تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
.
لمؤلفه
الصاوي
.
المتوفي سنة 1241 هـ
ﰡ
قوله: ﴿ طسۤمۤ ﴾ هكذا كتبت متصلة بعضها ببعض، وفي محصف ابن مسعود: ط س م مفصولة من بعضها وبها قرئ، فيقف على كل حرف وقفة يميز بها كل حرف، وقرئ هنا وفي القصص بكسر الميم على البناء، وأمال الطاء بعض القراء. قوله: (الله أعلم بمراده بذلك) تقدم أن هذا القول أصح وأسلم. قوله: ﴿ تِلْكَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ خبره، واسم الإشارة عائد على آيات هذه السورة. قوله: (بالإضافة بمعنى من) أي والمعنى آيات من الكتاب. قوله: (المظهر الحق من الباطل) أشار بذلك إلى أن المبين من أبان بمعنى أظهر، ويصح أن يكون من باب اللازم بمعنى ظهر، أي الظاهر إعجازه.
قوله: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾ هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، والباخع من بخع من باب نفع: قتل نفسه من وجد أو غيظ. قوله: (ولعل هنا للاشفاق) أي فالترجي بمعنى الأمر، والمعنى ارحم نفسك وارأف بها. قوله: (أي أشفق عليها) بقطع الهمزة من الرباعي وبوصلها من الثلاثي، والأول إن تعدى بمن كان بمعنى الخوف، وإن تعدى بعلى كان بمعنى الرحمة والرفق. قوله: ﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ ﴾ الخ، هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان حقيقة أمرهم، والمعنى لا تحزن على عدم إيمانهم، فإننا لو شئنا إيمانهم لأنزلنا عليهم معجزة تأخذ بقلوبهم، فيؤمنون قهراً عليهم، ولكن سبق في علمنا شقاؤهم، فعدم إيمانهم منا لا منهم، فأرح نفسك من التعب القائم بها، و ﴿ إِن ﴾ حرف شرط، و ﴿ نَّشَأْ ﴾ فعل الشرط، و ﴿ نُنَزِّلْ ﴾ جوابه. قوله: ﴿ آيَةً ﴾ أي معجزة تخوفهم، كرفع الجبل فوق رؤوسهم، كما وقع لبني إسرائيل. قوله: (بمعنى المضارع) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ فَظَلَّتْ ﴾ مستأنف، ويصح أن يكون معطوفاً على ﴿ نُنَزِّلْ ﴾، فهو في محل جزم. قوله: (ولما وصفت الأعناق بالخضوع) ألخ، دفع بذلك ما يقال: كيف جمع الأعناف بجمع العقلاء؟ فأجاب: بأنه لما ناسب الخضوع لها، وهو وصف العقلاء، جميعها بالياء والنون كقوله تعالى:﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾[يوسف: ٤]﴿ قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾[فصلت: ١١]، وإلا فكان مقتضى الظاهر أن يقول خاضعة، وهناك أجوبة أخر، منها أن المراد بالأعناق الرؤساء، ومنها أن لفظ الأعناق مقحم والأصل فظلوا لها خاضعين، ومنها غير ذلك. قوله: ﴿ مِّن ذِكْرٍ ﴾ ﴿ مِّن ﴾ زائدة، وقوله: ﴿ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ﴾ ﴿ مِّنَ ﴾ ابتدائية. قوله: (صفة كاشفة) أي لأنه فهم من قوله: ﴿ يَأْتِيهِم ﴾، لأن التعبير بالفعل يفيد التجدد والحدوث. قوله: ﴿ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴾ أي غير متأملين. قوله: (عواقب) أي وعبر عنها بالأنباء، لأن القرآن أخبر عنها، والمراد ننزل بهم مثل ما نزل بمن قبلهم. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ ﴾ أي إلى عجائبها، والهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة عليه، والتقدير أغفلوا ولم ينظروا إلى الأرض الخ، وهذا بيان للأدلة التي تحدث في الأرض وقتاً بعد وقت، تدل على أنه منفرد بالألوهية، ومع ذلك استمر أكثرهم على الكفر. قوله: ﴿ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا ﴾ ﴿ كَمْ ﴾ في محل نصب مفعول لأبنتنا، و ﴿ مِن كُلِّ زَوْجٍ ﴾ تمييز لها. قوله: (نوع حسن) أي كثير النفع.
قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾ الخ، قد ذكرت هذه الآية في هذه السورة ثمان مرات. قوله: (في علم الله) هذا مبني على أصالة ﴿ كَانَ ﴾، وقوله: (وكان قال سيبويه) الخ، توجيه ثان فكان المناسب أن يقول: وقال سيبويه كان زائدة. قوله: (ذو العزة) أي الهيبة والجلال. قوله: (ينتقم من الكافرين) أي بمظهر عزته الذي هو القهر والغلبة، وقوله: (يرحم المؤمنين) أي بمظهر رحمته. قوله: ﴿ وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ ﴾ الخ، ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص: أولها قصة موسى وهارون، ثانيها قصة إبراهيم، ثالثها قصة نوح، رابعها قصة هود، خامسها قصة صالح، سادسها قصة لوط، سابعها قصة شعيب، وتقدم حكمة ذكر تلك القصص، أن بها تكون الحجة على الكافرين، والزيادة في علم المؤمنين، ولذا كان المؤمن من هذه الأمة أسعد السعداء، وكافرها أشقى الأشقياء، وحكمة التكرار الزيادة في إيمان المؤمن، وقطع حجة الكافر، والظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر)، وليس المراد به ذكر وقت المناداة، بل المراد ذكر القصة الواقعة في ذلك الوقت. قوله: (ليلة رأى النار والشجرة) أي رأى النار موقدة في الشجرة الخضراء، وليس هذا مبدأ ما وقع في المناداة، وإنما هو ما فصل في سورة طه من قوله تعالى:﴿ إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً ﴾[طه: ١٠] إلى قوله:﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ ﴾[طه: ٢٣].
قوله: ﴿ أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ يصح أن تكون ﴿ أَنِ ﴾ مصدرية كما مشى عليه المفسر، أو مفسرة لتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، وكان النداء بكلام نفسي، سمعه من جميع جهاته بجميع أجزائه من غير واسطة. قوله: (رسولاً) حال من فاعل ﴿ ٱئْتِ ﴾.
قوله: ﴿ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ﴾ بدل من القوم الظالمين، وقوله: (معه) أي فرعون، وهذا قد فهم بالأولى لأنه رأس الضلال. قوله: (وبني إسرائيل) معطوف على (أنفسهم)، والتقدير وظلموا بني إسرائيل. قوله: (باستبعادهم) أي معاملتهم إياهم معاملة العبيد في استخدامهم في الأعمال الشاقة والصنائع الخسيسة نحو أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين. قوله: (للاستفهام الإنكاري) المناسب أن يقول للاستفهام التعجبي، لأن المعنى على الإنكار فاسد، لأنه للنفي، ومدخولها نفي، ونفي النفي إثبات، فيصير المعنى أنهم اتقوا الله وليس كذلك، ويصح أن تكون ألا للعرض. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ ﴾ الخ، اعتذار من موسى لإظهار العجز عن الأمر الذي كلفه، وقد أتى بثلاثة أعذار، كل واحد منها مرتب على ما قبله.
قوله: ﴿ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي ﴾ هما بالرفع على الاستئناف، أو عطف على خبر إن عند السبع، وقرئ شذوذاً بنصهما عطفاً على مدخول أن، والمقصود من هذا الاعتذار، الإعانة على هذا الأمر المهم، بشرح الصدر، وطلق اللسان، وإرسال أخيه، والأمن من القتل، وقد دل على ذلك قوله: في سوة طه﴿ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي * وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ﴾[طه: ٢٥-٢٧] الآيات. قوله: (للعقدة التي فيه) أي الثقل الحاصل بسبب وضع الجمرة عليه وهو صغير، حين نتف لحية فرعون، فاغتم لذلك وهم بقتله، فأشارت عليه زوجته أن يمتحنه، فقدم له تمرة وجمرة، فأخذ الجمرة بتحويل جبريل يده فوضعها على لسانه، فحصل فيه ثقل في النطق. قوله: ﴿ فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ﴾ أي وكان في مصر، فأتاه جبريل بالرسالة على حين غفلة، فموسى جاءته الرسالة من ربه بلا واسطة جبريل، وإن كان حاضراً، وهارون جاءته الرسالة في ذلك الوقت أيضاً بواسطة جبريل. قوله: (معي) أي ليكون معيناً لي، وهو بمعنى قوله في سورة القصص﴿ فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ﴾[القصص: ٣٤].
قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ ﴾ أي في زعمهم. قوله: ﴿ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ أي فيفوت المقصود من الإرسال. قوله:(فيه تغليب الحاضر على الغائب) أي بالنسبة لموسى، وإلا فهما حاضران بالنسبة لله تعالى، لكن سمع موسى الخطاب من الله بلا واسطة، وهارون سمعه بواسطة جبريل. قوله: ﴿ بِآيَاتِنَآ ﴾ جمع الآيات مع أنهما اثنان العصا واليد، باعتبار ما اشتملت العصا عليه من الآيات له. قوله: ﴿ إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ أي معية خاصة بالعون والنصر. قوله: (أجريا مجرى الجماعة) أي تعظيماً لهما. قوله: (أي كلاً منا) قدر ذلك لتحصل المطابقة بين اسم إن وخبرها، الذي هو الرسول حيث أفرده. قوله: ﴿ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ أي خلصهم وأطلقهم. قوله: (فأتياه) الخ، أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا ﴾ الخ، مرتب على محذوف، روي أنهما لما انطلقا إلى فرعون، لم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البواب على فرعون وقال له: ههنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال له فرعون: ائذن له لعلنا نضحك معه، فدخلا عليه فوجداه قد أخرج سباعاً من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف خدامها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا أليهما وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتلصق خدودها بفخذيهما فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قال: أنا رسول رب العالمين، فعرف موسى، لأنه نشأ في بيته فقال: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾ الخ، فامتن عليه أولاً بنعمة التربية، وثانياً بعدم مؤخذاته بما وقع منه من قتل القبطي. قوله: (قريباً من الولادة) قصده بذلك دفع ما ورد على الآية، بأن الوليد يطلق على المولود حال ولادته، وليس مراداً هنا، فإنه كان زمن الرضاع عند أمه، ثم أخذه فرعون بعد الفطام، والأولى إبقاء الآية على ظاهرها، لأن موسى وإن كان عند أمه، إلا أنه تحت نظر فرعون، فهو في تربيته من حين ولادته. قوله: ﴿ مِنْ عُمُرِكَ ﴾ حال من سنين، لأنه نعت نكرة قدم عليها.
قوله: (وعدم الاستبعاد) أي اتخاذك لي عبداً مثل بني إسرائيل. قوله: (حينئذ) هذا حل معنى لا حل اعراب، وهي حرف جواب فقط، وقيل حرف جواب وجزاء. قوله: (عما آتاني الله بعدها) الخ، أي فليس عليَّ فما فعلته في تلك الحالة لوم؛ لعدم التكليف حينئذ، أو المعنى من المخطئين لا من المتعمدين. قوله: ﴿ وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ في ذلك رد لما وبخه به فرعون، وهو القتل بغير حق، فكأنه قال: فكيف تدعي الرسالة، وقد حصل منك ما يقدح في تلك الدعوى؟ فأجابه موسى بأنه قتله قبل أن تأتيه الرسالة، ثم أتته بعد ذلك. قوله: ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ ﴾ مبتدأ وخبر، وقوله: ﴿ تَمُنُّهَا ﴾ صفة لنعمة، و ﴿ أَنْ عَبَّدتَّ ﴾ الخ، عطف بيان موضح للمبتدأ، كما قاله المفسر. قوله: (أصله تمن بها علي) أي فحذف الجار فاتصل الضمير، فهو من باب الحذف والايصال. قوله: (ولم تستعبدني) أي فلا منه لك علي في عدم استبعادك إياي، لأن استبعادك غيري ظلم، وقد نجاني الله منه. قوله: (وقدر بعضهم) أي وهو الأخفش. قوله: (أول الكلام) أي والأصل أو تلك نعمة، الخ. قوله: (للإنكار) أي وهو بمعنى النفي. قوله: (أي أي شيء هو) أي وذلك لأن ما يسأل بها عن الحقيقة. والمعنى أي جنس هو من أجناس الموجودات. قوله: ﴿ وَمَا بَيْنَهُمَآ ﴾ أي جنس السماوات والأرض، فاندفع ما قيل: لم ثني الضمير مع أن مرجعه جمع؟. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ﴾ أي محققين أن الله تعالى هو الخالق لها.
قوله: (من أشراف قومه) أي وكانوا خمسمائة لابسين الأساور، ولم يكن يلبسها إلا السلاطين على عادة الملوك. قوله: (الذي لم يطابق السؤال) أي لأن ما يسأل بها عن الحقيقة، وقد أجابه بالصفات التي يسأل عنها بأي، والعدول عن المطابقة، لأن السؤال عن الحقيقة عبث وسفه لاستحالته. قوله: ﴿ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ إنما ذكر ذلك لأن نفوسهم أقرب الأشياء اليهم. قوله: (وهذا) أي الجواب. قوله: (ولذلك) أي لشدة غيظه. قوله: ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ﴾ سماه رسولاً استهزاء، وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له. قوله: ﴿ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ﴾ أي فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق، ويذهب بها من المغرب. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي إن كان لكم عقل، وفيه رد لقوله: ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾.
قوله: ﴿ قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي ﴾ الخ، عدول عن الحاجة إلى التهديد، لقصر حجته وجهله وعدم استقامته، روي أنه فزع من موسى فزعاً شديداً، حتى كان اللعين لا يمسك بوله. قوله: (أي أتفعل ذلك) أشار إلى أن الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف. قوله: ﴿ قَالَ فَأْتِ بِهِ ﴾ إنما أمر فرعون بالإتيان به، لظنه أنه يقدر على معارضته. قوله: ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾ أي من جيبه، قيل لما رأى فرعون الآية الأولى قال: هل لك غيرها؟ فأخرج يده فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق. قوله: (من الأدمة) أي السمرة. قوله: ﴿ حَوْلَهُ ﴾ ظرف في محل الحال. قوله: ﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ ﴾ لما رأى تلك الآيات الباهرة، خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستقلاً بالرأي والتدبير، وأراد تنفيرهم عن موسى عليه السلام. قوله: ﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ أي أي شيء تأمروني به. قوله: ﴿ يَأْتُوكَ ﴾ مجزوم في جواب الأمر. قوله: (يفضل موسى) أي يفوقه ويزيد عليه. قوله: (من يوم الزينة) كان يوم عيد لهم، وقيل كان يوم سوق.
قوله: (والترجي على تقدير غلبتهم) أي الترجي على فرض الغلبة المقتضية للاتباع. قوله: (على وجهين) أي تحقيقها وتسهيل الثانية، وكان عليه أن يقول وتركه، أي ترك الإدخال على الوجهين، فتكون القراءات أربعاً. قوله: ﴿ لأَجْراً ﴾ أي أجرة وجعلاً. قوله: ﴿ قَالَ نَعَمْ ﴾ أي لكم الأجرة على عملكم السحر، وزادهم بقوله: ﴿ وَإِنَّكُمْ إِذاً ﴾ الخ قوله: (فالأمر فيه) جواب عما يقال: كيف يأمرهم بفعل السحر، مع أنه لا يجوز الأمر به، لأن الأمر به رضا، والرضا بالكفر كفر، وحاصل الجواب: أن الممتنع الأمر به في حال كونه مستحسناً له، وأما الأمر به للتوسل لإبطاله، فليس فيه استحسان ولا رضا، بل هو الممدوح شرعاً. قوله: ﴿ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ ﴾ أي نقسم ونحلف بعزة فرعون، وأقسموا لفرط اعتقادهم في أنفسهم أنهم غالبون. قوله: (من الأصل) أي أصل الصيغة. قوله: (يقلبونه) أي يغيرونه عن حاله الأول من الجمادية، إلى كونه حية تسعى. قوله: (بتمويههم) الباء سببية. قوله: ﴿ فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ ﴾ أي خروا وسقطوا ساجدين لما رأوا من باهر المعجزة، فلم يتمالكوا أنفسهم. قوله: ﴿ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ﴾ بدل مما قبله للتوضيح وللإشعار، بأن سبب إيمانهم، ما أجراه الله على يد موسى وهارون. قوله:(وإبدال الثانية ألفاً) صوابه الثالثة لأنها هي المنقلبة ألفاً، وترك قراءة أخرى، وهي حذف الأولى من الهمزتين وقلب الثانية ألفاً. قوله: (فعلمكم شيئاً منه وغلبكم بآخر) أي أخفاه منكم، وأراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه، لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا على بصيرة وظهور حق. قوله: ﴿ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ﴾ حاصله أنهم لما آمنوا بأجمعهم، اشتد خوف فرعون على باقي قومه من دخولهم في الايمان، فنفر الباقي بقوله: ﴿ لأُقَطِّعَنَّ ﴾ الخ.
قوله: ﴿ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾ تعليل لنفي الضمير، وهل فعل بهم ما توعدهم به خلاف، ولم يرد في القرآن ما يدل على أنه فعل. قوله: (في زماننا) أي من أتباع فرعون، فلا ينافي أن بني إسرائيل سبقوهم بالايمان. قوله: ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ ﴾ يحتمل أن يكون بتكليم الله له، أو على لسان جبريل. قوله: (بعد سنين) أي ثلاثين، وذلك أن موسى مكث في مصر أولاً ثلاثين، وفي مدين عشر سنين، ثم لما رجع إلى مصر ثانياً، مكث يدعوهم إلى الله ثلاثين سنة، ثم أغرق الله فرعون وقومه، وعاش بعد ذلك خمسين سنة، فجملة عمره مائة وعشرون سنة. قوله: (بآيات الله) أي باقي التسع، لأن موسى افتتحهم أولاً بالعصا واليد فلم يؤمنوا، فجاءهم بالسنين المجدبة، ثم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس على أموالهم، فلم يفد فيهم ذلك، وقد سبق ذلك مفصلاً في الأعراف. قوله: ﴿ بِعِبَادِيۤ ﴾ الإضافة للتشريف، والمعنى سر بعبادي المختصين برحمتي، وإلا فكل من حيث الخلق عباده. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي سر بهم ليلاً) تفسير لكل من القراءتين. قوله: (إلى البحر) أي بحر القلزم، فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل في آخر الليل، فترك طريق الشام على يساره وتوجه جهة البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يراجعه في ذلك فيقول: هكذا أمرني ربي، فلما أصبح فرعون، وعلم بسير موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه الجيوش. قوله: ﴿ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ ﴾ علة للأمر بالسير. قوله: (حين أخبر بسيرهم) روي أن قوم موسى قالوا لجماعة فرعون: إن لنا في هذه اللية عيداً، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك جمع قومه وتبعهم. قوله:(ومقدمة جيشه) الخ، أي وجملة جيشه ألف ألف وستمائة. قوله: (فاعلون ما يغيضنا) أي حيث خالفوا ديننا، وطمسوا على أموالنا، وقتلوا أبكارنا، لما روي أن الله أمر الملائكة أن يقتلوا أبكار القبط، وأوحى إلى موسى أن يجمع بني إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم يذبحوا أولاد الضأن، ويلطخوا أبوابهم بدمائها لتميز الملائكة بيوت بني إسرائيل من بيوت القبط، فدخلت الملائكة فقتلت أبكارهم، فأصبحوا مشغولين بموتاهم، وهذا هو سبب تأخر فرعون وقومه عن موسى وقومه. قوله: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ أي من عادتنا الحذر والحزم في الأمور، قوله: (وفي قراءة) الخ، أي وهي سبعية أيضاً بمعنى الأولى، وقيل الحذر المتيقظ، والحاذر الخائف. قوله: (كانت على جانبي النيل) أي من أسوان إلى رشيد، قال كعب الأحبار: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله تعالى في الدنيا: سيحان وجيجان والنيل والفرات، فيسحان نهر الماء في الجنة، وجيجان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة. قوله: (أموال ظاهرة) هذا أحد قولين، وقيل المراد بالكنوز الأموال التي تحت الأرض وخصها بالذكر، لأن ما فوق الأرض انطمس، وحينئذ فتسميتها كنوزاً ظاهراً. قوله: (مجلس حسن للأمراء والوزراء) قيل كان إذا قعد على سريره، وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب، يجلس عليها الاشراف من قومه والامراء وعليهم قبة الديباج مرصعة بالذهب، وقيل المقام الكريم المنابر، وكانت ألف منبر لألف جبار، يعظمون عليها فرعون وملكه. قوله: (إخراجنا كما وصفنا) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر لمحذوف. قوله: ﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا ﴾ أي الجنات والعيون والكنوز، وقيل المراد أورثنا بني إسرائيل ما استعاروه من حلي آل فرعون، والأحسن أن يراد ما هو أعم، فإن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه، وملكوا مشارق الأرض ومغاربها. قوله:(وقت شروق الشمس) أي يوم الملاقاة، وليس المراد أنهم أدركوا بني إسرائيل يوم خروجهم، لأنهم تأخروا عنهم، حتى جمعوا جيوشهم ودفنوا موتاهم. قوله: (أي لن يدركونا) أشار بذلك إلى أن كلا للنفي. والمعنى لا سبيل لهم علينا، لأن الله وعدنا بالخلاص منهم.
قوله: ﴿ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ ﴾ الخ، قيل لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر، هاج البحر فصار يرمي بموج كالجبال، فصار بنو إسرائيل يقولون: أين أمرت، فرعون من خلفنا والبحر أمامنا، وموسى يقول: ههنا، فأوحى الله اليه أن اضرب بعصاك البحر، فإذا الرجال واقف على فرسه، ولم يبتل سرجه ولا لبده. قوله: (اثني عشر فرقاً) أي قطعة بعدد أسباط بني إسرائيل. قوله: (بينها مسالك) أي بين الاثني عشر فرقاً. قوله: (على هيئته) أي وهي انفلاقه اثنتي عشرة فرقة. قوله: (وحزقيل) المذكور في قوله تعالى:﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾[غافر: ٢٨] الخ، وقوله: (ومريم بنت ناموسي) أي كانت عجوزاً تعيش من العمر نحو سبعمائة سنة. قوله: (التي دلت على عظام يوسف عليه السلام) أي وسبب ذلك: أن الله أمر موسى بأخذ يوسف معه إلى الشام حين خروجه من مصر، فسأل عن قبره فلم يعرف إذ ذاك، فدلته عليه هذه العجوز، بعد أن ضمن لها موسى على الله الجنة، وكان يوسف قد دفن في قعر بحر النيل، فحفر عليه موسى وأخرجه وذهب به إلى الشام.- فائدة - قال قيس بن حجاج: لما فتحت مصر، أتى أهلها إلى سيدنا عمرو بن العاص حين دخل بؤونة من أشهر القبط، فقالوا: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة وعادة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، أرضينا أبويها وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام ليهدم ما قبله، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى، لا يجري قليلاً ولا كثيراً وهموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص، كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني بعثت اليك بطاقة في داخل كتابي، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص، أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم، فأصبحوا وقد زاد تلك الليلة ستة عشر ذراعاً، وقطع الله تلك السيرة من تلك السنة. قوله: ﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ عطف على (اذكر) العامل في قوله:﴿ وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ ﴾[الشعراء: ١٠] الخ، عطف قصة على قصة. قوله: (أي كفار مكة) خصهم بالذكر لأنهم الحاضرون وقت نزول الآية، وإلا فهو خطاب لهم ولمن بعدهم إلى يوم القيامة. قوله: (ويبدل منه) أي بدل مفصل من مجمل: قوله: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ ﴿ مَا ﴾ اسم استفهام معمول لتعبدون، والمعنى ما هذا الذي تعبدونه، أي ما حقيقته. قوله: (صرحوا بالفعل) الخ، جواب عما يقال: كان القياس أن يقولوا أصناماً كقوله:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ﴾[البقرة: ٢١٩] فأجاب بأنهم صرحوا بالفعل، ليعطفوا عليه ما فيه الافتخار. قوله: (أي نقيم نهاراً على عبادتها) هذا معنى نظل الأصلي، ولكن مقتضى الافتخار، أن يكون معناها ندوم على عبادتها ليلاً ونهاراً. قوله: (زادوه) أي قوله: ﴿ فَنَظَلُّ ﴾ الخ.
قوله: ﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ﴾ أتى بالمضارع إشارة إلى أن هذا الوصف مستمر وثابت في الأصنام في الماضي والحال والاستقبال، ولا بد من محذوف هنا، دل عليه قوله: ﴿ إِذْ تَدْعُونَ ﴾ تقديره هل يسمعون دعاءكم، قوله: ﴿ إِذْ تَدْعُونَ ﴾ ﴿ إِذْ ﴾ هنا بمعنى إذا، استحضاراً للحال الماضية وحكاية لها تبكيتاً عليهم. قوله: ﴿ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ﴾ الخ، هذا الجواب يفيد تسليم ما قاله إبراهيم، وإنما اعتذروا عن ذلك بالتقليد، فلما لم يجدوا مخلصاً غيره احتجوا به. قوله: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة عليه، والتقدير أتأملتم فعلكم أو أبصرتم ما كنتم تعبدون. قوله: ﴿ وَآبَآؤُكُمُ ﴾ عطف على الضمير في ﴿ تَعْبُدُونَ ﴾ وهو ضمير رفع متصل، فلذا فصل بالضمير المنفصل، قال ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل عطفت فافصل بالضمير المنفصلقوله: ﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ ﴾ أسند العداوة لنفسه تعريضاً بهم، وهو أبلغ في النصيحة من التصريح بأن يقول فإنهم عدو لكم، إن قلت: كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي لا تعقل؟ أجيب بأجوبة منها: أن المعنى عدو لي يوم القيامة إن عبدتهم في الدنيا، ومنها أن الكلام على حذف مضاف؛ أي فإن أصحابهم عدو لي، ومنها أن الكلام على القلب أي فإني عدو لهم. قوله: ﴿ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أشار المفسر بقوله: (لكن) إلى أن الاستثناء منقطع، والمعنى لكن رب العالمين ليس بعدوي، بل هو ولي في الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَنِي ﴾ نعت لرب العالمين، أو بدل أو عطف بيان أو خبر لمحذوف، وما بعده عطف عليه. قوله: ﴿ فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ أتى بالفاء هنا، وفي قوله: ﴿ يَشْفِينِ ﴾ لترتب الهداية على الخلق والشفاء على المرض، بخلاف الإطعام والإسقاء، فليس بينهما ترتب، وأتى بثم في جانب الأحياء، لبعد زمنه عن زمن الموت، لأن المراد به الاحياء في الآخرة، قوله: (إلى مدين) أي وغيره من مصالح دنياي وآخرتي، وإنما خص الدين، لأن المقام للرد ولأنه أهم. قوله: ﴿ وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾ أي في الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ أسند المرض لنفسه، وإن كان الكل من الله تأدباً كما قال تعالى:﴿ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ﴾[آل عمران: ٢٦] ولم يقل الشر، وقال الخضر:﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾[الكهف: ٧٩]، وقال﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا ﴾[الكهف: ٨٢].
قوله: ﴿ وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ ﴾ عبر بالطمع المفيد عدم الأخذ في الأسباب، مع أنها حاصلة منه لعدم اعتماده عليها. قوله: ﴿ أَن يَغْفِرَ لِي ﴾ ذكر ذلك تواضعاً وتعليماً للأمة، وإلا فهو معصوم من الخطايا، قوله: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً ﴾ لما ذكر تلك الأوصاف قوي رجاؤه في ربه، فطلب منه معالي الأمور، وخير الدنيا والآخرة. قوله: (علماً) أي زيادة فيه. قوله: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي في العمل أو في درجات الجنة. قوله: ﴿ وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ ﴾ من اضافة الموصوف للصفة، أي ذكراً حسناً، من باب تسمية الشيء باسم آلته. قوله: (الذين يأتون بعدي) وقد أجابه الله تعالى، فما من أمة من الأمم، إلا وهي تحييه وتثني عليه بخير، سيما هذه الأمة المحمدية خصوصاً في المؤمنين منهم، فإنهم يذكرونه بخير في كل تشهد، وإنما طلب ذلك لينتفع به هو، وينتفع به المثني، لكن بشرط الإيمان، وأما حديث:" من أحب قوماً حشر معهم وإن لم يعمل بعملهم "فمعناه: إذا اشتركوا معهم في الإيمان وإن لم يصلوا لمقامهم. قوله: ﴿ مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ ﴾ أي مندرجاً فيهم ومن جملتهم، وأضافة جنة النعيم من اضافة المحل إلى الحال فيه، فالمراد مطلق الجنة لا خصوص الدار المسماة بذلك، وقد أجابه الله في جميع دعواته، سوى الدعاء بالغفران لأبيه. قوله: (بأن تتوب عليه) الخ، ظاهره أن هذا الدعاء صدر من إبراهيم وأبوه حي، ولكن ينافيه قوله: (وهذا قبل أن يتبين له) فإن التبين المذكور، إنما حصل بموته كافراً، وحينئذ فلا يصح جعله قيداً للدعاء له في حياته بالتوفيق للإيمان، وإنما يصح لو كان المراد الدعاء له بمغفرة الذنوب على حالته التي هو عليها، وأجيب: بأنه لا مانع أن الله أعلم إبراهيم بموت أبيه كافراً وهو حي، فقد صح ما قاله المفسر. قوله: (وهذا) أي الدعاء له بما ذكر. قوله: (كما ذكر في سورة براءة) أي قوله:﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ﴾[التوبة: ١١٤].
الآية. قوله: (تفضحني) أي تكشف عيوبي بين خلقك، وهذا تواضع منه أو بالنظر للتجويز العقلي، فإن تعقيب المطيع جائز عقلاً لا شرعاً. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ﴾ الخ، من كلام الله تعالى، ويصح أن يكون من كلام إبراهيم، فيكون بدلاً من يوم قبله. قوله: (لكن) ﴿ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ ﴾ الخ؛ أشار المفسر بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، ولكن ينافيه تقديره أحداً، فتحصل أن الاستثناء، إما منقطع إن جعل من قوله: ﴿ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ﴾ ويكون المعنى (لكن) ﴿ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ فإنه ينتفع، أو متصل أن جعل من المفعول الذي قدره المفسر، والتقدير لا ينفع المال والبنون أحداً إلا الذي أتى الله بقلب سليم، فإنه ينفعه المال والبنون. قوله: (وهو قلب المؤمن) أي فينتفع بالمال الذي أنفقه في الخير والولد الصالح بدعائه له لما في الحديث:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ".
قوله: ﴿ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أي بحيث يشاهدونها في الموقف ويعرفون ما فيها، فتحصل لهم البهجة والسرور، وعبر بالماضي لتحقيق الحصول، قوله: ﴿ وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴾ أي جعلت لهم بارزة ظاهرة، بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع العذاب، فتحصل لهم المساءة والأحزان، ويوقنون بأنهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفاً. قوله: ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ﴾ أي على سبيل التوبيخ. قوله: ﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴾ ﴿ أَيْنَ ﴾ أي خبر مقدم، و ﴿ مَا ﴾ مبتدأ مؤخر.
﴿ كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴾ صلة ما والعائد محذوف تقديره تعبدونه، وقوله: ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ حال. قوله: (ألقوا) أي مرة بعد أخرى، لأن الكبكبة تكرير الكب، وهو الإلقاء على الوجه، كأن من ألقى في النار، ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها. قوله: ﴿ ٱلْغَاوُونَ ﴾ عطف على ضمير كبكبوا، وسوغه الفصل بالجار والمجرور وضمير الفصل. قوله: (ومن أطاعه) عطف تفسير. قوله: ﴿ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴾ الجملة حالية، ، ومقول القول ﴿ تَٱللَّهِ ﴾ الخ. قوله: (واسمها محذوف) الخ، قد يقال إنها في الآية مهملة، فلا اسم لها ولا خبر لوجود اللام، قال ابن مالك: وخففت إن فقل العمل الخ. قوله: ﴿ إِذْ نُسَوِّيكُمْ ﴾ ظرف لكونهم في ضلال مبين. قوله: (أو أولونا) أي السابقون علينا، وهو جمع أول. قوله: (من الملائكة والنبيين) الخ، فالشفعاء تكثر للمؤمنين لما ورد: لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة. قوله: ﴿ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ أفرد الصديق وجمع الشفعاء، لكثرة الشفعاء في العادة، وقلة الصديق والحميم القريب من قولهم حامة فلان أي خاصته أو الخالص، ويؤيده قول المفسر (أي يهمه أمرنا)، وقوله: (يهمه) بضم أوله وكسر ثانية، وبفتح أوله وضم ثانيه. قوله: (ونكون جوابه) أي فهو منصوب في جواب التمني.
قوله: ﴿ لآيَةً ﴾ أي عظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها على أحسن ترتيب. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي بل لم يؤمن منهم إلا لوط ابن أخيه، وسارة زوجته، كما تقدم في سورة الأنبياء. قوله: (بتكذيبهم له) جواب عما يقال: لم جمع المرسلين، مع أنهم إنما كذبوا رسولاً واحداً وهو نوح؟ فأجاب: بأن تكذيبهم له تكذيب للباقي، فالجمع على حقيقته، وقوله: (أو لأنه) الخ، جواب ثان، وعليه فالجمع مجاز. قوله: (وتأنيث قوم) أي تأنيث الفعل المسند اليه، وقوله: (باعتبار) معناه أي وهو الأمة والجماعة. قوله: (وتذكيره) أي تذكير الضمير العائد عليه في قوله: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ ﴾ ولا مفهوم لقوم، بل كل اسم جمع أو جمع تكسير لمذكر أو لمؤنث كذلك. قوله: (نسباً) أي لا في الدين. قوله: ﴿ نُوحٌ ﴾ تقدم أن اسمه عبد الغفار أو يشكر، ونوح لقبه. قوله: ﴿ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ ﴿ أَلاَ ﴾ للعرض. قوله: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ إنما أخبر بذلك ليتبع، وليس قصده الافتخار. قوله: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه. قوله: ﴿ مِنْ أَجْرٍ ﴾ ﴿ مِنْ ﴾ زائدة في المفعول، أي أجره وجعلاً. قوله: (كرره تأكيداً) أي وحسن ذلك كون الأولى مرتباً على الرسالة والأمانة، والثاني على عدم سؤاله أجراً منهم. قوله: ﴿ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ ﴾ الخ، هذا من سخافة عقولهم وفساد رأيهم، حيث جعلوا اتباع الفقراء مانعاً من ايمانهم، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس خالصاً لوجه الله، بل هو طمع في أن ينالهم شيء من الدنيا. قوله: (وفي قراءة) ظاهرة أنها سبعية وليس كذلك بل هي عشرية، والمعتمد جواز القراءة بها. قوله: (وأتباعك) مبتدأ، وخبره ﴿ ٱلأَرْذَلُونَ ﴾ جمع أرذل، كالأكبرون جمع أكبر. قوله: (السفلة) المراد بهم الفقراء والضعفاء، وسبب مبادرتهم للإيمان قلة عوائقهم، كالرياسة والغنى، فإن ذلك موجب للأنفة عن الاتباع. قوله: ﴿ قَالَ وَمَا عِلْمِي ﴾ يحتمل أن تكون ﴿ مَا ﴾ استفهامية، واليه يشير المفسر بقوله: (أي علم لي) ويحتمل أن تكون نافية. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي لم أكلف العلم بعقائدهم الباطنية، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان.
قوله: ﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ ﴾ أي حساب بواطنهم. قوله: (ما عبدتموهم) قدره إشارة إلى أن ﴿ لَوْ ﴾ شرطية حذف جوابها. قوله: ﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ جواب لما فهمه من طلبهم طرد الضعفاء، وهذا كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، كما تقدم في سبب نزول قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ ﴾[الأنعام: ٥٢].
قوله: ﴿ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي للمكفين أعزاء وغيرهم، فكيف يليق مني طرد الفقراء؟. قوله: ﴿ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ ﴾ أي تترك ما أنت عليه من معارضتنا. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ﴾ إنما قال ذلك تمهيداً للدعاء عليهم كأنه قال: إنهم أعرضوا عن دينك وتوحيدك، فأنا أدعو عليهم لأجل ذلك، والمعنى أنهم استمروا على تكذيبي وأصروا عليه، بعدما كررت عليهم الدعوة، وسيأتي تفصيل ذلك في سورة نوح في قوله:﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾[نوح: ٥] الخ، قوله: ﴿ فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ﴾ من الفتاحة بالضم والكسر وهي الحكومة، أي احكم بيننا بما يستحقه كل منا. قوله: ﴿ وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ آثر الإيمان إشارة إلى أنهم خالصون في الاتباع، وكان من معه من المؤمنين ثمانين، أربعون من الرجال وأربعون من النساء، على أحد أقوال تقدمت. قوله: ﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ﴾ أي بالطوفان، حيث التقى ماء السماء على ماء الأرض، قوله: ﴿ ٱلْبَاقِينَ ﴾ (من قومه) أي صغاراً وكباراً، فالهلاك الدنيوي عمّ الكبار والصغار والبهائم، وأما في الآخرة فالخلود في النار مخصوص بمن مات كافراً بعد البلوغ، وأما صبيانهم بل وصبيان المشركين، من أول الدنيا إلى آخرها، فيدخلون الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ ﴾ اسم أبي قبيلة هود الأعلى، سميت القبيلة باسمه، فالمراد كذبت القبيلة المنسوبة لعاد، وقوله: ﴿ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ المراد هود، وإنما جمع لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب الجميع، لاشتراك الكل في المجيء بالتوحيد. قوله: ﴿ أَخُوهُمْ ﴾ أي من النسب لما تقدم أنه من ذرية عاد، وكان هود تاجراً جميل الصورة يشبه آدم، وعاش من العمر أربعمائة وأربعاً وستين سنة. قوله: ﴿ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ ﴿ أَلاَ ﴾ أداة عرض، وهو الطلب بلين ورفق، تأليفاً لقلوب المجرمين لعلهم يهتدون. قوله: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ تعليل لعرضه التقوى عليهم، والمعنى إني لكم رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم أمين، لا أزيد ولا أنقص. قوله: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ تقريع على قوله: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ فحيث كنت رسولاً أميناً، فالواجب عليكم تقوى الله وطاعتي، فطاعته من حيث كونه رسولاً من عند الله لا من حيث ذاته، ولذا لم يقل: ألا تتقون وتطيعوني. قوله: ﴿ مِنْ أَجْرٍ ﴾ أي جعل وأجرة على رسالتي. قوله: ﴿ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي لأنه المرسل لي الغني المغني.
قوله: ﴿ أَتَبْنُونَ ﴾ الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وهو شروع في توبيخهم على أمور ثلاثة، كل واحد منها مناف للتقوى: البناء للبعث، واتخاذ المصانع، والتجبر. قوله: ﴿ بِكُلِّ رِيعٍ ﴾ بكسر الراء ويقال بفتحها، هو المكان المرتفع. قوله: (علماً للمارة) أي كالعلم في الارتفاع. قوله: (بمن يمر بكم) الخ، هذا أحد أوجه في تفسير متعلق البعث، وقيل: ﴿ تَعْبَثُونَ ﴾ بالبناء لظنهم أن المارة يحتاجون إلى البناء ليهتدوا به في الأسفار، مع أنهم يستغنون عنه بالنجوم، وقيل المعنى تبنون بروج الحمام لتعبثوا بها، وقيل المعنى تبنون بنياناً يجتمعون فيه للعبث، وكل صحيح واقع منهم. قوله: ﴿ مَصَانِعَ ﴾ جمع مصنعة بفتح الميم مع فتح النون أو ضمها، وهو الحوض والبركة تحت الأرض كالصهاريج. قوله: (كأنكم) فسر لعل بكان بدليل القراءة الشاذة كأنكم تخلدون، والأولى إبقاء لعل على بابها من الترجي، ويكون المعنى: راجين أن تخلدوا في الدنيا بسبب عملكم عمل من يرجو ذلك، لأن مجيء لعل بمعنى كأن لم يرد. قوله: ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ ﴾ أي فعلتم فعل الجبارين من الضرب بالسياط والقتل بالسيف. قوله: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ (في ذلك) أي فيما تقدم من الأمور الثلاثة. قوله: ﴿ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ ﴾ أي أعطاكم المدد وهو النعم. قوله: ﴿ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ ﴾ بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل. قوله: ﴿ وَبَنِينَ ﴾ أي ذرية. قوله: ﴿ وَجَنَّاتٍ ﴾ جمع جنة. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾ أي إن دمتم على مخالفتي، ولم تشكروا هذه النعم بعد بعثتي. قوله: (في الدنيا) أي بالريح العقيم، وقوله: (وفي الآخرة) أي بالخلود في النار.
قوله: ﴿ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ ﴾ هذا أبلغ من أن يقولوا أولم تعظ، لأن المعنى سواء علينا أوعظت، بأن كنت من أهل الوعظ، أم لم تكن أصلاً من أهله، بأن كنت أمياً مثلنا ولست نبياً. قوله: (أي لا نرعوي لوعظك) أي لا نرتدع ولا ننكف له. قوله: ﴿ إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ أي من تقدموا قبلك كشيث ونوح، فإنهم كانوا يختلقون أموراً فاقتديت بهم، فاسم الإشارة على هذه القراءة، راجع لما خوفهم به. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وعليها فاسم الإشارة عائد على معتقدهم، وهو عدم البعث. قوله: (أي طبيعتهم وعادتهم) أي عادة الأولين من قبلنا، أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون، ولا بعث ولا حساب. قوله: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ أي على ما فعلنا من الأعمال. قوله: ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ أي استمروا على تكذيبه. قوله: (بالريح) أي الصرصر، وكانت باردة شديدة الصوت لا ماء فيها، وسلطت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، أولها من صبح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال، وكانت في أواخر الشتاء، وسيأتي بسطها في سورة الحاقة. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي بل أقلهم كانوا مع هود في حظيرة تنسم عليهم ريح لينة، حتى مضت تلك المدة، فأخذهم وهاجروا من تلك الأرض إلى مكة. قوله: ﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ أي الغالب على أمره. قوله: ﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ أي المنعم على عباده بدقائق النعم. قوله: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ ﴾ اسم أبي قبيلة صالح الاعلى، سميت القبيلة باسمه، وتسمى أيضاً عاداً الثانية، وهم ذرية من آمن من قوم هود. قوله: ﴿ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ المراد بهم صالح، وتقدم وجه التعبير بالجمع. قوله: ﴿ أَخُوهُمْ ﴾ أي في النسب، لاجتماعهم معه في الأب الأعلى، وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مائة سنة. قوله: ﴿ أَلا تَتَّقُونَ ﴾ تقدم أن ﴿ أَلا ﴾ أدارة عرض كما في قول الشاعر: يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما قد حدثوك فيما راءٍ كمن سمعاوحكمة التعبير أولاً بالعرض، تأليف قلوبهم للتوحيد بالكلام اللين، لقصر عقلهم وجهلهم. قوله: ﴿ أَتُتْرَكُونَ ﴾ الاستفهام إنكاري توبيخي، وما اسم موصول بيّنها المفسر بقوله: (من الخيرات) وهنا اسم إشارة للمكان القريب، والمراد دار الدنيا، والمعنى أتظنون أنكم تتركون في الدنيا متمتعين بأنواع النعم والشهوات، آمنين من كل مكروه، ولا تمتحنون بأوامر ونواه، ولا تحاسبون على شيء فيها؟ لا تظنوا ذلك، بل الواجب عليكم ترك الفاني والاشتغال بالباقي. قوله: ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ بدل من قوله: ﴿ هَاهُنَآ ﴾ بإعادة الجار.
قوله: ﴿ وَنَخْلٍ ﴾ هو اسم جنس جمعي، واحده نخلة، يذكر ويؤنث، وأما النخيل بالياء فمؤنثة اتفاقاً. قوله: ﴿ طَلْعُهَا ﴾ هو ثمرها في أول ما يطلع كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، وبعده الاغريض، ويسمى خلالاً ثم البلح ثم الزهو ثم البسر ثم الرطب ثم التمر، يجمعها قولك: طاب زبرت، فأطوار النخيل سبعة كأطوار الإنسان، ولذا ورد في الحديث:" أكرموا عماتكم النخل "وأفرد النخل بالذكر لفضله على سائر الأشجار. قوله: ﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً ﴾ أي لطول أعماركم، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارههم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف. قوله: (بطرين) أي لنعم ربكم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (حاذقين) أي ماهرين في العمل. قوله: ﴿ وَلاَ تُطِيعُوۤاْ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾ الإسناد مجازي في النسبة، والأصل لا تطيعوا المسرفين في أمرهم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ صفة للمسرفين. قوله: ﴿ وَلاَ يُصْلِحُونَ ﴾ دفع بذلك ما يتوهم أنه يقع منهم الاصلاح في بعض الأوقات. قوله: ﴿ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ أي فكيف تدعي أنك رسول إلينا. قوله: ﴿ قَالَ هَـٰذِهِ نَاقَةٌ ﴾ الإشارة إليها بعد أن خرجت من الصخرة بدعائه كما طلبوا، عن أبي موسى الأشعري قال: رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعاً في ستين ذراعاً. قوله: ﴿ لَّهَا شِرْبٌ ﴾ الخ، أمرهم صالح بأمرين: الأول قوله: ﴿ لَّهَا شِرْبٌ ﴾ والثاني قوله: ﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ ﴾.
قوله: (نصيب من الماء) أي فهي تشرب منه يوماً، وأنتم تشربون منه يوماً، لا تزاحمكم ولا تزاحموها، وفي يومها تشربون من لبنها. قوله: ﴿ فَعَقَرُوهَا ﴾ أي يوم الثلاثاء، وأخذهم العذاب يوم السبت، وقد جعل لهم علامة على نزول العذاب بهم، وهو أنهم في اليوم الأول تصفر وجوههم، ثم تحمر في اليوم الثاني، ثم تسود في اليوم الثالث. قوله: (أي عقرها بعضهم) أي وهو قدار، وكان قصيراً أزرق، وكان ابن زنا، ضربها في ساقيها بالسيف. قال السدي وغيره: أوحى الله إلى صالح، أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال لهم صالح: إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها، ويكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم للعاشر فأبى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك، فكان ابن العاشر أزرق أحمر، فنبت نباتاً سريعاً، فكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، وغضب التسعة على صالح، لأنه كان سبباً لقتلهم أبناءهم، فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، فقالوا: نخرج إلى سفر فيرى الناس سفرنا، فنكمن في غار، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده، أتيناه فقتلناه ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، فيصدقون ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر، وكان صالح لا ينام في القرية، بل كان ينام في المسجد، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم، فلما دخلوا الغار، أرادوا أن يخرجوا، فسقط عليهم الغار فقتلهم، فرأى ذلك ناس ممن كان قد اطلع على ذلك، فصاحوا في القرية: يا عباد الله، أما رضي صالح أنه أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم، فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. قوله: ﴿ نَادِمِينَ ﴾ (على عقرها) إن قلت: لم لم يرفع عنهم العذاب بسبب ندمهم؟ أجيب: بأن ندمهم لخوف نزول العذاب فقط، لا توبة منهم. قوله: ﴿ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ حكمة ختم كل قصة في هذه السورة بهذين الاسمين، إشارة إلى أن العذاب النازل بالكفار، لا يغادر منهم أحداً، والرحمة الحاصلة للمؤمنين، لا تغادر منهم أحداً، فكل من مظهر الاسمين ظهر في مستحقه.
قوله: ﴿ أَخُوهُمْ لُوطٌ ﴾ أي في البلد بسبب السكنى والمجاورة لا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل، فنزل إبراهيم الخليل من أرض الشام، ولوط بسدوم وقراها. قوله: ﴿ ٱلذُّكْرَانَ ﴾ جمع ذكر، أي أدبارهم. قوله: (أي الناس) وكذا غيرهم من الحيوانات الغير العاقلة، فهذه الخصلة القبيحة، لم تكن في أحد قبل قوم لوط، ثم لما خسف بهم تنوسيت، حتى ظهرت في هذه الأمة المحمدية، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: ﴿ مَا خَلَقَ لَكُمْ ﴾ أي أحل وأباح. قوله:(أي أقبالهن) أي لأنه محل نبات البذر، قال تعالى:﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ﴾[البقرة: ٢٢٣].
قوله: ﴿ عَادُونَ ﴾ أي متعدون. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْقَالِينَ ﴾ متعلق لمحذوف خبر إن أي لقال من القالين، و ﴿ ٱلْقَالِينَ ﴾ صفته، و ﴿ لِعَمَلِكُمْ ﴾ متعلق بالخبر المحذوف، ولا يصح أن يجعل قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْقَالِينَ ﴾ خبر إن، فيكون عاملاً في ﴿ لِعَمَلِكُمْ ﴾ يلزم عليه تقديم معمول الصلة على الموصول وهو أل، مع أنه لا يجوز. قوله: (أي من عذابه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، لأن بقاءه على ظاهره بعيد لعصمته منه، فطلب النجاة منه تحصيل للحاصل. قوله: ﴿ وَأَهْلَهُ ﴾ أي بنتيه وزوجته المؤمنة قوله: (الباقين) أي في العذاب، قيل تبعت لوطاً ثم التفتت لقومها فنزل عليها حجر، وقل لم تتبعه بل بقيت فخسف بها مع قومها. قوله: (أهلكناهم) أي بقلب قراهم حتى جعل عاليها سافلها. قوله: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم ﴾ أي على من منهم خارج القرى، لسفر أو غيره. قوله: (مطرهم) هذا هو المخصوص بالذم.
قوله: ﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ ﴾ هذه آخر القصص التي ذكرت في هذه السورة على سبيل الاختصار، وقد وقع لفظ الأيكة في أربع مواضع في القرآن في الحجر، وق، وهنا، وص، فالأوليان بأل مع الجر لا غير، والأخريان يقرآن بالوجهين. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (بحذف الهمزة) أي الثانية، وقوله: (على اللام) أي لام التعريف، وأما الهمزة الأولى فقد حذفت للاستغناء عنها، بتحريك اللام لأنها همزة وصل، أتى بها للتوصل للنطق بالساكن، وفي كلام المفسر نظر، لأنه يقتضي أن اللام الموجودة لام التعريف وحينئذ فلا يصح قوله: (وفتح الهاء) لأن المقرون بأل يجر بالكسرة وقع فيه نقل أم لا، قال ابن مالك: وجر بالفتحة ما لا ينصرف ما لم يضف أويك بعد آل ردففالمناسب أن يقول: وفي قراءة بوزن ليلة، ليفيد أن اللام من بنية الكلمة وحركتها أصلية، وحينئذ فجره بالفتحة ظاهر للعلمية والتأنيث باعتبار البقعة إن كان هذا اللفظ عربياً، وللعلمية والعجمة إن كان أعجمياً. قوله: (وفتح الهاء) في بعض النسخ وفتح التاء وهي أوضح. قوله: (هي غيضة شجر) بفتح الغين وبالضاد المعجمة، أي مكان فيه شجر ملتف بعضه على بعض، وكان شجرهم الدوم. قوله: (قرب مدين) هي قرية شعيب، سميت باسم بانيها مدين بن إبراهيم، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام. قوله: ﴿ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ المراد به شعيب، وفي جمعه ما علمت، وقد أرسل شعيب أيضاً لأهل مدين، لكن أهل مدين اهلكوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة اهلكوا بعذاب يوم الظلمة. قوله: (لأنه لم يكن منهم) أي بل كان من مدين، قال تعالى:﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾[الأعراف: ٨٥].
قوله: (الناقصين) أي لحقوق الناس.
قوله: ﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ ﴾ أي فكانوا إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ومن جملة بخسهم أنهم ينقصون الدراهم والدنانير. قوله: (وغيره) أي كقطع الطريق. قوله: (لمعنى عاملها) أي ولفظهما مختلف. قوله: ﴿ وَٱلْجِبِلَّةَ ﴾ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، أي الجماعة والأمم المتقدمة الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة، كأنها الجبال قوة وصلابة، وهذه قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بضم الجيم والباء وتشديد اللام، وبفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء. قوله: ﴿ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ أتى بالواو هنا دون قصة صالح مبالغة في تكذيبه، لأنه عند دخول الواو، يكون كل من الأمرين التسحير والبشرية مقصوداً بخلاف تركها، فلم يقصد إلا التسحير والثاني دليل له، قوله: (مخففة من الثقيلة) المناسب أن يقول مهملة لا عمل لها، لأن المكسورة إذا خففت قل عملها، والأولى حمل القرآن على الكثير. قوله: (بسكون السين وفتحها) قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ استمروا على تكذيبه. قوله: ﴿ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ ﴾ روي أن الله تعالى فتح عليهم باباً من أبواب جهنم، وأرسل عليهم حراً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء، فأنضجهم الحر فخرجوا، فأرسل الله تعالى سحابة فأظلتهم، فوجدوا لها برداً وروحاً وريحاً طيبة، فنادى بعضهم بعضاً، فلما اجتمعوا تحت سحابة، ألهبها الله عليهم ناراً، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجواد المقلي، فصاروا رماداً، وهذا العذاب الذي حل بهم، هو الذي طلبوه تهكماً بشعيب بقولهم: فأسقط علينا كسفاً من السماء. قوله: (أصابهم) أي سبعة أيام، ثم لجوا إلى السحابة بعد السبعة الأيام. قوله: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ شروع في مدح القرآن ومن أنزله والمنزل عليه، والمعنى أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى، ليس بشعر ولا بسحر ولا كهانة كما يزعمون. قوله: ﴿ نَزَلَ بِهِ ﴾ الباء للملابسة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال كأنه قال: نزل في حال ملابسة له على حد خرج زيد بثيابه. قوله: ﴿ عَلَىٰ قَلْبِكَ ﴾ خص بالذكر لأنه سلطان الأعضاء، فكل شيء وصل للقلب وصل لسائر الأعضاء، ففي الحديث:" ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب "فحيث نزل على قبله، فقد تمكن من سائر بدنه، فلا يطرأ عليه بعد ذلك نسيان، ولذا ورد: أنه كان إذا نزل عليه جبريل بالآية، يريد أن يقرأها بلسانه قبل أن يتلوها جبريل عليه ظاهراً، حتى أمر بعدم الاستعجال بالقراءة، قال تعالى:﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾[القيامة: ١٦].
قوله: ﴿ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ ﴾ أي ومن المبشرين. قوله: ﴿ بِلِسَانٍ ﴾ يصح أن يكون بدلاً من قوله بإعادة الجار، ويصح أن يكون متعلقاً بالمنذرين، والمعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي وهم: هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية. قوله: (أي ذكر القرآن) دفع بذلك ما يقال: إن ظاهر الآية أن القرآن نفسه ثابت في سائر الكتب، مع أنه ليس كذلك، والمراد بذكره نعته والإخبار عنه، بأنه ينزل على محمد، وأنه صدق وحق.
قوله: ﴿ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع. قوله: (وأصحابه) أي وكانوا أربعة غيره: أسد وأسيد وثعلبة وابن يامين، فالخمسة من علماء اليهود، وقد حسن إسلامهم. قوله: (ويكن بالتحتانية ونصب آية) أي على أنه خبر ﴿ يَكُن ﴾ مقدم، واسمها قوله: ﴿ أَن يَعْلَمَهُ ﴾ الخ، قوله: (ورفع آية) أي على أنه فاعل بتكن، وقوله: ﴿ أَن يَعْلَمَهُ ﴾ بدل من ﴿ آيَةً ﴾ قوله: (جمع أعجم) أصله أعجمي بياء النسب خفف بحذفها، وبه اندفع ما يقال: إن أفعل فعلاء لا يجمع جمع المذكر السالم. قوله: (أنفة من اتباعه) أي تكبراً. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ معمول لسلكناه، والضمير في ﴿ سَلَكْنَاهُ ﴾ للقرآن على حذف مضاف أفاده المفسر. قوله: ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ الخ، الجملة مستأنفة أو حال من الهاء في ﴿ سَلَكْنَاهُ ﴾، وقوله: ﴿ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ ﴾ مقدم من تأخير، وأصل الكلام حتى يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون فيرونه فيقولوا: هل نحن منظرون أي مؤخرون عن الإهلاك ولو طرفة عين لنؤمن، فيقال لهم: لا أي لا تأخير ولا إمهال. قوله: ﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ استفهام توبيخ وتهكم، حيث استعجلوا ما فيه هلاكهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، تقديره أيعقلون ما ينزل بهم؟قوله: ﴿ أَفَرَأَيْتَ ﴾ معطوف على ﴿ فَيَقُولُواْ ﴾ وما بينهما اعتراض، وقوله: ﴿ مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾ تنازعه رأيت يطلبه مفعولاً أول، و ﴿ جَآءَهُم ﴾ يطلبه فاعلاً، فأعملنا الأول وأضمرنا في الثاني ضميراً يعود عليه، أي ﴿ ثُمَّ جَآءَهُم ﴾ هو أي الذي كانوا يوعدونه، وجملة ﴿ مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ ﴾ الخ، في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني لرأيت. قوله: ﴿ مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾ أي به، و ﴿ مَّا ﴾، اسم موصول. قوله: (استفهامية) أي استفهام انكار كما أشار له بقوله: (أي لم يغن) فهذا مساوٍ في المعنى لقول بعضهم إنها نافية، وهي على صنيع المفسر مفعول مقدم لأغنى، وقوله: ﴿ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ ﴾ فاعل بأغنى، و ﴿ مَّا ﴾ مصدرية.
قوله: ﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ ﴾ الخ، أي إنه جرت عادته سبحانه وتعالى، أنه لا يهلك أهل قرية إلا بعد إرسال الرسول اليهم وعصيانهم، وذلك تفضل منه سبحانه وتعالى، وإلا فلو أهلكهم من أول الأمر لا يعد ظالماً، لأنه متصرف في مكله يحكم لا معقب لحكمه، ففعله دائر بين الفضل والعدل. قوله: ﴿ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ﴾ الجملة صفة لقرية. فإن قلت: لم تركت الواو هنا وذكرت في قوله تعالى:﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾[الحجر: ٤]؟ أجيب: بأن الأصل ترك الواو، وإذا زيدت كانت لتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله:﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾[الكهف: ٢٢].
قوله: ﴿ ذِكْرَىٰ ﴾ مفعول لأجله، أي لأجل تذكيرهم العواقب. قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ أي لا نفعل فعل الظالمين بأن نهلكهم قبل الإنذار، بل لا نهلكهم إلا بعد إتيان الرسول وإمهالهم الزمن الطويل حتى يتبين لهم الحق من الباطل. قوله: (رداً لقول المشركين) مقول لقول محذوف، تقديره إن الشياطين يلقون القرآن على لسانه، فهو من جملة الكهنة. قوله: ﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ ﴾ أي لا يمكنهم. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ ﴾ الخ، علة لقوله: ﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾.
قوله: (لكلام الملائكة) إن كان المراد كلامهم بالوحي الذي يبلغونه للأنبياء، فالشياطين معزولون عنه لا يصلون إليه أصلاً، وإن كان المراد به المغيبات التي ستقع في العالم، فكانوا أولاً يسترقونها، فلما ولد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات، فلما بعث سلط عليهم الشهب، وحينئذ فقد انسد باب السماء على الشياطين، وانقطع نزولهم على الكهنة، فبطل قول المشركين إن القرآن تنزلت به الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾ نزل رداً لقول المشركين: اعبد آلهتنا سنة ونحن نعبد إلهك سنة، والخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره. قوله: (رواه البخاري ومسلم) أي فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال في إنذاره:" يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً ". وفي رواية" أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون من قريش قد اجتمعوا، فجعل الذي لا يستطيع أن يخرج، يرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جرينا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ إلى آخر السورة ".
قوله: ﴿ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ ﴾ أي فبعد الإنذار تواضع لمن آمن منهم، وتبرأ ممن بقي على كفره، ولا تخف من تحزبهم واجتماعهم وكثرتهم، فإن الله حافظك وناصرك عليهم فتوكل عليه. قوله: (بالواو والفاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الواو هو معطوف على قوله: ﴿ وَأَنذِرْ ﴾، وعلى الفاء هو بدل من قوله: ﴿ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ ﴾.
قوله: ﴿ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ﴾ أي الغالب على أمره، القاهر لكل معارض لأمره. قوله: ﴿ ٱلرَّحِيمِ ﴾ أي بالمؤمن الممتثل لأمره. قوله: ﴿ حِينَ تَقُومُ ﴾ أي منفرداً، قوله: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ أي مع الجماعة. قوله: (إلى الصلاة) لا مفهوم لها، بل يراه حين يقوم للجهاد وللخطبة وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من سائر تنقلاته، وإنما خص الصلاة، لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولأن قرة عينه فيها لما في الحديث:" وجعلت قرة عيني في الصلاة "والمراد برؤيته إياه، زياد تجلي الرحمة عليه، وإلا فرؤيه الله حاصلة لكل مخلوق. قوله: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ ﴿ فِي ﴾ على كلام المفسر بمعنى مع وقيل إن ﴿ فِي ﴾ على بابها، والمراد بالساجدين المؤمنون. والمعنى: يراك متقلباً في أصلاب وأرحام المؤمنين، من آدم إلى عبد الله فأصوله جميعاً مؤمنون، وأورد على هذا آزر أبو إبراهيم فإنه كان كافراً. وأجيب بجوابين الأول أنه كان عمه وسام أبيه تارح، الثاني أنه كان أباه حقيقة، وقولهم إن أصوله صلى الله عليه وسلم ليسوا كفاراً محله ما دام النور المحمدي في الواحد منهم، فإذا انتقل لمن بعده، فل مانع من أن يعبد غير الله، وحينئذ فآزر ما كفر، إلا بعد انتقال النور منه إلى إبراهيم ولده. قوله: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ﴾ الخ، هذا رد لقولهم إنه كاهن. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ ﴾ الجار والمجرور متعلق بتنزل، والجملة في محل نصب، سادة مسد المفعول الثاني والثالث إن جعل ﴿ أُنَبِّئُكُمْ ﴾ متعدياً لثلاثة، ومسد الثاني فقط إن جعل متعدياً لاثنين. قوله: (وغيره) أي كالسطيح. قوله: (من الكهنة) جمع كاهن، وهو الذي يخبر عن الأمور المستقبلة، والعراف هو الذي يخبر عن الأمور الماضية. قوله: ﴿ يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ ﴾ يحتمل أن الضمير عائد على الشياطني، والمعنى يلقون ما سمعوه إلى الكهنة، ويحتمل أنه عائد ﴿ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ ﴾، والمعنى يلقون ما سمعوه من الشياطين إلى عوام الخلق، أو المعنى يصغون إلى الشياطين بكليتهم حين يسمعون منهم. قوله: ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ الضمير إما عائد على الشياطين أو الكهنة، والأكثرية باعتبار الأقوال، أي أكثر أقوالهم كاذبون فيها، والأقل فيها صدق، وليس المراد أن الأقل فيهم صادق، بل الكل طبعوا على الكذب، وأكثر الكلمات كذب وأقلها صدق. قوله: (وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء) دفع بذلك التناقض بين ما هنا وما تقدم في قوله:﴿ إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾[الشعراء: ٢١٢] وحاصل ذلك: أن هذه الآية إخبار من الله عن الشياطين قبل عزلهم عن السماوات، وتمثيله بمسيلمة باعتبار ما كان قبل وجوده صلى الله عليه وسلم، وأما بعد وجوده فلم يصل لمسيلمة ولا غيره شيء من الشياطين.
قوله: ﴿ وَٱلشُّعَرَآءُ ﴾ أي الذي يستعملون الشعر، وهو الكلام الموزون بأوزان عربية المقفى قصدا، والمراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: عبد الله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد، وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم. قوله: (من أودية الكلام وفنونه) أشار بذلك إلى أن الشعراء يخوضون في كل كلام، فهم مشبهون بالهائم في الأودية الذي لا يدري أين يتوجه. قوله: (يمضون) أي يخوضون. قوله: (أي يكذبون) أي لأنهم يمدحون الكرم والشجاعة ويحثون عليهما، ولا يفعلون ما ذكر، ويذمون ضدهما ويصرون عليه، ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ سبب نزولها: أن كعب بن مالك قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أنزل في الشعر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده، لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ". وقوله: قد أنزل في الشعر، أي أنزل القرآن في ذم الشعر وأهله. قوله: (من الشعراء) أي ومنهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك وغيرهم. واعلم أن الشعر منه مذموم، وهو مدح من لا يجوز مدحه، وذم من لا يجوز ذمه، وعليه تتخرج الآية الأولى، وقوله عليه السلام:" لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً، خير له من أن يتملئ شعراً ". ومنه ممدوح، وهو مدح من يجوز مدحه، وذم من يجوز ذمه، وعليه تتخرج الآية الثانية. وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن من الشعر لحكمة "وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر من الثلاثة، وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده، فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فاستنشده قصيدة فأنشدها اياها، وهي قريب من تسعين بيتاً، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها من مرة واحدة، وروي أنه عليه السلام قال يوم قريظة لحسان:" اهج المشركين فإن جبريل معك ". وكان يضع له منبراً في المسجد، يقوم عليه قائماً، يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينافح، ويقول رسول الله:" إن الله يؤد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله ". وروي عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل "فأرسل ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم فلم يرض، وأرسل كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه حسان قال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسود الضارب بذنبه، ثم أدلع بلسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال: والذي بعثك بالحق نبياً، لأسلنك منهم كما تسل الشعر من العجين، قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إن الله يؤيدك بروح القدس، لا يزال يؤيدك ما نافحت عن رسوله، قالت: وسعمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هجاهم حسان فشفى واشتفى "فقال حسان: هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاءهجوت محمداً براً تقياً رسول الله شيمته الوفاءفإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاءثكلت بنيتي ان لم تروها تثير النقع موعدها كداءينازعن الأعنة مصعدات على اكتافها الأسل الظماءتظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساءفإن اعترضتمو عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاءوإلا فاصبروا لضراب يومٍ يعز الله فيه من يشاءوقال الله قد أرسلت عبداً يقول الحق ليس به خفاءوقال الله قد سيرت جنداً هم الأنصار عرضتها اللقاءتلاقى كل يوم من معد سباب أو قتال أو هجاءفمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواءوجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له خفاءقوله: (قال الله تعالى:﴿ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾[النساء: ١٤٨] استدلال على جواز هجوهم للكفار في مقابلة هجو الكفار لهم، وقوله: (فمن اعتدى عليكم) الخ، استلادل على شرط المماثلة في المقابلة، فلا يجوز للمظلوم أن يزيد في الذم على ما ظلم به من الهجو. قوله: ﴿ أَيَّ مُنقَلَبٍ ﴾ معمول لينقلبون الذي بعده لا لما قبله، لأن الاستفهام له الصدر، وهو مفعول مطلق، أي ينقلبون، أي انقلاب، والجملة سادة مسد مفعولي يعلم، والمعنى يرجعون مرجعاً سيئاً، لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مرجع وأشره.