَنَزَّلُونَ عَلَى كُلِّ كَاذِبٍ (أَفَّاكٍ) فَاجِرٍ كَثيرِ الإِثْمِ مِنَ الكَهَنَةِ.
أَفَّاكٍ أَثيمٍ - كَثِيرِ الكَذِبِ والإِثْمِ.
(٢٢٣) - ويَسْتَرِقُ الشَّياطينُ السَّمْعَ منَ السَّمَاءِ فيَسْمَعُونَ الكَلِمَةِ منْ عِلْمِ الغَيْبِ، فَيَزِيدُونَ فِيها الكَذِبَ مِنْ أنْفُسِهِمْ، ويُلْقُونَهُ إلى أوْلِيَائِهِمْ مِنَ الإِنْسِ، فَيُحَدِّثُونَ بِهِ، ويَزِيدُونَ فيهِ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ، فَيُصدِّقُهُمْ النَّاسُ في كُلِّ ما قَالُوا بِسبِبِ صِدْقِهِمْ في تِلكَ الكلمَةِ التي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ. ومُحَمَّدٌ رَجُلٌ لا يَكْذِبُ، فلا سَبِيلَ إلى مُقَارَنَتِهِ بِالكَهَنَةِ الكَذَّابيْنَ.
﴿الغاوون﴾
(٢٢٤) - قَالَ المُشْرِكُونَ: إنَّ مُحَمَّداً لَشاعرٌ، وقالوا: إن القرآنُ شِعْرٌ فأنزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ الكريمةَ يُرُدُّ بها على افْتِرَائِهِمْ هَذا، ويقولُ لهمْ إنَّ القرآنَ فيما حَوَاه من حِكَمٍ وأحْكَامٍ، وفي أُسْلُوبِه يَتَنَاقَضُ مع الشِّعْرِ. وإنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ يَتَنَافَى مَعَ حَالِ الشُّعْراءِ، فهوَ لا يَنْطِقُ إلا بالحَقِّ والحِكْمَةِ، والصِّدْقِ، ويَتَّبِعُهُ الصَّادِقُونَ المُخْلِصُونَ. والشُّعَراءُ يقولونَ الباطِلَ والزُّورَ، ولا يَتَّبِعُهُمْ إلا الضَّالُّونَ.
(٢٢٥) - والشُّعَرَاءُ يَخُوضُونَ في كُلِّ لغْوٍ، ويَهِيمُونَ على وجُوهِهِمْ في كلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الكَلاَمِ، فَهُمْ يَخُوضُونَ مرةً فِي شَتيمةِ فلانٍ، ومَرةً في مَدِيحِ فُلانٍ، فلا يَهْتَدُونَ إلى الحقِّ.
يَهِيمُونَ - يَخُوضُونَ ويَذْهَبُونَ كُلَّ مَذْهَبٍ.
(٢٢٦) - والشُّعْرَاءُ يقُولُونَ مَا لاَ يَلْتَزِمُونَ بهِ في عَمَلِهِمْ، ويَتَبَجَّحُونَ بأقْوَالٍ وأَفْعَالٍ لمْ تَصْدُرْ عَنْهُمْ ولا مِنْهُمْ، فَيتَكَثَّرُونَ بِمَا ليسَ لهُمْ، والرَّسُولُ الذي أُنْزِلَ عليهِ القُرآنُ ليسَ بِكَاهِنٍ، ولا شَاعِرٍ لأنَّ حالَهُ مُنَافٍ لِحَالِ الشُّعَراءِ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾
(٢٢٧) - واسْتَثْنَى اللهُ تَعالى مِنَ الصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ الشُّعراءَ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَذَكَرُوا الله كَثيراًُ، وتَوَلَّوا الرَّدَّ على الكُفَّارِ الذينَ كانُوا يَهْجُونَ المُؤْمِنِينَ.
(وفي الحَديثِ: " إِنَّ المُؤمنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ ولِسَانِهِ، والذي نَفْسِي بِيدَهِ لَكَأَنَّ مَا تَرمُونَ بهِ نَضحُ النَّبْلِ "). (أََخرَجهُ الإِمامُ أحمدُ). وسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشِّرْكِ، وهِجَاءِ الرَّسُولِ، كَيفَ يَكُونَ مُنْقَلَبُهُمْ يومَ القيَامَةِ، وفي ذَلكَ اليومِ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ معذِرَتُهُمْ.
Icon