تفسير سورة الحجر

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤرَ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ﴾ هذه السورة مكية بلا خلاف مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر في آخر السورة قبلها أشياء من أحوال القيامة من تبديل السماوات والأرض وأحوال الكفار في ذلك اليوم وان ما أتى به على حسب التبليغ والإِنذار ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس وأحوال الكفر وودادتهم.﴿ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ وتلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب والقرآن المبين السورة وتنكير القرآن للتفخيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأي قرآن مبين كأنه قيل الكتاب الجامع للكامل والغرابة في البيان والظاهر ان ما في ربما مهيئة وذلك انها من حيث هي حرف جر على خلاف فيه لا يليها إلا الأسماء فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها وفي رب لغات وأحكام ذكرت في النحو وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجيء في القرآن إلا في هذا الموضع وقد اختلفوا تفيد التقليل أم التكثير والذي يظهر ان ذلك يفهم من سياق الكلام لا من وضعها ومثال هذا التركيب القرآني قول الشاعر: ربما تكره النفوس من الأمر   له فرجة كحل العقلوما مهيئة لمجيء الفعل بعدها ودعوى أنها نكرة موصوفة بعيد كتأويل من قال: رب شىء توده وحذف الضمير العائد على شىء وأكثر ما يأتي الفعل بعدها ماضياً كقول الشاعر: ربما أوفيت في علم   ترفض ثوبي شمالات وقد جاء مستقبلا ًفقال سليم القشيري: ومعتصم بالحي من خشية الردى   سيردي وغاز مشفق سيؤوبفيود مستقبل لا يحتاج إلى تأويله بمعنى ود وكثرة مجيء لو بعدود ينسبك منها مصدر تقديره ان لو كانوا مسلمين أي كونهم مسلمين ومن لم يثبت أو لو حرف مصدري يتأول مفعولاً محذوفاً لود وجواباً للو فيقدر يود الذين كفروا الإِسلام لو كانوا مسلمين لينجوا بذلك.﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ ﴾ أمر تهديد لهم ووعيد أي ليسوا ممن يرعوي عما هو فيه من الكفر والتكذيب ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإِيمان بالله تعالى وبرسوله وفي قوله: يأكلوا ويتمتعوا إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله تعالى.﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ تهديد ووعيد أي فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب السرمدي ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم وأنه لا يستبطأ فإِن له أجلاً لا يتعدّاه والمعنى من أهل قرية كافرين والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل وهو أبلغ في الزجر ومن قرية مفعول أهلكنا ومن لاستغراق الجنس.﴿ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ﴾ جملة حالية ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي: ما تسبق أمة وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملاً على المعنى وحذف عنه لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري: الجملة واقعة صفة لقرية والقياس ان لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى:﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ﴾[الشعراء: ٢٠٨] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال جاءني زيد عليه ثوب وجاءني زيد وعليه ثوب " انتهى ". ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال: الجملة نعت لقرية كقولك: ما لقيت رجلاً إلا عالماً قال: وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله:﴿ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾[البقرة: ٢١٦]، وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحداً قاله من النحويين، وهو مبني على أن ما بعد لا يجوز أن يكون صفة وقد منعوا ذلك. قال الأخفش: لا يفصل بين الصفة والموصوف بالاثم، قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره إلا رجل راكب وفيه قبح لجعل الصفة كالاسم. وقال أبو علي الفارسي: تقول ما مررت بأحد إلا قائماً فكأنما حال من أحد ولا يجوز إلا قائم لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. وقال ابن مالك: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه ان الجملة بعد إلا صفة لأحد لأنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي فلا يلتفت إليه وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أن الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالمؤمنون.﴿ وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ ﴾ الآية، قال مقاتل نزلت في عبد الله بن أمية والنضر بن الحرث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة وهذا الوصف بأنه نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون وهذا كقول فرعون ان رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون إذ لو كان مؤمناً برسالة موسى عليه السلام ما أخبر عنه بالجنون ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين بصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال:﴿ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾[الفرقان: ٧]، أو معاقبين على تكذيبك كما كانت باقي الأمم المكذبة. ولو ما حرف تحضيض بمعنى هلا، وقرىء: ما تنزل بشد التاء أصله تتنزل بشد التاء أصله تتنزل فأدغم التاء في التاء.﴿ إِلاَّ بِٱلحَقِّ ﴾ الظاهر أن معناها كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده لا على اقتراح كافر ولا باختيار معترض ثم ذكر عادة الله تعالى في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إذ لم يؤمنوا فكان الكلام ما ننزل الملائكة إلا بحق لا باقتراحكم وأيضاً فلو نزلت لم تنظر وأبعد ذلك بالعذاب أي تؤخروا المعنى وهذا لا يكون إذ كان في علم الله ان منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن.﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ أي حافظون له من الشياطين وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه فلا تعتريه زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا تبديل بخلاف غيره من الكتب المتقدمة فإِنه تعالى لم يتكفل بحفظها بل قال تعالى: (ان الربانيين والأحبار استحفظوها) ولذلك وقع فيها الاختلاف وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به ونسبته إلى الجنون واقتراح نزول الملائكة سلاه الله تعالى بأن ما أرسل من قبلك كان ديدين هؤلاء معك وتقدم تفسير الشيع في أواخر الانعام ومفعول أرسلنا محذوف أي أرسلنا من قبلك رسلاً. قال الزمخشري: وما يأتيهم حكاية حال ماضية لأن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال " انتهى ". هذا الذي ذكره هو قول الأكثرين أن ما تخلص المضارع للحال وتعنيه وذهب غيره إلى أن ما يكثر دخولها على المضارع مراداً به الحال وتدخل عليه مراداً به الاستقبال وأنشد شاهداً على ذلك قول أبي ذئيب:" أودي بني وأودعوني حسرة   عند الرقاد وغيره ما تقلع "وقال الأعشى يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:" له نافلات ما يغب نوالها   وليس عطاء اليوم مانعه غدا "وقال تعالى:﴿ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ ﴾[يونس: ١٥].
﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ الظاهر عود الضمير على الاستهزاء المفهوم من قوله: يستهزؤن، والباء في به للسبب والمجرمون هنا كفار قريش ومن دعاهم الرسول إلى الإِيمان. و ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ إذ كان إخباراً مستأنفاً فهو من العام المراد به الخصوص فيمن حتم عليه إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول.﴿ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ في تكذيبهم رسولهم أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم واستهزؤوا بهم وهو تهديد لمشركي قريش والضمير في عليهم عائد على المشركين وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإِيمان حتى ينكروا ما هو مشاهد. بالأعين المحسوس مماس بالأجساد بالحركة والانتقال وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق والظاهر الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله: عليهم أي لو فتح لهم باب من السماء وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا هو شىء نتخيله لا حقيقة له وقد سحرنا بذلك وجاء لفظ فظلوا مشعراً بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا.﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً ﴾ الآية، لما ذكر تعالى حال منكري النار وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية وبدأ بها ثم اتبعها بالدلائل الأرضية والبروج جمع برج. قال ابن عيسى الرفاني: البروج اثنا عشر برجاً: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وهي منازل الشمس والقمر والظاهر أن الضمير في وزيناها عائد على البروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ وقيل على السماء وهو قول الجمهور وخص بالناظرين لأنها من المحسوس الذي لا يدرك إلا بنظر العين ويجوز أن يكون نظر القلب لما فيها من الزينة المعنوية وهو ما فيها من حسن الحكم وبدائع الصنع وغرائب القدرة والضمير في وحفظناها عائد على السماء وكذلك قال الجمهور ان الضمير في وزيناها عائد على السماء حتى لا تختلف الضمائر وحفظ السماء وهو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح.﴿ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ الآية، ومعنى مددناها بسطناها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولما كانت هذه الجملة تقدمها جملة فعلية كان النصب على الاشتغال أرجح من الرفع على الابتداء فلذلك نصب والأرض والرواسي الجبال والظاهر أن الضمير في فيها عائد على الأرض الممدودة وقال ابن عباس وغيره: موزون مقدر بقدر وتقدم تفسير المعايش في أول الأعراف والظاهر أن من لمن يعقل ويراد به العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون فإِن الله هو الرزاق يرزقكم وإياهم ومن مجرور معطوف على الضمير في لكم وحسن العطف الفصل بينهما بقوله: فيها معايش، أو يدخل معهم ما لا يعقل بحكم التغليب كالانعام والدواب وما بتلك المثابة مما رزقه الله تعالى وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرازقون لهم وتقدم شرح الخزائن وان نافية ومن زائدة والظاهر أن المعنى وما من شىء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والانعام به فتكون الخزائن وهي ما تحفظ فيه الأشياء مستعارة من المحسوس الذي هو الجسم إلى المعقول. و ﴿ لَوَاقِحَ ﴾ جمع لاقح يقال: ريح لاقح جائيات بخير من إنشاء السحاب الماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير بل شر ريح عقيم. و ﴿ ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ ﴾ قال ابن عباس: الأموات. و ﴿ ٱلْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ الأحياء.﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ ﴾ فيه التفات وخروج من ضمير العظمة للواحد إلى الاسم الظاهر تنبيهاً على أن المتصف بتلك الأفعال السابقة هو ربك المالك لك والناظر في مصلحتك وهو توكيد للفظ الرب.
ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮ ﰿ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ ﴾ الآية، لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه نبههم على مبدأ أصلهم آدم صلى الله عليه وسلم وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى وتقدم شىء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكره الأمانة والاحياء والرجوع إليه تعالى، وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة وذكر الموازين فيه وفي الكهف بعد ذكر الحشر، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع إبليس ليحذرهم من كيده ولينظر واما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة التي هي مقر السعادة والراحة إلى الأرض التي هي مقر التكليف والتعب فيحترزوا من كيده. الصلصال، قال أبو عبيدة: الطين، إذا خلط بالرمل وجف والحماطين أسود منتن واحده حماة بتحريك الميم. وقال ابن عباس: المسنون الرطب، ومعناه المصبوب لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب فكني عن المصبوب بوصفه لا أنه موضوع. والسموم قال ابن عباس: الريح الحارة التي تقتل وعنه نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق ومعنى.﴿ سَوَّيْتُهُ ﴾ أكملت خلقه والتسوية عبارة عن الإِتقان وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت له.﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾ أي خلقت الحياة فيه ولا نفخ هناك ولا منفوخ حقيقة وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يجيء به فيه وإضافة الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو بيت الله وناقة الله أو الملك إذ هو المتصرف في الإِنشاء للروح والمودعها حيث يشاء.﴿ فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ أي اسقطوا على الأرض وحرف الجر محذوف من أن أي مالك في أن لا يكون وأي داع دعا بك إلى أبائك السجود ولا سجد اللام لام الجحود والمعنى لا يناسب حالي السجود له وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي رأى نفسه أكبر من أن يسجد وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما وهنا نبه على مادة آدم وحده وهنا فأخرج منها وفي الأعراف فاهبط منها وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها. و ﴿ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ ما مصدرية وهنا أقسم بالاغواء وفي مكان آخر قال: فبعزتك فيكون ذلك في محاورتين. و ﴿ لأُزَيِّنَنَّ ﴾ جواب القسم. و ﴿ لَهُمْ ﴾ ضمير يعود على ما يفهم من الكلام وهم ذرية آدم صلى الله عليه وسلم.﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ ﴾ الإِشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي الإِخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل لأن من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه قيل ولما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى: (هذا أمر مصيره إلي) ووصفه بالاستقامة. أي هو حق وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليس لك والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك وقرأ الجمهور على جاراً أو مجروراً ويتعلق بقوله: مستقيم. أي مستقيم على إرادتي وحكمي. وقرأ يعقوب على وزن فعيل وهو صفة لقوله: صراط، والإِضافة في قوله: ان عبادي. إضافة تشريف ان المختصين بعبادتي وعلى هذا لا يكون قوله: الا من اتبعك، استثناء متصلاً بل يكون منقطعاً بمعنى لكن من اتبعه لم يدرج في قوله: ان عبادي. وان كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون إلا من اتبعك استثناءً متصلاً لاندراجه في عموم العباد ومن في من الغاوين لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين. قال ابن عطية: وأجمعين تأكيد وفيه معنى الحال " انتهى ". هذا جنوح لمذهب من يزعم أن أجمعين يدل على اتحاد الوقت والصحيح أن مدلوله مدلول كلهم والظاهر أن جهنم هي واحدة. و ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ﴾ قيل أعلاها للموحدين والثاني لليهود. والثالث: للنصارى. والرابع: للصابئين. والخامس: للمجوس. والسادس: للمشركين. والسابع: للمنافقين.﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى ما أعد لأهل الجنة ليظهر تباين ما بين الفريقين.﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم ﴾ تقدم شرحه في الاعراف وانتصب إخواناً على الحال وهي حال من الضمير المجرور في صدورهم والحال من المضاف نادرة وقد تأول نصبه على غير الحال من الضمير المجرور.﴿ عَلَىٰ سُرُرٍ ﴾ جمع سرير وعلى سرر ومتقابلين حالان والقعود على السرير دليل على الرفعة والكرامة التامة. وعن ابن عباس على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر.﴿ مُّتَقَـٰبِلِينَ ﴾ متساويين في التواصل والتوادد.﴿ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ﴾ أي تعب مما يقاسونه في الدنيا وإذا انتفى المس انتفت الديمومة وأكد انتفاء الإِخراج بدخول الباء في بمخرجين ومنها متعلق بمخرجين ولما تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة أكد تعالى تنبيئه الناس وتقرير ذلك وتمكينه في النفوس بقوله:﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي ﴾ وناسب ذكر الغفران والرحمة اتصال ذلك بقوله: ان المتقين. وتقديماً لهذين الوصفين العظيمين اللذين وصف بهما نفسه تعالى وجاء قوله:﴿ وَأَنَّ عَذَابِي ﴾ في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة وأنى المعذب المؤلم كل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة. وسدت أن مسد مفعولي نبىء ان قلنا انها تعدت إلى ثلاثة وسد واحد ان قلنا انها تعددت إلى اثنين.﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار. والطائعين من الجنة ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ليزدجروا عن كفرهم وليعتبروا بما حل بغيرهم فبدأ بذكر جدّهم الأعلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وما جرى بقوم ابن أخيه لوط عليه السلام ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط وتقدّم الكلام عليه في سورة هود ونبئهم عدي نبئهم بحرف الجر وهو عن ولم يذكر لها مفعولاً ولا مفعولين وسلاماً مقتطع من جملة محكية بقالوا فليس منصوباً به والتقدير سلمت سلاماً من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية وقيل سلاماً نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولاً سلاماً وتصريحه هنا بأنه وجل منهم كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ وامتناعهم من الأكل وفي هود فأوجس في نفسه خيفة فيمكن أن هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة ويحتمل أن يكون القول هنا مجازاً بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل.﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ ﴾ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، بشروه بأمرين. أحدهما أنه ذكر والثاني وصفه بالعلم على سبيل المبالغة واستنكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم ان يولد له مع الكبر وفيم تبشرون تأكيد استبعاد وتعجب وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة، رسل الله تعالى إليه فلذلك استفهم واستنكر أن يولد له ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر ولا سيما وقد رأى من آيات الله عياناً كيف أحيا الموتى. وبالحق أي باليقين الذي لا ريب فيه وقولهم: فلا تكن من القانطين نهيٌ والنهي عن الشىء لا يدل على التلبس بالمنهي عنه ولا بمقاربته وقوله:﴿ وَمَن يَقْنَطُ ﴾ رد عليهم وإن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط بل ذلك على سبيل الاستبعاد لبما جرت به العادة وفي ذلك إشارة إلى أن هبة الولد على الكبر من رحمة الله إذ يشد عضد والده ويؤازره حالة كونه ولا يستقل ويرث منه علمه ودينه.﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ ﴾ الآية، لما بشروه بالولد وراجعوه في ذلك علم أنهم ملائكة الله ورسله فاستفهم بقوله: فما خطبكم والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد فإضافة إليهم من حيث أنهم هم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين وذكر إلى قوم مجرمين فأبرزه في صورة النكرة وان كان أريد به معيّنون يدل على ذلك قولهم في سورة هود:﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ﴾[الآية: ٧٠] فعينهم، وإنما نكر هاهنا على سبيل الاستهانة بهم وإن كانوا معينين من جهة المعنى فقوله: إلا آل لوط، استثناء نكرة في الظاهر ولكنهم معينون في المعنى وكثيراً ما تأتي النكرة يراد بها التعين كقول من صحب رجلاً عالماً معيناً فيقول: لقد صحبت رجلاً عالماً.﴿ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ ﴾ استثناء من الضمير المنصوب في منجوهم قال الزمخشري: فإِن قلت فقوله: إلا امرأته، مما استثنى وهل هو استثناء من استثناء * قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وليس من الاستثناء من الاستثناء في شىء لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه وان يقال أهلكناهم إلا آل لوط، إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهم فاما في الآية فقد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين ولا امرأته قد تعلق بمنجوهم فأنى يكون استثناء من استثناء " انتهى ". لما استسلف الزمخشري ان إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء ومن قال انه استثناء من استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين أحدهما: أنه كان الضمير في لمنجوهم عائداً على آل لوط وقد استثنى منه المرأة فصار كأنه مستثنى من آل لوط لأن المضمر هو الظاهر في المعنى والوجه الآخر أن قوله إلا آل لوط لما حكم عليهم بغير الحكم على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم في قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيد المعنى الاستثناء إذ المعنى إلا آل لوط فلم يرسل عليهم بالعذاب ونجاتهم مترتبة على عدم الإِرسال إليهم بالعذاب فصار نظير قولك قام القوم إلا زيداً فإِنه لم يقم أو إلا زيداً لم يقم فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه فالأمر أنه على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء للتأكيد وجاء الضمير في أرسلنا وفي أنا وفي قدرنا مسند إلى الملائكة لأنهم هم المأمورون بإِهلاكهم ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم وخاف أن يطرقوه بشر وبل إضراب عن قول محذوف أي ما جئناك لشىء تخافه بل جئنا بالعذاب لقومك إذ كانوا يمترون فيه أي يشكون في وقوعه فيجادلونك فيه تكذيباً لك بما وعدتهم به عن الله تعالى.﴿ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ﴾ نهاه أولاً عن الإِلتفات وأمره باتباع أدبارهم ويكون ذلك أحفظ لهم من أي ينزل ساقة خلفه وحيث تؤمرون. قال ابن عباس: هي الشام ولما ضمن قضينا معنى أوحينا تعدت تعديها بإِلى أي وأوحينا إلى لوط مقضياً مبتوتاً والإِشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه وان دابر تفخيم للأمر وتعظيم له وهو في موضع نصب على البدل من ذلك. و ﴿ مُّصْبِحِينَ ﴾ داخلين في الصباح.﴿ وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ الآية استبشارهم فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط صلى الله عليه وسلم والظاهر ان هذا المجيء ومجاورة لوط مع قومه في حق أضيافه وعرضه بناته عليهم كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله ولذلك سماهم ضيفاً وخاف الفضيحة منهم لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح وقد جاء ذلك مرتباً هكذا في سورة " هود " والواو لا ترتب ولا تخزون من الخزي وهو الإِذلال أو من الخازية وهو الاستحياء وفي قولهم:﴿ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ ﴾ دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف أو يجير أحداً أو يدفع عنه أو يمنع بينهم وبينه فإِنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان هو عليه السلام يقوم بالنهي عن المنكر والحجز بينه وبين من تعرض له فأوعدوه بأنه لم ينته خرجوه وتقدم الكلام في قوله تعالى: ﴿ بَنَاتِي ﴾ ومعنى الإِضافة في هود وإن كنتم فاعلين شك قبولهم لقوله كأنه قال: ان فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل: ان كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم. واللام في لعمرك لام الابتداء وعمرك مبتدأ خبره محذوف تقديره لعمرك قسمي وإذا كان في القسم كانت العين مفتوحة ومعناها البقاء وجواب القسم فقيل القسم من الملائكة خطاباً للوط صلى الله عليه وسلم وقيل خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكني عن الضلالة والغفلة بالسكر أي تحيرهم في غفلتهم وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به والصيحة صيحة الهلاك ومشرقين داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس وقيل أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس فكان تمام الهلاك عند ذلك والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدمة الذكر.﴿ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ للمتفرسين وعن ابن عباس هم أهل الصلاح والخير.﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ أي ممر ثابت وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس وهو تنبيه لقريش.﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي في صنعنا بقوم لوط لعلامة ودليلاً لمن آمن بالله تعالى.﴿ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴾ هم قوم شعيب والأيكة التي أضيفوا إليها كانت شجرة السدوم وقيل غير ذلك كفروا فسلط الله عليهم الحر وأهلكوا بعذاب الظلة ويأتي ذلك مستوفى في سورة الشعراء.﴿ وَإِنَّهُمَا ﴾ الضمير يعود على أصحاب الأيكة ومدين لأنه مرسل إليهما فدل ذكر أحدهما على الآخر فعاد الضمير إليهما.﴿ لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بطريق من الحق واضح والإِمام الطريق.﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ﴾ الآية، أصحاب الحجر ثمود قوم صالح صلى الله عليه وسلم والحجر أرض بين الحجاز والشام وتقدمت قصته في الأعراف مستوفاة والمرسلين يعني بتكذيبهم صالحاً لأن من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً وتقدم ذكر قصتهم في الأعراف ويأتي أيضاً بعض خبرهم.﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ الآية، أي خلقاً ملتبساً بالحق لم يخلق شىء من ذلك عبثاً ولا هملاً بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى ولذلك نبه من يتنبه بقوله: وان الساعة لآتية فيجازي من أطاع ومن عصى.﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً ﴾ الآية، والمثاني جمع مثناة والمثناة كل شىء أي يجعل اثنين من قولك ثنيت الشىء ثنيا أي عطفته وضممت إليه آخر وهذا مجمل ولا سبيل إلى تعيينه إلا بديل فنفصل جوز الزجاج أن تكون أم القرآن سميت السبع المثاني لأنها يثنى بها على الله قال ابن عطية: وفي هذا القول من جهة التصريف نظر " انتهى ". لا نظر في ذلك لأنها جمع مثنى بضم الميم مفعل من أثنى رباعياً أي مقر ثناء على الله أي فيها ثناء على الله. وقال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم: السبع هنا آيات الحمد قال ابن عباس: وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال غيره: سبع دون البسملة. وقال أبو العالية: لقد أنزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شىء.
﴿ لاَ تَمُدَّنَّ ﴾ ظاهره أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى نهي أمته عن ذلك لأن من أوتي القرآن شغله النظر فيه وامتثال تكاليفه وفهم معانيه عن الاشتغال بزهرة الدنيا ومد العين للشىء إنما هو لاستحسانه وإيثاره.﴿ أَزْوَاجاً ﴾ أي أصنافاً ونهاه تعالى عن الحزن عليهم ان لم يؤمنوا وكان كثير الشفقة على من بعث إليه وأمره بخفض الجناح لمن آمن وهي كناية عن اللطف والرفق وأصله ان الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه له ثم قبضه على فرخه والجناحان من ابن آدم جانباه ثم أمره بأن يبلغ أنه النذير الكاشف لكم ما جئت به إليكم من تعذيبكم ان لم تؤمنوا.﴿ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ﴾ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون متعلقاً بقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ ﴾[الحجر: ٨٧] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على المقتسمين القرآن فنسبوه إلى سحر وكذب وافتراء ومعنى عضين أي فرقاً والثاني أن يكون متعلقاً بقوله: اني أنا النذير المبين، أي إنذارك مثل إنذار المقسمين قال الزمخشري: فيه وجهان أحدهما: أن يتعلق بقوله: ولقد آتيناك، أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا بعنادهم وعداوتهم بعضه حق موافق للتوراة والإِنجيل وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه وقيل كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول آخر سورة آل عمران لي، ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض والنصارى أقرت ببعض الإِنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم: سحر وشعر وأساطير الأولين، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني: أن يتعلق بقوله: وقل: إني أنا النذير المبين، أي وانذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على قريظة والنضير جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإِعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي أنذر العضين الذين يجزؤون القرآن إلى شعر وسحر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ويقول الآخر: كذاب، ويقول الآخر: شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقتلهم بآفات كالوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام والاقتسام بمعنى التقاسم. فإِن قلت إذا علقت قوله: كما أنزلنا بقوله: ولقد آتيناك. فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره، قلت لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الإِلتفات إلى دنياهم والتأسف على كونهم ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين " انتهى ". أما الوجه الأول: وهو تعلق كما بآتينا فذكره أبو البقاء على تقدير وهو أن يكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعاً من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالاً كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك وأما قوله: ان المقسمين هم أهل الكتاب فهو قول الحسن ومجاهد ورواه الحوفي عن ابن عباس. وأما قوله: (اقتسموا القرآن) فهو قول ابن عباس فيما رواه عنه سعيد بن جبير، وأما قوله: اقتسموا، فقال بعضهم سورة البقرة إلى آخره. فقال عكرمة: وقال السدي: هم الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث والوليد والعاصي والحارث بن قيس ذكروا القرآن فمن قائل النمل لي ومن قائل الذباب لي وآخر العنكبوت لي استهزاء فأهلكهم الله جميعهم وأما قوله: إن القرآن عبارة عما يقرؤونه من كتبهم إلى آخره فقاله مجاهد: وأما قوله: ويجوز ان يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي إنذر العضين فلا يجوز أن يكون منصوباً بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقولك شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية ذكرت دلائلها في علم النحو، وأما قوله: الذين يجزؤون القرآن إلى شعر وسحر وأساطير، فمروي عن قتادة إلا أنه قال: بدل شعر كهانة، وأما قوله: الذين اقتسموا مداخل مكة فهو قول السائب وفيه ان الوليد بن المغيرة قال: ليقل بعضكم كاهن وبعضكم ساحر وبعضكم غاو وهم حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث وأبو البحتري بن هشام وزمعة ابن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة، تقاسموا على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلكوا جمعياً وأما قوله انهم الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً فقول عبد الله بن زيد قال ابن عطية: والكاف في كما متعلقة بفعل محذوف تقديره وقل إني أنا النذير عذاباً كالذي أنزلناه على المقتسمين؛ فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس هو مما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من قول الله فينفصل الكلام وإنما يترتب هذا القول بأن يقدر بأن الله تعالى قال له: أنذر عذاباً كما والذي أقول في هذا المعنى وقل: إني أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ويحتمل أن يكون المعنى وقل: إني أنا النذير المبين قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً أو هذا على أن المقتسمين أهل الكتاب " انتهى ". أما قوله: وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال: الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره انا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وان كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وان كان الملك هو الآمر وأما قوله والذي أقوله في هذا المعنى إلى آخره فكلام مثبج ولعله من الناسخ ولعله أن يكون وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم.﴿ عِضِينَ ﴾ جمع عضة وهو جمع لا ينقاس جمع بالواو رفعاً وبالياء نصباً وجراً ولامه أصلها واو أو هاء يقال: عضيت تعضية أي فرقت وكل فرقة عضة يقولون للساحر عاضه وللساحر عاضهة والضمير في لنسألنهم يظهر عوده على المقتسمين وهو وعيد وسؤال تقريع.﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ الصدع الشق وتصدّع القوم تفرقوا وصدعته فانصدع أي شققته فانشق وقال مؤرج أصدع أفصل. وقال ابن الأعرابي: أفصد وما في بما موصولة بمعنى الذي والعائد عليها محذوف تقديره أمرته أي به وأمر يتعدى إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر ويجوز حذفه وقد جمع الشاعر بينهما قال: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به   فقد تركتك ذا مال وذا نشبوالمفعول الأول في الآية هو ضمير المخاطب المستكن في تؤمر والثاني الهاء المحذوفة العائدة على ما الموصولة. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبنى المفعول " انتهى ". هذا ينبني على مذهب من يجوز أن يكون المصدر يراد به ان والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكلف لها مشقة. قال عروة وابن جبير هم خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن بني خزاعة الحرب بن الطلاطلة.﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلهاً مع الله في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكني بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما ينطقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عما نسبوه إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوباً بحمده والثناء عليه على ما أسدي إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد أنه من المصلين وكني بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دم على كذا لأنه عليه السلام ما زال متلبساً بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة وقيل ليس باليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل نسمي يقيناً تجوزا أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه.
Icon