ﰡ
(مكية إلا قوله والشعراء إلى آخرها حروفها ٤٥٤٢ كلمها ١٢٩٩ آياتها مائتان وسبع وعشرون)
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٦٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
طسم وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وقرأ حمزة ويزيد مظهرة النون عند الميم إِنِّي أَخافُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ويضيق ولا ينطلق بالنصب فيهما: يعقوب. أَرْجِهْ مثل ما في «الأعراف» اين لنا بالمد وبالياء.
يزيد وأبو عمرو وزيد وقالون. وقرأ ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد بهمزة ثم ياء، وعن قنبل إِنَّ لَنا على الخبر. الباقون بهمزتين. هشام يدخل بينهما مدة. آمَنْتُمْ بالمد: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب آمَنْتُمْ على الخير:
حفص غير الخزاز. الآخرون أأمنتم بهمزتين. بِعِبادِي إِنَّكُمْ بفتح الياء: نافع وأبو جعفر حاذِرُونَ بالألف: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون بغير الألف فَأَتْبَعُوهُمْ بالتشديد: زيد عن يعقوب. الباقون بقطع الهمزة وسكون التاء تراءى الجمعان بكسر الراء والهمزة في الوصل: حمزة ونصير وهبيرة في طريق الخزاز. واختلفوا في الوقف فعن الكسائي بكسر الراء والهمزة على وزن «تريعى» وفي رواية أخرى عنه «ترائى» أي تراعى، والمشهور عنه «ترأ» بكسر الراء وفتح الهمزة، وأما حمزة فإنه يقف «ترى» بترك الهمزة وكسر الراء ويمد ويشير إلى موضع الهمزة وهو المصدر. وأما هبيرة فإنه يقف «تريا» بكسر الراء ويشير إلى فتح الهمزة. الباقون
الوقوف:
طسم هـ الْمُبِينِ هـ مُؤْمِنِينَ هـ خاضِعِينَ هـ مُعْرِضِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ كَرِيمٍ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الظَّالِمِينَ هـ لا للابدال أو البيان تسجيلا عليهم بالظلم فِرْعَوْنَ ط للعدول عن الأمر إلى الاستفهام يَتَّقُونَ هـ يُكَذِّبُونِ هـ لمن قرأ وَيَضِيقُ بالرفع على الاستئناف هارُونَ ط يَقْتُلُونِ هـ قالَ كَلَّا لا للعطف معنى لا لفظا مُسْتَمِعُونَ هْ عالَمِينَ
هـ لا لتعلق «أن» بَنِي إِسْرائِيلَ ط سِنِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ الضَّالِّينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ إِسْرائِيلَ ط الْعالَمِينَ هـ وَما بَيْنَهُمَا ط لأن جواب الشرط محذوف أي إن كنتم موقنين فلا تكذبوني مُوقِنِينَ هـ تَسْتَمِعُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ لَمَجْنُونٌ هـ وَما بَيْنَهُما ط تَعْقِلُونَ هـ الْمَسْجُونِينَ هـ مُبِينٍ هـ الصَّادِقِينَ هـ مُبِينٌ هـ ج للآية مع العطف لِلنَّاظِرِينَ هـ عَلِيمٌ هـ لا لأن ما بعده صفة بِسِحْرِهِ ق قد قيل: بناء على أن ما بعده قول الملأ لفرعون والجمع للتعظيم، والأصح أنه من تتمة قول فرعون.
تَأْمُرُونَ هـ حاشِرِينَ هـ لا لأن ما يتلوه جواب. عَلِيمٍ هـ مَعْلُومٍ هـ لا للعطف مُجْتَمِعُونَ لا لاتصال المعنى الْغالِبِينَ هـ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ هـ مُلْقُونَ هـ الْغالِبُونَ هـ ما يَأْفِكُونَ هـ للآية وللدلالة على إسراعهم في السجود ساجِدِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ وَهارُونَ ط لَكُمْ هـ لَكُمْ هـ للابتداء بأن مع اتحاد القول السِّحْرَ ط للفاء ولام الابتداء فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هـ لتقدير القسم أَجْمَعِينَ هـ لا ضَيْرَ ط توقية لحق «إن» وإلا فالأصل هو الوصل لأن ما بعده هو القول في الحقيقة كما في «الأعراف» مُنْقَلِبُونَ هـ ج للآية مع اتحاد المقول الْمُؤْمِنِينَ هـ مُتَّبَعُونَ هـ حاشِرِينَ هـ للآية مع أن التقدير بأن هؤلاء قَلِيلُونَ هـ لَغائِظُونَ هـ حاذِرُونَ هـ ط لابتداء الخبر من الله وَعُيُونٍ هـ لا كَرِيمٍ هـ لا لتعلق الكاف كَذلِكَ ط أي كما وعدنا بني إسرائيل إيراثها ثم أخبر عن وقوع الموعود لبني إسرائيل مُشْرِقِينَ هـ لَمُدْرَكُونَ هـ ووجه الوصل الإسراع في تداركهم عن خوف الإدراك كَلَّا ج لاحتمال أن يكون للردع وأن يكون بمعنى حقا سَيَهْدِينِ هـ الْبَحْرَ ط لأجل الفاء الفصيحة أي فضرب فانفلق الْعَظِيمِ هـ الْآخَرِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ الآية ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ.
التفسير:
قال جار الله: معنى طسم إن آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين وقد مر مثله في أول «يوسف». والبخع الإهلاك وقد مر في أول «الكهف». عزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا
وسلم:
ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ١٠٩] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة. وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ولا في قصة إبراهيم لأن أباه في المخاطبين حيث يقول: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الأنبياء: ٥٢] وهو قد ربّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وإن كانا منزهين من طلب الأجر.
ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتبارا لهذه الأمة، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور. والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والأصوات، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك. قال جار الله:
قوله أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم، أو هو حال أدخلت عليه همزة الإنكار. ثم إن موسى خاف أن يكذب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون. وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام، ولعله أراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في «طه». ومعنى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أرسل إليه جبريل واجعله نبيا يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصارا. ثم ذكر أن لهم عليه ذنبا فسمى جزاء الذنب ذنبا، أو المضاف محذوف أي تبعة ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص. فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من
لأنه أراد كل واحد أو أراد الرسول بمعنى المصدر أي ذو رسالة رب العالمين. يقال: أرسلتهم برسول أي برسالة أو جعلا لاتفاقهما واتحاد مطلبهما كرسول واحد. وهاهنا إضمار دل عليه سياق الكلام أي فأتيا فرعون فقالا له ذلك.
يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة فعرف أنه موسى
فعند ذلك قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي صبيا وذلك لقرب عهده من الولادة. قيل: مكث فيهم ثلاثين سنة من أول عمره. وقيل: وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة ففر منهم. والفعلة الوكزة عدد عليه نعمه، ثم وبخه بقتل نفس منهم وسماه كافرا لنعمه بسبب ذلك. وجوز جار الله أن يراد وأنت إذ ذاك ممن يكفر بالساعة فيكون قد افترى على موسى أو جهل أمره لأنه كان يعايشهم بالتقية. وإنما قلنا إنه افتراء أو جهل لأن الكفر غير جائز على الأنبياء ولو قبل النبوة، ويجوز أن يراد أنه من الكافرين بفرعون وإلهيته أو بآلهة كانوا يعبدونها. قال تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: ١٢٧] ثم إن موسى ما أنكر تربيته ولكن أنكر الكفر فلم ينسب نفسه إلا إلى الضلال وأراد به الذهاب عن الصواب، أو أراد النسيان أو الخطأ وعدم التدبر في أدبار الأمور. ثم ذكر موهبة ربه في حقه حين فر من فرعون وملئه المؤتمرين بقتله. والحكم العلم بالتوحيد وكمال العقل والرأي، ولا تدخل فيه النبوة ظاهرا لئلا يلزم شبه التكرار بقوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال جار الله وَتِلْكَ إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بعد أن فسرت بقوله أَنْ عَبَّدْتَ نظيره قوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: ٦٦] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ كأنه أبى أن يسمي نعمته إلا نقمة لأن تعبيدهم أي تذليلهم واتخاذهم عبيدا وقصدهم. بذبح أبنائهم صار
فعلتها مجازيا لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. وقال الحسن: أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني. وقيل: أراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة.
واعلم أن للعلماء خلافا في نعمة الكافر فقيل: إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد. وقيل: لا يبطل بالكفر إلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين. ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وقد سبق مرارا أن كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأن يكون كفر جهالة، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديرية ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل إليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال: إنه رب السموات والأرض وما بينهما، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلا: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق. وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه. وخاشنهم في الأخير بقوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله إِنَّ رَسُولَكُمُ ويمكن أن يراد بقوله وَما بَيْنَهُما ثانيا ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين، والأول أقرب إلى اليقين
وفي التخطئة سهو من وجهين: أحدهما: أنه لا قبيح عند الأشاعرة عقلا. والثاني أنه على تقدير التسليم لا يلزم تجويز كل قبيح وهذا من ذلك للزوم الاشتباه. وباقي القصة سبق نظيرها في «الأعراف» فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالسورة. قوله قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ قال في الكشاف: الظرف في محل النصب على الحال. وأقول: الأصوب أن يجعل نعتا للملأ أي الأشراف حوله على طريقة قوله:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني قوله لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اليوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى كما مر في «طه».
قوله هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استبطاء لهم في الاجتماع وحث عليه كقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق إذا أراد أن يحثه على الانطلاق. قوله لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ لم يكن غرضهم اتباع السحرة في دينهم وإنما غرضهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق المجاز لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قوله بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ هي من أيمان الجاهلية ولا يصح الحلف في الإسلام إلا بالله تعالى وبصفاته كما مر في «البقرة» و «المائدة». وقوله فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ لم يسم فاعله وهو الله تعالى في الحقيقة حين ألقى داعية الإيمان في قلوبهم ويجوز أن ينسب إلى ما عاينوا من المعجزات الباهرة ولك أن لا تقدر فاعلا أي خروا. قوله لا ضَيْرَ أي لا ضير علينا فيما يتوعدنا به من القتل.
قوله إِنَّا نَطْمَعُ الطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم وَالَّذِي أَطْمَعُ
ويحتمل الظن بناء على أن المرء لا يعلم ما يختاره أو يؤل إليه عند الوفاة.
ومعنى أَنْ كُنَّا لأن كنا وكانوا أوّل طائفة مؤمنين من أهل زمانهم أو من قوم فرعون أو من أهل المشهد. قوله: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تعليل للإسراء أي بنيت تدبير أمركم على أن تتقدموا لو يتبعكم فرعون وجنوده إلى أن يغشاهم من اليم ما يغشاهم. قوله: لَشِرْذِمَةٌ هي الطائفة القليلة. ثم وصفهم بالقلة واختار جمع السلامة ليدل على أن كل حزب منهم في غاية القلة، وذلك بالنسبة إلى عسكره وإلا فهم كثير في أنفسهم. يروى أن فرعون أرسل في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت على مقدّمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وكان قوم موسى إذ ذاك ستمائة ألف وسبعين ألفا. ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والحقارة لا قلة العدد. قوله: وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ معناه أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالا لغيظنا كأخذ الحلي وادّعاء الاستقلال والاستخلاص عن ذل الاستخدام ونحن قوم مجموعون كلمة وائتلافا، ومن عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فالحذر المتيقظ وهو يفيد الثبات والحاذر الذي يجدد حذره. وقيل: هو تام السلاح لأنه فعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه، وكل هذه المعاذير لأجل أن لا يظن به العجز وخلاف ما ادّعاه من القهر والتسلط.
وقرىء حادرون بالدال غير المعجمة، والحادر السمين القوي أراد أنهم أقوياء أشدّاء.
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتينهم التي فيها عيون الماء وَكُنُوزٍ الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. والمقام الكريم المنازل الحسنة والمجالس البهية. وقال الضحاك: المنابر. وقيل: السرر في الحجال. كَذلِكَ يحتمل النصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، والجر على الوصف أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وعلى هذا فيوقف على كَرِيمٍ. فَأَتْبَعُوهُمْ أي فلحقوهم. ومن قرأ بالتشديد فظاهر.
والإشراق الدخول في وقت الشروق فلما تراءى الجمعان أي رأى قوم موسى قوم فرعون وحصل كل من الفريقين بمرأى للآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى خوفا وفزعا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ لملحقون. قال موسى تثبيتا لهم وردعا عماهم عليه من الجزع والفزع كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي بالنصرة والمعونة سَيَهْدِينِ سبيل النجاة والخلاص كما وعدني. ثم بين أنه كيف هداه بقوله فَأَوْحَيْنا الآية. ومعنى فَانْفَلَقَ فضرب فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي كل جزء متفرق منفلق منه كَالطَّوْدِ وهو الجبل العظيم ومع ذلك وصفه بالعظيم وَأَزْلَفْنا ثَمَّ أي قربنا حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ وهم قوم فرعون والمقرب منه بنو إسرائيل أو قوم
ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الأمة بدليل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الشعراء: ٦٩] وفيه تسلية لرسول الله ﷺ فقد كان يغتم بتكذيب قومه بعد ظهور المعجزات ونزول الآيات.
التأويل:
الطاء طوله في كمال عظمته، والسين سلامته عن كل عيب ونقص، والميم مجده الذي لا نهاية له. أو الطاء طهارة قلب نبيه عن تعلقات الكونين، والسين سيادته على الأنبياء والمرسلين، والميم مشاهدته جمال رب العالمين. أو الطاء طيران الطائرين بالله، والسين سير السائرين إلى الله، والميم مشي الماشين لله الذين يمشون على الأرض هونا.
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ من سماء قلوبهم آيَةً من واردات الحق فَظَلَّتْ أعناق نفوسهم لَها خاضِعِينَ فَسَيَأْتِيهِمْ بعد مفارقة الأرواح الأجساد أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لظهور نتائج معاملاتهم الخبيثة على أرواحهم أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى أرض قلوب العارفين كَمْ أَنْبَتْنا فِيها من أشجار أصناف الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص وسائر الأخلاق الكريمة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لأن جناب الحق لعزته يجل عن أن يكون شرعة لكل وارد وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يوجد بالسعي الرَّحِيمُ حين أدرك أولياءه بجذبات العناية كما أدرك موسى حين ناداه من الشجرة، وذلك لأنه جعله مظهر لطفه كما أنه جعل فرعون مظهر قهره فصار من العتوّ والاستكبار في غاية الكمال. ويعلم منه أن الإنسان له استعداد في مظهرية
فَأَخْرَجْناهُمْ أي مِنْ جَنَّاتٍ صفات الأوصاف الروحانية وَعُيُونٍ الحكمة وَكُنُوزٍ المعارف وَمَقامٍ كَرِيمٍ في حضرة أكرم الأكرمين وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ فيه أن النفس إذا فنيت ورث القلب منها صفاتها وبقوتها تصير إلى مقامات لم يمكنه الوصول إليها بقوة صفاته، ولو مات القلب ورثت النفس منه صفاته وبقوتها تتنزل إلى دركات لم يمكنها الوصول إليها بمجرد صفاتها فَأَتْبَعُوهُمْ أي لحق أوصاف النفس أوصاف القلب عند إشراق شمس الروح فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ فيه أن كل صفة من أوصاف الروح كجبل عظيم في العبور عنه وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي قربنا صفات النفس بتبعية صفات القلب إلى بحر الروح. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ من الأوصاف في بحر الروح بالوصول إلى الحضرة ثُمَّ أَغْرَقْنَا أوصاف النفس في بحر الروحانية فإن الوصول إلى الحضرة من خواص القلب وغاية سير النفس هو الاستغراق في بحر الروحانية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لأرباب العرفان وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بهذه المنازل فإنه لا يصير إليها إلا الشاذ من المجذوبين بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] جعلنا الله من المستعدين لها والله أعلم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ١٢٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣)
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨)
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
القراآت:
لِي إِلَّا وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وأَجْرِيَ إِلَّا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص: وأتباعك على أنه جمع تابع أو تبع: يعقوب أَنَا إِلَّا بالمد: أبو نشيط عن قالون مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بفتح ياء المتكلم:
حفص وورش.
الوقوف:
إِبْراهِيمَ م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف اتْلُ وإنما هو منصوب باذكر ما تَعْبُدُونَ هـ عاكِفِينَ هـ تَدْعُونَ هـ يَضُرُّونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا لأن
التفسير:
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام وكان يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم للإلزام والتبكيت. ومثله أهل المعاني بأن يقول أحد للتاجر: ما مالك؟ وهو يعلم أن ماله الرقيق ثم يقول له الرقيق: جمال وليس بمال. وإنما قال في سورة الصافات ماذا تَعْبُدُونَ [الصافات: ٨٥] بزيادة «ذا» لأنه أراد هناك مزيد التوبيخ ولذلك بني الكلام على الزيادة ثم أردفه بقوله أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات: ٨٦] وحين صرح هنالك بالتوبيخ لم يجيبوه وهاهنا ظنوا أنه يريد الاستفهام حقيقة فأجابوه ولكنهم بسطوا الكلام بسطا ولم يقتصروا على أَصْناماً بل زادوا ناصبه وعقبوه بقولهم فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ إظهارا للابتهاج والافتخار. قال في الكشاف: وإنما قالوا فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. قلت: وهذا مبني على النقل الصحيح والظن به حسن. قال: لا بد في يَسْمَعُونَكُمْ من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم؟ قلت: ويحتمل أن يكون المحذوف مفعولا ثانيا أي هل يسمعونكم تدعون إذ تدعون وهو حكاية حال ماضية لأن «إذ» للمضي ومعناه استحضار الأحوال الماضية التي كانوا يدعونها فيها. وحين تمسكوا في الجواب بطريقة التقليد قائلين على سبيل الإضراب بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ نبههم إبراهيم بقوله أَفَرَأَيْتُمْ على أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديما أو حديثا ولا بأن يكون في مرتكبيه كثرة أو قلة، وصرح بأن معبوديه أعداء لقوله تعالى كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: ٨٢] أو لأن الذي يغري على عبادتها هو الشيطان وهو أعدى عدو للإنسان. وإنما لم يقل عدوّ لكم لأنه أراد تصوير المسألة في نفسه ليكون
قال لجبرائيل: أما إليك فلا.
وحين قدم الثناء شرع في الدعاء تعليما لأمته إذا أرادوا مسألة فقال رَبِّ هَبْ لِي
وهو إشارة إلى كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وهو إشارة إلى كمال القوة العملية. ولقد أجابه حيث قال وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وقيل: الحكم النبوة إذ النبي ذو حكمة وذو حكم. بين عباد الله تعالى وزيف بأنه كان حاصلا فكيف يطلبه؟
والظاهر أنه أراد بالحكم النسب الذهنية المطابقة للخارجية أعني العلوم النظرية كما بينا.
قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال، إنه طلب العلم من الله فلولا أن العلم بخلقه وإلا كان السؤال عبثا. وحمله المعتزلة على منح الألطاف. قيل: الحكم المطلوب بالدعاء إن كان هو العلم بغير الله لزم أن يكون سائلا لما يشغله عن الله وهو باطل، وإن كان العلم بالله بقدر ما هو شرط صحة الإيمان لزم طلب ما هو حاصل لأدنى المؤمنين فضلا عن إبراهيم، فإذن هو العلم الزائد على ما هو ضروري في الإيمان وهو الوقوف على حقيقة الذات والصفات، ثم لا يكشف المقال عنها غير الخيال وبه يصير المؤمن من الواصلين إلى العين دون السامعين إلى الأثر. ثم طلب الذكر الجميل بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ والإضافة فيه كقوله قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: ٢] وقال ابن عباس: وقد أعطاه الله ذلك لقوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [الصافات: ٧٨] ولهذا اتفق أهل الأديان قاطبة على حبه وادعاء متابعته. ومدح الكافر ليس مقصودا لذاته من حيث هو كافر وإنما المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحمودا بكل لسان. وفائدة الثناء على الشخص بعد وفاته هو انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله زلفى وقد يصير ذلك المدح داعيا للمادح أو لمن يسمعه إلى اكتساب مثل تلك الفضائل. وقيل: سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى ملته وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ثم سأل ما هو غاية كل سعادة فقال وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وقد مر معنى هذه الوراثة في قوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها [الأعراف: ٤٣] وكذلك في سورة مريم تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا [مريم: ٦٣] ثم طلب السعادة الحقيقية لأشد الناس التصاقا به وهو أبوه قائلا وَاغْفِرْ لِأَبِي وقد سبق في آخر التوبة وفي «مريم» ما يتعلق به من المباحث. وهاهنا سؤال: وهو أنه متى حصلت الجنة بدعائه امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده وَلا تُخْزِنِي وأيضا قال تعالى إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النحل: ٢٧] وما كان نصيب الكافر كيف يستجير منه المعصوم؟ أجاب عنه في التفسير الكبير كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذلك.
درجات الأبرار دركات المقربين، وخزي كل واحد ما يليق بحاله فكأنه سأل الشركة أوّلا ثم الخصوصية ثانيا. وأقول: يحتمل أن يكون هذا الدعاء من تتمة دعائه لأبيه أي لا تخزني ولا تفضحني بسبب تعذيب أبي يوم يبعث الضالون أو العباد كلهم، ومثل هذا الضمير مما يعلم عوده بالقرينة. ويجوز أن يكون سأل الجنة بشرط التعظيم والإجلال، ويجوز أن يكون أخر
تحية بينهم ضرب وجيع والمضاف المحذوف الحال أو السلامة نظيره أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول:
ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك.
ومنها أن يكون الموصول مفعولا لينفع والاستثناء مفرغ أي لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا رجلا سلم قلبه مع ماله وبنيه حيث أنفقه في طاعة الله وما قصر في باب تأديبهم وإرشادهم، أو سلم قلبه من فتنة المال والبنين فلم يكفر ولم يعص. وقد يفسر السليم بالذائب من خشية الله تعالى.
وحين انجرّ الكلام إلى ذكر يوم القيامة وصف الله تعالى أو إبراهيم أحواله وأهواله فقال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ قال المفسرون: الجنة تقرب من موقف السعداء ليكون لهم فرجا معجلا، وتجعل النار بارزة مكشوفة للأشقياء ليزدادوا غما وحسرة، ولمثل هذا اليوم وبخهم بقوله أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعني الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وذلك قوله فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ أي الآلهة وَالْغاوُونَ الذين عبدوهم قال جار الله: الكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها أعاذنا الله منها. والمراد بجنود إبليس شياطينهم أو متبعوه من عصاة الجن والإنس. قالُوا يعني الغاوين وجنود إبليس وَهُمْ يعني والحال أن الأصنام وعبدتهم فِيها يَخْتَصِمُونَ قال أكثر المفسرين: يجوز أن ينطق الله الأصنام بحيث
القصة الثالثة قصة نوح. ولا ريب أن نبأه عظيم فقد كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يزد قومه إلا التكذيب. والقوم مؤنث بدليل قوله كَذَّبَتْ وكان أمينا فيهم مشهورا كمحمد ﷺ في قريش. وكرر قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تأكيدا وتقريرا في النفوس مع أنه علق كل واحد بسبب وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني نظيره قول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا؟ وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة طاعته. قوله وَما عِلْمِي يريد أيّ شيء علمي ومعناه انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله عز وجل واطلاعه على باطنهم ومكنون ضميرهم كأنهم طعنوا في إيمانهم أيضا فذكر أن حسابهم على الله وأنه لم يبعث إلا للنذارة. ويجوز أن يكون فسر لهم الرذالة بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد فبنى جوابه على ذلك وقال: ما علمي إلا اعتبار الظاهر والله يتولى السرائر.
وفي قوله لَوْ تَشْعُرُونَ إشارة إلى أنهم لا يصدقون بالحساب والجزاء، وفيه إنكار أن يسمى المؤمن رذلا وإن كان أفقر الناس وأوضعهم فالغني غني الدين والنسب نسب التقوى.
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ليس إخبارا لأنه علام الغيوب وإنما هو تمهيد مقدمة لطلب الفتح والحكومة. والفلك المشحون المملوء من كل زوجين اثنين مع نوح وأهله.
التأويل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ القلب إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ وهو الروح وما يتولد
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧)
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
أَوَعَظْتَ مدغما: عباس ونصير خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بفتح الخاء وسكون اللام: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعليّ كَذَّبَتْ ثَمُودُ مثل بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: ٩٥] فارِهِينَ بالألف: ابن عامر وعاصم وحمزة وعليّ وخلف.
الوقوف:
الْمُرْسَلِينَ هـ تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ وَأَطِيعُونِ هـ أَجْرٍ هـ الْعالَمِينَ هـ تَعْبَثُونَ هـ لا تَخْلُدُونَ هـ ج جَبَّارِينَ هـ وَأَطِيعُونِ هـ ج تَعْلَمُونَ هـ ج وَبَنِينَ هـ لا وَعُيُونٍ هـ ج عَظِيمٍ هـ ط الْواعِظِينَ هـ لا للاحتراز عن الابتداء بمقولهم الْأَوَّلِينَ هـ لا لذلك بِمُعَذَّبِينَ هـ ج فَأَهْلَكْناهُمْ ط لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ ط تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ أَجْرٍ هـ الْعالَمِينَ هـ آمِنِينَ هـ لا لتعلق الظرف وَعُيُونٍ هـ لا هَضِيمٌ هـ فارِهِينَ هـ ج للآية مع العطف وَأَطِيعُونِ هـ ج لذلك الْمُسْرِفِينَ هـ لا لأن الَّذِينَ صفتهم وَلا يُصْلِحُونَ هـ الْمُسَحَّرِينَ هـ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول مِثْلُنا ز مِنَ الصَّادِقِينَ هـ مَعْلُومٍ هـ ج عَظِيمٍ هـ نادِمِينَ هـ لا الْعَذابُ
التفسير:
القصة الرابعة قصة هود ولنذكر من تفسيرها ما هو غير مكرر. الريع بالكسر وقرىء بالفتح المكان المرتفع ومنه الغلة لارتفاعها. والآية العلم وفي هذا البناء وجوه: فعن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل موضع مرتفع علما يعبثون فيه بمن يمر بالطريق إلى هود.
وقيل: كانوا يبنون ذلك ليعرف به فخرهم وغناهم فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث وقيل:
كانوا يقتنون الحمام قاله مجاهد. والمصانع مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون. ومعنى لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود في الدنيا أو ظلما وعلوا فوصفوا بكونهم إذ ذاك جبارين. وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن:
أراد أنهم يبادرون العذاب من غير تفكر في العواقب. والحاصل أن اتخاذ الأبنية الرفيعة يدل على حب العلوّ، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والبطش الشديد يدل على حب التفرد بالعلوّ فكأنهم أحبوا العلوّ وبقاء العلوّ والتفرد بالعلوّ وكل هذه لمن له الصفات الإلهية لا العبدية. ثم بالغ في تنبيههم على نعم الله حيث أجملها بقوله وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ إيقاظا لهم عن سنة الغفلة مستشهدا بعلمهم ثم فصلها بقوله أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ عليها تدور معايشكم وَبَنِينَ بهم يتم أمر حفظها والقيام بها وَجَنَّاتٍ يحصل بها التفكه والتنزه وَعُيُونٍ بمائها يكمل النماء. ثم ختم الكلام بتخويفهم تنبيها على أنه كما قدر أن يتفضل عليهم بهذه النعم الجسام فهو قادر على العذاب فيكون فيه مزيد حث على التقوى وكمال تنفر عن العصيان. ثم شرع في حكاية جواب القوم وأنهم قالوا: إن وعظه وعدم وعظه بالنسبة إليهم سيان. وإنما لم يقل «أوعظت أم لم تعظ» مع كونه أخصر لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أو لم تكن من مباشريه وذويه رأسا وهذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه. من قرأ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بفتح الخاء فمعناه أن هذا إلا اختلاق الأولين وأكاذيبهم، أو ما هذا إلا خلق الأقدمين نحيا ونموت ولا بعث ولا جزاء. والقراءة الأخرى معناها لسنا نحن إلا على دين الأولين من آبائنا، أو ليس ما نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة جارية لا خرق لها، أو ما هذا الذي جئت به من تلفيق الأكاذيب. إلا عادة مستمرة من المتنبين. ثم أكدوا إنكارهم المعاد بقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فأظهروا بذلك جلادتهم وقوة نفوسهم فأخبر الله تعالى عن إهلاكهم وقد سبقت كيفية ذلك مرارا.
وطلع النخلة ما يبدو منها كنصل السيف وقد مر في «الأنعام». والهضيم اللطيف الضامر من قولهم «كشح هضيم» أراد أنه وهب لهم أجود النخل وألطفه كالبرني مثلا. وقيل: وصف نخيلهم بالحمل الكثير فإنه إذا كثر الحمل هضم أي لطف. وقيل: الهضيم اللين النضيج كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. والفراهة الكيس والنشاط ومنه «خيل فرهة» وفارِهِينَ حال من الناحتين. قال علماء المعاني: جعل الأمر مطاعا مجاز حكمي وإنما المطاع بالحقيقة هو الآمر. وفي قوله وَلا يُصْلِحُونَ إشارة إلى أن إفسادهم في الأرض غير مقترن بالإصلاح رأسا. والمسحر الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة. أرادوا أنه بشر ذو سحر وهو ضعيف لأنه يلزم التكرار بقوله: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا إلا أن يقال: إنه بيان. والشرب النصيب من الماء كالسقي للحظ من السقي. وقرىء بالضم عن قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء. سؤال:
لم أخذهم العذاب وقد ندموا والندم توبة؟ جوابه كان ندمهم ندم خوف من العقاب العاجل أو ندموا ندم توبة في غير أوانها وذلك عند عيان العذاب. وقيل: ندموا على ترك عقر ولدها وفيه بعد. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.
القصة السادسة: قصة لوط: أنكر على قومه إتيانهم الذكور من الناس لا الإناث على كثرتهن، أو أنكر عليهم كونهم مختصين من العالمين بهذه الفاحشة. فقوله: مِنَ الْعالَمِينَ يعود على الأول إلى المأتي، وعلى الثاني إلى الآتي. والعالمون على هذا كل ما ينكح من الحيوان ولا شيء من الحيوان يرتكب هذه الفعلة إلا الإنسان. قوله مِنْ أَزْواجِكُمْ إما بيان لما خلق وإما للتبعيض فيراد بما خلق العضو المباح منهن فلعلهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. والعادي المتجاوز الحد في ظلم أي بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ في جميع المعاصي وهذه واحدة منها، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن تنسبوا إلى العدوان حيث فعلتم هذه الجريمة العظيمة. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن نهينا لَتَكُونَنَّ من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يطردون من خالف أراد أنه كامل في قلاهم عصبية للدين، أو أنه معدود في زمرة مبغضيهم كما تقول: فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك «هو
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ٢٢٧]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠)
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥)
ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠)
وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
ليكة بلام مفتوحة بعدها ياء ساكنة وبفتح التاء على أنها ممتنعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وكذلك في «صاد» : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر.
الآخرون الْأَيْكَةِ معروفا مجرورا. كِسَفاً بفتح السين: حفص غير الخزاز. الآخرون بسكونها رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ونَزَلَ بِهِ مخففا الرُّوحُ الْأَمِينُ مرفوعين: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل وزيد عن يعقوب. الباقون نزل مشددا الرُّوحُ الْأَمِينُ منصوبين أولم تكن بتاء التأنيث آية بالرفع: ابن عامر. الباقون بالياء التحتانية. آيَةً بالنصب: فتوكل بالفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالواو مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ بتشديد التاء وكذلك تنزل البزي وابن فليح يتبعهم بالتخفيف: نافع وادي بالياء في الوقف:
يعقوب والسرنديبي عن قنبل وقرأ قتيبة بالإمالة.
الوقوف:
الْمُرْسَلِينَ ج هـ تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ ج أَجْرٍ ج الْعالَمِينَ هـ ط الْمُخْسِرِينَ ج هـ الْمُسْتَقِيمِ ج هـ مُفْسِدِينَ ج هـ الْأَوَّلِينَ هـ ط الْمُسَحَّرِينَ هـ لا الْكاذِبِينَ هـ ج نصف آي القرآن الصَّادِقِينَ هـ ط تَعْمَلُونَ هـ الظُّلَّةِ ط عَظِيمٍ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْعالَمِينَ هـ الْأَمِينُ هـ لا الْمُنْذِرِينَ هـ لا مُبِينٍ هـ الْأَوَّلِينَ هـ إِسْرائِيلَ ط هـ الْأَعْجَمِينَ هـ لا مُؤْمِنِينَ هـ ط الْمُجْرِمِينَ هـ ط بناء على أن لا يُؤْمِنُونَ مستأنف للبيان ولو جعل حالا فلا وقف الْأَلِيمَ هـ لا لا يَشْعُرُونَ هـ لا مُنْظَرُونَ هـ ط يَسْتَعْجِلُونَ هـ سِنِينَ هـ لا للعطف يُوعَدُونَ هـ لا لأن قوله ما أَغْنى جملة نفي أو استفهام قامت مقام الشرط يُمَتَّعُونَ هـ ط مُنْذِرُونَ هـ وقد يوقف عليها بناء على أن ذِكْرى ليس بمفعول له والمراد ذكرناهم والوقف على ذِكْرى جائز ظالِمِينَ هـ الشَّياطِينُ هـ يَسْتَطِيعُونَ هـ ط لَمَعْزُولُونَ هـ ط الْمُعَذَّبِينَ ج هـ الْأَقْرَبِينَ ج هـ للعطف الْمُؤْمِنِينَ هـ تَعْمَلُونَ هـ ج الرَّحِيمِ هـ لا تَقُومُ
هـ لا السَّاجِدِينَ هـ الْعَلِيمُ هـ الشَّياطِينُ هـ ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار أَثِيمٍ ج هـ بناء على أن يُلْقُونَ حال من ضمير الشَّياطِينُ أي تنزل ملقين السمع أو صفة ل كُلِّ أَفَّاكٍ وإن جعل مستأنفا كأن قائلا قال: لم تنزل؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت فلك الوقف. كاذِبُونَ
التفسير:
القصة السابعة قصة شعيب وأنه كان أخا مدين دون أصحاب الأيكة ولهذا لم يقل «أخوهم شعيب».
يروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهي التي حملها المقل.
قال في الكشاف: قرىء أصحاب ليكة بتخفيف الهمزة وبالجر على الإضافة وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف في هذه السورة وفي سورة ص، ثم اعترض عليه بأن ليكة اسم لا يعرف. قلت: إنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم ذلك الشيء، والظن بالمتواتر يجب أن يكون أحسن من ذلك. أمرهم شعيب بإيفاء الكيل ونهاهم عن الإخسار وهو التطفيف وأن يجعل الشخص خاسرا فكأنه أمره بالإيفاء مرتين توكيدا ثم زاد في البيان بقوله. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وقد مر في سورة سبحان. قال في الكشاف: إن كان من القسط وهو العدل وجعلت السين مكررة فوزنه «فعلاس» وإلا فهو رباعي. قلت: إن كان مكررا فوزنه «فعلال» أيضا. وقوله وَلا تَبْخَسُوا تأكيدا آخر وقد سبق في «هود». والجبلة الخليقة حذرهم الله الذي تفضل عليهم بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين. قال في الكشاف: الفرق بين إدخال الواو هاهنا في قوله وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ وبين تركها في قصة ثمود هو أنه قصد هاهنا معنيان منافيان عندهم للرسالة: كونه مسحرا وكونه بشرا وهناك جعل المعنى الثاني مقررا للأول. قلت: الفرق بين والإشكال في تخصيص كل من القصتين بما خصت به، ولعل السبب فيه هو أن صالحا قلل في الخطاب فقللوا في الجواب، وأكثر شعيب في الخطاب ولهذا قيل له خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب. «وإن» في قولهم وَإِنْ نَظُنُّكَ هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر. واللام في قوله لَمِنَ الْكاذِبِينَ هي الفارقة. والكسف بالسكون والحركة جمع كسفة وهي القطعة وقد مر في سبحان في اقتراحات قريش. والمعنى إن كنت صادقا في دعوة النبوة فادع الله أن يسقط علينا قطع السماء. وإنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فأرادوا بذلك إظهار كذبه فحلم عنهم شعيب ولم يدع عليهم بل فوض الأمر إلى الله بقوله: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ
يروى أن شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة. فأهلكت مدين بصيحة جبرائيل، وأهلكت أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة
وذلك إنه حبس عنهم الريح سبعا وسلط عليهم الحرّ فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى الصحراء فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.
والظاهر من نقل أئمة اللغة أن القلب والفؤاد مترادفان. ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن بعضهم أن القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد وذكر كلاما طويلا في أن محل العقل هو القلب دون الدماغ وهو المخاطب في الحقيقة فلهذا قال نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ونحن قد تركناه لقلة تعلقه بالمقام ولضعف دلائله مع مخالفته لما عليه معظم أرباب المعقول. قوله وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعني أن ذكر القرآن مثبت في الكتب السماوية للأمم المتقدمة، وإن معاني القرآن في تلك الزبر. وقد يحتج به لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة. وقيل: الضمير فيه وفي أَنْ يَعْلَمَهُ للنبي ﷺ وأنه حجة ثابتة على نبوته قد شهد بها علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره من الذين أسلموا منهم واعترفوا أن نعته وصفته في كتبهم مذكور، وكان مشركوا قريش يذهبون إلى اليهود يتعرفون منهم هذا الخبر.
من قرأ يَكُنْ بالتذكير وآيَةً بالنصب على الخبر والاسم أَنْ يَعْلَمَهُ فظاهر، ومن قرأ تكن بالتأنيث وآيَةً بالرفع على الاسم والخبر أَنْ يَعْلَمَهُ فقيل: ليست بقوية لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا. ويمكن أن يجاب بأن الفعل المضارع مع أن ليس من المعارف الصريحة، وقد توجه هذه القراءة بتقدير ضمير القصة في تكن وجملته آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ ولَهُمْ لغوا أو لَهُمْ آيَةً وأَنْ يَعْلَمَهُ بدل من آية. قال جار الله: إنما كتب علموء بالواو على لغة من يميل الألف إلى الواو ولذلك كتبت الصلاة والزكوة بالواو. ثم أكد بقوله وَلَوْ نَزَّلْناهُ ما مر من آية لو نزله بالأعجمي فقرأه عليهم بعض الأعجمين لم يؤمنوا به لأنهم لم يكونوا يفهمونه. وقال جار الله: معناه ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلا أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا فصيحا معجزا متحدّى به لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذرا ولسموه سحرا. ثم قال كَذلِكَ أي مثل هذا السلك سَلَكْناهُ في قلوبهم وقررناه فيها فعلى أيّ وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى تغييرهم عما هم
ثم بين أنه ما أهلك قرية إلا بعد إلزام الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، وعلى هذا يكون ذِكْرى متعلقة ب أَهْلَكْنا مفعولا له. ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا ل أَنْذِرْ بمعنى التذكرة فإن أَنْذِرْ وذكر متقاربان، أو حالا من الضمير في مُنْذِرُونَ أو مفعولا له متعلقا به أي ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل الموعظة والتذكير، أو التقدير: هذه ذكرى فالجملة اعتراض. ويجوز أن يكون صفة ل مُنْذِرُونَ على حذف المضاف أي ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لبلوغهم في التذكرة أقصى غاياتها.
والبحث عن وجود الواو وعدمه في مثل هذا التركيب قد مر في أول الحجر في قوله وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: ٤] إلا أنا نذكر هاهنا سبب تخصيص تلك الآية بالواو وهذه بعدم الواو فنقول: لا ريب أن الواو تفيد مزيد الربط والاجتماع في الحال وفي الوصف إن جوزتا: فسواء قدرنا الجملتين أعني قوله وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر:
٤] وقوله لَها مُنْذِرُونَ حالا أو وصفا فالمقام يقتضي ورود النسق على ما ورد، وذلك أن قوله وَلَها كِتابٌ صفة لازمة للقرية فإن الكتب في اللوح وصف أزلي فناسب أن يكون في
١٢٠] وغير ذلك وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فيه أن الاهتمام بشأن من هو أقرب إلى المرء أولى. وفيه أنه يجب أن لا يأخذه في باب التبليغ ما يأخذ القريب للقرب من المساهلة ولين الجانب.
يروى أنه ﷺ لما نزلت الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا وقال: يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله، إني لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من المال ما شئتم.
وروي أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس على رجل شاة، فأكلوا وشربوا حتى شبعوا ثم أنذرهم فقال: يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
قوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ قد مر تفسيره في آخر «الحجر» وفي «سبحان» وزاد هاهنا لِمَنِ اتَّبَعَكَ كيلا يذهب الوهم إلى أن خفض الجناح وهو التواضع ولين الجانب مختص بالمؤمنين من عشيرته. وإنما لم يقتصر على قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ لأن كثيرا منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين. وقال في الكشاف: سبب الجمع بين اللفظين هو أنه سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، أو أراد بالمؤمنين المصدّقين بالألسنة فزاد قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ ليخرج من صدّق باللسان دون الجنان، أو صدق بهما ولم يتبعه في العمل. وحين أمره بالتواضع لأهل الإخلاص في الإيمان أمره بالتبرئة من أرباب العصيان. فاستدل الجبائي به على أن الله تعالى أيضا بريء من عملهم فكيف يكون فاعلا له؟! وأجيب بأنه إن أراد ببراءة الله أنه ما أمر بها فمسلم، وإن أراد أنه لا
روي أنه حين نسخ فرض التهجد طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه حرصا عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير ذكرا وتلاوة.
فالمراد بتقلبه في الساجدين تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ليطلع عليهم كيف يعملون لآخرتهم. ومنها أن المراد تصرفه فما بين المؤمنين به بالقيام والركوع والسجود والقعود. ويروى عن مقاتل أنه استدل به على وجود فضل صلاة الجماعة في القرآن. ومنها أنه إشارة إلى ما
جاء في الحديث «أتموا الركوع والسجود فو الله إني لأراكم من خلف ظهري»
فالتقلب تقلب بصره فيمن يصلي خلفه.
وقيل: أراد أنه لا يخفى علينا كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين. وقد احتج بالآية علماء الشيعة على مذهبهم أن آباء النبي ﷺ لا يكونون كفارا. قالوا: أراد تقلب روحه من ساجد إلى ساجد كما
في الحديث المعتمد عليه عندهم «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»
وناقشهم أهل السنة في التأويل المذكور وفي صحة الحديث. والأصوب عندي أن لا نشتغل بمنع أمثال هذه الدعوى ونسرح إلى بقعة الإمكان على أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.
ثم أكد قوله وما تنزلت به الشياطين بقوله هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ قال في الكشاف: تقديره أعلى من تنزل؟ ليكون الاستفهام في صدر الكلام كقولك: أعلى زيد مررت؟ قلت: هذا تكلف بارد لأن الاستفهام في «من» ضمني لا يصرح به قط. والأفاك الكثير الإفك، والأثيم مبالغة آثم وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح ومسيلمة وأمثالهما. والضمير في يُلْقُونَ عائد إلى الشياطين كانوا قبل الرجم بالشهب يختطفون بعض الغيوب من الملأ الأعلى بإلقاء السَّمْعَ أي بالإصغاء ثم يرجعون به إلى أوليائهم وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ لأنهم يخلطون الحق المسموع بكلامهم الباطل كما
جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة».
والقر الصب. وقيل: السمع بمعنى المسموع أي يلقي الشياطين إلى أوليائهم ما يسمعونه من الملائكة. ويحتمل أن يكون الضمير في:
يُلْقُونَ للأفاكين والسمع الأذن أو المسموع أي يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون
قالوا وما فعلوا وأين هم | من معشر فعلوا وما قلوا |
فبتن بجانبيّ مصرعات | وبت أفض أغلاق الختام |
وعن كعب بن مالك أن رسول الله ﷺ قال له: اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل. وكان يقول لحسان: هاجهم وروح القدس معك.
والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي. فإن كان المعنى صحيحا مطابقا للحق والصدق فلا بأس بإدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه صلى الله عليه وسلم
«إن من الشعر لحكما» «١».
وإن كان المعنى فاسدا والغرض غير صحيح فهو
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: ١٩٤]
وقال ﷺ «المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم» «١»
ثم ختم السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا خصصه بعضهم بالشعراء إذا خرجوا عن حد الإنصاف، ومالوا إلى الجور والاعتساف، ولعله عام يتناول لكل من ظلم نفسه بالإعراض عن تدبر ما في هذه السورة بل القرآن كله. وقوله أَيَّ مُنْقَلَبٍ صفة لمصدر محذوف والعامل يَنْقَلِبُونَ أي ينقلبون في الدركات السفلى انقلابا أيّ منقلب ولا يعمل فيه سَيَعْلَمُ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وعن ابن عباس أنه قرأه بالفاء والتاء والمراد سيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة.
التأويل:
ولو نزلناه على بعض الأعجميين فيه إظهار القدرة من وجهين: الأول جعل الأعجمي بحيث يقرأ العربي عليهم كقول القائل: أمسيت كرديا وأصبحت عربيا.
والثاني أن أهل الإنكار لا يصيرون أهل الإقرار ولو أتاهم مثل هذا الإعجاز البين، وذلك لأن الله كذلك يسلكه في قلوبهم فيأتيهم عذاب البعد والطرد في الدنيا بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لأنهم نيام فإذا ماتوا انتبهوا فيقولون هل نحن منظرون. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم، ولهذا تستغيث النار من نور المؤمن وتقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لأن كل من طلب مع الله شيئا آخر حتى الجنة فله عذاب البعد والحرمان من الله.
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ فيه أن النسب نسب النفوس فإن أكل المرء يشبعه ولا يشبع ولده. إلا إذا أكل الطعام كما أكل والده وهذا معنى المتابعة. إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لم يقل
«إني بريء منكم»
لأن المراد لا تبرأ منهم وقل لهم قولا جميلا بالنصح والموعظة الحسنة حتى يرجعوا ببركة دعوتك إلى القول الحق، أو ينالوا الجنة بواسطة شفاعتك. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ بأن خلق روح كل ساجد من روحك. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ في الأزل مقالتك «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» لأن أرواحهم خلقت من روحك الْعَلِيمُ باستحقاقك لهذه الكرامة الله تعالى حسبي.