ﰡ
نزولها: مكية.. نزلت بمكة.. بلا خلاف.
عدد آياتها: تسع وتسعون آية.
عدد كلماتها: ستمائة وأربع وخمسون كلمة.
عدد حروفها: ألفان وسبعمائة وستون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ٥) [سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
التفسير:
مناسبة هذه السورة لما قبلها. هى أن ختام السورة السابقة كان قوله تعالى:
«هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» - وهذا الختام يحدّث عن القرآن الكريم بأنه بيان مبين للناس، وبلاغ يبلغ بهم طريق الحق والإيمان- فكان مفتتح هذه السورة- سورة
وقوله تعالى: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» - «الر» مبتدأ، وما بعده خبر..
والإشارة بتلك، مشار بها إلى آيات الكتاب، والتقدير: «الر» تلك هى آيات الكتاب، وآيات قرآن مبين..
وفى الإشارة، تنويه بهذه الآيات، وإلفات الأنظار إلى جلالها وعلوّ شأنها، وأنها إنما يشار إليها كما يشار إلى النجوم فى أفلاكها..
وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بأنه «آيات الكتاب»، وأنه «قرآن مبين». وصف للقرآن بصفتين:
الصفة الأولى: أنه آيات مكتوبه.. أي من شأنها أن تكتب، احتفالا بها، واهتماما بشأنها. وذلك فى أمة أميّة، لم تكن تكتب شيئا إلا ما يشتد حرصها عليه، وضنّها به، أن يفلت من ذاكرتها شىء منه.. وهذا ما فعلته بالمعلقات، وببعض العهود والمواثيق ذات الشأن العظيم عندها! فإذا نبّه المسلمون من أول الأمر إلى أن هذا الذي يتلوه عليهم رسول الله من كلمات ربّه، يجب أن يكتبوه، كان ذلك إلفاتا لهم إلى أن تلك الآيات، هى عهود ومواثيق بينهم وبين ربهم..
إذا عرفنا هذا أدركنا السرّ فى أن كان أول ما تلقاه النبىّ من كلمات ربّه هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فكانت نعمة التعليم بالقلم، وهى الكتابة، معادلة لنعمة الخلق، والحياة.. فكما أن الله- سبحانه- بالخلق
قوله تعالى: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ»..
ربّ: حرف جر يفيد التقليل.. فإذا اتصلت به «ما» دخل على الأفعال، وهو هنا مخفف «من ربّ» الثقيلة.
هذا، ولم يرد هذا الحرف فى القرآن الكريم إلّا فى هذا الموضع.
وقد بذل المفسرون كثيرا من الجهد فى التأويل والتخريج، ليجدوا لهذا الحرف وجها مفهوما، يستقيم مع الآية الكريمة.. وكان محصول هذا كلّه أقوالا متهافتة، رأينا من الخير ألا نقف عندها، وأن نأخذ بما أرانا الله سبحانه من فهم، استراحت له النفس، واطمأن إليه القلب..
فالآية التي سبقت هذه الآية، وهى التي بدئت بها السورة الكريمة، تشير إلى القرآن الكريم، وإلى آياته البينات.. «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.. وَقُرْآنٍ مُبِينٍ»..
ومقصود هذه الإشارة هو لفت الأنظار، وتوجيه القلوب والعقول إلى
- وفى قوله تعالى: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» تقرير لهذه الحقيقة الواقعة فى الحياة، وهى أن أكثر الناس هم الكافرون، وأقلّهم هم المؤمنون.. وأن هذه الآيات البينات التي بين يدى النبىّ الكريم لن يكون منها أن تهدى الناس جميعا، فليوطن النبىّ نفسه على هذا، وليعلم أنه مهما اشتد حرصه على هداية قومه، فلن يهتدوا جميعا، وحسبه أن يستنقذ من الكفر والضلال، تلك القلّة الكريمة التي استجابت له.. فقليلها خير من كثير.
فليحمل النبىّ الكريم هذا النور الذي بين يديه، وهو على علم بأنه يشق طريقه وسط ظلام كثيف، وأن قلّة من الناس، هى التي تكتحل عيونها بهذا النور، فتتبعه، وتهتدى به إلى الله! وفى هذا عزء للنبىّ، وتسرية له من الهموم التي كان يعانيها، من تأبّى قومه عليه، وعنادهم له.. فتلك هى سنّة الحياة، وأولئك هم الناس!! فالآية الكريمة هنا، هى خطاب خاص للنبىّ الكريم، يراد به أن يتخفف النبىّ كثيرا من مطامحه فى إقامة الناس جميعا على طريق الإيمان، حتى لا تذهب نفسه حسرة، على هؤلاء الذين يموتون بين يديه، وهم على ضلالهم وشركهم، كما
وعلى هذا يكون معنى الآية.. ادع يا محمد بهذا الكتاب الذي معك، وأنت على بعض الرجاء، لاكل الرجاء فى أن تجد لدعوتك آذانا تسمع، وقلوبا تفقه، وتستجيب، وتؤمن.. فادع إلى سبيل ربّك، بآيات ربك، وقل: لعلّ وعسى!! أو قل: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ!» وهنا لا بد من الإشارة إلى أمور:
أولا: المراد من كلمة «يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا»..
فإن الود للشىء، معناه الرغبة فيه، وإيثاره على غيره..
وهذا يعنى أن الإيمان لا يكون عن إكراه، وإنما عن رغبة، وحبّ، وإيثار..
وهذا يعنى- من جهة أخرى- أنه ليس للنبى أن يحمل المعاندين حملا على الإيمان، وألا يجيئهم إليه عن طريق الإخراج الأدبى، تحت عواطف القرابة أو الصداقة.. إن ذلك يكون أشبه بطعام طيب يتناوله مريض، أو ممعود، فى غير اشتهاء له، ولا رغبة فيه.. فمثل هذا الطعام لا تهضمه المعدة، ولا ينتفع به الجسم.. والمعنى: ربما يرغب الذين كفروا فى أن يدينوا بهذا الدّين.
وثانيا: قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا» حيث يبدو من ظاهر اللفظ أنه يشمل الكافرين جميعا..
ونعم، هو كذلك.. فدعوة الله إلى الإيمان به موجهة إلى الناس كلّهم..
وعين الرسول الكريم تنظر إليهم جميعا، ويده الكريمة ممدودة لهم كلّهم..
وسؤال يعرض لنا هنا.. وهو: كيف يؤدى النبىّ رسالته، وكيف يعطيها كل مشاعره وأحاسيسه، وهو على يقين من أنه لن يبلغ بدعوته إلى قلوب الناس جميعا؟ أليس فى ذلك توهين لعزمه، وإخماد لجذوة الأمل التي ينبغى أن تكون مشتعلة فى نفس كل داعية، حتى يعطى دعوته كلّ جهده، وعزمه، وصبره؟
والجواب: أن النبي ﷺ مرسل من قبل ربه برسالة، ومأمور بأن يبلغها، وأن يجتهد فى تبليغها، وأنه إن لم يفعل فما بلغ الرسالة، ولا أدّى الأمانة..
وقد امتثل النبي أمر ربه، وصدع به، واجتهد الاجتهاد كلّه، حتى لقد كادت نفسه تذهب حسرة وأسى على من كان يفلت من يده، ويموت على الشرك والضلال من قومه..
فهذا التوجيه الرباني الذي حمله قوله تعالى إلى النبي الكريم: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» - هذا التوجيه، هو دعوة إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتخفف من هذا الشعور الضاغط عليه، والمؤرّق له، وأن يكون على علم من أنه لن يهدى من أضلّه الله، وختم على سمعه وقلبه.. وهم كثير غير قليل.. وقد عتب سبحانه وتعالى على النبي الكريم مشفقا عليه من هذا العناء الذي يعنّى به نفسه، فى شد المعاندين شدّا إليه، وهم يدفعونه، ويتأبّون عليه.. فيقول سبحانه: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟» (٥- ٧: عبس).
«ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».
فى هذه الآية ما يؤيد الفهم الذي فهمنا عليه الآية السابقة، من أنها دعوة إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يرفق بنفسه، وألا يجعل من همّه أن يقيم الناس جميعا على طريق الإيمان، فذلك أمر لا يقع أبدا.
- وفى قوله تعالى: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ» توكيد لهذه الدعوة، وإخلاء ليد النبىّ الكريم من الإمساك بهؤلاء الذين يحرنون عليه، ويشردون منه.. فليدعهم وما اختاروا لأنفسهم من حياة، كل همهم فيها أن يأكلوا، ويتمتعوا، ويتلهّوا بالآمال الكاذبة، التي تقيم لهم من دنياهم تلك، عالما من سراب، تتراقص على أمواجه عرائس زائفة، ينخدع لها الحمقى والسفهاء من الناس، ويقطعون العمر فى جرى لاهث وراءها! - وفى قوله تعالى «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين رضوا بهذه الحياة، واطمأنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، واستهلكوا وجودهم فى لذاذاتها الفانية.. إنهم فى سكرة يعمهون.. فإذا جاء أجلهم، صحوا من سكرتهم، ووجدوا ما عملوا من سوء حاضرا بين أيديهم، يقودهم إلى عذاب السعير..
قوله تعالى:
«وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» فى هاتين الآيتين الكريمتين، وعيد بعد وعيد، لهؤلاء المشركين..
وأنهم إذا كانوا لم يؤخذوا بكفرهم وعنادهم وضلالهم، إلى هذا اليوم الذي هم فيه، فما ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن بهلاكهم بعد، وذلك لما اقتضته حكمته.. فكل قرية لها عند الله أجل معلوم، كما أن لكل إنسان
الآيات: (٦- ١٥) [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ١٥]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» لذّكر: هو القرآن، كما يقول الحق سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»
يكشف عما أراده المشركون بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» وأنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وسخرية وتكذيبا، ولهذا جاء قولهم: «لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» تحدّيا للنبىّ أن يدفع التهمة التي يتهمونه بها، وهى الادعاء الكاذب، بأنه يحمل إليهم آيات الله التي أوحيت إليه.. فإن كان ذلك الذي يدّعيه حقّا، وأنه متصل بالسماء، فليأت بالملائكة تحدثهم، وتشهد له أنه رسول الله.. عندئذ يعرف صدقه، ويقبل قوله! ولو ما: حرف تحضيص، بمعنى هلّا.
قوله تعالى: «ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» أي لا ينزل الله سبحانه الملائكة، استجابة لأهواء أصحاب الضلالات، وإنما ينزلهم سبحانه بما يأمرهم به، كالسفارة بينه وبين رسله، أو كالعذاب الذي يرسلهم به إلى من يريد إهلاكهم من القوم الظالمين. وكل هذا حقّ من عند الله سبحانه..!
وفى هذا يقول الله سبحانه: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» (٨: الأنعام) وقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين سخروا من النبىّ بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» فجاء قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» كبتا لهؤلاء المشركين، وردعا لهم، وإعلانا بما يملأ صدورهم حسدا وحسرة.. فقد أبوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبىّ إنه تلقّى الذّكر منها، فقالوا «نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» ولم يقولوا- ولو على سبيل الاستهزاء- نزّل الله عليه الذكر.. فجاءهم قول الحق جلّ وعلا: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» بهذا التوكيد القاطع.. ثم جاء قوله تعالى «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» مؤكدا لهذا التوكيد.. إذ أنه سبحانه هو الذي يتولى حفظه من كل عبث، وصيانته من كل سوء.. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند الله.. فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه.. فإنهم لو فعلوا، لكان لهم من ذلك حجة على أن ليس من عند الله! وقد حفظ الله القرآن الكريم، هذا الحفظ الربانىّ، الذي أبعد كلّ ريبة أو شكّ فى هذا الكتاب، فلم تمسسه يد بسوء، على كثرة الأيدى التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها الله، وأبطل كيدها وتدبيرها.. وهكذا ظلّ القرآن الكريم، وسيظل إلى يوم البعث، حمى الله الذي تحرسه عنايته، وتحفظه قدرته، فلم تنخرم منه كلمة، أو يتبدل منه حرف.. وتلك حقيقة يعلمها أولو العلم
سئل بعض العلماء: لم جاز التحريف والتبديل على الكتب السماوية السابقة، ولم يجز هذا على القرآن الكريم؟ فقال: «إن الكتب السماوية السابقة قد وكل الله حفظها إلى أهلها، كما يقول الله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (٤٤: المائدة). فأهل الكتاب هم الذين «استحفظوا» أي وكّلوا بحفظ كتبهم.. ومن هنا جاز أن يفرطوا فى هذه الأمانة التي فى أيديهم، وأن يدخل عليها ما دخل من تبديل وتحريف.. أما القرآن الكريم فقد تولّى الله سبحانه وتعالى حفظه، ولم يكله إلى أهله.. فقال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»..
ومن ثمّ كان من المستحيل أن يدخل على القرآن الكريم- وهو فى حراسة الله- تغيير كلمة، أو تبديل حرف!!.
والسؤال هنا: لم وكل الله سبحانه وتعالى حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أهلها، ولم يتولّ سبحانه وتعالى حفظها، وهى من كلماته، كما تولّى ذلك سبحانه، بالنسبة للقرآن الكريم؟.
والجواب على هذا، والله أعلم:
أولا: أن الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها.. وهو بهذا التقدير الرسالة السماوية إلى الإنسانية كلها فى جميع أوطانها وأزمانها..
وثانيا: هذا التبديل والتحريف الذي أدخله أهل الكتب السابقة على كتبهم، لا يدخل منه شىء على آيات الله وكلماته.. كما لم يدخل شىء من ذلك على آياته الكونية، التي يغوى بها الغاوون، وينحرف بها المنحرفون..
وكما لا يدخل شىء من النقص على ذاته الكريمة، أو صفاته وكمالاته، إذا جدّف المجدفون على الله، ونظروا إلى ذاته وصفاته بعيون مريضة، وقلوب فاسدة، وعقول سقيمة.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
الشّيع: جمع شيعة.. وشيعة المرء، من يجتمعون إليه من أهل وعشير..
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ» - إشارة إلى أن كل رسول أرسل من عند الله، كان مبعوثا إلى قومه الذين يعرفهم ويعرفونه.. كما يقول سبحانه: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (٤: إبراهيم)..
- وفى قوله سبحانه: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» مواساة كريمة للنبىّ، وتخفيف عليه، مما يلقى من قومه من عنت ومكروه..
فتلك هى سبيل الرسل مع أقوامهم.. كلها أشوك، يزرعها السفهاء والحمقى فى طريق رسل الله إليهم.. فليس الرسول إذا بدعا من الرسل، فيما لقى من قومه، من سفاهات وحماقات، فلقد كان إخوانه الذين سبقوه من رسل الله،
قوله تعالى: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ».
يقال سلك الطريق: أي سار فيه، ومنه قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» (٦٩: النحل).. وسلك الشيء فى الشيء: إدخاله فيه، ومنه قوله تعالى: «اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» (٣٢: القصص).. وقوله تعالى:
«فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» (٢٧: المؤمنون) ومنه السلك، وهو الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد.
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ» إشارة إلى أن ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسل الله، واستهزاء بهم، هو الذي كان من هؤلاء المجرمين الذين وقفوا من «محمد» هذا الموقف اللئيم، فكذبوه، وسخروا منه، وآدوه بكل ما قدروا عليه من ألوان الأذى.. فكأن هذا الضلال المستولى على بعض النفوس الخبيثة والطبائع المنكرة، هو داء متنقل، وميراث موروث، يأخذه الخلف عن السلف: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ».. أي أن الضلال القديم، ينغرس فى قلوب هؤلاء المجرمين من مشركى قريش، فيكونون أشبه بحبة من حبات هذا العقد الذي ينتظم المقابح والمساويء، ويجمع الأشرار إلى الأشرار..
قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ».
الضمير فى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ» يرجع إلى هؤلاء المجرمين، وهم مشركو قريش، والضمير «به» يعود إلى النبىّ الكريم، الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ».. والحديث عنه
- وفى قوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ».. تهديد ووعيد لهؤلاء المجرمين من كفار قريش، وأن سنّة الله التي مضت فى السابقين، كانت الهلاك والبلاء للمكذبين، والنصر، والعافية للمرسلين وأتباع المرسلين.. ولن تتبدل سنة الله مع هؤلاء المشركين من قريش ومن معهم! قوله تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ».
عرج إلى المكان: صعد إليه، والعروج، هو الصعود من أسفل إلى أعلى..
وسكرّت الأبصار: عميت وعشيت، وزاغت، شأن من تستولى عليه الخمر، ويصيبه دوار السّكر.
وفى الآيتين الكريمتين، ما يكشف عن الضلال الكثيف المنعقد على قلوب هؤلاء المجرمين، وأنهم- وهم فى هذا الضلال- لا يرون لمعة من لمعات الهدى أبدا، ولو جاءتهم كل آية مبصرة..
فلو أن الله سبحانه فتح لهم بابا من السماء، فظلوا فيه يعرجون ويرتفعون صعدا، حتى يشهدوا الملأ الأعلى، وما فيه من آيات، تدعوهم إلى الإيمان بالله- لأنكروا ما تشهده حواسّهم، ولاتّهموا أعينهم بأنها قد وقعت تحت حدث من الأحداث، فذهب بقدرتها على الإبصار.. أو لقالوا إن قوة خفية سحرتهم، وخيّلت إليهم
الآيات: (١٦- ٢٥) [سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى ذكر فى الآيات السابقة، ما استولى على قلوب المشركين من ظلام كثيف، وضلال مبين، حتى لو أنهم أصعد بهم إلى السّماء، وشهدوا ما فى الملأ الأعلى من آيات، ما كان لهم فى ذلك طريق إلى الهدى والإيمان بالله، ولاتّهموا حواسّهم، وكذّبوا المشاهد المحسوس بين أيديهم..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ» - إشارة إلى ما للعقول السليمة من قدرة على النظر فى ملكوت الله، وارتياد مواقع العبرة والعظة من آياته المبثوثة فى هذا الملكوت..
فهذه السماء، وقد رفعها الله سبحانه بغير عمد، وجعلها بروجا ومدارات للكواكب والنجوم، وزينها بتلك الكواكب، وحلّاها بهذه النجوم- هذه السماء هى مراد فسيح للأنظار، ومسح معجب للعقول.. ينظر الناظرون إليها، فترتدّ إليهم أبصارهم منها وقد امتلأت عبرة وعظة، بما شهدت من جلال الله، وقدرته وعلمه وحكمته.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» (١٩١:
آل عمران).. فذلك هو ما يعطيه النظر السليم لأهله، من إيمان بالله، وولاء لجلاله وعظمته.
قوله تعالى: «وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ».
إشارة إلى أن السّماء ليست معرجا لأهل الأرض، وإن كانت مرادا لأبصارهم، ومسبحا لعقولهم.. وأن الشياطين- وهم من سكان الأرض- إن أرادوا العروج إلى السماء بما لهم من طبيعة قادرة على الانطلاق إلى آفاق عالية بعيدة- هؤلاء الشياطين لا يستطيعون أن يعرجوا إلى السماء، وغاية ما يمكن أن يبلغه أحدهم هو أن يحلّق بعيدا، يريد أن يدنو من الملأ الأعلى، ويسترق السمع، إلى ما احتواه هذا الملأ من غيوب وأسرار.. وعندئذ يجد الشيطان
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (٢١٢: الشعراء).
وقوله سبحانه، على لسان الجن: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (٩: الجن).
وهنا سؤال.. وهو: هل إذا كان الجن لا يستطيع أن يعرج إلى السماء وأن يسترق السّمع، فهل يستطيع الإنسان أن يعرج إلى السماء، ويبلغ إلى هذا المدى الذي لم يبلغه الجن؟
إن إرهاصات كثيرة تشير إلى أن الإنسان الآن فى طريقه إلى السماء، وأنه كاد ينجح فى أن ينزل على القمر، بعد أن ارتاده بمراكب ألقت بمراسيها على سطحه، وهى تحمل عددا وآلات نقلت إلى الإنسان كثيرا من طبيعة هذا الكوكب.. فهل إذا نزل الإنسان إلى القمر أو إلى أي كوكب من الكواكب، أيكون فى هذا ما يتعارض مع الآية الكريمة؟
والجواب على هذا، أن الآية الكريمة لم تعرض للإنسان، ولم تسلط عليه من السماء رجوما، كما سلطتها على الشياطين..
وعلى هذا، ، فإن الطريق إلى السماء مفتوح للإنسان، وليس ثمة ما يحول بينه وبين أن يبلغ منها حيث وسع علمه وجهده.. إلّا أن الذي لا يبلغه الإنسان أبدا، هو أن يخترق حجب الغيب، ويعلم ما استأثر الله سبحانه وتعالى به من علم.. ذلك هو ما يقطع به إيماننا، ويحدّث به كتابنا.. أما ماوراء ذلك، فهو فى مجال الاختبار لقدرة الإنسان.. والقرآن الكريم يفتح للعقل كل طريق لاختبار قدرته، بل ويبارك عليه كل خطوة موفقة يخطوها إلى الأمام، فى ارتياد معالم الوجود، فى الأرض وفى السماء، وكشف ما يستطيع كشفه من أسرار هذا الكون، فى أرضه وسماواته على السواء! والله سبحانه وتعالى
فبسلطان العلم يمتلك الإنسان القوة، وبتلك القوة وبالقدر الذي يحصل عليه الإنسان منها، يكون مبلغه من النفوذ فى أقطار السموات والأرض..
ومع هذا، فإن هناك حرما إن دنا منه الشيطان احترق، كما أن هناك عوالم لا حصر لها، لا تطولها قدرة الإنسان، ولا يبلغ علمه منها شيئا: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». (٨٥: الإسراء) فإذا بلغ الإنسان بعلمه وقدرته أن يستوى على ظهر هذه الكواكب المتصلة بفلك الأرض.. فهيهات أن يبلغ شيئا من العوالم الأخرى، التي تبلغ المسافات بينها وبين الإنسان ملايين من السنين الضوئية.. اللهم إلا أن يخرج الإنسان عن طبيعته، ويصبح خلقا آخر..
قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» - وكما فى السماء آيات لأولى الأبصار، فإن فى الأرض آيات وآيات للناظرين..
فهذه الأرض، قد مدّها الله، وألقى فيها رواسى، أي غرس فيها جبالا راسية، وأنبت فيها من كل شىء موزون، أي كل شىء بحساب وقدر، مما
فما أنبت الله سبحانه فى هذه الأرض، وما بثّ فيها من نبات، وحيوان، وجماد.. كل هذا بقدر مقدور، وبحساب موزون بميزان الحكمة، حتى يعتدل ميزان الحياة، ويكون للناس مستقر فيها ومتاع إلى حين.. ولو اختلّ هذا الميزان، بزيادة أو نقص، لما صلحت الحياة على هذه الأرض..
قوله تعالى: «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ» - هو تفصيل لما أجملته الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» - فهذا الذي تخرجه الأرض، هو مما يعيش فيه الإنسان، وتحيا عليه الأحياء الأخرى، التي لا يتولى الإنسان إطعامها.. من هوامّ، وحشرات، ووحوش، وطيور محلقة فى السماء، وأسماك سابحة فى البحار والأنهار..
وغير ذلك كثير، مما لا يعلمه إلا خالقها سبحانه وتعالى.. فهذه الكائنات كلها يرزقها الله سبحانه، ويقدّر لها أقواتها.
قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» - إشارة إلى أن كل شىء هو إلى الله سبحانه، وفى يده جلّ شأنه، وأنه ينزّل من كلّ شىء بقدر معلوم، حسب ما تقضى حكمته، مما يصلح به أمر الناس وتعمر الأرض.
قوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ».. أي إن من قدرة الله سبحانه، ومن حكمته، أن أرسل هذه الرياح، فجعلها لواقح يكون من نتائجها هذا المطر الذي ينزل من الماء.. فالريح هى التي تحمل بخار الماء، فتنقله إلى أجواء باردة فى آفاق السماء، حيث يصير سحابا..
ثم تدفع هذا السحاب، فيصطدم بعضه ببعض، ويتولد من هذا الصدام
هذا، والقرآن الكريم يفرّق بين الريح، والرياح.. فيذكر الرياح فى مواطن الخير والرحمة، على حين يستعمل الريح فى مواطن البلاء والنقمة..
ذلك أن الريح إذا كانت من مهب واحد كانت عقيما، لا تنتج شيئا، أو تحمل سموما، وأذى، كما فى قوله: «وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» (٤١: ٤٢ الذاريات) وقوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» (٢٤: الأحقاف).. فإذا أفردت الريح فى مواطن الرحمة، ألحقت بوصف حسن، يرفع عنها الصفة الغالبة عليها..
كما فى قوله تعالى: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» (٢٢: يونس).
أما إذا كانت الريح من جهات مختلفة، فإنه يلتقى بعضها ببعض، فتتوازن، وتعتدل، وتحمل الخير والرحمة، وتكون لقاحا للسحاب، وللنبات..
- وفى قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الماء، هو مما فى يد الله، وفى خزائنه، وأن ليس لأحد أن يتصرف فيه إلا بما يأذن الله به منه..
قوله تعالى: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ».. هو كشف لبعض قدرة الله، وأنه سبحانه بيده الحياة والموت.. وأنه ليس لهذه الحياة بقاء.. «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (٨٨: القصص).. والله سبحانه يرث الأرض ومن عليها: «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» فلا يغترنّ أحد بهذه الدنيا، وإن أعطاه الله الكثير من زهرتها، وأفاض عليه الجزيل من متاعها.. فكلّ إلى زوال..
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ»..
هو كذلك كشف عن بعض علم الله، وأنه سبحانه قد علم ما كان من خلق قبل أن يخلقوا، السابقين من الخلق واللاحقين.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».. (١٤: الملك) قوله تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو تقرير للبعث، وأن الموت المحكوم به على الناس، ليس هو نهاية الحياة الإنسانية، بل هناك حياة أخرى بعد الحياة الدنيا.. فقد اقتضت حكمة الله، أن يكون للناس حياة أخرى يحاسبون فيها على أعمالهم، وينزلون فيها منازلهم حسب ما كان لهم من أعمال فى دنياهم، وهو سبحانه «عَلِيمٌ» بما كان منهم، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أعمالهم..
الآيات: (٢٦- ٥٠) [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٥٠]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
تعرض هذه الآيات قصة خلق آدم، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من طين، ثم نفخ فيه الحق جلّ وعلا من روحه، ثم أمر الملائكة بأن يسجدوا له،
وقد وردت هذه القصة فى أكثر من موضع من القرآن، شأنها فى هذا شأن القصص القرآنى، الذي جاء فى معارض مختلفة، بين الإيجاز والتفصيل..
وفى سورة البقرة عرضنا بالتفصيل لقصة خلق آدم، وقلنا إنه لم يخلق خلقا مباشرا من التراب، وإنما كان خلقه خلقة فى سلسلة التطور.. وأنه إذا كان الطين مبدأ للخلق، فإنه قد تنقل فى هذا الطين من عالم إلى عالم، ومن خلق إلى خلق، حتى كان الإنسان آخر حلقة فى سلسلة هذا التطور، فظهر فيها الكائن العاقل.. وهو آدم، أو الإنسان..
ولا نعيد هذا القول، وحسبنا أن نقف بين يدى الآيات الكريمة وقفات نطلع فيها وجها من وجوه الإعجاز القرآنى فى التكرار لمعارض قصصه، والذي حسبه بعض الجهلاء السفهاء من المآخذ التي تؤخذ على القرآن، وعدّوه قصورا فى بلاغته..
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ..»
فى هاتين الآيتين عرض موجز لخلق آدم، وخلق الجانّ (إبليس)، وبيان المادة التي خلق كلّ من آدم وإبليس منها..
والصلصال: الطين الذي جفّ حتى صار له صوت وصلصلة..
والحمأ: الطين المتعفن. وهو الذي تخمّر فى ظروف معينة، وبدأ يأخذ بحكم هذا التخمر صورا وأشكالا، ولهذا وصف «بالمسنون» أي المسوّى والمشكل فى أشكال وقوالب..
وقد ورد فى آيات من القرآن الكريم، أن آدم خلق من تراب، ومن طين، ومن طين لازب..
وهذا يشير إلى أن التراب، هو المادة الأولى التي كان منها هذا الخلق..
ثم تحول التراب إلى طين، ثم تحول هذا الطين إلى طين لازب، أي زبد، ثم تحول هذا الطين اللازب إلى حمأ، ثم أخذ هذا الحمأ صورا وأشكالا فكان حمأ مسنونا.. ثم تحول هذا الحمأ المسنون إلى صلصال كالفخار.. وهكذا سار الإنسان فى هذا المسار الطويل عبر ملايين السنين، حتى ظهرت أول بشائر الحياة الإنسانية فى باكورة إنسان.. هو «آدم» ! أما «الجانّ» فقد خلق قبل آدم، وكان خلقه من نار السموم.. أي من لهب النار لا من جمرها.. فكان جسما هوائيا ملتهبا، مشوبا بدخان..
وقد ذكر فى القرآن الكريم، الجنّ، وإبليس، والشيطان، وكلها تعنى هذا المخلوق الذي أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين..
وقد عرضنا لبحث هذه المسميات- الجن وإبليس والشيطان- فى الجزء الأول من هذا التفسير.. فليرجع إليها من شاء..
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ».
فالسجود لآدم فى حقيقته، سجود لله سبحانه، فى مواجهة هذه الظاهرة العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة الله، وتطلع منها على الملائكة آية من آياته..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» - إشارة إلى أن آدم لم يظهر من الطين ظهورا مباشرا، وإنما ظل دهورا طويلة فى بوتقة الزمن، حتى استوى ونضح.. فالفاء فى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» تفيد التعقيب، ولكنه تعقيب يأخذ من عمر الزمن ملايين السنين.. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ».
- وفى قوله تعالى: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» - إشارة إلى كيفية السجود، وأنه سجود لا يملك معه الملائكة أنفسهم، بل يخرون ساقطين على وجوههم، حين يأخذهم جلال الموقف، وتغشاهم رهبته..
والفعل «قعوا» هو أمر من الفعل «وقع» والأمر منه «قع» فإذا أسند إلى واو الجماعة كان: «قعوا».. أي اسقطوا وخرّوا..
هذا، وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم فى موضع آخر، فقال تعالى:
وهذا يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد لفت الملائكة أول الأمر إلى المرحلة الأولى من مراحل هذا الخلق الذي سيخرج من هذا الكائن البشرى..
وأن أول هذه المراحل، هى الطين.. وقد أخذ الملائكة منذ هذه اللفتة، يرقبون هذا الطين، ويلحظون مسيرته فى خط الحياة..
ثم حين انتقل الطين إلى مرحلة أخرى، هى مرحلة الصلصال، والحمأ المسنون- لفت سبحانه وتعالى الملائكة مرة أخرى إلى هذا التغيير الذي حدث للطين، والذي بدأ يأخذ طريقه متحركا نحو الغاية المؤدية إلى ظهور هذا الإنسان الذي ستلده الحياة المتولدة من هذا الطين، والذي يجب على الملائكة أن يستقبلوا مولده بالسجود فإن السجود لهذا المولود هو سجود لآيات الله، وما تجلى فيها من رائع حكمته وقدرته..
ويلاحظ أن هذين الأمرين الموجهين توجيها مباشرا إلى الملائكة بالسجود لآدم، يتضمنان الصفة التي يكون عليها هذا السجود، وهو أن يكون سجودا مستوليا على كيان الملائكة، بحيث يخرون خرّا، ويتهاوون هويّا: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ».
[إبليس ومن له سلطان عليهم]
«فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ..»
وإنها لجرأة عجيبة أن يخرج هذا المخلوق الشقىّ عن أمر ربه، وأن يتحدّى
وإنها لشقوة غالبا، وبلاء مبين، وضلال تعمى معه البصائر، وتذهب العقول..
يسأله الحق جلّ وعلا، «ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ؟ وذلك ليأخذ اعترافه من فمه، وإلّا فالله سبحانه عالم بما سيقول هذا الشقىّ، مستغن عن أن يسأل، وعن أن ينطق إبليس بما نطق به..
ولقد نطق إبليس بهذا التحدّى لوقاح، «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ».. وفى آية أخرى كشف إبليس عن حجته الضّالة فى إبائه السجود لآدم، فقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ! (١٢: الأعراف).
ومن أين لهذا اللّعين أن النار خير من الطين؟ وما وجه الخيريّة فى النّار؟
إنه الضلال، ولا شىء غيره، هو الذي زيّن لهذا الغوىّ رأيه فى نفسه.. والله سبحانه وتعالى يقول فى أهل الغواية والضلال: «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (٣٢: الروم)..
: «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ».
والرجيم هو المرجوم.. وما يرجم به هنا هو اللعنة.
والضمير فى قوله تعالى «مِنْها» يعود إلى الجنة التي كان فيها..
: «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».
وهكذا يعمى الضلال أهله، ويلقى بهم فى ظلمات المهالك، فلا يخرجون من مهلكة إلا إلى مهلكة..
فلقد أبت على إبليس شقوته إلّا أن يشرب كأس اللعنة إلى آخر قطرة فيها.. فطلب إلى ربه أن يمدّ له فى أجله، وألا يعجّل له العذاب قبل يوم القيامة، وذلك ليثأر لنفسه من هذا الإنسان الذي كان سببا مباشرا فى طرده من رحمة الله، وإلباسه لباس اللعنة.. بل وربما حدّثت هذا الشقىّ نفسه أن يتحدى الله، وأن يحاجّه فى آدم، وفى أنه أفضل منه، وأن امتناعه عن السجود له، كان عن حق، وأنه خير من هذا المخلوق، وما كان للأعلى أن يسجد للأدنى!! هكذا يبلغ الغرور بهذا الأحمق المغرور، فيقيم نظره كله على آدم، ولا ينظر إلى الله سبحانه، ولا يقع فى تصوره أن الله سبحانه هو الذي أمره بالسجود، وأنه ينبغى للمخلوق أن يمتثل أمر الخالق، دون مراجعة أو اعتراض! ولو كان هذا اللعين قد نظر إلى نفسه، ولم يعمه الحقد الأعمى- لكان له فى باب الرجاء عند الله متسع، ولكان طلبه من الله أن يؤخره إلى يوم الدين، التماسا للعافية من هذا البلاء الذي نزل به، فيرجع إلى الله من قريب، ويستغفر
ولكنه أبى إلا أن يهلك نفسه، فى سبيل إهلاك غيره، وإشباع شهوة الانتقام من عدوّه..
: «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ».
الإغواء: الإضلال، بتزيين القبيح، والإغراء به.
وبهذا القسم يتحدى إبليس أبناء آدم، ويلقاهم على طرق الضلال، فيغويهم بركوبها، ويغريهم بمتابعة خطوه عليها، ويمنّيهم الأمانىّ الكاذبة التي تلقى بهم بين يديه! فالباء فى قوله تعالى: «بِما أَغْوَيْتَنِي» هى باء القسم، والتقدير: يحق ما أغويتنى: أي أضللتنى «لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» أي لأفتننهم بما على الأرض من أشياء، أزينها لهم، وأغريهم بها، فيشغلون عن ذكرك، ويكفرون بنعمك، فيقعون تحت طائلة نقمتك وعذابك.
وهذا القسم يكشف عنه قوله تعالى فى موضع آخر: «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (٨٢: ص).
ويجوز أن تكون الباء للسببية، أي بسبب إغوائك لى، وأن تكون اللام فى قوله تعالى: «لَأُزَيِّنَنَّ» لام الأمر، الداخلة على الفعل المضارع، وأن إبليس قد ألزم نفسه بهذا العمل إلزاما، ليردّ به على هذا الإغواء.
وفى قصر التزين على الأرض، إشارة صريحة إلى أن إبليس قد أغوى آدم وزين له حتى أكل من الشجرة، وهو على هذه الأرض، وفى هذا دليل على أن ميلاد آدم كان على هذه الأرض، ولم يكن فى السماء..
والمخلص: هو الخالص من كل سوء، المصفّى من كل شائبة..
أما من يتسط عليهم إبليس، ويتمكن من النّيل منهم، فهم أولئك الذين لم يرد لله أن يطهر قلوبهم، ولا أن يهديهم طريقا إلا طريق جهنم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (٤١: المائدة).
«قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ».
- الإشارة فى قوله تعالى: «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» هى إشارة إلى الصراط المستقيم، وهو الصراط الذي يسلكه السالكون إلى الله، ممن رضى الله عنهم، كما يقول سبحانه: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»..
فهذا الصراط هو الذي يسلكه عباد الله لمخلصون، وليس لإبليس سلطان على أحد ممن سلك هذا السبيل، واستقام على هذا الصراط.. لأن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على نفسه حراسة المستقيمين عليه، من كيد الشيطان وإغوائه.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ»..
فهؤلاء هم عباد الله المخلصون، وقد أضافهم سبحانه إلى نفسه، وأظلهم بحمايته ورعايته، وحرسهم من كل شيطان رجيم..
- وقوله تعالى: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ».. هو استثناء من قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ».. وفى إضافة الناس جميعا إلى الله سبحانه، هكذا: «عبادى» - فى هذا إشارة إلى أن الإنسان- أي إنسان- يحمل فى فطرته ما يستطيع أن يدفع به كيد الشيطان، فلا ينال منه.. هكذا هم عباد الله، وهم الناس جميعا.. ولكن من عباد الله من يعمل على إفساد فطرته، فيعطى الشيطان فرصته فيه.. وبهذا يكون من الغاوين، الذين أغواهم الشيطان، فاستجابوا له، وكانوا جندا من جنده الضالين الغاوين.
«وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» الضمير فى قوله تعالى: «لَمَوْعِدُهُمْ» يعود إلى الغاوين، الذين ذكرهم سبحانه فى قوله: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ»..
فهؤلاء الغاوون الضالّون، من كافرين، ومشركين، ومنافقين، وكل من عبد غير الله، أو اتخذ مع الله شريكا- هؤلاء جميعا يلتقون عند جهنم، فهذا هو الموعد الذي يلتقون عنده.. فكما كان التقاؤهم فى الدنيا على الضلال والكفر، كذلك يكون التقاؤهم فى الآخرة على أبواب جهنم وعذاب السعير.
- وفى قوله تعالى: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» إشارة إلى أن جهنم دركات ومنازل، عددها سبعة.. وأن أصناف الضالين يصنّفون حسب درجات ضلالهم إلى سبعة أصناف، كل صنف منهم ينزل منزلة من منازل جهنم السبعة، ويدخل إلى مكانه فيها من الباب الذي يؤدى به إلى هذا المكان.
- وفى قوله تعالى «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» تحية طيبة، يؤذن بها للمؤمنين بدخول الجنة، على مسمع من أهل النار، فيزيد شقاؤهم، وتعظم مصيبتهم..
وفى العدول من الغيبة إلى الخطاب احتفاء بالمؤمنين، واستدعاء لهم من قبل الله سبحانه، ليسمعوا هذا الأمر المسعد لهم من ربّ العالمين:
«ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ».. ادخلوها إخوانا متحابين.
- وقوله تعالى: «لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» إشارة إلى الحياة التي يحياها أهل الجنة، وأنها حياة أمن، وسلام، وراحة.. فلا عمل إلا ذكر الله، والتسبيح بحمده، والشكر لنعمه.. ومن تمام هذا النعيم أن الذي فيه لا يتهدده خوف من أن يفارقه هذا النعيم أبدا، أو يفارق هو هذا النعيم..
بل هو نعيم دائم متصل «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ».
«نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.»
الخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه- وهو خطاب لعباد الله جميعا، وبلاغ لهم كلهم، بأنهم عباد الله، وأن ربّهم الذي خلقهم وأضافهم إليه، هو رب غفور رحيم.. مغفرته شاملة، ورحمته عامة، تسع كل شىء..
وكذلك هو سبحانه- مع رحمته- ذو عذاب أليم، لمن كفر به، وأعطى
فمن آمن بمغفرة الله الشاملة، ورحمته الواسعة، آمن به ربّا كريما رحيما، محسنا، وكان ذلك داعيا إلى حبّ الله وطاعته، لا إلى عصيانه ومحاربته..!
فالحال التي ينبغى أن يكون عليها العبد مع ربّه هى الطمع فى رحمته، والخوف من عذابه..
فالطمع يحرسه من اليأس إذا هو واقع إثما، أو ارتكب معصية.. والخوف يحرسه من أن يأتى الفواحش، أو يترخّص فيها، ولا يتأثم عند ما يضعف أمام هواه، فيقع فى المنكر..
وقد امتدح الله المؤمنين الذين يخشون ربّهم بالغيب، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة من ألا يقبل منهم ذلك الإيتاء.. وفى هذا يقول تعالى:
«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (٦٠- ٦١: المؤمنون).
وقد روى عن بعض الصالحين أنه كان يقول: «لو أنزل الله كتابا أنه معذّب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، ولو علمت أنّه معذّبى لا محالة، ما ازددت إلا اجتهادا، لئلا أرجع على نفسى بلائمة».
ذلك هو ما يمليه العقل السليم، وما توحى به الفطرة، التي لم تفسدها الأهواء وتغتالها الضلالات.
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
التفسير:
فى هذه الآيات، شرح لقوله تعالى: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ»..
ففى هذه الآيات نفحات من رحمة الله ومغفرته.. وفيها لفحات من بأسه وعذابه.. رحمته ومغفرته التي تحفّ بالمتقين من عباده، وبأسه وعذابه الذي يحلّ بالضالّين الذين يتخذون الشيطان وليّا من دون الله..
وفى قوله تعالى: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ» تذكير بقصّة إبراهيم عليه السلام، إذ جاءه ملائكة الرحمن على هيئة بشرية، فظنهم ضيفا نزل عليه، وإذ كانوا قد دخلوا عليه فجأة من غير استئذان، فإنه وجد فى نفسه وحشة منهم وإنكارا لهم.. فقال فيما بينه وبين نفسه: «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ!» كما ذكر ذلك
«إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» أي خائفون.
وفى قوله تعالى: «قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» إشارة إلى أن الملائكة قد وجدوا دلائل الخوف وأمارات النّكر تظهر على إبراهيم، فقالوا له: «لا توجل».. وهذا الموقف شبيه بالموقف الذي كان من الملائكة حين دخلوا على داود، ففزع منهم، فقالوا له.. لا تخف، وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ.. قالُوا لا تَخَفْ» (٢١- ٢٢: ص).
- وفى قولهم: «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» تعجيل بهذه البشرى، لكى يطمئن قلبه إليهم، وتأنس نفسه بهم، وكى يذهب هذا الخبر العجيب بهذا الخوف الذي دخل عليه فجأة.
وقوله تعالى: «قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ». ؟
إنكار من إبراهيم لهذه البشرى بالولد أن يجيئه، وقد بلغ من الكبر حدّا انقطع فيه الأمل من الولد، وانصرفت الرغبة عنده عن طلبه، إذ فات الأوان الذي تهفو فيه النفس إلى الولد، ويشتد الطلب له..
وكان جواب الملائكة: «قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» وكان هذا الجواب تصحيحا لمشاعر إبراهيم نحو الولد، وأنه إذا لم يكن هو الذي يطلب الولد بعد هذا العمر الذي بلغه، فإن إرادة الله هى التي جاءت بهذا الولد فى هذا الوقت، وفى هذه المرحلة من العمر.. وذلك هو الحقّ الذي لا بدّ أن يقع.. ومن ثمّ كان وقوعه فى هذا الوقت هو أنسب الأوقات، حسب تقدير الله، وكان تأخيره إلى هذا الوقت لحكمة يعلمها الله، وإن خفيت على إبراهيم، وغاب عنه ماوراءها من خير.
القنوط: هو اليأس من أمر محبوب منتظر طال انتظاره، حتى فات وقته.. وقد كان ذلك النصح من الملائكة لإبراهيم، إلفاتا له إلى ما لله سبحانه من حكمة، فى تقدير الأمور، وتوقيت الأحداث، وأنه إذا كان لإنسان مطلب خاص عند الله، فليس له أن يوقّت له، وأنه إذا وقّت له، ثم لم يقع فى وقته فليس له أن ييأس من إجابة طلبه.. فإلى الله سبحانه وتعالى تقدير الأمور وتوقيتها.. وإن اليأس من تحقيق المطلوب بعد فوات الوقت الذي وقّته له- فيه انقطاع الرجاء من الله، وصرف الوجه عنه.. وهذا ما لا ينبغى من مؤمن يؤمن بالله، ويعرف لله قدره.. ولهذا جاء جواب إبراهيم: «قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» - تقريرا لهذه الحقيقة، وأنه عليه السلام لم يكن قانطا من رحمة الله، ولكنه كان متعجبا دهشا لهذا الأمر الذي طلع عليه فجاءة بولد غير منتظر! وهنا سؤال هو: كيف يقع من إبراهيم هذا الدّهش الذي يبلغ حدّ الإنكار من أن يكون له ولد، وهو الذي كان له ولد وهو «إسماعيل» عليه السلام، لذى سبق مولده مولد إسحاق؟
والجواب على هذا، أن إبراهيم كان ينتظر الولد من امرأته سارة، وأنه إذ طال انتظاره حتى مسّه الكبر، وبلغت سارة سنّ اليأس الذي لا يولد فيه لمثلها- اتجه إلى أن ينجب الولد من امرأة غيرها، فكان له من زوجته «هاجر» ولده إسماعيل، الذي انتقل به وأمّه إلى البيت الحرام، وأسكنه وأمّه هناك حيث المكان الذي هو مكة الآن..
وإذ لم يكن لإبراهيم غير «سارة» التي يعيش معها، فإنه أنكر أن يكون له ولد منها، بعد أن وصلا إلى هذه المرحلة من العمر!
الوصف الذي وصف به الولد الذي بشّر به إبراهيم هنا من الملائكة هو أنه غلام «عليم» ثم ذكر هذا الوصف مرة أخرى فى قوله تعالى: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (٢٨: الذاريات) على حين أن هناك وصفا آخر لولد بشّر به إبراهيم وهو أنه غلام «حليم» كما يقول سبحانه «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (١٠٠- ١٠١: الصافات)..
فما سرّ اختلاف الوصفين؟ وما دلالة هذا الاختلاف. ؟
والجواب:
أولا: أن وصف الغلام بأنه غلام «عليم» هو وصف للولد الذي بشر به من الملائكة بعد اليأس، وهو «إسحق» عليه السلام..
وأما الوصف الذي وصف به الغلام بأنه غلام «حليم» فهو نصف لإسماعيل عليه السلام، وأنه لم يجىء بعد اليأس، وإنما جاء إجابة من الله سبحانه لدعوة إبراهيم إذ دعا ربّه، فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ»..
وهذا مقام غير المقام الذي استقبل فيه البشرى بإسحاق.. فهنا يدعو دعاء الراغب الطامع، وهناك ينكر إنكار اليائس الذي انقطع طمعه فى الولد! وثانيا: أن الوصف الذي وصف به الغلام بأنه «حليم» والذي قلنا إنه وصف لإسماعيل- هذا الوصف، يشير إلى أن إسماعيل هو الذبيح، وأن صفة الحلم، هى الصفة التي تناسب الموقف الذي وقفه من أبيه حين قال له:
«يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى» ؟ فكان جوابه:
«يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (١٠٢: الصافات).
«وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (١١٢: الصافات).
وفى هذا ما يقطع بأن الذبيح هو إسماعيل.
وسنعرض لهذا الموضوع فى مبحث خاص إذا شاء الله، عند تفسير سورة الصّافات..
قوله تعالى: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ»..
الخطب: الأمر العظيم، والشأن الجلل..
وفى سؤال إبراهيم للملائكة عن شأنهم، وعن الأمر العظيم الذي جاءوا له ما يشير إلى أن ما جاء إليه الرسل لم يكن هو البشرى بالولد، وأن هذه البشرى لم تكن إلا تطمينا لإبراهيم، وإجلاء للروع الذي استولى عليه..
وأنه بعد أن ذهب روعه وأنس إلى هؤلاء الملائكة الكرام.. سألهم:
«فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ؟» فكان جوابهم: «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ».. وهؤلاء القوم، هم قوم لوط.. وقد استثنى منهم لوط وآله بقوله تعالى: «إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ»..
وهنا سؤال:
إذا كان هؤلاء الرسل من الملائكة، قد جاءوا لمهمة خاصة، وهى إهلاك قوم لوط، فلم عرّج الرسل على إبراهيم، ولم يذهبوا رأسا إلى لوط، وهو نبىّ مرسل كما أن إبراهيم نبىّ مرسل؟..
والجواب على هذا: هو أن لوطا عليه السلام كان من قوم إبراهيم، وممن استجاب لدعوته من دون قومه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ
(٢٦:
العنكبوت)..
وقد خرج لوط من بين القوم، واتخذ له موطنا قريبا من إبراهيم، يدعو فيه إلى ربه، بدعوة إبراهيم.. وكانت القرية التي أوى إليها لوط قرية ظالمة فاسدة، وكان أهلها- فوق شركهم- يأتون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. كما يقول الله تعالى على لسان لوط لهم: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (٢٨- ٢٩: العنكبوت) ولهذا فقد عجل الله لهم العذاب فى الدنيا، ولم يعجله لقوم إبراهيم، إذ كان قوم إبراهيم مجتمعا كبيرا يضمّ أمة فى إهلاكها قضاء على الحياة فى رقعة كبيرة من الأرض، قبل أن يتسع العمران، فيكون هلاكها أشبه بالطوفان الذي ذهب بقوم نوح.. أما قوم لوط، فقد كانوا عضوا خبيثا فى جسد هذا المجتمع الفاسد الذي يضم قوم إبراهيم، فكان من حكمة الله، بتر هذا العضو الخبيث، والإبقاء على هذا الجسد الفاسد يعانى من دائه، حتى يجىء من يطبّ له من رسل الله..
من ذرية إبراهيم..!
وعلى هذا، فإن مجىء الرسل إلى إبراهيم قبل ذهابهم إلى لوط، هو مما تقتضيه طبيعة الأمور، إذ كان لوط- وإن كان نبيا مرسلا- هو من قوم إبراهيم، ومن الذين تابعوه، فكان إعلام إبراهيم بما سينزل على لوط من بلاء، مما لا يغفل عنه أدب السماء..
ولهذا فإن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقّى هذا النبأ من الملائكة، فزع وقال: «إِنَّ فِيها لُوطاً!!» (٣٢: العنكبوت) وكان جواب الملائكة:
«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها».. ولم يقف إبراهيم عند هذا الحد، بل جعل يجادل
«فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» (٧٤- ٧٦: هود)..
الآيات: (٦١- ٧٧) [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦١ الى ٧٧]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
التفسير:
قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ»..
وكما وجد إبراهيم فى نفسه من مفاجأة الملائكة له ما وجد من فزع وتخوّف- وجد لوط هذه المشاعر منهم، فقال: «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ».
وفى هذا الموقف نجد فرقا بين إبراهيم ولوط..
فإبراهيم قال ما قال فى همس، وتخافت، دون أن يجبه الضيف بما يسوؤهم، طاويا تلك المشاعر فى صدره، ممسكا بها فى كيانه،. فقال: «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» أما لوط فإنه لم يستطع أن يغالب هذا الشعور الموحش الذي استولى عليه من القوم، فواجههم بما وقع فى نفسه منهم، وقال: «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ».
ولهذا كان إبراهيم أهلا لهذا الوصف الكريم، الذي وصفه الله سبحانه وتعالى به فى قوله سبحانه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ»..
ولعلّ مما يقوم للوط من عذر فى مجابهة القوم بهذا القول هو ما رآه فيهم من ملاحة وحسن، مما يغرى قومه بهم، الأمر الذي يسوؤه أن يقع لمن ينزل فى ضيافته..
وهنا سؤال أيضا.. وهو: لماذا كان الحديث عن لوط فى مجىء الرسل، إليه غير موجه إليه، بل كان موجها إلى آله.. هكذا: «ولمّا جاء آل لوط المرسلون» ؟ ولم التزم القرآن هذا التعبير فى كل مرة ورد فيها مجىء الرسل إلى لوط؟..
والجواب على هذا- والله أعلم- أن لوطا عليه السلام كان هو وآل بيته..
- غير امرأته- كلّ من آمنوا بالله فى القرية.. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَما
(٣٦: الذاريات).. وبهذا يكون لوط ومن آمن معه من آل بيته، هم كيان واحد سليم، فى مجتمع هذه القرية الفاسدة، ومن هنا كان الحديث إلى لوط فى هذا الجسد الذي يضمه ويضمّ أهله الذين آمنوا معه، والذين هم أشبه ببعض أعضائه!.
قوله تعالى: «قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ»..
الامتراء: الجدل فى غير حق..
وهذا هو الردّ الذي واجه به الملائكة إنكار لوط لهم، فقد جاءوه ببشرى أشبه بتلك البشرى التي بشروا بها إبراهيم من قبله، حين بشروه بغلام عليم..
- وفى قولهم: «بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ» إضراب على تلك المشاعر التي وقعت فى نفس لوط منهم، وأنهم ما جاءوا بما يخيفه ويؤذيه، بل جاءوا لنجدته، ولتصديق وعيده للقوم، الذين كانوا يستخفّون بما أنذرهم به من عذاب الله ونقمته.. أي إننا لم نجىء بما يخيفك، بل جئنا بالبلاء الذي كنت نتوعد به القوم فيمترون فيه، ويكذبون به.. فهذا هو ما جئناك به، وإنه للحقّ الذي كنت تتحدى به القوم وهم يكذبون ويسخرون: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» فيما نحدّثك به، فليفرخ روعك، وليطمئن قلبك..
قوله تعالى: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ»..
القطع من الليل: الجزء، والبقية الباقية منه.. والمراد به هنا، الجزء الأخير من الليل الذي يسبق الفجر..
- وفى قوله تعالى: «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ» إشارة إلى أن يقطعوا ما بينهم وبين القرية وأهلها من كل شعور يلفتهم إليها، ومن كل عاطفة تعطفهم نحوها.
- وفى قوله تعالى: «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» إشارة إلى أن لوطا فى مسراه هذا لا يعرف الوجهة التي سيأخذها فى سيره، وإنما سيلهم ذلك من الله سبحانه، وسيأتيه الأمر بالاتجاه إلى الجهة التي أرادها الله سبحانه وتعالى له..
قوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ».
أي أنهينا إليه ذكر الأمر، وأفضينا إليه بما فيه، وذلك عن طريق الوحى بوساطة هؤلاء الملائكة.. وهو أن «دابر هؤلاء القوم مقطوع مصبحين» أي مهلكهم هو الصبح، بحيث لا تبقى منهم باقية..
قوله تعالى: «وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ»..
لقد أدّى الملائكة مهمتهم مع لوط، وأفضوا إليه بما جاءوا به.. ولكن كان ذلك بعد أن جاءه قومه، حين علموا بهؤلاء الضيوف الذين نزلوا عنده، يريدون الفاحشة بهم، فأقبلوا إليه، وقد طارت قلوبهم فرحا واستبشارا، بهذا الصيد السمين، الذي وقع فى الشرك! وقد دفعهم لوط عنهم، مستبشعا هذا الفعل المنكر فى ذاته، ثم هو أشد استبشاعا وإنكارا له، فى ضيوف نزلوا عنده..
قائلا: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ.. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ..»
«قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟» أي ألم نحذّرك من أن تتعرض لنا، وأن تحول بيننا وبين أحد من الناس أيّا كانوا، سواء أكانوا من قومنا، أو من أي قوم آخرين؟ وهذا ما تشير إليه كلمة «العالمين» التي تشمل الناس جميعا من كل جنس، ومن كل أمة..
«قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ».. وهكذا يدفع لوط هذا المنكر بكل ما يملك من قوى الدفع.. لقد عرض على هؤلاء القوم الضالّين بناته، ليتخذوا منهن زوجات لهم، وليكون لكل منهم زوجة من نساء قريتهم..
فذلك هو الذي ينبغى أن يكون من الرجال..
«لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ»..
هذه الآية الكريمة، جاءت معترضة فى ثنايا أحداث القصة.. وفيها التفات إلى النبىّ الكريم «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- ليرى صورة من صور الإنسانية الضالّة، التي يستبدّ بها الضلال، ويركبها التزق والطيش، فلا تستمع لرشد، ولا تستجيب لنصح.
وفى القسم بالنبيّ الكريم، تكريم له، واحتفاء بشخصه، وتمجيد لقدره، ورفع لمنزلته.. فما أقسم الحق سبحانه وتعالى بإنسان غير هذا الإنسان، وفى ذلك إشارة إلى أنه واحد الإنسانية والممثل لها.. فقد أقسم الحق سبحانه وتعالى بكثير من العوالم الأخرى، إذ كانت كلّها قائمة على ما خلقها الخالق- سبحانه- دون أن تنحرف قيد أنملة.. أما عالم البشر وحده، ففيه انحرافات لم يسلم منها إنسان، إلا أنها فى رسل الله والمصطفين من عباده لا تعدو أن تكون ذبذبات خفيفة، لا تعكرّ صفوهم، ولا تميل بهم عن الصراط المستقيم..
والسّكرة: ما يعترى الإنسان من ذهاب عقله، بمعاطاة خمر أو نحوها، مما يذهب بالعقل..
والعمه: العمى والضلال..
قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ». الضمير فى أخذتهم، يعود إلى قوم لوط، ومشرقين أي عند الشّروق.. شروق الشمس.. والصيحة، هى العذاب الذي أهلكوا به.
قوله تعالى: «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» - هو بيان لآثار هذه الصيحة، وأنها قلبت القرية، فجعلت أعلاها أسفلها، أي أنها أتت على بنيانها، فجعلته أرضا.. ثم تبع ذلك مطر من حجارة موسومة، معّدة ومحمّلة بالمهلكات..
قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ».. المتوسّمون هم الذين يستدّلون على حقائق الأشياء بالسّمات الظاهرة أو الخفية منها.. وهذا لا يكون إلا عن نظر متفحّص، وبصيرة نافذة..
وهذا المصير الذي صارت إليه قرية لوط وأهلها، قد خلّف وراءه كومات من تراب.. فمن رآها بنظر غافل، وعقل شارد، لم ير إلا التراب المهيل، ومن تفحص فيما وراء هذا التراب، رأى ما يجنى الضلال على أهله، وما يخلف الهوى من شؤم وبلاء وراءه.
قوله تعالى: «وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ».. أي إن هذه القرية لا تزال من مخلفات الدمار والهلاك.. قائمة حيث كانت، يراها كل من يمر بها فى هذه المواطن..
ومن إعجاز القرآن هنا ما نجده فى اختلاف النظم بين فاصلتى الآيتين فى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» وفى قوله سبحانه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ».. ومن أسرار هذا الاختلاف:
أولا: أن المتوسّمين- وهم كما قلنا- أصحاب البصر الحديد والبصيرة النافذة- تتكشف لهم من ظواهر الأشياء أمور لا تتكشف لغيرهم من سائر الناس..
فهم يرون آيات، على حين يرى غيرهم آية.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» وذلك فيما تحدّث به أخبار القوم الظالمين..
وثانيا: أن المؤمنين، أو من فى كيانهم استعداد للإيمان- هؤلاء، لا يحتاجون إلى كثير من الأدلة والبراهين، حتى يذعنوا للحق، ويهتدوا إلى الإيمان، وإنما تكفيهم الإشارة الدالّة، أو اللمحة البارقة، حتى يكونوا على طريق الإيمان.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ».. وذلك فيما تحدث به مخلّفات هؤلاء القوم الهالكين.
وثالثا: أن الإيمان أمره هيّن، ومراده قريب.. وأن القاصد إليه، الباحث عنه، لا يحتاج إلى معاناة نظر، أو كدّ ذهن، وكل ما يحتاج إليه فى تلك الحال، هو أن يخلى نفسه من التشبث، والعناد، والمكابرة، وأن يلقى وجه الإيمان بقلب سليم، ورأى مستقيم.. عندئذ يرى أن الإيمان أقرب شىء إليه، وآلف حقيقة عنده.. إذ كان جاريا مع الفطرة الإنسانية، متجاوبا مع أشواقها وتطلعاتها.
هذا، وقد جاء النظم القرآنى لقصّة لوط هنا، مخالفا لما جاء عليه فى مواضع
وفى مواضع أخرى جاء النظم القرآنى على غير هذا، كما يقول الله تعالى فى سورة «هود» مثلا: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» (الآيات: ٧٧- ٨١: هود) وترتيب الأحداث هنا غير ترتيبها فى النظم السابق.. كما ترى..
فما جواب هذا؟
والجواب- والله أعلم- هو أن الملائكة فى هذه الآيات- قد ألقوا بالبشرى إلى لوط، حين التقوا به، ورأوا ما دخل عليه منهم من خوف وفزع، فقالوا له: «لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ».. ثم جاءه قومه بعد ذلك، وكان ما كان منهم معه ومع الملائكة.. فكان من لوط كرب وضيق مما حلّ بالملائكة، وتشبث قومه بهم، ومحاولة الاعتداء عليهم، فكان حديث الملائكة له بقولهم: «إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» توكيدا لما حدّثوه به من قبل، وأنهم إذا كانوا على تلك الصفة فلن ينالهم أحد بمكروه.. ثم كان
الآيات: (٧٨- ٨٤) [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٨٤]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
التفسير:
أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب.. والأيكة: الشجر الكثيف، المجتمع بعضه إلى بعض..
و «إن» فى قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» هى إن المخففة من الثقيلة.. واللام فى قوله تعالى: «لَظالِمِينَ» هى لام التوكيد التي تدخل على خبر إنّ.. وقد دخلت هنا على خبر كان لأن كان هى ومعمولاها خبر لأن، واسم إنّ ضمير الشأن، والتقدير: وإنه كان أصحاب الأيكة لظالمين.
قوله تعالى: «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ»..
الإمام: المقدّم، والإمام من كل شىء مقدّمه، لأنه يكون أمامه.. والمراد به هنا: الهادي والمرشد.. والمبين: الواضح البيّن..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ» هو إشارة موجزة لقصة «ثمود» قوم «صالح» عليه السلام، وسمّوا أصحاب الحجر، لأن ديارهم كانت منحوتة فى الجبال، فكانت حجرا يحجرهم عن أىّ عدو يريدهم، من إنسان أو حيوان.. ومنه الحجر، وهو العقل، وقد سمى حجرا لأنه يحجر صاحبه عن السوء، ويعصمه من الزلل.
قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» الصيحة: الرّجفة، وهى نفس البلاء الذي نزل بقوم لوط، وقد أخذتهم «مصبحين» أي وقت الصبح، كما أخذت قوم لوط فى هذا الوقت «مشرقين» أي وقت الشروق.
وهذا هو السرّ فى الإشارة إلى قوم صالح هنا، دون قوم «هود»، كما اعتاد القرآن دائما أن يذكرهما معا..
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
التفسير:
قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن ما أخذ الله به أهل الضلال والعناد، ممن كفروا بالله، وآذوا رسله- هو من سنن الله فى خلقه، فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، ولم يخلقهما عبثا أو لهو، كما يقول سبحانه:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» (١٦. الأنبياء). والإنسان
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ» إشارة إلى حتمية الحساب والجزاء لهذين الكائنين- الجن والإنس- من بين المخلوقات جميعا..
إذ أنهما- كما قلنا- هما الكائنان اللذان يقع منهما الانحراف، ويكثر فيهما المنحرفون عن طريق الحق، الذي أقام لله سبحانه وتعالى الخلق عليه.
ففى هذا الجزاء الذي يلقاه المنحرفون تقويم لهم، وإصلاح لشأنهم..
- وفى قوله سبحانه: «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» عزاء للنبى، ومواساة له، وربط على قلبه، لما يلقى من عناد المعاندين، وسفاهة السفهاء من قومه..
فالساعة آتية، وفيها يسوّى حساب هؤلاء الضالين، فليلق النبىّ سفاهاتهم وحمقاتهم بالصفح الجميل، وليدعهم ليوم الفصل: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» (١٣- ١٤: الطور).
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» هو تعقيب على ما تضمنته الآية السابقة، من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق، وأن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما كسبت.. وفى وصف الحق جل وعلا بأنه «الخلاق» إشارة إلى أنه يبدع فيما خلق، يخلق.. السماء والأرض.. والنهار والليل، والملك والشيطان، والإنسان الذي يعلو فيكون مع الملائكة، ويسفّ فيكون مع الشياطين.. وفى وصفه سبحانه بأنه «العليم» إشارة أخرى إلى أن هذا
وفى إضافة النبي الكريم إلى ربه سبحانه وتعالى «ربك»، إيناس للنبى، وتكريم له، حيث تحفّه ألطاف ربه، الذي يدنيه إليه، ويضيفه إلى رحاب ذاته العليّة.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ».
اختلف فى السبع المثاني.. ما هى؟ فقيل إنها السبع الطوال من سور القرآن الكريم: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، (والأنفال، والتوبة. باعتبارهما سورة واحدة) وقيل إنها الحواميم السبعة، وهى غافر (المؤمن) والسجدة (فصلت) والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.. وقيل إنها الفاتحة.. (أم الكتاب).
والرأى الذي نطمئن إليه، أن السبع المثاني، هى الآيات السبع التي احتوتها أم الكتاب..
وسميت مثانى لأنها ثناء خالص على الله.. ليس فيها قصص، أو أحكام، أو غير هذا مما تضمنه القرآن الكريم.. فهذه السبع المثاني هى:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..» «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ..» «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..» «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ..» «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ..»
فهذا ثناء خالص على الله سبحانه. وتسبيح بحمده، وولاء بالعبادة له وحده، واستمداد للعون منه وحده، والبراءة من كل ما سواه.
وهذا دعاء خالص لله سبحانه، والدعاء تسبيح وعبادة، بل هو- كما قيل- مخّ العبادة..
فهذه الآيات السبع هى ثناء على الله.. سواء ما كان منها تسبيحا صريحا، أو تسبيحا فى صورة دعاء..
والمثاني، جمع مثناة، وهى مفعلة من الثناء، اسم مرّة، أو مصدر ميمى..
- قوله تعالى: «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» عطف على «سبعا». من عطف الكل على الجزء، إلفاتا إلى الجزء، واحتفاء به.. كما تقول أكلت العنب والفاكهة..
واختصاص الفاتحة بالذكر، مع أنها من القرآن الكريم، للتنويه بها، لأنها أم الكتاب، وهى التي اختصت من بين آيات القرآن الكريم بأن تكون الذكر الذي يذكر به الله سبحانه وتعالى فى الصلاة.. فمن صلى بغيرها كانت صلاته ناقصة، كما فى الأثر: «من صلّى بغير أم الكتاب فصلاته خداج» أي ناقصة، كما يولد المولود لغير تمام، فيقال: ولد خداجا..
وفى وصف القرآن الكريم بقوله تعالى: «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» إشعار بأن تقديم أم الكتاب عليه، وإن كان فيه تنويه بها، ورفع لقدرها، فإنه لا ينقص من عظمة القرآن، ولا ينزل من منزلته العالية التي لا تنال..
فهو القرآن العظيم.
قوله تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت تمهيدا لهذه
فقد ذكّر النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى الآية السابقة بما بين يديه من نعمة عظيمة، وفضل كبير من ربه.. فلقد آتاه الله السبع المثاني والقرآن العظيم.. وهذا عطاء لا توزن الدنيا كلها وأهلها، بكلمة من كلماته..
- وفى قوله تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» - استصغار لهذا الزخرف من الحياة الدنيا الذي جعله الله سبحانه وتعالى متاعا لهؤلاء المشركين الضالين، وإنه لا ينبغى للنبى الكريم أن يلتفت إلى شىء من هذا المتاع، راضيا بهذا الفضل العظيم الذي بين يديه من كلمات ربه، واصطفائه لتلقيها وحيا من السماء، مستغنيا عن كل ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع.
- وفى قوله تعالى: «أَزْواجاً مِنْهُمْ» إشارة إلى كثرة من أنعم الله عليهم، وابتلاهم بهذه النعم من المشركين.. فالأزواج كثرة، والأفراد قلة ثم إن التزاوج فى ذاته نعمة من نعم الله، كما يقول سبحانه مذكّرا بهذه النعمة: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (٨: النبأ).
وفى قوله تعالى «مِنْهُمْ» تهوين لشأنهم، وإضراب عن ذكرهم، بالحديث عنهم بضمير الغائب، فهم غائبون وإن كانوا حاضرين..
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» استخفاف بهم أيضا، وأنهم لا يستحقون أن يحزن النبي، أو يجد فى نفسه شيئا من هذا الضلال الذي هم فيه، ولهذا المصير المشئوم الذي ينتظرهم.. فهم أهل لهذا الضلال، وهذا المصير الذي هم صائرون إليه وإن كانوا أهله، وقرابته.
- وقوله تعالى: «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» احتفاء بشأن للمؤمنين، ورفع لمنزلتهم، وأن على النبي أن يلقاهم حفيّا بهم، مكرما لهم، متجاوزا عن هناتهم.
قوله تعالى: «كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ».
المقتسمين: الذين اقتسموا كلام الله، فأخذوا بعضه، وأعرضوا عن بعض..
وهؤلاء هم أهل الكتاب من اليهود الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم:
«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (٨٥: البقرة).. والعضين: جمع عضو، وأصله عضوين.
والتشبيه فى قوله تعالى: «كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ» يشير إلى المشبه، وهو قوله تعالى «وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» أي قل هذا القول لقومك، كما قاله الرسل السابقون إلى أقوامهم، فيما أنزلنا على هؤلاء المقتسمين من أهل الكتاب على يدرسلهم.. إذ كل رسول كان لسانه إلى قومه هو قوله:
«إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ».
- وقوله تعالى: «الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» هو صفة للمقتسمين، وكشف عن معنى ما اقتسموه، وهو القرآن الكريم الذي قبلوا بعضه، وردّوا بعضه، فجعلوه أبعاضا، وهذا- فوق أنه كفر- هو سفه، ومكر بآيات الله.. فإن الحقّ كيان واحد، فإما أن يقبل كله، أو يرد كلّه..
والقرآن الكريم إما أن يكون كلام الله، فيقبل، أولا يكون من كلام الله،
قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» تهديد لهؤلاء المشركين المعاندين من قريش، وهؤلاء المكذبين المنافقين من أهل الكتاب، ولهذا جاء قوله تعالى «أجمعين» جامعا لهم جميعا فى موقف المساءلة، والجزاء..
قوله تعالى. «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ».
الصدع: أصله الشقّ فى المواد الجامدة.. ومنه قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (٢١: الحشر).
والمراد بالصدع الذي أمر به النبي هنا، هو أن يكشف عما أوحى إليه من ربّه، وأن يظهره للناس، ويبلغه إياهم.. والتعبير عن هذا بالصدع، يشير إلى أمرين:
فأولا: أن هذه المهمة التي يقوم بها النبي مهمة شاقة عسيرة، من شأنها أن يتصدع لها كيان الإنسان، كما تتصدع الأرض حين تنشق عن النيات المخبوء فى صدرها.. كما يقول جل شأنه: «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» (١١- ١٢: الطارق)، وإلى ثقل هذه المهمّة يشير قوله تعالى:
«إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» (٥: المزمل) وثانيا: أن هذا الذي يصدع به النبىّ ويخرجه من صدره، هو مما تتزوّد به النفوس، وتحيا عليه القلوب، كما تتزود الأجساد بما تخرج الأرض من حب وثمر، يمسك وجودها، ويحفظ حياتها..
قوله تعالى: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» هو تطمين للنبىّ، وتثبيت له على طريق دعوته، وعون من الله له، على أداء مهمته الثقيلة. وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيتولى حساب
- وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المستهزئين بالرسول، الكافرين بالله..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ».
التعبير بفعل المستقبل «نعلم» مع أن علم الله سبحانه وتعالى حاضر- إشارة إلى أن ما كان من المشركين من استهزاء بالنبي، وما يكون منهم، فإن الله يعلمه علما قديما قبل أن يكون، وعلما مقارنا للفعل بعد أن يقع.
وما يقوله المشركون مما يضيق به صدر النبي، هو ما يرمونه به من قولهم:
شاعر مجنون، وقولهم: هو كاذب، وقولهم: هو ساحر.. مما حكاه القرآن من مقولاتهم الحمقاء فى النبىّ الكريم..
- وقوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» هو إلفات للنبى ألّا يعطى أذنه لهذا اللغو الذي يلغو به هؤلاء المشركون، وأن يدع أمرهم إلى الله، فهو الذي يعلم ما يأتون من منكرات فى جانب النبىّ، والله سبحانه هو الذي يتولّى حسابهم، ويكفيه استهزاءهم.. ومن ثمّ وجب على النبىّ أن يتجه بكيانه كله إلى حمد ربّه، والسجود له، حمدا وشكرا، على ما أولاه من نعمه، وأفضاله..
- وقوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» معطوف على ما قبله وهو