أول الجزء الرابع عشر، وأوله سورة الحجر، وهي سورة مكية إلا ما قيل : إنه يستثنى مكيته وهي الآية السابعة والثمانين، وعدد آياته [ ٩٩ ].
وقد ابتدئت بالحروف المفردة ﴿ آلر ﴾، وذكر بعدها القرآن الكريم ﴿ تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ﴾ وقد أخبر سبحانه أنه ﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ( ٢ ) ﴾ ولكن غلب عليهم الهوى، ﴿ ذرهم يأكلون ويتمتعون ويلههم الأمل فسوف يعلمون ( ٣ ) ﴾، وإن بين أيديهم العبر ﴿ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ( ٤ ) ﴾، ومن لهوهم وعبثهم قولهم لنبيهم :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إن لمجنون ( ٦ ) لو ما تأتينا بالملائكة منظرين إن كنت من الصادقين ( ٧ ) ﴾، وإن الملائكة لا تنزل، وإذا نزلوا لا يؤجلهم ﴿ ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ( ٨ ) ﴾، وذلك شأن الكافرين يتوارثون ذلك الفكر السقيم جيلا بعد جيل، وإن القرآن باق ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( ١٠ ) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون ( ١١ ) كذلك مسلكه في قلوب المجرمين ( ١٢ ) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ( ١٣ ) ﴾.
وإن الآيات لا تخزيهم ؛ لأن قلوبهم أغلقت عن الحق ﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( ١٤ ) لقالوا إنما سكرت أباصارنا بل نحن قوم مسحورون ( ١٠ ) ﴾
بعد ذلك أخذ ينبههم سبحانه إلى خلق السموات والأرض وما فيها من عجيب التكوين ﴿ ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ( ١٦ ) وحفظناها من كل شيطان رجيم ( ١٧ ) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ( ١٨ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون( ١٩ ) وجعلناكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ( ٢٠ ) ﴾ وبعد هذا الخلق، وذاك التكوين كان كل شيء في السموات والأرض بأمر الله وفي قبضة يده ﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( ٢١ ) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ( ١١ ) ﴾.
وإن الله تعالى آثاره في خلقه من إماتة وإحياء ﴿ وإنما لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ( ٢٣ ) ﴾ وإذا كنتم ترون بالعيان الإحياء والإماتة فقد كان ذلك فيمن تقدم، وفيمن تأخر، ﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ( ٢٤ ) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( ٢٥ ) ﴾.
بعد ذلك أخذ سبحانه يذكر في هذه السورة خلق الإنسان من طين فقال :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ( ٢٦ ) والجان خلقناه من قبل من نار السموم ( ٢٧ ) ﴾.
بعد ذلك أشار سبحانه إلى خلق آدم وسجود الملائكة له، وامتناع إبليس أن يكون من الساجدين، وغروره بأنه من نار وآدم من طين، وقد طرده الله سبحانه من جنته وقال له :﴿ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ( ٣٥ ) ﴾، وأنظره الله إلى يوم يبعثون ﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ( ٣٦ ) قال فإنك من المنظرين ( ٣٧ ) إلى يوم الوقت المعلوم ( ٣٨ ) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ( ٣٩ ) إلا عبادك منهم المخلصين ( ٤٠ ) قال هذا صراط علي مستقيم ( ٤١ ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ( ٤٢ ) ﴾.
بعد ذلك ذكر تعالت كلماته جزاء الذين يغويهم إبليس ﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( ٤٣ ) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ( ٤٤ ) ﴾، وذكر بعد هذا جزاء الذين لم يطيعوا الشيطان ولم يستطع إغواءهم ﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ٤٥ ) ادخلوها بسلام آمنين ( ٤٦ ) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ( ٤٧ ) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ( ٤٨ ) نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( ٤٩ ) وأن عذابي هو العذاب الأليم ( ٥٠ ) ﴾.
بعد ذلك جاءت العبر في القرآن الكريم، وابتدأت العبر بمن هو أقرب إلى العرب نسبا، ويعيشون في رحاب بيت الله الذي بناه إبراهيم، فقال في قصة إبراهيم :﴿ ونبئهم عن ضيف إبراهيم ( ٥١ ) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما ﴾ ولأنهم ملائكة، لم يعهد في الأرض لقاء مثلهم – وجل منهم، وقال :﴿ قال إنا منكم وجلون ( ٥٢ ) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ( ٥٣ ) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ( ٥٤ ) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين ( ٥٥ ) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ( ٥٦ ) ﴾.
هذا تذكير بالخلق والتكوين، وأنه يجرى على حكم إرادة الله تعالى الفاعل المختار، لا بالأسباب والمسببات، كما يقول الجاهلون، وإن الأسباب لا تسيطر على فعل الله تعالى، فالأسباب تجعل الرجل لا ينجب وهو كبير فلم ينجب وهو شاب، ولكت بإرادة الله ينجب إبراهيم، وامرأته عجوز عاقر.
بعد هذا ذكر القرآن الكريم ما يكون تهديدا للفاسقين الخارجين عن أمر الله تعالى، وهم قوم لوط، قالت رسل الله تعالى لإبراهيم :﴿ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( ٥٨ ) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ( ٥٩ ) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ( ٦٠ ) فلما جاء آل لوط المرسلون ( ٦١ ) قال إنكم قوم منكرون ( ٦٢ ) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ( ٦٣ ) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون ( ٦٤ ) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ( ٦٥ ) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ( ٦٦ ) وجاء أهل المدينة يستبشرون ( ٦٧ ) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ( ٦٨ ) واتقوا الله ولا تخزون ( ٦٩ ) قالوا أولم ننهك عن العالمين ( ٧٠ ) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ( ٧١ ) ﴾.
أنزل بهم العذاب الأليم في الدنيا، أخذتهم الصيحة في الصباح فجعل الله تعالى عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ﴿ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ( ٧٥ ) وإنها لبسبيل مقيم ( ٧٦ ) إن في ذلك لآية للمؤمنين ( ٧٧ ) ﴾.
بعد هذا يرينا الله تعالى من عجائب قدرته ليعتبر العرب في قصة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر، وتكذيبهم الرسل، ﴿ فأخذتهم الصيحة مصبحين ( ٨٣ ) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( ٨٤ ) ﴾.
ولقد أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى العرب في تكوين هذا الوجود، ﴿ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ( ٨٥ ) ﴾.
وإذا كان خلق الله السموات والأرض وما فيه من نعم للكافة، فقد أعطاك الله نعمة القرآن :﴿ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ( ٨٧ ) ﴾ ولا تلتفت إلى ما عند غيرك، فما عندك هو الأعظم وهو الجليل :﴿ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ( ٨٨ ) وقل إني أنا النذير المبين ( ٨٩ ) كما أنزلنا على المقتسمين ( ٩٠ ) الذين جعلوا القرآن عضين ( ٩١ ) فوربك لنسألنهم أجمعين ( ٩٢ ) عما كانوا يعملون ( ٩٣ ) ﴾.
ولقد أمر الله نبيه بأن يصدع بما يؤمر به فقال :﴿ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( ٩٤ ) إنا كفيناك المستهزئين ( ٩٥ ) الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( ٩٦ ) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( ٩٧ ) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ( ٩٨ ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ( ٩٩ ) ﴾.
معاني السورة الكريمة
ﰡ
وجاء بعد هذه الحروف في السورة ذكر الكتاب الكريم، فقال تعالى :﴿ تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ﴾ الإشارة إلى السورة، أو إلى المتلو بعد هذه الحروف، والكتاب بمعنى المكتوب، وقد وصفت الآيات بوصفين أولهما : أنها آيات الكتاب ؛ لأنها معجزة بذاتها، فكل آيات من القرآن معجزة تعد من الكتاب المعجز ؛ ولذلك كان يتحدى القرآن قبل تمام نزوله، وقد وصفت الآيات بأنها مكتوبة، ووصفت بأنها مقروءة متلوة ؛ ولذلك جاء معطوفا على الكتاب قوله تعالى :﴿ وقرآن مبين ﴾، أي مقروء كريم ؛ لأنه نزل مقروءا من الله، ولأنه محفوظ، ولأنه سجل الشرائع السماوية، ولأنه المحفوظ الخالد إلى اليوم، فالكتاب الكريم يوصف بأنه مكتوب، ويوصف بأنه مقروء ؛ لأن طريقة تلاوته من عند الله تعالى، فقد أوحى إلى الرسول فكتب وحفظ، وقرئ وحفظ متلوا كما قال تعالى لنبيه :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ( ١٦ ) إن علينا جمعه وقرآنه ( ١٧ ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( ١٨ ) ثم إن علينا بيانه ( ١٩ ) ﴾ [ القيامة ].
يقول العلماء في ( رب ) : إنها لا تتصل إلا بالاسم، فإذا دخلت على الفعل توسطت ما، وربما هي رب المخففة، وقد قرئت بضم الراء وبفتحها، وهما لغتان فيها.
وقالوا : إن ( رب ) تكون داخلة على الفعل الماضي، ولكنا هنا دخلت على الفعل المضارع لتأكد وقوعه فكان كفعل الماضي في معناه عند الله تعالى، وإن معنى المضي متحقق لفظا في ﴿ كانوا ﴾، وربما تكون للتقليل وقد تستعمل للكثير، والمعنى أنه ربما يود الذين كفروا في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين، وما هذه الأوقات ؟ قيل : هي الأوقات التي تعلو فيها كلمة الحق، وتصير الأرض العربية للمؤمنين فيها الكلمة العليا، ويكون لهم السلطان والقوة، فيتمنى المشركون الذين كفروا بالله وبالقرآن أن لو كانوا مسلمين، فإذا كانوا يغترون الآن بقوتهم، وعزتهم، ويستضعفون المؤمنين، فربما يكون العكس، ويودون لو كانوا مسلمين، وإنهم في المنزلة عند الله ورسوله ليسوا سواء، فلا يستوي من أسلم، وفي المسلمين ضعف، ومن أسلم وفي المسلمين قوة، ولذا قال تعالى :﴿... لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة...( ١٠ ) ﴾ [ الحديد ].
هذا إذا قلنا : إن الوقت الذي يكون فيه هذا الود، وذاك التمني هو قوة المسلمين، وإن قلنا : إن الوقت هو يرم يرون العذاب، فإن المعنى أنهم يتمنون أن لو كانوا مسلمين لتكون لهم النجاة، حيث لا مناجاة إلا بأن يكونوا مسلمين.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى : لو يؤمنون، كما قال تعالى :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) ﴾ [ الشعراء ] ولكن الله تعالى أشار إلى نبيه أنه ليس عليه لا يؤمنوا ما دام قد بلغ رسالة ربه ؛ ولذا قال :﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعون ويلههم الأمل ﴾، أي اتركهم يأكلوا ويتمتعوا... وهذه الأفعال مجزومة في جواب الأمر، وليس تركهم سبب هذه الأفعال، إنما الترك إهمال لهم كما أهملوا النذير والاستجابة، فالترك لانغمارهم في الشر، وابتدأ بذكر الأكل للإشارة إلى أن متعهم من أفواههم، كمتعة الحيوان، فهم كالأنعام بل أضل سبيلا، ويتمتعوا تلك المتع المادية التي كان الأكل عنوانها ورسمها، ولا يفكرون إلا فيما هو من جنسه، كألوان الثياب والنساء، وما إلى ذلك وهم يغفلون كأنهم لا يموتون، وكأنهم المخلدون، وأملهم في هذه الحياة يلهيهم عن التفكير فيما يسوقون إليه أنفسهم، وأن أملهم المادي المتجدد آنا بعد آن، والذي يزيد وقتا بعد وقت – يلهيهم عن الحقيقة، ولعلهم لا يفكرون في غاية إلا ما توحى بهم آمالهم العريضة في جاه يريدونه أو سلطان يبتغونه، أو مال يحبونه، أو أي شهوة عاجلة أو مؤجلة يرونها، ويجمع ذلك قوله تعالى :﴿ ويلههم الأمل ﴾.
ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما روى البزار في مسنده :"أربعة من الشقاء : جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا".
وقوله :{ فسوف يعلمون ( الفاء ) لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، و ( سوف يعلمون ) تهديد بسوء العاقبة لسوء ما يفعلون، وطيبات المآرب واللذات الدنيوية على نفوسهم، و ( سوف ) لتأكيد وقوع ما يفعلون ونذيره، والجملة السامية تدل على أن حالتهم توجب اليأس من إيمانهم، وقد قال الزمخشري :"فسوف يعلمون سوء صنيعهم، والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لا يجئ منهم إلا ما هم فيه، وأنه لا زاجر ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسول الله تعالى بأن يخليهم وشأنهم، ولا ينشغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليهم بما لا يزيدهم إلا ندما في العاقبة، وفيه إلزام للحجة، ومبالغة في الإنذار، وإعذار فيه، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم، وما يؤدى إليه طول الأمل وهذه هي حال أكثر الناس من ليس على من أخلاق المؤمنين، وعن بعضهم التمرغ في الدنيا على أخلاق الهالكين، هذه حال المشركين
الكتاب هنا الأجل، أي أن أية قرية أهلكت كان بها أجل معلوم، وهذا فيه بتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم بأنه إذا كان قد أهمل الشرك حتى طغوا وتجبروا واستكبروا فليس ذلك إهمالا لجرائمهم، وما من قرية، أي مدينة جامعة أهلكها إلا لأجل معلوم، فانتظروا كتابكم الذي كتب لكم أيها المشركون، فإما أن تخذلوا بسبب مقاومتكم للرسالة، وتذلوا للحق، والذلة للحق هي العزة، وذلك إذا كان يرجى الإيمان في ذرياتكم، وإما أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما أخذ عادا وثمود، وآل مدين، ومن قبلهم قوم نوح، ثم كما أخذ فرعون ذي الأوثاد، وسائر الذين طغوا في البلاد.
ولذا قال تعالى :﴿ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( ٥ ) ﴾، وقد عبر سبحانه وتعالى هنا ب ﴿ أجلها ﴾ للإشارة إلى أن الكتاب والأجل بمعنى واحد، والتعبير في الأول بالكتاب للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مكنون معلوم عند الله تعالى، وعبر في الثانية ب ( أجل ) للإشارة إلى أن له ابتداء وانتهاء، لا تسبق الأمة أجلها وإن طغت وبغت، ولا تستأخره، أي لا تطلب تأخيره، ولو طلبت ما أجيبت ؛ ولذا عبر في الأولى ب ( تسبق )، وفي الثانية ب ( تستأخر )، فمهما طغت لا تسبق أجلها، ومهما طلبت لا يؤخر أجلها، وفي التعبير بقوله تعالى :﴿ وما يستأخرون ﴾ إشارة إلى أن العاقبة ليست محمودة لهم، فمن شأنها أنهم يطلبون تأخيرها، ولكن مهما يطلبوا لن تؤخر، بل إنها نازلة في وقتها لا محالة، وقد كانت الهجرة في ميقاتها، وكانت الحرب الدائرة عليهم حتى كان أمر الله تعالى : وكان قدرا مقدورا
هذه صورة من طغيانهم، طغت الأوثان على تفكيرهم، حتى حسبوا من يدعو إلى التوحيد مجنونا، وأكدوا جنونه وقالوا مخاطبين النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ يا أيها الذي نزل عليه الذكر ﴾ النداء للبعيد، لكبر الدعوى التي يدعونها، وهي جنون النبي صلى الله عليه وسلم، و ﴿ الذكر ﴾، أي المذكر لهم ببطلان عبادة الأوثان، وأنها أحجار لا تضر ولا تنفع، وتسميته بالذكر من الله تعالى لا منهم ؛ لأنهم لو علموه ذكرا ما أنكروه، والجملة كيفما كان أمرهم ساقوها متهكمين لاذعين بالقول، كما حكى الله تعالى عن الملأ من آل فرعون :﴿ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ( ٢٧ ) ﴾ [ الشعراء ]، فالكلام سوق لبيان تهكمهم على رسولهم، وإن كان فيه إشارة إلى التنديد بهم، وهو أنهم بدل أن يعتبروا ويتذكروا يتهكمون مع أنه ذكر لهم.
وقد أكدوا دعواهم بجنونه فقالوا :﴿ إنك لمجنون ﴾ خاطبوا النبي صلى الله عليه و سلم بذلك الخطاب الذي يبهت كل عاقل مدرك، أكدوه ب ( إن ) التي لتوكيد القول، وبالجملة الاسمية، وباللام، وإن هذا يدل على شدة تمسكهم بعبادة الأوثان حتى عدوا كل من يدعو إلى تركها مجنونا، ويدل على شدة طغيانهم وأنهم لا يذعنون للحق، وإن دلت عليه دلالة واضحة بينة، ويدل ثالثا : على إمعانهم في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين
( ما ) نافية، و( لولا )، إذا دخلت ( لو ) على ( لا )- كانت بمعنى الامتناع للوجود مثل قوله تعالى :﴿... لولا أنتم لكنا مؤمنين ( ٣١ ) ﴾ [ سبأ ]، وتكون بمعنى الحض مثل قوله تعالى :﴿... لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة...( ٣٢ ) ﴾ [ الفرقان ] مع امتناع الشيء يحض عليه، وهو ما قبل ( لا )، فإنها تدل على الحض، وعلى الامتناع لعدم وجود شيء فقوله تعالى :﴿ لو ما تأتينا بالملائكة ﴾ معناها الحض على أن تأتي به الملائكة، وعلى أن الامتناع عن الإيمان لأنه لم يأت به الملائكة، بيد أنه يلاحظ أن ( لا ) تدل على النفي في الحال والاستقبال، و ( ما ) تدل على النفي في الماضي، وقد جمع في هذه الآية الكريمة بين ( ما )، وفعل المضارع بعدها، فدلت على أن الامتناع عن الإيمان في الماضي لعدم إتيان الملائكة به، وأنهم مستمرون على عدم الإيمان ما دامت الملائكة لم تنزل به.
وقد رد الله كلامهم الدال على الإمعان في الكفر، والتعلة للإيغال فيه، فقال في آية أخرى :﴿ ولو جعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ] وتعنتوا بهذا وبغيره، واقرأ ما جاء أول سورة الأنعام، قد قال الله تعالى ردا عليهم :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( ٨ ) ﴾ [ الأنعام ].
قوله تعالى :﴿ ما ننزل الملائكة إلى بالحق ﴾ في هذا إشارة إلى إمكان إنزال الملائكة، وإنه ليس ثمة أمر يتعذر على الله خلقه، وقد نزل الملائكة إلى أرض قوم لوط فجعلوا عاليها سافلها، وعبر ب ﴿ ننزل ﴾ إشارة إلى أن نزولها لا يكون دفعة واحدة بل تتوالى النزول، وقتا بعد آخر.
وقوله تعالى :﴿ إلا بالحق ﴾، أي إلا بسبب باعث من الحق في ذاته بأن تكون حكمة في نزولهم، ومصلحة في خطابهم، فالله تعالى ما خلق شيئا عبثا، وما جعل الأمور سدى تنزل الملائكة حيث يبتغى المشركون ويريد الكافرون، وإن لم يكن جدوى من نزولهم، وإن حالهم حال إنكار، لا تحتاج إلى دليل، فإن نزلوا قالوا هؤلاء رجال لا ملائكة كما تلونا قوله تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
وإنهم إن أنزلوا كما طلبوا لكانت القاضية عليهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وما كانوا إذا منظرين ﴾، أي ما كانوا مؤجلين إلى يوم القيامة إذا نزلوا، والله تعالى بحكمته العالية قدر للمشركين من العرب أن يكون من ذريتهم ومن لجاحدين أنفسهم أمة مؤمنة تحمل عبء التبليغ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن شريعته – وهو خاتم النبيين – يجب أن تكون معجزته باقية ببقاء شريعته الخالدة، ورسالته الدائمة التي لا تنقطع ؛
أضاف سبحانه وتعالى القرآن العظيم إلى الذات العلية المقدسة فاستفاد بهذه الإضافة شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي الذي جعله الله تعالى كذلك، واستفاد بهذه الإضافة أيضا أنه نزله بالحق الذي وعد به وقال :﴿ ما ننزل الملائكة إلا بالحق ﴾، فما نزله إلا بالحق والأمر الثابت، وهو أنه باق مادامت الشريعة والرسالة باقيتين، وإنهما لباقيتان.
وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أن معجزة القرآن من نوع الكلام ؛ لأنه ليس حادثة تنتهي بانتهاء زمانها، بل هو كتاب محفوظ قائم تقرأه الأجيال، ويتحداها جميعا، ولقد روينا من قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم :"ما من نبي إلا أوتى ما مصله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحيا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
وقد تعهد الله العلي الكبير بحفظه ليخاطب الأجيال إلى يوم القيامة، فقال :﴿ وإنا له لحافظون ﴾ أضاف الحفيظ إليه سبحانه، فكان ذلك تمكينا وتوكيدا.
وقد حفظه الله تعالى كما وعد من التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف فأوجب حفظه مرتلا، كما قال تعالى :﴿... ورتلناه ترتيلا ( ٣٢ ) ﴾ [ الفرقان ]، وقال تعالى :﴿... ورتل القرآن ترتيلا ( ٤ ) ﴾ [ المزمل ]. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ترتيله، وعلموه من بعدهم، واقتضى ذلك أن يعتمد في حفظ القرآن على الصدور، ولا يكون الاعتماد على السطور وحدها ؛ لأنه يمكن فيها التغيير والتبديل، والصدور تمنع ذلك، ولا تزال تطلع على طائفة من اليهود، تريد أن تجعله كغيره من الكتب، فيبين حفظة القرآن الكريم إفساد فعلهم الدنئ.
وحفظت شريعته من التغيير والتبديل، فهي قائمة وإن حاول بعض المنافقين الذين يدهنون للحكام تحريفها عن مواضعها بتحليل ما حرم الله، والله من ورائهم محيط.
إن حقيقة الكفر واحدة، وإن تعددت الأجناس والأنواع واختلفت الألوان فالإنسان هو الإنسان لا تختلف حقيقته، وإن اختلفت الصور، فالمؤمن حقيقته واحدة، وإن اختلفت الأزمان، والكفر ملة واحدة، وإن اختلفت الأقوام، فما تراه في مشركي مكة يرى في غيرهم ممن مضوا.
ولقد قال مسليا نبيه :﴿ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( ١٠ ) ﴾ هنا اسم مفعول محذوف دلت عليه كلمة أرسلنا رسلا من قبلك، وقد كان لهم ما يكون لك من الذين يعتقدون اعتقادا باطلا، ويستمسكون به ويكونون فرقا وشيعا يتشيعون لها، فقوله في ﴿ شيع الأولين ﴾، أي في جماعات متشيعة لفكرة واحدة، يتعصبون لها ولا يخرجون عنها، وأصل الشيعة من الشياع، وقد قال البيضاوي في ذلك :"جمع شيعة، وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب، ومن شاعه إذا اتبعت، وأصله الشياع، وهو الحطب الصغار توقد به الكبار".
وعبر سبحانه وتعالى بشيع الأولين ؛ للإشارة إلى أنهم لم تكن خالية أذهانهم، بل كانت مملوءة، ولكن بزور من الفكر والقول، يتعصبون له على غير بينة، ويشيع من غير تفكير، ويتبعوه خلفا عن سلف، ويقولون :﴿... بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ]، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد عانى من هؤلاء المشركين الذين يتشيعون لأوثانهم، فقد عانى الرسل قبلك نفس المعاناة من شيع الأولين، فاصبر يا محمد كما صبروا.
( الواو ) تصل الجملة التي سبقتها بالجملة التي لحقتها، وهي موضع السلوى لمحمد صلى الله عليه وسلم من إيذاء الضعفاء أصحابه الذين لا يملكون حولا ولا طولا، ولا جوار يدفع عنهم، واستهزاء بالدين الحق، وصاحبه وأتباعه، ومعنى الجملة السامية ( لا يأتيهم، أي رسول ﴿ إلا كانوا به يستهزءون ﴾ )، ف ﴿ من ﴾ هنا صلى لبيان عموم النفي، والاستهزاء به، أي لا يأتيهم أي رسول فمهما يكن ما عليه من خلق كريم، ومهما يكن ما يأتي به من حق مبين إلا جعلوه والحق الذي معه موضع استهزائهم وسخريتهم، وذلك لفساد عقولهم، وسفه أحلامهم، وكان ذلك اختبارا لصبر الرسل، وقد صبروا.
ويقول الزمخشري :"إن قوله تعالى :﴿ وما يأتيهم من رسول ﴾ حكاية لحال ماضي ؛ لأن ( ما ) لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، ولعل مراده أنهم استمروا على هذه الحال في الماضي، فالواقع بك من سخرية واستهزاء هو استمرار لحال وقع بعضها في الماضي، ويقع الباقي معك، ﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل...( ٣٥ ) ﴾ [ الأحقاف ].
والسلك إدخال الشيء في غيره كإدخال الخيط في الإبرة، والرمح في المطعون، والسهم في الهدف، والضمير في ﴿ نسلكه ﴾ يعود إلى الضلال والتعصب والاستهزاء، وهذا كله مفهوم من سياق الكلام، ويصح أن يعود الضمير إليه على أنه معنى تضمنه القول، والمؤدى على ذلك كذلك الذي كان من السابقين من الأمم الذين سبقوا قومك من الاستهزاء برسلهم، والضلال والحماقة، نسلكه وندخله في قلوب المجرمين من قومك، وأظهر في موضع الإضمار، لوصفهم بالإجرام متصل الحلقات بعضها آخذ بحجر بعض، لا ينفصل عنه، ولا ينفصم عنه.
وفي ذكر هذه الجملة السامية ﴿ وقد خلت سنة الأولين ﴾ إشارة إلى أمرين : إلى استمكان الكفر والضلال في نفوسهم، وقراره فيها، وأنه لا رجاء لمن كان على هذه الحال، والثاني إلى مآل أولئك الماضين من هلاك وعصف بهم، وإذا كان ذلك ما ناسب الماضين، فما يناسب الحاضرين هو سلم مخزية بعد حروب مجلية مع الحق.
وإذا كان ذلك ما كتبه الله تعالى عليهم كما كتب على من سبقوهم، فلا تظن أيها الرسول الأمين أن كفرهم لنقص في المعجزة التي جئتهم بها، إنما ذلك لأنهم صدوا عن الحق، فلو جئت بالمعجزات التي لا يمارى فيها العقلاء لماروا فيها، وادعوا ضلال أبصارهم.
طلبوا أن تنزل عليهم الملائكة، وأقسموا بالله لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، ولو جاءتهم لا يؤمنون، فالله تعالى يبين أنهم لو رفعهم إلى الملائكة وفتح لهم بابا يرتفعون إليه، فقال :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( ١٤ ) ﴾، أي فتحنا عليهم فرجة من السماء واتجهوا إليها فاستمروا فيها يرتفعون بها صاعدين إليها، حتى يروا الملائكة عيانا بيانا، ما آمنوا و﴿ لقالوا إنما سكرت أبصارنا ﴾
أي سحرت أعيننا، أو سدت علينا مسام الإدراك، ﴿ بل نحن قوم مسحورون ﴾ الإضراب للترقي في الحكم من سحر أبصارهم إلى سحر كل أجسامهم، وليسوا آحادا بل إنهم قوم مسحورون.
وهكذا تجد الكفر قد استقر في قلوبهم فلا يؤمنون بأية آية ولا يصدون أي دليل، فذرهم في غيهم يعمهون ولا تلتفت إليهم ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة...( ١٢٥ ) ﴾ [ النحل ].
بعد أن ذكر سبحانه حال الجحود الذي استمكن في قلوب المشركين حتى صاروا بحال يكذبون لها حسهم، وأنهم إذ كذبوا القرآن عنادا وجحودا، فإنهم يكذبون كل شيء مهما يكن مرئيا رأى العين، حتى إنهم لا يقتنعون بما يراه حسهم، فلو عرجوا إلى السماء لأنكروا وقالوا : إن أعيننا سكرت، وصرنا حيارى كالسكارى، وإن محمدا خيل إلينا ما لم نره.
بعد هذا أخذ يبين – سبحانه – عجائب التكوين في خلقه، حتى إن هذه المخلوقات تعلن بالبداهة عن منشئ الكون، وأنهم إذ ضلوا عن هذا، فإن شيئا لا يقنعهم من بعد هذا الضلال.
قال تعالى :﴿ ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ( ١٦ ) ﴾، ﴿ وجعلنا ﴾ بمعنى صيرناها بعد أن أنشأناها وأبدعناها على غير مثال سبق، و ( البروج ) جمع برج، وهو القصر، والمنزل، والبروج هنا منازل النجوم، أي أن كل نجم في منزله الذي أحله الله تعالى فيه، وارتبط بغيره عبر هذا الوجود، بحيث يكون كل نجم في مكانه ومداره لا يحول عنه ولا يحور، وكأنها مبينة بناء محكما لا فروج فيها ﴿... وما لها من فروج ( ٦ ) ﴾ [ ق ] فالارتباط بينها ثابت بما يسمونه الجاذبية التي تشد بعضها ببعض، كما قال تعالى :﴿ ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ( ١٦ ) ﴾، أي أنها في منظرها وإحكامها زينة في ذاتها، وجعلها الله تعالى بهجة للأعين، كما قال في آية أخرى، ﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين...( ٥ ) ﴾ [ الملك ]، وكما قال تعالى في سورة "ق" :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ( ٦ ) ﴾ [ ق ].
ومن هم الشياطين الذين حفظ الله السموات منهم، ووصفهم سبحانه وتعالى بأنهم مرجومون مطرودن من رحمته ملعونون ؟ لم يبين من هم، ولم يرد في السنة من هم، فلنكتف بما بين، غير متزيدين على كتاب ربنا.
الاستثناء هنا يصح أن يكون منقطعا عند بعض المفسرين، ويكون المعنى لكن من استرق السمع، وعلم بعض الأمور التي لا يصح إعلانها من أسرار هذا الكون السامي، ولا يكون ذلك إلا بتقدير الله تعالى.
وعندي أن الاستثناء متصل ؛ لأن ( الفاء ) في قوله :﴿ فأتبعه شهاب مبين ﴾ وهي تفيد ترتب ما بعدها على ما قبلها تبعد أن يكون الاستثناء منقطعا، وإذا كان متصلا يكون المعنى حفظه سبحانه من كل شيطان مرجوم أن يتطاول فيبعث، وأقصى ما يصل إليه أن يسترق السمع، أي أن يأخذ معلومات عن طريق الخفية كمن يسترق السمع، تصديق لقوله تعالى :﴿ إنهم عن السمع لمعزولون ( ٢١٢ ) ﴾ [ الشعراء ].
وإن هذا الذي يكون كمن يسترق السمع، ويتخذ ذلك طريقا لمعرفة ما لم يعرف، لا ينجو، بل ينزل الله تعالى عليه ما يحرقه، قبل أن يكشف علم ما نهى عنه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ فأتبعه شهاب مبين ﴾ والشهاب كوكب مضئ، كما قال تعالى :﴿... فأتبعه شهاب ثاقب ( ١٠ ) ﴾ [ الصافات ] فهو نار مشتعلة أو شعلة مضيئة، ويقول ابن عباس : تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد منها، فيرمى بالشهاب.
وإن هذا لتصوير حكيم لحفظ الله السماوات من أن يكون في السموات مفسدون، كما في الأرض من يفسد فيها، وهم الشياطين خارجون عن الطاعة كشياطين الإنس والجن في الأرض.
وقد فهم بعض الناس من هذه الآية أنها تشير إلى علم النجوم، وعلم حركاتها، وتعرف أسرار الحظ من هذه الحركات، ولكنا نقول : إن الآية الكريمة بمنأى عن هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالكون ظاهره وباطنه.
﴿ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ( ١٩ ) ﴾.
﴿ مددناها ﴾ بسطناها ليسهل الانتقال فيها، والإقامة في أجزائها، وتبدو مبسوطة سهلة مع أن تعاقب الليل والنهار يدلان على أنها تدور حول الشمس، وأنها كرة سابحة في الفضاء بقدر معلوم، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ( ٣٠ ) ﴾ [ النازعات ]، ﴿ والأرض فرشناها فنعم الماهدون ( ٤٨ ) ﴾ [ الذاريات ]، فكان خلق الأرض، ومدها ودحوها نعما مكنت الإنسان من الانتفاع بها، ويقول سبحانه وتعالى :﴿ وألقينا فيها رواسي ﴾. رواسي جمع راس أي ثابت، يثبت الأرض بثقله، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ والجبال أوتادا ( ٧ ) ﴾ [ النبأ ].
وإنه من تلاقى السماء الدنيا بالأرض يكون المطر الذي ينبت به كل شيء، وكما قال تعالى :﴿... وجعلنا من الماء كل شيء حي... ( ٣٠ ) ﴾ [ الأنبياء ]، فمن هذا المطر يكون الغيث الذي ينبت به النبات ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ﴾ وموزون معناها مناسب مقدر بقدره الذي يكفى أهلها، ويجعل إقامتهم فيها طيبة راضية، وقد وزنها خالق كل شيء ولتكون للأحياء عليها غير منقوصة، بل كاملة تجعلهم في بحبوحة وسعادة كاملة لو أحسنوا فيما بينهم، ولعل في ذلك ردا على الذين يدعون إلى نقص سكان الأرض بدعوى أن الأرض ضاقت بمن فيها، وكما قال الذين يريدون أكل الشعوب الضعيفة وإبادتها، أو أن تكون طعما لهم أن الإنسان تكاثر نسله، فليحد ذلك التكاثر، إن بكر الأرض والماء اللذان لم يستغلا أكثر وفرا وأدر خيرا، إن خالق الإنسان هو الذي جعل النبات بقدر موزون، وهو الخلاق العليم.
﴿ وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ( ٢٠ ) ﴾.
وجعل لكم في الأرض معايش، أي مكنكم من أن تتخذوا معايش لكم من طعام موفور، وثياب سابغة، ومأوى تأوون إليه، مكنكم سبحانه وتعالى، لكم ولأولادكم، وكل من يكونون في عيالكم، والضعفاء الذين تعاونونهم، مكنكم من هذه المعايش ومكن حيواناتكم الأليفة من الرزق، وعبر عن هؤلاء الأتباع بقوله :﴿ ومن لستم له برازقين ﴾، أي أتباعكم الذين لا ترزقونهم أنتم، بل الله تعالى هو رازقهم، ليعلموا أنهم لا يرزقون أولادهم حتى يقتلوهم أو يؤذوهم، بل الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وقد قال البيضاوي في قوله تعالى :﴿ ومن لستم له برازقين ﴾ "يريد به العيال والخدم والمماليك، وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا، فإن الله يرزقكم وإياكم، وفذلكة الحياة الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقه، وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك على كمال قدرته، وتناهى حكمته، والتفرد في الألوهية، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم من ذلك ليوحدوه.
( إن ) هنا نافية، و ( من ) صلة لبيان عموم النفي، والمعنى ما من شيء إلا عندنا علمه، والمكان الذي يكون منه، ونحن الذين نظهره إن أردناه ولا ننزله إلا بقدر معلوم.
فالمراد كمال السلطان، وإحكام الخلق والتكوين، وبسط الرزق، وتقتيره، الله يبسط لمن شاء ويقدر، وقد يعطى العاصي إملاء له ليكون عقابه، وقد يمنع التقى اختبارا لصبره ورجاء ثوابه، وكل له ثواب وجزاء، فالعطاء بيد الله، والتعبير بقوله تعالى :﴿ عندنا خزائنه ﴾ مجاز عن علمه سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء، وبأنه سبحانه وتعالى الموزع للأرزاق، وأنه المختبر للناس بعطائه ومنعه، فهو يختبر من يعطيه بالعطاء ليكفر النعمة أو يشكرها، ويختبر من يمنعه ليصبر أو يجزع، وكل بقدر معلوم، لا يكون عفوا من غير تقدير، بل بإحكام وتدبير.
﴿ وأرسلنا الرياح لواقع فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ( ٢٢ ) ﴾.
أرسلها أطلقها، والرياح بالجمع، ولواقح لاقحة، وفي تفسير لاقحة نظران أحدهما – أنها محملة بالماء أو مثيرة للسحاب المحملة بالماء، كما قال تعالى :﴿... وينشئ السحاب الثقال ( ١٢ ) ﴾ [ الرعد ]، وكأنها شبهت بالحامل لإثمارها وإنجابها ؛ وذلك لأن المطر يتكون من بخار الماء، ويتكاثف حتى يصير سحابا، والرياح تحرك هذه السحب من مكان إلى مكان تصادف جوا باردا، فتنزل أمطارا، ويزكى ذلك النظر قوله تعالى :﴿ فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ﴾ فذكر الماء بعد ذلك دليلا على أنها تثير السحاب المملوء بالماء، وذلك ما سوغ صفها باللواقح. والنظر الثاني – أن تكون الرياح حاملة بذور التلقيح للأشجار فهي تحمل بذور الذكورة أو الأنوثة، وعندى أن النظرين يمكن الجمع بينهما، إذ لا تعارض، فالرياح لواقح باعتبارها حاملة أسباب اللقاح، كما يلقح فحل الحيوان أنثاه، وباعتبارها مثيرة للسحاب الثقال المملوءة ماء، وينزله الله تعالى حيثما أراد وفي أي أرض شاء، فإنه لا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه.
وقوله تعالى :﴿ فأنزلنا من السماء ماء ﴾، ( الفاء ) هنا لبيان أن ما بعدها سببا لما قبلها، أي أنه بسبب هذه الإثارة التي أثارتها الرياح أنزل سبحانه وتعالى الماء من السماء، ليسقى الزرع والغراس، والأعشاب التي يكون منها طعام الإنسان والحيوان، وكل ما يدب على ظهر الأرض.
والسببية هنا ليست سببية فاعلة أو باعثة إنما هي سببية اقتران، و ( جعل )، أي جعل الله تعالى هذا سببا ﴿ فأسقيناكموه ﴾، ( الفاء ) عاطفة على ( أنزلنا )، وجعل الخطاب بالسقي للناس مع أنه لسقي ما عدا الإنسان هو للإنسان في غايته ونهايته، فكان الإسقاء للإنسان في الابتداء والانتهاء، ولكنه يكفر بنعم الله تعالى :﴿... إن الإنسان لظلوم كفار ( ٣٤ ) ﴾ [ إبراهيم ] ثم قال تعالى :﴿ وما أنتم له بخازنين ﴾ ( الباء ) في قوله تعالى :﴿ بخازين ﴾ لاستغراق النفي، أي أنتم ليس لكم أي عمل في خزن هذا الماء في السحاب، وكأنه شبه السحاب بمخزن للماء خزن فيها ؛ إذ يخرج من الأرض بخارا ثم يتكاثف فيها ثم يوزعه سبحانه وتعالى في الأرض بتصريف الرياح، أي ليس أحد منكم معشر الناس بخازن هذا الماء ومصرف الرياح به وموزعه في كل بلد حسب حاجته، وحسب عطاء الله تعالى به، سبحانه إنه هو الخلاق العليم.
أكد سبحانه أنه هو وحده المحيي والمميت أكده بضميره الأعظم، وأكده بنحن، وهو توكيد لفظي، وأكده باللام، وأكد الإحياء ولم يؤكد الممات ؛ لأن الإحياء غير مرئي، وإنما تظهر آثاره في الحياة، ولم يؤكد القرآن الحكيم الممات ؛ لأنه مرئي محسوس، يرى كل يوم، فما لا يظهر للحس وهو الإحياء أكده، وما يظهر للحس الحس يؤكده، وقد أخبر سبحانه أن الجميع بعد الموت يقول إليه سبحانه وتعالى ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ونحن الوارثون ﴾ فالجميع يئول إليه كما يئول الميراث للوارث.
وإن الله هو الذي أحيا، فهو الذي أنشأ الكون كله، وهو الذي أنشأ الإنسان من سلالة من طين كما قال تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( ١٢ ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( ١٣ ) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) قم إنكم بعد ذلك لميتون ( ١٥ ) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( ١٦ ) ﴾ [ المؤمنون ].
وإن قوله تعالى :﴿ ونحن الوارثون ﴾ يومئ إلى ما صرح به سبحانه وتعالى، من البعث في الآية التي تلونا، والآيتان تشيران إلى أن من أحيا وأمات قادر على الإعادة، كما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون ( ٢٩ ) ﴾ [ الأعراف ]، ﴿... والله على كل شيء قدير ( ٢٨٤ ) ﴾ [ البقرة ].
﴿ المستقدمين ﴾، السين والتاء للطلب، وكذلك في ﴿ المستأخرين ﴾، ومعنى السين والتاء هنا طلب الإيغال في التقدم والإيغال في التأخر، فالذين تقدموا إلى أبعد التقدم، والذين تأخروا إلى أعمق التأخر في علم الله تعالى، وعلمه الماضي والحاضر على سواء، ولقد أكد علمه بالمتقدم، وعلمه بالمتأخر بأبلغ المؤكدات، فأكد باللام وبقد وكلاهما لتأكيد التحقيق.
والمتقدم يشمل المتقدم في الخلق والإحياء والموت، والمتأخر كذلك، كما يشمل المتقدم في الطاعة والإجابة والمتأخر فيها، والله سبحانه عليم بكل ذلك في ميقاته، وإذا كان عنده علم ذلك، فهو يعرف أين يكونون وفي أي زمان كانوا ويكونون، وعلى أي حال هم أكانوا رميما، أم كانوا في حجارة أو حديد، كما قال :﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ( ٥٠ ) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( ٥١ ) ﴾ [ الإسراء ].
إن ربك خالقك ومربيك والقائم على شئون كل حي، العليم بأدواره من يوم وجد حيا إلى أن يرمس ميتا، فالتعبير ب ﴿ ربك ﴾ تذكير بالتكوين واستمرار القيام على ما كون ومن كون، والضمير ﴿ هو ﴾ للدلالة على أنه هو الذي أنشأ وهو الذي يحشر، فهو حجة على الإمكان، وأن ذلك لا يستحيل، لأنه أوجده أولا، فهو يعيده ثانيا، و ﴿ يحشرهم ﴾، أي يجمعهم، وعبر ب ( يحشرهم ) للدلالة على كثرتهم ولقائهم في وقت واحد ؛ لأن جمعهم كذلك في وقت واحد، ويكونون أمام الله تعالى في يوم واحد هون يوم تقوم الساعة وإن ذلك من دواعي حكمته، وعلمه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء ؛ ولذا قال تعالى في مقام الآية الكريمة :﴿ إنه حكيم عليم ﴾، أي أن ذلك اقتضته حكمته. كما قال تعالى :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( ١١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] وهو عليم أين يكونون، وعلى أي حال، ولو كانوا حجارة أو حديدا فسيعيدهم، إن عليم بكل شيء.
ذكرت قصة خلق الإنسان وإبليس قبل ذلك، وليس في ذكرها الآن تكرارا لما ذكر أولا وثانيا، بل إن لكل واحدة عبرة في ناحيتها، وكلها يشترك في أمرين ثابتين، وهو أن الله تعالى كرم الإنسان، فجعله فوق الجن والملائكة، إن استفهام على طريق، والثاني أن الله كرمه منذ بدء الخليقة وفي كل مرة من ذكر القصة تفصيل لأمور لم يكن في المرة الأخرى، ففي مرة ذكرها في سورة الأعراف، كيف كان الإغواء، وكيف قاسمها أنه لهما من الناصحين، وفي هذه المرة صارح بالإغواء وإصراره عليه، ونتيجة هذا الإغواء، وفي السابقات لم يكن تصريح بهذا، ولنرو القصة الحق، كما نتلوها من القرآن الكريم.
ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان، فقال عز من قائل :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ( ٢٦ ) ﴾ الصلصال هو الطين اليابس، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال مجاهد : هو الطين المنتن، أي الطين العطن وذلك بيان لصغر أصل الإنسان حتى لا يستكبر ويغتر، ونحن نميل إلى رأى ابن عباس رضي الله عنهما وقوله :﴿ من حمأ ﴾ الحمأ : الطين، و ( من ) ابتدائية، أي خلقناه من طين يصلصل، ﴿ مسنون ﴾، أي شكل بأي شكل، وليكن شكل إنسان.
وهنا في هذا النص لم يذكر على أنه خليفة في الأرض، وذكرت هنالك المفاضلة بينه وبين الملائكة في العلم ولم تذكر هنا، ولا تعارض بل توافق من غير مقابلة مضادة.
والغرور في الدنيا يبتدئ بتزيين الشيطان لها، وحتى يغتروا بها ثم يكون بعد ذلك الضلال، وقد أقسم على ذلك ولم يحنث في قسمه، وقد ابتدأ كلامه بقوله :﴿ رب بما أغويتني ﴾، وهو أولا نادى بقوله :﴿ رب ﴾ شعورا بالربوبية، وقد علمها وضل على علم ؛ لأنه لم يطع ربه وقال :﴿ بما أغويتني ﴾، أي بسبب أنك أغويتني، وسمى الله تعالى له ليضل إغواء له، مع أنه هو الذي اختار المخالفة والعناد، وإن الله تعالى لا يهدي من اختار سبيل الشر وسار فيه.
وهكذا تجد إبليس حسد آدم، إذ أمره الله تعالى بالسجود فامتنع حسدا وعنادا وحسدا ذرية آدم ؛ لأن الله تعالى تركه حتى غوى وضل فأراد إغواءهم، كما غوى.
وهنا نجد أن الاستثناء كان من قوله :﴿ ولأغوينهم أجمعين ﴾ فهو استثناء من مؤكد، والاستثناء من عام مؤكد بقوله أجمعين دليلا على أن الكثرة هي التي استجابت لإغوائه، والقلة أخلصت لله تعالى.
عباد جمع عبد، والعباد جميعا مضافون لله تعالى ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، وأنشأهم فهم في قبضة يده سبحانه وتعالى، ومعنى قوله تعالى :﴿ ليس لك عليهم سلطان ﴾، أي ليس عندك قدرة إضلالهم، ولا حجة تسوغ ضلالهم إلا أن يسبقوك بالضلال فيتبعوك من غير حجة ولا برهان، كما قال وهو في التخلص من ذنوبهم :﴿... وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي...( ٢٢ ) ﴾ [ إبراهيم ] فهم ضالون لم ينهجوا سبيل الرشاد ؛ ولذا قال تعالى :﴿ إلا من اتبعك من الغاوين ﴾، أي الضالين ابتداء.
عذاب أتباع إبليس
وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( ٤٣ ) لها سبعة أبوب لكل باب منهم جزء مقسوم ( ٤٤ )
أقسم إبليس اللعين ﴿ لأزينهن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ﴾، وقرر الله تعالى العلي أنه لا يتبعه إلا الضالون، بعد ذلك أن جهنم موعدهم أجمعين، كأنهم اتفقوا جميعا على مكان يلتقون فيه تحقيقا لوعد وعدوه بمبادلة التزيين والإغواء ؛ ولذا قال تعالى مصورا ذلك اللقاء فقال تعالى :﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( ٤٣ ) ﴾، وفي ذلك من التهكم بهم، وكأنهم في أخذهم بأسباب استحقاقهم لجهنم ودخلهم فيها، وكانوا قد اتفقوا على موعد يلتقون فيه جميعا، وهم جهنم نار الله الموقدة.
وقد أكد سبحانه دخولهم جهنم ب ( إن ) المؤكدة والجملة الاسمية، و ( اللام ) في قوله تعالى :﴿ لموعدهم أجمعين ﴾، وبالتأكيد اللفظي في قوله تعالى :﴿ أجمعين ﴾.
وقد قلنا : إنه يفهم من القول وإشاراته البيانية أن عدد العصاة أكثر، وعدد الأبرار أقل ؛ لأن الأبرار هم صفوة الإنسانية، والصفوة من كل شيء أقله وليس أكثره.
وقد ذكر هذا الفريق من المفسرين طبقات النار، وهي جهنم، ثم لظى ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الحميم، ثم الهاوية، ويقول البيضاوي في توضيح هذا الرأي :"ولعل تخصيص هذا العدد لانحصار المهلكات في الركون إلى المحسوسات، ومتابعة القوة الشهوية، والغضبية لأن أهلها سبع فرق لكل باب منهم من الأتباع جزء مقسوم أفرز لها، فأعلاها للموحدين العصاة، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين".
وإنا لا نوافق العلامة البيضاوي ومن نقل عنه :
أولا : لأن ذلك لا يعلم إلا بالتوقف.
وثانيا : لأن عصاة المؤمنين ليسوا داخلين في الذين تواعدوا مع إبليس على أن يكون موعدهم جهنم ؛ ولأن هذه الأسماء أوصاف للنار، وليست أقسامها لها.
وعندي أن العدد يذكر في اللغة العربية للدلالة على الكثرة لا على خصوص العدد سبعة.
قال الله تعالى :
إن المتقين في جنت وعيون ( ٤٥ ) ادخلوها بسلام ءامنين ( ٤٦ ) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقلبين ( ٤٧ ) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ( ٤٨ )
هذه نعم المتقين، والمتقون هم الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية، واتقوا غضب الله تعالى، وعملوا على إرضائه وجانبوا الفواحش، ووسوسة إبليس، وقد ذكر الله تعالى لهم نعما أربعة أولها : نعيم مادي، وثانيها : أمن وسلام واطمئنان، وثالثها : راحة لا نصب فيها، ورابعها : بقاء وخلود.
أما النعمة الأولى : وهي المادية فهي المبينة بقوله تعالى :﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ٤٥ ) ﴾، فهي حدائق ذات بهجة للناظرين، فيها من كل فاكهة وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وما لم يخطر على قلب بشر، وفيها الأنهار التي تجري من العيون الوفيرة بالماء، والماء نعمة بما فيه من رى، وبمنظر يجري، وما يحدث من خضرة.
أما الأولى : فإن الملائكة يطلبون إليهم أن يدخلوها بسلام يجمعهم فيها سلام، حال كونهم آمنين من الأشرار وأسقام النفوس ومدافعة والأعداء، فلا حرب، ولا خصام ولا نزاع من نوع ما كان يجري في الأرض
وقد صور النفوس المطمئنة فقال :﴿ إخوانا على سرر متقابلين ﴾، أي جالسين على سرر جمع سرير، متقابلين بوجوه مقبلة فرحة مستبشرة، وهذه نعمة أخرى من أجل النعم الإنسانية وهي نعمة الأخوة والمحبة المتوادة المتراحمة، ويروى أن المجاهد الأعظم بعد رسول الله عليا كرم الله وجهه عندما قرأ هذه الآية قال :"أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم" رضي الله تعالى عن أولئك الأطهار، ولعن الأشرار الذين بثوا بينهم وتاب على من هو أهل للتوبة منهم.
وإنها نعم لا يخشى فواتها، بل هي خالدة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وما هم منها بمخرجين ﴾ ذكر الضمير ﴿ هم ﴾ لتأكيد القول : وقدم ﴿ منها ﴾ للدلالة على نعائمها وجلالها، ونفي الوصف ﴿ بمخرجين ﴾ للدلالة على أنه لا يمكن أن يوصفوا بأنهم مخرجون، فهو نفى للإخراج بأبلغ وجه، أي ليسوا من شأنهم أن يخرجوا ؛ لأنه مقيم فاض الله تعالى به عليهم بسبب تقواهم وبرهم وهو الكبير المتعال.
قال الله تعالى :
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( ٤٩ ) وأن عذابي هو العذاب الأليم ( ٥٠ )
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو تقريب لمن في قلوبهم رجاء الإيمان، وترهيب لمن يصرون على الشر إصرارا، والتنبئ الإخبار الخطيرة ذات الشأن، وأي خطر أعظم من أن يكون منعا لليأس من رحمة الله تعالى، وأعظم من منع يستمر في غيه، سادرا عن طريق الله تعالى.
﴿ نبئ عبادي ﴾ أخبرهم ذلك الخبر الخطير في ذاته، الدال على عظمة الخالق في رحمته وفي عذابه ﴿ أني أنا الغفور الرحيم ﴾ أكد سبحانه وتعالى هذين الوصفين لذاته ب ( أن )، وبالضمير، والصفتين المتشابهتين، فهو سبحانه يغفر لعباده لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وإنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب، ويدعوهم سبحانه لأن يتوبوا ليغفر، فيقول سبحانه :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا...( ٥٣ ) ﴾ [ الزمر ] وإن هذا الغفران من مقتضى رحمته لأنه يريد لعباده أن يكونوا أطهارا وأن يموتوا أطهارا، ومن تدنس من أدناس العصيان يطالبه بأن يرحضه عن نفسه، ليغفر له برحمته، ويريد من عباده أن يعلموا الصبر والشكر نهاية أعمالهم في الدنيا.
وإن الله تعالى يعلمنا كيف نربي النفوس ونهذبها، فهي تربى بالرفق من غير شدة، وبالإرهاب من غير تربية لليأس، وبالعقاب حيث يجب، فلا تربى بالعطف الدائم ولا بالعذاب الذي لا رجاء فيه، وكذلك علمنا ربنا، وكذلك كانت أخلاق نبينا، وينبغي أن تكون أخلاق مصلحينا، وأولى الأمر منا، وليس الأمر من يفرضه أعداؤنا، أو من يفرضون أنفسهم علينا.
في الآيات السابقة طلبوا أن ينزل معه ملائكة ليؤمنوا به، وقد رد الله تعالى قولهم بأنه :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ]، وفي هذه الآيات التي تلونا نزل ملائكة الله تعالى إلى الأرض فكانوا في مظهرهم بشرا ورجالا ولكن الروحانية تجعل من يخاطبهم – ولو كان نبيا من أولى العزم من الرسل – يوجل منهم ؛ لأن جنسهم غير جنسه.
﴿ ونبئهم عن ضيف إبراهيم ( ٥١ ) ﴾، وضيف اسم جمع، فالمراد العدد الذي أنزل على إبراهيم، وكان كريما مضيافا
﴿ على ﴾ هنا بمعنى ( مع ) والاستفهام للتعجب فهو تعجب من أن يبشر مع الكبر قد مسه، أي أصابه وأحس به وأثر فيه أثره، ﴿ فبم تبشرون ﴾، أي فبأي خبر عجيب تبشرون ؛ وذلك لأن مجرى الأسباب العادية يجعل ذلك متعسرا لأنه شيخ مسه الكبر، وامرأته عجوز عقمت في صدر شبابها فكيف تنجب في دبر حياتها.
والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، والمعنى لا يقنط من رحمة الله إلا الذين ضلوا عن الحق وغاب عنهم.
وصفهم سبحانه وتعالى بالإجرام ؛ لأنهم لم يكفروا فقط، بل أضافوا إلى الكفر فقد الطبيعة الإنسانية. فشذوا بفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين وإذا كانوا قد وصفوهم بأنهم مجرمون، فمؤدى ذلك أنهم جاءوا لإنزال العقوبة بهم، كما صرح بذلك في آية أخرى فكان لابد أن يتشوف إبراهيم خليل الله لمعرفة مآل ذوي قرابته ؛ ولذا قال تعالى على لسان الملائكة :﴿ إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ( ٥٩ ) ﴾
أي أن الهلاك واقع بالمجرمين لا محالة، ما عدا آل لوط فإنهم ناجون منه، واستثناء امرأته ؛ لأنهما ما كانت مؤمنة بلوط، ونبوته ؛ ولذا كان استثناؤها من الناجين، فقال تعالى :﴿ إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ( ٦٠ ) ﴾
وهنا ملاحظتان :
الملاحظة الأولى : في قوله تعالى :﴿ قدرنا ﴾، أي كان قدرنا الذي لا ينقض أن تكون غير مؤمنو مع أنها مع نبي من أنبياء الله.
والملاحظة الثانية : وصفها أنها من ﴿ الغابرين ﴾، أي المجرمين المستحقين للهلاك، وقد أكد أنها منهم ب ( إن ) المؤكدة، و ب ( اللام )، وباندماجها فيهم جمع صفة الموصوفين بالإجرام.
الأمر الأول : أمرهم بالخروج في جنح الليل، فالإسراء : السير ليلا، و ( قطع ) أي قطع الظلام من الليل، أي في شدة إظلامه.
والأمر الثاني : أن يتبعوا أدبارهم بأن يخرجوا من طريق لا يواجهونهم فيه بإقبالهم، بل يسيرون في طريق يستدبرونهم فلا يلقونهم.
والأمر الثالث : لا ينظر إلى ما وراءه، فإنه يكون الهول والعذاب النازل بهم حيث تقشعر من هوله الأبدان
والأمر الرابع : أن يمضوا حيث يؤمرون بوضع النجاة، ويقيمون حيث يكونون بعيدين عما أصاب أولئك الذين طغوا في أنفسهم، وأفسدوا الإنسانية والفطرة السليمة.
هذا ما أمر به أولئك المرسلون من ملائكة الله الأطهار، لوط ومن معه من الأبرياء
أي مستأصلون مقطوعون، لا تبقى منهم باقية في صباح تلك الليلة التي نجوت فيها، والتعبير ب ﴿ دابر هؤلاء ﴾ فيه إشارة إلى استئصالهم ؛ لأن القطع إذا ابتدأ من الإدبار كان دليلا على استئصالهم جميعهم، وفوق ذلك فيه تصوير لحالهم عند نزول العذاب بهم، والجيش المغلوب الهالك يضرب في أدبارهم فيكون الهلاك لا محالة، أما الذي يضرب في وجوههم فإنه يقاتل، فيقتل ويقتل وكذلك نزل غضب الله تعالى بهم، كما نزل بغيرهم من الجيوش المدحور.
هذا ما كان من أمر رسل الله الأطهار وأمر لوط الطاهر هو من معه، وسط أرجاس هؤلاء المفسدين
ضيفي يعني ضيوفي، ولم يخبرهم لأنهم لا يدركون، فكان نبي الله الأريب الذي يذكر لهم ما تدركه عقولهم، وقوله تعالى :﴿ فلا تفضحون ﴾ بأن يكون منكم ما يؤذى هؤلاء، فإيذاؤهم إيذاء لي، وخزي وعاب، وأنتم جديرون أن تحفظوا جوارى، وإن كنتم فاسقين في ذات أنفسكم.
ولكنهم الشواذ، وفي هذا الصنف الصفاقة المستمسكة في نفوسهم، لم تنخهم مروءة ؛ لأنها ليست عندهم ولم يخلقها الله فيهم
ضيفي يعني ضيوفي، ولم يخبرهم لأنهم لا يدركون، فكان نبي الله الأريب الذي يذكر لهم ما تدركه عقولهم، وقوله تعالى :﴿ فلا تفضحون ﴾ بأن يكون منكم ما يؤذى هؤلاء، فإيذاؤهم إيذاء لي، وخزي وعاب، وأنتم جديرون أن تحفظوا جوارى، وإن كنتم فاسقين في ذات أنفسكم.
ولكنهم الشواذ، وفي هذا الصنف الصفاقة المستمسكة في نفوسهم، لم تنخهم مروءة ؛ لأنها ليست عندهم ولم يخلقها الله فيهم
النفي إثبات، والمعنى تلومنا على إيذاء ضيفك وقد نهيناك عن أن تلق أحدا من العالمين، وإلا كان لنا معهم ما ترى.
ولا نرى تبجحا من العقلاء غير الفاسدين إلا قول بعض الطغاة، وقد ذكر بأنه قتل من قال محمد صلى الله عليه وسلم :"تقتلك الفئة الباغية"، فقال لمن يحطون على هواه : إنما قتله من أرسله ! !.
ويلاحظ أنه عبر في قوله :﴿ أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ﴾ فعبر بلفظ الإصباح، وهنا في هذه الآية عبر بمشرقين، وكان التعبير الأول مناسبا للآية ؛ لأنه كان والملائكة يأمرون لوطا والأبرار معه بالخروج، فكان المناسب التعبير بالإصباح باعتباره نهاية الليل.
وعبر هنا بالإشراق باعتباره أول النهار، وهو وقت، إذ المناسب في ذلك أن يستقبلوا النهار المشرق بتلك الداهية الدهياء التي تجعل نهارهم أسود من قلوبهم المربدة بأقبح السوء.
وهنا ملاحظ أن الآيات ذكرت بلفظ الجمع في قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ( ٧٥ ) ﴾ وهنا ذكرت بالمفرد في قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية للمؤمنين ( ٧٧ ) ﴾ فما السر في ذلك ؟.
إن الذي يبدو لنا، أن المتوسمين المتفكرين بين أيديهم الآيات الكثيرة يدرسونها، فكانت الآيات بالجمع موضع الدراسة والفحص، أما بالنسب للمؤمنين فالأمر فيها هو العبرة، وهي أمر واحد مأخوذ من مجموع الآيات المتضافرة التي هي موضع الدراسة، ومع تعدها العبرة واحدة.
( الأيكة ) وهي جماعة الشجر الملتف المتكاثف، فهي الغيضة الربعة الممتلئة، وجمعها ( أيك ) وفرق بين المفرد والجمع بالتاء في المفرد.
و ﴿ أصحاب الأيكة ﴾ هم قوم شعيب عليه السلام، وقد صرح بذلك في سورة الشعراء، فقال تعالى :﴿ كذب أصحاب الأيكة المرسلين ( ١٧٦ ) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون ( ١٧٧ ) إني لكم رسول أمين ( ١٧٨ ) فاتقوا الله وأطيعون ( ١٧٩ ) ﴾ [ الشعراء ]...
إلى آخر الآيات الكريمات، وقوله تعالى :﴿ إن كان أصحاب الأيكة لظاليمن ( ٧٨ ) ﴾، ( إن ) فيها هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وإن الحال والشأن ﴿ كان أصحاب الأيكة لظالمين ﴾، وهذه هي خبر كان، واللام لام التوكيد، أو المزحلقة كما يعبر النحويون، وكانوا ظالمين ؛ لأنهم أشركوا، وإن الشرط لظلم عظيم، وكانوا ظالمين ؛ لأنهم كانوا يطففون في الكيل والميزان، وكانوا ظالمين ؛ لأنهم فتنوا المؤمنين عن إيمانهم، وكانوا ظالمين ؛ لأنهم هددوا نبيهم بالرجم، وقالوا :﴿... ولولا رهطك لرجمناك...( ٩١ ) ﴾ [ هود ]، وهكذا توالى ظلمهم وتسلل ؛ لأن الظلم يولد ظلما.
الانتقام ليس هنا التشفي من الجاني والأخذ بغير حق، بل معناها إنزال العقوبة مماثلة لما ارتكبه، ولأنه كان ظلما متواليا، واعتداء مستمرا، فكان العقاب مماثلا له، وشفاء لغيظ من جنى عليهم.
وإن أولئك ليعرفون أن ذلك أمامهم، فالمتلات بين أيديهم ﴿ لبإمام مبين ﴾، أي طريق بين واضح ينتهي بما انتهى به الأول، والإمام هو ما يعلن ويؤتم به، وأمامهم المثلات البينة الموضحة، وإن عليهم إذ يعتبروا بغيرهم، ولكنهم ضلوا عن بينة والعقوبة معلومة بينة.
هذه إشارات إلى قصة مدين مع نبيهم شعيب، والجزاء الذين نالوه.
جاء في تفسير القرطبي :"الحجر، ويطلق على معان منها حجر الكعبة، ومنها الحرام كما في قوله، وأنعام وحرث حجر قال تعالى :﴿... حجرا محجورا ( ٢٢ ) ﴾ [ الفرقان ]، والعقل كما في قوله تعالى :﴿... لذي حجر ( ٥ ) ﴾ [ الفجر ]، والحجر ديار ثمود وهي المراد منها وهي مدينة بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي كانت تسكنه ثمود، وقد مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك، ونبه جيشه إليه، وإلى ما فيه من عبر، وقد جاء ذلك في كتب السير، وصحاح السنة، وروى عن ابن عمر قال : مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذر أن يصيبكم مثل ما أصابهم".
والله تعالى يقول :﴿ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ( ٨٠ ) ﴾ مع أنهم كذبوا رسولا واحدا، وهو صالح عليه السلام، والجواب عن ذلك أنه ذكر أن صالحا عليه السلام بعث لهم، وكذبوه، ولكن لا يمنع ذلك أنه بعث فيهم غيره وكذبوا، على أنهم إذا كانوا كذبوهم جميعا فيما يدعوهم إليه من التوحيد، ومكارم الأخلاق فقد كذبوا الرسل جميعا لأن هذه دعوتهم أجمعين، فمن كذب واحدا في هذا فقد كذبهم جميعا.
وكانوا عن هذه الآيات البينات معرضين عنها.
وإذا كانت المعجزة هي الناقة، فهي آية تتضمن آيات، كما قال البيضاوي، أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها، ودرها، وما نصب لهم من الأدلة.
ويلاحظ أولا : أن البيوت التي نحتوها من الصخر لم يذكر أنه سبحانه جعل عاليها سافلها، ولا أنهم أمطروا حجارة كقوم لوط الفاسقين.
ويلاحظ ثانيا : أن قصة شعيب ذكرت هنا بالإشارة، وذكر فيها جزاء عتوهم، وكذلك ثمود أشير فيها إلى العقاب وترك من القصة تفاصيل فلم يذكر ما دعا إليه شعيب من إيفاء الكيل والميزان وعبادة الله تعالى.
ولم يذكر في قصة ثمود وما جرى من مجاوبة بين ثمود وصالح، وهكذا تجد القصة كاملة في القرآن، ولكن متفرقة فيه لموضع العظة في كل جزء منها.
فقصة موسى ذكرت أجزاؤها في مواضعها من العظة والاعتبار، وإنك لو تتبعت أجزاء قصة موسى وفرعون وبين إسرائيل لخرجت بقصص كاملة رائعة مصورة لأحوال النفوس المستضعفة للطغاة، ونفوس الطغاة، ونفوس الذين استمكن فيهم الخنوع، وذلت منهم النفوس، وكيف تبنى الأمم وتربى العزائم.
وقد يسأل سائل لماذا لم تذكر القصة كاملة ؟ فنقول في الجواب عن ذلك :
أولا : إن القرآن ليس كتاب تاريخ، ولكنه كتاب عظة واعتبار، فكل جزء فيه عظة، ويذكر في موضعه مقرونا بما سبق في القرآن لأجله فيكون الاتعاظ سببه بين والوعظ أهدى سبيلا.
وثانيا : أنها لو ذكرت جملة ما عرفت مواضع العظات بالتفصيل.
وخلاصة القول أنه ليس في القرآن مكرر من القول قط، وما يبدو بادئ الرأي فيه تكرار في ذكر القصص في القرآن يبدو بطلانه إذا فحص القول، وعمق القارئ النظر فيه، والله منزل الكتاب ومنزهه.
بعد أن ذكر جلت حكمته ما أصاب الذين فسقوا عن أمر ربهم، وارتكبوا أشد المفاسد ونزل بهم أشد المهالك ذكر أن الكون ما خلق عبثا إنما خلق لحكمة أرادها فقال سبحانه :﴿ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ﴾، ما خلق هذه الثلاث : سموات ذات أبراج، وأرض ذات طبقات، وما بينهما من فضاء فيه عجائب، وفيه أحياء، وفي أسرار للوجود التي لا يدركها الذين يرتفعون و ينخفضون، إنما يدركون المؤمنون برب هذا الوجود، ما خلق ذلك إلا بالحق إلا بأمر ثابت مؤكد الحصول هو غاية الوجود، ما خلق الناس ليتمتعوا، ويأكلوا، ويلهوا ويعبثوا، ما خلق الله ذلك بغير حكمة ظاهرة، ولا نهاية قاهرة، وإنما خلقها ليعمر هذا الوجود، وتسوده الفضيلة، وتبعد عنه الرذيلة، ويحكمه الخير، ولا يحكمه الشر، ويكون الحساب من بعد ذلك ؛ ولذا قال :﴿ وإن الساعة لآتية ﴾، أي أن الله يمنع الشر في الدنيا، بالقضاء على الأشرار الذين لا يرجى منهم خيرا، بل يغلب عليهم الفساد، كما رأيت في عاد وثمود، ومن قبلهم قوم لوط، ومن بعدهم فرعون ذو الأوتاد.
وإنه بعد الدنيا سيجئ يوم القيامة، وعبر عنه بالساعة إشارة إلى أنها ساعة فاصلة بين حياة دنيا فيها لهو ولعب، وحياة فيها الحساب والجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، وهي الساعة التي لا يدرك كنهها إلا عند نزولها، وهي الجديرة وحدها بأن تسمى ساعة، وقد أكد سبحانه وتعالى مجيئها باللام وب ( أن ).
﴿ فاصفح الصفح الجميل ﴾، ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وجه هذا الترتيب أن العصاة ينالون العذاب والبوار وفي الآخرة الساعة تنتظرهم، وإذا كانت هذه حالهم، فلا يغيظك ما يفعلون، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، بل استمر في دعوتك معرضا عن إثمهم وإيذائهم، وفتنهم لمؤمنين، فإنهم ملاقو ذلك في دنياهم بالتغلب عليهم، وفي آخرتهم بالجزاء على ما صنعوا.
وقوله تعالى :﴿ فاصفح الصفح الجميل ﴾، والصفح يتضمن الإعراض عن الإساءة وعدم التخلي عن الدعوة والاستمرار فيها، وتضمنت كلمة الجميل بيان أن يلقاهم بقلب مفتوح ليفتحوا قلوبهم للاستجابة، أو ليفتح هو هذه القلوب التي أصابتها غشاوة.
وفي هذا إشارة إلى معنى جليل في الداعي، وخصوصا الرسول الأمين رسول رب العالمين، وهو أن الداعي لا يستفزه غضب ولا يثيره أذى، ولا يمنعه تجهم وسوء معاملة، بل يجب أن يكون البشير النذير دائما في قرب للقلوب، وإدناء للنافر وإيناس للشارد ؛ لأنه الطبيب المداوي، وليس الحاكم المسيطر ﴿ لست عليهم بمسيطر ( ٢٢ ) ﴾ ﴿ الغاشية ﴾.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا شخصية قوي عالية، من شأنها أن تعلوا دائما، وهي ترهب الفجار، ولكن لم يدع محمد صلى الله عليه وسلم في مكة إلا بقوة الدليل، وبالنفس الأليف التي تقرب ولا تبعد.
وكانت تلك الشخصية الجبارة تبدو من حين لحين تعلن عن وجودها، جاء رجل يطلب دينا من أبي جهل فاستعان بملأ من قريش، فأشاروا عليه بأن يستعين بصاحب هذه الدار مسيرين إلى دار النبي تهكما بالرجل وبالنبي معا، ولعل الذين استعانهم من أشكال أبي جهل فالرجل الغريب ذهب إلى النبي، فأشكاه الرسول القوى، وذهب به إلى دار أبي جهل، فصك داره صكة ارتعدت فرائص أبي جهل لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله الحازم الآمر :"أد الرجل دينه"، فدخل وأعطاه الدين صاغرا.
وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليستخدم تلك الشخصية التي تفرض الحق على من يخاطبه، إنما تطامن، ورضى بأن يكون الداعي غير الغليظ إدناء للنفوس.
هذا معنى الصفح الجميل، أي الإعراض في قرب ومودة وإلف من جانبه ؛ ولذا كان الإسلام، ينموا ويزيد، ولا ينقص ويقل.
عبر ب ﴿ ربك ﴾ للإشارة إلى أمرين :
الأمر الأول : أنه هو الذي يقوم عليه، ويدير له أمر دعوته، بألا يسلم للكفر، ويصطبر ويعامل بالتقريب لا بالتعبيد.
الأمر الثاني : هو الذي يدبر أمر هذا الوجود، ويترتب حاضره وقابله، وأن الحق في النهاية إليه بأمر ربه.
و ﴿ الخلاق ﴾ الكثير الخلق بكثرة هذا الوجود من سماوات وأرضين، وملائكة وإنس وجن، و ﴿ العليم ﴾ الذي يعلم كل ما خلق ويعلم الماضي والحاضر والقابل، ويدبر الأمر على مقتضى علمه وحكمته، فهو يمهل الأشرار ولا يتركهم، ويجازي الأبرار ويحوطهم برحمته، ويثبت الحق بدعائم من الحق، ويعطى كلا جزاءه في الدنيا أو الآخرة على حسب ما يقتضي علمه وحكمته
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد طالبه رب البرية بأن يصفح ويعرض عن إيذاء المشركين بأن يصفح الصفح الجميل الذي يكون بإقبال نفس، وبشاشة وجه، وأنه معه الدليل القاطع، والبرهان الساطع، وهو القرآن الكريم، ولذا قال :﴿ ولقد آتيناك سبعا من المثاني ﴾ أكد الله أن معه الحجة، باللام وقد، والسبع المثاني ما هي ؟ قال ابن عباس : هي القرآن كله، والسبع لا تذكر لذات العدد بسبع، بل تذكر للكثرة، والقرآن كله وصف بالمثاني، قال تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله...( ٢٣ ) ﴾ [ الزمر ].
و ﴿ المثاني ﴾ جمع مثنى أي مكرر لاثنين، كقوله تعالى :﴿.. مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء... ( ١ ) ﴾ [ فاطر ]، ومعنى مثاني أن فيه من كل معنى اثنين متقابلين، ففيه الإنذار والتبشير، وكرر ذلك، وفيه الأمر والنهي ويتكرر ذلك، وفيه بيان الحلال والحرام، ويتكرر ذكر ذلك، وفيه الخبر والإنشاء، وفيه القصص الكريم مثنى مثنى وهكذا.
هذا تفسير السبع على أنها القرآن الكريم، ويكون عطف القرآن عليها في قوله تعالى :﴿ والقرآن العظيم ﴾ من قبيل عطف الصفة على الصفة، ويكون معنى القرآن القروء المتلو الذي يتعبد بتلاوته، فيكون معنى السبع المثاني وصف معانيه، وما اشتمل من أحكام وقصص وزواجر ونواه، وأوامر وتوجيه، ويكون القرآن العظيم المقروء المعجز بألفاظه والعظيم في إعجازه وبتلاوته، وعطف الوصف على الوصف جائز في العربية كما قال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وإن معنى العطف يشير إلى أنهما حقيقتان ثابتتان في القرآن، الأولى وهي أنه كتاب التكليف، وسجل الرسالة الإلهية، والثانية أنه حجة بألفاظه وأساليبه، وطرق البيان فيه، إذ فيه التصريف المعجز، كما قال تعالى :﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( ٦٥ ) ﴾ [ الأنعام ].
هذا ما اخترنا في معنى السبع المثاني، ولقد روى أحاديث صحاح أن السبع المثاني سورة الفاتحة، وعطف عليها بعد ذلك قوله تعالى :﴿ والقرآن العظيم ﴾.
وروى عن ابن مسعود وغيره من كبار الصحابة أن السبع المثاني هي طوال السور، وهي سبع، البقرة، آل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، بأن تشمل براءة على أنهما سورة واحدة.
وفي الحق إن ست من السبع الطوال مدني، والسورة التي نتكلم في معانيها مكية، فكيف تكلم عن هذه السبع، وست منها لم تنزل بعد وقد رد هذا بأنها كانت نزلت في اللوح المحفوظ.
والذي نراه الحق هو أن السبع المثاني القرآن كله، وتخصيص الفاتحة بالذكر معناه أنها من السبع المثاني التي هي القرآن وكل جزء منه يكون السبع المثاني، إذ كل جزء منه متكامل في ذاته، وهو العليم القدير.
أي لا تطمع، ولا تلتفت، ولا يغرنك ما متعنا به أزواجا، أي أصنافا متقابلة منهم فيهم الغنى وجاه الدنيا والقوة، والغرور، والطغيان، والكفر.
وعبر سبحانه عن الطموح إلى ما هم فيه والغرور به ﴿... فلا يغررك تقلبهم في البلاد ( ٤ ) ﴾ [ غافر ] عبر عن ذلك بمد العين ؛ لأن هذا يسترعي النظر فكأن الأعين تمد إليه، ولا تنحرف عنه.
لا يغرنك هذا ولا يسترعي نظرك، فإن هذا أمر إلى فناء، وما يدعو إليه أمره إلى بقاء، وإذا كان ذلك أمر فيه متعة وقتية، فقد أوتيتن الحكمة وفصل الخطاب، أوتيت والقرآن ومثله معه، وأي قدر مما أتوا يقارب قيمة ما أوتيت من الحق، وعزة الحق، ونهي الله تعالى عن الحزن على الكافرين كما نهى عن أن يغتر بهم، فقال :﴿ ولا تحزن عليهم ﴾، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإذا كان لا يغتر بما أوتى المشركون من أسباب النعيم، فإن من معه من المؤمنين هم الأولى بالرعاية والحفظ لأنهم الذين هم ذخيرة الإيمان ؛ ولذا قال تعالى :﴿ واخفض جناحك للمؤمنين ﴾، أي تطامن، وارفق بهم ولن لهم بجنابك، ﴿... ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك...( ١٥٩ ) ﴾ [ آل عمران ].
وقد عبر سبحانه عن لين الجانب والرفق وتقريب القلوب وإدنائها بقوله :﴿ واخفض جناحك ﴾ وذلك مجاز بالاستعارة مشهور، فشبه سبحانه وتعالى حنو محمد صلى الله عليه وسلم على أتباعه، بوضع الطائر بين جناحيه، للمبالغة في الحيطة والحفظ والصيانة.
وإن هذا النص السامي تصغير لما عند المشركين، وتعظيم لمن آمن، كقوله تعالى :﴿ ولا تطرد الذين يدعون بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( ٥٢ ) ﴾ [ الأنعام ].
وإن هذا النهي لصاحب الرسالة عن أن يمد عينيه إلى ما متع الله به الأقوياء وأعطاهم أزواجا متماثلة من متع الدنيا هو نهي لأمته، وفيه بيان كيف يتدلى الحق إذا مد صاحبه العين إلى ما عليه أهل الدنيا، فإنه هنا تكون المذلة ويكون التدني عن مقام الحق الأعلى، إلى المنزلة الدون أمام أهل المال والجاه والسلطان والباطل، وهو سلطان أهل هذا الإيمان.
ولقد قال القرطبي في تفسيره في التعليق على هذه الآية :"رأى القراء المخلصون من الفضلاء الانكفاف عن الذات والخلوص لرب الأرض والسموات أولى، لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش على مخالطة من لا تجوز مخالطته، ومصانعه من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل والفرار من الدنيا أصوب للعبد وأعدل قال صلى الله عليه وسلم :"يأتى على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع المطر، يفر بها من الفتن"ا. ه.
وأحسب أن زماننا أشد الأزمان فتنة في نفسه، إذ تولاه الجهال، وسيطر على الفكر الجهال، وتولى على رياسة العلم من يبيعون دينهم لهؤلاء الجهلاء بثمن بخس مهما تكن قيمة الدرهم والدينار، وصح فيه ما روى بحديث قوى السند حتى ادعى تواتره :"إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب العلماء، إنما ينزع العلم بتولى جهلاء يضلون ويضل بهم الناس" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره ربه بأن يبين لهم أنه منذر من عذاب أليم، لا يميل مع الأقوياء، ولا يحيف على الضعفاء، ﴿ إني أنا النذير المبين ﴾ أكد رسول الله تعالى بأمر ربه إنذاره ب ( إن )، والتوكيد اللفظي بالضمير المنفصل، وبالنصر، فعقد عمله صلى الله عليه وسلم على الإنذار، وأنه إنذار واضح بين لمن أراد أن يعتبر بصاعقة عاد وثمود، وقوم هود وغيرهم مما ذكرهم الله تعالى في قرآنه العظيم، من رجفة في الأرض جعلت عاليها سافلها، أو ريح صرصر عاتية.
وهذا النص السامي جاء على نمطه قوله صلى الله عليه وسلم :"أنا النذير العريان".
﴿ كما ﴾ التشبيه هو تشبيه الإنذار الذي يقوم الرسول بإنذار المقتسمين، فهو بيان لإنذار هؤلاء المقتسمين وأنه من إنذار الرسول الذي كان للإنذار، وتنبيه المشركين إلى عاقبة ما يعملون، أي الإنذار كما ينزل بهؤلاء، ومن هم المقتسمون ؟ ذكر المفسرون في ذلك أقوالا كثيرة، وعندي أن أقواها الجدير بالنظر قولان :
القول الأول : أنه عندما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينشر الدعوة الإسلامية في قبائل العرب في موسم الحج، أخذ ستة عشر رجلا منهم كما قال مقاتل والفراء بعثهم الوليد بن المغيرة فاقتسموا مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعى النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن، وسموا المقتسمين ؛ لأنهم اقتسموا هذه الطرق، هذا أحد القولين.
والقول الثاني : وهو ما نميل إليه هو قول قتادة : إنهم كفار قريش، قسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين، وهم بذلك قد قسموا كتاب الله تعالى وفرقوه.
وإني أميل إلى هذا ؛ لأنه يتفق مع بيان القرآن لهؤلاء المقتسمين، فقد قال تعالى في تعريفهم :﴿ الذين جعلوا القرآن عضين ( ٩١ ) ﴾.
﴿ عضين ﴾ جمع عضة والمعنى صار أجزاء مفرقة هي باطلة في ذاتها، وهي تفرقة في أمر لا يقبل التجزئة قط وهو جمع، و ( عضون ) جمع سالم على غير القياس، والواحد كما ذكرنا عضة، أي قسما مفرقا من قولهم عضيت الشيء تعضية إذا فرقته، وكل فرقة عضة.
والمعنى أن هؤلاء المقتسمين لم يأخذوا بما فيه، ولم يعتبروا بعبره، بل قسموه على حسب أهوائهم أقساما باطلة لا أصل لها في حقيقته فتركوا تدبره وتعرفه، وإدراك ما فيه من إنذار وتبشير ومعرفة وحكمة، وما فيه من أخبار السابقين، والكشف عما يكنه الغيب بالنسبة للمستقبل، وعكسوا أهواءهم عليه، فجعلوها أقساما له، وهي باطلة في ذاتها وباطلة بالنسبة للحاضر، وبذلك كان بينهم وبينه حجابا مستورا، نسجوه من أوهامهم فزادوا بذلك ضلالا فوق ضلالهم.
( الفاء ) للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه ترتب على اقتسامهم للقرآن، وجعله متفرقا في زعمهم الباطل، وإيغالهم في الشرك والفساد إيغالا أضل عقولهم وأقوالهم وأعمالهم أن أقسم الله بربوبيته، ليسألن عما كانوا يعملون، وكان القسم بقوله تعالى :﴿ فوربك ﴾ للإشارة إلى أن ذلك من الحياة لرسالتك وجزاء اقترافهم عليها وجحودهم لها.
وجواب القسم ﴿ لنسألنهم أجمعين ﴾، وقد أكد سؤالهم ب ( نون التوكيد )، وب ( لام القسم )، وبكلمة ﴿ أجمعين ﴾، أي أنه لا يعزب أحد عن السؤال، وليس العقاب هو مجرد السؤال، وإنما العقاب ما وراء السؤال من عذاب، وذكر السؤال لبيان أنهم محاسبون على كل ما يفعلون، وأن الله تعالى عنده علم كل شيء، وأسند السؤال إليه سبحانه ؛ لبيان جلال الأمر، وعظم ما يرتكبون، وإن كانوا يلهون ويلعبون بما يفعلون، فالله لا يتركهم، وما الله بغافل عما يعملون.
( الفاء ) للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه ترتب على اقتسامهم للقرآن، وجعله متفرقا في زعمهم الباطل، وإيغالهم في الشرك والفساد إيغالا أضل عقولهم وأقوالهم وأعمالهم أن أقسم الله بربوبيته، ليسألن عما كانوا يعملون، وكان القسم بقوله تعالى :﴿ فوربك ﴾ للإشارة إلى أن ذلك من الحياة لرسالتك وجزاء اقترافهم عليها وجحودهم لها.
وجواب القسم ﴿ لنسألنهم أجمعين ﴾، وقد أكد سؤالهم ب ( نون التوكيد )، وب ( لام القسم )، وبكلمة ﴿ أجمعين ﴾، أي أنه لا يعزب أحد عن السؤال، وليس العقاب هو مجرد السؤال، وإنما العقاب ما وراء السؤال من عذاب، وذكر السؤال لبيان أنهم محاسبون على كل ما يفعلون، وأن الله تعالى عنده علم كل شيء، وأسند السؤال إليه سبحانه ؛ لبيان جلال الأمر، وعظم ما يرتكبون، وإن كانوا يلهون ويلعبون بما يفعلون، فالله لا يتركهم، وما الله بغافل عما يعملون.
اصدع، معناها اجهر بما تدعوا إليه مأمورا به، ولا تبال أحدا، وأعرض عنهم، والصدع شق الصلب وتفريق أجزائه، أو الوصول إلى ما وراءه ولا يبقى حاجزا، أو من الصديع، وهو ظهور الفجر الصادق يشق الليل البهيم، ويحيط النور الأبيض يشق الجو المظلم.
والمعنى حينئذ، اجهر بالحق، وشق به ظلام الجاهلية، كما يشق الفجر بنوره ظلمة الليل.
وقوله تعالى :﴿ بما تؤمر ﴾، أي أن شق الظلام بالنور هو بما تؤمر، فهو النور الذي يشق الظلام.
وقوله تعالى :﴿ وأعرض عن المشركين ﴾، أي لا تلتفت إليهم، ولا تبال بهم، ولا تدهن معهم بقول في دين الله تعالى، ولا تحسب إن ممالأتهم تدنيهم، إنما يدنيهم الجهر بالحق مع الموعظة الحسنة من غير جفوة، ولا إدهان ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون ( ٩ ) ﴾ [ القلم ].
وفي بعض التفسير الأثري أن الله تعالى كفاه أشد المستهزئين، وذكر أنهم كانوا خمسة رجال من أشراف قريش هم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والتهكم به وبدعوته، فأهلكهم الله تعالى، أما الوليد فمر بنبال فتعلق به سهم، فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبه فمات قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحضر بدرا، وأن العاص بن وائل، قد دخلت في أخمص قدمه شوكة فانتفخت رجله حتى صار كالرحى، ومات منها، وأما عدي بن قيس، فامتخط قيحا حتى مات، وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه كان تحت شجرة فأصابته حال كان ينطح بسببها الشجرة، ويضرب الشوك حتى مات، وأما الأسود بن المطلب، فقد أصابه الاستسقاء، وهذا خبر قد روى وليس لنا أن نرده، لمجرد أنه خارق للعادة، ولكن نقول الآية من غير الاعتماد عليه واضحة.
إن محمدا صلى الله عليه وسلم بشر من البشر، قد كان يسمع باطلا، ويؤذى بالقول والاستهزاء، ويرمى عليه فرث جزور، فتنحى الفتاة الطاهرة فاطمة التي صارت سيدة نساء المؤمنين، فلا يتبرم بها، ويستمر طليق الوجه ولكم صدره يضيق حرجا، والرجل الكامل وخصوصا أعظم الدعاة الحق يضيق صدره، ولا يتغير قوله أو عمله، ولقد قرر الله تعالى خالق الخلق ذلك فقال :﴿ ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون ( ٩٧ ) ﴾ عبر سبحانه عن ألم النفس، وضيقها بضيق الصدر كأن الصدر أصبح لا يتسع لمثل هذا القول الذي كانوا يقولونه من قولهم ساحر، ومن قولهم مجنون، ومن قولهم في القرن إنه شعر، وإنه أساطير الأولين، ومن طلبهم خوارق غير القرآن، ومن عبادتهم الأوثان.
وقد أكد الله تعالى علمه بذلك ب ( اللام ) وب ( قد )، وإن تأكيد علم الله بما يضيق به صدر نبيه الأمين تسرية لنفسه، وفيه كمال معاونته، وفيه مع كل هذا ما يفيد الإنذار للمشركين على ما يقولون ويفعلون ويعتقدون، فما دام علم ثانيا، فإنه يحق الحق، ويبطل الباطل، ويجزى كلا بما يفعل، وهو القوي المتين.
( الفاء ) هنا تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كان قد أصابك قلق النفس فعالجه :﴿ فسبح بحمد ربك ﴾، أي فانزع إلى الله، واركن إليه بالتسبيح والحمد، فإن ذلك في ذاته كشف للكرب من جوانب الدنيا، وهو في الوقت ذاته شعور بأن ما ينال صاحب الرسالة من أذى إنما هو لله وللقيام بحقه، وذلك ذاته تسبيح أي تسبيح وحمد لله أي حمد.
وعبر سبحانه بقوله :﴿ بحمد ربك ﴾ للإشارة إلى أن ربك الذي حماك ويكلؤك، فإن كان منك قلق، فلن يكون منهم أذى لك في قابل أمرك، إنما هو أخذ بالغلب أو أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ وكن من الساجدين ﴾، أي استمر في خضوعك لرب العالمين، والسجود هنا إما أن نقول : إن معناه الخضوع المطلق لله تعالى، فالخضوع له وذكره هو اطمئنان القلوب، وقد قال تعالى :﴿... ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾ [ الرعد ] أو نقول : إنه سجود الصلاة، ويكون المعنى كن مستمرا في صلاتك، ففي الصلاة تفريج الكروب، وذهاب الأحزان، والانصراف عن الهموم، وفي الأثر : كان الني صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولقد روى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء".
في هذا بيان لحقيقة التسبيح بحمد ربه، وهو العبادة بكل أنواعها من تطهير للنفس بالصلاة والصوم والحج وتطهير للمجتمع بالصدقات المنثورة والمفروضة، وقد كانت مطلوبة قبل الهجرة، وهم في مكة كما قال تعالى في سورة الروم المكية :﴿... وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( ٣٩ ) ﴾ [ الروم ].
والتعبير ب ( ربك ) فيه إشارة إلى أن مقام الربوبية يقتضى العبادة الخالصة له وقد حدد سبحانه وتعالى نهاية العباد بقوله :﴿ حتى يأتيك اليقين ﴾.
الكثرة الكبرى من المفسرين يقولون : إن اليقين هنا هو الموت، ويكون المعنى على هذا حتى يأتيك الأمر الذي لا يرتاب فيه وهو اليقين الثابت بالموت، إذ يكون اليقين ثابتا بالاعتقاد، حتى يكون الموت، فيكون ثابتا بالعيان لا بالبرهان وهذا الكلام يشير إلى حقيقتين ثابتتين :
الحقيقة الأولى : وجوب العباد طوال الحياة حتى الممات.
والحقيقة الثانية : فيه إشارة إلى أن العبادة تزيد اليقين فيزداد المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم، ولله غيب السموات والأرض وإليه مرجع الأمور.