تفسير سورة الحجر

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١٥- سورة الحجر
سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى١ :﴿ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ﴾ إلى قوله :﴿ ما كانوا يكسبون ﴾ الدال على مؤاخذتهم لمجرد تكذيب الرسل والإعراض عن آيات الله، بأدنى وجوه المؤاخذة، مع غاية تحصنهم. ففيه غاية تعظيم الرسل والآيات. وهو من أعظم مقاصد القرآن : أفاده المهايمي، وهي مكية وآياتها تسع وتسعون.
١ [١٥ / الحجر / ٨٠]..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)
الر تقدم الكلام في مثله تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الإشارة إلى الر لأنه اسم للسورة أي تلك السورة العظيمة آيات الكتاب الكامل وآيات قرآن عظيم الشأن، مبين للحكم والأحكام ولسبيل الرشد والغي. من (أبان) المتعدي. أو الظاهر معانيه أو أمر إعجازه، وكونه آية قاهرة من (أبان) اللازم. أو الإشارة إلى آيات السورة أو إلى جميع آيات القرآن. وتعريف الكتاب للتعظيم والتفخيم، كتنكير (قرآن). وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ٢]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢)
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ تبشير للنبي ﷺ بظهور دينه. وأنه سوف يأتي أيام يتمنى الكافرون بها، أن لو سبق لهم الإسلام فكانوا من السابقين. لما يرون من إعلاء كلمة الدين وظهوره على رغم الملحدين. لأن من تأخر إسلامه منهم، وإن ناله من الفضل ما وعد به الحسنى، ولكن لا يلحق السابقين لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً [الحديد: ١٠]، وفيه تثبيت للنبيّ ﷺ على الصدع بالدعوة والصبر عليها، لما أن العاقبة له. وإنما جيء بصيغة التقليل، جريا على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك. ترفعا واستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ٣]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا أي بدنياهم وتنفيذ شهواتهم وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي
يشغلهم عن التوبة والتذكير، أمل استقامة الحال. وأن لا يلقوا إلا خيرا في المآل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي لمن تكون له العقبى.
قال الزمخشري: فيه تنبيه.
ثم بيّن تعالى سر تأخير عذابهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ٤]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي أجل مقدّر ليتأمّل في أسباب الهلاك ليتخلص عنها، وذلك بما قام من الحجة عليها، بتقدم الإنذار وتكرّره على سمعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ٥]
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي لا تهلك قبله وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي عنه، للزوم الحجة وارتفاع الأعذار. ثم أخبر تعالى عن عتوهم في كفرهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ٦]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦)
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي يا أيها المدعي ذلك! إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى اتباعك، وترك ما وجدنا عليه آباءنا. أو في دعواك تنزيل الذكر. أو نادوه بذلك استهزاء وتهكما. أو هو من كلامه تعالى تبرئة له عما نسبوه إليه من أول الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧ الى ٨]
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي هلّا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك كقوله: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيراً
[الفرقان: ٧]، وقول فرعون: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: ٥٣].
ثم أشار إلى جواب مقالهم، وردّ مقترحهم بقوله تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي عليهم فيأتونهم ويشاهدونهم إِلَّا بِالْحَقِّ أي الحكمة التي جرت بها السنّة الإلهية وهو العذاب وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي مؤخّرين. كقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: ٢١- ٢٢].
ثم أشار إلى ردّ إنكارهم التنزيل مع تسلية وبشارة عظيمة، بقوله تعالى
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ٩]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من كل من بغى له كيدا. فلا يزال نور ذكره يسري، وبحر هداه يجري، وظلال حقّيّته في علومه تمتد على الآفاق، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق، رغما عن كيد الكائدين، وإفساد المفسدين يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [الصف: ٨]، وفي إيراد الجملة الثانية اسمية، دلالة على دوام الحفظ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا أي رسلا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أي فرقهم وطوائفهم.
جمع (شيعة) وهي الفرقة المتفقة على مذهب وطريقة. و (الأولين) نعت لمحذوف. أي الأمم. أو الكلام. من إضافة الصفة للموصوف. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي كما يفعله هؤلاء المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أي الذكر المنزل فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين
وقوله: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالذكر. حال من ضمير (نسلكه) أي مكذّبا مستهزأ به غير مقبول.
قال الزمخشري: كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام. تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. وقيل الجملة بيان لما قبلها. وجوّز في ضمير (نسلكه) أن يعود إلى الاستهزاء والتكذيب المعلوم.
وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ استئناف جيء به تكملة للتسلية، وتصريحا بالوعيد والتهديد. أي قد مضت السنة فيهم من هلاكهم. وزهوق باطلهم، ونصر الرسل، وغلبة جنود المؤمنين عليهم، واستعمارهم ديارهم. ثم بيّن تعالى أنهم لا يتركون الاستهزاء بالرسل وإن أتتهم الآيات التي تشبه الملجئة لقوة عنادهم وبغيهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المستهزئين باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا أي فصاروا طول نهارهم فِيهِ يَعْرُجُونَ أي يصعدون مستوضحين لما يرونه فيها من العجائب لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي حيّرت أو حبست من الإبصار، وما نراه شيء نتخايله لا حقيقة له بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
قال الناصر في (الانتصاف) : المراد، والله أعلم، يعني من الآيتين، إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها.
كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين. فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء.
كلّ على علم وفهم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:
٤٢٢]، ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن. فأعلمهم الله تعالى من الآن. وهم في مهلة وإمكان، أنهم ما كفروا إلا على علم. معاندين باغين غير معذورين، والله أعلم. ولذلك عقبه تعالى بقوله وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ الآية، أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة، وذلك بأن يفتح لهم باب في السماء ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهارا.
وإلى ذلك الإشارة بقوله فَظَلُّوا لأن الظلول إنما يكون نهارا. لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا وسحرنا محمد. وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها. فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم، كما فهم غيرهم من المصدقين، لأن ذلك كله حاصل لهم. وإنما بهم العناد واللدد والإصرار، لا غيره. والله أعلم.
ثم بيّن تعالى دلائل وحدته وعظمته وقدرته الباهرة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً جمع (برج) يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الأثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية.
وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها. فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة وَزَيَّنَّاها أي السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية لِلنَّاظِرِينَ أي إلى حركاتها وأضوائها. أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ أي اختلس السَّمْعَ أي من الملائكة السماوية فَأَتْبَعَهُ أي تبعه ولحقه شِهابٌ مُبِينٌ أي لهب محرق ظاهر، فيرجع أو فيحترق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : آية ١٩]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩)
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي وزن بميزان الحكمة، وقدّر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان، أو بمعنى مستحسن متناسب من قولهم: كلام موزون.
وقد ذكر الشريف المرتضى في (الدرر) : أن العرب استعملته بهذا المعنى، كقول عمر ابن أبي ربيعة.
وحديث ألذّه هو مما... تشتهيه النّفوس يوزن وزنا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما، مما تقتضيه ضرورة الحياة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي من الأنعام والدواب وما أشبهها. قال القاضي: وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين، مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا يكون كذلك، على كمال قدرته وتناهي حكمته والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد، بما أنعم عليهم في ذلك، ليوّحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك وقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه.
شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء، المعدّة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم، استعارة تمثيلية. أو شبّه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. استعارة مكنية. ومعنى نُنَزِّلُهُ أي نوجده ونخرجه في عالم الشهادة. والقدر المعلوم الأجل المعين له، حسبما تقتضيه الحكمة، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣)
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ أي تلقح السحاب أي تجعلها حوامل بالماء. وذلك أن السحاب بخار يصير، بإصابته الهواء البارد، حوامل للماء. قاله المهايمي: فاللواقح، عليه، جمع (ملقح) بحذف الزوائد. أو تلقح الشجر بجري مائها فيه أو تنميته ليثمر ويزهو. وجوّز كون اللواقح جمع (لاقح) وهي الناقة الحامل. فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها. كما يشبه ما لا تكون كذلك ب (العقيم) فيقل: ريح عقيم. فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي بقادرين على إيجاده وإنزاله. و (الخزن) اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة، كما مرّ. أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه، من سهول وجبال وعيون وآبار، بل هو تعالى وحده الذي حفظه
وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذابا ورحم العباد بسقياه وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أي الباقون بعد هلاك الخلق كله. وقيل للباقي: وارث، استعارة من (وارث الميت) لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلوات الله عليه في دعائه: واجعله الوارث منا. كذا في (الكشاف).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أي من تقدم ولادة وموتا. ومن تأخر من الأولين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر. لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه، بعد الاحتجاج على كمال قدرته فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وفي تكرير قوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا من كمال التأكيد ما لا يخفى وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ أي الأولين والآخرين على كثرتهم إِنَّهُ حَكِيمٌ أي يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة عَلِيمٌ أي بكل ما فيهم من خفايا الصفات الذميمة سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام: ١٣٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس مصوّت مِنْ حَمَإٍ صفة لصلصال. أي كائن من طين متغير مسود مَسْنُونٍ أي مصوّر من (سنة الوجه) وهي صورته. أو مصبوب، من (سنّ الماء) صبّه. أي مفرغ على هيئة الإنسان. كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم صيّره جسدا ولحما ونفخ فيه من روحه وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الإنسان.
مِنْ نارِ السَّمُومِ أي من نار الريح الشديد الحرّ.
قال أبو السعود: ومساق الآية، كما هو، للدلالة على كمال قدرته تعالى، وبيان
بدء خلق الثقلين. فهو التنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول الموادّ للجمع والإحياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي عدلت خلقته وأكملتها وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي تحية له وتعظيما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
يعني: وقد خلقتني من نار فأنا خير منه. كما صرح به في آية غيرها. وفي تكرير قوله: مِنْ صَلْصالٍ إلخ تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول، ليكون كابحا من جماح غوايته، وشدّة تمرده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٤ الى ٣٨]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من زمرة الملائكة المعززين فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مطرود من كل خير وكرامة. فإن من يطرد يرجم بالحجارة. أو شيطان يرجم بالشهب. وهو
وعيد يتضمن الجواب عن شبهته. فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون.
أفاده أبو السعود.
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي الجزاء. وهو يوم القيامة قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو يوم البعث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١)
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أي المعاصي فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصتهم لطاعتك وجردتهم بالتوجه إليك.
وقرئ بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لك وأعمالهم من غير حظ لغيرك فيها.
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي حق نهجه ومراعاته لا اعوجاج فيه. وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين، إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي، فيتبعونك كما قال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي قهر على الإغراء.
إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي المطبوعين على الغواية وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قال المهايمي: لأن غوايتهم إنما كانت بترك متابعة الدليل مع متابعة الأهوية الباطلة، لغلبتها عليهم لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي الغواة جُزْءٌ مَقْسُومٌ أي حزب معين مفرز من غيره، حسبما يقتضيه استعداده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ادْخُلُوها أي يقال لهم ادخلوها بِسَلامٍ أي
سالمين أو مسلما عليكم آمِنِينَ أي من الآفات والزوال وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي حقد كان في الدنيا، لبعضهم على بعض إِخْواناً حال من فاعل ادْخُلُوها أو الضمير في (آمنين) عَلى سُرُرٍ أي مراتب عالية مُتَقابِلِينَ لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم. فيتلذذ بعضهم برؤية وجه بعض مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي تعب وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ لسرمدية مقامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢)
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ أي لمن لم يتب من كفره. والجملة فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له. وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ أي عن نبئه. والضيف كالزّور، يقع على الواحد والجمع.
قال في الكشاف: عطف وَنَبِّئْهُمْ على نَبِّئْ عِبادِي ليتخذوا ما أحلّ من العذاب بقوم لوط، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون. وذلك لما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي مع مسّ الكبر بأن يولد لي، والكبر مانع منه فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قال الزمخشري: هي (ما) الاستفهامية دخلها معنى التعجب. كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني. أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصوّر في العادة. فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء. لأن البشارة بمثل هذا، بشارة بغير شيء.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي الآيسين من ذلك. قالَ وَمَنْ
يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ
يعني لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله تعالى. والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
قالَ أي إبراهيم. بعد أن ذهب عنه الروع فَما خَطْبُكُمْ أي أمركم الخطير الذي لأجله أرسلتم، سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي إلى إهلاكهم. يعنون قوم لوط إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين مع الكفرة، لتهلك معهم. وإسناد التقدير لهم مجازيّ من باب قول خواصّ الملك (دبرنا كذا وأمرنا بكذا) وإنما يعنون دبر ملك وأمر. هذا إذا كان (قدرنا) بمعنى أردنا وقضينا. وإن كان بمعنى علمنا، فلا غرو في علم الملائكة ذلك، بإخباره تعالى إياهم به.
ومن الناس من يجعل (قدرنا) من كلامه تعالى، غير محكيّ عن الملائكة. قال في (الانتصاف) وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم ولا أدري من أي الأقوام أنتم وما أقدمكم.
وقال المهايميّ: أي يخاف منكم تارة وعليكم أخرى. والظاهر أنه قال ذلك لهم، بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم. كما فصل في سورة هود قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي العذاب الذي كنت تتوعدهم به، فيمرّون به، ويكذّبونك وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي اليقين مع هلاكهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ أي فاذهب بهم في الليل بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي في طائفة منه وهي آخره وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لينظر ما وراءه، فيرى من الهول ما لا يطيقه وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ، وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي يستأصلون عن آخرهم، حال كونهم داخلين في الصبح وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي مدينة لوط، وهي سدوم يَسْتَبْشِرُونَ أي بأضيافه، طمعا فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٨ الى ٧٧]
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي بالإساءة إليهم. فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ، قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن أن تجير أحدا منهم أو تدفع عنهم أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد.
وكان يقوم ﷺ بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرّض له. فأوعدوه وقالوا:
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء: ١٦٧]، أفاده الزمخشري.
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ تقدم الكلام عليه في سورة هود، مفصلا لَعَمْرُكَ قسم بحياة النبي ﷺ اعترض به تعبا من شدة غفلتهم وتكريما للمخاطب إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم يَعْمَهُونَ أي يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم. ولما لم يسمعوا منه، النصيحة المبقية لهم، أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة العذاب
339
مُشْرِقِينَ أي داخلين في وقت شروق الشمس فَجَعَلْنا أي من تلك الصيحة المحرّكة للأرض عالِيَها سافِلَها قال المهايمي لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي طين متحجر، لرجمهم على لواطهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي الناظرين بطريق في الآيات وَإِنَّها يعني مدينة قوم لوط المدمّرة لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي ثابت يسلكه الناس، لم يندرس بعد، وهم يبصرون تلك الآثار.
قال الزمخشري: وهو تنبيه لقريش. كقوله: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧- ١٣٨].
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي في هلاكهم لعبرة لهم.
تنبيهان:
الأول- قال ابن القيّم: في (أقسام القرآن) : أكثر المفسرين من السلف والخلف بل لا يعرف السلف فيه نزاعا- أن هذا، يعني قوله تعالى لَعَمْرُكَ قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الربّ عزّ وجلّ بحياته.
وهذه مزية لا تعرف لغيره.
ولم يوفق الزمخشري لذلك. فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط. وإنه من قول الملائكة.
فقال: هو على إرادة القول. أي قالت الملائكة للوط عليه السلام:
لَعَمْرُكَ... الآية وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب، لا أهل التعطيل والاعتزال.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لَعَمْرُكَ أي حياتك: قال: وما أقسم الله تعالى بحياة نبيّ غيره. والعمر والعمر واحد. إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف، لكثرة دور الحلف على ألسنتهم. وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة. فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به، لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم. ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات. فهو أهل أن يقسم به. والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات. ثم قال ابن القيّم: وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة، لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل:
340
سكران:
سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران؟
الثاني- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه الآية أصل في الفراسة.
أخرج الترمذيّ من حديث أبي سعيد مرفوعا: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «١». ثم قرأ هذه الآية.
وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس بن معاوية. انتهى.
وقد أجاد الكلام في الفراسة، الراغب الأصفهانيّ في كتاب (الذريعة) حيث قال في الباب السابع: وأما الفراسة، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله، على أخلاقه وفضائله ورذائله.
وربما يقال: هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله. وقد نبه الله تعالى على صدقها بقول: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر: ٧٥]، وقوله:
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ [البقرة: ٢٧٣]، وقوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:
٣٠]، ولفظها من قولهم (فرس السبع الشاة) فكأن الفراسة اختلاس المعارف. وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه، وذلك ضرب من الإلهام، بل ضرب من الوحي. وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله «٢» :«المؤمن ينظر بنور الله»
وهو الذي يسمى صاحبه المروّع والمحدّث.
وقال عليه الصلاة والسلام (إن يكن في هذه الأمة محدّث، فهو عمر) «٣».
وقيل في قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: ٥١] الآية: إنما كان وحيا بإلقائه في الروع، وذلك للأنبياء كما قال عز وجلّ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: ١٩٣- ١٩٤]، وقد يكون بإلهام في حال اليقظة وقد يكون في حال المنام. ولأجل ذلك
قال عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) «٤».
والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية. ومن عرف ذلك كان ذا فهم
(١) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ١٥- سورة الحجر، ٦- باب حدثنا محمد بن إسماعيل.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ١٥- سورة الحجر، ٦- باب حدثنا محمد بن إسماعيل، عن أبي سعيد الخدريّ، من حديث.
(٣) أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٦- باب مناقب عمر بن الخطاب، أبي حفص القرشيّ، العدويّ، رضي الله عنه، الحديث رقم ١٦٢٨ عن أبي هريرة.
(٤) أخرجه البخاريّ في: التعبير، ٢- باب رؤيا الصالحين، الحديث رقم ٢٥٣٦، عن أنس بن مالك.
341
ثاقب بالفراسة. وقد عمل في ذلك كتب. من تتبع الصحيح منها، اطلع على صدق ما ضمنوه. والفراسة ضرب من الظن. وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال: الظن بتقلب القلب. والفراسة بنور الرب. ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: ٢٩] و [ص: ٧٢]، كان ممن وصفه بقوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هود: ١٧]، وكان ذلك النور شاهدا، أصاب فيما حكم به. ومن الفراسة
قوله عليه الصلاة والسلام في المتلاعنين: (إن أمرهما بيّن، لولا حكم الله) «١».
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١)
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (إن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. أي: وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. وهم قوم شعيب عليه السلام.
كانوا يسكنون أيكة، وهي بقعة كثيرة الأشجار، فظلموا بأنواع من الظلم، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان. فبعث الله إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي بعذاب الظلة، وهي سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها، فأحرقتهم وَإِنَّهُما يعني قرى قوم لوط والأيكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي طريق واضح. وقد كانوا قريبا من قوم لوط، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان. ولهذا لما أنذرهم شعيب قال: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩].
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني ثمود، كذبوا صالحا عليه السلام. ومن كذب واحدا من الأنبياء عليهم السلام، فقد كذب الجميع. لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار. و (الحجر) واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه. معروف. يجتازه ركب الحج الشاميّ.
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيّهم. كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء. وكانت تسرح
(١)
أخرجه البخاري في: الطلاق، ٣١- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت راجما بغير بينة
، حديث رقم ٢١٦٣. عن ابن عباس. [.....]
في بلادهم. لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: ١٥٥]، فلما عتوا وعقروها، قال: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: ٦٥].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٧]
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ أي من حوادث الدهر فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي وقت الصباح من اليوم الرابع. وفي سورة الأعراف: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف: ٧٨] أي الزلزلة وهي من توابع الصيحة. أو هي مجاز عنها.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال لما جاء أمره تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة الثابتة، التي لا تقبل التغير. وهي الاستدلال بها على الصانع وصفاته وأسمائه وأفعاله ليعرفوه فيعبدوه، بحيث لا يلائم استمرار الفساد. ولذلك اقتضت الحكمة إرسال الرسل مبشرين ومنذرين. وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي فيجزي كلا بما كانوا يعملون فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي عاملهم معاملة الصفوح الحكيم، كقوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: ٨٩].
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة. فإنه الخلّاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تمزّق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: ٨١].
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال الرازي إنه تعالى لما صبّره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها. لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه، سهل عليه الصفح والتجاوز.
(والسبع المثاني) هو القرآن كله كما قاله ابن عباس في رواية طاوس. لقوله
تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: ٢٣]، والواو في قوله: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لعطف الصفة كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
و (السبع) يراد بها الكثرة في الآحاد. كالسبعين في العشرات. و (المثاني) جمع مثنى بمعنى التثنية أو الثناء. فإنه تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه. أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز. أو مثن على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى.
وقد روي عن بعض السلف تفسير السبع بالسور الطوال الأول، وهذا لم يقصد به. إلا أن اللفظ الكريم يتناولها، لا أنها هي المعنيّة. كيف لا وهذه السورة مكية وتلك مدنيات؟ كالقول بأنها الفاتحة سواء. وأما
حديث «١» :(الحمد لله ربّ العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) عند الشيخين،
فنعناه أنها من السبع، لعطف قوله (والقرآن العظيم الذي أوتيته) ولو كان القصر على بابه، لناقضه لمعطوف. لاقتضائه أنها هو لا غيره. وبداهة بطلانه لا تخفى.
وسر الإخبار بأنها السبع، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. كما بينه الإمام مفتي مصر في (تفسير الفاتحة) فراجعه. هذا ما ظهر لي الآن في تحقيق الآية.
وللأثريّ الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث- أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء، لا بمعنى الكتاب كله. والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠)
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ يعني: قد أوتيت النعمة العظمى، التي كل نعمة وإن عظمت، فهي إليها حقيرة. وهي القرآن العظيم. فعليك
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ١- سورة الفاتحة، ١- باب ما جاء في فاتحة الكتاب، حديث ١٩٦١، عن أبي سعيد بن المعلّى.
أن تستغني ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به، من زخارف الدنيا وزينتها، أصنافا من الكفار متمنيا لها. فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته. وفي التعبير عما أوتوه (بالمتاع) إنباء عن وشك زوالها عنهم.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لعدم إيمانهم، المرجوّ بسببه تقوّي ضعفاء المسلمين بهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم. وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي المنذر المظهر للعذاب لمن لم يؤمن كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ أي مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين. أو إنذارا مثل ما أنزلنا. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح عليه السلام، الذين تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله فأخذتهم الصيحة، كما مر. فالاقتسام من (القسم) لا من القسمة.
وهذا التأويل اختاره ابن قتيبة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي أجزاء جمع (عضة) يعنى كفار مكة. قالوا:
سحر. وقالوا: كهانة. وقالوا: أساطير الأولين. وهو مبتدأ خبره فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي من التقسيم فنجازيهم عليه. وجوز تعلق (كما) بقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أي لنسألنهم أجمعين مثل ما أنزلنا. فيكون (كما) رأس آية و (المقتسمون) حينئذ، إما من تقدم، أو المشركون. ويعنى بالإنزال عليهم إنزال الهداية التي أبوها. وجوّز جعل الموصول مفعولا أول للنذير، أو لما دلّ عليه من أنذر. أي النذير. أو أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير، مثل ما أنزلنا على المقتسمين. وجوّز جعل (كما) متعلقا بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب الذين جزءوا القرآن إلى حق وباطل. حيث قالوا: قسم منه حق موافق لما عندنا. وقسم باطل لا يوافقه. أو القرآن هو مقروؤهم. أي قسموا ما قرءوا من كتبهم وحرفوه. فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه.
والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أمر من (الصدع) بمعنى الإظهار والجهر، من (انصداع الفجر). أو من (صدع الزجاجة) ونحوها وهو تفريق أجزائها. أي: افرق بين الحق والباطل وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي الذين يرومون صدك عن التبليغ، فلا تبال بهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي حفظناك من شرّهم، فلا ينالك منهم ما يحذر. وهذا ضمان منه تعالى، له صلوات الله عليه، لينهض بالصدع نهضة من لا يهاب ولا يخشى. كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: ٦٧].
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وصفهم بذلك، تسلية له عليه الصلاة والسلام. وتهوينا للخطب عليه، بأنهم أصحاب تلك الجريمة العظمى، التي هي أكبر الكبائر، التي سيخذلون بسببها. كما قال: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة أمرهم. وقد جوّز في الموصول أن يكون صفة (للمستهزئين) ومنصوبا بإضمار فعل. ومرفوعا بتقدير (هم). وفي الآية وعيد شديد لمن جعل معه تعالى معبودا آخر. وقد أشار كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ عنى به ما عجله من إهلاكهم. كما روى ابن إسحاق عن عروة: أن عظماء المستهزئين كانوا خمسة نفر.
وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم: من بني أسد أبو زمعة، كان النبي ﷺ قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه.
فقال: اللهم! أعم بصره وأثكله ولده
. ومن بني زهرة الأسود. ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة. ومن بني سهم العاص بن وائل.
ومن خزاعة الحارث. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله ﷺ الاستهزاء، أنزل الله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ إلى قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ،
قال ابن إسحاق عن عروة، إن جبريل أتى رسول الله ﷺ وهو يطوف بالبيت. فقام وقام رسول الله إلى جنبه. فمر به الأسود فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه. ومر به الوليد فأشار إلى أثر جراح بأسفل كعب رجله. كان أصابه قبل ذلك بسنتين. فانتقض به فقتله.
ومرّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار يريد الطائف.
فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه ومرّ به الحارث فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله
. انتهى.
ومثله ما
رواه ابن مسعود: قال: كنا مع رسول الله ﷺ نصلي في ظل الكعبة.
وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزورا في ناحية مكة: فبعثوا فجاؤوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد. فجاءت فاطمة فطرحته عنه. فلما انصرف قال: اللهم! عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأميّة بن خلف وعقبة بن أبي معيط «١».
قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ لما ذكر تعالى أن قومه يهزئون ويسفهون، أعلمه بما يعلمه سبحانه منه، من ضيق صدره وانقباضه بما يقولون: لأن الجبلّة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك. ثم أعلمه بما يزيل ضيق الصدر والحزن. وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة. كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥]، وقال: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨] ومعلوم أن في الإقبال على ما ذكر، استنزال الإمداد الربانيّ بالنصر والمعونة. لقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٣] و [الأنفال: ٤٦]، وقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: ١٥٢]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: ١٢٨].
وقد روي في شمائله صلوات الله عليه أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، تأويلا لما ذكر.
قال أبو السعود: وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيق ما تضمنته من التسلية. وفي التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام.
ما لا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام، والإشعار بعلة الحكم، أعني الأمر بالتسبيح والحمد. والمراد من (الساجدين) المصلين. من إطلاق الجزء على
(١) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٦٩- باب إذا ألقي على ظهر المصلّي قذر أو جيفة، حديث ١٧٩.
وأخرجه مسلم في: الجهاد والسير، ٣٩- باب ما لقي النبيّ ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، حديث ١٠٧.
347
الكل. و (اليقين) : الموت. فإنه متقين اللحوق بكل حيّ مخلوق. وإسناد الإتيان إليه، للإيذان بأنه متوجه إلى الحيّ طالب للوصول إليه. والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا.
كقوله تعالى في سورة مريم: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم: ٣١].
وقيل: المراد ب (اليقين) تعذيب هؤلاء وأن ينزل بهم ما وعده. ولا ريب أنه من المتيقن. إلا أن إرادة الموت منه، أولى. يدلّ له قوله تعالى إخبارا عن أهل النار:
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ [المدثر: ٤٣ و ٤٧]، وما
في الصحيح عن أم العلاء، امرأة من الأنصار: أن رسول الله ﷺ لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أم العلاء: رحمة الله عليك، أبا السائب! فشهادتي عليك، لقد أكرمك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير «١».
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: يستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ على أن العبادة، كالصلاة ونحوها، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، كما
في صحيح البخاري «٢» عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: صلّ قائما. فإن لم تستطع فقاعدا. فإن لم تستطع فعلى جنب.
ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة.
فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل. فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم، أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا، مع هذا، أعبد الناس وأكثرهم مواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. انتهى.
(١) أخرجه البخاريّ في: الجنائز، ٣- باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كنفه، الحديث رقم ٦٦٦.
(٢) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، ١٧- باب صلاة القاعد، حديث رقم ٦١١.
348

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النحل
سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ النحل: ٦٨]، المشير إلى أنه لا يبعد أن يلهم الله عزّ وجلّ بعض خواص عباده، أن يستخرجوا الفوائد الحلوة الشافية من هذا الكتاب. بحمل كلماته على مواضع الشرف. وعلى المعاني المثمرة، وعلى التصرفات العالية. مع تحصيل الأخلاق الفاضلة وسلوك سبيل التصفية والتزكية. وهذا أكمل ما يعرف به فضائل القرآن ويدرك به مقاصده. قاله المهايمي.
وقال بعضهم: تسمية السورة بذلك تسمية بالأمر المهمّ. ليتفطن الغرض الذي يرمى إليه. ك (الجمعة) لأهمّيّة الاجتماع الأسبوعي وما ينجم عنه من مصالح الأمور العامة، والحديد لمنافعه العظيمة. و (النحل). و (العنكبوت). و (النمل). للتفطن لصغار الحيوانات الحكيمة الصنائع. وهكذا. وسيأتي طرف من حكمة النحل وأسراره عند آيته في هذه السورة.
وهي مكية. واستثنى ابن عباس آخرها. وعن الشعبيّ إلا قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ [النحل: ١٢٦]، الآيات وعن الشعبيّ: إلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ [النحل: ٤١]، الآيات. وآياتها مائة وثمان وعشرون.
وعن قتادة: تسمى سورة النعم. وذلك لما عدد الله فيها من النعم على عباده.
349
Icon