تفسير سورة الكهف

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مكية وهي مائة وعشر آيات

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ولم يجعل له عوجاً﴾ اختلافاً والتباساً
﴿قيماً﴾ مستقيماً يريد: أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً ﴿لينذر﴾ الكافرين ﴿بأساً﴾ عذاباً ﴿شديداً من لدنه﴾ من قِبَلِه وقوله: ﴿أجراً حسناً﴾ يعني: الجنة
﴿لينذر﴾ بعذابِ الله ﴿الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ وهو اليهود والنَّصارى
﴿ما لهم به﴾ بذلك القول ﴿من علمٍ﴾ لأنَّهم قالوه جهلاً وافتراءً على الله ﴿ولا لآبائهم﴾ الذين قالوا ذلك ﴿كبرت كلمة﴾ مقالتهم تلك كلمة
﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلا كذبا﴾
﴿فلعلك باخع نفسك﴾ قاتلها ﴿على آثارهم﴾ على أثر تولِّيهم وإعراضهم عنك لشدَّة حرصك على إيمانهم ﴿إن لم يؤمنوا بهذا الحديث﴾ يعني: القرآن ﴿أسفاً﴾ غيظاً وحزناً
﴿إنا جعلنا ما على الأرض﴾ يعني: ما خلق في الدُّنيا من الأشجار والنبات والماء ولك ذي روح على الأرض ﴿زينة لها﴾ زيَّناها بما خلقنا فيها ﴿لنبلوهم أيهم أحسن عملاَ﴾ أزهد فيها وأترك لها ثمَّ أعلم أنَّه يُفني ذلك كلَّه فقال:
﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً﴾ بلاقع ليس فيها نبات
﴿أم حسبت﴾ بل أحسبت ﴿أنَّ أصحاب الكهف﴾ وهو المغارة في الجبل ﴿والرقيم﴾ وهو اللَّوح الذي كُتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم ﴿كانوا من آياتنا عجباً﴾ أَيْ: لم يكونوا بأعجب آياتنا ولم يكونوا العجب من آياتنا فقط فإنَّ آياتنا كلَّها عجب وكانت قريش سألوا محمدا ﷺ عن خبر فتيةٍ فُقدوا في الزمان الأوَّل بتلقين اليهود قريشاً ذلك فأنزل الله سبحانه على نبيِّه عليه السَّلام خبرهم فقال:
﴿إذ أوى﴾ اذكر ﴿الفتية إلى الكهف﴾ هربوا إليه ممَّن يطلبهم فاشتغلوا بالدُّعاء والتَّضرُّع ﴿فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة﴾ أعطنا من عندك مغفرةً ورزقا ﴿وهيئ﴾ أصلح ﴿لنا من أمرنا رشداً﴾ أَيْ: أرشدنا إلى ما يُقرِّب منك
﴿فضربنا على آذانهم﴾ سددنا آذانهم بالنَّوم ﴿في الكهف سنين عدداً﴾ معدودةً
﴿ثم بعثناهم﴾ ايقظناهم من نومهم ﴿لنعلم﴾ لنرى ﴿أيّ الحزبين﴾ من المؤمنين والكافرين ﴿أحصى﴾ أعدُّ ﴿لما لبثوا﴾ للبثهم في الكهف نائمين ﴿أمداً﴾ غايةً وكان وقع اختلافٌ بين فريقين من المؤمنين والكافرين في قدر مدَّة فقدهم ومنذ كم فقدوهم فبعثهم الله سبحانه من نومهم ليتبيَّن ذلك
﴿نحن نقصُّ عليك نبأهم﴾ خبرهم ﴿بالحق﴾ بالصِّدق ﴿إنهم فتية﴾ شُبَّانٌ وأحداثٌ ﴿آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾ ثبَّتناهم على ذلك
﴿وربطنا على قلوبهم﴾ ثبتناها بالصَّبر واليقين ﴿إذ قاموا﴾ بين يديّ ملكهم الذي كان يفتن أهل الأديان عن دينهم ﴿فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ كذباً وجوراً إنْ دعونا غيره
﴿هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة﴾ يعنون: الذين عبدوا الأصنام في زمانهم ﴿لولا﴾ هلاَّ ﴿يأتون عليهم﴾ على عبادتهم ﴿بسلطانٍ بيِّن﴾ بحجَّةٍ بيِّنةٍ ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فزعم أنَّ معه إلهاً فقال لهم تمليخا - وهو رئيسهم -:
﴿وإذ اعتزلتموهم﴾ فارقتموهم ﴿وما يعبدون﴾ من الأصنام ﴿إلاَّ الله﴾ فإنكم لن تتركوا عبادته ﴿فأووا إلى الكهف﴾ صيروا إليه ﴿ينشر لكم ربكم من رحمته﴾ يبسطها عليكم ﴿وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ يُسهَّل لكم غذاءً تأكلونه
﴿وترى الشمس إذا طلعت تزاور﴾ تميل عن كهفهم ﴿ذات اليمين﴾ في ناحية اليمين ﴿وإذا غربت تقرضهم﴾ تتركهم وتتجاوز عنهم ﴿ذات الشمال﴾ في ناحية الشِّمال فلا تصيبهم الشَّمس ألبتةَ لأنَّها تميل عنهم طالعةَ غرابة فتكون صورهم محفوظة ﴿وهم في فجوة منه﴾ مُتَّسعٍ من الكهف ينالهم برد الرِّيح ونسيم الهواء ﴿ذلك﴾ التزاور والقرض ﴿من آيات الله﴾ دلائل قدرته ولطفه بأصحاب الكهف ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المهتد﴾ أشار إلى أنَّه هو الذي تولَّى هدايتهم ولولا ذلك لم يهتدوا
﴿وتحسبهم أيقاظاً﴾ لأنَّ أعينهم مُفتَّحة ﴿وهم رقود﴾ نيامٌ ﴿ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال﴾ لئلا تأكل الأرض لحومهم ﴿وكلبهم باسط ذراعيه﴾ يديه ﴿بالوصيد﴾ بفناء الكهف ﴿لو اطلعت﴾ أشرفت ﴿عليهم لوليت﴾ أعرضت ﴿منهم فراراً ولملئت منهم رعباً﴾ خوفاً وذلك أن الله تعالى منعهم بالرُّعب لئلا يراهم أحد
﴿وكذلك﴾ وكما فعلنا بهم هذه الأشياء ﴿بعثناهم﴾ أيقظناهم من تلك النَّومة التي تشبه الموت ﴿ليتساءلوا بينهم﴾ ليكون بينهم تساؤلٌ عن مدَّة لبثهم ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ كم مرَّ علينا منذ دخلنا الكهف؟ ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ وذلك أنَّهم دخلوا الكهف غدوةً وبعثهم الله في آخر النَّهار لذلك قالوا: يوماً فلمَّا رأوا الشمس قالوا: أَوْ بعض يوم وكان قد بقيت من النَّهار بقيةٌ فقال تمليخا: ﴿ربكم أعلم بما لبثتم﴾ ردَّ علم ذلك إلى الله سبحانه ﴿فابعثوا أحدكم بورقكم﴾ بدراهمكم ﴿هذه إلى المدينة فلينظر أيها﴾ أَيُّ أهلها ﴿أزكى طعاماً﴾ أحلّ من جهةِ أنَّه ذبيحةُ مؤمن أو من جهة أنَّه غير مغصوب وقوله: ﴿وليتلطف﴾ في دخوله المدينة وشراء الطَّعام حتى لا يَطَّلِع عليه أحدٌ ﴿ولا يشعرنَّ بكم﴾ ولا يخبرنَّ بكم ولا بمكانكم ﴿أحداً﴾
﴿أنهم إن يظهروا عليكم﴾ يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم ﴿يرجموكم﴾ يقتلوكم ﴿أو يعيدوكم في ملتهم﴾ يردُّوكم إلى دينهم ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ لن تسعدوا في الدُّنيا ولا في الآخرة إن رجعتم إلى دينهم
﴿وكذلك﴾ وكما بعثناهم وأنمناهم ﴿أَعْثرنا﴾ أطلعنا ﴿عليهم ليعلموا﴾ ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت ﴿أنَّ وعد الله﴾ بالثَّواب والعقاب ﴿حقٌّ وأنَّ الساعة﴾ القيامة ﴿لا ريب فيها﴾ لا شكَّ فيها وذلك أنَّهم يستدلُّون بقصَّتهم على صحَّة أمر البعث ﴿إذ يتنازعون﴾ أي: اذكر يا محمد إذ يتنازع أهلُ ذلك الزَّمان أمرَ أصحاب الكهف ﴿بينهم﴾ وذلك أنَّهم كانوا يختلفون في مدَّة مكثهم وفي عددهم وقيل: تنازعوا فقال المؤمنون: نبني عندهم مسجداً وقال الكافرون: نُحوِّط عليهم حائطاً يدلُّ على هذاقوله: ﴿ابنوا عليهم بنياناً﴾ استروهم عن النَّاس ببناءٍ حولهم وقوله: ﴿ربُّهم أعلم بهم﴾ يدلُّ على أنَّه وقع تنازعٌ في عدَّتهم ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ﴾ وهم المؤمنون وكانوا غالبين في ذلك الوقت ﴿لنتخذنَّ عليهم مسجداً﴾ فذكر في القصَّة أنّه جعل على باب الكهف مسجد يصلَّى فيه
﴿سيقولون ثلاثة﴾ الآية أخبر الله تعالى عن تنازعٍ يجري في عدَّة أصحاب الكهف فجرى ذلك بالمدينة حين قدم وفد نصارى نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبيَّة منهم: كانوا ثلاثةً رابعُهم كلبهم وقالت النِّسطورية: كانوا خمسةً سادسهم كلبهم وقال المسلمون: كانوا سبعةً وثامنهم كلبهم فقال الله تعالى: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قليل﴾ من النَّاس قال ابن عباس: أنا في ذلك القليل ثمَّ ذكرهم بأسمائهم فذكر سبعة ﴿فلا تمار﴾ فلا تجادل في أصحاب الكهف ﴿إلاَّ مراءً ظاهراً﴾ بما أنزل عليك أي: أَيْ أَفتِ في قصَّتهم بالظَّاهر الذي أنزل إليك وقل: لا يعلمهم إلاَّ قليل كما أنزل الله ﴿ما يعلمهم إلاَّ قليل﴾ ﴿ولا تستفت فيهم﴾ في أصحاب الكهف ﴿منهم﴾ من أهل الكتاب ﴿أحداً﴾
﴿ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غداً﴾
﴿إلا أن يشاء الله﴾ هذا تأديبٌ من الله سبحانه لنبيه ﷺ وأمرٌ له بالاستثناء بمشيئة الله سبحانه فيما يعزم يقول: إذا قلت لشيءٍ: إني فاعله غداً فقل: إن شاء الله ﴿واذكر ربك إذا نسيت﴾ أراد: إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله سبحانه فاذكره وقله إذا تذكَّرت ﴿وقل عسى أن يهدين ربي﴾ أَيْ: يعطيني ربِّي من الآيات والدّلالات على النُّبوَّة ما يكون أقرب في الرُّشد وأدلَّ من صحَّة قصَّة أصحاب الكهف ثمَّ فعل الله به ذلك حيث أتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم ثمَّ أخبر عن قدر مدَّة لبثهم في الكهف بقوله:
﴿ولبثوا في كهفهم﴾ منذ دخلوه إلى أن بعثهم الله ﴿ثلاث مائة سنين وازدادوا﴾ بعدها تسع سنين
﴿قل﴾ يا محمد: ﴿الله أعلم بما لبثوا﴾ ممَّن يختلف في ذلك ﴿له غيب السماوات والأرض﴾ علم ما غاب فيهما عن العباد ﴿أَبْصِرْ به وأسمع﴾ ما أبصرَ الله تعالى بكلِّ موجودٍ وأسمعَه تعالى لكلِّ مسموعٍ ﴿ما لهم﴾ لأهل السماوات والأرض ﴿من﴾ دون الله ﴿من ولي﴾ ناصرٍ ﴿ولا يشرك﴾ الله ﴿فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ فليس لأحدٍ أن يحكم بحكمٍ لم يحكمْ به الله
﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ﴾ اتَّبع القرآن ﴿لا مبدِّل لكلماته﴾ لا مغيِّر للقرآن ﴿ولن تجد من دونه ملتحداً﴾ أَيْ: ملجأ
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي﴾ مفسر فِي سورة الأنعام إلى قوله: ﴿وَلا تَعْدُ عيناك عنهم﴾ أَيْ: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والرُّتبة ﴿تريد زينة الحياة الدنيا﴾ تريد مجالسة الأشراف ﴿ولا تطع﴾ في تنحية الفقراء عنك ﴿من إغفلنا قلبه عن ذكرنا﴾ جعلناه غافلاً ﴿وكان أمره فرطاً﴾ أَيْ: ضَياعاً هلاكاً لأنَّه ترك الإِيمان والاستدلال بآيات الله تعالى واتَّبع هواه
﴿وقل﴾ يا محمَّد لمن جاءك من النَّاس: ﴿الحق من ربكم﴾ يعني: ما آتيتكم به من الإِسلام والقرآن ﴿فمن شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر﴾ تخييرٌ معناه التَّهديد ﴿إنا أعتدنا﴾ هيَّأنا ﴿للظالمين﴾ الذين عبدوا غير الله تعالى ﴿ناراً أحاط بهم سرادقها﴾ وهو دخان يحيط بالكفَّار يوم القيامة ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ والعطش ﴿يُغاثوا بماءٍ كالمهل﴾ كمذاب الحديد والرَّصاص في الحرارة ﴿يشوي الوجوه﴾ حتى يسقط لحمها ثمَّ ذمَّه فقال: ﴿بئس الشراب﴾ هو ﴿وساءت﴾ النَّار ﴿مرتفقاً﴾ منزلاً ثمَّ ذكر ما وعد المؤمنين فقال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نضيع أجر مَنْ أحسن عملاً﴾ وقوله:
﴿يحلون فيها من أساور من ذهب﴾ يحلى كلك مؤمنٍ واحدٍ بسوارين من ذهبٍ وكانت الأساورة من زينة الملوك في الدُّنيا وقوله: ﴿وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ وهما نوعان من الحرير والسُّندس: ما رقَّ والاستبرق: ما غلط ﴿متكئين فيها على الأرائك﴾ وهي السُّرر في الحجال ﴿نعم الثواب﴾ طاب ثوابهم ﴿وحسنت﴾ الأرائك ﴿مرتفقاً﴾ موضع ارتفاق أَيْ: اتِّكاءً على المرفق فيه
﴿واضرب لهم مثلاً رجلين﴾ يعني: ابني ملكٍ كان فِي بني إسرائيل تُوفِّي وتركهما فاتخذ أحدهما القصور والأجنَّة والآخر كان زاهداً فِي الدُّنيا راغباً فِي الآخرة فكان إذاعمل أحوه شيئاً من زينة الدُّنيا أخذ الزَّاهد مثل ذلك فقدَّمه لآخرته واتَّخذ به عند الله الأجنة والقصور حتى نقد ماله فضربهما الله مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النِّعمة وهو قوله: ﴿جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بنخل﴾ وجعلنا النَّخل مُطبقاً بهما ﴿وجعلنا بينهما﴾ بين الجنتين ﴿زرعاً﴾
﴿كلتا الجنتين آتت أكلها﴾ أدَّت ريعها تامَّاً ﴿ولم تظلم منه شيئاً﴾ لم تنقص ﴿وفجرنا خلالهما﴾ أخرجنا وسط الجنتين ﴿نهراً﴾
﴿وكان له ثمر﴾ وكان للأخ الكافر أموال كثيرة ﴿فقال لصاحبه﴾ لأخيه ﴿وهو يحاوره﴾ يراجعه في الكلام ويُجاذبه وذلك أنَّه سأله عن ماله فيما أنفقه؟ فقال: قدَّمته بين يدي لأقدم عليه فقال: ﴿أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً﴾ رهطاً وعشيرةً
﴿ودخل جنته﴾ وذلك أنَّه أخذ بيد أخيه المسلم فأخله جنَّته يطوف به فيها وقوله: ﴿وهو ظالم لنفسه﴾ أَيْ: بالكفر بالله تعالى ﴿قال: ما أظنُّ أن تبيد﴾ تهلك ﴿هذه أبداً﴾ أنكر أنَّ الله سبحانه يفني الدُّنيا وأنَّ القيامة تقوم فقال: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى ربي﴾ يريد: إن كان البعث حقَّاً ﴿لأَجِدَنَّ خَيْرًا منها منقلباً﴾ كما أعطاني هذا فِي الدُّنيا سيعطيني فِي الآخرة أفضل منه فقال له أخوه المسلم:
﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً﴾
﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نطفة﴾ في رحم أُمِّك ﴿ثم سوَّاك رجلاً﴾ جعلك معتدل الخلق والقامة
﴿لكنا﴾ لكن أنا ﴿هو الله ربي﴾ الآية
﴿ولولا﴾ وهلاَّ ﴿إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ أي: الأمر ما شاء الله أَيْ: بمشيئة الله تعالى: ﴿لا قوة إلاَّ بالله﴾ لا يقوى أحدٌ على ما فِي يديه من ملكٍ ونعمةٍ إلا بالله وهذه توبيخٌ من المسلم للكافر على مقالته وتعليمٌ له ما يجب أن يقول ثم رجع إلى نفسه فقال: ﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا﴾
﴿فعسى ربي أن يؤتين﴾ في الآخرة أو في الدُّنيا ﴿خيراً من جنتك ويرسل عليها﴾ على جنَّتك ﴿حسباناً من السماء﴾ عذاباً يرميها به من بَرَدٍ أو صاعقةٍ ﴿فتصبح صعيداً زلقاً﴾ أرضاً لا نبات فيها
﴿أو يصبح ماؤها﴾ يعني: النهر خلالهما ﴿غوراً﴾ غائراً ذاهباً فِي الأرض ﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ﴾ لا تقوى ﴿له طلباً﴾ لا يبقى له أثرٌ تطلبه
﴿وأحيط بثمره﴾ وأهلكت أشجاره المثمرة ﴿فأصبح يقلب كفيه﴾ يضرب يديه واحدةً على الأخرى ندامةً ﴿على ما أنفق فيها وهي خاوية﴾ ساقطةٌ ﴿على عروشها﴾ سقوفها وما عرش للكروم ﴿وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ تنمى أنَّه كان مُوحِّداً غير مشركٍ حين لم ينفعه التَّمني
﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله﴾ لم ينصره النَّفر الذين افتخر بهم حين قال: ﴿وأعزُّ نفراً﴾ ﴿وما كان منتصراً﴾ بأن يستردَّ بدل ما ذهب منه ثمَّ عاد الكلام إلى ما قبل القصة فقال:
﴿هنالك﴾ عند ذلك يعني: يوم القيامة ﴿الولاية لله الحق﴾ يتولَّون الله ويؤمنون يه ويتبرَّؤون ممَّا كانوا يعبدون ﴿هو خير ثواباً﴾ أفضل ثواباً ممَّن يُرجى ثوابه ﴿وخير عقباً﴾ أَيْ: عاقبةُ طاعته خيرٌ من عاقبة طاعة غيره
﴿واضرب لهم﴾ لقومك ﴿مثل الحياة الدنيا كماء﴾ أَيْ: هو كَمَاءٍ ﴿أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض﴾ أَيْ: شرب منه فبدا فيه الرِّيّ ﴿فأصبح﴾ أي: النَّبات ﴿هشيماً﴾ كسيراً مُتفتِّتاً ﴿تذروه الرياح﴾ تحمله وتفرِّقه وهذه الآية مختصرةٌ من قوله تعالى ﴿إنما مثل الحياة الدنيا﴾ الآية ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الإنشاء والإِفناء ﴿مقتدراً﴾ قادراً أنشأ النَّبات ولم يكن ثمَّ أفناه
﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ هذا ردٌّ على الرؤساء الذي كانوا يفتخرون بالمال والأبناء أخبر الله سبحانه أنَّ ذلك ممَّا يُتزيَّن به فِي الحياة الدُّنيا ولا ينفع في الآخرة ﴿والباقيات الصالحات﴾ ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الصَّلوات والأذكار والأعمال الصالحة ﴿خير عند ربك ثواباً﴾ أفضل ثواباً وأفضل أملاً من المال والبنين
﴿ويوم﴾ واذكر يوم ﴿نسيّر الجبال﴾ عن وجه الأرض كما نُسيِّر السَّحاب ﴿وترى الأرض بارزة﴾ ظاهرةً ليس عليها شيءٌ ﴿وحشرناهم﴾ المؤمنين والكافرين ﴿فلم نغادر﴾ ونترك ﴿منهم أحداً﴾
﴿وعرضوا على ربك﴾ يعني: المحشورين ﴿صفاً﴾ مصفوفين كلُّ زمرةٍ وأمَّةٍ صفٌّ ويقال لهم: ﴿لقد جئتمونا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ حُفاةً عُراةً فرادى ﴿بل زعمتم﴾ خطاب لنكري البعث ﴿ألن نجعل لكم موعداً﴾ للبعث والجزاء
﴿وضع الكتاب﴾ وُضع كتاب كلِّ امرئ فِي يمينه أو شماله ﴿فترى المجرمين﴾ المشركين ﴿مشفقين ممَّا فيه﴾ خائفين ممَّا فيه من الأعمال السيئة ﴿وَيَقُولُونَ﴾ لوقوعهم في الهلكة: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ﴾ لا يترك ﴿صغيرة﴾ من أعمالنا ﴿ولا كبيرة إلاَّ أحصاها﴾ أثبتها وكتبها ﴿ووجدوا ما عملوا حاضراً﴾ في الكتاب مكتوباً ﴿ولا يظلم ربك أحداً﴾ لا يعاقب أحداً بغير جرمٍ ثمَّ أمر نبيَّه عليه السَّلام أن يذكر لهؤلاء المُتكبِّرين عن مجالسة الفقراء قصَّة إبليس وما أورثه الكبر فقال:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إبليس كان من الجن﴾ أَيْ: من قبيلٍ من الملائكة يُقال لهم: الجنُّ ﴿ففسق﴾ خرج ﴿عن أمر ربه﴾ إلى معصيته في ترك السُّجود ﴿أفتتخذونه وذريته﴾ أولاده وهو الشَّياطين ﴿أولياء من دوني﴾ تطيعونهم في معصيتي ﴿وهم لكم عدوٌّ﴾ كما كان لأبيكم عدواً ﴿بئس للظالمين بدلاً﴾ بئس ما استبدلوا بعبادة الرَّحمن طاعة الشَّيطان
﴿ما أشهدتهم﴾ ما أحضرتهم يعني: إبليس وذريَّته ﴿خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم﴾ أخبر عن كمال قدرته واستغنائه عن الأنصار والأعوان فيما خلق ﴿وما كنت متخذ المضلين عضداً﴾ أنصاراً وأعواناً لاستغنائي بقدرتي عن الأنصار
﴿ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم﴾ الآية يقول الله تعالى يوم القيامة: ادعوا الذين أشركتم بي ليمنعوكم من عذابي ﴿فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم﴾ بين المشركين وأهل لا إله إلا الله ﴿موبقاً﴾ حاجزاً
﴿ورأى المجرمون﴾ المشركون ﴿النار فظنوا﴾ أيقنوا ﴿أنهم مواقعوها﴾ واردوها وداخلوها ﴿ولم يجدوا عنها مصرفاً﴾ مهرباً لإحاطتها بهم من كلِّ جانبٍ وقوله:
﴿وكان الإِنسان﴾ الكافر ﴿أكثر شيء جدلاً﴾ قيل: هو أبي بن خل وقيل: النَّضر بن الحارث
﴿وما منع الناس﴾ أهل مكَّة ﴿أن يؤمنوا﴾ الإِيمان ﴿إذ جاءهم الهدى﴾ يعني: محمدا ﷺ والقرآن ﴿إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين﴾ العذاب يعني: إنَّ الله تعالى قدَّر عليهم العذاب فذلك الذي منعهم من الإِيمان ﴿أو يأتيهم العذاب قبلاً﴾ عياناً يعني: القتل يوم غدر وقوله:
﴿ويجادل الذين كفروا بالباطل﴾ يريد المُستهزئين والمقتسمين جادلوا في القرآن ﴿ليدحضوا﴾ ليبطلوا ﴿به﴾ بجدالهم ﴿الحق﴾ القرآن ﴿واتخذوا آياتي﴾ القرآن ﴿وما أنذروا﴾ به من النَّار ﴿هزواً﴾
﴿ومن أظلم ممن ذكّر﴾ وُعظ ﴿بآيات ربه فأعرض عنها﴾ فتهاون بها ﴿ونسي ما قدَّمت يداه﴾ ما سلف من ذنوبه وباقي الآية سبق تفسيره وقوله:
﴿بل لهم موعد﴾ يعني: البعث والحساب ﴿لن يجدوا من دونه مَوْئِلاً﴾ ملجأ
﴿وتلك القرى﴾ يريد: القرى التي أهلكها بالعذاب ﴿أهلكناهم﴾ أهلكنا أهلها ﴿لما ظلموا﴾ أشركوا وكذَّبوا الرُّسل ﴿وجعلنا لمهلكهم﴾ لإِهلاكهم ﴿موعداً﴾
﴿وإذ قال موسى﴾ واذكر إذ قال موسى لما في قصَّته من العبرة ﴿لفتاه﴾ يوشع بن نون: ﴿لا أبرح﴾ لا أزال أسير ﴿حتى أبلغ مجمع البحرين﴾ حيث يلتقي بحر الروم وبحر فارس ﴿أو أمضي﴾ إلى أن أمضي ﴿حقباً﴾ دهراً طويلاَ وذلك أنَّ رجلاً أتى إلى موسى عليه السَّلام فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال: لا فأوحى الله تعالى إليه: بلى عبدنا خضر فسأل موسى عليه السَّلام السبيل إلى لُقيِّه فجعل الله تعالى له الحوت آيةً وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنَّك ستلقاه فانطلق هو وفتاه حتى أتيا الصَّخرة التي عند مجمع البحرين فقال لفتاه: امكث حتى آتيك وانطلق موسى لحاجته فجرى الحوت حتى وقع فِي البحر فقال فتاه: إذا جاء نبيُّ الله حدَّثته فأنساه الشَّيطان فذلك قوله:
﴿فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوْتَهُما﴾ أراد: نسي أحدهما: وهو يوشع ابن نون ﴿فاتخذ سبيله﴾ اتَّخذ الحوت سبيله ﴿في البحر سرباً﴾ ذهاباً والمعنى: سرب سريا والآية على التّقديم والتَّأخير لأنَّ ذهاب الحوت كان قد تقدَّم على النِّسيان
﴿فلما جاوزا﴾ ذلك المكان الذي ذهب الحوت عنه ﴿قال لفتاه آتنا غداءنا﴾ ما نأكله بالغداة ﴿لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً﴾ عناءً وتعباً ولم يجد النَّصب في جميع سفره حتى جاوز الموضع الذي يريده فقال الفتى:
﴿أرأيت إذْ أوينا إلى الصخرة﴾ يعني: حيث نزلا ﴿فإني نسيت الحوت﴾ نسيت قصَّة الحوت أن أُحدِّثكها ثمَّ اعتذر بإنساء الشَّيطان إيَّاه لأنَّه لو ذكر ذلك لموسى عليه السَّلام ما جاوز ذلك الموضع وما ناله النَّصب ثمَّ ذكر قصَّته فقال: ﴿واتخذ سبيله في البحر عجباً﴾ أَي: أعجب عجباً أخبر عن تعجُّبه من ذلك فقال موسى عليه السَّلام:
﴿ذلك ما كنا نبغ﴾ نطلب ونريد من العلامة ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا﴾ رجعا من حيث جاءا ﴿قصصاً﴾ يقصَّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصَّخرة التي فعل الحوت عندها ما فعل
﴿فوجدا عبداً من عبادنا﴾ يعني: الخضر عليه السَّلام ﴿آتيناه رحمة من عندنا﴾ نبوَّة ﴿وعلمناه من لدنا علماً﴾ أعطيناه علماً من علم الغيب وقوله:
﴿رشداً﴾ أَيْ: علماً ذا رشدٍ والتَّقدير: على أن تعلِّمني علماً ذا رشدٍ مما علمته
﴿إنك لن تستطيع معي صبراً﴾ لن تصبر على صنيعي لأنِّي عُلِّمت غيب ربِّي ثمَّ أعلمه العلَّة فِي ترك الصَّبر فقال:
﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خبراً﴾ أَيْ: على ما لم تعلمه من أمرٍ ظاهره منكرٌ
﴿قال﴾ له موسى: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صابراً﴾ لا أسألك عن شيءٍ حتى تكون أنت تحدِّثني به ﴿ولا أعصي لك أمراً﴾ ولا أخالفك في شيء
﴿قال﴾ له الخضر عليه السَّلام: ﴿فإن اتبعتني﴾ صحبتني ﴿فلا تسألني عن شيء﴾ ممَّا أفعله ﴿حتى أحدث لك منه ذكراً﴾ حتى أكون أنا الذي أُفسِّره لك
﴿فانطلقا﴾ ذهبا يمشيان ﴿حتى إذا ركبا﴾ البحر ﴿في السفينة خرقها﴾ شقَّها الخضر وقلع لوحين ممَّا يلي الماء فـ ﴿قال﴾ موسى منكراً عليه: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شيئاً إمراً﴾ أَيْ: عظيماً منكراً
فـ ﴿قال﴾ الخضر: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صبراً﴾ فقال موسى:
﴿لا تؤاخذني بما نسيت﴾ أَيْ: تركت من وصيتك ﴿ولا ترهقني من أمري عسرا﴾ لا تضيق عليَّ الأمر في صحبتي إيَّاك
﴿فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله﴾ أَيْ: ضربه فقضى عليه وقوله: ﴿نفساً زكية﴾ أَيْ: طاهرةً لم تبلغ حدَّ التَّكليف ﴿بغير نفس﴾ بغير قود وقوله:
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صبرا﴾
﴿إن سألتك﴾ سؤال توبيخٍ وإنكارٍ ﴿عن شيء بعدها﴾ بعد النَّفس المقتولة ﴿فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بلغت من لدني عذراً﴾ أعذرت فيما بيني وبينك حيث أخبرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً
﴿فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية﴾ وهي أنطاكية ﴿استطعما أهلها﴾ سألاهم الطَّعام ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ فلم يطعموهما ﴿فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض﴾ قَرُبَ أَن يسقط لميلانه ﴿فأقامه﴾ فسوَّاه فقال موسى: ﴿لو شئت لاتخذت﴾ على إقامته ﴿أجراً﴾ جُعلاً حيث أبوا أن يطعمونا
﴿قال﴾ الخضر: ﴿هذا﴾ وقت ﴿فراق بيني وبينك﴾ إنِّي لا أصحبك بهد هذا وأخبرك بتفسير ما لم تصبر عليه وأنكرته عليَّ
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فأردت أن أعيبها﴾ أجعلها ذات عيب ﴿وكان وراءهم﴾ أمامهم ﴿ملك يأخذ كلَّ سفينة﴾ صالحة ﴿غضبا﴾
﴿وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا﴾ فكرهنا ﴿أن يرهقهما﴾ يُكلِّفهما ﴿طغياناً وكفراً﴾ ويحملهما حبُّه على أن يتَّبعاه ويدينا بدينه وكان الغلام كافراً
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً﴾ صلاحاً ﴿وأقرب رحماً﴾ وأبرَّ بوالديه وأوصل للرَّحم
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ﴾ يعني: في تلك القرية ﴿وكان تحته كنز لهما﴾ من ذهبٍ وفضَّةٍ ولو سقط الجدار أُخذ الكنز ﴿فأراد ربك أن يبلغا أشدهما﴾ أراد الله سبحانه أن يبقى ذلك الكنز إلى بلوغ الغلامين حتى يستخرجاه ﴿وما فعلته عن أمري﴾ أي: انكشف لي من الله سبحانه علمٌ فعملت به ولم أعلم من عند نفسي
﴿ويسألونك﴾ يعني: اليهود وذلك أنَّهم سألوه عن رجلٍ طوَّافٍ بلغ شرق الأرض وغربها
﴿إنا مكنا له في الأرض﴾ سهلنا على السَّير فيها وذلَّلنا له طرقها ﴿وآتيناه من كلِّ شيء﴾ يحتاج إليه ﴿سبباً﴾ علماً يتسبَّب به إلى ما يريد
﴿فأتبع سبباً﴾ طريقاً يوصله إلى مغيب الشَّمس
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عين حمئة﴾ ذات حمأةٍ وهو الطِّين الأسود ﴿ووجد عندها﴾ عند العين ﴿قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تعذب﴾ إمَّا أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه ﴿وإمَّا أن تتخذ فيهم حسناً﴾ تأسرهم فتعلِّمهم الهدى خيَّره الله تعالى بين القتل والأسر فقال:
﴿أما من ظلم﴾ أشرك ﴿فسوف نعذبه﴾ نقتله إذا لم يرجع عن الشِّرك ﴿ثُمَّ يرد إلى ربه﴾ بعد القتل ﴿فيعذبه عذاباً نكراً﴾ يعني: فِي النَّار
﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الحسنى﴾ الجنَّة ﴿وسنقول له من أمرنا يسراً﴾ نقول له قولاً جميلاً
﴿ثم أتبع سبباً﴾ سلك طريقاً آخر يوصله إلى المشرق
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قوم﴾ عُراةٍ ﴿لم نجعل لهم من﴾ دون الشمس ﴿ستراً﴾ سقفاً ولا لباساً
﴿كذلك﴾ القبيل الذين كانوا عند مغرب الشَّمس في الكفر ﴿وقد أحطنا بما لديه﴾ من الجنود والعدَّة ﴿خبراً﴾ علماً لأنَّا أعطيناه ذلك
﴿ثم أتبع سبباً﴾ ثالثاً يُبلِّغه قطراً من أقطار الأرض
﴿حتى إذا بلغ بين السدين﴾ وهما جبلان سدَّ بينهما ذو القرنين ﴿وجد من دونهما﴾ عندهما ﴿قوماً لا يكادون يفقهون قولاً﴾ لا يفهمون كلاماً فاشتكوا إليه فساد يأجوج ومأجوج وأذارهم إياهم وهو قوله:
﴿إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض﴾ بالنَّهب والبغي ﴿فهل نجعل لك خرجاً﴾ جعلاً ﴿عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾
﴿قال: ما مكني فيه ربي خير﴾ أي: كالذي أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم ﴿فأعينوني بقوة﴾ بعملٍ تعملون معي ﴿أجعل بينكم وبينهم ردماً﴾ سدَّاً حاجزاً
﴿آتوني﴾ أعطوني ﴿زبر﴾ قطع ﴿الحديد﴾ فأتوه بها فبناه ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصدفين﴾ جانبي الجبلين ﴿قال انفخوا﴾ على زُبر الحديد قطع الحديد بالكير والنَّار ﴿حتى إذا جعله ناراً﴾ جعل الحديد ناراً أَيْ: كنارٍ ﴿قال آتوني﴾ قطراً: وهو النُّحاس الذَّائب ﴿أفرغ عليه﴾ أصبُّ عليه فأفرغ النُّحاس المذاب على الحديد المحمى حتى التصق بعضه ببعض
﴿فما اسطاعوا أن يظهروه﴾ ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وملاسته ﴿وما استطاعوا﴾ أن ينقبوه من أسفله لصلابته
﴿قال﴾ ذو القرنين لمَّا فرغ منه: ﴿هذا رحمة من ربي﴾ يعني: التَّمكين من ذلك البناء والتَّقوية عليه ﴿فإذا جاء وعد ربي﴾ أجل ربي بخروج يأجوج مأجوج ﴿جعله دكاً﴾ كِسَراً ﴿وكان وعد ربي﴾ بخروجهم ﴿حقاً﴾ كائناً
﴿وتركنا بعضهم﴾ يعني: الخلق من الإِنس والجنِّ ﴿يومئذ﴾ يوم القيامة ﴿يموج في بعض﴾ يدخل ويختلط ﴿ونفخ في الصور﴾ وهو القرن الذي يُنفخ فيه للبعث ﴿فجمعناهم﴾ في صعيدٍ واحدٍ
﴿وعرضنا﴾ أظهرنا ﴿جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾
﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غطاء﴾ في غشاوةٍ ﴿عن ذكري﴾ أَيْ: كانوا لا يعتبرون بآياتي فيذكرونني بالتَّوحيد ﴿وكانوا لا يستطيعون سمعاً﴾ لعدواتهم النبي ﷺ لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلوا عليهم
﴿أفحسب﴾ أفظنّ ﴿الذين كفروا أن يتخذوا عبادي﴾ الشَّياطين ﴿من دوني أولياء﴾ نفعهم ذلك ودفعوا عنهم كلا ﴿إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً﴾ منزلاً
﴿قل هل ننبئكم﴾ نخبركم ﴿بالأخسرين أعمالاً﴾ بالذين هم أشدُّ الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا
﴿الذين ضل سعيهم﴾ حبط عملهم ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنعاً﴾ يظنُّون أنَّهم بعملهم مُطيعون ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال:
﴿أولئك الذين كفروا بآيات ربهم﴾ بدلائل توحيده من القرآن وغيره ﴿ولقائه﴾ يعني: البعث ﴿فحبطت أعمالهم﴾ بطل اجتهادهم ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وزناً﴾ أَيْ: نهينهم النَّار ولا نعبأ بهم شيئا وقوله:
﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي ورسلي هزوا﴾
﴿جنات الفردوس﴾ وهو وسط الجنَّة وأعلاها درجةً وقوله:
﴿لا يبغون عنها حولاً﴾ لا يريدون أن يتحوَّلوا عنها
﴿قل لو كان البحر مداداً﴾ وهو ما يكتب به ﴿لكلمات ربي﴾ أَيْ: لكتابتها وهي حِكَمُه وعجائبه والكلمات: هي العبارات عنها ﴿لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله﴾ بمثل البحر ﴿مداد﴾ زيادة على البحر
﴿قل إنما أنا بشر مثلكم﴾ آدميٌّ مِثْلُكُمْ ﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فمن كان يرجو لقاء ربه﴾ ثواب ربه ﴿فليعمل عملاً صالحاً﴾ خالصاً ﴿ولا يشرك﴾ ولا يراءِ ﴿بعبادة ربه أحداً﴾ نزلت هذه الآية في النَّهي عن الرِّياء بالأعمال
Icon