تفسير سورة الشعراء

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة، وقوله تعالى :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين ﴾ أي هذه آيات القرآن المبين، أي البيِّن الواضح الجلي، الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد، وقوله تعالى :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ﴾ أي مهلك ﴿ نَّفْسَكَ ﴾ أي مما تحرص وتحزن عليهم ﴿ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾، وهذه تسلية من الله لرسوله ﷺ في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ]، كقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ ﴾ [ الكهف : ٦ ] الآية. قال مجاهد وعكرمة ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾ : أي قاتل نفسك، ثم قال تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾ أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً، ولكن لا نفعل ذلك لأنا من أحد إلاّ الإيمان الاختياري، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ [ يونس : ٩٩ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ هود : ١١٨ ] الآية، فنفذ قدره ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، ثم قال تعالى :﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴾ أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ]، وقال تعالى :﴿ ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [ يس : ٣٠ ]، وقال تعالى :﴿ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ [ المؤمنون : ٤٤ ] الآية ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين، ثم نبَّه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره، وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبتت فيها من كل زوج كريم، من زروع وثمار وحيوان، قال الشعبي : الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾ أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء، الذي بسط الأرض، ورفع بناء السماء ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله، وقوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز ﴾ أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه، ﴿ الرحيم ﴾ أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، قال أبو العالية : العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره الرحيم بمن تاب إليه وأناب.
يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله كليمه ( موسى بن عمران ) عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه ناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه، ولهذا قال تعالى :﴿ أَنِ ائت القوم الظالمين * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه، كما قال في سورة طه ﴿ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي... ﴾ [ الآية : ٢٥-٢٦ ] إلى قوله ﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى ﴾ [ الآية : ٣٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ أي بسبب قتل القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر، ﴿ قَالَ كَلاَّ ﴾ أي قال الله له : لا تخف من شيء من ذلك، كقوله :﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً ﴾ [ القصص : ٣٥ ]، ﴿ فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ ﴾، كقوله :﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾ أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي، ﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾، كقوله في الآية الأخرى :﴿ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ [ مريم : ١٩ ] أي كل منا أرسل إليك، ﴿ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون، فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية، ونظر إليه بعين الأزدراء والغَمْص فقال :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾ الآية، أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلاً وجحدت نعمتنا عليك، ولهذا قال :﴿ وَأَنتَ مِنَ الكافرين ﴾ أي الجاحدين ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً ﴾ أي في تلك الحال ﴿ وَأَنَاْ مِنَ الضالين ﴾ أي قبل أن يوحي إليّ وينعم الله عليّ بالرسالة والنبوة، قال ابن عباس ﴿ وَأَنَاْ مِنَ الضالين ﴾ أي الجاهلين، ﴿ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ﴾ الآية، أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر، فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت، وإن خالفته عطبت، ثم قال موسى :﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيداً وخدماً، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أَفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ أي ليس ما ذكرته شيئاً بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله :﴿ وَمَا رَبُّ العالمين ﴾، وذلك أنه كان يقول لقومه :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ] ﴿ فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ [ الزخرف : ٥٤ ] وكانوا يجحدون الصانع جلَّ وعلا، ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون، فلما قال له موسى : إني رسول رب العالمين، قال له فرعون : ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ هذكا فسره علماء السلف وأئمة الخلف، حتى قال السدي : هذه الآية كقوله تعالى :﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى ﴾ [ طه : ٤٩ ] فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين :﴿ قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ ﴾ أي خالق جميع ذلك ومالكه، والمتصرف فيه، وإلهه لا شريك له، هو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبال وأشجار، ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطير، وما يحتوي عليه الجو، الجميع عبيد له خاضعون ذليلو، ﴿ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ﴾ أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه، ورؤساء دولته قائلاً على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله :﴿ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ﴾ ؟ أي ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلهاً غيري؟ فقال لهم موسى :﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين ﴾ أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، ﴿ قَالَ ﴾ أي فرعون لقومه ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ أي ليس له عقل في دعواه أنَّ ثمّ رباً غيري، ﴿ قَالَ ﴾ أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة، فأجاب موسى بقوله :﴿ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الكواكب، والمغرب مغرباً تغرب فيه، الكواكب، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقاً فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغرباً والمغرب مشرقاً، كما قال تعالى :﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] الآية، ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام، فقال ما أخبر الله تعالى عنه :
لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه، فظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال فقال :﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾، فعند ذلك قال موسى :﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ ﴾ ؟ أي ببرهان قاطع واضح، ﴿ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾ أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج، ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾ أي من جيبه ﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ أي تتلألأ كقطعة من القمر، فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد فقال للمأ حوله :﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ أي بارع في السحر، فروّج عليهم أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به، فقال :﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ﴾ الآية، أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم، فأشيروا عليَّ فيه ماذا أصنع به؟ ﴿ قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم ﴾ أي أخره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك، وأقاليم دولتك كل سحار عليهم يقابلونه، ويأتون بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد فأجابهم إلى ذلك، وكان هذا من تسخير الله تعالى، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.
لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم، وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً غفيراً، قيل : كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل : خمسة عشر ألفاً، وقيل : غير ذلك، والله أعلم بعدتهم. واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم، وقال قائلهم :﴿ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين ﴾، ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم ﴿ فَلَمَّا جَآءَ السحرة ﴾ أي إلى مجلس فرعون، وقد جمع خدمه وحشمه، ووزراءه ورؤساء دولته، وجنود مملكته، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم إن غلوا فقالوا :﴿ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين ﴾ أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي، فعادوا إلى مقام المناظرة ﴿ قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى ﴾ [ طه : ٦٥ ] وقد اختصر هذا هاهنا فقال لهم موسى :﴿ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون ﴾ وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئاً هذا بثواب فلان، ﴿ فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئاً. قال الله تعالى :﴿ فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١١٨ ] فكان هذا أمراً عظيماً، وبرهاناً قاطعاً للعذر، وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا غُلبوا، وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة، فغلب فرعون غلباً لم يشاهد العالم مثله، وكان وقحاً جريئاً عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل، فشرع يتهددهم ويتوعدهم، ويقول :﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر ﴾ [ طه : ٧١ ]، وقال :﴿ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة ﴾ [ الأعراف : ١٢٣ ] الآية.
تهددهم فلم ينفع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلاّ إيماناً وتسليماً، وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلاّ أن يكون الله قد أيده به وجعله له حجة، ودلالة على صدق ما جاء به من ربه، ولهذا لما قال لهم فرعون ﴿ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ ؟ أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ولا تفتانوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر ﴾. وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا ﴿ لاَ ضَيْرَ ﴾ أي لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به، ﴿ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾ أي المرجع إلى الله عزَّ وجلَّ، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يخفى عليه من فعلت بنا وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء، ولهذا قالوا :﴿ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ ﴾ أي من فارقنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر، ﴿ أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين ﴾ أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان، فقتلهم كلهم.
لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم من ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلاّ العذاب والنكال، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤمر، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عزَّ وجلَّ. خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حلياً كثيراً، وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر، وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوا معهم، فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب، غاظ ذلك لفرعون، واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين، أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب ونادى فيهم :﴿ إِنَّ هؤلاء ﴾ يعني بني إسرائيل ﴿ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ أي لطائفة قليلة، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ ﴾ أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا، ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد خضراءهم، فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم، قال الله تعالى :﴿ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا، ﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] الآية.
ذكر غير واحد من المفسرين : أن فرعون خرج في محفل عظيم وجمع كبير، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، ﴿ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ﴾ أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس وهو طلوعها، ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان ﴾ أي رأى كل من الفريقين صاحبه فعند ذلك ﴿ قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾، وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر، وهو بحر القلزم فصار أمامهم البحر، وقد أدركهم فرعون بجنوده، فلهذا قالوا :﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو سبحانه وتعالى لا يخالف الميعاد، وكان هارون عليه السلام في المقدمة، ومعه ( يوشع بن نون ) ومؤمن آل فرعون، وموسى عليه السلام في الساقة، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر فضربه، وقال : انفلق بإذن الله. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن سلام : أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء، والمكون لكل شيء، والكائن بعد كل شيء، اجعل لنا مخرجاً، فأوحى الله إليه :﴿ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر ﴾. وقال محمد بن إسحاق : أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، قال : فبات البحر يضطرب ويضرب بعضه بعضاً فرقاً من الله تعالى وانتظاراً لما أمره الله، وأوحى الله إلى موسى ﴿ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر ﴾ فضربه بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق، قال الله تعالى :﴿ فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم ﴾ أي كالجبل الكبير، قاله ابن عباس، وقال عطاء الخراساني : هو الفج بين الجبلين. وقال ابن عباس : صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق؛ وزاد السدي : وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، قال الله تعالى :﴿ فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى ﴾ [ طه : ٧٧ ]، وقال في هذه القصة ﴿ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين ﴾ أي هنالك. قال ابن عباس ﴿ وَأَزْلَفْنَا ﴾ أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وأدنيناهم إليه، ﴿ وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين ﴾ أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلاّ هلك. عن عبد الله ابن مسعود قال : فلما خرج آخر أصحاب موسى وتكامل أصحاب فرعون انطم عليهم البحر، فما رئي سواد أكير من يومئذٍ، وغرق فرعون لعنه الله، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾ أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾ تقدم تفسيره.
هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، أمر الله تعالى رسوله محمداً ﷺ أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل، وعبادة الله وحده لا شريك ولا والتبري من الشرك وأهله، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من صغره، فإنه من وقت نشأ وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله عزَّ وجلَّ، ﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ ؟ أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ﴿ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾ أي مقيمين على عبادتها ودعائها، ﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ يعني اعترفوا بأن أصنامكم لا تفعل شيئاً من ذلك وإنما رأوا آباءهم كذذلك يفعلون، فهم على آثارهم يهرعون، فعند ذلك قال لهم إبراهيم :﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين ﴾ أي إن كانت هذه الأصنام شيئاً ولها تأثير، فلتخلص إليّ بالمساءة، فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها، وهذه كما قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام ﴿ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ﴾ [ يونس : ٧١ ] الآية. وقال هود عليه السلام ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ [ هود : ٥٥ ]، وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم، قال تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾ [ الزخرف : ٢٦-٢٧ ].
يعني لا أعبد إلاّ الذي يفعل هذه الأشياء ﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ : أي هو الخالق الذي قدر قدراً، وهدى الخلائق إليه فكل يجري على ما قدر له، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ﴿ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾ أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية، ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ أسند المرض إلى نفسه وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه، ولكن أضافه إلى نفسه أدباً، كما قال الجن :﴿ وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ﴾ [ الآية : ١٠ ]، وكذا قال إبراهيم :﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه، ﴿ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴾ أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد ﴿ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين ﴾ أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلاّ هو، ومن يغفر الذنوب إلاّ الله؟ وهو الفعال لما يشاء.
وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكماً، قال ابن عباس : وهو العلم، وقال عكرمة : هو اللب، وقال مجاهد : هو القرآن، وقال السدي : هو النبوة، وقوله :﴿ وَأَلْحِقْنِي بالصالحين ﴾ أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة كما قال النبي ﷺ عند الاحتضار :« اللهم في الرفيق الأعلى »، قالها ثلاثاً. وفي الحديث :« اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين »، وقوله :﴿ واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين ﴾ أي واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير، كما قال تعالى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ [ الصافات : ١٠٨-١١٠ ]. قال مجاهد وقتادة : يعني الثناء الحسن، قال ليث ابن أبي سليم : كل ملة تحبه وتتولاه، وقوله تعالى :﴿ واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم ﴾ أي أنعم علي في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم، وقوله :﴿ واغفر لأبي ﴾ الآية، كقوله :﴿ رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ ﴾ [ إبراهيم : ٤١ ] وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ] إلى قوله ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي أجرني من الخزي يوم القيامة، ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه عليه الغبرة والقترة ».
وفي رواية أخرى :« يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين؛ ثم يقول : يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النا » وقوله :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ﴾ أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً ﴿ وَلاَ بَنُونَ ﴾ أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعاً ولا ينفع يومئذٍ إلاّ الإيمان بالله، وإخلاص الدين له، ولهذا قال :﴿ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ أي سالم من الدنس والشرك، قال ابن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله أحق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وقال ابن عباس : القلب السليم أن يشهد أن لا إله إلاّ لله، وقال مجاهد والحسن :﴿ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ يعني من الشرك، وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى :﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ [ البقرة : ١٠ ] قال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنّة.
﴿ وَأُزْلِفَتِ الجنة ﴾ أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها، وهم المتقون الذين رغبوا فيها وعملوا لها في الدنيا، ﴿ وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ ﴾ أي أظهرت وكشف عنها، وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر، وقيل لأهلها تقريعاً وتوبيخاً :﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴾ ؟ أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئاً، ولا تدفع عن أنفسها، فإنكم إياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون، وقوله :﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون ﴾ قال مجاهد : يعني فدهوروا فيها، والمراد أنه لها واردون، وقوله :﴿ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ قال مجاهد : يعني فدهوروا فيها، والمراد أنه ألقي بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك، ﴿ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين ﴾ أي ألقوا فيها عن آخرهم، ﴿ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين ﴾ أي يقول الضعفاء للذين استكبروا وقد عادوا على أنفسهم بالملامة :﴿ تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين ﴾ أي نجعل أمركم مطاعاً كما يطاع أمر رب العالمين وعبدناكم مع رب العالمين، ﴿ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون ﴾ أي ما دعانا إلى ذلك إلاّ المجرمون، ﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴾ قال بعضهم يعني من الملائكة، كما يقولون ﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] ؟ وكذا قالوا :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ أي قريب، قال قتادة : يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع، وأن الحميم إذا كان صالحاً شفع ﴿ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾، وذلك أنهم يتمنون أنهم يردون إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله تعالى يعلم أنهم لو رادوا إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد ﴿ لآيَةً ﴾ أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلاّ الله، ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾.
هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ عن عبده ورسوله نوح عليه السلام، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، فبعثه الله ناهياً عن ذلك محذراً من وبيل عقابه، فكذبه قومه فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى، ونّزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل، فلهذا قال تعالى :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ أي إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ الآية، أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم بل أدخر ثواب ذلك عند ذلك، ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ ﴾ فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه.
يقولون : لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين، الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا، ولهذا ﴿ قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه. لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص، إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي، وأَكِلَ سرائرهم إلى الله عزَّ وجلَّ، ﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين ﴾ كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه فأبى عليهم ذلك، وقال ﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي إنما بعثت نذيراً، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه سواء كان شريفاً أو وضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً.
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد، وقالوا في الآخر :﴿ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين ﴾ أي لئن لم تنته عن دعوتك إيانا إلى دينك ﴿ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين ﴾ أي لنرجمنك، فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه فيقال :﴿ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ﴾ الآية، كما قال في الآية الأخرى ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر ﴾ [ القمر : ١٠ ] إلى آخر الآية، وقال هاهنا ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين ﴾ والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين، أي أنجينا نوحاً ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾.
وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله ( هود ) عليه السلام أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت متاخمة بلاد اليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف :﴿ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً ﴾ [ الآية : ٦٩ ]، وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد، والأموال والجنات والأنهار، والأبناء والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله هوداً إليهم رجلاً منهم رسولاً وبشيراً ونذيراً فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه، فقال لهم ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ ؟ الريع : المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بنياناً محكماً هائلاً باهراً، ولهذا قلا :﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾ أي معلماً بناء مشهوراً، ﴿ تَعْبَثُونَ ﴾ أي وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه، بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام، لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال :﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ قال مجاهد : والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد، وفي رواية عنه : بروج الحمام. وقال قتادة : هي مأخذ الماء، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ أي لكي تقيموا فيها أبداً، وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم، كما زال عمن كان قبلكم، روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا تستحيون، ألا تستحيون، تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غروراً، وأصبح جمعهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً، ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً، وركاباً فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟ وقوله :﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت، ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ ﴾ أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم، ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال :﴿ واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ أي إن كذبتم وخالفتم، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم.
يقول تعالى مخبراً عن جواب قوم هود له، بعدما حذرهم وأنذرهم وبيَّن لهم الحق ووضحه ﴿ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين ﴾ أي لا نرجع عما نحن عليه، ﴿ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ هود : ٥٣ ] وهكذا الأمر، فإن الله تعالى قال :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ٩٦ ] الآية، وقولهم ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين ﴾، كما قال المشركون، ﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ]، وقال : وقيل للذين كفروا ﴿ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين ﴾ [ النحل : ٢٠ ] ﴿ خُلُقُ الأولين ﴾ بضم الخاء واللام. يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الآباء والأجداد. ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا معاد. ولهذا قالوا ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾، قال ابن عباس :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين ﴾ يقول : دين الأولين، وقوله تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ أي استمروا على تكذيب نبي الله هود مخالفته وعناده فأهلكهم الله، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن، بأنه أرسل عليهم ريحاً صرصراً عاتية، أي ريحاً شديدة الهبوب ذات برد شديد جداً، فكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد ﴾ [ الفجر : ٦-٧ ]، وقال تعالى :﴿ فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا ﴾ [ فصلت : ١٥ ] فسلكت الريح فحصبت بلادهم، فحصبت كل شيء لهم كما قال تعالى :﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [ الأحقاف : ٢٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ ] إلى قوله :﴿ فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ] أي بقوا أبداناً بلا رؤوس، وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه، وتكسر رأسه، وتلقيه، كأنهم أعجاز نخل منقعر، وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئاً، ﴿ إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ ﴾ [ نوح : ٤ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ الآية.
وهذا إخبار من الله عزّ وجلَّ عن عبده ورسوله ( صالح ) عليه السلام أنه بعثه إلى قومه ثمود، وكانوا عرباً يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة مشهورة، وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام، فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه، وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجراً منهم، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عزَّ وجلَّ، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال :﴿ تُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ.... ﴾
يقول لهم واعظاً لهم ومحذرهم نقم الله أن تحل لهم، ومذكراً بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة، وأنبت لهم من الجنات، وفجر لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزروع والثمرات، ولهذا قال :﴿ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴾ قال ابن عباس : أينع وبلغ فهو هضيم، وعنه يقول : معشبة، وقال مجاهد : هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر، وقال ابن جريج عن مجاهد ﴿ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴾ قال : حين يطلع تقبض عليه فتهضمه، فهو من الرطب الهضيم، ومن اليابس الهشيم، تقبض عليه فتهشمه، وقال عكرمة وقتادة : الهضيم الرطب اللين. وقال الضحاك : إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضاً فهو هضيم، وقال الحسن البصري : هو الذي لا نوى له، وقال أبو صخر : ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض فهو الهضيم. وقوله :﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِين ﴾ قال ابن عباس وغير واحد : يعني حاذقين، وفي رواية عنه : شرهين أشرين، وهو اختيار مجاهد وجماعة، ولا منافاة بينهما، فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشراً وبطراً وعبثاً من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم، ولهذا قال :﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ ﴾ أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم، لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلاً ﴿ وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين * الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ ﴾ يعني رؤساءهم وكبراءهم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.
يقول تعالى مخبراً عن ثمود في جوابهم لنبيهم ( صالح ) عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة ربهم عزَّ وجلَّ أنهم ﴿ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين ﴾ قال مجاهد وقتادة : يعنون من المسحورين، يقولون : إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك، ثم قالوا ﴿ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ يعني فكيف أوحي إليك دوننا، كما قالوا في الآية الأخرى ﴿ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ [ القمر : ٢٥ ] ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقة بما جاءهم به من ربهم، وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء، وأشاروا إلى صخرة عندهم من صفتها كذا وكذا، فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم عندهم، من صفتها كذا وكذا، فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى ثم دعا الله عزَّ وجلَّ أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم وكفر أكثرهم ﴿ قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ يعني ترد ماءكم يوماً ويوماً تردونه أنتم، ﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً ورياً؛ فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالأوا على قتلها وعقرها ﴿ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ العذاب ﴾ وهو أن أرضهم زلزلت زلزالاً شديداً، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون، وأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله لوط عليه السلام، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام، وكانوا يسكنون ( سدوم ) وأعمالها التي أهلكهم الله بها، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة، وهي مشهورة ببلاد الغور متاخمة لجبال البيت المقدس، فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث، ولهذا قال تعالى :﴿ أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ.... ﴾.
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش وغشيانهم الذكور، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم ما كان جوابهم له إلاّ أن قالوا ﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط ﴾ أي عما جئتنا به ﴿ لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين ﴾ أي ننفيك من بين أظهرنا، كما قال تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [ النمل : ٥٦ ]، لما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم تبرأ منهم، وقال :﴿ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين ﴾ أي المبغضين لا أحبه ولا أرضى به وإني بريء منكم، ثم دعا الله عليهم، فقال :﴿ رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ قال الله تعالى :﴿ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴾ أي كلهم ﴿ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين ﴾ وهي امرأته، وكانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها، حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته، وأنهم لا يلتفتون إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه، فصبروا لأمر الله واستمروا، وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً ﴾ إلى قوله ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾.
هؤلاء - يعني أصحاب الأيكة - هم « أهل مدين » على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هاهنا أخوهم شعيب، لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة، وقيل : شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها، فلهذا لما قال : كذب أصحاب الأيكة المرسلين لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب وإنما قال :﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ﴾ فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه وإن كان أخاهم نسباً، ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء، ولهذا وعظ هؤلاء، وأمرهم بوفاء المكيال والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.
يأمرهم عليه السلام بإيفاء المكيال والميزان وينهاهم عن التطفيف فيهما فقال :﴿ أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين ﴾ أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم، ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصاً وتأخذوه إذا كان لكم تاماً وافياً، ولكن خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون ﴿ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ﴾ والقسطاس هو الميزان، قال مجاهد : هو العدل بالرومية، وقال قتادة : القسطاط العدل، وقوله :﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ ﴾ أي لا تنقصوهم أموالهم ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ يعني قطع الطريق كما قال في الآية الأخرى ﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ﴾ [ الأعراف : ٨٦ ]، وقوله :﴿ واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين ﴾ يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل، كما قال موسى عليه السلام ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين ﴾ [ الشعراء : ٢٦ ] قال ابن عباس ومجاهد :﴿ والجبلة الأولين ﴾ يقول : خلق الأولين، وقرأ ابن زيد ﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾ [ يس : ٦٢ ].
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها تشابهت قلوبهم حيث قالوا :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين ﴾ يعنون من المسحورين كما تقدم، ﴿ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين ﴾ أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا، ﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء ﴾ قال قتادة : قطعاً من السماء، وقال السدي : عذاباً من السماء، وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى :﴿ أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ]. وقوله :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] الآية. وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة ﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء ﴾ الآية، ﴿ قَالَ ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ يقول : الله أعلم بكم، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وهكذا وقع بهم كما سألوا جزاء وفاقاً ولهذا قال تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم، فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء، ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر، فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها، فأصاب تحتها برداً وراحة، فأعلم بذلك قومه، فأتوها جميعاً، فاستظلوا تحتها، فأججت عليهم ناراً، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : بعث الله إليهم الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، وقال محمد بن جرير عن يزيد الباهلي سألت ابن عباس عن هذه الآية ﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة ﴾ الآية، قال : بعث الله عليهم رعدة وحراً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ولذة، فنادى بعضهم بعضاً، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً. قال ابن عباس : فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾ أي العزيز في انتقامه من الكافرين، الرحيم بعباده المؤمنين.
يقول تعالى مخبراً عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ﷺ :﴿ وَإِنَّهُ ﴾ أي القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله :﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ ﴾ [ الشعراء : ٥ ] الآية، . ﴿ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين ﴾ أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾ وهو جبريل عليه السلام، قال الزهري : وهذه كقوله :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ] ﴿ على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى ﴿ على قَلْبِكَ ﴾ يا محمد سالماً من الدنس والزيادة والنقص، ﴿ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له، وقوله تعالى :﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾ أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بيناً واضحاً ظاهراً، قاطعاً للعذر، مقيماً للحجة، دليلاً على المحجة، وقال سفيان الثوري : لم ينزل وحي إلاّ بالعربية، ثم ترجم كل نبي لقومه، واللسان يوم القيامة بالسريانية، فمن دخل الجنة تكلم بالعربية.
يقول تعالى : وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيباً في ملئه بالبشارة بأحمد ﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ ﴾ [ الصف : ٦ ] والزبر هاهنا هي الكتب، وهي جمع زبور، وكذلك الزبور هو كتاب داود، قال الله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر ﴾ [ القمر : ٥٢ ] أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة، ثم قال تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل، يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها، والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد ﷺ ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك من آمن منهم ك ( عبد الله بن سلام ) و ( سلمان الفارسي ) ون شاكلهم، قال الله تعالى :﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] الآية؛ ثم قال عالى مخبراً عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن : إنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به، ولهذا قال :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ كما أخبر عنهم في الآية الأخرى، ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ﴾ [ الحجر : ١٤-١٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى ﴾ [ الأنعام : ١١١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ٩٦ ] الآية.
يقول تعالى : كذلك سكلنا التكذيب والكفر والجحود والعناد، أي أدخلناه في قلوب المجرمين ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي بالحق ﴿ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم، ﴿ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً ﴾ أي عذاب الله فجأة ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ﴾ أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله، فكل ظالم وفاجر وكافر إذا شاهد عقوبته ندم ندماً شديداً؛ هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا ﴾ يونس : ٨٨ ] فأثرت هذه الدعوة في فرعون فما آمن حتى رأى العذاب الأليم ﴿ حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ ﴾ [ يونس : ٩٠ ] الآية، وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ ﴾ [ غافر : ٨٤ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ إنكار عليهم وتهديد لهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيباً واستبعاداً : ائتنا بعذا الله، كما قال تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُون ﴾ الآيات، ثم قال :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب ﴾ [ الحج : ٤٧ ] أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأمليناهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم ﴿ حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ ﴾ [ يونس : ٩٠ ]، وقال تعالى :﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ ﴾ [ البقرة : ٩٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى ﴾ [ الليل : ١١ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ ﴾. وفي الحديث الصحيح :« » يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له هل رأيت خيراً قط؟ هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول : لا والله يا رب «. ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له : هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول : لا والله يا رب » ثم قال تعالى مخبراً عن عدله في خلقه إنه ما أهلك أمة من الأمم إلاّ بعد الإعذار إليهم والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم، وقيام الحجة عليهم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذكرى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ كما قال تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ [ القصص : ٥٩ ] إلى قوله ﴿ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [ القصص : ٥٩ ].
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد : أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين ﴾، ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نور ووهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ أي ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً في مدة إنزال القرآن على رسول الله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر، وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾ كما قال تعالى مخبراً عن الجن ﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٩ ].
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له ومخبراً أن من أشرك به عذبه. ثم قال تعالى آمراً لرسوله ﷺ أن ينذر عشيرته الأقربين أي الأدنين إليه، وأنه لا يخلص أحد منهم إلاّ إيمانه بربه عزَّ وجلَّ، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين، ومن عصاه من خلق الله كائناً من كان فليتبرأ منه، ولهذا قال تعالى :﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها، كما قال تعالى :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ [ يس : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [ الشورى : ٧ ]، وقال تعالى :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، وفي « صحيح مسلم » :« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلاّ دخل النار » وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة، فلنذكرها، الحديث الأول : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ « أتى النبي ﷺ الصفا فصعد عليه ثم نادى :» يا صباحاه «، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله ﷺ :» يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ « قالوا : نعم، قال :» فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد « فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلاّ لهذا؟ » ﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [ المسد : ١ ]، الحديث الثاني : روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : لما نزلت :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ قام رسول الله ﷺ فقال :« يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من مالي ما شئتم » الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ دعا رسول الله ﷺ قريشاً فعمَّ وخصَّ، فقال :« يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً إلاّ أن لكم رحماً سأبليها ببلاها »
1862
وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال. قال رسول الله ﷺ :« يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله، يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً، سلاني من مالي ما شئتما » وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ :« يا بني قصي، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، أنا النذير، والموت المغير، والساعة الموعد »، الحديث الرابع : قال الإمام أحمد عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قالا : لما نزلت :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ صعد رسول الله ﷺ رضمة من جبل على أعلاها حجر فجعل ينادي :« يا بني عبد مناف إنما أنا نذير، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدوا فذهب يربأ أهله رجاء أن يسبقوه فجعل ينادي ويهتف يا صباحاه
؟ »
. وقوله تعالى :﴿ وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم ﴾ أي في جميع أمورك فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، وقوله تعالى :﴿ الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ أي هو معتن بك، كما قال تعالى :﴿ واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [ الطور : ٤٨ ]، قال ابن عباس ﴿ الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ : يعني إلى الصلاة. وقال عكرمة : يرى قيامه وركوعه وسجوده، وقال الحسن : إذا صليت وحدك، وقال الضحاك : أي من فراشك أو مجلسك، وقال قتادة ﴿ الذي يَرَاكَ ﴾ قائماً وجالساً وعلى حالاتك، وقوله تعالى :﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين ﴾، قال قتادة :﴿ الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين ﴾ قال : في الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع. وعن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي، حتى أخرجه نبياً، وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم ﴾ أي السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيه ﴾ [ يونس : ٦١ ] الآية.
1863
يقول تعالى مخاطباً لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول ﷺ ليس بحق، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رِئي الجان، فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه نزل به ملك كريم أمين عظيم، وأنه ليس من قبل الشياطين، فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة. ولهذا قال الله تعالى :﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ﴾ أي أخبركم ﴿ تَنَزَّلُ الشياطين * تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ أي كذوب في قوله وهو الأفاك ﴿ أَثِيمٍ ﴾ وهو الفاجر في أفعاله، فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة فإن الشياطين أيضاً كذبه فسقة ﴿ يُلْقُونَ السمع ﴾ أي يسترقون السمع من السماء فيسمعون الكلمة من علم الغيب، فيزيدون معها مائة كذبة ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس، فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء، كما روى البخاري عن عروة بن الزبير قال، قالت عائشة رضي الله عنها :« سأل ناس النبي ﷺ عن الكهان فقال :» إنهم ليسوا بشيء «، قالوا : يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون، فقال النبي ﷺ :» تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخطلون معها أكثر من مائة كذبة « وروى البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :» إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - وصفه سفيان بيده فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء «.
وقوله تعالى :﴿ والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون ﴾ قال ابن عباس : يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن؛ وكذا قال مجاهد رحمه الله، وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس، ولهذا فئام من الناس، فأنزل الله تعالى :﴿ والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون ﴾. وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله ﷺ بالعرج إذ عرض شاعر ينشد، فقال النبي ﷺ :
1864
« خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان -، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً » وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ قال ابن عباس : في كل لغو يخوضون، وقال الضحاك عن ابن عباس : في كل فن من الكلام، وكذا قال مجاهد وغيره. وقال الحسن البصري : قد والله رأينا أوديتهم التي يخوضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فلان، وقال قتادة : الشاعر يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل، وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ﴾ قال ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، وإنهما تهاجيا فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء، فقال الله تعالى :﴿ والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ﴾، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه، وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر، فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم فيتكثرون بما ليس لهم، ولهذا جاء في الحديث :« لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلئ شعراً »، والمراد من هذا أن الرسول ﷺ الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر، لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة، كما قال تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾ [ يس : ٦٩ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ [ الحاقة : ٤١-٤٣ ] وهكذا قال هاهنا ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين * نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ١٩٢-١٩٥ ] إلى أن قال :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٠-٢١٢ ]، إلى أن قال :﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين * تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ﴾. وقوله :﴿ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً ﴾ الآية.
قال محمد بن إسحاق : لما نزلت ﴿ والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون ﴾ جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله ﷺ وهم يبكون قالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فتلا النبي ﷺ :﴿ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ قال :« أنتم » ﴿ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً ﴾ قال :« أنتم »، ﴿ وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾ قال :« أنتم ».
1865
وروى أيضاً عن عروة قال : لما نزلت ﴿ والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون ﴾، إلى قوله :﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ﴾ قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم، فأنزل الله تعالى :﴿ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية، وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغير واحد من أن هذا استثناء مما تقدم. ولهذا قال تعالى :﴿ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً ﴾ قيل : معناه ذكروا الله كثيراً في كلامهم، وقيل : في شعرهم، وكلاهما صحيح مكفر لما سبق، وقوله تعالى :﴿ وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾ قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين؛ وهذا كما ثبت في « الصحيح » أن رسول الله ﷺ قال حسان :« أهجهم - أو قال - هاجهم وجبريل معك » وقال الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي ﷺ إن الله عزَّ وجلَّ قد أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال رسول الله ﷺ :« إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النيل » وقوله تعالى :﴿ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ [ غافر : ٥٢ ] الآية، وفي « الصحيح » أن رسول الله ﷺ قال :« إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة »، قال قتادة : يعني من الشعراء وغيرهم وقيل : المراد بهم أهل مكة، وقيل الذين ظلموا من المشركين، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم، كما قال ابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كتب أبي في وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما وصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه، وإن يجر ويبذل فلا أعلم الغيب ﴿ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾.
1866
Icon