تفسير سورة الشعراء

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الشعراء
هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من :﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون ﴾ إلى آخر السورة، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة.
وقال مقاتل :﴿ أولم يكن لهم آية ﴾، الآية مدنية.
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها أنه قال تعالى :﴿ فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً ﴾ ذكر تلهف رسول الله صلى الله عليه وسلم على كونهم لم يؤمنوا، وكونهم كذبوا بالحق، لما جاءهم.
ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله :﴿ فسوف يكون لزاماً ﴾ أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم ﴿ أنباء ما كانوا به يستهزءون ﴾.

ﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇ ﰉﰊﰋﰌﰍ ﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳ ﰿ ﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮ
سورة الشعراء
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ١٠٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩)
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
136
الشِّرْذِمَةُ: الْجَمْعُ الْقَلِيلُ الْمُحْتَقَرُ، وَشِرْذِمَةُ كُلِّ شَيْءٍ: بَقِيَّتُهُ الْخَسِيسَةُ: وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
فِي شَرَاذِمِ الْبِغَالِ وَقَالَ آخَرُ:
جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلَاقْ شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ
138
وَقَالَ الجوهري: الشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ، وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَثَوْبٌ شَرَاذِمُ: أَيْ قِطَعٌ. انْتَهَى. وَقِيلَ: السَّفِلَةُ مِنَ النَّاسِ. كَبْكَبَهُ: قَلَبَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَحُرُوفُهُ كُلُّهَا أُصُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَبْكَبَةُ: تَكْرِيرُ الْكَبِّ، جُعِلَ التَّكْرِيرُ فِي اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى التَّكْرِيرِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَبْكَبَ مُضَاعَفٌ مِنْ كَبَّ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالتَّضْعِيفُ فِي الْفِعْلِ نَحْوَ: صَرَّ وَصَرْصَرَ. انْتَهَى. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ هُوَ قَوْلُ الزُّجَّاجِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ نَحْوَ كَبْكَبَهُ مِمَّا يُفْهَمُ الْمَعْنَى بِسُقُوطِ ثَالِثِهِ، هُوَ مِمَّا ضُوعِفَ فِيهِ الْبَاءُ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الثَّالِثَ بَدَلٌ مِنْ مِثْلِ الثَّانِي، فَكَانَ أَصْلُهُ كَبَبَ، فَأُبْدِلُ مِنَ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ كَافٌ، الْحَمِيمُ: الْوَلِيُّ الْقَرِيبُ، وَحَامَّةُ الرَّجُلِ: خَاصَّتُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَمِيمُ مِنْ الِاحْتِمَامِ، وَهُوَ الِاهْتِمَامُ، وَهُوَ الَّذِي يُهِمُّهُ مَا أَهَمَّكَ أَوْ مِنَ الْحَامَّةِ بِمَعْنَى الْخَاصَّةِ، وَهُوَ الصَّدِيقُ الْخَالِصُ.
طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ، وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ، فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ.
هَذِهِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً، الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً «١» ذَكَرَ تَلَهُّفَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَكَوْنِهِمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، لَمَّا جَاءَهُمْ. وَلَمَّا أَوْعَدَهُمْ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً، أَوْعَدَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ فَقَالَ فِي إِثْرِ إِخْبَارِهِ بِتَكْذِيبِهِمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ، أَوْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. وَأَمَالَ فَتْحَةَ الطَّاءِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ وَبَاقِي السبعة:
بالفتح وحمزة بِإِظْهَارِ نُونِ سِينْ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِدْغَامِهَا وَعِيسَى بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ طسم هُنَا
(١) سورة الفرقان: آية ٢٥/ ٧٧.
139
وَفِي الْقَصَصِ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ ط س م مَقْطُوعٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ. وَتَكَلَّمُوا عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ بِمَا يُشْبِهُ اللُّغْزَ وَالْأَحَاجِيِّ، فَتَرَكْتُ نَقْلَهُ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَالُوهُ.
والْكِتابِ الْمُبِينِ: هُوَ الْقُرْآنُ، هُوَ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ وَمُبِينٌ غَيْرَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَسَائِرِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، أَوْ مُبِينٌ إِعْجَازُهُ وَصِحَّةُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ باخِعٌ نَفْسَكَ فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ. أَلَّا يَكُونُوا: أَيْ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا، أَوْ خِيفَةَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بَاخِعُ نَفْسِكَ عَلَى الْإِضَافَةِ. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ دَخَلَتْ إِنْ عَلَى نَشَأْ وَإِنْ لِلْمُمْكِنِ، أَوِ المحقق المبهم زَمَانُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا فِي الشَّرْطِ مِنَ الْإِبْهَامِ هُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَيِّزِنَا، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ آيَةَ اضْطِرَارٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ مُعَرَّضَةً لِلنَّظَرِ وَالْفِكْرِ، لِيَهْتَدِيَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ هُدَاهُ، وَيَضِلَّ مَنْ سَبَقَ ضَلَالُهُ، وَلِيَكُونَ لِلنَّظْرَةِ كَسْبٌ بِهِ يَتَعَلَّقُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَآيَةُ الِاضْطِرَارِ تَدْفَعُ جَمِيعَ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَتْ. انْتَهَى. وَمَعْنَى آيَةً: أَيْ مُلْجِئَةً إِلَى الْإِيمَانِ يَقْهَرُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هرون عَنْهُ: إِنْ يَشَأْ يُنَزَّلْ عَلَى الْغَيْبَةِ، أَيْ إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُنَزِّلْ، وَفِي بعض الْمَصَاحِفِ: لَوْ شِئْنَا لَأَنْزَلْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَظَلَّتْ، مَاضِيًّا بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يُنَزِّلْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: فَتُظَلَّلْ، وَأَعْنَاقُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ خَاضِعِينَ خَبَرًا عَنِ الْأَعْنَاقِ؟ قُلْتُ: أَصْلُ الْكَلَامِ: فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، فَأُقْحِمَتِ الْأَعْنَاقُ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْخُشُوعِ، وَتُرِكَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ كَقَوْلِهِمْ: ذَهَبْتُ أَهْلَ الْيَمَامَةِ، كَانَ الْأَهْلُ غَيْرَ مَذْكُورٍ. انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْأَخْفَشُ: جَمَاعَاتُهُمْ، يُقَالُ: جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَمَاعَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ عُنُقٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا وَقِيلَ: أَعْنَاقُ النَّاسِ: رُؤَسَاؤُهُمْ، وَمُقَدِّمُوهُمْ شُبِّهُوا بِالْأَعْنَاقِ، كَمَا قيل:
لهم الرؤوس وَالنَّوَاصِي وَالصُّدُورُ قَالَ الشَّاعِرُ:
في مجفل مِنْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مَشْهُودِ وَقِيلَ: أُرِيدَ الْجَارِحَةُ. فَقَالَ ابْنُ عِيسَى: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَصْحَابُ الْأَعْنَاقِ. وَرُوعِيَ هَذَا الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: خاضِعِينَ، حَيْثُ جَاءَ جَمْعًا لِلْمُذَكَّرِ
140
العاقل، أولا حَذْفَ، وَلَكِنَّهُ اكْتَسَى مِنْ إِضَافَتِهِ لِلْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ وَصْفَهُ، فَأُخْبِرَ عَنْهُ إِخْبَارَهُ، كَمَا يَكْتَسِي الْمُذَكَّرُ التَّأْنِيثَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ فِي نَحْوِ:
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم أولا حَذْفَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا وُضِعَتْ لِفِعْلٍ لَا يَكُونُ إِلَّا مَقْصُودًا لِلْعَاقِلِ وَهُوَ الْخُضُوعُ، جُمِعَتْ جَمْعَهُ كَمَا جَاءَ: أَتَيْنا طائِعِينَ «١». وَقَرَأَ عِيسَى، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: خَاضِعَةً. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا وَفِي بَنِي أُمَيَّةَ، سَتَكُونُ لَنَا عَلَيْهِمُ الدَّوْلَةُ، فَتَذِلُّ أَعْنَاقُهُمْ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ، وَيَلْحَقُهُمْ هَوَانٌ بَعْدَ عِزٍّ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ. إِلَّا كانُوا: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ إِلَّا يَكُونُوا عَنْهَا. وَكَانَ يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّ دَيْدَنَهُمْ وَعَادَتَهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ خُولِفَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ؟ قُلْتُ: كَانَ قَبْلَ حِينٍ أَعْرَضُوا عَنِ الذِّكْرِ، فَقَدْ كَذَّبُوا بِهِ، وَحِينَ كَذَّبُوا بِهِ، فَقَدْ خَفَّ عَلَيْهِمْ قَدْرُهُ وَصَارَ عُرْضَةَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالسُّخْرِيَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَابِلًا لِلْحَقِّ مُقْبِلًا عَلَيْهِ، كَانَ مُصَدِّقًا بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُظَنَّ بِهِ التَّكْذِيبُ. وَمَنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِهِ، كَانَ مُوَقِّرًا لَهُ. انْتَهَى.
فَسَيَأْتِيهِمْ: وَعِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَلَمَّا كَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي صَانِعِ الْوُجُودِ، وَتَكْذِيبُ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُنْشِئُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ؟ وَالزَّوْجُ: النَّوْعُ. وَقِيلَ: الشَّيْءُ وَشَكْلُهُ. وَقِيلَ: أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ وَأَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَحُلْوٌ وَحَامِضٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الزَّوْجُ: اللَّوْنُ. وَالْكَرِيمُ: الْحَسَنُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
وَقِيلَ: مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ. وَقِيلَ: الْكَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ. وَقِيلَ: الْكَرِيمُ صِفَةً لِكُلِّ مَا يُرْضَى وَيُحْمَدُ. وَجْهٌ كَرِيمٌ: مَرْضِيٌّ فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ وَكِتَابٌ كَرِيمٌ: مَرْضِيٌّ فِي مَعَانِيهِ وَفَوَائِدِهِ.
وَقَالَ: حَتَّى يَشُقَّ الصُّفُوفَ مِنْ كَرَمِهِ، أَيْ مِنْ كَوْنِهِ مَرْضِيًّا فِي شَجَاعَتِهِ وَبَأْسِهِ، وَيُرَادُ الْأَشْيَاءُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْأُمُورِ، وَالْأَغْذِيَةُ وَالنَّبَاتَاتُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَيَوَانُ لِأَنَّهُ عَنِ اثْنَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «٢». قَالَ الشَّعْبِيُّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ صَارَ إِلَى النَّارِ فَبِضِدِّ ذَلِكَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ كم وكل؟ ولو قيل:
(١) سورة فصلت: آية ٤١/ ١١.
(٢) سورة نوح: آية ٧١/ ٩٧.
141
أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ قُلْتُ: دَلَّ كُلِّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وكم عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُحِيطَ مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطُ الْكَثْرَةِ، فَهَذَا مَعْنَى الْجَمْعِ، وَبِهِ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ. انْتَهَى.
وَأَفْرَدَ لَآيَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مَا دَلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ فِي الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ كَمْ، وَعَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْعُمُومِ فِي الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِنْبَاتُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مُتَعَلَّقَاتُهُ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ تِلْكَ الْأَزْوَاجِ لَآيَةً. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: تَسْجِيلٌ عَلَى أَكْثَرِهِمْ بِالْكُفْرِ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ: أَيِ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ. وَلَمَّا كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ بَيَانِ الْقُدْرَةِ، قَدَّمَ صِفَةَ الْعِزَّةِ عَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ. فَالرَّحْمَةُ إِذَا كَانَتْ عَنْ قُدْرَةٍ، كَانَتْ أَعْظَمَ وَقْعًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَزَّ فِي نِقْمَتِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَرَحِمَ مُؤْمِنِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ، ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا قَاسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَسْلَاةً لِمَا كَانَ يَلْقَاهُ عَلَيْهِ لصلاة وَالسَّلَامُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. إذ، كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ اتَّخَذَتْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ قَدِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا، وَكَانَ أَتْبَاعُ مِلَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُمُ الْمُجَاوِرُونَ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، بَدَأَ بِقِصَّةِ مُوسَى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ مِنَ الْقَصَصِ. وَالْعَامِلُ فِي إِذْ، قَالَ الزُّجَاجُ، اتْلُ مُضْمَرَةٌ، أَيِ اتْلُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِيمَا يَتْلُو إِذْ نَادَى، وَدَلِيلُ ذَلِكَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ «١» إِذْ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ اذْكُرْ، وَهُوَ مِثْلُ وَاتْلُ، وَمَعْنَى نَادَى: دَعَا. وَقِيلَ: أَمْرٌ. وَأَنْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ، لِظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَظُلْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالِاسْتِعْبَادِ، وَذَبْحِ الأولاد، وقَوْمَ فِرْعَوْنَ، وقيل: بَدَلٌ مِنْ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ لِأَنَّهُمَا عِبَارَتَانِ يَعْتَقِبَانِ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ عَطَفَ الْبَيَانَ، وَسَوَّغَهُ مُسْتَقِلٌّ بِالْإِسْنَادِ. وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ، أَتَى عَطْفُ الْبَيَانِ بِإِزَالَتِهِ، إِذْ هُوَ أَشْهَرُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَلَا يَتَّقُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسلم بْنِ يَسَارٍ، وَشَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو قِلَابَةَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ إِنْكَارًا وَغَضَبًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ، لِأَنَّهُ مُبَلِّغُهُمْ ذَلِكَ وَمُكَافِحُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ قُلْ لَهُمْ، فَجَمَعَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْمَعَانِي نَفْيَ التَّقْوَى عَنْهُمْ وَأَمْرَهُمْ بِالتَّقْوَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: أَلا يَتَّقُونَ؟ قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ مستأنف
(١) سورة الشعراء: آية ٢٦/ ٦٩.
142
أَتْبَعَهُ عَزَّ وَجَلَّ إِرْسَالَهُ إِلَيْهِمْ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ تَعْجِيبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي سَعَتْ فِي الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ، وَمِنْ أَمْنِهِمُ الْعَوَاقِبَ وَقِلَّةِ خَوْفِهِمْ وَحَذَرِهِمْ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَلَا يَتَّقُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّالِمِينَ، أَيْ يَظْلِمُونَ غَيْرَ مُتَّقِينَ اللَّهَ وَعِقَابَهُ، فَأُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّهُ جَعْلِهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّالِمِينَ، وَقَدْ أَعْرَبَ هُوَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ عَطْفَ بَيَانٍ، فَصَارَ فيه الْفَصْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: ائْتِ وَالَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَالٌ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ الظَّالِمِينَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لَوْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ:
قَوْمَ فِرْعَوْنَ. لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَهَا. وَقَوْلُكَ: جِئْتَ أَمُسْرِعًا؟ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَمُسْرِعًا حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي جِئْتَ لَا يَجُوزُ، فَلَوْ أَضْمَرْتَ عَامِلًا بعد الهمزة جاز. وقرىء: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا، التَّقْدِيرُ: أَفَلَا يَتَّقُونَنِي؟
فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَاءُ الْمُتَكَلِّمِ اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي أَلَا يَتَّقُونِ بِالْيَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يكون الْمَعْنَى: أَلَا يَا نَاسُ اتَّقُونِ، كَقَوْلِهِ:
أَلَّا يَسْجُدُوا «١». انْتَهَى. يَعْنِي: وَحُذِفَ أَلِفُ يَا خَطًّا وَنُطْقًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ بَعِيدٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَلَا لِلْعَرْضِ الْمُضَمَّنِ الْحَضَّ عَلَى التَّقْوَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لِلتَّنْبِيهِ لَا يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّهَا لِلنَّفْيِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ.
وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ عَظِيمَ النَّخْوَةِ حَتَّى ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ، كَثِيرَ الْمَهَابَةِ، قَدْ أُشْرِبَتِ الْقُلُوبُ الْخَوْفَ مِنْهُ خُصُوصًا مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى أَخَافُ.
فَالْمَعْنَى: إِنَّهُ يُفِيدُ ثَلَاثَ عِلَلٍ: خَوْفَ التَّكْذِيبِ، وَضِيقَ الصَّدْرِ، وَامْتِنَاعَ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ.
وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَزَائِدَةُ، عَنِ الِأَعْمَشِ، وَيَعْقُوبُ: بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى يُكَذِّبُونِ، فَيَكُونُ التَّكْذِيبُ وَمَا بَعْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَوْفِ.
وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، عَنْ الْأَعْرَجِ: أَنَّهُ قَرَأَ بِنَصْبِ: وَيَضِيقَ، وَرَفْعِ: وَلَا يَنْطَلِقُ، وَعَدَمُ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ هُوَ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَوْفِ وَضِيقِ الصَّدْرِ، لِأَنَّ اللِّسَانَ إِذْ ذَاكَ يَتَلَجْلَجُ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ عَنْ مَقْصُودِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ انْطِلَاقِ اللِّسَانِ بِالْقَوْلِ لِغُمُوضِ الْمَعَانِي الَّتِي تُطْلَبُ لَهَا أَلْفَاظٌ مُحَرَّرَةٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَقْتِ ضِيقِ الصَّدْرِ، لم ينطلق اللسان.
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٢٥.
143
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: مَعْنَاهُ يُعِينُنِي وَيُؤَازِرُنِي، وَكَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصِيحًا وَاسِعَ الصَّدْرِ، فَحُذِفَ بَعْضُ الْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ، إِذْ بَاقِيهِ دَالٌّ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: أَرْسِلْ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاجْعَلْهُ نَبِيًّا، وَأْزُرْنِي بِهِ، وَاشْدُدْ بِهِ عَضُدِي وَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ أَحْسَنَ فِي الِاخْتِصَارِ حَيْثُ قَالَ:
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ، فَجَاءَ بِمَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ إِلَى آخِرِهِ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لَيْسَ تَوَقُّفًا فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَضِّدَهُ بِأَخِيهِ، حَتَّى يَتَعَاوَنَا عَلَى إِنْفَاذِ أَمْرِهِ تَعَالَى، وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، مَهَّدَ قَبْلَ طَلَبِ ذَلِكَ عُذْرَهُ ثُمَّ طَلَبَ. وَطَلَبُ الْعَوْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَبُولِ لَا عَلَى التَّوَقُّفِ وَالتَّعَلُّلِ، وَمَفْعُولُ أَرْسِلْ مَحْذُوفٌ. فَقِيلَ جِبْرِيلُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ،
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى هَارُونَ، وَكَانَ هَارُونُ بِمِصْرَ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى نَبِيًّا بِالشَّامِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: سَارَ بِأَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ، فَالْتَقَى بِهَارُونَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى، فَتَعَارَفَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَنْطَلِقَا إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَصَاحَتْ أُمُّهُمَا لِخَوْفِهَا عَلَيْهِمَا، فَذَهَبَا إِلَيْهِ.
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ: أَيْ قِبَلِي قَوَدُ ذَنْبٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، وَهُوَ قَتْلُهُ الْقِبْطِيَّ الْكَافِرَ خَبَّازَ فِرْعَوْنَ بِالْوَكْزَةِ الَّتِي وَكَزَهَا، أَوْ سَمَّى تَبِعَةَ الذَّنْبِ ذَنْبًا، كَمَا سَمَّى جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً. وَلَيْسَ قَوْلُ مُوسَى ذَلِكَ تَلَكُّأً فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ قَالَ ذَلِكَ اسْتِدْفَاعًا لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَخَافَ أَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَلَّا، وَهِيَ كَلِمَةُ الرَّدْعِ، ثُمَّ وَعَدَهُ تَعَالَى بِالْكَلَاءَةِ وَالدَّفْعِ. وَكَلَّا رَدٌّ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ، أَيْ لَا تَخَفْ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَضَيْتُ بِنَصْرِكَ وَظُهُورِكَ. وَقَوْلُهُ: فَاذْهَبا، أَمْرٌ لَهُمَا بِخِطَابٍ لِمُوسَى فَقَطْ، لِأَنَّ هَارُونَ لَيْسَ بِمُكَلَّمٍ بِإِجْمَاعٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ «١». قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمْعَ اللَّهُ لَهُ الِاسْتِجَابَتَيْنِ مَعًا فِي قَوْلِهِ: كَلَّا فَاذْهَبا، لِأَنَّهُ اسْتَدْفَعَهُ بَلَاءَهُمْ، فَوَعَدَهُ الدَّفْعَ بِرَدْعِهِ عَنِ الْخَوْفِ، والتمس الموازرة بِأَخِيهِ، فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ، أَيِ اذْهَبْ أَنْتَ وَالَّذِي طَلَبْتَهُ هَارُونَ. فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ قَوْلَهُ اذْهَبَا؟ قُلْتُ: عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: ارْتَدِعْ يَا مُوسَى عَمَّا تَظُنُّ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَهَارُونُ بِآيَاتِنَا، يَعُمُّ جَمِيعَ مَا بَعَثَهُمَا اللَّهُ بِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ الْعَصَا، وَبِهَا وَقَعَ الْعَجْزُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي حَمَّلَهُ اللَّهُ أَمْرَ النُّبُوَّةِ وَكَلَّفَهَا، وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا مُعِينًا لَهُ وَوَزِيرًا. انْتَهَى. وَمَعَكُمْ، قِيلَ:
مِنْ وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْمُثَنَّى، أَيْ مَعَكُمَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْجَمْعِ، والمراد
(١) سورة طه: ٢٠/ ٤٢.
144
مُوسَى وَهَارُونُ وَمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِصُورَةِ الْجَمْعِ الْمُثَنَّى، وَالْخِطَابُ لِمُوسَى وَهَارُونَ فَقَطْ، قَالَ: لِأَنَّ لَفْظَهُ مَعَ تَبَايُنِ مَنْ يَكُونُ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ اللَّهُ مَعَهُ. وَعَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ التَّثْنِيَةُ، حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَأَنَّهُمَا لِشَرَفِهِمَا عِنْدَ اللَّهِ، عَامَلَهُمَا فِي الْخِطَابِ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْوَاحِدُ لِشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُسْتَمِعُونَ اهْتِبَالًا، لَيْسَ فِي صِيغَةِ سَامِعُونَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِطَلَبِ الِاسْتِمَاعِ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ إِظْهَارُ التَّهَمُّمِ لِيَعْظُمَ أُنْسُ مُوسَى، أَوْ يَكُونُ الْمَلَائِكَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهَا تَسْتَمِعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ مِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ، يُرِيدُ أَنَا لَكُمَا ولعدو كما كَالنَّاصِرِ الظَّهِيرِ لَكُمَا عَلَيْهِ إِذَا حَضَرَ وَاسْتَمَعَ مَا يَجْرِي بَيْنَكُمَا وَبَيْنَهُ، فَأَظْهَرَكُمَا وَغَلَّبَكُمَا وَكَسَرَ شَوْكَتَهُ عَنْكُمَا وَنَكَّسَهُ. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ معه متعلقا بمستمعون، وأن يكون خبرا، ومستمعون خَبَرٌ ثَانٍ. وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِصْغَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ السَّمَاعُ، تَقُولُ: أَسْمَعَ إِلَيْهِ، فَمَا سَمِعَ وَاسْتَمَعَ إِلَيْهِ، فَسَمِعَ كَمَا قَالَ: اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا «١»، وَأَفْرَدَ رَسُولَ هُنَا وَلَمْ يُثَنِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ «٢»، إِمَّا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، فَجَازَ أَنْ يَقَعَ مُفْرَدًا خَبَرَ الْمُفْرِدِ فَمَا فَوْقَهُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِمَا ذَوِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُمَا رَسُولٌ وَاحِدٌ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: أَنَا أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولٌ.
وسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
فِيهِ رَدٌّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى، بَادَهَهُ بِنَقْضِ مَا كَانَ أَبْرَمَهُ مِنَ ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ فَقَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَالْمَعْنَى إِلَيْكَ، وأَنْ أَرْسِلْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِمَا فِي رَسُولٍ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَرْسَلَ بِمَعْنَى أَطْلَقَ وَسَرَّحَ، كَمَا تَقُولُ: أَرْسَلْتُ الْحَجَرَ مِنْ يَدِي، وَأَرْسَلْتُ الصَّقْرَ. وَكَانَ مُوسَى مَبْعُوثًا إِلَى فِرْعَوْنَ فِي أَمْرَيْنِ: إِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَزُولَ عَنْهُمُ الْعُبُودِيَّةُ، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبُعِثَ بِالْعِبَادَاتِ وَالشَّرْعِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِرْسَالُهُمْ مَعَهُمَا كَانَ إِلَى فِلَسْطِينَ، وَكَانَتْ مَسْكَنَ مُوسَى وَهَارُونَ.
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي
(١) سورة الجن: ٧٢/ ١.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٤٧.
145
رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ، قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ.
وَيُرْوَى أَنَّهُمَا انْطَلَقَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا سَنَةً، حَتَّى قَالَ الْبَوَّابُ: إِنَّ هُنَا إِنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ: ائْذَنْ لَهُ لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ. فَأَدَّيَا إِلَيْهِ الرِّسَالَةَ، فَعَرَفَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً؟
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَأَتَيَا فِرْعَوْنَ، فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ. وَلَمَّا بَادَهَهُ مُوسَى بِأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَرَهُ بِإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، أَخَذَ يَسْتَحْقِرُهُ وَيَضْرِبُ عَنِ الْمُرْسَلِ وَعَمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُذَكِّرُهُ بِحَالَةِ الصِّغَرِ وَالْمَنِّ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ. وَالْوَلِيدُ الصَّبِيُّ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الْوِلَادَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: مِنْ عُمْرِكَ، بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي كَمِّيَّةِ هَذِهِ السِّنِينَ فِي طه. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعْلَتَكَ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، إِذْ كَانَتْ وَكْزَةً وَاحِدَةً، وَالشَّعْبِيُّ: بِكَسْرِ الْفَاءِ، يُرِيدُ الْهَيْئَةَ، لِأَنَّ الْوَكْزَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ. عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعْمَةَ التَّرْبِيَةِ وَمَبْلَغَهُ عِنْدَهُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، حَيْثُ كَانَ يَقْتُلُ نُظَرَاءَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَّرَهُ مَا جَرَى عَلَى يَدِهِ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، وَعَظَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ، لِأَنَّ هَذَا الْإِبْهَامَ، بِكَوْنِهِ لَمْ يُصَرِّحْ أَنَّهَا الْقَتْلُ، تَهْوِيلٌ لِلْوَاقِعَةِ وَتَعْظِيمُ شَأْنٍ. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ قَتَلْتَهُ وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَافْتَرَى فِرْعَوْنُ بِنِسْبَةِ هَذِهِ الْحَالِ إِلَيْهِ إِذْ ذَاكَ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ فِرْعَوْنَ، حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِي فِي أَنَّنِي إِلَهُكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مِنْ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ لِأَنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُهُ الْآنَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
قالَ فَعَلْتُها إِذاً: إِجَابَةُ مُوسَى عَنْ كَلَامِهِ الْأَخِيرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْقَتْلِ، إِذْ كَانَ الِاعْتِذَارُ فِيهِ أَهَمَّ مِنَ الْجَوَابِ فِي ذِكْرِ النِّعْمَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، لِأَنَّهُ فِيهِ إِزْهَاقُ النَّفْسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَنْ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ وَكَأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَئِذٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِصِلَةٍ، بَلْ هِيَ حَرْفُ مَعْنًى. وَقَوْلُهُ وَكَأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَئِذٍ، يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ تَفْسِيرَ مَعْنًى، إِذْ لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ إِلَى أَنَّ إِذَنْ
146
تُرَادِفُ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابَ حِينَئِذٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ مَعًا، وَالْكَلَامُ وَقَعَ جَوَابًا لِفِرْعَوْنَ، فَكَيْفَ وَقَعَ جَزَاءً؟ قُلْتُ: قَوْلُ فِرْعَوْنَ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ فِيهِ مَعْنَى: إِنَّكَ جَازَيْتَ نِعْمَتِي بِمَا فَعَلْتَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: نَعَمْ فَعَلْتُهَا، مُجَازِيًا لَكَ تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّ نِعْمَتَهُ كَانَتْ عِنْدَهُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُجَازَى بِنَحْوِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ مَعًا، هُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، لَكِنَّ الشُّرَّاحَ فَهِمُوا أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَوَابًا وَجَزَاءً مَعًا، وَقَدْ تَكُونُ جَوَابًا فَقَطْ دُونَ جَزَاءٍ. فَالْمَعْنَى اللَّازِمُ لَهَا هُوَ الْجَوَابُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ جَزَاءً. وَحَمَلُوا قَوْلَهُ: فَعَلْتُها إِذاً مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جاءت فيها جوابا لآخر، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَئِمَّتِنَا تَكَلَّفَ هُنَا كَوْنَهَا جَزَاءً وَجَوَابًا، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّرٌ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي إِذَنْ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ هُوَ الصَّحِيحَ، وَلَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ مِنَ الْجَاهِلِينَ، بِأَنَّ وَكْزَتِي إِيَّاهُ تَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ النَّاسِينَ، وَنَزَعَ لِقَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «١». وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلضَّالِّينَ، لَا قِرَاءَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْفَاعِلِينَ فِعْلَ أُولِي الْجَهْلِ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ:
إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ «٢» أَوِ الْمُخْلِصِينَ، كَمَنْ يَقْتُلُ خَطَأً مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِلْقَتْلِ، أَوِ الذَّاهِبِينَ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ. انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنَ الضَّالِّينَ، يَعْنِي عَنِ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَأْتِنِي عَنِ اللَّهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ عَلَيَّ فِيمَا فَعَلْتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَوْبِيخٌ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا شُرِحَ بِهِ أَنَّ مَعْنَى وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ مِنَ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ، وَمَا قَتَلْتُ الْقِبْطِيَّ إِلَّا غَيْرَةً لِلَّهِ. قِيلَ: وَالضَّلَالُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَحَبَّةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «٣»، أَيْ فِي مَحَبَّتِكَ الْقَدِيمَةِ.
وَجُمِعَ ضَمِيرُ الخطاب في منكم وخفتكم بِأَنْ كَانَ قَدْ أُفْرِدَ في: تمنها وعبدت، لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالْفِرَارَ لَمْ يَكُونَا مِنْهُ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا منه ومن ملئه الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَأْتَمِرُونَ لِقَتْلِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ «٤». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَظَرْفًا بِمَعْنَى حِينَ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ: لِمَا بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، أَيْ يخوفكم. وَقَرَأَ عِيسَى: حُكُمًا بِضَمِّ الْكَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْإِسْكَانِ. وَالْحُكْمُ: النبوة.
(١) سورة البقرة ٢/ ٢٨٢.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٨٩.
(٣) سورة يوسف: ١٢/ ٩٥.
(٤) سورة يوسف: ١٢/ ٨٩. [.....]
147
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ: دَرَجَةٌ ثَانِيَةٌ لِلنُّبُوَّةِ، فَرُبَّ نَبِيٍّ لَيْسَ بِرَسُولٍ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ: الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ.
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ: وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَذَكَّرَ بِهَذَا آخِرًا عَلَى مَا بَدَأَ بِهِ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِقْرَارٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّعْمَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَتَرْبِيَتُكَ لِي نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِنْ حَيْثُ عَبَّدْتَ غَيْرِي وَتَرَكْتَنِي وَاتَّخَذْتَنِي وَلَدًا، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ رِسَالَتِي. وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ السُّدِّيُّ وَالطَّبَرَيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ نِعْمَةً، كَأَنَّهُ يَقُولُ: أو يصح لَكَ أَنْ تَعْتَدَّ عَلَيَّ نِعْمَةَ تَرْكِ قَتْلِي مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ ظَلَمْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلْتَهُمْ؟
أَيْ لَيْسَتْ بِنِعْمَةٍ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَنْ لَا تَقْتُلَنِي وَلَا تَقْتُلَهُمْ وَلَا تَسْتَعْبِدَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْخِدْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ مَا لَكَ أَنْ تَمُنَّهَا، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ تُؤَيَّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِفِرْعَوْنَ وَنَقْضُ كَلَامِهِ كُلِّهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِيهِ إِنْصَافٌ وَاعْتِرَافٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَالْفَرَّاءُ: قَبْلَ الْوَاوِ هَمْزَةُ اسْتِفْهَامٍ يُرَادُ بِهِ الْإِنْكَارُ، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّهَا لَا تُحْذَفُ، لِأَنَّهَا حَرْفٌ يَحْدُثُ مَعَهَا مَعْنًى، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ أَمْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا شَيْئًا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُهَا مَعَ أَفْعَالِ الشَّكِّ، وَحَكَى: تَرَى زَيْدًا مُنْطَلِقًا، بِمَعْنَى: أَلَا تَرَى؟ وَكَانَ الْأَخْفَشُ الْأَصْغَرُ يَقُولُ: أَخَذَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّبْكِيتِ يَكُونُ بِاسْتِفْهَامٍ وَبِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَالْمَعْنَى: لَوْ لَمْ يُقَتِّلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَرَبَّانِي أَبَوَايَ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ لَكَ عَلَيَّ فَأَنْتَ تَمُنُّ عَلَيَّ بِمَا لَا يَجِبُ أَنْ تَمُنَّ بِهِ. وَقِيلَ: اتِّخَاذُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدًا أَحْبَطَ نِعْمَتَكَ الَّتِي تَمُنُّ بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَبَى، يَعْنِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يُسَمِّيَ نِعْمَتَهُ أَنْ لَا نِعْمَةَ، حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ حَقِيقَةَ إِنْعَامِهِ تَعَبُّدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ تَعَبُّدَهُمْ وَقَصْدَهُمْ بِذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِهِ عِنْدَهُ وَتَرْبِيَتِهِ، فَكَأَنَّهُ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِتَعْبِيدِ قَوْمِهِ إِذَا حَقَّقْتَ. وَتَعْبِيدُهُمْ: تَذْلِيلُهُمْ وَاتِّخَاذُهُمْ عَبِيدًا، يُقَالُ: عَبَّدْتُ الرَّجُلَ وَأَعْبَدْتُهُ، إِذَا اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَامَ يُعْبِدُنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ أَبَاعِرُ مَا شَاءُوا وَعُبْدَانُ
فَإِنْ قُلْتَ: وَتِلْكَ إشارة إلى ماذا؟ وأن عَبَّدْتَ مَا مَحَلُّهَا مِنَ الْإِعْرَابِ؟ قُلْتُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى خَصْلَةٍ شَنْعَاءَ مُبْهَمَةٍ، لَا يُدْرَى مَا هِيَ إِلَّا بِتَفْسِيرِهَا وَمَحَلُّ أَنْ عَبَّدْتَ الرَّفْعُ، عَطْفُ بَيَانٍ لِتِلْكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ
148
مُصْبِحِينَ
«١»، وَالْمَعْنَى: تَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَةٌ تَمَنُّهَا عَلَيَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، الْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ نِعْمَةً عَلَيَّ، لِأَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَكَفَلَنِي أَهْلِي وَلَمْ يُلْقُونِي فِي الْيَمِّ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ مِنْ أَجْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: بَدَلٌ، وَلَمَّا أَخْبَرَ مُوسَى فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَسْأَلْ إِذْ ذَاكَ فَيَقُولُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ بَلْ أَخَذَ فِي الْمُدَاهَاةِ وَتَذْكَارِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّقْبِيحِ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ. فَلَمَّا أَجَابَهُ عَنْ ذَلِكَ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالْقَتْلِ، وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: سُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
دُعَاءٌ إِلَى الْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَإِلَى طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِ، فَأَخَذَ فِرْعَوْنُ يَسْتَفْهِمُ عَنِ الَّذِي ذَكَرَ مُوسَى أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَهُ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاهَتَةِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْمُرَادَّةِ، وَكَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ:
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «٢»، وَلَكِنَّهُ تَعَامَى عَنْ ذَلِكَ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ وَدَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ، وَاسْتَفْهَمَ بِمَا اسْتِفْهَامًا عَنْ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ مَكِّيٌّ: كَمَا يُسْتَفْهَمُ عَنِ الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ وَرَدَ لَهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَنْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَيُشْبِهُ أَنَّهَا مَوَاطِنُ.
انْتَهَى. وَالْمَوْضِعُ الْآخَرُ قَوْلُهُ: فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى؟ «٣» وَلَمَّا سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ، وَكَانَ السُّؤَالُ بما التي هي سُؤَالٍ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَوَابُ بِالْمَاهِيَّةِ، أَجَابَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ لِفِرْعَوْنَ فيها، وهي ربوبية السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي شُوهِدَتْ وَعُرِفَتْ أَجْنَاسُهَا، فَأَجَابَ بِمَا يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ، لِيُعَرِّفَهُ أنه ليس مما شوهد وَعَرَفَ مِنَ الْأَجْرَامِ وَالْأَعْرَاضِ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ شَيْءٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ تَفْتِيشًا عَنْ حَقِيقَةِ الْخَاصَّةِ مَا هِيَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ لَيْسَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، وَهُوَ الْكَافِي فِي مَعْرِفَتِهِ مَعْرِفَةُ بَيَانِهِ بِصِفَاتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَفْعَالِهِ الْخَاصَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا التَّفْتِيشُ عَنْ حَقِيقَةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ فِطَرِ الْعُقُولِ، فَتَفْتِيشٌ عَمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَالسَّائِلُ عَنْهُ مُتَعَنِّتٌ غَيْرُ طَالِبٍ لِلْحَقِّ. وَالَّذِي يَلِيقُ بِحَالِ فِرْعَوْنَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَنَّ كَوْنَ سُؤَالِهِ إِنْكَارًا لِأَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِينَ رَبٌّ سِوَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْلَمُ حُدُوثَهُ بَعْدَ الْعَدَمِ؟
وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْحَوَادِثِ؟ وَأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا فِي مَحَلِّ مُلْكِهِ مِصْرَ؟ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَلِكَ الْأَرْضِ؟ بَلْ كَانَ فِيهَا مُلُوكٌ غَيْرُهُ، وَأَنْبِيَاءُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ كَشُعَيْبٍ عَلَيْهِ
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٦٦.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠١.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٤٩.
149
السَّلَامُ؟ وَأَنَّهُ كَانَ مُقِرًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ؟ وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَما بَيْنَهُمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مَجْمُوعٌ اعْتِبَارًا لِلْجِنْسَيْنِ: جِنْسِ السَّمَاءِ، وَجِنْسِ الْأَرْضِ كَمَا ثَنَّى الْمَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ:
بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ اعْتِبَارًا لِلْجِنْسَيْنِ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُ قَالَ مَا قَالَ طَلَبًا لِلْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ الْآيَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَأَنَّ حَرَكَاتِهَا أَسْبَابٌ لِحُصُولِ الْحَوَادِثِ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِلَهٍ لِأَهْلِ إِقْلِيمِهِ مِنْ حَيْثُ اسْتَعْبَدَهُمْ وَمَلَكَ زِمَامَ أَمْرِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ:
كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ ذَاتَ الْإِلَهِ تُقَرَّرُ بِجَسَدِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَكُونَ الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ بِمَنْزِلَةِ رُوحِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَسَدِهِ، وَبِهَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ كَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ إِلَهًا.
انْتَهَى. وَمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ: إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْكُمُ الْإِيقَانُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ، نَفَعَكُمْ هَذَا الْجَوَابُ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفَعْكُمْ أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِشَيْءٍ قَطُّ، فَهَذَا أَوْلَى مَا تُوقِنُونَ بِهِ لِظُهُورِهِ وَإِنَارَةِ دَلِيلِهِ. وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ مِنْ فِرْعَوْنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: هُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ. قِيلَ: كَانُوا خَمْسَمِائَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِمُ الْأَسَاوِرُ، وَكَانَتْ لِلْمُلُوكِ خَاصَّةً. أَلا تَسْتَمِعُونَ: أَيْ أَلَا تُصْغُونَ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِغْرَاءً بِهِ وَتَعَجُّبًا، إِذْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَبُّهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْفَرَاعِنَةُ قَبْلَهُ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ ضَلَالَةٌ مِنْهَا فِي مِصْرَ وَدِيَارِنَا إِلَى الْيَوْمِ بَقِيَّةٌ. انْتَهَى. يُشِيرُ إِلَى مَا أَدْرَكَهُ فِي عَصْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الْعُبَيْدِيِّينَ الَّذِينَ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ تَدَّعِي فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، وَأَقَامُوا مُلُوكًا بِمِصْرَ، مِنْ زَمَانِ الْمُعِزِّ إِلَى زَمَانِ الْعَاضِدِ، إِلَى أَنْ مَحَى اللَّهُ دَوْلَتَهُمْ بِظُهُورِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَارِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَقَدْ كَانَتْ لَهُ مَآثِرُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهَا:
فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ سَوَاحِلِ الشَّامِ، كَانَ النَّصَارَى مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا، فَاسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ: نَبَّهَهُمْ على منشئهم ومنشىء آبَائِهِمْ، وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: الْأَوَّلِينَ، دَلَالَةٌ عَلَى إِمَاتَتِهِمْ بَعْدَ إِيجَادِهِمْ. وَانْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَامِّ إِلَى مَا يَخُصُّهُمْ، لِيَكُونَ أَوْضَحَ لَهُمْ فِي بَيَانِ بُطْلِ دَعْوَى فِرْعَوْنَ الْإِلَهِيَّةَ، إِذْ كَانَ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ تَقَدَّمُوا فِرْعَوْنَ فِي الْوُجُودِ، فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ فِي الْعَدَمِ إِلَهًا لَهُمْ.
150
قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: التَّعْرِيفُ بِهَذَا الْأَثَرِ أَظْهَرُ، فَلِهَذَا عَدَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَاقِلُ فِي نَفْسِهِ وَفِي آبَائِهِ كَوْنَهُمْ وَاجِبِي الْوُجُودِ لِذَوَاتِهِمْ، لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِهِمْ بَعْدَ عَدَمِهِمْ، وَعَدَمِهِمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ فِرْعَوْنُ: مَا قَالَ يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ سُؤَالِ مَا طَلَبْتَ الْمَاهِيَّةُ وَخُصُوصِيَّةُ الْحَقِيقَةِ. وَالتَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الْآثَارِ الْخَارِجِيَّةِ لَا تُفِيدُ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةَ، فَهَذَا الَّذِي يَدَّعِي الرِّسَالَةَ مَجْنُونٌ لَا يَفْهَمُ السُّؤَالَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ: فَعَدَلَ إِلَى طَرِيقٍ أَوْضَحَ مِنَ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَشْرِقِ: طُلُوعَ الشَّمْسِ وَظُهُورَ النَّهَارِ، وَأَرَادَ بِالْمَغْرِبِ: غُرُوبَ الشَّمْسِ وَزَوَالَ النَّهَارِ.
وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى الْوَجْهِ الْعَجِيبِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ نُمْرُوذَ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَا بِقَوْلِهِ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَأَجَابَهُ نُمْرُوذُ بِقَوْلِهِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «١» وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُنَا بِقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ: أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ، عَرَفْتُمْ أَنْ لَا جَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ إِلَّا مَا ذَكَرْتُ.
انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: زَادَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيَانِ الصِّفَاتِ الَّتِي تُظْهِرُ نَقْصَ فِرْعَوْنَ، وَتُبَيِّنُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ رُبُوبِيَّةُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ إِلَّا مُلْكُ مِصْرُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى أَسْوَانَ وَأَرْضُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيدٌ، وَالْأَعْرَجُ: أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، أَيْ أَرْسَلَهُ رَبُّهُ إِلَيْكُمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَعْمَشُ: رَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، عَلَى الْجَمْعِ فِيهِمَا. وَلَمَّا انْقَطَعَ فِرْعَوْنُ فِي بَابِ الِاحْتِجَاجِ، رَجَعَ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالْغَلَبِ، وَهَذَا أَبْيَنُ عَلَامَاتِ الِانْقِطَاعِ، فَتَوَعَّدَ مُوسَى بِالسِّجْنِ حِينَ أَعْيَاهُ خِطَابُهُ: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا أَجَابَ مُوسَى بِمَا أَجَابَ، عَجِبَ قَوْمُهُ مِنْ جَوَابِهِ، حَيْثُ نَسَبَ الرُّبُوبِيَّةَ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا ثَنَّى بِتَقْرِيرِ قَوْلِهِ، جَنَّنَّهُ إِلَى قَوْمِهِ وَظَنَنَّ بِهِ، حَيْثُ سَمَّاهُ رَسُولَهُمْ، فَلَمَّا ثَلَّثَ احْتَدَّ وَاحْتَدَمَ، وَقَالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: أَوَّلًا: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، وَآخِرًا: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٨.
151
قُلْتُ: لَايَنَ أَوَّلًا، فَلَمَّا رَأَى شِدَّةَ الشَّكِيمَةِ فِي الْعِنَادِ وَقِلَّةِ الْإِصْغَاءِ إِلَى عَرْضِ الْحُجَجِ، خَاشَنَ وَعَارَضَ إِنَّ رَسُولَكُمْ لَمَجْنُونٌ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. فَإِنْ قُلْتَ: أَلَمْ يَكُنْ لَأَسْجُنَنَّكَ أَخْصَرَ مِنْ لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وَمُؤَدِّيًا مُؤَدَّاهُ؟ قُلْتُ: أَمَّا أَخْصَرُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا مُؤَدِّيًا مُؤَدَّاهُ فَلَا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَأَجْعَلَنَّكَ وَاحِدًا مِمَّنْ عَرَفْتَ حَالَهُمْ فِي سُجُونِي. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ يُرِيدُ سَجْنَهُ فَيَطْرَحَهُ فِي هُوَّةٍ ذَاهِبَةٍ فِي الْأَرْضِ بَعِيدَةِ الْعُمْقِ فَرْدًا، لَا يُبْصِرُ فِيهَا وَلَا يَسْمَعُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ أَمْرِ فِرْعَوْنَ مَا لَا يَرُوعُهُ مَعَهُ تَوَعُّدُ فِرْعَوْنَ، قَالَ لَهُ عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ بِهِ وَالطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، أَيْ يُوَضِّحُ لَكَ صِدْقِي، أَفَكُنْتَ تَسْجُنُنِي؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو لو جِئْتُكَ، وَاوُ الْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، مَعْنَاهُ: أَتَفْعَلُ بِي ذَلِكَ وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْوَاوِ، وَالدَّاخِلَةُ عَلَى لَوْ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ «١»، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَاوُ الْعَطْفِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمَعْنَى: أَتَسْجُنُنِي حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ أَنْ أُسْجَنَ وَأَنَا مُتَلَبِّسٌ بِهَا؟.
وَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا مِنْ مُوسَى طَمِعَ أن يجده مَوْضِعَ مُعَارِضَةٍ فَقَالَ لَهُ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، أَنَّ لَكَ رَبًّا بَعَثَكَ رَسُولًا إِلَيْنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْمُعْجِزَةِ إِلَّا الصَّادِقُ فِي دَعْوَاهُ، لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَصْدِيقٌ مِنَ اللَّهِ لِمُدَّعِي النُّبُوَّةِ، وَالْحَكِيمُ لَا يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ مِثْلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا، وَخَفِيَ عَلَى نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، حَيْثُ جَوَّزُوا الْقَبِيحَ عَلَى اللَّهِ حَتَّى لَزِمَهُمْ تَصْدِيقُ الْكَاذِبِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأْتِ بِهِ، حُذِفَ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْيَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاكَ أَتَيْتَ بِهِ. جَعَلَ الْجَوَابَ الْمَحْذُوفَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَلَا يُقَدَّرُ إِلَّا من جنس الدليل بقولهم: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، تَقْدِيرُهُ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ فَأَنْتَ ظَالِمٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِنْ حَرْفُ شَرْطٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَجَازَ تَقْدِيمُ الْجَوَابِ، لِأَنَّ حَذْفَ الشَّرْطِ لَمْ يَعْمَلْ فِي اللَّفْظِ شَيْئًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ فَأْتِ بِهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: حَتَّى لَزِمَهُمْ تَصْدِيقُ الْكَاذِبِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ، إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى إِثْبَاتِهَا. وَالْمُعْجِزُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا كَانَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا لنبي أو
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٠.
152
فِي زَمَانِ نَبِيٍّ، إِنْ جَرَى عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَتَكُونُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْهَاصِ لنبي.
فَأَلْقى عَصاهُ: أي رَمَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالثُّعْبَانُ: أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَمَعْنَى مُبِينٌ: ظَاهِرُ الثُّعْبَانِيَّةِ، لَيْسَتْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزَوَّرُ بِالشَّعْبَذَةِ وَالسِّحْرِ. وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَإِذا هِيَ تَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الشَّمْسِ. وَمَعْنَى لِلنَّاظِرِينَ: أَيْ بَيَاضُهَا يَجْتَمِعُ النَّظَّارَةُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَادَةِ، وَكَانَ بَيَاضًا نُورَانِيًّا.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَبْصَرَ أَمْرَ الْعَصَا قَالَ: فَهَلْ غَيْرُهَا؟ فَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: يَدُكَ، فَأَدْخَلَهَا فِي إِبِطِهِ ثُمَّ نَزَعَهَا وَلَهَا شُعَاعٌ يَكَادُ يُغْشِي الْأَبْصَارَ وَيَسُدُّ الْأُفُقَ.
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ، قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ، فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ، قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَانْتَصَبَ حَوْلَهُ عَلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَائِنِينَ حَوْلَهُ، فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْحَالُ حَقِيقَةً وَالنَّاصِبُ لَهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الْعَامِلُ فِي ذِي الْحَالِ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْجَرِّ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِهِنْدٍ ضَاحِكَةً. وَالْكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَ الْمَلَأَ مَوْصُولًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قَالَ لِلَّذِي حَوْلَهُ، فَلَا مَوْضِعَ لِلْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ صِلَةً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْعَامِلُ فِي حَوْلَهُ؟ قُلْتُ: هُوَ مَنْصُوبٌ نَصْبَيْنِ: نَصْبٌ فِي اللَّفْظِ، وَنَصْبٌ فِي الْمَحَلِّ. فَالْعَامِلُ فِي النَّصْبِ اللَّفْظِيِّ مَا يُقَدَّرُ فِي الظَّرْفِ، وَذَلِكَ اسْتَقَرُّوا حَوْلَهُ، وَهَذَا يُقَدَّرُ فِي جَمِيعِ الظُّرُوفِ، وَالْعَامِلُ فِي النَّصْبِ الْمَحَلِّيِّ، وَهُوَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ وَشَقْشَقَةُ كَلَامٍ فِي أَمْرٍ وَاضِحٍ مِنْ أَوَائِلِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.
153
وَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ أَمْرَ الْعَصَا وَالْيَدِ، وَمَا ظَهَرَ فِيهِمَا مِنَ الْآيَاتِ، هَالَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مَدْفَعٌ فَزِعَ إِلَى رَمْيِهِ بِالسِّحْرِ. وَطَمِعَ لِغَلَبَةِ عِلْمِ السِّحْرِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ يُقَاوِمُهُ، أَوْ كَانَ عَلِمَ صِحَّةَ الْمُعْجِزَةِ. وَعَمَّى تِلْكَ الْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، بِرَمْيِهِ بِالسِّحْرِ، وَبِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، لِيَقْوَى تَنْفِيرُهُمْ عَنْهُ، وَابْتِغَاؤُهُمُ الْغَوَائِلَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَقْبَلُوا قَوْلَهُ إِذْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ عَلَى النُّفُوسِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّذِي نشأوا فِيهِ، ثُمَّ اسْتَأْمَرَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ مَعَهُ، وَذَلِكَ لِمَا حَلَّ بِهِ مِنَ التَّحَيُّرِ وَالدَّهَشِ وَانْحِطَاطِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ أُلُوهِيَّتِهِ إِلَى أَنْ صَارَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي أَمْرِهِ، فَيَأْمُرُونَهُ بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ فِيهِ، فَصَارَ مَأْمُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَ آمِرًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ في فَماذا تَأْمُرُونَ وَفِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَافَقَتْ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَلَمَّا قَالَ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، عَارَضُوا بِقَوْلِهِ: بِكُلِّ سَحَّارٍ، فَجَاءُوا بِكَلِمَةِ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْبِنَاءِ الَّذِي لِلْمُبَالَغَةِ، لِيُنَفِّسُوا عَنْهُ بَعْضَ مَا لَحِقَهُ مِنَ الْكَرْبِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: بِكُلِّ سَاحِرٍ. وَالْيَوْمُ الْمَعْلُومُ: يَوْمُ الزِّينَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ طه. وَقَوْلُهُ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، اسْتِبْطَاءٌ لَهُمْ فِي الِاجْتِمَاعِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِعْجَالُهُمْ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغُلَامِهِ: هَلْ أَنْتَ مُنْطَلِقٌ؟ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَ مِنْهُ وَيَحُثَّهُ عَلَى الِانْطِلَاقِ، كَمَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ قَدِ انْطَلَقُوا وَهُوَ وَاقِفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:
هَلْ أَنْتَ بَاعِثٌ دِينَارًا لِحَاجَتِنَا أو عند رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ
يُرِيدُ: ابْعَثْهُ إِلَيْنَا سَرِيعًا وَلَا تُبْطِئُ بِهِ. وَتَرَجَّوُا اتِّبَاعَ السَّحَرَةِ، أَيْ فِي دِينِهِمْ، إِنْ غَلَبُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَتَّبِعُونَ مُوسَى فِي دِينِهِ. وَسَاقُوا الْكَلَامَ سِيَاقَ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اتَّبَعُوهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَخَلَتْ إِذَا هُنَا بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، وَهِيَ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ. وبِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلْقَسَمِ، وَالَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ مَحْذُوفٌ، وَعَدَلُوا عَنِ الْخِطَابِ إِلَى اسْمِ الْغَيْبَةِ تَعْظِيمًا، كَمَا يُقَالُ لِلْمُلُوكِ: أَمَرُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِكَذَا، فَيُخْبِرُ عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ، وَهَذَا مِنْ نَوْعِ إِيمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ سَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِيمَانِ مَا هُوَ أَشْنَعُ مِنْ إِيمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَرْضَوْنَ بِالْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَلَا يَعْتَدُّونَ بِهِ حَتَّى يَحْلِفَ أَحَدُهُمْ بِنِعْمَةِ السُّلْطَانِ وَبِرَأْسِ الْمُحَلِّفِ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَوْثَقُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَسَمٌ قَالَ: وَالْأَجْرُ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ، إِذْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ كَمَا تَقُولُ إِذَا ابْتَدَأْتَ بِعَمَلِ شَيْءٍ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَنَحْوَ هَذَا. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قالَ لَهُمْ مُوسى، وَقَوْلُهُ: لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، كَلَامٌ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الْأَعْرَافِ مِنْ تَخْيِيرِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْبَدَاءَةِ مَنْ يُلْقِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَاعِلُ الْإِلْقَاءِ مَا هُوَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ؟
154
قُلْتُ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بِمَا خَوَّلَهُمْ مِنَ التَّوْفِيقِ وَإِيمَانِهِمْ، أَوْ بِمَا عَايَنُوا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَكَ أَنْ لَا تُقَدِّرَ فَاعِلًا، لِأَنَّ أَلْقَوْا بِمَعْنَى خَرُّوا وَسَقَطُوا. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبْنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ إِلَّا وَقَدْ حُذِفَ الْفَاعِلُ فَنَابَ ذَلِكَ عَنْهُ، أَمَّا أَنَّهُ لَا يُقَدَّرُ فَاعِلٌ، فَقَوْلٌ ذَاهِبٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأَ الْبَزِّيُّ، وَابْنُ فُلَيْحٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِشَدِّ التَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَشَدِّ الْقَافِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذَا ابْتَدَأَ أَنْ يَحْذِفَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ، وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ، كَمَا لَا تَدْخُلُ عَلَى أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ. انْتَهَى. كَأَنَّهُ يُخَيَّلُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِالْكَلِمَةِ إِلَّا بِاجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الْوَصْلُ مُخَالِفًا لِلْوَقْفِ، وَالْوَقْفُ مُخَالِفًا لِلْوَصْلِ، وَمَنْ لَهُ تَمَرُّنٌ في القراآت عَرَفَ ذَلِكَ.
قالُوا: لَا ضَيْرَ: أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِي وُقُوعِ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالتَّصْلِيبِ، بَلْ لَنَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ التَّامَّةُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. يُقَالُ: ضَارَهُ يَضِيرُهُ ضَيْرًا، وَضَارَهُ يَضُورُهُ ضَوْرًا. إِنَّا إِلى رَبِّنا: أَيْ إِلَى عَظِيمِ ثَوَابِهِ، أَوْ: لَا ضَيْرَ عَلَيْنَا، إِذِ انْقِلَابُنَا إِلَى اللَّهِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَالْقَتْلُ أَهْوَنُ أَسْبَابِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا آمَنُوا بِأَجْمَعِهِمْ، لَمْ يَأْمَنْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَقُولَ قَوْمُهُ لَمْ تُؤْمِنِ السَّحَرَةُ عَلَى كَثْرَتِهِمْ إِلَّا عَنْ مَعْرِفَةٍ بِصِحَّةِ أَمْرِ مُوسَى فَيُؤْمِنُونَ، فَبَالَغَ فِي التَّنْفِيرِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ مُوهِمًا أَنَّ مُسَارَعَتَهُمْ لِلْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى مَيْلِهِمْ إِلَيْهِ قَبْلُ. وَبِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ، صَرَّحَ بِمَا رَمَزَهُ أَوَّلًا مِنْ مُوَاطَأَتِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ لِيَظْهَرَ أَمْرُ كَبِيرِهِمْ، وَبِقَوْلِهِ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، حَيْثُ أَوْعَدَهُمْ وَعِيدًا مُطْلَقًا، وَبِتَصْرِيحِهِ بِمَا هَدَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَأَجَابُوا بِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ وَقَعَ، لَنْ يُضِيرَ، وَفِي قولهم: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، نُكْتَةٌ شَرِيفَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا لَا رَغْبَةً وَلَا رَهْبَةً، إِنَّمَا قَصَدُوا مَحْضَ الْوُصُولِ إِلَى مِرْضَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَيَدْفَعُ هَذَا الْأَخِيرَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا نَطْمَعُ إِلَى آخِرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا من خَوْفِ تَبِعَاتِ الْخَطَايَا. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ الطَّمَعِ عَلَى بَابِهِ كَقَوْلِهِ: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ «١». وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ الْيَقِينُ. قِيلَ: كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ «٢».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ كُنَّا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِيهِ الْجَزْمُ بِإِيمَانِهِمْ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، وَأَبُو مُعَاذٍ: إِنْ كُنَّا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى الشَّرْطِ: وَجَازَ حَذْفُ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٨٤.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٨٢.
155
الْفَاءِ مِنَ الْجَوَابِ، لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّا نَطْمَعُ، وَحَسُنَ الشَّرْطُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَحَقَّقُوا مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ قَبُولِ الْإِيمَانِ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبِي زَيْدٍ وَالْمُبَرِّدِ، حَيْثُ يُجِيزُونَ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَجَوَابُ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِنْ الشَّرْطِ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ الْمَدْلُولُ بِأَمْرِهِ الْمُتَحَقِّقِ لِصِحَّتِهِ، وَهُمْ كَانُوا مُتَحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْعَامِلِ لِمَنْ يُؤَخِّرُ. جُعْلَهُ إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ فَوَفِّنِي حَقِّي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي «١»، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَعْنَى: أَنَّ طَمَعَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِهَذَا الشَّرْطِ.
انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَجَازَ حَذْفُ اللَّامِ الْفَارِقَةِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَلَا يُحْتَمَلُ النَّفْيُ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنَّا لَأَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَجَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْعَسَلَ»
، أَيْ لَيُحِبُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَنَحْنُ أُبَاةُ الضَّيْمِ مِنْ آلِ مالك وإن مالك كانت كِرَامَ الْمَعَادِنِ
أَيْ: وَإِنَّ مَالِكَ لَكَانَتْ كِرَامَ الْمَعَادِنِ، وأول يَعْنِي أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْقِبْطِ، أَوْ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَاضِرِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانُوا أَوَّلَ جَمَاعَةٍ مُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ إِيمَانِ السَّحَرَةِ.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ، فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ، فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَسْرِ، وأنه قرىء بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَبِقَطْعِهَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: أَنْ سِرْ، أَمْرٌ مِنْ سَارَ يَسِيرُ.
أَمَرَ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ إِلَى تُجَاهِ الْبَحْرِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ سَيُتَّبَعُونَ. فَخَرَجَ سَحَرًا، جَاعِلًا طَرِيقَ الشَّامِ عَلَى يَسَارِهِ، وَتَوَجَّهَ نحو
(١) سورة الممتحنة: ٦٠/ ١.
156
الْبَحْرِ، فَيُقَالُ لَهُ فِي تَرْكِ الطَّرِيقِ، فَيَقُولُ: هَكَذَا أُمِرْتُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ، عَلِمَ فِرْعَوْنُ بِسُرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى مَدَائِنِ مِصْرَ ليحلقه الْعَسَاكِرُ.
وَذَكَرُوا أَعْدَادًا فِي أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ:
أَيْ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ وَصَفَهُمْ بِالْقِلَّةِ، ثُمَّ جَمَعَ الْقَلِيلَ فَجَعَلَ كُلَّ حِزْبٍ قَلِيلًا، جَمْعَ السَّلَامَةِ الَّذِي هُوَ لِلْقِلَّةِ، وَقَدْ يُجْمَعُ الْقَلِيلُ عَلَى أَقِلَّةٍ وَقِلَلٍ، وَالظَّاهِرُ تَقْلِيلُ الْعَدَدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْقِلَّةِ: الذِّلَّةَ وَالْقَمَاءَةَ، وَلَا يُرِيدُ قِلَّةَ الْعَدَدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِقِلَّتِهِمْ لَا يُبَالِي بِهِمْ وَلَا تُتَوَقَّعُ غَفْلَتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ أَفْعَالًا تَغِيظُنَا وَتَضِيقُ صُدُورُنَا، وَنَحْنُ قَوْمٌ مِنْ عَادَتِنَا التَّيَقُّظُ وَالْحَذَرُ وَاسْتِعْمَالُ الْحَزْمِ فِي الْأُمُورِ، فَإِذَا خَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ سَارَعْنَا إِلَى حَسْمِ يَسَارِهِ، وَهَذِهِ مَعَاذِيرُ اعْتَذَرَ بِهَا إِلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ، لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ مَا يَكْسِرُ مِنْ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. انْتَهَى.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَقَرَأَ مَنْ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ: لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مَوْقُوفَةً. انْتَهَى.
يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى أَحَدٍ رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
لَغائِظُونَ: أَيْ بِخِلَافِهِمْ وَأَخْذِهِمُ الْأَمْوَالَ حِينَ اسْتَعَارُوهَا وَلَمْ يَرُدُّوهَا، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: حاذِرُونَ، بِالْأَلِفِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ أَخَذَ يَحْذَرُ وَيُجَدِّدُ حَذَرَهُ، وَحَذَرَ مُتَعَدٍّ. قَالَ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ «١». وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
وَإِنِّيَ حَاذِرٌ أُنْمِي سِلَاحِي إِلَى أَوْصَالِ ذَيَّالٍ صَنِيعِ
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُوَ الْمُتَيَقِّظُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُؤَدُّونَ، أَيْ ذَوُو أَدَوَاتٍ وَسِلَاحٍ، أَيْ مُتَسَلِّحِينَ. وَقِيلَ: حَذِرُونَ فِي الْحَالِ، وَحَاذِرُونَ فِي الْمَآلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْحَاذِرُ: الْخَائِفُ مَا يَرَى، وَالْحَذِرُ: الْمَخْلُوقُ حَذَرًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَجُلٌ حَذِرٌ وَحَذُرٌ وَحَاذِرٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ حَذِرًا يَكُونُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَنَّهُ يَعْمَلُ كَمَا يَعْمَلُ حَاذِرٌ، فَيَنْصِبُ الْمَفْعُولَ بِهِ، وَأَنْشَدَ:
حَذِرٌ أُمُورًا لَا تُضِيرُ وَآمِنٌ مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الْأَقْدَارِ
وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَالْكِسَائِيِّ:
رَجُلٌ حَذِرٌ، إِذَا كَانَ الْحَذَرُ فِي خِلْقَتِهِ، فَهُوَ مُتَيَقِّظٌ مُنْتَبِهٌ. وَقَرَأَ سُمَيْطُ بْنُ عَجْلَانَ، وَابْنُ أبي
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٩.
157
عَمَّارٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: حَادِرُونَ، بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَيْنٌ حَدِرَةٌ، أَيْ عَظِيمَةٌ، وَالْحَادِرُ: الْمُتَوَرِّمُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْمَعْنَى مُمْتَلِئُونَ غَيْظًا وَأَنَفَةً. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ:
الْحَادِرُ: السَّمِينُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ، يُقَالُ غُلَامٌ حَدِرٌ بَدِرٌ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: حَدِرَ الرَّجُلُ: قَوِيَ بَأْسُهُ، يُقَالُ: مِنْهُ رَجُلٌ حَدِرٌ بَدِرٌ، إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْبَأْسِ فِي الْحَرْبِ، وَيُقَالُ:
رَجُلٌ حَدُرٌ، بِضَمِّ الدَّالِ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلَ يَقُظٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أُحِبُّ الصَّبِيَّ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّهِ وَأُبْغِضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهُوَ حَادِرُ
أَيْ سَمِينٌ قَوِيٌّ. وَقِيلَ: مُدَجَّجُونَ في السلام. فَأَخْرَجْناهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقِبْطُ. مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ: بِحَافَّتَيِ النِّيلِ مِنْ أَسْوَانَ إِلَى رَشِيدَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهَا عُيُونُ الْمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ عُيُونُ الذَّهَبِ. وَكُنُوزٍ: هِيَ الْأَمْوَالُ الَّتِي خَرَّبُوهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهَا كُنُوزًا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ قَطُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْكُنُوزُ: الْأَنْهَارُ. قَالَ صَاحِبُ التَّحْبِيرِ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعُيُونَ تَشْمَلُهُمَا.
وَقِيلَ: هِيَ كُنُوزُ الْمُقَطَّمِ وَمَطَالِبُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ. انْتَهَى.
وَأَهْلُ مِصْرَ فِي زَمَانِنَا فِي غَايَةِ الطَّلَبِ لِهَذِهِ الْكُنُوزِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا مَدْفُونَةٌ فِي الْمُقَطَّمِ، فَيُنْفِقُونَ عَلَى حَفْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي الْمُقَطَّمِ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَيَبْلُغُونَ فِي الْعُمْقِ إِلَى أَقْصَى غَايَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ إِلَّا التُّرَابُ أَوْ حَجَرُ الْكَذَّانِ الَّذِي الْمُقَطَّمُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ، وَأَيُّ مَغْرِبِيٍّ يَرِدُ عَلَيْهِمْ سَأَلُوهُ عَنْ عِلْمِ الْمَطَالِبِ. فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَضَعُ فِي ذَلِكَ أَوْرَاقًا لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْمِصْرِيِّينَ بِالْبَاطِلِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَذْهَبُ مَالُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَفْتَقِرَ، وَهُوَ لَا يَزْدَادُ إِلَّا طَلَبًا لِذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَدْ أَقَمْتُ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ إِلَى حِينِ كِتَابَةِ هَذِهِ الْأَسْطُرِ، نَحْوًا مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا، فَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ حَصَلَ عَلَى شَيْءٍ غَيْرَ الْفَقْرِ وَكَذَلِكَ رَأْيُهُمْ فِي تَغْوِيرِ الْمَاءِ. يَزْعُمُونَ أَنَّ ثَمَّ آبَارًا، وَأَنَّهُ يُكْتَبُ أَسْمَاءٌ فِي شَقْفَةٍ، فَتُلْقَى فِي الْبِئْرِ، فَيَغُورُ الْمَاءُ وَيَنْزِلُ إِلَى بَابٍ فِي الْبِئْرِ، يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى قَاعَةٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَجَوْهَرًا وَيَاقُوتًا. فَهُمْ دَائِمًا يَسْأَلُونَ مَنْ يَرِدُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ عَمَّنْ يَحْفَظُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تُكْتَبُ فِي الشَّقْفَةِ، فَيَأْخُذُ شَيَاطِينُ الْمَغَارِبَةِ مِنْهُمْ مَالًا جَزِيلًا، وَيَسْتَأْكِلُونَهُمْ، وَلَا يَحْصُلُونَ عَلَى شَيْءٍ غَيْرَ ذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُمْ أَشْيَاءُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ، يَرْكَنُونَ إِلَيْهَا وَيَقُولُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ لِمَنْ يَعْقِلُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَقامٍ كَرِيمٍ. قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: هُوَ الْفَيُّومُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والضحاك: هُوَ الْمَنَابِرُ لِلْخُطَبَاءِ. وَقِيلَ: الْأَسِرَّةُ فِي الْكَلَلِ. وَقِيلَ: مَجَالِسُ الْأُمَرَاءِ
158
وَالْأَشْرَافِ وَالْحُكَّامِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْمَسَاكِنُ الْحِسَانُ. وَقِيلَ: مَرَابِطُ الْخَيْلِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ: وَمُقَامٍ، بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَقَامَ كَذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: النَّصْبَ عَلَى أَخْرَجْنَاهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَالْجَرَّ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَقَامٍ، أَيْ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. انْتَهَى. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ لَا يسوغ، لأنه يؤول إِلَى تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي، لِأَنَّ المقام الذي كان لهم هُوَ الْمَقَامُ الْكَرِيمُ، وَلَا يُشَبَّهُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ، أَنَّهُمْ مَلَكُوا دِيَارَ مِصْرَ بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّهُ اعْتَقَبَ قَوْلَهُ: وَأَوْرَثْناها: قوله: وفَأَخْرَجْناهُمْ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ قَالَ: كَمَا عَبَرُوا النَّهْرَ، رَجَعُوا وَوَرِثُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَقِيلَ: ذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ وَمَلَكُوا مِصْرَ زَمَنَ سُلَيْمَانَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَتْبَعُوهُمْ: أَيْ فَلَحِقُوهُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالذِّمَارِيُّ:
فَاتَّبَعُوهُمْ، بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَشَدِّ التَّاءِ. مُشْرِقِينَ: دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ، مِنْ شَرَقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا، إِذَا طَلَعَتْ، كَأَصْبَحَ: دَخَلَ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ، وَأَمْسَى: دَخَلَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَاتَّبَعُوهُمْ نَحْوَ الشَّرْقِ، كَأَنْجَدَ: إِذَا قَصَدَ نَحْوَ نَجْدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُشْرِقِينَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ. وَقِيلَ: مُشْرِقِينَ: أَيْ فِي ضِيَاءٍ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي ضَبَابٍ وَظُلْمَةٍ، تَحَيَّرُوا فِيهَا حَتَّى جَاوَزَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُشْرِقِينَ حَالًا من المفعول.
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ: أَيْ رَأَى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ: أَيْ مُلْحَقُونَ، قَالُوا ذَلِكَ حِينَ رَأَوُا الْعَدُوَّ الْقَوِيَّ وَرَاءَهُمْ وَالْبَحْرَ أَمَامَهُمْ، وَسَاءَتْ ظُنُونُهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَابْنُ وَثَّابٍ: تَرَايَ الْجَمْعَانِ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، عَلَى مَذْهَبِ التَّخْفِيفِ بَيْنَ بَيْنَ، وَلَا يَصِحُّ الْقَلْبُ لِوُقُوعِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ أَلِفَيْنِ، إِحْدَاهُمَا أَلِفُ تَفَاعَلَ الزَّائِدَةُ بَعْدَ الْفَاءِ، وَالثَّانِيَةُ اللَّامُ الْمُعْتَلَّةُ مِنَ الْفِعْلِ. فَلَوْ خُفِّفَتْ بِالْقَلْبِ لَاجْتَمَعَ ثَلَاثُ أَلِفَاتٍ مُتَّسِقَةٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَبَدًا، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ حَمْزَةُ: تَرِيءَ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَمُدُّ ثُمَّ يَهْمِزُ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مفتوحا ممدود، أو الجمهور يقرؤونه مِثْلَ تَرَاعَى، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّهُ تَفَاعَلَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ هَذَا الْحَرْفَ مُحَالٌ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ وثاب والأعمش خَطَأٌ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ ابْنُ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ الْأَنْصَارِيُّ،
159
هُوَ ابْنُ الْبَاذِشِ، فِي كِتَابِ الْإِقْنَاعِ مِنْ تَأْلِيفِهِ: تَرَاءَى الْجَمْعَانِ فِي الشُّعَرَاءِ. إِذَا وَقَفَ عَلَيْهَا حَمْزَةُ والكسائي، أما لا الْأَلِفَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنْ لَامِ الْفِعْلِ، وَحَمْزَةُ يُمِيلُ أَلِفَ تَفَاعَلَ وَصْلًا وَوَقْفًا لِإِمَالَةِ الْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ فَفِي قِرَاءَتِهِ إِمَالَةُ الْإِمَالَةِ. وَفِي هَذَا الْفِعْلِ، وَفِي رَاءَى، إِذَا اسْتَقْبَلَهُ أَلِفُ وَصْلٍ لِمَنْ أَمَالَ لِلْإِمَالَةِ، حَذْفُ السَّبَبِ وَإِبْقَاءُ الْمُسَبَّبِ، كَمَا قَالُوا: صَعْقِيٌّ فِي النَّسَبِ إِلَى الصَّعْقِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمُدْرَكُونَ، بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَالْأَعْرَجُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ:
بِفَتْحِ الدَّالِ مُشَدِّدَةً وَكَسْرِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ مُفْتَعِلُونَ، وَهُوَ لَازِمٌ، بِمَعْنَى الْفَنَاءِ وَالِاضْمِحْلَالِ. يُقَالُ: مِنْهُ ادَّرَكَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ، إِذَا فَنِيَ تَتَابُعًا، وَلِذَلِكَ كُسِرَتِ الرَّاءُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، نَصَّ عَلَى كَسْرِهَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّوَامِحِ)، وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي (كَشَّافِهِ) وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَقَدْ يَكُونُ ادَّرَكَ عَلَى افْتَعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ مُتَعَدِّيًا، فَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مِنْ ذَلِكَ، لَوَجَبَ فَتْحُ الرَّاءِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمَا، يَعْنِي عَنِ الْأَعْرَجِ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى إِنَّا لَمُتَتَابِعُونَ فِي الْهَلَاكِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ:
أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا أَرْجَى الْحَيَاةَ أَمْ مِنَ الْمَوْتِ أَجْزَعُ
قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ: زَجَرَهُمْ وَرَدَعَهُمْ بِحَرْفِ الرَّدْعِ وَهُوَ كَلَّا، وَالْمَعْنَى: لَنْ يُدْرِكُوكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْخَلَاصِ مِنْهُمْ، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ عَنْ قَرِيبٍ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ وَيُعَرِّفُنِيهِ.
وَقِيلَ: سَيَكْفِينِي أَمْرَهُمْ. وَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى الْبَحْرِ، قَالَ لَهُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْ مُوسَى: أَيْنَ أُمِرْتَ، وَهَذَا الْبَحْرُ أمامك وقد غشيتك آلُ فِرْعَوْنَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِالْبَحْرِ، وَلَا يَدْرِي مُوسَى مَا يَصْنَعُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ عَنْ يُوشَعَ، قَالَهَا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَخَاضَ يُوشَعُ الْمَاءَ. وَضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ، فَصَارَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ.
أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةً بِمُوسَى وَمُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ إِذْ ضَرْبُ الْبَحْرِ بِالْعَصَا لَا يُوجِبُ انْفِلَاقَ الْبَحْرِ بِذَاتِهِ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لَفَلَقَهُ دُونَ ضَرْبِهِ بِالْعَصَا، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مَكَانِ هَذَا الْبَحْرِ.
فَانْفَلَقَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَزَعَمَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ ضَرْبٌ، وَفَاءُ انْفَلَقَ. وَالْفَاءُ فِي انْفَلَقَ هِيَ فَاءُ ضَرَبَ، فَأُبْقِيَ مِنْ كُلٍّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، أُبْقِيَتِ الْفَاءُ مِنْ فَضَرَبَ وَاتَّصَلَتْ بِانْفَلَقَ، لِيَدُلَّ عَلَى ضَرَبَ الْمَحْذُوفَةِ، وَأُبْقِيَ انْفَلَقَ لِيَدُلَّ عَلَى الْفَاءِ الْمَحْذُوفَةِ مِنْهُ. وَهَذَا قَوْلٌ شَبِيهٌ بِقَوْلِ صَاحِبِ
160
الْبِرْسَامِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى وَحْيٍ بسفر عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِذَا نَظَرْتَ الْقُرْآنَ وَجَدْتَ جُمَلًا كَثِيرَةً مَحْذُوفَةً، وَفِيهَا الْفَاءُ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ «١»، أَيْ فَأَرْسَلُوهُ، فَقَالَ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، والفرق الجزء المنفصل. وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ الْعَظِيمُ الْمُنْطَادُ فِي السَّمَاءِ.
وَحَكَى يَعْقُوبُ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ، أَنَّهُ قَرَأَ كُلُّ فَلْقٍ بِاللَّامِ عِوَضَ الرَّاءِ.
وَأَزْلَفْنا: أَيْ قَرَّبْنَا، ثَمَّ: أَيْ هُنَاكَ، وَثَمَّ ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبُعْدِ. الْآخَرِينَ:
أَيْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، أَيْ قَرَّبْنَاهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ قُرِّبُوا مِنْهُ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَرَّبْنَاهُمْ حَيْثُ انْفَلَقَ الْبَحْرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ قَرَّبْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَنْجُوَ أَحَدٌ، أَوْ قَرَّبْنَاهُمْ مِنَ الْبَحْرِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ: وَزَلَّفْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ: وَأَزْلَقْنَا بِالْقَافِ عِوَضَ الْفَاءِ، أَيْ أَزَلَلْنَا، قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. قِيلَ:
مَنْ قَرَأَ بِالْقَافِ صَارَ الْآخَرِينَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْعَامَّةِ يَعْنِي بِالْقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، فَالْآخَرُونَ هُمْ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ، أَيْ جَمَعْنَا شَمْلَهُمْ وَقَرَّبْنَاهُمْ بِالنَّجَاةِ. انْتَهَى، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَدَخَلَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ وَأَنْجَيْنَا. قِيلَ: دَخَلُوا الْبَحْرَ بِالطُّولِ، وَخَرَجُوا في الصفة الَّتِي دَخَلُوا مِنْهَا بَعْدَ مَسَافَةٍ، وَكَانَ بَيْنَ مَوْضِعِ الدُّخُولِ وَمَوْضِعِ الْخُرُوجِ أَوْعَارٌ وَجِبَالٌ لَا تُسْلَكُ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً: أَيْ لَعَلَامَةً وَاضِحَةً عَايَنَهَا النَّاسُ وَشَاعَ أَمْرُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: أَيْ مَا تَنَبَّهَ أَكْثَرُهُمْ عَلَيْهَا وَلَا آمَنُوا. وَبَنُو إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ مُوسَى الْمَخْصُوصِينَ بِالْإِنْجَاءِ، قَدْ سَأَلُوهُ بَقَرَةً يَعْبُدُونَهَا، وَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ، وَطَلَبُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: أَيْ أَكْثَرُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُمُ الْقِبْطُ، إِذْ قَدْ آمَنَ السَّحَرَةُ، وَآمَنَتْ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَعَجُوزٌ اسْمُهَا مَرْيَمُ، دَلَّتْ مُوسَى عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتَخْرَجُوهُ وَحَمَلُوهُ مَعَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ، قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ، قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٤٥- ٤٦.
161
يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ، فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
لَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ لَهَا خُصُوصِيَّةٌ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمْ قَصَصَهُ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ. وَلَمْ يَأْتِ فِي قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتِلَاوَةِ قِصَّةٍ إِلَّا فِي هَذِهِ، وَإِذِ: الْعَامِلُ فِيهِ. قَالَ الْحَوْفَيُّ: اتْلُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مَا قَالَ إِلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَجَعْلِهِ بَدَلًا مِنْ نَبَأَ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ وَاحِدٌ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِي إِذْ نَبَأَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَقَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَقِيلَ: عَلَى أَبِيهِ، أَيْ وَقَوْمِ أَبِيهِ، كَمَا قَالَ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «١». وَمَا:
اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّحْقِيرِ وَالتَّقْرِيرِ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ، وَلَكِنْ سَأَلَهُمْ لِيُرِيَهُمْ أَنَّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى جَوَابِهِمْ مِنْ أَوْصَافِ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي هِيَ مُنَافِيَةٌ لِلْعِبَادَةِ. وَلِمَا سَأَلَهُمْ عَنِ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذِكْرِهِ فَقَطْ، بَلْ أَجَابُوا بِالْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ تَمَامِ صِفَتِهِمْ مَعَ مَعْبُودِهِمْ، فَقَالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ: عَلَى سَبِيلِ الِابْتِهَاجِ وَالِافْتِخَارِ، فَأَتَوْا بِقِصَّتِهِمْ مَعَهُمْ كَامِلَةً، وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنْ يُجِيبُوا بِقَوْلِهِمْ: أَصْنَامًا، كَمَا جَاءَ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً «٢»، وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «٣»، وَلِذَلِكَ عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ قَوْلَهُمْ: فَنَظَلُّ. قَالَ: كَمَا تَقُولُ لِرَئِيسٍ: مَا تَلْبَسُ؟ فَقَالَ: أَلْبَسُ مُطْرَفَ الْخَزِّ فَأَجُرُّ ذُيُولَهُ، يُرِيدُ الْجَوَابَ: وَحَالُهُ مَعَ مَلْبُوسِهِ. وقالوا: فنظل، لأنهم كانو يَعْبُدُونَهُمْ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ. وَلَمَّا أَجَابُوا إِبْرَاهِيمَ، أَخَذَ يُوقِفَهُمْ عَلَى قِلَّةِ عُقُولِهِمْ، بِاسْتِفْهَامِهِ عَنْ أَوْصَافٍ مَسْلُوبَةٍ عَنْهُمْ لَا يَكُونُ ثُبُوتُهَا إلا لله تعالى.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٧٤.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٣٠.
(٣) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢/ ٢١٩.
162
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْمَعُونَكُمْ، مِنْ سَمِعَ وَسَمِعَ إِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَسْمُوعٍ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ، نَحْوُ: سَمِعْتُ كَلَامَ زِيدٍ، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى غَيْرِ مسموع، فمذهب الْفَارِسِيُّ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَشَرْطُ الثَّانِي مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُسْمَعُ، نَحْوَ: سَمِعْتُ زَيْدًا يَقْرَأُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ الْفِعْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَهُنَا لَمْ تَدْخُلْ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ، فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ، تَدْعُونَ؟ وَقِيلَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ بِمَعْنَى: يُجِيبُونَكُمْ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَسْمَعَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْجَوَابَ، أَوِ الْكَلَامَ. وَإِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى، فَإِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ فِيهِ فَيَكُونَ بِمَعْنَى إِذَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي الْمُضَارِعِ فَيَكُونَ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: هَلْ سَمِعُوكُمْ إِذْ دَعَوْتُمْ؟ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ مِنْ قَرَائِنِ صَرْفِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي إِضَافَةَ إِذْ إِلَى جُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِالْمُضَارِعِ، وَمَثَّلُوا بِقَوْلِهِ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ «١»، أَيْ وَإِذْ قُلْتَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجَاءَ مُضَارِعًا مَعَ إِيقَاعِهِ فِي إِذْ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَدَّعُونَهَا فِيهَا، وَقُولُوا: هَلْ سَمِعُوا، أَوِ أَسْمَعُوا قَطُّ؟ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّبْكِيتِ. انتهى. وقرىء: بِإِظْهَارِ ذَالِ إِذْ وَبِإِدْغَامِهَا فِي تَاءِ تَدْعُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ فِيهِ قِيَاسٌ مُذَكَّرٌ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِهِ، إِذْ ددعون. فَالَّذِي مَنَعَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اتِّصَالُ الدَّالِ الْأَصْلِيَّةِ فِي الْفِعْلِ، فَكَثْرَةُ الْمُتَمَاثِلَاتِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ قِيَاسٌ مُذَكَّرٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِبْدَالَ، وَهُوَ إِبْدَالُ التَّاءِ دَالًا، لَا يَكُونُ إِلَّا فِي افْتَعَلَ، مِمَّا فَاؤُهُ ذَالٌ أَوْ زَايٌ أَوْ دَالٌ، نَحْوَ: اذْدَكَرَ، وَازْدَجَرَ، وَادَّهَنَ، أَصْلُهُ: اذْتَكَرَ، وَازْتَجَرَ، وَادْتَهَنَ أَوْ جِيمٌ شذوذ، قالوا:
أجد مع فِي اجْتَمَعَ، وَمِنْ تَاءِ الضَّمِيرِ بَعْدَ الزَّايِ وَالدَّالِ، وَمَثَّلُوا بِتَاءِ الضَّمِيرِ لِلْمُتَكَلِّمِ فَقَالُوا فِي فُزْتُ: فُزْدُ، وَفِي جَلَدْتُ: جَلَدُّ، وَمِنْ تَاءِ تُولِجُ شُذُوذًا قَالُوا: دُولِجُ، وَتَاءُ الْمُضَارَعَةِ لَيْسَتْ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَا تُبْدَلُ تَاؤُهُ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي مَنَعَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى آخِرِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ إِبْدَالُ تَاءِ، الْمُضَارَعَةِ دَالًا وَإِدْغَامُ الذَّالِ فيها، فكنت تقول: إذ تخرج: ادَّخْرَجَ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، بَلْ إِذَا أُدْغِمَ مِثْلُ هَذَا أُبْدِلَ مِنَ الذَّالِ تَاءٌ وَأُدْغِمَ فِي التَّاءِ، فَتَقُولُ: اتَّخْرَجَ.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بِتَقَرُّبِكُمْ إِلَيْهِمْ وَدُعَائِكُمْ إِيَّاهُمْ. أَوْ يَضُرُّونَ بِتَرْكِ عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُمْ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَعُوا وَلَمْ يَضُرُّوا، فَمَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمْ لَهَا؟ قالُوا بَلْ وَجَدْنا هَذِهِ حَيْدَةٌ عن جواب
(١) سورة المنافقون: ٦٣/ ٤. [.....]
163
الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: يَسْمَعُونَنَا وَيَنْفَعُونَنَا وَيَضُرُّونَنَا، فَضَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكَذِبِ الَّذِي لَا يُمْتَرَى فِيهِ، وَلَوْ قَالُوا: يَسْمَعُونَنَا وَلَا يَضُرُّونَنَا، أَسْجَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْخَطَأِ الْمَحْضِ، فعدلوا إلى التقليد البحث لِآبَائِهِمْ فِي عِبَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيفعلون، أَيْ يَفْعَلُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ تِلْكَ الْأَصْنَامَ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ، وَهُوَ عِبَادَتُهُمْ وَالْحَيْدَةُ عَنِ الْجَوَابِ مِنْ عَلَامَاتِ انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ. وَبَلْ هُنَا إِضْرَابٌ عَنْ جَوَابِهِ لَمَّا سَأَلَ وَأَخَذَ فِي شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْهُ انْقِطَاعًا وَإِقْرَارًا بِالْعَجْزِ.
وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ: وَصَفَهُمْ بالأقدمين دلالة على ما تَقَادُمِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فِيهِمْ، وَإِذْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوهَا فِي زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَزَمَانِ مَنْ بَعْدَهُ؟ وَعَدُوٌّ: يَكُونُ لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، كَمَا قَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، قِيلَ: شُبِّهَ بِالْمَصْدَرِ، كَالْقَبُولِ وَالْوَلُوعِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ: عَدُوٌّ لِي، تَصَوُّرًا لِلْمَسْأَلَةِ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى: أَيْ فَكَّرْتُ فِي أَمْرِي، فَرَأَيْتُ عِبَادَتِي لَهَا عِبَادَةً لِلْعَدُوِّ، فَاجْتَنَبْتُهَا وَآثَرْتُ عِبَادَةً مَنِ الْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْهُ، وَأَرَاهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهَا نَصِيحَةٌ نَصَحَ بِهَا نَفْسَهُ أَوَّلًا، وَبَنَى عَلَيْهَا تَدْبِيرَ أَمْرِهِ، لِيَنْظُرُوا وَيَقُولُوا: مَا نَصَحَنَا إِبْرَاهِيمُ إِلَّا بِمَا نَصَحَ بِهِ نَفْسَهُ، وَمَا أَرَادَ لَنَا إِلَّا مَا أَرَادَ لِرُوحِهِ، لِيَكُونَ أَدْنَى لَهُمْ إِلَى الْقَبُولِ، وَأَبْعَثَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ: فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لَكُمْ، لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي بَابٍ مِنَ التَّعْرِيضِ، وَقَدْ يُبْلِغُ التَّعْرِيضُ لِلْمَنْصُوحِ. مَا لَا يُبْلِغُ التَّصْرِيحُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَأَمَّلُ فِيهِ، فَرُبَّمَا قَادَهُ التَّأْمِيلُ إِلَى التَّقَبُّلِ. وَمِنْهُ مَا يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا وَاجَهَهُ بِشَيْءٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ بِحَيْثُ أَنْتَ لَاحْتَجْتُ إِلَى أَدَبٍ وَسَمِعَ رَجُلٌ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنِ الْحِجْرِ فَقَالَ: مَا هُوَ بَيْتِي وَلَا بَيْتُكُمْ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ تَكْثِيرٌ عَلَى عَادَتِهِ، وَذَهَابُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي، مِنَ الْمَقْلُوبِ وَالْأَصْلُ: فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُعَادِي لِكَوْنِهَا جَمَادًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَادَاهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ.
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، فَهَذَا مَعْنَى الْعَدَاوَةِ، وَلِأَنَّ الْمُغْرِيَ عَلَى عَدَاوَتِهَا عَدُوُّ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى يُحْيِي مَا عَبَدُوهُ مِنَ الْأَصْنَامِ حَتَّى يبترؤوا مِنْ عَبَدَتِهِمْ وَيُوَبِّخُوهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ، أَيْ: فَإِنَّ عُبَّادَهُمْ عَدُوٌّ لِي. وَالظَّاهِرُ إِقْرَارُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ:
تَقْدِيرُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي، وَإِلَّا: بِمَعْنَى دُونَ وَسِوَى. انْتَهَى. فَجَعَلَهُ مُسْتَثْنًى مِمَّا بَعْدَ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِصِحَّةِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي. وَجَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمِ الْفَرَّاءُ،
164
وَاتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنَّهُمُ الْأَصْنَامُ. وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْأَصْنَامَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَأَجَازُوا فِي الَّذِي خَلَقَنِي النَّصْبَ عَلَى الصِّفَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ بِإِضْمَارِ، أَعْنِي: وَالرَّفْعُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الَّذِي. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي خَلَقَنِي رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ، فَهُوَ يَهْدِينِ:
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ الَّذِي، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
انْتَهَى. وَلَيْسَ الَّذِي هُنَا فِيهِ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ خَاصٌّ، وَلَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ الْعُمُومُ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَأَيْضًا لَيْسَ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ خَلَقَ لَا يُمْكِنُ فِيهِ تَحَدُّدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَتَابَعَ أَبُو الْبَقَاءِ الْحَوْفِيُّ فِي إِعْرَابِهِ هَذَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فِي نَحْوِ: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ الَّذِي خَلَقَنِي بِقُدْرَتِهِ فَهُوَ يَهْدِينِ إِلَى طَاعَتِهِ. وَقِيلَ: إِلَى جَنَّتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ يَهْدِينِ، يُرِيدُ أَنَّهُ حِينَ أَتَمَّ خَلْقَهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَقَّبَ هِدَايَتَهُ الْمُتَّصِلَةَ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ إِلَى مَا يُصْلِحُهُ وَيُعِينُهُ، وَإِلَّا فَمَنْ هَدَاهُ إِلَى أَنْ يَغْتَذِيَ بِالدَّمِ فِي الْبَطْنِ امْتِصَاصًا؟ وَمَنْ هَدَاهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الثَّدْيِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ؟ وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَكَانِهِ؟ وَمَنْ هَدَاهُ لِكَيْفِيَّةِ الِارْتِضَاعِ؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ هِدَايَاتِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ: الطَّعَامُ الْمَعْرُوفُ الْمَعْهُودُ، وَالسَّقْيُ الْمَعْهُودُ، وَفِيهِ تَعْدِيدُ نِعْمَةِ الرِّزْقِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: يُطْعِمُنِي بِلَا طَعَامٍ، وَيَسْقِينِي بِلَا شَرَابٍ، كَمَا
جَاءَ إِنِّي أَبَيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي
وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدٌ لَمْ يُؤَكِّدْ فِيهِ بِهُوَ، فَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ الَّذِي هُوَ خَلَقَنِي، وَلَمَّا كَانَتِ الْهِدَايَةُ قَدْ يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهَا. وَالْإِطْعَامُ وَالسَّقْيُ كَذَلِكَ أَكَّدَ بِهُوَ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي، وَذَكَرَ بَعْدَ نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ مَا تَدُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَيَسْتَمِرُّ بِهِ نِظَامُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْغِذَاءُ وَالشُّرْبِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَلَبَةِ إِحْدَى الْكَيْفِيَّاتِ عَلَى الْأُخْرَى بِزِيَادَةِ الْغِذَاءِ أَوْ نُقْصَانِهِ، فَيَحْدُثُ بِذَلِكَ مَرَضٌ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ، بِإِزَالَةِ مَا حَدَثَ مِنَ السَّقَمِ، وَأَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَّدَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَالشِّفَاءُ مَحْبُوبٌ وَالْمَرَضُ مَكْرُوهٌ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ مِنْهَا، لَمْ يُضِفْهُ إِلَى اللَّهِ.
وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ: وَإِذَا مَرِضْتُ بِالذُّنُوبِ شَفَانِي بِالتَّوْبَةِ.
165
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ: مَرِضْتُ دُونَ أَمْرَضَنِي، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرَضِ يَحْدُثُ بِتَفْرِيطٍ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي مَطَاعِمِهِ وَمَشَارِبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحُكَمَاءُ: لَوْ قِيلَ لَأَكْثَرِ الْمَوْتَى: مَا سَبَبُ آجَالِكُمْ؟ لَقَالُوا: الْتُخَمُ، وَلَمَّا كَانَ الشِّفَاءُ قَدْ يُعْزَى إِلَى الطيب، وَإِلَى الدَّوَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا قَالَ: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «١»، أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ يَشْفِينِ:
أَيِ الَّذِي هُوَ يَهْدِينِ وَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْإِمَاتَةُ بَعْدَ الْبَعْثِ، لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهَا إِلَّا إِلَى اللَّهِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْكِيدٍ وَدَعْوَى نُمْرُوذَ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ هِيَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَخْرَفَةِ وَالْقِحَةِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ فِي: وَالَّذِي أَطْمَعُ. وَأَثْبَتَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ فِي يَهْدِينِي وَمَا بَعْدَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ. وَالطَّمَعُ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّجَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَازِمًا بِالْمَغْفِرَةِ.
فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَجْزِمِ الْقَوْلَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِأُمَمِهِمْ، وَلِيَكُونَ لُطْفًا بِهِمْ فِي اجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَالْحَذَرِ مِنْهَا، وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِمَّا يَفْرُطُ مِنْهُمْ. انْتَهَى. وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ قَالَ:
لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ، وَنَطَقَ بِكَلِمَةٍ لَا أَذْكُرُهَا، وَبَعْدَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَرَادَ بِهِ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَطْمَعُونَ وَلَا يَقْطَعُونَ.
وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ بِأَنْ جَعَلَ كَلَامَ الْوَاحِدِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، مِمَّا يُبْطِلُ نَظْمَ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
الْمُرَادُ بِالطَّمَعِ الْيَقِينُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا، حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، وَإِنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْقَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسَهُ عَلَى الطَّمَعِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ خَوْفِهِ مَعَ مَنْزِلَتِهِ وَخَلَّتِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَطِيئَتِي عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْحَسَنُ: خَطَايَايَ عَلَى الْجَمْعِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ «٢»، وبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «٣»، وهي أُخْتِي فِي سَارَّةَ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ بِالْخَطِيئَةِ اسْمَ الْجِنْسِ، قَدَّرَهَا فِي كُلِّ أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي، لِأَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَ قَدْ خَرَّجَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَعَارِيضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ مَا يَنْدُرُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ مُخْتَارُونَ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَهِيَ قَوْلُهُ وَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ وَمَا هِيَ إِلَّا مَعَارِيضُ، كَلَامٌ وَتَخَيُّلَاتٌ لِلْكَفَرَةِ، وَلَيْسَتْ بِخَطَايَا يُطْلَبُ لَهَا الِاسْتِغْفَارُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا لَمْ يندر منهم
(١) سورة النحل: ١٦/ ٦٩.
(٢) سورة الصافات: ٣٩/ ٨٧.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٦٣.
166
إِلَّا الصَّغَائِرُ، وَهِيَ تَقَعُ مُكَفَّرَةً، فَمَا لَهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ خَطِيئَةً أَوْ خَطَايَا، وَطَمِعَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ؟
قُلْتُ: الْجَوَابُ مَا سَبَقَ، أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاضُعٌ مِنْهُمْ لِرَبِّهِمْ وَهَضْمٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَطْمَعُ، وَلَمْ يَجْزِمِ الْقَوْلَ. انْتَهَى. ويَوْمَ الدِّينِ: ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يَغْفِرُ، وَالْغُفْرَانُ، وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَأَثَرُهُ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَضَعَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ حَمْلَ الْخَطِيئَةِ عَلَى تِلْكَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ نِسْبَةَ مَا لَا يُطَابِقُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَحَمَلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ طَابَقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ رَجَعَ حَاصِلُ الْجَوَابِ إِلَى إِلْحَاقِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ، لِأَجْلِ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. قَالَ: وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، وَقَدْ يُسَمَّى خَطَأً. فَإِنَّ مَنْ بَاعَ جَوْهَرَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِدِينَارٍ، قِيلَ: أَخْطَأَ، وَتَرْكُ الْأَوْلَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ جَائِزٌ.
انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَتَبْدِيلِ أَلْفَاظٍ لِلْأَدَبِ بِمَا يُنَاسِبُ مَقَامَ النُّبُوَّةِ.
وَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَهُ بِالْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ بَيْنَ يَدَيْ طَلِبَتِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ تَعَالَى فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ:
الْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ وَالنُّبُوَّةُ، لأنها حاصلة تلو طَلَبَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ذُو حِكْمَةٍ وَذُو حُكْمٍ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ بِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ، فَلَوْ طَلَبَ النُّبُوَّةَ لَكَانَتْ مَطْلُوبَةً، إِمَّا عَيْنُ الْحَاصِلَةِ أَوْ غَيْرُهَا. وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَالثَّانِي مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ نَبِيًّا مَرَّتَيْنِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ مَا هُوَ كَمَالُ النُّبُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ فَسَّرَ الْحُكْمَ بِالْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ، قَالَ: وَدُعَاؤُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ فِي التَّثَبُّتِ وَالدَّوَامِ. وَإِلْحَاقُهُ بِالصَّالِحِينَ: تَوْفِيقُهُ لِعَمَلٍ يَنْتَظِمُهُ فِي جُمْلَتِهِمْ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَجَابَهُ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «١».
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَإِنَّمَا قَدَّمَ قَوْلَهُ: هَبْ لِي حُكْماً عَلَى قَوْلِهِ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، لِأَنَّ الْقُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَعَكْسُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ الرُّوحِ، وَالْعَمَلَ صِفَةُ الْبَدَنِ، وَكَمَا أَنَّ الرُّوحَ أَشْرَفُ مِنَ الْبَدَنِ، كَذَلِكَ الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِصْلَاحِ. انْتَهَى. وَلِسَانُ الصِّدْقِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ الثَّنَاءُ وَتَخْلِيدُ الْمَكَانَةِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَكَذَلِكَ أَجَابَ اللَّهُ دعوته، فكل
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٠.
167
مِلَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ، وَهُوَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَقِيلَ مَعْنَى سُؤَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ، فَأُجِيبَتِ الدَّعْوَةُ فِي مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا بِتَحَكُّمٍ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى. وَلَمَّا طَلَبَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا، طَلَبَ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، وَهِيَ جَنَّةُ النَّعِيمِ، وَشَبَّهَهَا بِمَا يُوَرَّثُ، لِأَنَّهُ الَّذِي يُقَسَّمُ فِي الدُّنْيَا شَبَّهَ غَنِيمَةَ الدُّنْيَا بِغَنِيمَةِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «١».
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِنَفْسِهِ، طَلَبَ لِأَشَدِّ النَّاسِ الْتِصَاقًا بِهِ، وَهُوَ أَصْلُهُ الَّذِي كَانَ نَاشِئًا عَنْهُ، وَهُوَ أَبُوهُ، فَقَالَ: وَاغْفِرْ لِأَبِي، وَطَلَبُهُ الْمَغْفِرَةَ مَشْرُوطٌ بِالْإِسْلَامِ، وَطَلَبُ الْمَشْرُوطِ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الشَّرْطِ، فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ دَعَا بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَ وَعْدُهُ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ «٢»، أَيِ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَقِيلَ: كَانَ قَالَ لَهُ إِنَّهُ عَلَى دِينِهِ بَاطِنًا وَعَلَى دِينِ نُمْرُوذَ ظَاهِرًا، تَقِيَّةً وَخَوْفًا، فَدَعَا لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي دُعَائِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. فَلَوْلَا اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِضَالٍّ مَا قَالَ ذَلِكَ. وَلا تُخْزِنِي: إِمَّا مِنَ الْخِزْيِ، وَهُوَ الْهَوَانُ، وَإِمَّا مِنَ الْخِزَايَةِ، وَهِيَ الْحَيَاءُ. وَالضَّمِيرُ فِي يُبْعَثُونَ ضَمِيرُ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، أَوْ ضَمِيرُ الضَّالِّينَ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: يَوْمَ يُبْعَثُ الضَّالُّونَ. وَأَتَى فِيهِمْ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بَدَلٌ مِنْ: يَوْمَ يُبْعَثُونَ. مالٌ وَلا بَنُونَ: أَيْ كَمَا يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا يَفْدِيهِ مَالُهُ وَيَذُبُّ عَنْهُ بَنُوهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَنِينَ جَمِيعُ الْأَعْوَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَوْمَ لَا يَنْفَعُ إِعْلَاقٌ بِالدُّنْيَا وَمَحَاسِنِهَا، فَقَصَدَ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرَ الْعَظِيمَ وَالْأَكْثَرَ، لِأَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ هِيَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَنْفَعُهُ سَلَامَةُ قَلْبِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا، وَلَا بُدَّ لَكَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَهُوَ الْحَالُ الْمُرَادُ بِهَا السَّلَامَةُ، وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ والبنين حتى يؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ لَا يَنْفَعَانِ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرِ الْمُضَافُ لَمْ يَتَحَصَّلْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى. انْتَهَى. وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَمَا ذُكِرَ، إِذْ قَدَّرْنَاهُ، لَكِنْ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَقَدْ جَعَلَهُ الزمخشري في أول توجيهه مُتَّصِلًا بِتَأْوِيلٍ قَالَ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ: إِلَّا حَالَ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَهُوَ مِنْ قوله:
(١) سورة مريم: ١٩/ ٦٣.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١١٤.
168
تحية بينهم ضرب وجيع وما ثوابه إلى السَّيْفُ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ: هَلْ لِزَيْدٍ مَالٌ وَبَنُونَ؟ فَيَقُولُ: مَالُهُ وَبَنُوهُ سَلَامَةُ قَلْبِهِ، تُرِيدُ نَفْيَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَنْهُ، وَإِثْبَاتَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لَهُ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ حَمَلْتَ الْكَلَامَ عَلَى الْمَعْنَى، وَجَعَلْتَ الْمَالَ وَالْبَنِينَ فِي مَعْنَى الْغِنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ غِنًى إِلَّا غِنَى مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، لِأَنَّ غِنَى الرَّجُلِ فِي دِينِهِ بِسَلَامَةِ قَلْبِهِ، كَمَا أَنَّ غِنَاهُ فِي دُنْيَاهُ بِمَالِهِ وَبَنِيهِ. انْتَهَى. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا، فَمَنْ مَفْعُولٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ مَالُهُ الْمَصْرُوفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَبَنُوهُ الصُّلَحَاءُ، إِذْ كَانَ أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَرْشَدَ بَنِيهِ إِلَى الدِّينِ، وَعَلَّمَهُمُ الشَّرَائِعَ وَسَلَامَةَ الْقَلْبِ، خُلُوصَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَعِلَقِ الدُّنْيَا الْمَتْرُوكَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً كَالْمَالِ وَالْبَنِينَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ الَّذِي يَلْقَى رَبَّهُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي عُمُومَهُ اللَّفْظُ، وَلَكِنَّ السَّلِيمَ مِنَ الشِّرْكِ هُوَ الْأَعَمُّ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: بِقَلْبٍ لَدِيغٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَالسَّلِيمُ: اللَّدِيغُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ وَصَدَقَ.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ: قُرِّبَتْ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهَا وَيَغْتَبِطُوا بِحَشْرِهِمْ إِلَيْهَا. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ: أُظْهِرَتْ وَكُشِفَتْ بِحَيْثُ كَانَتْ بِمَرْأًى مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١»، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ.
هَلْ يَنْفَعُونَكُمْ بِنَصْرِهِمْ إِيَّاكُمْ، أَوْ يَنْتَصِرُونَ هُمْ فَيَنْفَعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحِمَايَتِهَا، إِذْ هُمْ وَأَنْتُمْ وَقُودُ النَّارِ؟ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَبُرِّزَتْ بِالْفَاءِ، جَعَلَ تَبْرِيزَ الْجَحِيمِ بَعْدَ تَقْرِيبِ الْجَنَّةِ يَعْقُبُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُهُورُهُ قَبْلَ الْآخَرِ، وَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّحْمَةِ عَلَى العذاب، وهو حسن، لولا أَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: وَبُرِّزَتِ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ الْجَحِيمُ بِالرَّفْعِ، بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا اتِّسَاعًا. وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ وَقَرَّعَهُمْ، أَخْبَرَ عَنْ حَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجِيءَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي فِي أَتَى وَأُزْلِفَتْ وَبُرِّزَتْ.
وَقِيلَ: فَكُبْكِبُوا، لِتَحَقُّقِ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ. وَالضَّمِيرُ فِي: فَكُبْكِبُوا عَائِدٌ عَلَى الْأَصْنَامِ، أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَكُبْكِبُوا: قُذِفُوا فِيهَا. وَقِيلَ:
جُمِعُوا. وَقِيلَ: هُدِرُوا. وَقِيلَ: نكسوا على رؤوسهم يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَقِيلَ: أُلْقُوا فِي جَهَنَّمَ يَنْكَبُّونَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَسْتَقِرُّوا فِي قَعْرِهَا. وَالْغاوُونَ: هُمُ الْكَفَرَةُ الَّذِينَ
(١) سورة الملك: ٦٧/ ٢٧.
169
شَمِلَتْهُمُ الْغَوَايَةُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالْغَاوُونَ: الشَّيَاطِينُ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ: قَبِيلَةٌ، وَكُلُّ مَنْ تَبِعَهُ فَهُوَ جُنْدٌ لَهُ وَعَوْنٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَالْغَاوُونَ: سَائِرُ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: هُمُ الْقَادَةُ وَالسَّفِلَةُ، قَالُوا: أَيْ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ حَالٌ، وَالْمَقُولُ جُمْلَةُ الْقَسَمِ وَمُتَعَلَّقُهُ، وَالْخِطَابُ فِي نُسَوِّيكُمْ لِلْأَصْنَامِ عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ إِنْ كُنَّا إِلَّا ضَالِّينَ فِي أَنْ نَعْبُدَكُمْ وَنَجْعَلَكُمْ سَوَاءً مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ:
إِنْ كُنَّا إِلَّا ضَالِّينَ، إِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إِنْ هُنَا نَافِيَةٌ، وَاللَّامَ فِي لَفِي بِمَعْنَى إِلَّا، فَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَنَّ اللَّامَ هِيَ الدَّاخِلَةُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ وَإِنِ الَّتِي هِيَ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ.
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ: أَيْ أَصْحَابُ الْجَرَائِمِ وَالْمَعَاصِي الْعِظَامِ وَالْجُرْأَةِ، وَهُمْ سَادَاتُهُمْ ذَوُو الْمَكَانَةِ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِتْبَاعِ كَقَوْلِهِمْ: أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «١». وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُجْرِمُونَ: الشَّيَاطِينُ، وَقِيلَ: مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ وَأَنْوَاعَ الْمَعَاصِي. وَحِينَ رَأَوْا شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ نَافِعَةً فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَشَفَاعَةَ الصَّدِيقِ فِي صَدِيقِهِ خَاصَّةً، قَالُوا عَلَى جِهَةِ التَّلَهُّفِ وَالتَّأَسُّفِ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: شَافِعِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَصَدِيقٍ مِنَ النَّاسِ. وَلَفْظَةُ الشَّفِيعِ تَقْتَضِي رِفْعَةَ مَكَانَةٍ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ، وَلَفْظَةُ الصَّدِيقِ تَقْتَضِي شِدَّةَ مُسَاهَمَةٍ وَنُصْرَةٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ صَدَقَ الْوِدَّ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ وَنَفْيُ الشُّفَعَاءِ. وَالصَّدِيقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِوُجُودِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَهُمْ مَوْجُودُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَتَتَصَادَقُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ، أَوْ ذَلِكَ عَلَى حَسْبِ اعْتِقَادِهِمْ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ لَهُمْ أَصْدِقَاءَ مِنَ الْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ، فَقَصَدُوا بِنَفْيِهِمْ نَفْيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ النَّفْعِ، لِأَنَّ مَا لَا يَنْفَعُ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَعْدُومِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: فَمَا لَنَا مَنْ نَفْعِ مَنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ وَأَصْدِقَاءُ، وَجَمَعَ الشُّفَعَاءَ لِكَثْرَتِهِمْ فِي الْعَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَشْفَعُ فِيمَنْ وَقَعَ فِي وَرْطَةٍ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأُفْرِدُ الصَّدِيقُ لِقِلَّتِهِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ؟ إِذْ يُقَالُ: هُمْ صَدِيقٌ، أي أصدقاء، كما
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٦٧.
170
ﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﰓﰔﰕ ﰗﰘﰙﰚﰛﰜ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﱿ ﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀ ﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍ ﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖ ﲿ ﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ
يُقَالُ: هُمْ عَدُوٌّ، أَيْ أَعْدَاءٌ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَوْ هُنَا أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وفنكون الْجَوَابُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا لَيْتَ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ. وَقِيلَ: هِيَ الْخَالِصَةُ لِلدَّلَالَةِ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَنَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَرَّةً، أَيْ فكونا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَكَانَ لَنَا شُفَعَاءُ وَأَصْدِقَاءُ، أَوْ لَخَلَصْنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْوَالِ يوم القيامة، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ حَالِ قَوْمِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ هِيَ عِنْدِي مُنْقَطِعَةٌ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ أَخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَعَلَّقَ بِصِفَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي وَقَفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُ فِي دُعَائِهِ أَنْ لَا يُخْزَى فِيهِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ قَدْ أَعْرَبَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بدلا من يَوْمَ يُبْعَثُونَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَأَتَّى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَفْكِيكِ الْكَلَامِ، وَجَعْلِ بَعْضِهِ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِعْلٌ آخَرُ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْأَوَّلُ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَاوَرَتِهِ لِقَوْمِهِ. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ:
أَيْ أَكْثَرُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ. بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ قَوْمِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي ذَلِكَ مَسْلَاةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ السلام.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ٢٢٧]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
171
الْمَشْحُونُ: الْمَمْلُوءُ بِمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ قَدْرِ مَا يُحْمَلُ، يُقَالُ: شَحَنَهَا عَلَيْهِمْ خَيْلًا وَرِجَالًا، الرِّيعُ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا: جَمْعُ رِيعَةٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
طِرَاقُ الْخَوَافِي مشرق فوق ريعه بذي لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرِّيعُ: الطَّرِيقُ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ عِلْسٍ يَصِفُ ظُعُنًا:
فِي الْآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرْفَعُهَا رِيعٌ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ
الطَّلْعُ: الْكُفُرَّى، وَهُوَ عُنْقُودُ التَّمْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْكِمِّ فِي أَوَّلِ نَبَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الطَّلْعَةُ: هِيَ الَّتِي تَطْلَعُ مِنَ النَّخْلَةِ، كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي جَوْفِهِ. شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَالْقِنْوُ: اسْمٌ لِلْخَارِجِ مِنَ الْجِذْعِ، كَمَا هُوَ بِعُرْجُونِهِ. الْفَرَاهَةُ: جَوْدَةُ مَنْظَرِ الشَّيْءِ وَقُوَّتُهُ وَكَمَالُهُ فِي نَوْعِهِ. وَقِيلَ: الْكَيْسُ وَالنَّشَاطُ. الْقَالِي: الْمُبْغِضُ، قَلَى يَقْلِي وَيَقْلَى، وَمَجِيئُهُ عَلَى يَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ شَاذٌّ. الْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ الْمُتَجَسِّدُ الْغَلِيظُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَبَلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهِ
وَيُقَالُ: بِسُكُونِ الْبَاءِ مُثَلَّثُ الْجِيمِ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجَبْلُ وَالْجِبْلُ وَالْجُبْلُ، لُغَاتٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ مِنَ النَّاسِ. انْتَهَى. هَامَ: ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: حَادَ عَنِ الْقَصْدِ.
174
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
الْقَوْمُ: مُؤَنَّثٌ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ، وَيُصَغَّرُ قُوَيْمَةٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ.
وَلَمَّا كَانَ مَدْلُولُهُ أَفْرَادًا ذُكُورًا عُقَلَاءَ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى جَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مُذَكَّرٌ، وَأُنِّثَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا فِي الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «١»، وَإِخْوَةُ نُوحٍ قِيلَ: فِي النَّسَبِ. وَقِيلَ: فِي الْمُجَانَسَةِ، كَقَوْلِهِ:
يَا أَخَا تَمِيمٍ تُرِيدُ يَا وَاحِدَ أُمَّتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وَمُتَعَلِّقُ التَّقْوَى مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: أَلَا تَتَّقُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ عَلَى شِرْكِكُمْ؟ وَقِيلَ:
أَلَا تَتَّقُونَ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَكُمْ لِلْأَصْنَامِ وَأَمَانَتُهُ، كَوْنُهُ مَشْهُورًا فِي قَوْمِهِ بِذَلِكَ، أَوْ مُؤْتَمَنًا عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ؟ وَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِمْ بِرِفْقٍ تَقْوَى اللَّهِ فَقَالَ: أَلا تَتَّقُونَ، انْتَقَلَ مِنَ الْعَرْضِ إِلَى الْأَمْرِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فِي نُصْحِي لَكُمْ، وَفِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بالعبادة. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى دُعَائِي إِلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ يَعُودُ عَلَى النُّصْحِ، أَوْ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ. وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَلَى الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ سَبَبٌ لِطَاعَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، لِيُؤَكِّدَ عَلَيْهِمْ وَيُقَرِّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّعْلِيلُ، جُعِلَ الْأَوَّلُ مَعْلُولًا لِأَمَانَتِهِ، وَالثَّانِي لِانْتِفَاءِ أَخْذِ الْأَجْرِ. ثُمَّ لَمْ يَنْظُرُوا فِي أَمْرِ رِسَالَتِهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ ونشؤوا مِنْ حُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَهِيَ التي
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٣٧.
175
تُطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَشَرَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي تَنْقِيصِ مُتَّبِعِيهِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ لَهُ، كَوْنُهُ اتَّبَعَهُ الْأَرْذَلُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ كَيْفَ نُؤْمِنُ وَقَدِ اتَّبَعَكَ أَرَاذِلُنَا، فَنَتَسَاوَى مَعَهُمْ فِي اتِّبَاعِكَ؟ وَكَذَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِي شَأْنِ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ. وَالضُّعَفَاءُ أَكْثَرُ اسْتِجَابَةً مِنَ الرُّؤَسَاءِ، لِأَنَّ أَذْهَانَهُمْ لَيْسَتْ مَمْلُوءَةً بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا، فَهُمْ أَدْرَكُ لِلْحَقِّ وَأَقْبَلُ لَهُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاتَّبَعَكَ فِعْلًا مَاضِيًا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ:
وَاتْبَاعُكَ جَمْعُ تَابِعٍ، كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ. وَقِيلَ: جَمْعُ تَبِيعٍ، كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. وَقِيلَ:
جَمْعُ تَبَعٍ، كَبَرَمٍ وَأَبْرَامٍ، وَالْوَاوُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْحَالِ. وَقِيلَ: لِلْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بلك، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ. وَعَنِ الْيَمَانِيِّ: وَاتْبَاعِكَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي لَكَ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَقَاسَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَالْأَرْذَلُونَ: رُفِعَ بِإِضْمَارِهِمْ. قِيلَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بنوه ونساؤه وكنانة وَبَنُو بَنِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الرَّذَالَةُ دَنَاءَةَ الْمَكَاسِبِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الرَّذَالَةِ فِي هُودٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «١»، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ تَنْقِيصَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ضُعَفَاءَ النَّاسِ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ. وَهَذَا الَّذِي أَجَابُوا بِهِ فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ، إِذْ هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَا شَرَفِ الْمَكَاسِبِ وَدَنَاءَتِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مُرَادَ قَوْمِ نُوحٍ نِسْبَةُ الرَّذِيلَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، بِتَهْجِينِ أَفْعَالِهِمْ لَا النَّظَرِ إِلَى صَنَائِعِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ: وَما عِلْمِي الْآيَةَ، لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لَيْسَ فِي نَظَرِي، وَعِلْمِي بِأَعْمَالِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ فَائِدَةٌ، فَإِنَّمَا أَقْنَعُ بِظَاهِرِهِمْ وَأَجْتَزِئُ بِهِ، ثُمَّ حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا نَحْوُ مَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
، الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا أَطْلُبُ الْعِلْمَ بِمَا عَمِلُوهُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَدْعُوَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا عِلْمِي، وَأَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي، وَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ عِلْمِهِ بِإِخْلَاصِ أَعْمَالِهِمْ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُمْ قَدْ طَعَنُوا فِي اسْتِرْذَالِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا عَنْ نَظَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَإِنَّمَا آمَنُوا هَوًى وَبَدِيهَةً، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادىء الرَّأْيِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَالَى لهم نوح
(١) سُورَةِ هُودٍ: ١١/ ٢٧.
176
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُفَسَّرُ قَوْلُهُمْ: الْأَرْذَلُونَ، بِمَا هُوَ الرُّذَالَةُ عِنْدَهُ مِنْ سُوءِ الْأَعْمَالِ وَفَسَادِ الْعَقَائِدِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا هُوَ الرُّذَالَةُ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ بَنَى جَوَابَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَا عَلَيَّ إِلَّا اعْتِبَارُ الظَّوَاهِرِ، دُونَ التَّفْتِيشِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَالشَّقِّ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ، فَاللَّهُ مُحَاسِبُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ، وَمَا أَنَا إِلَّا مُنْذِرٌ لَا مُحَاسِبٌ، وَلَا مُجَازٍ، لَوْ تَشْعُرُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّكُمْ تَجْهَلُونَ، فَتَنْسَاقُونَ مَعَ الْجَهْلِ حَيْثُ سَيَّرَكُمُ. وَقُصِدَ بِذَلِكَ رَدُّ اعْتِقَادِكُمْ، وَإِنْكَارُ أَنْ يُسَمَّى الْمُؤْمِنُ رَذْلًا، وَإِنْ كَانَ أَفْقَرَ النَّاسِ وَأَوْضَعَهُمْ نَسَبًا. فَإِنَّ الْغِنَى غِنَى الدِّينِ، وَالنَّسَبَ نَسَبُ التَّقْوَى. انْتَهَى. وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمَا علمي، ما نافية، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعِلْمِي. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّخْرِيجُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ خَبَرٍ حَتَّى تَصِيرَ جُمْلَةً وَلَمَّا كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحِسَابِ وَلَا بِالْبَعْثِ، أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ: لَوْ تَشْعُرُونَ، أَيْ بِأَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ، وَالْحِسَابَ حَقٌّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
تَشْعُرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ: هَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ ذَلِكَ فَأَجَابَهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا
طَلَبَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ مَنْ آمَنُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، فَنَزَلَتْ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «١»
الْآيَةَ، أَيْ لَا أَطْرُدُهُمْ عَنِّي لِاتِّبَاعِ شَهَوَاتِكُمْ وَالطَّمَعِ فِي إِيمَانِكُمْ.
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، مَا جِئْتَ بِهِ بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَلَمَّا اعْتَلُّوا فِي تَرْكِ إِيمَانِهِمْ بِإِيمَانِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ تَثْلُجَ صُدُورُهُمْ لِلْإِيمَانِ، إِذِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ لَا يَأْنَفُ مِنْهُ أَحَدٌ لِوُجُودِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، أَخَذُوا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عَنْ تَقْبِيحِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَادِّعَائِكَ الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ، لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، أَيْ بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ: بِالشَّتْمِ. وَأَيِسَ إِذْ ذَاكَ مِنْ فَلَاحِهِمْ، فَنَادَى رَبَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ: إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَدُعَائِي لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آذَوْنِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ دِينِكَ.
فَافْتَحْ، أَيْ فَاحْكُمْ. وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ بِالنَّجَاةِ، وَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِحُلُولِ الْعَذَابِ بِقَوْمِهِ، أَيْ: وَنَجِّنِي مِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ. وَقِيلَ: وَنَجِّنِي مِنْ عَمَلِهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ. وَالْفُلْكُ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ، وَغَالِبُ اسْتِعْمَالِهِ جَمْعًا لِقَوْلِهِ: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ «٢»، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ «٣»، فَحَيْثُ أَتَى فِي غَيْرِ فَاصِلَةٍ، اسْتُعْمِلَ جَمْعًا، وَحَيْثُ كَانَ فَاصِلَةً، اسْتُعْمِلَ مُفْرَدًا لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ، كَهَذَا الْمَوْضِعِ. وَالَّذِي فِي سُورَةِ يس، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ إِذَا كَانَ مَدْلُولُهُ جَمْعًا، أَهْوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، أَمِ اسْمُ جَمْعٍ؟ وَالْمَشْحُونُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُوقَرُ، وَقَالَ عَطَاءٌ:
الْمُثْقَلُ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ: أَيْ بَعْدَ نَجَاةِ نُوحٍ وَالْمُؤْمِنِينَ.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٥٢.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٤.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٦٤.
تفسير البحر المحيط ج ٨ م ١٢
177
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
كَانَ أَخَاهُمْ مِنَ النَّسَبِ، وَكَانَ تَاجِرًا جَمِيلًا، أَشْبَهَ الْخَلْقِ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاشَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةً وَأَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَمُودَ مِائَةُ سَنَةٍ. وَكَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ مَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ. أَمْرَعَ الْبِلَادِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ مَفَاوِزَ وَرِمَالًا. أَمَرَهُمْ أَوَّلًا أَمَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ، ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ فَقَالَ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَأْسُ الزُّقَاقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَجٌّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عُيُونٌ فِيهَا الْمَاءُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ:
جَبَلٌ. وَقِيلَ: الثَّنِيَّةُ الصَّغِيرَةُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِيعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِفَتْحِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَةً: عَلَمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَبْرَاجَ الْحَمَامِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: الْقُصُورَ الطِّوَالَ. وَقِيلَ: بَيْتَ عِشَارٍ. وَقِيلَ: نَادِيًا لِلتَّصَلُّفِ. وَقِيلَ: أَعْلَامًا طِوَالًا لِيَهْتَدُوا بِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، عَبَثُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ بِالنُّجُومِ. وَقِيلَ: عَلَامَةً يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا مَنْ يَعْبَثُ بِالْمَارِّ فِي الطَّرِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ إِنْكَارٌ لِلْبِنَاءِ عَلَى صُورَةِ الْعَبَثِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُتْرَفُونَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْمَصَانِعُ: جَمْعُ مَصْنَعَةٍ. قِيلَ: وَهِيَ الْبِنَاءُ عَلَى الْمَاءِ. وَقِيلَ: الْقُصُورُ الْمَشِيدَةُ الْمُحْكَمَةُ.
وَقِيلَ: الْحُصُونُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِرَكُ الْمَاءِ. وَقِيلَ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقِيلَ: الْمَنَازِلُ. وَاتَّخَذَ هُنَا بِمَعْنَى عَمِلَ، أَيْ وَيَعْمَلُونَ مَصَانِعَ، أَيْ تَبْنُونَ. وَقَالَ لَبِيدٌ:
وَتَبْقَى جِبَالٌ بَعْدَنَا وَمَصَانِعُ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ لَعَلَّ عَلَى بَابِهَا مِنَ الرَّجَاءِ، وَكَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْبِنَاءِ وَالِاتِّخَاذِ، أَيِ الْحَامِلُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الرَّجَاءُ لِلْخُلُودِ وَلَا خُلُودَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: كَيْ تَخْلُدُونَ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى يُشْبِهُ حَالُكُمْ حَالَ مَنْ يَخْلُدُ، فَلِذَلِكَ بَنَيْتُمْ وَاتَّخَذْتُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَالْهَزْءِ بِهِمْ، أَيْ هَلْ أَنْتُمْ تَخْلُدُونَ: وَكَوْنُ لَعَلَّ لِلِاسْتِفْهَامِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى كَأَنَّكُمْ خَالِدُونَ، وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ:
كأنكم تخلدون. وقرىء: كأنكم خالدون. وقرأ الجمهور: تخلدون، مبنيا للفاعل
178
وقتادة: مبنيا للمفعول. ويقال: خلد الشيء وأخلده: غيره. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلَّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ قَلِيلُ الْهُمُومِ مَا يَبِيتُ بِأَوْجَالِ
وَإِذا بَطَشْتُمْ: أَيْ أَرَدْتُمُ الْبَطْشَ، وَحُمِلَ عَلَى الْإِرَادَةِ لِئَلَّا يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ، كَقَوْلِهِ:
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً أَيْ مَتَى أَرَدْتُمْ بَعْثَهَا. قَالَ الْحَسَنُ: بَادَرُوا تَعْذِيبَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا فِكْرٍ فِي الْعَوَاقِبِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُفَّارُ الْغَضَبِ، لَكُمُ السَّطَوَاتُ الْمُفْرِطَةُ وَالْبَوَادِرُ. فَبِنَاءُ الْأَبْنِيَةِ الْعَالِيَةِ تَدُلُّ عَلَى حُبِّ الْعُلُوِّ، وَاتِّخَاذُ الْمَصَانِعِ رَجَاءَ الْخُلُودِ يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ، وَالْجَبَّارِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى التَّفَرُّدِ بِالْعُلُوِّ، وَهَذِهِ صِفَاتُ الْإِلَهِيَّةِ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةُ الْحُصُولِ لِلْعَبْدِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ خَرَجُوا عَنْ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ،
وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ.
وَلَمَّا نَبَّهَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَالِثًا بِالتَّقْوَى تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَأَبْرَزَ صِلَةَ الَّذِي مُتَعَلِّقَةً بِعِلْمِهِمْ، تَنْبِيهًا لَهُمْ وَتَحْرِيضًا عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، إِذْ شُكْرُ الْمُحْسِنِ وَاجِبٌ، وَطَاعَتُهُ مُتَعَيِّنَةٌ، وَمُشِيرًا إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَنْ أَمَدَّ بِالْإِحْسَانِ هُوَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ، وَعَلَى تَعْذِيبِ مَنْ لَمْ يَتَّقِهِ، إِذْ هَذَا الْإِمْدَادُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَفَضُّلِهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ أَتْبَعَكُمْ إِحْسَانَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَلَمَّا أَتَى بِذِكْرِ مَا أَمَدَّهُمْ بِهِ مُجْمَلًا مُحَالًا عَلَى عِلْمِهِمْ، أَتَى بِهِ مُفَصَّلًا. فَبَدَأَ بِالْأَنْعَامِ، وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الرِّئَاسَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْقُوَّةُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ، وَالْغِنَى هُوَ السَّبَبُ فِي حُصُولِ الذُّرِّيَّةِ غَالِبًا لِوَجْدِهِ. وَبِحُصُولِ الْقُوَّةِ أَيْضًا بِالْبَنِينَ، فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِهِمْ فِي حِفْظِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا. وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْبَسَاتِينِ وَالْمِيَاهِ الْمُطَّرِدَةِ، إِذِ الْإِمْدَادُ بِذَلِكَ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ.
وبِأَنْعامٍ: ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قوله: بِما تَعْلَمُونَ، وَأُعِيدَ الْعَامِلُ كَقَوْلِهِ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ «١». وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَجْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا بَدَلًا وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ تَكْرَارِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، وَيُسَمَّى التَّتْبِيعَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ عِنْدَهُمُ الْعَامِلُ إِذَا كَانَ حَرْفَ جَرٍّ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ بِأَخِيكَ،
(١) سورة يس: ٣٦/ ٢٠- ٢١. [.....]
179
ثُمَّ حَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْخَوْفِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، إِذْ كَانَ رَاجِيًا لِإِيمَانِهِمْ، فَكَانَ مِنْ جَوَابِهِمْ أَنْ قَالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا وَعْظُكَ وَعَدَمُهُ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ وَعْظًا، إِذْ لَمْ يَعْتَقِدُوا صحة ما جاء به، وَأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِمَا خَوَّفَهُمْ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَعَظْتَ، بِإِظْهَارِ الظَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ، وَعَاصِمٍ: إِدْغَامُ الظَّاءِ فِي التَّاءِ. وَبِالْإِدْغَامِ، قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَعْمَشُ إِلَّا أَنَّ الْأَعْمَشَ زَادَ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ فَقَرَأَ: أَوَعَظْتَنَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِخْفَاءً، لِأَنَّ الظَّاءَ مَجْهُورَةٌ مُطْبِقَةٌ، وَالتَّاءُ مَهْمُوسَةٌ مُنْفَتِحَةٌ، فَالظَّاءُ أَقْوَى مِنَ التَّاءِ، وَالْإِدْغَامُ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ، أَوْ فِي الْمُتَقَارِبَيْنِ، إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ أَنْقَصَ مِنَ الثَّانِي. وَأَمَّا إِدْغَامُ الْأَقْوَى فِي الْأَضْعَفِ، فَلَا يَحْسُنُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِنَقْلِ الثِّقَاتِ، فَوَجَبَ قَبُولُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا هُوَ أَفْصَحُ وَأَقْيَسُ.
وَعَادَلَ أَوَعَظْتَ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَادِلُهُ: أَمْ لَمْ تَعِظْ. كَمَا قَالَ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «١» لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، كَمَا عَادَلَتْ فِي قَوْلِهِ:
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «٢»، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ أَمْ صَمَتُّمْ، وَكَثِيرًا مَا يَحْسُنُ مَعَ الْفَوَاصِلِ مَا لَا يَحْسُنُ دُونَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، يَعْنِي بَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ وَهِيَ: أَمْ لَمْ تَعِظْ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْوَعْظُ أَمْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مِنْ أَهْلِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي قِلَّةِ اعْتِدَادِهِمْ بِوَعْظِهِ مِنْ قَوْلِكَ: أَمْ لَمْ تَعِظْ.
وَلَمَّا لَمْ يُبَالُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَبِمَا ذَكَّرَهُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَتَخْوِيفِهِ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ، أَجَابُوهُ بِأَنْ قَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: خَلْقُ، بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، فَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ وَتَدَّعِيهِ إِلَّا اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْكَذَبَةِ قَبْلَكَ، فَأَنْتَ عَلَى مَنَاهِجِهِمْ. وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ الْأَوَّلِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ما هي الْبِنْيَةُ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا إِلَّا الْبِنْيَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْأَوَّلُونَ، حَيَاةٌ وَمَوْتٌ وَلَا بَعْثَ وَلَا تَعْذِيبَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: خُلُقُ، بِضَمَّتَيْنِ وَأَبُو قِلَابَةَ، وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ذَيْنِكَ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي خُلُقُ.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ،
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٢١.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٩٣.
180
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
أَتُتْرَكُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا لِأَنْ يُتْرَكُوا مُخَلَّدِينَ فِي نَعِيمِهِمْ لَا يَزُولُونَ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ فِي تَخْلِيَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمَا يَتَنَعَّمُونَ فِيهِ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الْأَمْنِ وَالدَّعَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: تَخْوِيفٌ لَهُمْ، بِمَعْنَى: أَتَطْمَعُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي النِّعَمِ عَلَى مَعَاصِيكُمْ؟ وَقِيلَ: أَتُتْرَكُونَ؟ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى التَّوْبِيخِ، أي أيترككم ربكم؟ فِي ما هاهُنا: أَيْ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا آمِنِينَ: لَا تَخَافُونَ بَطْشَهُ. انْتَهَى.
وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَهَاهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، أَيْ فِي الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي مَكَانِكُمْ هَذَا مِنَ النَّعِيمِ. وفِي جَنَّاتٍ بَدَلٌ مِنْ مَا هَاهُنَا أَجْمَلَ، ثُمَّ فَصَّلَ، كَمَا أَجْمَلَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، ثُمَّ فَصَّلَ فِي قَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَكَانَتْ أَرْضُ ثَمُودَ كَثِيرَةَ الْبَسَاتِينِ وَالْمَاءِ وَالنَّخْلِ. وَالْهَضِيمُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَيْنَعَ وَبَلَغَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الرَّخْصُ اللَّطِيفُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي رُطَبُهُ بِغَيْرِ نَوًى.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُنَضَّدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: الرُّطَبُ الْمُذَنَّبُ. وَقِيلَ: النَّضِيجُ مِنَ الرُّطَبِ. وَقِيلَ: الرُّطَبُ الْمُتَفَتِّتُ. وَقِيلَ: الْحُمَّاضُ الطَّلْعُ، وَيُقَارِبُ قِشْرَتَهُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَصْرٌ هَضِيمٌ. وَقِيلَ: الْعِذْقُ الْمُتَدَلِّي. وَقِيلَ: الْجُمَّارُ الرِّخْوُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ:
وَنَخْلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي جَنَّاتٍ، وَأَنْ كَانَتِ الْجَنَّةُ تَتَنَاوَلُ النَّخْلَ أَوَّلَ شَيْءٍ، وَيُطْلِقُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهَا إِلَّا النَّخْلَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا
أَرَادَ هُنَا النَّخْلَ. وَالسُّحُقُ جَمْعُ سَحُوقٍ، وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ بِجَرْدَتِهَا صَعَدًا فَطَالَتْ.
فَأَفْرَدَ وَنَخْلٍ بِالذِّكْرِ بَعْدَ انْدِرَاجِهِ فِي لَفْظِ جَنَّاتٍ، تَنْبِيهًا عَلَى انْفِرَادِهِ عَنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ بِفَضْلِهِ. أَوْ أَرَادَ بِجَنَّاتٍ غَيْرَ النَّخْلِ مِنَ الشَّجَرِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِهَذِهِ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَنَخْلٍ، ذكرهم تعالى نعمه فِي أَنْ وَهَبَ لَهُمْ أَجْوَدَ النَّخْلِ وَأَيْنَعَهُ، لِأَنَّ الْإِنَاثَ وَلَّادَةٌ التَّمْرَ، وَطَلْعُهَا فِيهِ لُطْفٌ، وَالْهَضِيمُ: اللَّطِيفُ الضَّامِرُ، وَالْبَرْنِيُّ أَلْطَفُ مِنْ طَلْعِ اللَّوْنِ. وَيَحْتَمِلُ
181
اللُّطْفَ فِي الطَّلْعِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْحِمْلِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَثُرَ لَطُفَ فَكَانَ هَضِيمًا، وَإِذَا قَلَّ الْحِمْلُ جَاءَ التَّمْرُ فَاخِرًا. وَلَمَّا كَانَتْ مَنَابِتُ النَّخْلِ جَيِّدَةً، وَكَانَ السَّقْيُ لَهَا كَثِيرًا، وَسَلِمَتْ مِنَ الْعَاهَةِ، كَبِرُ الْحِمْلِ بِلُطْفِ الْحَبِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَنْحِتُونَ، بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَعَنْهُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ إِشْبَاعًا. وَعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ، عَنْ أَبِيهِ: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَكَسَرَ الْحَاءِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ، وَالْحَسَنِ أَيْضًا: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَتَحَ الْحَاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَارِهِينَ بِأَلِفٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ وَمُجَاهِدٌ:
مُتَفَرِّهِينَ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَفَرَّهَ، وَالْمَعْنَى: نَشِطِينَ مُهْتَمِّينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مجاهد:
شَرِهِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوِيَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: أَشِرِينَ بَطِرِينَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: بِمَعْنَى مُسْتَفْرِهِينَ، أَيْ مُبَالِغِينَ فِي اسْتِجَادَةِ الْمَغَارَاتِ لِيَحْفَظُوا أَمْوَالَهُمْ فِيهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: آمِنِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَ خُصَيْفٌ:
مُعْجَبِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَاعِمِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَيِّسِينَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَاذِقِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: قَادِرِينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَرِحِينَ.
وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قَوْمِ هُودٍ: اللَّذَّاتُ الْخَيَالِيَّةُ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْبَقَاءِ وَالتَّفَرُّدِ وَالتَّجَبُّرِ، وَعَلَى قَوْمِ صَالِحٍ: اللَّذَّاتُ الْحِسِّيَّةُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبُ وَالْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ. وَلا تُطِيعُوا: خِطَابُ الْجُمْهُورِ قَوْمِهِ. وَالْمُسْرِفُونَ: هُمْ كُبَرَاؤُهُمْ وَأَعْلَامُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْإِضْلَالِ، وَكَانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ: أَيْ أَرْضِ ثَمُودَ. وَقِيلَ: فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، لِأَنَّ بِمَعَاصِيهِمُ امْتِنَاعَ الْغَيْثِ. وَلَمَّا كَانُوا يُفْسِدُونَ دَلَالَتُهُ دَلَالَةُ الْمُطْلَقِ، أَتَى بِقَوْلِهِ: وَلا يُصْلِحُونَ، فَنَفَى عَنْهُمُ الصَّلَاحَ، وَهُوَ نَفْيٌ لِمُطْلَقِ الصَّلَاحِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الصَّلَاحِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ صَلَاحٌ أَلْبَتَّةَ. وَالْمُسَحَّرُ:
الَّذِي سُحِرَ كَثِيرًا حَتَّى غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ. وَقِيلَ: مِنَ السَّحْرِ، وَهُوَ الرِّئَةُ، أَيْ أَنْتَ بَشَرٌ لَا تَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ. وَيُضْعِفُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُمْ بَعْدُ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، إِذْ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا، وَالْأَصْلُ التَّأْسِيسُ. وَمَثَّلْنَا: أَيْ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، فَلَا اخْتِصَاصَ لَكَ بِالرِّسَالَةِ.
فَأْتِ بِآيَةٍ: أَيْ بِعَلَامَةٍ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاكَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: قَالَ آتِي بِهَا، قَالُوا: مَا هِيَ؟ قالَ هذِهِ ناقَةٌ.
رُوِيَ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ نَاقَةً عُشَرَاءَ تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ تَلِدُ سَقْبًا. فَقَعَدَ صَالِحٌ يَتَفَكَّرُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَسَلْ
182
رَبَّكَ النَّاقَةَ، فَفَعَلَ فَخَرَجَتِ النَّاقَةُ وَبَرَكَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَنُتِجَتْ سَقْبًا مِثْلَهَا فِي الْعِظَمِ.
وَتَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ وَالنَّاقَةِ، وَالشِّرْبُ النَّصِيبُ الْمَشْرُوبُ مِنَ الْمَاءِ نَحْوُ السَّقْيِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: شُرْبٌ، بِضَمِّ الشِّينِ فِيهِمَا، وَظَاهِرُ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَا وَقَعَ ووصف بِالْعِظَمِ لِحُلُولِ الْعَذَابِ فِيهِ، وَوَصْفُهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ بِهِ، لِأَنَّ الْوَقْتَ إِذَا عَظُمَ بِسَبَبِ الْعَذَابِ، كَانَ مَوْقِعُ الْعَذَابِ مِنَ الْعِظَمِ أَشَدَّ. وَنُسِبَ الْعَقْرُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، لِكَوْنِهِمْ رَاضِينَ بِذَلِكَ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُمُ اسْتَرْضَوُا الْمَرْأَةَ فِي خِدْرِهَا وَالصِّبْيَانَ، فَرَضُوا جَمِيعًا.
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، لَا نَدَمَ تَوْبَةٍ، بَلْ نَدَمَ خَوْفٍ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا، وَذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ فِي غَيْرِ وَقْتِ التَّوْبَةِ. أَصْبَحُوا وَقَدْ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ حَسْبَمَا كَانَ أَخْبَرَهُمْ بِهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ الْعَذَابُ صَيْحَةً خَمَدَتْ لَهَا أَبْدَانُهُمْ، وَانْشَقَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَصُبَّ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ خِلَالَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: كَانَتْ نَدَامَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ عَقْرِ الْوَلَدِ، وَهُوَ قول بعيد. وأل فِي: فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ لِلْعَهْدِ فِي الْعَذَابِ السَّابِقِ، عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ.
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
أَتَأْتُونَ: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ والذُّكْرانَ: جَمْعُ ذَكَرٍ، مُقَابِلُ الْأُنْثَى.
وَالْإِتْيَانُ: كِنَايَةٌ عَنْ وَطْءِ الرِّجَالِ، وَقَدْ سَمَّاهُ تَعَالَى بِالْفَاحِشَةِ فَقَالَ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ «١»، هُوَ مَخْصُوصٌ بِذُكْرَانِ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِالْغُرَبَاءِ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ: ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ، إِمَّا الْبَتَّةَ، وَإِمَّا غَلَبَةً. مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ: يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِشَرْطِهَا. مِنْ أَزْواجِكُمْ: أَيْ مِنَ الإناث. ومن إما
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٨٠.
183
لِلتَّبْيِينِ لِقَوْلِهِ: مَا خَلَقَ، وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ: أَيِ الْعُضْوُ الْمَخْلُوقُ لِلْوَطْءِ، وَهُوَ الْفَرْجُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَتَذَرُونَ إِتْيَانَ. فَإِنْ كَانَ مَا خَلَقَ لَا يُرَادُ بِهِ الْعُضْوُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ آخَرَ، أَيْ وَتَذَرُونَ إِتْيَانَ فَرُوجِ مَا خَلَقَ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ: أَيْ مُتَجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الظُّلْمِ، وَهُوَ إِضْرَابٌ بِمَعْنَى الِانْتِقَالُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، لَا أَنَّهُ إِبْطَالٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ إِمَّا فِي الْمَعَاصِي الَّتِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ جُمْلَتِهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ ارْتِكَابُ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الشَّنِيعَةِ. وَجَاءَ تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ تَعْظِيمًا لِقُبْحِ فِعْلِهِمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ مُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ فَعَلْتَ كَذَا، أَيْ لَا غَيْرُكَ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ تَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ، وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ، أَيْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنِ دَعْوَاكَ النُّبُوَّةَ، وَعَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا فِيمَا نَأْتِيهِ مِنَ الذُّكْرَانِ، لَنَنْفِيَنَّكَ كَمَا نَفَيْنَا مَنْ نَهَانَا قَبْلَكَ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: مِنَ الْمُخْرَجِينَ عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَنَفَوْهُ بِسَبَبِ النَّهْيِ، أَوْ مِنَ الْمُخْرَجِينَ بِسَبَبٍ غَيْرِ هَذَا السَّبَبِ، كَأَنَّهُ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ نَفَوْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِلَافُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْخَاصِّ، أَمْ فِي غَيْرِهِ.
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ: أَيْ لِلْفَاحِشَةِ الَّتِي أَنْتُمْ تَعْمَلُونَهَا. ولعملكم يَتَعَلَّقُ إِمَّا بِالْقَالِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أل، لِأَنَّهُ يَسُوغُ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفِ مَا لَا يَسُوغُ فِي غَيْرِهَا، لِاتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِهَا، حَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ غَيْرُهَا وَإِمَّا بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْقَالِينَ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي قَالٍ لِعَمَلِكُمْ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ، أَيْ لِعَمَلِكُمْ، أَعْنِي مِنَ الْقَالِينَ. وَكَوْنُهُ بَعْضَ الْقَالِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبْغِضُ هَذَا الْفِعْلَ نَاسٌ غَيْرُهُ هُوَ بَعْضُهُمْ، وَنَبَّهَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُوجِبٌ لِلْبُغْضِ حَتَّى يُبْغِضَهُ النَّاسُ. وَمِنَ الْقَالِينَ أَبْلَغُ مِنْ قَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّاسَ يُبْغِضُونَهُ، وَلِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ مَعْدُودٌ مِمَّنْ يُبْغِضُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَبْلَغُ مِنْ: زَيْدٌ عَالِمٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ مَعْدُودٌ فِي زُمْرَتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْقَلْيُ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، كَأَنَّهُ بَغَضَ فَقَلَى الْفُؤَادَ وَالْكَبِدَ. انْتَهَى. وَلَا يَكُونُ قَلَى بِمَعْنَى أَبْغَضَ. وَقَلَا مِنَ الطَّبْخِ والشيء مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ لِاخْتِلَافِ التَّرْكِيبِ. فَمَادَّةُ قَلَا مِنَ الشّيء مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَتَقُولُ: قَلَوْتُ اللَّحْمَ فَهُوَ مَقْلُوٌّ. وَمَادَّةُ قَلَى مِنَ الْبُغْضِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، قَلَيْتُ الرَّجُلَ، فَهُوَ مَقْلِيٌّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَسْتُ بِمُقْلِي الْخِلَالِ وَلَا قَالِ وَلَمَّا تَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ، أَخْبَرَهُمْ بِبُغْضِ عَمَلِهِمْ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ: أَيْ مِنْ عُقُوبَةِ مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْمَعَاصِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً لِأَهْلِهِ
184
بِالْعِصْمَةِ مِنْ أَنْ يَقَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ فِعْلِ قَوْمِهِ. وَدَلَّ دُعَاؤُهُ بِالتَّنْجِيَةِ لِأَهْلِهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَتْ زَوْجَتُهُ مُنْدَرِجَةً فِي الْأَهْلِ، وَكَانَ ظَاهِرُ دُعَائِهِ دُخُولَهَا فِي التَّنْجِيَةِ، وَكَانَتْ كَافِرَةً اسْتُثْنِيَتْ فِي قَوْلِهِ: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: عَجُوزًا، عَلَى أَنَّهَا قَدْ عَسِيَتْ فِي الْكُفْرِ وَدَامَتْ فِيهِ إِلَى أَنْ صَارَتْ عَجُوزًا. وَمِنَ الْغَابِرِينَ صِفَةٌ، أَيْ مِنَ الْبَاقِينَ مِنْ لِدَاتِهَا وَأَهْلِ بَيْتِهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي غَبَرَ، وَأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَقِيَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَبِمَعْنَى مَضَى. وَنَجَاتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالرِّحْلَةِ لَيْلًا، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ كَافِرَةً تُعِينُ عَلَيْهِ قَوْمَهُ، فَأَصَابَهَا حَجَرٌ، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَى شُذَّاذِ الْقَوْمِ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَتْبَعَ الِائْتِفَاكَ مَطَرًا مِنَ الْحِجَارَةِ. وَسَاءَ: بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَطَرُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَسَفَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَأَرْسَلَ الْحِجَارَةَ إِلَى مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ القرية، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُؤْمِنٌ إِلَّا بَيْتُ لُوطٍ.
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ: لَيْكَةَ هُنَا، وَفِي ص بِغَيْرِ لَامٍ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ الْأَيْكَةِ، بِلَامِ التَّعْرِيفِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجَدْنَا في بعض التفسيران: لَيْكَةَ: اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ، وَالْأَيْكَةُ: الْبِلَادُ كُلُّهَا، كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ، وَرَأَيْتُهَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ في الحجر وق: الأيكة، وفي الشعراء وص: لَيْكَةَ، وَاجْتَمَعَتْ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ كُلِّهَا بَعْدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَلِفْ. انْتَهَى. وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَالنَّحَّاسُ، وَتَبِعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَوَهَّمُوا الْقُرَّاءَ وَقَالُوا: حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ الَّذِي كَتَبَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اللَّفْظِ فِي مِنْ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ وَأَسْقَطَ الْهَمْزَةَ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ اللَّامَ مِنْ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ فَفَتَحَ الْيَاءَ، وَكَانَ
185
الصَّوَابُ أَنْ يُجِيزَ، ثُمَّ مَادَّةُ ل ي ك لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا تَرْكِيبٌ، فَهِيَ مَادَّةٌ مُهْمَلَةٌ. كَمَا أَهْمَلُوا مَادَّةَ خ ذ ج مَنْقُوطًا، وَهَذِهِ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ بَعْضَ الْقِرَاءَةِ بِالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهَا، وَيَقْرُبُ إِنْكَارُهَا مِنَ الرِّدَّةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. أَمَّا نَافِعٌ، فَقَرَأَ عَلَى سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ، ثُمَّ هي قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَاطِبَةً. وَأَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ، فَقَرَأَ عَلَى سَادَةِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ، كَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ إِمَامُ الْبَصْرَةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَقَرَأْتَ عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، خَتَمْتُ عَلَى ابن كثير بعد ما خَتَمْتُ عَلَى مُجَاهِدٍ، وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ أَعْلَمَ مِنْ مُجَاهِدٍ بِاللُّغَةِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَبِيرٌ يَعْنِي خِلَافًا. وَأَمَّا ابْنُ عَامِرٍ فَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ قُحٌّ، قَدْ سَبَقَ اللَّحْنَ، أَخَذَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِمَا. فَهَذِهِ أَمْصَارٌ ثَلَاثَةٌ اجْتَمَعَتْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالشَّامُ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَادَّةِ مَفْقُودَةً فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَتِ الْكَلِمَةُ عَجَمِيَّةً، وَمَوَادُّ كَلَامِ الْعَجَمِ مُخَالِفَةٌ فِي كَثِيرٍ مَوَادَّ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَنْعِ صَرْفِهَا الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ وَالتَّأْنِيثُ.
وَتَقَدَّمَ مَدْلُولُ الْأَيْكَةِ فِي الْحِجْرِ، وَكَانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، فَلِذَلِكَ جَاءَ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً «١». وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْأَيْكَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ. وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هُمْ أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَعَنْ غَيْرِهِ، أَنَّ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هُمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَأَصْحَابَ مَدْيَنَ هُمُ الْحَاضِرَةُ.
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ شُعَيْبًا أَخَا مَدْيَنَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْإِخْسَارِ، وَهُوَ التَّطْفِيفُ، وَلَمْ يَذْكِرِ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاجِبِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَشِحُّ بِذَلِكَ فَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَا حَرَجَ».
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِسْطَاسِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَجُعِلَتِ الْعَيْنُ مُكَرَّرَةً، فَوَزْنُهُ فِعْلَاءُ، وَإِلَّا فَهُوَ رُبَاعِيٌّ. انْتَهَى. وَلَوْ تَكَرَّرَ مَا يُمَاثِلُ الْعَيْنَ فِي النُّطْقِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا رُبَاعِيًّا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْقِسْطِ.
انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَزِنُوا، هُوَ أَمْرٌ بِالْوَزْنِ، إِذْ عَادَلَ قَوْلَهُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ، فَشَمِلَ مَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ فِيهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ عَدِّلُوا أُمُورَكُمْ كُلَّهَا بِمِيزَانِ الْعَدْلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ: الْجُمْلَةُ وَالَّتِي تَلِيهَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليهما. ولما تقدم
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٨٥، وسورة هود: ١١/ ٨٤، وسورة العنكبوت: ٢٩/ ٣٦.
186
أَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَقْوَى مَنْ أَوَجَدَهُمْ وَأَوْجَدَ مَنْ قَبْلَهُمْ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْجَدَهُمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَيُهْلِكَهُمْ. وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ وَالْجِبِلَّةَ إِيذَانًا بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يُصَيِّرُكُمْ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أَوَّلُوكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَصِيرُونَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْجِبِلَّةَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَشَدِّ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو حَصِينٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالْحَسَنُ:
بِخِلَافٍ عَنْهُ، بِضَمِّهَا وَالشَّدِّ لِلَّامِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: وَالْجِبْلَةَ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُ: فَتْحُ الْجِيمِ وَسُكُونُ الْبَاءِ، وَهِيَ مِنْ جُبِلُوا عَلَى كَذَا، أَيْ خُلِقُوا. قِيلَ: وَتَشْدِيدُ اللَّامِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ فِي بِنَاءَيْنِ لِلْمُبَالِغَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجِبِلَّةُ: عَشَرَةُ آلَافٍ. وَما أَنْتَ: جَاءَ هُنَا بِالْوَاوِ، وَفِي قِصَّةِ هُودٍ: مَا أَنْتَ، بِغَيْرِ وَاوٍ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا دَخَلَتِ الْوَاوُ فَقَدْ قُصِدَ مَعْنَيَانِ، كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلرِّسَالَةِ عِنْدَهُمْ، التَّسْحِيرُ وَالْبَشَرِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَحَّرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا، وَإِذَا تُرِكَتِ الْوَاوُ فَلَمْ يُقْصَدْ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسَحَّرًا، ثُمَّ قَرَّرَ بِكَوْنِهِ بَشَرًا. انْتَهَى.
وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ: إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ هِيَ الْفَارِقَةُ، خِلَافًا للكوفيين، فَإِنْ عِنْدَهُمْ نَافِيَةً وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «١» فِي الْبَقَرَةِ. ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ إِسْقَاطَ كِسَفٍ، مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ صادقا، فادع الَّذِي أَرْسَلَكَ أَنْ يُسْقِطَ عَلَيْنَا كِسَفًا، أَيْ قِطْعَةً، أَوْ قِطَعًا عَلَى حَسَبِ التَّسْكِينِ وَالتَّحْرِيكِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكِلَاهُمَا جَمْعُ كِسْفَةٍ، نَحْوَ: قِطَعٍ وَشِذَرٍ. وَقِيلَ: الْكِسَفُ وَالْكِسْفَةُ، كَالرِّيعِ وَالرِّيعَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ وَكِسْفَةٌ: قِطْعَةٌ، وَالسَّمَاءُ: السَّحَابُ أَوِ الْمِظَلَّةُ. وَدَلَّ طَلَبُهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّصْمِيمِ عَلَى الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ. وَلَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ مَا طَلَبُوا، أَحَالَ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَعْمَالِكُمْ، وَبِمَا تَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهَا مِنَ الْعِقَابِ، فَهُوَ يُعَاقِبُكُمْ بِمَا شَاءَ.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهُوَ نَحْوٌ مِمَّا اقْتَرَحُوا. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ كَيْفِيَّةَ عَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، حَتَّى إن ابن عباس قال: مَنْ حَدَّثَكَ مَا عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَقَدْ كَذَبَ، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِهَا تَطْوِيلَاتٍ.
فَرَوَى أَنَّهُ حَبَسَ عَنْهُمُ الرِّيحَ سَبْعًا، فَابْتُلُوا بِحَرٍّ عَظِيمٍ يَأْخُذُ بِأَنْفَاسِهِمْ، لَا يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ، فَاضْطُرُّوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ وَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَنَسِيمًا، فَاجْتَمَعُوا تَحْتَهَا، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ.
وَكَرَّرَ مَا كَرَّرَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ الْقَصَصِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَرِيقَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَهِيَ الدُّعَاءُ إلى
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٣.
187
تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَرَفْضِ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَرِكُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ، وَتِلْكَ عَادَةُ الْأَنْبِيَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْأَلْفَاظُ فِي دُعَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا، إِذْ كَانَ الْإِيمَانُ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ مَعْنًى وَاحِدًا بِعَيْنِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ كَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ قِصَّةٍ وَآخِرِهَا مَا كَرَّرَ؟ قُلْتُ: كُلُّ قِصَّةٍ مِنْهَا كَتَنْزِيلٍ بِرَأْسِهِ، وَفِيهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ مِثْلُ مَا فِي غَيْرِهَا. فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُدْلِي بِحَقٍّ، إِلَى أَنْ يفتتح بِمِثْلِ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ صَاحِبَتُهَا، وَأَنْ تُخْتَتَمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُتِمَتْ بِهِ. وَلِأَنَّ التَّكْرِيرَ تَقْرِيرٌ لِلْمَعَانِي فِي النُّفُوسِ، وَتَثْبِيتٌ لَهَا فِي الصُّدُورِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ طُرِقَتْ بِهَذَا آذَانٌ، وقرعن الْإِنْصَاتِ لِلْحَقِّ، وَقُلُوبٌ غُلْفٌ عَنْ تَدَبُّرِهِ، فَأُوثِرَتْ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَرُوجِعَتْ بِالتَّرْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ.
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ، وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ.
الضَّمِيرُ فِي: وَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ بِكَهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ عَادَ أَيْضًا إِلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ السُّورَةَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا يَأْتِيهِمْ مِنَ الذِّكْرِ، لِيَتَنَاسَبَ الْمُفْتَتَحُ وَالْمُخْتَتَمُ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وحفص: نَزَلَ مخففا، والرُّوحُ الْأَمِينُ: مَرْفُوعَانِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّشْدِيدِ وَنَصْبِهِمَا. وَالرُّوحُ هُنَا:
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ لِمَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الرُّوحُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ «١». انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ عَلى قَلْبِكَ ولِتَكُونَ بنزل، وَخَصَّ الْقَلْبَ وَالْمَعْنَى عَلَيْكَ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْوَعْيِ وَالتَّثْبِيتِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَى قَلْبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَحْفُوظٌ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَلَا التَّغْيِيرُ، وَلِيَكُونَ عِلَّةً فِي التَّنْزِيلِ أَوِ النُّزُولِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَزْجَرُ لِلسَّامِعِ، وَإِنْ كَانَ القرآن نزل
(١) سورة المائدة: ٥/ ٦١.
188
لِلْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ بِلِسانٍ بنزل، فَكَانَ يَسْمَعُ مِنْ جِبْرِيلَ حُرُوفًا عَرَبِيَّةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ: وَتَكُونُ صَلْصَلَةُ الْجَرَسِ صِفَةً لِشِدَّةِ الصَّوْتِ وَتَدَاخُلِ حُرُوفِهِ وَعِجْلَةِ مَوْرِدِهِ وَإِغْلَاظِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لِتَكُونَ، وَتَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَسْمَعُ أَحْيَانًا مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، يَتَفَهَّمُ لَهُ مِنْهُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ.
انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِلِسانٍ، إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُنْذِرِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لِتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أَنْذَرُوا بِهَذَا اللِّسَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ: هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بنزل، فَيَكُونَ الْمَعْنَى: نَزَّلَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ لِتُنْذِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَّلَهُ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ، لَتَجَافَوْا عَنْهُ أَصْلًا وَقَالُوا: مَا نَصْنَعُ بِمَا لَا نَفْهَمُهُ؟ فَيَتَعَذَّرُ الْإِنْذَارُ بِهِ.
وَفِي هَذَا الْوَجْهِ، إِنَّ تَنْزِيلَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِسَانُكَ وَلِسَانُ قَوْمِكَ، تَنْزِيلٌ لَهُ عَلَى قَلْبِكَ، لِأَنَّكَ تَفْهَمُهُ وَيَفْهَمُهُ قَوْمُكَ. وَلَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا، لَكَانَ نَازلًا عَلَى سَمْعِكَ دُونَ قَلْبِكَ، لِأَنَّكَ تَسْمَعُ أَجْرَاسَ حُرُوفٍ لَا تَفْهَمُ مَعَانِيَهَا وَلَا تَعِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَارِفًا بِعِدَّةِ لُغَاتٍ، فَإِذَا كُلِّمَ بِلُغَتِهَا الَّتِي لُقِّنَهَا أَوَّلًا وَنَشَأَ عَلَيْهَا وَتَطَبَّعَ بِهَا، لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ إِلَّا إِلَى مَعَانِي تِلْكَ الْكَلِمِ يَتَلَقَّاهَا بِقَلْبِهِ، وَلَا يَكَادُ يَفْطَنُ لِلْأَلْفَاظِ كَيْفَ جَرَتْ. وَإِنْ كُلِّمَ بِغَيْرِ تِلْكَ اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ مَاهِرًا بِمَعْرِفَتِهَا، كَانَ نَظَرُهُ أَوَّلًا فِي أَلْفَاظِهَا، ثُمَّ فِي مَعَانِيهَا. فَهَذَا تَقْرِيرٌ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ لِنُزُولِهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ تَطْوِيلٌ.
وَإِنَّهُ، أَيِ الْقُرْآنَ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ: أَيْ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْقَدِيمَةِ، مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ مُشَارٌ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعَانِيَهُ فِيهَا، وَبِهِ يُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ قُرْآنٌ إِذَا تُرْجِمَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، حَيْثُ قِيلَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، لِكَوْنِ مَعَانِيهِ فِيهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِنَّ ذِكْرَهُ ورسالته في الكتاب الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَكُونُ الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ:
عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ إِلَى ضَمِيرِ الغيبة، وكذلك قبل فِي أَنْ يُعْلِمَهُ، أَيْ أَنْ يُعْلِمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَوْضَحُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَفِي زُبْرِ، بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَالْأَصْلُ الضَّمُّ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَحِّحَ عِنْدَهُمْ أَمْرَهُ، كَوْنُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَهُ، أَيْ أو لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَامَةٌ عَلَى صحة عِلْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهِ؟ إِذْ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَرْجِعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْهَا وَيَقُولُونَ: هُمْ أَصْحَابُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَدْ تَهَوَّدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ وَتَنَصَّرَ كَثِيرٌ، لِاعْتِقَادِهِمْ فِي صِحَّةِ دِينِهِمْ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ بَعَثُوا إِلَى أَحْبَارِ يَثْرِبَ يَسْأَلُونَهُمْ عَنِ
189
النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: هَذَا زَمَانُهُ، وَوَصَفُوا نَعْتَهُ، وَخَلَطُوا فِي أمر محمد عليه السلام، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ
، وَيُؤَيِّدُ هَذَا كَوْنُ الْآيَةِ مَكِّيَّةً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ مدنية.
وعُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَنَحْوُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ أَسْلَمُوا وَنَصُّوا عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ فِيهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا «١» الْآيَةَ. وَقِيلَ:
عُلَمَاؤُهُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ. وَقِيلَ: أَنْبِيَاؤُهُمْ، حَيْثُ نَبَّهُوا عَلَيْهِ وَأَخْبَرُوا بِصِفَتِهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوَلَمْ يَكُنْ، بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، آيَةً: بِالنَّصْبِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةُ الْإِعْرَابِ تَوَسَّطَ خَبَرُ يكن، وأَنْ يَعْلَمَهُ: هُوَ الِاسْمُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ: تَكُنْ بالتاء من فوق، آية: بِالرَّفْعِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَتْ آيَةٌ اسْمًا، وَأَنْ يَعْلَمَهُ خَبَرًا، وَلَيْسَتْ كَالْأُولَى لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ اسْمًا وَالْمَعْرِفَةِ خَبَرًا، وَقَدْ خُرِّجَ لَهَا وَجْهٌ آخَرُ لِيُتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: فِي تَكُنْ ضَمِيرُ القصة، وآية أَنْ يَعْلَمَهُ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ آية جملة الشأن، وأن يَعْلَمَهُ بَدَلًا مِنْ آيَةً. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكُنْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، آيَةً بِالنَّصْبِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قرأ: لم ثم تَكُنْ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، فِتْنَتُهُمْ بِالنَّصْبِ، إِلَّا أَنْ قالُوا «٢»، وَكَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا
وَدَلَّ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى تَأْنِيثِ الِاسْمِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، وَإِمَّا لِتَأْوِيلِ أَنْ يَعْلَمَهُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَتَأْوِيلِ إِلَّا أَنْ قالُوا بِالْمَقَالَةِ، وَتَأْوِيلِ الْإِقْدَامِ بِالْإِقْدَامَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: أَنْ تَعْلَمَهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضِرَارًا لِأَقْوَامِ
وكتب في المصحف: علموا بِوَاوٍ بَيْنَ الْمِيمِ وَالْأَلِفِ. قِيلَ: عَلَى لُغَةِ مَنْ يميل ألف علموا إِلَى الْوَاوِ، كَمَا كَتَبُوا الصلاة وَالزَّكَوةَ وَالرِّبَوا عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأَعْجَمِي الَّذِي لَا يُفْصِحُ، وَفِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَاسْتِعْجَامٌ، وَالْأَعْجَمِيُّ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّ فِيهِ لِزِيَادَةِ يَاءِ النِّسْبَةِ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَعْجَمُونَ جَمْعُ أَعْجَمَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ النَّسَبِ يُقَالُ لَهُ أَعْجَمُ، وَذَلِكَ يُقَالُ لِلْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ». وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ قَالَ، حِينَ قَرَأَ هَذِهِ الآية
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٥٣.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٢٣.
190
وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ: «جَمَلِي هَذَا أَعْجَمُ، فَلَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ».
وَالْعَجَمِيُّ هُوَ الَّذِي نِسْبَتُهُ فِي الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ أَفْصَحَ النَّاسِ. انْتَهَى. وَفِي التَّحْرِيرِ: الْأَعْجَمِينَ: جَمْعُ أَعْجَمَ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ جَمْعَ سَلَامَةٍ. قِيلَ: وَالْمَعْنَى وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ عَلَى رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ فَقَرَأَهُ عَلَى الْعَرَبِ، لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، حَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوهُ، وَاسْتَنْكَفُوا مِنَ اتِّبَاعِهِ. وَقِيلَ: وَلَوْ نَزَّلْنَا الْقُرْآنَ عَلَى بَعْضِ الْعَجَمِ مِنَ الدَّوَابِّ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُؤْمِنُوا، لِعِنَادِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ «١» الْآيَةَ، وَجُمِعَ جَمْعَ السَّلَامَةِ، لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالْإِنْزَالِ عَلَيْهِ وَالْقِرَاءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ الْعُقَلَاءِ. وَقِيلَ: وَلَوْ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ تُؤْمِنِ الْبَهَائِمُ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا «٢» انْتَهَى.
وَلَمَّا بَيَّنَ بِمَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَكَانَ في ذلك دليلين عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الدَّلَائِلُ. أَلَا تَرَى نُزُولَهُ عَلَى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ، وَسَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ وَأَدْرَكُوا إِعْجَازَهُ وَتَصْدِيقَ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ جَحَدُوا وَسَمَّوْهُ تَارَةً شِعْرًا وَتَارَةً سِحْرًا؟ وَلَوْ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الْأَعَاجِمِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، لَكَفَرُوا بِهِ وَتَمَحَّلُوا بِجُحُودِهِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَعْجَمِينَ جَمْعُ أَعْجَمَ أَوْ أَعْجَمِيٍّ، عَلَى حَذْفِ ياء النسب، كما قالوا:
الْأَشْعَرِينَ، وَوَاحِدُهُمْ أَشْعَرِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَهْمِ: قَالَ الْكُمَيْتُ:
وَلَوْ جَهَّزْتُ قَافِيَةً شَرُودًا لَقَدْ دَخَلَتْ بُيُوتَ الْأَشْعَرَيْنَا
انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ مِقْسَمٍ: الْأَعْجَمِيِّينَ، بِيَاءِ النَّسَبِ: جَمْعُ أَعْجَمِيٍّ. وَالضَّمِيرُ فِي سَلَكْناهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ. قِيلَ: وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَهُ الرُّمَّانِيُّ. وَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ، وَهُوَ الْإِدْخَالُ وَالتَّمْكِينُ وَالتَّفْهِيمُ لِمَعَانِيهِ.
سَلَكْناهُ: أَدْخَلْنَاهُ وَمَكَّنَّاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ السَّلْكِ مِنْ كَوْنِهِمْ فَهِمُوهُ وَأَدْرَكُوهُ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا عِنَادًا وَجُحُودًا وَكُفْرًا بِهِ، أَيْ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَالتَّكْذِيبِ لَهُ، كَمَا وَضَعْنَاهُ فِيهَا. فَكَيْفَ مَا يُرَامُ إِيمَانُهُمْ بِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ؟ وَأَعْمَاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ «٣» الْآيَةَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَدْخَلْنَاهُ فِيهَا، فَعَرَفُوا مَعَانِيَهُ، وَعَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١١٠.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٤.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٧.
191
بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: الضَّمِيرُ فِي سَلَكْنَاهُ يَعُودُ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ. انْتَهَى. وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ: فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ. انْتَهَى.
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَلَكْنَاهُ، أَيِ الْقَسْوَةَ، وَأَسْنَدَ السَّلْكَ تَعَالَى إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ هُوَ مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الْهَادِي وَخَالِقُ الضَّلَالِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَسْنَدَ السَّلْكَ بِصِفَةِ التَّكْذِيبِ إِلَى ذَاتِهِ؟ قُلْتُ:
أَرَادَ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى تَمَكُّنِهِ مُكَذَّبًا فِي قُلُوبِهِمْ أَشَدَّ التَّمْكِينِ وَأَثْبَتَهُ، فَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ قَدْ جُبِلُوا عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ مَجْبُولٌ عَلَى الشُّحِّ؟ يُرِيدُونَ تَمَكُّنَ الشُّحِّ فِيهِ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الْخِلْقِيَّةَ أَثْبَتُ مِنَ الْعَارِضَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسْنَدَ تَرْكَ الْإِيمَانِ بِهِ إِلَيْهِمْ عَلَى عَقِبِهِ، وَهُوَ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَالتَّشْبِيهِ بَيْنَ السَّلْكَيْنِ، يَقْتَضِي تَغَايُرَ مَنْ حَلَّ بِهِ. وَالْمَعْنَى: مِثْلُ ذَلِكَ السَّلْكِ فِي قُلُوبِ قُرَيْشٍ، سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ مَنْ أَجْرَمَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ السَّلْكِ وَهُوَ الْإِجْرَامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَرَادَ بِهِمْ مُجْرِمِي كُلِّ أُمَّةٍ، أَيْ إِنَّ هَذِهِ عَادَةُ اللَّهِ فِيهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ، فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ بَعْدَ تَلَبُّسِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ لِقُرَيْشٍ، أَيْ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، وَكَشْفُ الْغَيْبِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَوْقِعُ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ؟ قُلْتُ: مَوْقِعُهُ مِنْهُ مَوْقِعُ الْمُوَضِّحِ وَالْمُلَخِّصِ، لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِثَبَاتِهِ مُكَذَّبًا مَجْحُودًا فِي قُلُوبِهِمْ، فَأُتْبِعَ بِمَا يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَجُحُودِهِ حَتَّى يُعَايِنُوا الوعيد، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ سَلَكْنَاهُ فِيهَا غَيْرَ مُؤْمَنٍ بِهِ. انْتَهَى. وَرُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ، قِيلَ: فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَأْتِيَهُمْ، بِيَاءٍ، أَيِ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى: بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ الْعُقُوبَةُ، أَيْ فَتَأْتِيَهُمُ الْعُقُوبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: أَتَتْهُ كِتَابِي، فَلَمَّا سُئِلَ قَالَ: أَوْ لَيْسَ بِصَحِيفَةٍ؟ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَأْتِيَهُمْ بِالتَّاءِ، يَعْنِي السَّاعَةَ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: أَنَّثَ الْعَذَابَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى السَّاعَةِ، فَاكْتَسَى مِنْهَا التَّأْنِيثَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَذَابَ الْقِيَامَةِ تَكْذِيبًا بِهَا، فَلِذَلِكَ أُنِّثَ. وَلَا يَكْتَسِي الْمُذَكَّرُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ تَأْنِيثًا إِلَّا إِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ نَحْوَ: اجْتَمَعَتْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ، وَقُطِعَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ، وَشَرَقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:
بَغَتَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ، فَتَأْتِيَهِمْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، يَعْنِي السَّاعَةَ.
192
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى التَّعْقِيبِ فِي قوله: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً قُلْتُ: لَيْسَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَمُفَاجَأَتِهِ وَسُؤَالِ النَّظِرَةِ فِيهِ الْوُجُودُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى تَرَتُّبُهَا فِي الشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ حَتَّى تَكُونَ رُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، وَهُوَ لُحُوقُهُ بِهِمْ مُفَاجَأَةً مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ سُؤَالُهُمُ النَّظِرَةَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَسَأْتَ مَقَتَكَ الصَّالِحُونَ، فَمَقَتَكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ لَا تَقْصِدُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ مَقْتَ اللَّهِ يُوجَدُ عَقِيبَ مَقْتِ الصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا قَصْدُكَ إِلَى تَرْتِيبِ شِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسِيءِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ مَقْتُ الصَّالِحِينَ. فَمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَقْتِهِمْ؟ وَهُوَ مَقْتُ اللَّهِ. وَيُرَى، ثُمَّ يَقَعُ هَذَا فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ، فَيَحِلُّ مَوْقِعَهُ. انْتَهَى. فَيَقُولُوا، أَيْ كُلُّ أُمَّةٍ مُعَذَّبَةٍ: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ:
أَيْ مُؤَخَّرُونَ، وَهَذَا عَلَى جِهَةِ التَّمَنِّي مِنْهُمْ وَالرَّغْبَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ الرَّغْبَةُ. ثُمَّ رَجَعَ لَفْظُ الْآيَةِ إِلَى تَوْبِيخِ قُرَيْشٍ عَلَى اسْتِعْجَالِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي طَلَبِهِمْ سُقُوطَ السَّمَاءِ كِسَفًا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ: أَيْنَ مَا تَعِدُنَا بِهِ؟
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، تَبْكِيتٌ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ وَتَهَكُّمٌ، وَمَعْنَاهُ:
كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ الْعَذَابَ مَنْ هُوَ مُعَرَّضٌ لِعَذَابٍ يَسْأَلُ فِيهِ مِنْ جِنْسِ، مَا هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ مِنَ النَّظِرَةِ وَالْإِمْهَالِ؟ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَا يُجَابُ إِلَيْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حِكَايَةَ تَوْبِيخٍ، يُوَبَّخُونَ بِهِ عِنْدَ اسْتِنْظَارِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَيَسْتَعْجِلُونَ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ، حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَوَجْهٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْعَذَابِ إِمَّا كَانَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ وَلَا لَاحِقٍ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُمَتَّعُونَ بِأَعْمَارٍ طَوَالٍ فِي سَلَامَةٍ وَأَمْنٍ. فَقَالَ عَزَّ وَعَلَا: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أَشَرًا وَبَطَرًا وَاسْتِهْزَاءً وَاتَّكَالًا عَلَىَ الْأَمَلِ الطَّوِيلِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ تَمَتُّعِهِمْ وَتَعْمِيرِهِمْ، فَإِذَا لَحِقَهُمُ الْوَعِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ، مَا يَنْفَعُهُمْ حِينَئِذٍ مَا مَضَى مِنْ طُولِ أَعْمَارِهِمْ وَطِيبِ مَعَايِشِهِمْ؟ انْتَهَى. وَقِيلَ: أَتْبَعَ قَوْلَهُ: فَتَأْتِيَهِمْ بَغْتَةً بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَسْرَةِ. فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ، كَمَا يَسْتَغِيثُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْخَلَاصِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنْ لَا مَلْجَأَ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ اسْتِرْوَاحًا. وَقِيلَ: يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ حِين يَبْغَتُهُمْ عَذَابُ السَّاعَةِ، فَلَا يُجَابُونَ إِلَيْهَا.
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ: خِطَابٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فِي أَنَّ مُدَّةَ الْإِرْجَاءِ وَالْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لَا تُغْنِي إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بَعْدَهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سِنِينَ، عُمَرُ الدُّنْيَا. انْتَهَى. وَتَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ وَالْآخِرُ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. فِي الْغَالِبِ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا
193
مَا صَنَعَ؟ وَمَا جَاءَ مِمَّا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ أُوِّلَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَتَقُولُ هُنَا مَفْعُولُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ تَنَازَعَ عَلَى مَا يُوعِدُونَ أَرَأَيْتَ وَجَاءَهُمْ، فَأُعْمِلَ الثَّانِي فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِجَاءَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِأَرَأَيْتَ عَلَى إِعْمَالِ الْأَوَّلِ، وَأُضْمِرَ الْفَاعِلُ فِي جَاءَهُمْ. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ تَمَتُّعُهُمْ فِي تِلْكَ السِّنِينَ الَّتِي مُتِّعُوهَا؟ وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ يَتَضَمَّنُ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ تَمَتُّعُهُمْ حِينَ حَلَّ، أَيِ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَهُوَ الْعَذَابُ؟ وَظَاهِرُ مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ مَا أَغْنَى: أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، وَالِاسْتِفْهَامُ قَدْ يَأْتِي مُضَمَّنًا مَعْنَى النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ «١» ؟
بَعْدَ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكُمْ «٢» فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، أَيْ مَا يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي مَا أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا ونافية. وقرىء: يُمَتَّعُونَ، بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ التَّاءِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى إِلَّا وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهَا مَنْ يُنْذِرُهَا عَذَابَ اللَّهِ، إِنْ هِيَ عَصَتْ وَلَمْ تُؤْمِنْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «٣». وَجَمَعَ مُنْذِرُونَ، لِأَنَّ مِنْ قَرْيَةٍ عَامٌّ فِي الْقُرَى الظَّالِمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَهْلَكْنَا الْقُرَى الظَّالِمَةَ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَها مُنْذِرُونَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَرْيَةٍ، وَالْإِعْرَابُ أَنْ تَكُونَ لَهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَارْتَفَعَ مُنْذِرُونَ بِالْمَجْرُورِ إِلَّا كَائِنًا لَهَا مُنْذِرُونَ، فَيَكُونُ مِنْ مَجِيءِ الْحَالِ مُفْرَدًا لَا جُمْلَةً، وَمَجِيءُ الْحَالِ من المنفي كقول: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، فَصِيحٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ عُزِلَتِ الْوَاوُ عَنِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ إِلَّا، وَلَمْ تُعْزَلْ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ؟ «٤» قُلْتُ: الْأَصْلُ عَزْلُ الْوَاوِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَإِذَا زِيدَتْ فَلِتَأْكِيدِ وَصْلِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «٥». انْتَهَى. وَلَوْ قَدَّرَنَا لَهَا مُنْذِرُونَ جُمْلَةً، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَجِيءَ صِفَةً بَعْدَ إِلَّا.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، أَنَّهُ لَا تَجِيءُ الصِّفَةُ بَعْدَ إِلَّا مُعْتَمِدَةً عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا رَاكِبٌ. وَإِذَا سُمِعَ مِثْلُ هَذَا، خَرَّجُوهُ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ: إِلَّا رَجُلٌ رَاكِبٌ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمًا، وَلَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِهَا: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا قَائِمٌ. فَلَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلنَّكِرَةِ، لَوَرَدَ الْمُفْرَدُ بَعْدَ إلا صفة
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٤٧.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٤٧.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١٥. [.....]
(٤) سورة الحجر: ١٥/ ٤.
(٥) سورة الأعراف: ٧/ ٢٢.
194
لَهَا. فَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ غَيْرَ مُعْتَمِدَةٍ عَلَى أَدَاةٍ، جَاءَتِ الصِّفَةُ بَعْدَ إِلَّا نَحْوَ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلا زيد خير من عَمْرٍو، التَّقْدِيرُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْ عَمْرٍو إِلَّا زَيْدٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الْوَاوِ تُزَادُ لِتَأْكِيدِ وَصْلِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، فَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ. لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَعَاقِلٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ وَعَاقِلٌ صِفَةً لِرَجُلٍ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْوَاوُ فِي الصِّفَاتِ جَوَازًا إِذَا عَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَتَغَايَرَ مَدْلُولُهَا نَحْوَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْكَرِيمِ وَالشُّجَاعِ وَالشَّاعِرِ. وَأَمَّا وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ.
ذِكْرى: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ، وَعَلَى الْمَصْدَرِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ. فَعَلَى الْحَالِ، إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ذَوِي ذِكْرَى، أَوْ مُذَكِّرِينَ. وَعَلَى الْمَصْدَرِ، فَالْعَامِلُ مُنْذِرُونَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُذَكِّرُونَ ذِكْرَى، أَيْ تَذْكِرَةً. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذِكْرَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، قَالَ:
عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُنْذَرُونَ لِأَجْلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، وَأَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً صِفَةً بِمَعْنَى مُنْذِرُونَ ذَوُو ذِكْرَى، أَوْ جُعَلُوا ذِكْرَى لِإِمْعَانِهِمْ فِي التَّذْكِرَةِ وَإِطْنَابِهِمْ فِيهَا. وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ مَرْفُوعَةً عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِمَعْنَى هَذِهِ ذِكْرَى، وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى مُتَعَلِّقَةً بِأَهْلَكْنَا مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمِينَ إِلَّا بعد ما أَلْزَمْنَاهُمُ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الْمُنْذِرِينَ إِلَيْهِمْ، لِتَكُونَ تَذْكِرَةً وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، فَلَا يَعْصُوا مِثْلَ عِصْيَانِهِمْ. وَما كُنَّا ظالِمِينَ، فَنُهْلِكُ قَوْمًا غَيْرَ ظَالِمِينَ، وَهَذَا الْوَجْهُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى، أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ، أَوْ تَابِعًا لَهُ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَى الْأَدَاةِ نَحْوِ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زيد خَيْرٍ مِنْ عَمْرٍو. وَالْمَفْعُولُ لَهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَهْلَكْنَا. وَيَتَخَرَّجُ جَوَازُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ بِخُصُوصِيَّتِهِ.
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ، فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا
195
لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَقُولُونَ: إِنَّ لِمُحَمَّدٍ تَابِعًا مِنَ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ كَمَا يُخْبَرُ الْكَهَنَةُ، فَنَزَلَتْ
، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، بَلْ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:
الشَّيَاطُونَ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ رَدَّهَا أَبُو حَاتِمٍ والقراءة قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ، ظَنَّ أَنَّهَا النُّونُ الَّتِي عَلَى هَجَائِنَ. فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَنَّ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْعَجَّاجِ وَرُؤْبَةَ، فَهَلَّا جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَصَاحِبِهِ، يُرِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ السَّمَيْفَعِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا وَقَدْ سَمِعَا فِيهِ؟ وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: دَخَلْتُ بَسَاتِينَ مِنْ وَرَائِهَا بَسَاتُونَ، فَقُلْتُ: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِقِرَاءَةِ الْحَسَنِ. انْتَهَى. وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ آخِرُهُ كَآخِرِ يَبْرِينَ وَفِلَسْطِينَ، فَكَمَا أُجْرِيَ إِعْرَابُ هَذَا عَلَى النُّونِ تَارَةً وَعَلَى مَا قَبْلَهُ تَارَةً فَقَالُوا: يَبْرِينَ وَيَبْرُونَ وَفِلَسْطِينَ وَفِلَسْطُونَ أُجْرِيَ ذَلِكَ فِي الشَّيَاطِينِ تَشْبِيهًا بِهِ فَقَالُوا: الشَّيَاطِينَ وَالشَّيَاطُونَ. وَقَالَ أَبُو فَيْدٍ مُؤَرِّجٌ السَّدُوسِيُّ: إِنْ كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ شَاطَ، أَيِ احْتَرَقَ، يَشِيطُ شَوْطَةً، كَانَ لِقِرَاءَتِهِمَا وَجْهٌ. قِيلَ: وَوَجْهُهَا أَنَّ بِنَاءَ الْمُبَالِغَةِ مِنْهُ شَيَّاطٌ، وَجَمْعُهُ الشَّيَّاطُونَ، فَخَفَّفَا الْيَاءَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا التَّشْدِيدُ، وَقَرَأَ بِهِ غَيْرُهُمَا. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الشَّيَاطُونَ، كَمَا قَرَأَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنْ نَقَلَةِ الْقُرْآنِ، قرأوا ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ غَلِطُوا، لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَنَقْلِ الْقُرْآنِ بِمَكَانٍ. وَمَا أَحْسَنَ مَا تَرَتَّبَ نَفْيُ هَذِهِ الْجُمَلِ نَفَى أَوَّلًا تَنْزِيلَ الشَّيَاطِينِ بِهِ، وَالنَّفْيُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ فِي الْمُمْكِنِ، وَإِنْ كَانَ هُنَا لَا يُمْكِنُ مِنَ الشَّيَاطِينِ التَّنَزُّلُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ نَفَى انْبِغَاءَ ذَلِكَ وَالصَّلَاحِيَةَ، أَيْ وَلَوْ فُرِضَ الْإِمْكَانُ لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهُ، ثُمَّ نَفَى قُدْرَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِمُ التَّنَزُّلُ بِهِ، فَارْتَقَى مِنْ نَفْيِ الْإِمْكَانِ إِلَى نَفْيِ الصَّلَاحِيَةِ إِلَى نَفْيِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ فِي نَفْيِ تَنْزِيلِهِمْ بِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ عَنِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ أَهْلِ السَّمَاءِ مَرْجُومُونَ بِالشُّهُبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ: وَالْخِطَابُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلسَّامِعِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَفَرَ: لَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، وَالْعَشِيرَةُ تَحْتَ الْفَخِذِ وَفَوْقَ الْفَصِيلَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعَشِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِإِنْذَارِ النَّاسِ كَافَّةً. كَمَا
196
قَالَ: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «١»، لِأَنَّ فِي إِنْذَارِهِمْ، وَهُمْ عَشِيرَتُهُ، عَدَمُ مُحَابَاةٍ وَلُطْفٍ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ شَرْعٌ وَاحِدٌ فِي التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ. فَإِذَا كَانَتِ الْقَرَابَةُ قَدْ خُوِّفُوا وَأُنْذِرُوا مَعَ مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الرَّأْفَةِ، كَانَ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْكَدَ وَأَدْخَلَ، أَوْ لِأَنَّ الْبَدَاءَةَ تَكُونُ بِمَنْ يَلِيهِ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «٢».
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ: «كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، فَأَوَّلُ مَا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ، إِذِ الْعَشِيرَةُ مَظِنَّةُ الطَّوَاعِيَةِ، وَيُمْكِنُهُ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُمْكِنُهُ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ لَهُ أَشَدُّ احْتِمَالًا». وَامْتَثَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنْ إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، فَنَادَى الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ فَخِذًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ فِي آخِرِ الْحِجْرِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا
نَهَاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ بَعْدَ التَّوَاضُعِ. وَالْأَجْدَلُ: الصقر، ومن الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي عَشِيرَتِهِ وَغَيْرِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمَّا الطَّاعَةُ وَإِمَّا الْعِصْيَانُ، جَاءَ التَّقْسِيمُ عَلَيْهِمَا، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى:
أَنَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مُؤْمِنًا، فَتَوَاضَعْ لَهُ فَلِذَلِكَ جَاءَ قَسِيمُهُ: فَإِنْ عَصَوْكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَفِي هَذَا موادعة نسختها آية السيف. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي عَصَوْكَ، عَلَى أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِإِنْذَارِهِمْ، وَهُمُ العشيرة، والذي برىء مِنْهُ هُوَ عِبَادَتُهُمُ الْأَصْنَامَ وَاتِّخَاذُهُمْ إِلَهًا آخَرَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فَإِنْ عَصَوْكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَحْكَامِ وَفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ تَصْدِيقِكَ وَالْإِيمَانِ بِكَ، فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، لَا مِنْكُمْ، أَيْ أَظْهِرْ عَدَمَ رِضَاكَ بِعَمَلِهِمْ وَإِنْكَارَكَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، مَا بَقِيَ بَعْدَ هَذَا شَفِيعًا لِلْعُصَاةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ:
فَتَوَكَّلْ بِالْفَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْوَاوِ. وَنَاسَبَ الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، وَبِالرَّحِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُكَ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ هُمَا اللَّتَانِ جَاءَتَا فِي أَوَاخِرِ قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَالتَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ هُوَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ كَافِيهِ شر من بعضه مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَهُوَ يَقْهَرُ أَعْدَاءَكَ بِعِزَّتِهِ، وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ. وَالتَّوَكُّلُ هُوَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ الْأَمْرَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ. ثُمَّ وُصِفَ بِأَنَّهُ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُ بِمَرْأًى، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ أَنْ أهلك لعبادته،
(١) سورة يونس: ١٠/ ٢.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٢٣.
197
وَمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَهَجُّدِكَ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَقَلُّبَكَ مَصْدَرُ تَقَلَّبَ، وَعُطِفَ عَلَى الْكَافِ فِي يَراكَ
. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وَتَقَلُّبَكَ مُضَارِعُ قَلَّبَ مُشَدَّدًا، عَطْفًا عَلَى يَراكَ
. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي السَّاجِدِينَ: فِي الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي أَصْلَابِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى خَرَجْتَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَرَاكَ قَائِمًا وَسَاجِدًا. وَقِيلَ: مَعْنَى تَقُومُ
: تَخْلُو بِنَفْسِكَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْمُرَادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، كَمَا
قَالَ: «أَتِمُّوا الركوع والسجود فو الله إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي».
وَفِي الْوَجِيزِ لِابْنِ عَطِيَّةَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ قِيَامَ الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَفِي السَّاجِدِينَ:
أَيْ صَلَاتَكَ مَعَ الْمُصَلِّينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ: أَرَادَ وَتَقَلُّبَكَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالسَّاجِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَرَادَ الْأَنْبِيَاءَ، أَيْ تَقَلُّبَكَ كَمَا تَقَلَّبَ غَيْرُكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ قِيَامِهِ لِلتَّهَجُّدِ، وَتَقَلُّبِهِ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِ الْمُتَهَجِّدِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، لِيَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَسْتَبْطِنَ سَرَائِرَهُمْ وَكَيْفَ يَعْمَلُونَ لِآخِرَتِهِمْ. كَمَا
يُحْكَى أَنَّهُ حِينَ نُسِخَ فَرْضُ قِيَامِ اللَّيْلِ، طَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِبُيُوتِ أَصْحَابِهِ لِيَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ، بِحِرْصِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَا يُوجَدُ مِنْهُمْ مِنْ فَعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَكْثِيرِ الْحَسَنَاتِ، فَوَجَدَهَا كَبُيُوتِ الزَّنَابِيرِ، لِمَا سَمِعَ مِنْ دَنْدَنَتِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتِّلَاوَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّاجِدِينَ: الْمُصَلُّونَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ جَمَاعَةً، وَتَقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ: تَصَرُّفُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِقِيَامِهِ وَرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَقُعُودِهِ إِذَا أَمَّهُمْ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَخْفَى عَلَيَّ حَالُكَ كُلَّمَا قُمْتَ وَتَقَلَّبْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي كِفَايَةِ أُمُورِ الدِّينِ. انْتَهَى.
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُهُ، الْعَلِيمُ بما تنوبه وَتَعْمَلُهُ، وَذَهَبَتِ الرَّافِضَةُ إِلَى أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالُوا:
فَاحْتَمَلَ الْوُجُوهَ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ رُوحَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ، كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ. فَإِذَا احْتَمَلَ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ ضَرُورَةً، لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ وَلَا رُجْحَانَ.
وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا
198
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
» «١»
فَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ «٢»، فَلَفْظُ الْأَبِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمِّ، كَمَا قَالُوا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ لَهُ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «٣»، . سَمَّوْا إِسْمَاعِيلَ أَبًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا لَهُ.
قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ وَتَقْرِيرٍ.
وَعَلَى مَنْ مُتَعَلِّقٌ بتنزل، وَالْجُمْلَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأُنَبِّئُكُمْ، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أُعْلِمُكُمْ، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا مُتَعَدِّيَةً لِاثْنَيْنِ، كَانَتْ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَإِنْ قَدَّرْتَهَا مُتَعَدِّيَةً لِثَلَاثَةٍ، كَانَتْ سَادَّةً مَسَدَّ الِاثْنَيْنِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا عُلِّقَ عَنْهُ الْعَامِلُ، لَا يَبْقَى عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ وهو الاستعلام، بل يؤول مَعْنَاهُ إِلَى الْخَبَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: عَلِمْتُ أَزْيَدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو، كَانَ الْمَعْنَى: عَلِمْتَ أَحَدَهُمَا فِي الدَّارِ؟ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ عِلْمٌ، ثُمَّ اسْتَعْلَمَ الْمُخَاطَبَ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ فِي الدَّارِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَالْمَعْنَى هُنَا: هَلْ أُعْلِمُكُمْ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِ؟ لَا أَنَّهُ اسْتَعْلَمَ الْمُخَاطَبِينَ عَنِ الشَّخْصِ الَّذِي تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هَذَا، جَاءَ الْإِخْبَارُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِكَذَا؟ قِيلَ لَهُ: أَخْبِرْ، فَقَالَ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْكَذِبُ، أَثِيمٌ: كَثِيرُ الْإِثْمِ. فَأَفَّاكٌ أَثِيمٌ: صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَالْمُرَادُ الْكَهَنَةُ.
وَالضَّمِيرُ فِي يُلْقُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الشَّيَاطِينِ، أَيْ يُنْصِتُونَ وَيُصْغُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ، لِيَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِمَّا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى يَنْزِلُوا بِهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، أَوْ: يُلْقُونَ السَّمْعَ:
أَيِ الْمَسْمُوعَ إِلَى مَنْ يَتَنَزَّلُونَ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُهُمْ: أَيْ وَأَكْثَرُ الشَّيَاطِينِ الْمُلْقِينَ كاذِبُونَ. فَعَلَى مَعْنَى الْإِنْصَاتِ يَكُونُ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، وَعَلَى إِلْقَاءِ الْمَسْمُوعِ إِلَى الْكَهَنَةِ احْتَمَلَ الِاسْتِئْنَافَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ مُلْقِينَ مَا سَمِعُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي يُلْقُونَ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، وَجُمِعَ الضَّمِيرُ، لِأَنَّ كُلَّ أَفَّاكٍ فِيهِ عُمُومٌ وَتَحْتَهُ أَفْرَادٌ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يُلْقُونَ سَمْعَهُمْ إِلَى الشَّيَاطِينِ، لِيَنْقُلُوا عَنْهُمْ مَا يُقَرِّرُونَهُ فِي أَسْمَاعِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ يُلْقُونَ السَّمْعَ، أَيِ الْمَسْمُوعَ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، أَيْ أَكْثَرُ الْكَهَنَةِ كَاذِبُونَ. كَمَا
جَاءَ أَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كذبة.
فإذا صدقت
(١) سورة التوبة: ٩/ ٢٨.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٧٤.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٣٣.
199
تِلْكَ الْكَلِمَةُ، - كَانَتْ سَبَبَ ضَلَالَةٍ لِمَنْ سَمِعَهَا. وَعَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ يُلْقُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنِ الْأَفَّاكِينَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِكُلِّ أَفَّاكٍ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: كُلِّ أَفَّاكٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، لِأَنَّ الْأَفَّاكَ هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ الْكَذِبَ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِالْإِفْكِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَفَّاكِينَ مَنْ صَدَقَ مِنْهُمْ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الْجِنِّيِّ، فَأَكْثَرُهُمْ مُغْتَرٌّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، لِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَخْوَانِ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُنَّ بِآيَاتٍ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُنَّ، لِيُرْجَعَ إِلَى الْمَجِيءِ بِهِنَّ، وَيُطْرِيهِ ذِكْرُ مَا فِيهِنَّ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، فَيَدُلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نُزِّلْنَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي أَسْنَدَتْ كَرَاهَةَ الله لها، وَمِثَالُهُ: أَنْ يُحَدِّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ، وَفِي صَدْرِهِ اهْتِمَامٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَفَضْلُ عِنَايَةٍ، فَتَرَاهُ يُعِيدُ ذِكْرَهُ وَلَا يَنْفَكُّ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ الْكَهَنَةَ بِإِفْكِهِمُ الْكَثِيرِ وَحَالِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ، نَفْيَ كَلَامِ الْقُرْآنِ، إِذْ كَانَ بَعْضُ الْكُفَّارِ قَالَ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ شِعْرٌ، كَمَا قَالُوا فِي الرَّسُولِ: إِنَّهُ كَاهِنٌ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَهَانَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ «١»، وَقَالَ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ «٢».
فَقَالَ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. قِيلَ: هِيَ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبِي عَزَّةَ، وَمُسَافِعٍ الْجُمَحِيِّ، وَهُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَابْنِ الزِّبَعْرَى.
وَقَدْ أَسْلَمَ ابْنُ الزِّبَعْرَى وَأَبُو سُفْيَانَ. وَالشُّعَرَاءُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَاعِرٍ، وَالْمَذْمُومُ مَنْ يَهْجُو وَيَمْدَحُ شَهْوَةً مُحَرَّمَةً، وَيَقْذِفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَيَقُولُ الزُّورَ وَمَا لَا يَسُوغُ شَرْعًا. وَقَرَأَ عِيسَى:
وَالشُّعَرَاءَ: نَصْبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ وَالْجُمْهُورُ: رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَنَافِعٌ يَتْبَعُهُمْ مُخَفَّفًا وَبَاقِي السَّبْعَةِ مُشَدَّدًا وَسَكَّنَ الْعَيْنَ:
الْحَسَنُ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَرَوَى هَارُونُ: نَصْبَهَا عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ مُشْكِلٌ.
وَالْغاوُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّوَاةُ، وَقَالَ أَيْضًا: الْمُسْتَحْسِنُونَ لِأَشْعَارِهِمْ، الْمُصَاحِبُونَ لَهُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّعَاعُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّاعِرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: الشَّيَاطِينُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: السُّفَهَاءُ الْمُشْرِكُونَ يَتَّبِعُونَ شُعَرَاءَهُمْ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ: تَمْثِيلٌ لِذَهَابِهِمْ فِي كُلِّ شِعْبٍ من القول،
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٦٩.
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤١.
200
وَاعْتِسَافِهِمْ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِالْغُلُوِّ فِي الْمَنْطِقِ، وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْقَصْدِ فِيهِ، حَتَّى يُفَضِّلُوا أَجْبَنَ النَّاسِ عَلَى عَنْتَرَةَ، وَأَشَحَّهُمْ عَلَى حَاتِمٍ، وَيُبْهِتُوا الْبَرِيءَ، وَيُفَسِّقُوا التَّقِيَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تَقْبِيحُهُمِ الْحَسَنَ، وَتَحْسِينُهُمُ الْقَبِيحَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَذَلِكَ لِغُلُوِّهِمْ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ، وَلَهْجِهِمْ بِالْفَصَاحَةِ وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ، قَدْ يَنْسُبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ما لا يقع منهم. وَقَدْ دَرَأَ الْحَدَّ فِي الْخَمْرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، عن النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيٍّ، فِي شِعْرٍ قَالَهُ لِزَوْجَتِهِ حِينَ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ قَدِ وَلَّاهُ بِيسَانَ، فَعَزَلَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَحُدَّهُ والفرزدق، سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ:
فَبِتْنَ كَأَنَّهُنَّ مُصَرَّعَاتٍ وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: لَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ: لَقَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الشُّعَرَاءِ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ حَالَ النُّبُوَّةِ، إِذْ أَمْرُهُمْ، كَمَا ذَكَرَ، مِنَ اتِّبَاعِ الْغُوَاةِ لَهُمْ، وَسُلُوكِهِمْ أَفَانِينَ الْكَلَامِ مِنْ مَدْحِ الشَّيْءِ وَذَمِّهِ، وَنِسْبَةِ مَا لَا يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهَا طَرِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا يتبعها إلا الراشدون. دعوة الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ وَالصِّدْقِ. هَذَا مَعَ أَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنْ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ. وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ ذَمًّا لِلشُّعَرَاءِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَغْلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّعْرِ وَإِذَا نَظَمُوا شِعْرًا كَانَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى رسوله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَصَحْبِهِ، وَالْمَوْعِظَةِ وَالزُّهْدِ وَالْآدَابِ الْحَسَنَةِ وَتَسْهِيلِ عِلْمٍ، وَكُلِّ مَا يَسُوغُ الْقَوْلُ فِيهِ شَرْعًا فَلَا يَتَلَطَّخُونَ فِي قَوْلِهِ بِذَنْبٍ وَلَا مَنْقَصَةٍ. وَالشِّعْرُ بَابٌ مِنَ الْكَلَامِ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ.
وَقَالَ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ صَدْرِيَ لِيَجِيشُ بِالشِّعْرِ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ فِيمَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَثْنِينَ: حَسَّانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَعْبُ بْنُ زهير، ومن كان ينافخ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَعْبِ بْنِ مالك: «اهجهم فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبْلِ».
وَقَالَ لِحَسَّانَ: «قُلْ وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ»
، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَانْتَصَرُوا: أَيْ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ ظَلَمَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا ذَمَّ الشُّعَرَاءَ بِقَوْلِهِ: وَالشُّعَراءُ الْآيَةَ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَّانَ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَدِينَةِ، وَخَصَّ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلَهُ: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، فَقَالَ: أَيْ فِي شِعْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ
201
خُلُقًا لَهُمْ وَعَادَةٌ، كَمَا قَالَ لَبِيَدٌ، حِينَ طُلِبَ مِنْهُ شِعْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَنِي بِالشِّعْرِ الْقُرْآنَ خَيْرًا مِنْهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، تَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ هَذَا التَّوَعُّدَ الْعَظِيمَ الْهَائِلَ الصَّادِعَ لِلْأَكْبَادِ وَأَبْهَمَ فِي قَوْلِهِ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وَلَمَّا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، تَلَا عَلَيْهِ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاعَظُونَ بِهَا. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُمْ الْكُفَّارُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَفْسِيرُ الظُّلْمِ بِالْكُفْرِ تَعْلِيلٌ، وَكَانَ ذَكَرَ قَبْلُ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مُطْلَقٌ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ أَرْقَمَ، عَنِ الْحَسَنِ:
أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ، بِفَاءٍ وَتَاءَيْنِ، مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَنْفَلِتُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَسَيَعْلَمُونَ أَنْ لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الِانْفِلَاتِ، وَهُوَ النَّجَاةُ. وَسَيَعْلَمُ هُنَا مُعَلَّقَةٌ، وَأَيَّ مُنْقَلَبٍ: اسْتِفْهَامٌ، وَالنَّاصِبُ لَهُ يَنْقَلِبُونَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لسيعلم. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ مُنْقَلَبٍ مَصْدَرٌ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالْعَامِلُ يَنْقَلِبُونَ انْقِلَابًا، أَيَّ مُنْقَلَبٍ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ يَعْلَمُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ.
انْتَهَى. وَهَذَا تَخْلِيطٌ، لأن أيا، إِذَا وُصِفَ بِهَا، لَمْ تَكُنِ اسْتِفْهَامًا، بَلْ أَيُّ الْمَوْصُوفِ بِهَا قَسَمٌ لِأَيِّ الْمُسْتَفْهَمِ بِهَا، لَا قَسَمٌ. فَأَيُّ تَكُونُ شَرْطِيَّةً وَاسْتِفْهَامِيَّةً وَمَوْصُولَةً، وَوَصْفًا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ مَوْصُوفَةً بِنَكِرَةٍ نَحْوَ: مَرَرْتُ بِأَيٍّ مُعَجِّبٍ لَكَ، وَتَكُونُ مُنَادَاةً وَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ نَحْوَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ. وَالْأَخْفَشُ يَزْعُمُ أَنَّ الَّتِي فِي النِّدَاءِ مَوْصُولَةٌ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا قَسَمٌ بِرَأْسِهِ، وَالصِّفَةِ تَقَعُ حَالًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ أَيٍّ فَإِذَا قُلْتَ: قَدْ عَلِمْتَ أَيَّ ضَرْبٍ تَضْرِبُ، فَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، لَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ محذوف.
202
Icon