ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحجربِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (١٥): آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)تقدم «١» معناه. و" الْكِتابِ" قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ اسْمٌ لِجِنْسِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ قَرَنَهُمَا بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، جَمَعَ لَهُ بَيْنَ الاسمين.
[سورة الحجر (١٥): آية ٢]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢)
" رُبَّ" لَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِذَا لَحِقَتْهَا" مَا" هَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ تَقُولُ: رُبَّمَا قَامَ زَيْدٌ، وَرُبَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تكون" ما" نكرة بمعنى شي، و" يَوَدُّ" صفة له، أي رب شي يَوَدُّ الْكَافِرُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ" رُبَمَا" مُخَفَّفَ الْبَاءِ. الْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفِّفُونَ رُبَّمَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
رُبَّمَا ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ | بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نَجْلَاءَ «٢» |
(٢). لبيت لعدي بن الرعلاء الغساني. وبصرى: بلدة قرب الشام، هي كرسي حوران، كان يقوم فيها سوق للجاهلية. قال صاحب خزانة الأدب:"... وإنما صح إضافة بين إلى بصرى لاشتمالها على متعدد من الأمكنة، أي بين أماكن بصرى ونواحيها. وروى الشريف الحسيني في حماسته:" دون بصرى" ودون هنا بمعنى قبل أو بمعنى خلف. وقال العيني: بمعنى عند". راجع الخزانة في الشاهد التاسع والتسعين بعد السبعمائة.
(٣). قال ابن هشام في المغني:" وفى رب ست عشرة لغة: ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف. والأوجه الاربعة مع تاء التأنيث، ساكنة أو محركة، مع التجريد منها، فهذه اثنتا عشرة. والضم والفتح مع إسكان الياء وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف".
ربَّما ضربةٍ بسيف صقيل*** بين بُصْرَى وطعنةٍ نَجْلاَءِ١
وتميم وقيس وربيعة يثقلونها. وحكي فيها : رَُبَّمَا ورَُبَمَا، ورُبَّتَمَا ورُبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا٢. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير، أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين، قاله الكوفيون. ومنه قول الشاعر :
ألا ربما أهدت لك العينُ نظرةً | قُصاراك منها أنها عنك لا تُجدِي٣ |
٢ قال ابن هشام في المغني: "وفي رب ست عشرة لغة: ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف. والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث، ساكنة أو محركة، ومع التجرد منها: فهذه اثنا عشرة. والضم والفتح مع إسكان الباء وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف"..
٣ أي لا تغني، يقال: ما يجدي عنك هذا، أي ما يغني. وفي بعض نسخ الأصل: لا تجزي، بالزاي، وهي بمعنى لا تغني..
أَلَا رُبَّمَا أَهْدَتْ لَكَ الْعَيْنُ نَظْرَةً | قُصَارَاكَ مِنْهَا أَنَّهَا عَنْكَ لَا تُجْدِي «١» |
[سورة الحجر (١٥): آية ٣]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) تَهْدِيدٌ لَهُمْ. (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أَيْ يَشْغَلُهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ. يُقَالُ: أَلْهَاهُ عَنْ كَذَا أَيْ شَغَلَهُ. وَلَهِيَ هُوَ عَنِ الشَّيْءِ يَلْهَى. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
إِذَا رَأَوُا الْقِيَامَةَ وَذَاقُوا وَبَالَ مَا صَنَعُوا. وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالسَّيْفِ. الثَّانِيَةُ- فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ الْأَمَلِ والحرص على الدنيا". وطول الأمل داء
يَا ذَا الْمُؤَمِّلُ آمَالًا وَإِنْ بَعُدَتْ | مِنْهُ وَيَزْعُمُ أَنْ يَحْظَى بِأَقْصَاهَا |
أَنَّى تَفُوزُ بِمَا تَرْجُوهُ وَيْكَ وَمَا | أَصْبَحْتَ فِي ثِقَةٍ مِنْ نَيْلِ أَدْنَاهَا |
[سورة الحجر (١٥): آية ٤]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)
أَيْ أَجَلٌ مُؤَقَّتٌ كُتِبَ لَهُمْ فِي اللوح المحفوظ.
[سورة الحجر (١٥): آية ٥]
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
" مِنْ" صِلَةٌ، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ. أَيْ لَا تَتَجَاوَزُ أَجَلَهَا فَتَزِيدُ عَلَيْهِ، وَلَا تَتَقَدَّمُ قَبْلَهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «٢» ".
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٠١.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٦ الى ٧]
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)قَالَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجهة الِاسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ إِتْيَانَ الْمَلَائِكَةِ دَلَالَةً على صدقه. و (لَوْ ما) تَحْضِيضٌ عَلَى الْفِعْلِ كَلَوْلَا وَهَلَّا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الميم في" لَوْ ما" بَدَلٌ مِنَ اللَّامِ فِي لَوْلَا. وَمِثْلُهُ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ وَاسْتَوْمَى عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ خَالَمْتُهُ وَخَالَلْتُهُ، فهو خلمى وخلى، أي صديقي. وعلى هذا يجوز" لَوْ ما" بِمَعْنَى الْخَبَرِ، تَقُولُ: لَوْمَا زَيْدٌ لَضُرِبَ عَمْرٌو. قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَوْلَا وَلَوْمَا سَوَاءٌ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
لَوْمَا الْحَيَاءُ وَلَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا | بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي |
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ | بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيُّ الْمُقَنَّعَا «١» |
[سورة الحجر (١٥): آية ٨]
مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
قَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ" مَا تُنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ". الْبَاقُونَ" مَا تَنَزَّلَ الْمَلَائِكَةُ" وَتَقْدِيرُهُ: مَا تَتَنَزَّلُ بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا، وَقَدْ شَدَّدَ التَّاءَ البز ي، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ:" تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ «٢» ". وَمَعْنَى" إِلَّا بِالْحَقِّ" إِلَّا بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: بِالرِّسَالَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا بِالْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا." (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) " أَيْ لَوْ تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِإِهْلَاكِهِمْ لَمَا أُمْهِلُوا وَلَا قُبِلَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٣٣.
[سورة الحجر (١٥): آية ٩]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلًا أَوْ تَنْقُصَ مِنْهُ حَقًّا، فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ حِفْظَهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا، وَقَالَ فِي غَيْرِهِ:" بِمَا اسْتُحْفِظُوا «١» "، فَوَكَلَ حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا. أَنْبَأَنَا الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَعْزُوزٍ الْكَوْمِيِّ التِّلِمْسَانِيِّ قَالَ: قُرِئَ عَلَى الشَّيْخَةِ الْعَالِمَةِ «٢» فَخْرِ النِّسَاءِ شُهْدَةَ بِنْتِ أَبِي نَصْرٍ «٣» أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ الدِّينَوَرِيِّ وَذَلِكَ بِمَنْزِلِهَا بِدَارِ السَّلَامِ فِي آخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، قِيلَ لَهَا: أَخْبَرَكُمُ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ الْعَامِلُ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ أَبُو الْفَوَارِسِ طَرَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتِ تَسْمَعِينَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ عِيسَى بن محمد بن أحمد ابن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ الْمَعْرُوفُ بِالطُّومَارِيِّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ فَهْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ يَقُولُ: كَانَ لِلْمَأْمُونِ- وَهُوَ أَمِيرٌ إِذْ ذَاكَ- مَجْلِسُ نَظَرٍ، فَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ حَسَنُ الثَّوْبِ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما أن تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ: إِسْرَائِيلِيٌّ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ حَتَّى أَفْعَلَ بِكَ وَأَصْنَعَ، وَوَعَدَهُ. فَقَالَ: دِينِي وَدِينُ آبَائِي! وَانْصَرَفَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ جَاءَنَا مُسْلِمًا، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى الْفِقْهِ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ، فَلَمَّا تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ وَقَالَ: أَلَسْتَ صَاحِبَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِكَ؟ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ حَضْرَتِكَ فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت (مع ما) «٤» تراني حسن
(٢). في ى: الصالحة.
(٣). في و: أبى بكر.
(٤). من ى.
[سورة الحجر (١٥): آية ١٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠)
الْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا، فَحُذِفَ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْأُمَّةُ، أَيْ فِي أممهم، قاله ابن عباس وقتادة. الحسن: فِي فِرَقِهِمْ. وَالشِّيعَةُ: الْفِرْقَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَآلِفَةُ الْمُتَّفِقَةُ الْكَلِمَةِ. فَكَأَنَّ الشِّيَعَ الْفِرَقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً «٢» ". وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيَاعِ وَهُوَ الْحَطَبُ الصِّغَارُ يُوقَدُ بِهِ الْكِبَارُ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ".- وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إن الشيع هنا القرى.
(٢). راجع ج ٧ ص ٩.
[سورة الحجر (١٥): آية ١١]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ كَمَا فَعَلَ بِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فَكَذَلِكَ فُعِلَ بمن قبلك من الرسل.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ١٢ الى ١٣]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" أَيِ الضَّلَالَ وَالْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَالشِّرْكَ." فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ" مِنْ قَوْمِكَ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا. أَيْ كَمَا سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ شِيَعِ الْأَوَّلِينَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ مُشْرِكِي قَوْمِكَ حَتَّى لَا يُؤْمِنُوا بِكَ، كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ قَبْلَهُمْ بِرُسُلِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَسْلُكُ التَّكْذِيبَ. وَالسَّلْكُ: إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ كَإِدْخَالِ الْخَيْطِ فِي الْمِخْيَطِ. يُقَالُ: سَلَكَهُ يَسْلُكُهُ سَلْكًا وسلوكا، أسلكه إِسْلَاكًا. وَسَلَكَ الطَّرِيقَ سُلُوكًا وَسَلْكًا وَأَسْلَكَهُ دَخَلَهُ، وَالشَّيْءُ فِي غَيْرِهِ مِثْلَهُ، وَالشَّيْءُ كَذَلِكَ وَالرُّمْحُ، وَالْخَيْطُ فِي الْجَوْهَرِ، كُلُّهُ فَعَلَ وَأَفْعَلَ. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبٍ «١»
وَالسِّلْكُ (بِالْكَسْرِ) الْخَيْطُ. وَفِي الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نَسْلُكُ الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ. وَقَالَ «٢» الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَلْزَمُ حُجَّةً عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: نَسْلُكُ الذِّكْرَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أَيْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ الْكُفَّارِ، فَمَا أَقْرَبَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ:" خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ" بِمِثْلِ مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ، فَهُمْ يَقْتَدُونَ بأولئك.
وكنت خصمك لم أعرد
(٢). في الأصول:" وقرا".
[سورة الحجر (١٥): الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)يُقَالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ يَفْعَلُهُ بِالنَّهَارِ. وَالْمَصْدَرُ الظُّلُولُ. أَيْ لَوْ أُجِيبُوا إِلَى مَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ لَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَتَعَلَّلُوا بِالْخَيَالَاتِ، كَمَا قَالُوا لِلْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ: إِنَّهُ سِحْرٌ." يَعْرُجُونَ" مِنْ عَرَجَ يَعْرُجُ أَيْ صَعِدَ. وَالْمَعَارِجُ الْمَصَاعِدُ. أَيْ لَوْ صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ وَشَاهَدُوا الْمَلَكُوتَ وَالْمَلَائِكَةَ لَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي" عَلَيْهِمْ" لِلْمُشْرِكِينَ. وَفِي" فَظَلُّوا" لِلْمَلَائِكَةِ، تَذْهَبُ وَتَجِيءُ أَيْ لَوْ كُشِفَ لِهَؤُلَاءِ حَتَّى يُعَايِنُوا أَبْوَابًا فِي السَّمَاءِ تَصْعَدُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَتَنْزِلُ لَقَالُوا: رَأَيْنَا بِأَبْصَارِنَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، عَنِ ابن عباس وقتادة. ومعنى (سُكِّرَتْ) سُدَّتْ بِالسِّحْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سُحِرَتْ. الْكَلْبِيُّ: أُغْشِيَتْ أَبْصَارُنَا، وَعَنْهُ أَيْضًا عَمِيَتْ. قَتَادَةُ: أُخِذَتْ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: دِيرَ بِنَا، مِنَ الدَّوَرَانِ، أَيْ صَارَتْ أَبْصَارُنَا سَكْرَى. جُوَيْبِرٌ: خُدِعَتْ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ:" سُكِّرَتْ" غُشِّيَتْ وَغُطِّيَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَطَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْهَا مِغْفَرُ | وَجَعَلَتْ عَيْنُ الْحَرُورِ تَسْكَرُ |
فَصِرْتُ «١» عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَةْ | فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَةْ |
(٢). عبارة أبن الاعرابي كما في نسخ الأصل: (سكرت ميلت، وسكرت ملكت) ولم نر ما يؤيد هذا، ولعله تكرير من النساخ مع تحريف. [..... ]
[سورة الحجر (١٥): آية ١٦]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦)
لَمَّا ذَكَرَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَعَجْزَ أَصْنَامِهِمْ ذَكَرَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. وَالْبُرُوجُ: الْقُصُورُ وَالْمَنَازِلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَيْ مَنَازِلَهُمَا. وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الْبُرُوجِ: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ. وَالْعَرَبُ تَعُدُّ الْمَعْرِفَةَ لِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَأَبْوَابِهَا مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى الطُّرُقَاتِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْخِصْبِ وَالْجَدْبِ. وَقَالُوا: الْفَلَكُ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، كُلُّ بُرْجٍ مِيلَانِ وَنِصْفٌ. وَأَصْلُ الْبُرُوجِ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ بِإِظْهَارِ زِينَتِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي النِّسَاءِ «٣». وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْبُرُوجُ النُّجُومُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِظُهُورِهَا وَارْتِفَاعِهَا. وقيل: الكواكب العظام، قال أبو صالح،
(٢). سكونها بعد الهبوب.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٨٤.
[سورة الحجر (١٥): آية ١٧]
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧)
أَيْ مَرْجُومٍ. وَالرَّجْمُ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ: الرَّجْمُ اللَّعْنُ وَالطَّرْدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كُلُّ رَجِيمٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ بِمَعْنَى الشَّتْمِ. وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ السموات كُلَّهَا لَمْ تُحْفَظْ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى زَمَنِ عِيسَى، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى حَفِظَ منها ثلاث سموات إِلَى مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَفِظَ جَمِيعهَا بَعْدَ بَعْثِهِ وَحُرِسَتْ مِنْهُمْ بِالشُّهُبِ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَقَدْ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا يُحْجَبُونَ عَنِ السَّمَاءِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَهَا وَيُلْقُونَ أَخْبَارَهَا عَلَى الْكَهَنَةِ، فَيَزِيدُونَ عَلَيْهَا تِسْعًا فَيُحَدِّثُونَ بِهَا أَهْلَ الْأَرْضِ، الْكَلِمَةُ حَقٌّ وَالتِّسْعُ بَاطِلٌ، فَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا مِمَّا قَالُوهُ صَدَّقُوهُمْ فِيمَا جَاءُوا به، فلما ولد عيسى بن مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سموات، فَلَمَّا وُلِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا مِنَ السموات كُلِّهَا، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُرِيدُ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ، عَلَى مَا يَأْتِي «٤».
[سورة الحجر (١٥): آية ١٨]
إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
أَيْ لَكِنْ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، أَيِ الْخَطْفَةَ الْيَسِيرَةَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَقِيلَ، هُوَ مُتَّصِلٌ، أي إلا ممن استرق السمع. أَيْ حَفِظْنَا السَّمَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْمَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ، وَغَيْرِهِ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَإِنَّا لَمْ نَحْفَظْهَا مِنْهُ أَنْ تَسْمَعَ الْخَبَرَ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ سِوَى الْوَحْيِ، فَأَمَّا الْوَحْيُ فَلَا تَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئًا، لِقَوْلِهِ:" إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" «٥». وإذا استمع الشياطين
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢١٠.
(٣). راجع ج ٩ ص ٩١.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٦٤، ج ١٩ ص ١٠.
(٥). راجع ج ١٣ ص
كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ «٣» | مُسَوَّمٌ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ منقضب |
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٥٦.
(٣). أي إثر الشيطان، ومسوم: معلم. ومنقضب: منقض من مكانه.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٢٩٥.
قوله تعالى :" فأتبعه شهاب مبين " أتبعه : أدركه ولحقه. شهاب : كوكب مضيء. وكذلك شهاب ثاقب. وقوله :" بشهاب قبس٣ " [ النمل : ٧ ] بشعلة نار في رأس عود ؛ قاله ابن عزيز. وقال ذو الرمة :
كأنه كوكب في إثر عِفْرِيَةٍ٤ | مسوَّمٌ في سواد الليل مُنْقَضِبُ |
واختلف في الشهاب هل يَقْتُلُ أم لا ؟ فقال ابن عباس : الشهاب يجرح ويُحرق ويُخْبِل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة : يقتل، فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان : أحدهما : أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم، فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني : أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن ؛ ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق، ذكره الماوردي.
قلت : والقول الأول أصح على ما يأتي بيانه في " الصافات ". واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث، فقال الأكثرون نعم. وقيل لا، وإنما ذلك بعد المبعث. وسيأتي بيان هذه المسألة في سورة " الجن " ٦ إن شاء الله تعالى. وفي " الصافات " أيضا. قال الزجاج : والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده ؛ لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، ولم يشبهوا الشيء السريع به كما شبهوا بالبرق وبالسيل. ولا يبعد أن يقال : انقضاض الكواكب كان في قديم الزمان ولكنه لم يكن رجوما للشياطين، ثم صار رجوما حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال العلماء : نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان. ويجوز أن يقال : يرمون بشعلة من نار من الهوى فيخيل إلينا أنه نجم سرى. والشهاب في اللغة النار الساطعة. وذكر أبو داود عن عامر الشعبي قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي فقالوا : إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم. فقال لهم - وكان رجلا أعمى - : لا تعجلوا، وانظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهي من حدث. فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فقالوا : هذا من حدث. فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
٢ الخبل (بسكون الباء): فساد الأعضاء..
٣ راجع ج ١٣ ص ١٥٦..
٤ أي إثر شيطان، ومسوم: معلم، ومنقضب: منقض من مكانه..
٥ راجع ج ١٤ ص ٢٩٥..
٦ راجع ج ١٩ ص ١٠، و ص ٢٠١..
[سورة الحجر (١٥): الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) هَذَا مِنْ نِعَمِهِ أَيْضًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، كَمَا قَالَ" وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «١» " أي
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ | عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ |
تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زَيْدٍ | وَمَنْ لِي بِالْمُرَقَّقِ وَالصِّنَابِ «٤» |
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٨٠.
(٣). راجع ج ٤ ص ٦٩.
(٤). الرقاق الأرغفة الرقيقة الواسعة والخردل المضروب بالزبيب يؤتدم به.
(٥). راجع ج ٧ ص ١٦٧.
(٦). راجع ج ٠١ ص، ٢٥٢.
فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا | فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ |
[سورة الحجر (١٥): آية ٢١]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أَيْ وَإِنْ من شي مِنْ أَرْزَاقِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِمْ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ، يَعْنِي الْمَطَرَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ بِهِ نبات كل شي. قال الحسن: المطر خزائن كل شي. وَقِيلَ: الْخَزَائِنُ الْمَفَاتِيحُ، أَيْ فِي السَّمَاءِ مَفَاتِيحُ الْأَرْزَاقِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أَيْ وَلَكِنْ لَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِنَا وَعَلَى حَسَبِ حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ:" وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ «٤» ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ والحكم بن عتيبة وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَامٌ أَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَقْسِمُهُ كَيْفَ شَاءَ، فَيُمْطَرُ قَوْمٌ وَيُحْرَمُ آخَرُونَ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَطَرُ. فِي الْبِحَارِ وَالْقِفَارِ. وَالْخَزَائِنُ جَمْعُ الْخِزَانَةِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسْتُرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مَالَهُ وَالْخِزَانَةُ أَيْضًا مَصْدَرُ خَزَنَ يَخْزُنُ. وَمَا كَانَ فِي خِزَانَةِ الْإِنْسَانِ كَانَ مُعَدًّا لَهُ. فَكَذَلِكَ مَا يَقْدِرُ عليه الرب
(٢). راجع ج ١ ص ٣٠٠.
(٣). راجع ج ٥ ص ٣ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٢٧.
[سورة الحجر (١٥): آية ٢٢]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" الرِّياحَ" بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ مَعْنَى الرِّيحِ الْجَمْعُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا لَفْظَ الْوَاحِدِ. كَمَا يُقَالُ: جَاءَتِ الرِّيحُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. كَمَا يُقَالُ: أَرْضٌ سَبَاسِبُ «٣» وَثَوْبٌ أخلاق. وكذلك تفعل العرب في كل شي اتَّسَعَ. وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَعَتَهَا بِ (لَواقِحَ) وَهِيَ جَمْعٌ. وَمَعْنَى" لَواقِحَ" حَوَامِلَ، لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالسَّحَابَ وَالْخَيْرَ وَالنَّفْعَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَجَعَلَ الرِّيحَ لَاقِحًا لِأَنَّهَا تَحْمِلُ السَّحَابَ، أَيْ تُقِلُّهُ وَتُصَرِّفُهُ ثُمَّ تَمْرِيهِ «٤» فَتَسْتَدِرُّهُ، أَيْ تُنَزِّلُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا «٥» " أَيْ حَمَلَتْ. وَنَاقَةٌ لَاقِحٌ وَنُوقٌ لَوَاقِحُ إِذَا حَمَلَتِ الْأَجِنَّةَ في بطونها. وقيل: لوافح بِمَعْنَى مُلَقَّحَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُلَقِّحُ إِلَّا وَهِيَ فِي نَفْسِهَا لَاقِحٌ، كَأَنَّ الرِّيَاحَ لقحت بخير. قيل: ذَوَاتُ لَقْحٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، أَيْ مِنْهَا مَا يُلَقِّحُ الشَّجَرَ، كَقَوْلِهِمْ: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، أَيْ فِيهَا رِضًا، وَلَيْلٌ نَائِمٌ، أَيْ فِيهِ نَوْمٌ. وَمِنْهَا مَا تَأْتِي بِالسَّحَابِ. يُقَالُ: لَقِحَتِ النَّاقَةُ (بِالْكَسْرِ) لَقَحًا وَلَقَاحًا (بِالْفَتْحِ) فَهِيَ لَاقِحٌ. وَأَلْقَحَهَا الفحل أي ألقى إليها
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٦٠.
(٣). السبب: الأرض المستوية البعيدة.
(٤). مرت الريح السحاب: إذ أنزلت منه.
(٥). راجع ج ٧ ص ٢٢٨. [..... ]
مَنِيَّتِي مَلَاقِحًا فِي الْأَبْطُنِ | تُنْتَجُ مَا تَلْقَحُ بَعْدَ أَزْمُنِ «١» |
إِنَّا وَجَدْنَا طَرْدَ الْهَوَامِلِ | خَيْرًا مِنَ التنان وَالْمَسَائِلِ «٢» |
وَعِدَّةِ الْعَامِ وَعَامٍ قَابِلِ | مَلْقُوحَةً فِي بطن ناب حامل |
[سورة الحجر (١٥): آية ٢٣]
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣)
أَيِ الأرض ومن عليها، ولا يبقى شي سِوَانَا. نَظِيرُهُ" إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ". فملك كل شي لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ مَلَّكَ عِبَادَهُ أَمْلَاكًا فَإِذَا ماتوا انقطعت
(٢). الهوامل: الإبل الهملة. والتإنان: الأنين. والناب: الناقة المسنة. والحائل: التي لم تحبل.
(٣). راجع ج ١ ص ٤١٧.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٣٩ فما بعده.
(٥). راجع ج ١١ ص ١٠٩.
[سورة الحجر (١٥): آية ٢٤]
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ فِيهِ ثَمَانِ تَأْوِيلَاتٍ: الْأَوَّلُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" فِي الْخَلْقِ إِلَى اليوم، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" الَّذِينَ لَمْ يُخْلَقُوا بَعْدُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وغيرهما. الثاني-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" الأموات، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" الْأَحْيَاءُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ. الثَّالِثُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" من تقدم أمة محمد، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرابع-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" في الطاعة والخير، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" فِي الْمَعْصِيَةِ وَالشَّرِّ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا. الخامس-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" في صفوف الحرب، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" فِيهَا، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. السَّادِسُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" من قتل في الجهاد، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" مَنْ لَمْ يُقْتَلْ، قَالَهُ الْقُرَظِيُّ. السَّابِعُ:-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" أول الخلق، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" آخِرُ الْخَلْقِ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. الثَّامِنُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" فِي صفوف الصلاة، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" فِيهَا بِسَبَبِ النِّسَاءِ. وَكُلُّ هَذَا مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، وَعَالِمٌ بِمَنْ خَلَقَ وَمَا هُوَ خَالِقُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّامِنَ هُوَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كَانَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْنَاءُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَاهَا، وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهُمْ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ، فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ وَلَمْ يُذْكَرْ ابْنُ عَبَّاسٍ. وهو أصح «١».
(٢). راجع ج ١٥ ص ١٣٧ فما بعد.
[سورة الحجر (١٥): آية ٢٥]
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أَيْ للحساب والجزاء. (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تقدم «١».
[سورة الحجر (١٥): آية ٢٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مِنْ صَلْصالٍ). أَيْ مِنْ طِينٍ يَابِسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَالصَّلْصَالُ: الطِّينُ الْحُرُّ خُلِطَ بِالرَّمْلِ فَصَارَ يَتَصَلْصَلُ إِذَا جَفَّ، فَإِذَا طُبِخَ بِالنَّارِ فَهُوَ الْفَخَّارُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَنْشَدَ أَهْلُ اللُّغَةِ:
كَعَدْوِ الْمُصَلْصِلِ الْجَوَّالِ «٢»
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الطِّينُ الْمُنْتِنُ، وَاخْتَارَهُ الْكِسَائِيُّ. قَالَ: وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ- مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ نِيئًا- يَصِلُّ صُلُولًا. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
ذَاكَ فَتًى يَبْذُلُ ذَا قِدْرِهِ | لَا يُفْسِدُ اللَّحْمَ لَدَيْهِ الصُّلُولُ |
(٢). هذا عجز البيت. وتمامه كما في اللسان:
عنتريس تعدو إذا مسها الصو | ت كعدو المسلسل الجوال |
سَقَتْ صَدَايَ رُضَابًا غَيْرَ ذِي أَسَنٍ... كَالْمِسْكِ فُتَّ عَلَى مَاءِ الْعَنَاقِيدِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الْمُتَغَيِّرُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَنْتُ الْحَجَرَ عَلَى الْحَجَرِ إِذَا حَكَكْتُهُ بِهِ. وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَجَرَيْنِ يُقَالُ لَهُ: السَّنَانَةُ وَالسَّنِينُ، وَمِنْهُ الْمِسَنُّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
ثُمَّ خَاصَرْتُهَا إِلَى الْقُبَّةِ الحم... راء «٣» تمشى تمشى في مرمر مسنون
أي محكول مُمَلَّسٍ. حُكِيَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِأَبِيهِ: أَلَا تَرَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ يُشَبِّبُ بِابْنَتِكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَمَا قَالَ؟ فَقَالَ قال:
هي زهراء مثل لؤلوة الغو... اص مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقَ! فَقَالَ يَزِيدُ [إِنَّهُ يَقُولُ «٤»]:
وَإِذَا مَا نَسَبْتَهَا لَمْ تَجِدْهَا... فِي سَنَاءٍ مِنَ الْمَكَارِمِ دُونِ
فَقَالَ: صَدَقَ! فَقَالَ: أَيْنَ قَوْلُهُ: ثُمَّ خَاصِرَتُهَا... الْبَيْتَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَذَبَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: سَنَنْتُ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ عَلَى الْوَجْهِ إِذَا صَبَبْتَهُ. وَالسَّنُّ الصَّبُّ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَسْنُونُ الرَّطْبُ، وَهَذَا بِمَعْنَى الْمَصْبُوبِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَصْبُوبًا إِلَّا وَهُوَ رَطْبٌ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: سَنَنْتُ الشَّيْءَ أَيْ صَبَبْتُهُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ «٥» أَنَّهُ كَانَ يَسُنُّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَشُنُّهُ. وَالشَّنُّ (بِالشِّينِ) تَفْرِيقُ الْمَاءِ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ صَبُّهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَسْنُونُ الْمُصَوَّرُ. أُخِذَ مِنْ سُنَّةِ الْوَجْهِ وَهُوَ صُورَتُهُ. وقال ذو الرمة:
تريك سنة وجه مفرقة... ملساء ليس بها خال ولا ندب «٦»
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٣٦. [..... ]
(٣). في اللسان: الخضراء.
(٤). الزيادة عن السان.
(٥). في نهاية ابن الأثير:" ابن عمر".
(٦). السنة: الصورة. والمقرفة: التي دنت من الهجينة. والندب: الأثر من الجراح والقراخ. وقوله: غير مقرنة، أي غير هجينة، عفيفة كريمة. خال: شامة، وندب: أثر الجرح.
كعدو المُصَلْصِل الجَوَّال١
وقال مجاهد : هو الطين المنتن، واختاره الكسائي. قال : وهو من قول العرب : صل اللحم وأصل إذا أنتن - مطبوخا كان أو نيئا - يصل صلولا. قال الحطيئة :
ذاك فتًى يبذلُ ذا قِدْرِهِ | لا يُفْسِد اللحم لديه الصُّلُولْ |
سقت صداي رُضَابَا غيرَ ذي أسن*** كالمسك فُتَّ على ماء العناقيد
وقال الفراء : هو المتغير، وأصله من قولهم : سننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين، ومنه المِسَن. قال الشاعر :
ثم خَاصَرْتُهَا إلى القُبَّةِ الحَمْ ***رَاء تمشي٥ في مَرْمَرٍ مسنونِ
أي محكول مملس. حكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه : ألا ترى عبدالرحمن بن حسان يشبب بابنتك. فقال معاوية : وما قال ؟ فقال قال :
هي زهراءُ مثلُ لؤلوةِ الغَوّ | اص مِيزَتْ من جوهرٍ مَكْنُونِ |
وإذا ما نَسَبْتَهَا لم تجدها | في سَناء من المكارم دُونِ |
ثم خاصرتها. . . البيت.
فقال معاوية : كذب.
وقال أبو عبيدة : المسنون المصبوب، وهو من قول العرب : سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسَّن الصب. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال :( المسنون الرطب )، وهذا بمعنى المصبوب ؛ لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب. النحاس : وهذا قول حسن ؛ لأنه يقال : سننت الشيء أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء : ومنه الأثر المروي عن عمر٧ أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والشنّ ( بالشين ) تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق. وقال سيبويه : المسنون المصور. أُخِذَ من سنة الوجه وهو صورته. وقال ذو الرمة :
تُرِيكَ سنَّةَ وجهٍ مُقْرِفَةٍ | مَلْسَاء ليس لها خال ولا نَدَبُ٨ |
عنتريس تعدو إذا مسها الصو*** ت كعدو المصلصل الجوال..
٢ راجع ج ١ ص ٢٨٧، وص ٢٧٩..
٣ راجع ج ٣ ص ٢٨٨..
٤ راجع ج ١٦ ص ٢٣٦..
٥ في اللسان: الخضراء..
٦ الزيادة عن اللسان..
٧ في نهاية ابن الأثير: "ابن عمر"..
٨ السنة: الصورة. والمقرفة: التي دنت من الهجينة. والندب: الأثر من الجراح والقراح. وقوله: غير مقرفة، أي غير هجينة، عفيفة كريمة. خال: شامة، وندب: أثر الجرح..
[سورة الحجر (١٥): آية ٢٧]
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ من قبل آدَمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي إِبْلِيسَ، خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَسُمِّيَ جَانًّا لِتَوَارِيهِ عَنِ الْأَعْيُنِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إبليس يطيف به وينظر مَا هُوَ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خلق خلقا لا يتمالك «١» ". (من النار السَّمُومِ) قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (نَارُ السَّمُومِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهَا الْجَانَّ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّمُومُ الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَقْتُلُ. وَعَنْهُ: أَنَّهَا نار لا دخان لها، الصواعق تَكُونُ مِنْهَا، وَهِيَ نَارٌ تَكُونُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْحِجَابِ. فَإِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ أَمْرًا اخْتَرَقَتِ الْحِجَابَ فَهَوَتِ الصَّاعِقَةُ إِلَى مَا أُمِرَتْ. فَالْهَدَّةُ «٢» الَّتِي تَسْمَعُونَ خَرْقُ ذَلِكَ الْحِجَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَارُ السَّمُومِ نَارٌ دُونَهَا حِجَابٌ، وَالَّذِي تَسْمَعُونَ مِنَ انْغِطَاطِ السَّحَابِ صَوْتُهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ- قَالَ- وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، إِذْ مِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ. وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ". فَقَوْلُهُ:
(٢). الهدة: صوت وقع الحائط ونحوه، والهدة: صوت ما يقع من السحاب.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٢» ". (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ) مِنْ طِينٍ (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أَيْ سَوَّيْتُ خَلْقَهُ وَصُورَتَهُ. (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النَّفْخُ إِجْرَاءُ الرِّيحِ فِي الشَّيْءِ. وَالرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ، أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ فِي الْبَدَنِ مَعَ ذَلِكَ الْجِسْمِ. وَحَقِيقَتُهُ إِضَافَةُ خَلْقٍ إِلَى خَالِقٍ، فَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، كَقَوْلِهِ:" أَرْضِي وَسَمَائِي وَبَيْتِي وَنَاقَةُ اللَّهِ وَشَهْرُ اللَّهِ". وَمِثْلُهُ" وَرُوحٌ مِنْهُ" وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" النِّسَاءِ «٣» " مُبَيَّنًا. وَذَكَرْنَا فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ، وَأَنَّ النَّفْسَ وَالرُّوحَ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ هُوَ الْحَيَاةُ قَالَ أَرَادَ: فَإِذَا رُكِّبَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ. (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أَيْ خِرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ. وَهُوَ سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَتَكْرِيمٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ. وَلِلَّهِ أَنْ يُفَضِّلَ مَنْ يُرِيدُ، فَفَضَّلَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٤» " هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ: كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ آدَمَ، وَامْتَحَنَهُمْ (الله «٥» بِالسُّجُودِ لَهُ تَعْرِيضًا لَهُمْ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِلَّهِ عِنْدَ آدم، وكان آدم قبلة لهم.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٦١، وص ٢٩١ قما بعد.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٢
(٤). راجع ج ١ ص ٢٦١، وص ٢٩١ قما بعد.
(٥). من ى
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١)قَوْلُهُ تَعَالَى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- لَا شَكَّ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مَأْمُورًا بالسجود، لقول:" مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «١» " وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارُ وَالِاسْتِعْظَامُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٢» " بَيَانُهُ. ثُمَّ قِيلَ: كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ «٣» " هَذَا كُلُّهُ مُسْتَوْفًى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ وَلَيْسُوا شَيَاطِينَ. وَالشَّيَاطِينُ وَلَدُ إِبْلِيسَ، لَا يَمُوتُونَ إِلَّا مَعَ إِبْلِيسَ. وَالْجِنُّ يَمُوتُونَ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَمِنْهُمُ الْكَافِرُ. فَآدَمُ أَبُو الْإِنْسِ. وَالْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ. وَإِبْلِيسُ أَبُو الشَّيَاطِينِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالَّذِي تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" خِلَافُ هَذَا، فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. الثَّانِيَةُ- الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْجِنْسِ غَيْرِ الْجِنْسِ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، حَتَّى لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ إِلَّا ثَوْبًا، أَوْ عَشْرَةُ أَثْوَابٍ إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ، وَمَا جَانَسَ ذَلِكَ كَانَ مَقْبُولًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْمَبْلَغِ قِيمَةُ الثَّوْبِ وَالْحِنْطَةِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْمُقَدَّرَاتُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اسْتِثْنَاءُ الْمَكِيلِ مِنَ الْمَوْزُونِ وَالْمَوْزُونِ مِنَ الْمَكِيلِ جَائِزٌ، حَتَّى لَوِ اسْتَثْنَى الدَّرَاهِمَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالْحِنْطَةَ مِنَ الدَّرَاهِمِ قُبِلَ. فَأَمَّا إِذَا اسْتَثْنَى الْمُقَوَّمَاتِ مِنَ الْمَكِيلَاتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَكِيلَاتِ مِنَ الْمُقَوَّمَاتِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولُ: عَلَيَّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ إِلَّا ثَوْبًا، أَوْ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ إِلَّا دِينَارًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الْمَبْلَغِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ، وَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ جُمْلَةُ «٤» مَا أَقَرَّ به. والدليل
(٢). راجع ج ١ ص ٢٩٤.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٩٤. [..... ]
(٤). في ى: جميع.
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ | إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ |
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ | وَلَا علم إلا حسن ظن بصاحب |
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ) أَيْ مَا الْمَانِعُ لَكَ. (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أَيْ فِي أَلَّا تَكُونَ. (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) بَيَّنَ تَكَبُّرَهُ وَحَسَدَهُ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، إِذْ هُوَ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ تَأْكُلُ الطِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْأَعْرَافِ «٤» " بَيَانُهُ. (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من السموات، أَوْ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أَيْ مَرْجُومٌ بِالشُّهُبِ. وَقِيلَ: مَلْعُونٌ مَشْئُومٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ. (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) أَيْ لعنتي، كما في سورة" ص «٥» ".
(٢). راجع ص ٤١٩ من هذا الجزء.
(٣). لم يذكر المؤلف رحمة الله عليه قول النابغة، أو لعله سقط من الناسخ. وكأنه يشير إلى قوله:
حلقت يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ | وَلَا عِلْمَ إِلَّا حسن ظن بصاحب |
(٤). راجع ج ٧ ص ١٧٠.
(٥). راجع ج ١٥ ص ٢٢٨
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٣٦ الى ٣٨]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) هَذَا السُّؤَالُ مِنْ إِبْلِيسٍ لَمْ يَكُنْ عن ثقته مِنْهُ بِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُجَابَ لَهُ دُعَاءٌ، وَلَكِنْ سَأَلَ تَأْخِيرَ عَذَابَهُ زِيَادَةً فِي بَلَائِهِ، كَفِعْلِ الْآيِسِ مِنَ السَّلَامَةِ. وَأَرَادَ بِسُؤَالِهِ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ: أَلَّا يَمُوتَ، لِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ لَا مَوْتَ فِيهِ وَلَا بَعْدَهُ. (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) يَعْنِي من المؤجلين. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَرَادَ بِهِ النَّفْخَةَ الْأُولَى)، أَيْ حِينَ تَمُوتُ الْخَلَائِقُ. وَقِيلَ: الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَيَجْهَلُهُ إِبْلِيسُ. فَيَمُوتُ إِبْلِيسُ ثُمَّ يُبْعَثُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «١» ". وَفِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- كَلَّمَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. الثَّانِي- كَلَّمَهُ تَغْلِيظًا فِي الْوَعِيدِ لَا عَلَى وجه التكرمة والتقريب.
[سورة الحجر (١٥): آية ٣٩]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِغْوَاءِ وَالزِّينَةِ فِي الْأَعْرَافِ «٢». وَتَزْيِينُهُ هُنَا يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفِعْلِ الْمَعَاصِي، وَإِمَّا بِشَغْلِهِمْ بزينة الدنيا عن فعل الطاعة. ومعنى: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أَيْ لَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى. وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ إِبْلِيس قَالَ يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَامِهِمْ فَقَالَ الرَّبُّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا استغفروني".
(٢). راجع ج ٧ ص ١٧٤ و١٩٥.
الثاني : كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب.
[سورة الحجر (١٥): آية ٤٠]
إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيِ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ وَأَخْلَصْتَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَةَ مِنْ فَسَادٍ أَوْ رِيَاءٍ. حَكَى أَبُو ثُمَامَةَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ سَأَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْمُخْلَصِينَ لِلَّهِ فَقَالَ:" الَّذِي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس".
[سورة الحجر (١٥): آية ٤١]
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١)
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَعْنَاهُ هَذَا صِرَاطٌ يَسْتَقِيمُ بِصَاحِبِهِ حَتَّى يَهْجُمَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ. الْحَسَنُ:" عَلَيَّ" بِمَعْنَى إِلَيَّ. مُجَاهِدٌ وَالْكِسَائِيُّ: هَذَا عَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُهَدِّدَهُ: طَرِيقُكَ عَلَيَّ وَمَصِيرُكَ إِلَيَّ. وَكَقَوْلِهِ:" إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «١» ". فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: هَذَا طَرِيقٌ مَرْجِعُهُ إِلَيَّ فَأُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، يَعْنِي طَرِيقَ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَيَّ أَنْ أَدُلَّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ. وَقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ" هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ" بِرَفْعِ" عَلِيٌّ" وَتَنْوِينِهِ، وَمَعْنَاهُ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ رَفِيعٌ فِي الدِّينِ وَالْحَقِّ. وَقِيلَ: رَفِيعٌ أَنْ يُنَالَ، مُسْتَقِيمٌ أن يمال.
[سورة الحجر (١٥): آية ٤٢]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قَالَ الْعُلَمَاءَ: يَعْنِي عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ فِي أَنْ يُلْقِيَهُمْ فِي ذَنْبٍ يَمْنَعُهُمْ عَفْوِي وَيُضَيِّقُهُ عَلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.
الأولى : قوله تعالى :" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " قال العلماء : يعني على قلوبهم. وقال ابن عيينة : أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم. وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم. قلت : لعل قائلا يقول : قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله :" فأزلهما الشيطان١ " [ البقرة : ٣٦ ]، وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله :" إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا٢ " [ آل عمران : ١٥٥ ] فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول٣، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة. ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول، على ما تقدم في " البقرة " ٤ بيانه. وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران٥. ثم إن قوله سبحانه :" ليس لك عليهم سلطان " يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة، كما فعل ببلال، إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا وقالوا : ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا ؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :( ليس في النوم تفريط ) ففرج عنهم. " إلا من اتبعك من الغاوين " أي الضالين المشركين. أي سلطانه على هؤلاء، دليله " إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون٦ " [ النحل : ١٠٠ ].
الثانية : وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل، مثل أن يقول : عشرة إلا درهما. أو يقول : عشرة إلا تسعة. وقال أحمد بن حنبل : لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه. وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح. ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استثناء " الغاوين " من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز.
٢ راجع ج ٤ ص ٢٤٣..
٣ في ي: العفو..
٤ راجع ج ١ ص ١١ و ص ٣٢١ و ج ٤ ص ٢٤٣..
٥ راجع ج ٤ ص ٢٤٣..
٦ راجع ص ١٧٥ من هذا الجزء..
«٢» " فَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَا مَوْضِعِ إِيمَانِهِمْ، وَلَا يلقيهم في ذنب يؤول إِلَى عَدَمِ الْقَبُولِ «٣»، بَلْ تُزِيلُهُ التَّوْبَةُ وَتَمْحُوهُ الْأَوْبَةُ. وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُ آدَمَ عُقُوبَةً لِمَا تَنَاوَلَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٤» " بَيَانُهُ. وَأَمَّا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ عَنْهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ «٥». ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:" لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِيمَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي تَسَلُّطِهِ تَفْرِيجُ كُرْبَةٍ وَإِزَالَةِ غُمَّةٍ، كَمَا فُعِلَ بِبِلَالٍ، إِذْ أَتَاهُ يهديه كما يهدى الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ، وَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَفَزِعُوا وَقَالُوا: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلَاتِنَا؟ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ" فَفُرِّجَ عَنْهُمْ. (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أَيِ الضَّالِّينَ الْمُشْرِكِينَ. أَيْ سُلْطَانُهُ عَلَى هَؤُلَاءِ، دَلِيلُهُ" إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ «٦» ". الثَّانِيَةُ- وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيلِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا. أَوْ يَقُولَ: عَشَرَةٌ إِلَّا تسعة. وقال أحمد ابن حَنْبَلٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى إِلَّا قَدْرَ النِّصْفِ فَمَا دُونَهُ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ. وَدَلِيلُنَا هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ فِيهَا اسْتِثْنَاءُ" الْغاوِينَ" مِنَ الْعِبَادِ وَالْعِبَادَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَقَلِّ مِنَ الْجُمْلَةِ وَاسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مِنَ الْجُمْلَةِ جَائِزٌ.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٤٣.
(٣). في ى: العفو
(٤). راجع ج ١ ص ١١ وص ٣٢١ وج ٤ ص ٢٤.
(٥). راجع ج ٤ ص ٢٤٣. [..... ]
(٦). راجع ص ١٧٥ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣١٨.
(٣). راجع ج ٦ ص ٣٦٨.
(٤). في كتاب الدر المنقور للسيوطي:" قال كعب رضى الله عنه: للشهيد نور، ولمن قاتل الحرورية عشرة أنوار. وكان يقول: لجهنم سبعة أبواب: باب منها للحرورية. قال:" ولقد خرجوا في زمان داود عليه السلام".
(٢). الوجبة: صوت الشيء يسقط فيسمع له كالهدة.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٤٥ الى ٤٦]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي الذين اتقوا الفواحش والشرك. أَيْ بَسَاتِينَ." وَعُيُونٍ" هِيَ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ: مَاءٌ وَخَمْرٌ وَلَبَنٌ وَعَسَلٌ. وَأَمَّا الْعُيُونُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ" الْإِنْسَانِ «١» ": الْكَافُورُ وَالزَّنْجَبِيلُ وَالسَّلْسَبِيلُ، وَفِي" الْمُطَفِّفِينَ «٢» ": التَّسْنِيمُ، فَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَأَهْلُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَضَمُّ الْعَيْنِ مِنْ" عُيُونٍ" عَلَى الْأَصْلِ، وَالْكَسْرُ مراعاة للياء، وقرى بهما.. قرى بِهِمَا. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" ادْخُلُوها" بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَضَمِّ الْخَاءِ، مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ، عَلَى الْأَمْرِ. تَقْدِيرُهُ: قِيلَ ادْخُلُوهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ" أُدْخِلُوهَا" بِضَمِّ التَّنْوِينِ وَوَصْلِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، مِنْ أَدْخَلَ. أَيْ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا. وَمَذْهَبُهُمْ كَسْرُ التَّنْوِينِ فِي مِثْلِ" بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا «٣» الْجَنَّةَ" وشبهه، إلا أنهم ها هنا أَلْقَوْا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّنْوِينِ، إِذْ هِيَ أَلِفُ قَطْعٍ، وَلَكِنْ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ كَسْرٍ إِلَى ضَمٍّ ثُمَّ مِنْ ضَمٍّ إِلَى كَسْرٍ فَيَثْقُلُ عَلَى اللِّسَانِ." بِسَلامٍ" أَيْ بِسَلَامَةٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَآفَةٍ. وَقِيلَ: بِتَحِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ. (آمِنِينَ) أَيْ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ وَالْعَزَلِ والزوال.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٢٣، ٢٦٢ ١٤٠ ١٣٩.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٧٤.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ تُعْرَضُ لَهُمْ عَيْنَانِ، فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ فَيُذْهِبُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ غِلٍّ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْعَيْنَ الْأُخْرَى فَيَغْتَسِلُونَ فِيهَا فَتُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ وَتَصْفُو وُجُوهَهُمْ، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةِ، يَعْنِي مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْغِلِّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ وَالْعَدَاوَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: غَلَّ يَغِلُّ. وَيُقَالُ: مِنَ الْغُلُولِ وَهُوَ السَّرِقَةُ مِنَ الْمَغْنَمِ: غَلَّ يَغُلُّ. وَيُقَالُ مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يُغِلُّ. كَمَا قَالَ «١»:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا حَمْزَةَ ابْنَةَ نَوْفَلٍ | جَزَاءَ مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ |
" نصب على الحال من" الْمُتَّقِينَ"
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٥٥.
(٣). صنعاء: موضعان، أحدهما باليمين وهى العظمى، وأخرى قرية بالغوطة. والجابية: قرية من أعمال دمشق. وعدن: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. وأيلة: مدينة على ساحل البحر الأحمر. (عن معجم البلدان).
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٤٩ الى ٥٠]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
هَذِهِ الْآيَةُ وِزَانُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَحَدٌ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ «٣». وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُذَكِّرَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَيُخَوِّفُ وَيُرَجِّي، وَيَكُونُ الْخَوْفُ فِي الصِّحَّةِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ فَقَالَ:" أَتَضْحَكُونَ وَبَيْنَ أَيْدِيكُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ" فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ. وَلَفْظُ الثَّعْلَبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اطَّلَعَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بَنُو شَيْبَةَ وَنَحْنُ نضحك فقال:" ما لكم تَضْحَكُونَ لَا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ" ثُمَّ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْحِجْرِ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَقَالَ لَنَا:" إِنِّي لَمَّا خَرَجْتُ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي مِنْ رَحْمَتِي" نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ". فَالْقُنُوطُ إِيَاسٌ، وَالرَّجَاءُ إهمال، وخير الأمور أوساطها.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤)
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢١٨.
(٣). راجع ج ١ ص ١٣٩.
" مَا يَكْفِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) جَمَعَ الْخَبَرَ لِأَنَّ الضَّيْفَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ كَالْمَصْدَرِ. ضَافَهُ وَأَضَافَهُ أَمَالَهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ" حِينَ تَضِيفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ"، وَضَيْفُوفَةُ «٣» السَّهْمِ، وَالْإِضَافَةُ والنحوية. (فَقالُوا سَلاماً) أَيْ سَلَّمُوا سَلَامًا. (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أَيْ فَزِعُونَ خَائِفُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ الْعِجْلَ وَرَآهُمْ لَا يَأْكُلُونَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ «٤». وَقِيلَ: أَنْكَرَ السَّلَامَ وَلَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ رَسْمُ السَّلَامِ. (قالُوا لَا تَوْجَلْ) أَيْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا تَخَفْ. (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أَيْ حَلِيمٍ «٥»، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: عَالِمٌ. وَهُوَ إِسْحَاقُ. (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) " أَنْ" مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَلَى مَسِّ الْكِبَرِ إِيَّايَ وزوجتي، وقد تقدم في هود وإبراهيم «٦»، حيث يقول: (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ. وَقِيلَ: اسْتِفْهَامٌ حَقِيقِيٌّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تُوجَلُ" بِضَمِ التَّاءِ. وَالْأَعْمَشُ" بَشَّرْتُمُونِي" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَنَافِعٌ وَشَيْبَةُ" تُبَشِّرُونِ" بِكَسْرِ النُّونِ والتخفيف، مثل،" أَتُحاجُّونِّي" وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيلُهُ «٧». وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" تُبَشِّرُونِّ" بِكَسْرِ النُّونِ مُشَدَّدَةً، تَقْدِيرُهُ تُبَشِّرُونَنِي، فَأَدْغَمَ النُّونَ فِي النُّونِ. الْبَاقُونَ" تُبَشِّرُونَ" بِنَصْبِ النون بغير إضافة.
[سورة الحجر (١٥): آية ٥٥]
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ) أَيْ بِمَا لَا خُلْفَ فِيهِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ مِنْهُ. (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أَيْ مِنَ الْآيِسِينَ مِنَ الْوَلَدِ، وَكَانَ قَدْ أَيِسَ مِنَ الولد لفرط
(٢). ضاف السهم: عدل عن الهدف أو الرمية.
(٣). ضاف السهم: عدل عن الهدف أو الرمية.
(٤). راجع ج ٩ ص ٦٢، ص ٦٤ فما بعد، ص ٣٧٥.
(٥). في ى: حكيم.
(٦). راجع ج ٩ ص ٦٢، ص ٦٤ فما بعد، ص ٣٧٥.
(٧). راجع ج ٧ ص ٢٨.
[سورة الحجر (١٥): آية ٥٦]
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
أَيِ الْمُكَذِّبُونَ الذَّاهِبُونَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ. يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَبْعَدَ الْوَلَدَ لِكِبَرِ سِنِّهِ لَا أنه قنط من رحمة الله تعالى.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٥٧ الى ٦٠]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ- إِذْ أَخْبَرُوهُ بِأَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ وَهُوَ بُشْرَاهُمْ بِالْوَلَدِ- قَالَ: فَمَا خَطْبُكُمْ؟ وَالْخَطْبُ الْأَمْرُ الْخَطِيرُ. أَيْ فَمَا أَمْرُكُمْ وَشَأْنُكُمْ وَمَا الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ. (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أَيْ مُشْرِكِينَ ضَالِّينَ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُهْلِكَهُمْ. (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أَتْبَاعَهُ واهل دينه. (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" لَمُنْجُوهُمْ" بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَنْجَى. الْبَاقُونَ: بِالتَّشْدِيدِ مِنْ نَجَّى، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَالتَّنْجِيَةُ وَالْإِنْجَاءُ التَّخْلِيصُ. (إِلَّا امْرَأَتَهُ) اسْتَثْنَى مِنْ آلِ لُوطٍ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ كَافِرَةً فَالْتَحَقَتْ بِالْمُجْرِمِينَ فِي الْهَلَاكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ قوم لوط
لَا تَكْسَعُ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا | إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ النَّاتِجِ |
(٢). راجع ج ٩ ص ٦٢.
(٣). القائل هو الحارث بن حلزة. والمسع: ضرب ضرع الناقة بالماء البارد ليجف لبنها ويتراد في ظهرها فيكون أقوى لها على الجدب في العام القابل. والشول: جمع شائلة وهى من الإبل التي أتى عليها من حملها أو وضغها شبعة أشهر فخف لبنها. والأغبار: جمع الغبر، وهى بقية اللبن في الضرع.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢١٩.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٦١ الى ٦٥]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أَيْ لَا أَعْرِفُكُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا شَبَابًا وَرَأَى جَمَالًا فَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ فِتْنَةِ قَوْمِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِنْكَارُ. (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أَيْ يَشُكُّونَ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ، وَهُوَ الْعَذَابُ. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ) أَيْ بِالصِّدْقِ. وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أَيْ فِي هَلَاكِهِمْ. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) " تقدم في هود «١». (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أَيْ كُنْ مِنْ وَرَائِهِمْ لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَيَنَالَهُ الْعَذَابُ. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) نُهُوا عَنْ الِالْتِفَاتِ لِيَجِدُّوا فِي السَّيْرِ وَيَتَبَاعَدُوا عَنِ الْقَرْيَةِ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَهُمُ الصُّبْحُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَتَخَلَّفُ. (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّامَ. مُقَاتِلٌ: يَعْنِي صَفَدَ، قَرْيَةً مِنْ قُرَى لُوطٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَضَى إِلَى أَرْضِ الْخَلِيلِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْيَقِينُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْيَقِينُ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَرَجَتِ الرُّسُلُ شَيَّعَهُمْ، فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: مِنْ أَيْنَ يُخْسَفُ بِهِمْ؟ قَالَ:" مِنْ هَاهُنَا" وَحَدَّ لَهُ حَدًّا، وَذَهَبَ جِبْرِيلُ، فَلَمَّا جَاءَ لُوطٌ. جَلَسَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ وَارْتَقَبَا ذَلِكَ الْعَذَابَ، فَلَمَّا اهْتَزَّتِ الْأَرْضُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ:" أَيْقَنْتُ بالله" فسمى اليقين.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٦٦ الى ٧١]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١)
[سورة الحجر (١٥): آية ٧٢]
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَجْمَعِهِمْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى ها هنا بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهُ، أَنَّ قَوْمَهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وَفِي حَيْرَتِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. قُلْتُ: وَهَكَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِمُدَّةِ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَصْلُهُ ضَمُّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَمْرُ وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَمَعْنَاهُ وَبَقَائِكَ يَا مُحَمَّدُ. وَقِيلَ: وَحَيَاتِكَ. وَهَذَا نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَغَايَةُ الْبِرِّ وَالتَّشْرِيفِ. قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحياة لوط ويبلغ به من التشريف
(٢). راجع ج ٩ ص ٤١ وص ٧٧ فما بعد.
(٣). راجع ج ٩ ص ٤١ وص ٧٧ فما بعد.
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٤٥
(٥). راجع ج ٩ ص ٤١ وص ٧٧ فما بعد.
لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ | لَقَدْ نَطَقَتْ بُطْلًا عَلَيَّ الْأَقَارِعُ «١» |
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الْفَتَى | لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِالْيَدِ «٢» |
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا | عَمْرَكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ |
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ | لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا |
(٢). البيت لطرفة بن العبد. والطول: الحبل. وثنياه: ما ثنى منه.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٦٩ وما بعدها.
(٤). راجع ج ٢٠ ص ١١٠ وص ٧٢ وص ٥٩.
(٥). راجع ج ١٧ ص ٥٨ وص ٨١.
(٦). راجع ج ٢٠ ص ١١٠ وص ٧٢ وص ٥٩.
(٧). راجع ج ٢٠ ص ١١٠ وص ٧٢ وص ٥٩.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٧٣ الى ٧٤]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ وَقْتَ شُرُوقِ الشَّمْسِ. يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ أَيْ أَضَاءَتْ، وَشَرَقَتْ إِذَا طَلَعَتْ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى. وَأَشْرَقَ الْقَوْمُ أَيْ دَخَلُوا فِي وَقْتِ شُرُوقِ الشَّمْسِ. مِثْلَ أَصْبَحُوا وَأَمْسَوْا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ شُرُوقَ الْفَجْرِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ الْعَذَابِ كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ وَامْتَدَّ إِلَى شُرُوقِ الشَّمْسِ، فَكَانَ تَمَامُ الْهَلَاكِ عِنْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أعلم. و" الصَّيْحَةُ" العذاب. وتقدم ذكر" سجيل «٢» "
[سورة الحجر (١٥): آية ٧٥]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) رَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" لِلْمُتَفَرِّسِينَ" وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَرَوَى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
(٢). راجع ج ٩ ص ٨١. [..... ]
أَوَكُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ | بَعَثُوا إلى عريفهم يتوسموا |
وَفِيهِنَّ مَلْهًى لِلصَدِيقِ وَمَنْظَرٌ | أَنِيقٌ لِعَيْنِ النَّاظِرِ الْمُتَوَسِّمِ |
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ | والله يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ |
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً | عَلَيْهِ وَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ |
وَأَصْبَحْنَ كَالدَّوْمِ النَّوَاعِمِ غُدْوَةً | عَلَى وِجْهَةٍ مِنْ ظَاعِنٍ مُتَوَسِّمِ |
(٢). في ى: تاجرا.
(٣). من ى.
الأولى : قوله تعالى :" للمتوسمين " روى الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( للمتفرسين ) وهو قول مجاهد. وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ - " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " ). قال : هذا حديث غريب. وقال مقاتل وابن زيد : للمتوسمين للمتفكرين. الضحاك : للنظارين. قال الشاعر١ :
أو كلما وردت عُكَاظُ قبيلةٌ | بعثوا إلى عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ |
وفيهنّ ملهىً للصديق ومنظرٌ | أنيقٌ لعين الناظر المتوسِّمِ |
إني توسمت فيك الخير أعرفه*** والله يعلم أني ثابت البصر
آخر :
توسمتُه لما رأيت مهابةً*** عليه وقلتُ المرءُ من آل هاشم
واتسم الرجل إذا جعل لنفسه علامة يعرف بها. وتوسم الرجل طلب كلأ الوسمي. وأنشد :
وأصبحن كالدوم النواعِمِ غدوة*** على وِجْهَةٍ من ظاعنٍ مُتَوَسِّمِ
وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم، وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذلك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر. زاد غيره : وتفريغ القلب من حشو الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا. روى نهشل عن ابن عباس " للمتوسمين " قال : لأهل الصلاح والخير. وزعمت الصوفية أنها كرامة. وقيل : بل هي استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر. قال الحسن : المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار، فهذا من الدلائل الظاهرة. ومثله قول ابن عباس :( ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه ). وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما : أراه نجارا٢، وقال الآخر : بل حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأل فقال : كنت نجارا٣ وأنا اليوم حداد. وروي عن جندب بن عبدالله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال : من سَمَّعَ سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. فقلنا له : كأنك عرضت بهذا الرجل، فقال : إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا، فكان رأس الحرورية، واسمه مرداس. وروي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال : هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتى هجره عامة إخوانه. وقال لأيوب : هذا سيد فتيان أهل البصرة، ولم يستثن. وروي عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه : إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك، وكان كذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر، فصعد فيه النظر وصوبه وقال : أيهم هذا ؟ قالوا : مالك بن الحارث. فقال : ما له قاتله الله ! إني لأرى للمسلمين منه. يوما عصيبا، فكان منه في الفتنة ما كان. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : أن أنس بن مالك دخل عليه، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه قال عثمان :( يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزنى فقال له أنس : أوحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق ). ومثله كثير عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
الثانية : قال القاضي٤ أبو بكر بن العربي :" إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس. وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه، كتبه لي بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح ؛ فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها.
٢ في ي: تاجرا..
٣ في ي: تاجرا..
٤ من ي..
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٧٦ الى ٧٩]
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّها) يَعْنِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ. (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أَيْ عَلَى طَرِيقِ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى الشَّامِ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ لَعِبْرَةٌ لِلْمُصَدِّقِينَ. (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) يُرِيدُ قَوْمَ شُعَيْبٍ، كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ وَرِيَاضٍ وَشَجَرٍ مُثْمِرٍ. وَالْأَيْكَةُ: الْغَيْضَةُ، وَهِيَ جَمَاعَةُ الشَّجَرِ، وَالْجَمْعُ الْأَيْكُ. وَيُرْوَى أَنَّ شَجَرَهُمْ كَانَ دَوْمًا وَهُوَ الْمُقْلُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
تَجْلُو بِقَادِمَتَيْ حَمَامَةِ أَيْكَةٍ | بَرَدًا أُسِفُّ لِثَاتُهُ بِالْإِثْمِدِ |
[سورة الحجر (١٥): آية ٨٠]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠)
الْحِجْرُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا حِجْرُ الْكَعْبَةِ. وَمِنْهَا الْحَرَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَحِجْراً مَحْجُوراً" «٢» أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا. وَالْحِجْرُ الْعَقْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لِذِي حِجْرٍ «٣» " وَالْحِجْرُ حِجْرُ الْقَمِيصِ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. وَالْحِجْرُ الْفَرَسُ الْأُنْثَى. وَالْحِجْرُ دِيَارُ ثَمُودَ، وَهُوَ الْمُرَادُ هنا،
(٢). راجع ج ١٣ ص ٥٨.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٤٢.
فَأَسْرَعَ. قُلْتُ: فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَيَّنَ الشَّارِعُ حُكْمَهَا وَأَوْضَحَ أَمْرَهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ، اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ وَاخْتَلَفَ فِي بَعْضِهَا الْفُقَهَاءُ، فَأَوَّلُهَا- كَرَاهَةُ دُخُولِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، وَعَلَيْهَا حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ دُخُولَ مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ دَخَلَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَالْمَقَابِرِ فَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْخَوْفِ وَالْإِسْرَاعِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تَدْخُلُوا أَرْضَ بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ". مَسْأَلَةٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ بِهَرْقِ مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِ ثَمُودَ وَإِلْقَاءِ مَا عُجِنَ وَخُبِزَ بِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاءُ سُخْطٍ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِرَارًا مِنْ سخط الله. وقال" اعلفوه الإبل".
أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى | أُحِبُّ لِحُبِّهَا سُودَ الْكِلَابِ |
أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْلَى | أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا |
وَمَا تِلْكَ «٢» الدِّيَارُ شَغَفْنَ قَلْبِي | وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا |
(٢). الرواية المشهورة:" وما حب الديار". والبيتان لمجنون ليلى. (راجع خزانة الأدب في الشاهد التسعين بعد المائتين).
(٢). أي ناقة واحدة.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٦١. [..... ]
كَنِيسَةٍ أَوْ بِيعَةٍ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، أَنَّ صَلَاتَهُ مَاضِيَةٌ جَائِزَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" «١». وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَنِيسَةَ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ سُخْطٍ مِنَ المقبرة،
(٢). أراد ثامن المسائل التي استنبطها الفقهاء. والحائط الحديقة.
تجلو بقَادِمَتَيْ حمامة أيكةٍ | بَرَدًا أُسِفَّ لِثَاتُهُ بالإثمدِ |
روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا : قد عجنا واستقينا. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين. وفي الصحيح عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة. وروي أيضا عن ابن عمر قال : مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) ثم زجر٣ فأسرع.
قلت : ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء، فأولها : كراهة دخول تلك المواضع، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار، فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والإسراع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة ).
مسألة : أمر النبي بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله. وقال ( اعلفوه الإبل ).
قلت : وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به. وثانيها : قال مالك : إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم ؛ إذ لا تكليف عليها، وكذلك قال في العسل النجس : إنه يعلفه النحل. وثالثها : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل، ولم يأمر بطرحه كما أمر لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر ؛ فدل على أن لحم الحمر أشد. في التحريم وأغلظ في التنجيس. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسب الحجام أن يعلف الناضح٤ والرقيق، ولم يكن ذلك لتحريم ولا تنجيس. قال الشافعي : ولو كان حراما لم يأمره أن يطعمه رقيقه ؛ لأنه متعبد فيه كما تعبد في نفسه. ورابعها : في أمره صلى الله عليه وسلم بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها، خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا وقال : تطلق الكلاب عليها ولا يحملها إليهم. وخامسها : أمره صلى الله عليه وسلم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم، كما أن في الأول دليلا على بغض أهل الفساد وذم ديارهم وآثارهم. هذا، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض، كما كثير :
أحبُّ لحبها السُّودَانَ حتى*** أحبُّ لحبها سُودَ الكلاب
وكما قال آخر :
أمر على الديار ديار ليلى*** أُقَبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا
وما تلك٥ الديار شغفن قلبي*** ولكن حب من سكن الديارا
وسادسها : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال : لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب. قال ابن العربي : فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم :( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) فلا يجوز التيمم بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها. وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن : في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ببت الله. وفي الباب عن أبي مرثد وجابر وأنس : حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وقد زاد علماؤنا : الدار المغصوبة والكنيسة والبيعة والبيت الذي فيه تماثيل، والأرض المغصوبة أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه رجل أو جدارا عليه نجاسة. قال ابن العربي : ومن هذه المواضع ما منع لحق الغير، ومنه ما منع لحق الله تعالى، ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها، فما منع لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالحمام والمقبرة فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة. وذكر أبو مصعب عنه الكراهة. وفرق علماؤنا بين المقبرة القديمة والجديدة لأجل النجاسة، وبين مقبرة المسلمين والمشركين ؛ لأنها دار عذاب وبقعة سخط كالحجر. وقال مالك في المجموعة : لا يصلي في أعطان الإبل وإن فرش ثوبا، كأنه رأى لها علتين : الاستتار بها٦ ونفارها فتفسد على المصلي صلاته، فإن كانت واحدة٧ فلا بأس، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في الحديث الصحيح. وقال مالك : لا يصلي على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة. وكره ابن القاسم الصلاة إلى القبلة فيها تماثيل، وفي الدار المغصوبة، فإن فعل أجزأه وذكر بعضهم عن مالك أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزئ. قال ابن العربي : وذلك عندي بخلاف الأرض. فإن الدار لا تدخل إلا بإذن، والأرض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك. قلت : الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة. وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم :( إن هذا واد به شيطان ) وقد رواه معمر عن الزهري فقال : واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة. وقول علي : نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. وقوله عليه السلام حين مر بالحجر من ثمود :( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ) ونهيه عن الصلاة في معاطن الإبل إلى ذلك مما في هذا الباب، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها. قال الإمام الحافظ أبو عمر : المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل وغير ذلك مما في هذا المعنى، كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم :( جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا )، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا : إن ذلك من فضائله ومما خص به، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص. قال صلى الله عليه وسلم :( أوتيت خمسا - وقد روي ستا، وقد روي ثلاثا وأربعا، وهي تنتهي إلى أزيد من تسع٨، قال فيهن - ( لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي وأعطيت الكوثر. وختم بي النبيون ) رواه جماعة من الصحابة. وبعضهم يذكر بعضها، ويذكر بعضهم ما لم يذكر غيره، وهي صحاح كلها. وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان، ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا، وكذلك روي عنه. وقال :( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ثم نزلت " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر٩ " [ الفتح : ٢ ]. وسمع رجلا يقوله : يا خير البرية، فقال :( ذاك إبراهيم ) وقال :( لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى ) وقال :( السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ) ثم قال بعد ذلك كله :( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ). ففضائله صلى الله عليه وسلم لم تزل تزداد إلى أن قبضه الله، فمن ههنا قلنا : إنه لا يجوز عليها النسخ ولا الاستثناء ولا النقصان، وجائز فيها الزيادة. وبقوله صلى الله عليه وسلم :( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) أجزنا الصلاة في المقبرة والحمام وفي كل موضع من الأرض إذا كان طاهرا من الأنجاس. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر :( حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الأرض كلها مسجد ) ذكره البخاري ولم يخص موضعا من موضع.
وأما من احتج بحديث ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو حديث انفرد به زيد بن جبيرة وأنكروه عليه، ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا برواية يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة. وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، وكتب إليه عبد الله بن نافع لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل. ذكره الحلواني عن سعيد بن أبي مريم عن الليث، وليس فيه تخصيص مقبرة المشركين من غيرها. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال : نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة. وإسناده ضعيف مجتمع على ضعفه، وأبو صالح الذي رواه عن علي هو سعيد بن عبد الرحمن الغفاري، بصري ليس بمشهور ولا يصح له سماع عن علي، ومن دونه مجهولون لا يعرفون. قال أبو عمر : وفي الباب عن علي من قوله غير مرفوع حديث حسن الإسناد، رواه الفضل بن دكين قال : حدثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي قال حدثني أبو العنبس حجر بن عنبس قال : خرجنا مع علي إلى الحرورية، فلما جاوزنا سوريا وقع بأرض بابل، قلنا : يا أمير المؤمنين أمسيت، الصلاة الصلاة، فأبى أن يكلم أحدا. قالوا : يا أمير المؤمنين، قد أمسيت. قال بلى، ولكن لا أصلي في أرض خسف الله بها. والمغيرة بن أبي الحر كوفي ثقة، قاله يحيى بن معين وغيره. وحجر بن عنبس من كبار أصحاب علي. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ). قال الترمذي : رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي مرسلا، وكأنه أثبت وأصح. قال أبو عمر : فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة، ولو ثبت كان الوجه ما ذكرنا. ولسنا نقول كما قال بعض المنتحلين لمذهب المدنيين : إن المقبرة في هذا الحديث وغيره أريد بها مقبرة المشركين خاصة، فإنه قال : المقبرة والحمام بالألف واللام، فغير جائز أن يرد ذلك إلى مقبرة دون مقبرة أو حمام دون حمام بغير توقيف عليه، فهو قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا خبر صحيح، ولا مدخل له في القياس ولا في المعقول، ولا دل عليه فحوى الخطاب ولا خرج عليه الخبر. ولا يخلو تخصيص من خص مقبرة المش
٢ راجع ج ٢٠ ص ٤٢..
٣ أي زجر صلى الله عليه وسلم ناقته.
٤ الناضح: البعير يستقى عليه..
٥ الرواية المشهورة: "وما حب الديار". والبيتان لمجنون ليلى. (راجع خزانة الأدب في الشاهد التسعين بعد المائتين)..
٦ في الموطأ: "لأنها يستتر بها للبول والغائط، فلا تكاد تسلم مباركها من النجاسة"..
٧ أي ناقة واحدة..
٨ في و و ي: سبع..
٩ راجع ج ١٦ ص ٢٦١..
[سورة الحجر (١٥): آية ٨١]
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) أَيْ بِآيَاتِنَا كَقَوْلِهِ:" آتِنا غَداءَنا «١» " أي بغذائنا. وَالْمُرَادُ النَّاقَةُ، وَكَانَ فِيهَا آيَاتٌ جَمَّةٌ: خُرُوجُهَا مِنَ الصَّخْرَةِ، وَدُنُوُّ نِتَاجِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَعِظَمُهَا حَتَّى لَمْ تُشْبِهْهَا نَاقَةٌ، وَكَثْرَةُ لَبَنِهَا حَتَّى تَكْفِيَهُمْ جَمِيعًا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ لِصَالِحٍ آيَاتٌ أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره. (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي لم يعتبروا.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٨٢ الى ٨٤]
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
النَّحْتُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبَرْيُ وَالنَّجْرُ. نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ (بِالْكَسْرِ «٢» نَحْتًا أَيْ بَرَاهُ. وَالنُّحَاتَةُ الْبُرَايَةُ. وَالْمِنْحَتُ مَا يُنْحَتُ بِهِ. وَفِي التَّنْزِيلِ" أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ «٣» " أَيْ تَنْجُرُونَ وَتَصْنَعُونَ. فَكَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا لِأَنْفُسِهِمْ بِشِدَّةِ قُوَّتِهِمْ. (آمِنِينَ) أَيْ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِمْ أَوْ تَخْرَبَ. وَقِيلَ: آمِنِينَ مِنَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: مِنَ الْعَذَابِ. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أَيْ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّيْحَةِ فِي هُودٍ وَالْأَعْرَافِ «٤». (فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ) مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحُصُونِ فِي الْجِبَالِ، وَلَا مَا أُعْطَوْهُ مِنَ الْقُوَّةِ.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
(٢). وبالفتح وبه قرأ الحسن وذكر في المثلثات أن المتواتر هو الصحيح.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٩٦.
(٤). راجع ج ٩ ص ٦١ وج ٧ ص ٢٤٢.
[سورة الحجر (١٥): آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي، فَقِيلَ: الْفَاتِحَةُ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبَى طَالِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ، مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ «٦». وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَشَدْتُكُمْ بِمُنَزِّلِ الْقُرْآنِ | أُمِّ الْكِتَابِ السَّبْعِ مِنْ مَثَانِي |
(٢). راجع ج ١٩ ص ٤٤.
(٣). راجع ج ٥ ص ٣١٠.
(٤). كذا في الأصول وتفسير الطبري. وفى الكتاب الجامع الصغير:" بالجهاد".
(٥). كذا في الأصول.
(٦). راجع ج ١ ص ١٠٨.
جَزَى اللَّهُ الْفَرَزْدَقَ حِينَ يُمْسِي | مُضِيعًا لِلْمُفَصَّلِ وَالْمَثَانِي |
فَقَدْ كَانَ نُورًا سَاطِعًا يهتدى به | يخص بتنزيل المثاني الْمُعَظَّمِ |
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ | وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ |
(٢). راجع ج ١ ص ١١٢.
(٣). راجع ج ٣ ص ٢١٣.
[سورة الحجر (١٥): آية ٨٨]
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الْمَعْنَى: قَدْ أَغْنَيْتُكَ بِالْقُرْآنِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لَيْسَ مِنَّا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ يَغْنَى بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى يَطْمَحَ بَصَرُهُ إِلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَعِنْدَهُ مَعَارِفُ الْمَوْلَى. يُقَالُ: إِنَّهُ وَافَى سَبْعَ قوافل من البصرة وَأَذْرِعَاتَ لِيَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فِيهَا الْبُرُّ وَالطِّيبُ وَالْجَوْهَرُ وَأَمْتِعَةُ الْبَحْرِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ لَنَا لَتَقَوَّيْنَا بِهَا وَأَنْفَقْنَاهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي" أَيْ فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْقَوَافِلِ السَّبْعِ، فَلَا تَمُدُّنَّ أَعْيُنَكُمْ إِلَيْهَا. وَإِلَى هَذَا صَارَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَوْرَدَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أول «١» الكتاب. ومعنى (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أَيْ أَمْثَالًا فِي النِّعَمِ، أَيِ الْأَغْنِيَاءِ بَعْضُهُمْ أَمْثَالُ بَعْضٍ فِي الْغِنَى، فَهُمْ أَزْوَاجٌ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي الزَّجْرَ عَنِ التَّشَوُّفِ إِلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِقْبَالَ الْعَبْدِ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ. وَمِثْلُهُ" وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ «٢» فِيهِ" الْآيَةَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ «٣» النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَشَاغَلُ بِالنِّسَاءِ، جِبِلَّةَ الْآدَمِيَّةِ وَتَشَوُّفَ الْخِلْقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيُحَافِظُ عَلَى الطِّيبِ، وَلَا تَقَرُّ لَهُ عَيْنٌ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ لَدَى مُنَاجَاةِ الْمَوْلَى، وَيَرَى أَنَّ مُنَاجَاتَهُ أَحْرَى مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى. وَلَمْ يَكُنْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ الرَّهْبَانِيَّةُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بالكلية «٤» كما كان في دين عيسى،
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٦١.
(٣). كذا في سنن النسائي ومسند الامام أحمد. والذي في الأصول:" حبب إلى من دنياكم ثلاث... إلخ" وبكلمة" ثلاث" لا يستقيم الكلام. راجع كشف الخفا ج ١ ص ٣٣٨ ففيه بحث شيق واف.
(٤). أي الانقطاع الكلى عن الدنيا فإنه من معاني الرهبانية.
وَحَسْبُكَ فِتْيَةٌ لِزَعِيمِ قَوْمٍ | يَمُدُّ عَلَى أَخِي سَقَمٍ جَنَاحَا |
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠)
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَذَابًا، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ، إِذْ كَانَ الْإِنْذَارُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:" أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ «٣» وَثَمُودَ". قيل: الْكَافُ زَائِدَةٌ، أَيْ أَنْذَرْتُكُمْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين، كقوله:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٤» " أنذرتكم
(٢). راجع ج ١١ ص ١٩٠.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٤٦.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٧.
". السَّابِعُ- قَالَ الْأَخْفَشُ: هُمْ قَوْمٌ اقْتَسَمُوا أَيْمَانًا تَحَالَفُوا عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ومنبه بن الحجاج، ذكره الماوردي.
[سورة الحجر (١٥): آية ٩١]
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
هَذِهِ صِفَةُ الْمُقْتَسِمِينَ. وقيل: هو مبتدأ وخبره" لَنَسْئَلَنَّهُمْ". وَوَاحِدُ الْعِضِينَ عِضَةٌ، مِنْ عَضَّيْتُ الشَّيْءَ تَعْضِيَةً أَيْ فَرَّقْتُهُ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ عِضَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت في الأصل
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢١٦.
وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْمُعَضَّى
أَيْ بِالْمُفَرَّقِ. وَيُقَالُ: نُقْصَانُهُ الْهَاءُ وَأَصْلُهُ عِضْهَةٌ، لِأَنَّ الْعِضَهَ وَالْعِضِينَ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ السِّحْرُ. وَهُمْ يَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ: عَاضِهٌ وَلِلسَّاحِرَةِ عَاضِهَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا | تَ فِي عَقْدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ |
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٩٢ الى ٩٣]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)
قوله تعالى: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أَيْ لَنَسْأَلَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُهُمْ عَمَّا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ عدة من أهل العلم في قوله:" فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" عَنْ لَا إِلَهَ إلا الله.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٣٨. [..... ]
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٩٤ الى ٩٥]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أَيْ بِالَّذِي تُؤْمَرُ بِهِ، أَيْ بَلِّغْ رِسَالَةَ اللَّهِ جَمِيعَ الْخَلْقِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِذَلِكَ. وَالصَّدْعُ: الشَّقُّ. وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ أَيْ تَفَرَّقُوا، وَمِنْهُ" يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ «٦» " أَيْ يَتَفَرَّقُونَ. وَصَدَعْتُهُ فَانْصَدَعَ أَيِ انْشَقَّ. أَصْلُ الصَّدْعِ الْفَرْقُ وَالشَّقُّ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ الْحِمَارَ وَأُتُنَهُ:
وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ | يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ «٧» |
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٧٣.
(٣). راجع ج ٢ ص ٢٣٤.
(٤). راجع ج ١٩ ص ٢٥٧.
(٥). راجع ج ٢٠ ص ١٧٤.
(٦). راجع ج ١٤ ص ٢١.
(٧). الربابة: الجلدة التي تجمع فيها السهام. واليسر: صاحب الميسر الذي يضرب بالقداح.
(٢). السبل (بالتحريك): الثياب المسبلة، يفعل ذلك كبرا واختيالا.
(٣). السبرق: نبى حجازي يؤكل، وله شوك.
[سورة الحجر (١٥): آية ٩٦]
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
هَذِهِ صِفَةُ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءٌ وخبره" فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ".
[سورة الحجر (١٥): آية ٩٧]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ) أَيْ قَلْبُكَ، لِأَنَّ الصَّدْرَ مَحَلُّ الْقَلْبِ. (بِما يَقُولُونَ) أَيْ بِمَا تَسْمَعُهُ مِنْ تَكْذِيبِكَ وَرَدِّ قولك، وتناله. ويناله أصحابك من أعدائك.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٩٨ الى ٩٩]
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (فَسَبِّحْ) أَيْ فَافْزَعْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَهِيَ غَايَةُ التسبيح ونهاية التقديس. وذلك تفسير لقوله: (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) لَا خَفَاءَ أَنَّ غَايَةَ الْقُرْبِ فِي الصَّلَاةِ حَالُ السُّجُودِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَخْلِصُوا «٣» الدُّعَاءَ). وَلِذَلِكَ خَصَّ السُّجُودَ بِالذِّكْرِ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا السُّجُودُ نَفْسَهُ، فَرَأَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّا مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ، يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهَا، وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ أَنَّ هَاهُنَا سَجْدَةً عِنْدَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَمَانِ بن رئاب، وراي أنها واجبة
(٢). راجع ص ٩٧ من هذا الجزء
(٣). الرواية" فأكثروا" كما في الجامع الصغير.
(٢). راجع ج ٢ ص ٣٣.
(٣). راجع صحيح البخاري ج ٣ ص ١٥١ طبعه بولاق.