تفسير سورة الحجر

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون.

سورة الحجر
مكية، إلا آية: ٨٧، فمدنية وآياتها: ٩٩، نزلت بعد سورة يوسف بسم الله الرّحمن الرّحيم
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ الْمُبِينِ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْكِيرُ الْقُرْآنِ لِلتَّفْخِيمِ، وَالْمَعْنَى: تِلْكَ الْآيَاتُ آيَاتُ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْكَامِلِ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا وَفِي كَوْنِهِ قُرْآنًا مُفِيدًا لِلْبَيَانِ.
أما قوله: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ رُبَما خَفِيفَةَ الْبَاءِ وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفِّفُونَ رُبَمَا، وَقَيْسٌ وَبَكْرٌ يُثَقِّلُونَهَا، وَأَقُولُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ لُغَاتٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاءَ مِنْ/ رُبَّ وَرَدَتْ مَضْمُومَةً وَمَفْتُوحَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَضْمُومَةً فَالْبَاءُ قَدْ وَرَدَتْ مُشَدَّدَةً وَمُخَفَّفَةً وَسَاكِنَةً وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ تَارَةً مَعَ حَرْفِ مَا، وَتَارَةً بِدُونِهَا وَأَيْضًا تَارَةً مَعَ التَّاءِ وَتَارَةً بِدُونِهَا وَأَنْشَدُوا:
أَسُمَيُّ مَا يدريك أن رب فتية باكرت لذتهم بأذكر مسرع
وَرُبْ بِتَسْكِينِ الْبَاءِ وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْهُذَلِيِّ:
أَزُهَيْرُ إِنْ يَشِبِ الْقَذَالُ فَإِنَّنِي رُبْ هَيْضَلٍ مَرِسٍ كَفَفْتُ بِهَيْضَلِ
وَالْهَيْضَلُ جَمَاعَةٌ مُتَسَلِّحَةٌ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ تَجِيءُ حَالَتَيْ تَشْدِيدِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِهَا مَعَ حَرْفِ «مَا» كَقَوْلِكَ: رُبَمَا وَرُبَّمَا وَتَارَةً مَعَ التَّاءِ، وَحَرْفُ «مَا» كَقَوْلِكَ: رُبَتَمَا وَرُبَّتَمَا هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتِ الرَّاءُ مِنْ رُبَّ مَضْمُومَةً وَقَدْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً، فَيُقَالُ: رَبَّ وَرَبَّمَا وَرَبَّتَمَا حَكَاهُ قُطْرُبٌ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مِنَ الْحُرُوفِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّأْنِيثِ، نَحْوُ: ثَمَّ وَثَمَّتَ، وَرُبَّ وَرُبَّتَ، وَلَا وَلَاتَ، فَهَذِهِ اللُّغَاتُ بِأَسْرِهَا رَوَاهَا الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ».
116
المسألة الثَّانِيَةُ: رُبَّ حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَيَلْحَقُهَا «مَا» عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ:
رُبَّ مَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العقال
فما فِي هَذَا الْبَيْتِ اسْمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى رُبَّ شَيْءٍ تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ وَإِذَا عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ كَانَ اسْمًا وَلَمْ يَكُنْ حَرْفًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥] لَمَّا عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ اسْمٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «مَا» قَدْ يَكُونُ اسْمًا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ رُبَّ وُقُوعُ مِنْ بَعْدَهَا فِي قَوْلِ الشاعر:
يا رب من ينقص أزوادنا رُحْنَ عَلَى نُقْصَانِهِ وَاغْتَدَيْنَ
فَكَمَا دَخَلَتْ رُبَّ عَلَى كَلِمَةِ «مَنْ» وَكَانَتْ نَكِرَةً، فَكَذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَى كَلِمَةِ (مَا) فَهَذَا ضَرْبٌ وَالضَّرْبُ الْآخَرُ أَنْ تَدْخُلَ مَا كَافَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ مَا هَذِهِ الْكَافَّةَ يُرِيدُونَ أَنَّهَا بِدُخُولِهَا كَفَّتِ الْحَرْفَ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ لَهُ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْكَفُّ فَحِينَئِذٍ تَتَهَيَّأُ لِلدُّخُولِ عَلَى مَا لَمْ تَكُنْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رُبَّ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ نَحْوُ رُبَّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَاكَ وَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ «مَا» عَلَيْهَا هَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رُبَّ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ، وَهِيَ فِي التَّقْلِيلِ نَظِيرَةُ كَمْ فِي التَّكْثِيرِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: رُبَّمَا زَارَنَا فُلَانٌ، دَلَّ رُبَّمَا عَلَى تَقْلِيلِهِ الزِّيَارَةَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ رُبَّ يَعْنِي بِهَا الْكَثْرَةَ، فَهُوَ ضِدُّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ تَمَنِّيَ/ الْكَافِرِ الْإِسْلَامَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وكلما رُبَّ تُفِيدُ الظَّنَّ، وَأَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ التَّمَنِّيَ يَكْثُرُ وَيَتَّصِلُ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ لَفْظَةُ رُبَما مَعَ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّقْلِيلَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّكْثِيرَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلتَّقْلِيلِ، وَإِذَا أَرَادُوا الْيَقِينَ ذَكَرُوا لَفْظًا وُضِعَ لِلشَّكِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: إِظْهَارُ التَّوَقُّعِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْغَرَضِ، فَيَقُولُونَ: رُبَّمَا نَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ، وَلَعَلَّكَ تَنْدَمُ عَلَى فِعْلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِكَثْرَةِ النَّدَمِ وَوُجُودِهِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا التَّقْلِيلَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَكْفِيكَ قَلِيلُ النَّدَمِ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا عَنْ هَذَا الْفِعْلِ فَكَيْفَ كَثِيرُهُ؟
وَالوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَشْغَلَهُمُ الْعَذَابُ عَنْ تَمَنِّي ذَاكَ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ «رُبَّ» مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي كَمَا يُقَالُ: رُبَّمَا قَصَدَنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْرِ
117
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَلِمَةَ «رُبَّ» فِي هَذَا الْبَيْتِ دَاخِلَةٌ عَلَى الِاسْمِ وَكَلَامُنَا فِي أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ وَجَبَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِعْلِ مَاضِيًا، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ إِلَّا أَنِّي أَقُولُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْأُدَبَاءِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى النَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ وَجَدُوا بَيْتًا مُشْتَمِلًا عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَقَالُوا إِنَّهُ جَائِزٌ صَحِيحٌ وَكَلَامُ اللَّهِ أَقْوَى وَأَجَلُّ وَأَشْرَفُ، فَلِمَ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِوُرُودِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِهِ وَصِحَّتِهِ. ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ الْأُدَبَاءَ أَجَابُوا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّ الْمُتَرَقِّبَ فِي أَخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْمَاضِي الْمَقْطُوعِ بِهِ فِي تَحَقُّقِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
رُبَّمَا وَدُّوا. الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم ويود صِفَةٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: رُبَّ شَيْءٍ يَوَدُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ وَتَقْدِيرُهُ رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَانَ لَا تُضْمَرُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُجِزْ عَبْدُ اللَّهِ الْمَقْبُولَ وَأَنْتَ تُرِيدُ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَقْبُولَ.
المسألة الْخَامِسَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ عَلَى مَذْهَبِ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ حَمَلَ قَوْلَهُ: / رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى مَحْمِلٍ آخَرَ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فَإِنَّهُ قَالَ: الْكَافِرُ كُلَّمَا رَأَى حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الْعَذَابِ وَرَأَى حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِ وَدَّ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا، وَهَذَا الوجه هُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا:
قَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا شَاهَدَ عَلَامَاتِ الْعِقَابِ وَدَّ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا. وَقِيلَ:
إِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَحْصُلُ إِذَا اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ عِنْدَ دُخُولِهِمُ النَّارَ وَنُزُولِ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ:
أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٤]
وَرَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَاجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ ومعهم من شاء الله مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَالَ الْكُفَّارُ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا بَلَى، قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلَامُكُمْ، وَقَدْ صِرْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ، فَيَتَفَضَّلُ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيَأْمُرُ بِإِخْرَاجِ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنَ النَّارِ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، فَحِينَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ» وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ،
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا يَزَالُ اللَّهُ يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ يَقُولُ: مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَهُنَالِكَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.
قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ، وَعَلَى أَنَّ شَفَاعَةَ الرَّسُولِ مَقْبُولَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْعِقَابِ، وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ عِنْدَهُ مَرْدُودَانِ، فَعِنْدَ هَذَا حُمِلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وَجْهٍ يُطَابِقُ قَوْلَهُ وَيُوَافِقُ مَذْهَبَهُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُؤَخِّرُ إِدْخَالَ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَيَزْدَادُ غَمُّ الْكَفَرَةِ وَحَسْرَتُهُمْ وَهُنَاكَ يَوَدُّونَ لو كانوا مسلمين، قال فبهذه الطريق تصحيح هَذِهِ الْأَخْبَارُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ أَهْلُ الْقِيَامَةِ قَدْ يَتَمَنَّوْنَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّى الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقِلُّ ثَوَابُهُ دَرَجَةَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَكْثُرُ ثَوَابُهُ، وَالْمُتَمَنِّي لَمَّا لَمْ يَجِدْهُ يَكُونُ فِي الْغُصَّةِ وَتَأَلُّمِ الْقَلْبِ وَهَذَا يَقْضِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْغُصَّةِ وَتَأَلُّمِ الْقَلْبِ.
قُلْنَا: أَحْوَالُ أَهْلِ الْآخِرَةِ لَا تُقَاسُ بِأَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْضَى كُلَّ أَحَدٍ بِمَا فِيهِ وَنَزَعَ عن
118
قُلُوبِهِمْ طَلَبَ الزِّيَادَاتِ كَمَا قَالَ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر: ٤٧] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى: دَعِ الْكُفَّارَ يَأْخُذُوا حُظُوظَهُمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ فَتِلْكَ أَخْلَاقُهُمْ وَلَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يُقَالُ: لَهِيتُ عَنِ الشَّيْءِ أَلْهَى لُهِيًّا، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ/ الزُّبَيْرِ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ لَهِيَ عَنْ حَدِيثِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَصْمَعِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ فَقَدْ لَهِيتَ عَنْهُ وَأَنْشَدَ:
صَرَمَتْ حِبَالَكَ فَالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ وَلَقَدْ أَطَلْتَ عِتَابَهَا لَوْ تَعْتِبُ
فَقَوْلُهُ فَالْهَ عَنْهَا أَيِ اتْرُكْهَا وَأَعْرِضْ عَنْهَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: شَغَلَهُمُ الْأَمَلُ عِنْدَ الْأَخْذِ بِحَظِّهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصُدُّ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَفْعَلُ بِالْمُكَلَّفِ مَا يَكُونُ لَهُ مَفْسَدَةً فِي الدِّينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَحَكَمَ بِأَنَّ إِقْبَالَهُمْ عَلَى التَّمَتُّعِ وَاسْتِغْرَاقَهُمْ فِي طُولِ الْأَمَلِ يُلْهِيهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لَهُمْ فِيهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَيْسَ هَذَا إِذْنًا وَتَجْوِيزًا بَلْ هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
قُلْنَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: ذَرْهُمْ إِذَنْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ إِقْبَالَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَهَذَا عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ فِي شَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَفْسَدَةً لَهُمْ فِي الدِّينِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِيثَارَ التَّلَذُّذِ وَالتَّنَعُّمِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ طُولُ الْأَمَلِ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ التَّمَرُّغُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَخْلَاقِ الْهَالِكِينَ، وَالْأَخْبَارُ فِي ذَمِّ الْأَمَلِ كَثِيرَةٌ فَمِنْهَا مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ فِيهِ اثْنَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَطُولُ الْأَمَلِ»
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَقَطَ ثلاث وَقَالَ: «هَذَا ابْنُ آدَمَ، وَهَذَا الْأَمَلُ، وَهَذَا الْأَجَلُ، وَدُونَ الْأَمَلِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِيَّةً فَإِنْ أَخَذَتْهُ إِحْدَاهُنَّ، وَإِلَّا فَالْهَرَمُ مِنْ وَرَائِهِ»
وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ اثْنَيْنِ: طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، فَإِنَّ طُولَ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عن الحق.
والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤ الى ٥]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَوَعَّدَ مِنْ قَبْلُ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَتْبَعَهُ بِمَا يُؤَكِّدُ الزَّجْرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فِي الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِيهِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَالَّذِينَ تَقَدَّمُوا كَانَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ فِي الْكِتَابِ مُعَجَّلًا، وَالَّذِينَ تَأَخَّرُوا كَانَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ فِي الْكِتَابِ مُؤَخَّرًا وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي الزَّجْرِ والتحذير.
119
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَلَاكِ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ يُنْزِلُهُ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَلَاكِ الْمَوْتُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَقْرَبُ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ فِي الزَّجْرِ أَبْلَغُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْإِمْهَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ الْعَاقِلُ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُدَّخَرٌ، فَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ وَقْتًا مُعَيَّنًا فِي نُزُولِ الْعَذَابِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَلَاكِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ نُزُولُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَنُزُولُ الْمَوْتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُشَارِكُ الْآخَرَ فِي كَوْنِهِ هَلَاكًا، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْقِسْمَانِ مَعًا.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ مَذْكُورَةً فِي قَوْلِهِ: وَلَها كِتابٌ كَانَ صَوَابًا كَمَا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٠٨] وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلَّا وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِلَّا عَلَيْهِ ثِيَابٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أُمَّةٍ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ لِأَنَّهَا تُفِيدُ التَّبْعِيضَ أَيْ هَذَا الحكم لَمْ يَحْصُلْ فِي بَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ آكَدَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» مَعْنَى سَبَقَ إِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَازَ وَخَلَفَ كَقَوْلِكَ سَبَقَ زَيْدٌ عَمْرًا، أَيْ جَازَهُ وَخَلَفَهُ وَرَاءَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَصَرَ عَنْهُ وَمَا بَلَغَهُ، وَإِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى زَمَانٍ كَانَ بِالْعَكْسِ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِكَ: سَبَقَ فُلَانٌ عَامَ كَذَا مَعْنَاهُ مَضَى قَبْلَ إِتْيَانِهِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ فَقَوْلُهُ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْأَجَلُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ حَادِثٍ بِوَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ دُونَ الْوَقْتِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ الْوَاقِعِ، لَا عَنْ مُرَجِّحٍ وَلَا عَنْ مُخَصِّصٍ فَإِنَّ/ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ حُدُوثُهُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ خَصَّصَهُ بِهِ بِعَيْنِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقُدْرَةُ الْإِلَهِ وَإِرَادَتُهُ اقْتَضَتَا ذَلِكَ التَّخْصِيصَ، وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ تَعَلَّقَا بِذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ بِعَيْنِهِ، وَلَمَّا كَانَ تَغَيُّرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ مُمْتَنِعًا كَانَ تَغَيُّرُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ مُمْتَنِعًا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَائِمٌ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَعْنِي أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ زَيْدٍ هُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَمِنْ عَمْرٍو هُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ دُخُولُ التَّغَيُّرِ فِيهِمَا.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِحُدُوثِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هُوَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتَهُ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ هُوَ قُدْرَةُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَمَشِيئَتُهُمَا سَقَطَ ذَلِكَ.
قُلْنَا: قُدْرَةُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَمَشِيئَتُهُمَا إِنْ كَانَتَا مُوجِبَتَيْنِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ الْمُوجِبَتَيْنِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِعَيْنِهِ فَيَعُودُ الْإِلْزَامُ، وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مُوجِبَتَيْنِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بَلْ كَانَتَا صَالِحَتَيْنِ لَهُ وَلِضِدِّهِ، كَانَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِمُرَجِّحٍ، فَقَدْ عَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ لَا لِمُخَصِّصٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ لِمُخَصِّصٍ فَذَلِكَ الْمُخَصِّصُ إِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ عَادَ البحث
120
وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَعُودُ البحث إِلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ إِنَّمَا تَعَيَّنَ وَتَقَدَّرَ بِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ لَا يَعُودُ الْإِلْزَامُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَإِنَّمَا مَاتَ بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أن يموت قبل أجله فمخطىء.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: وَما أَهْلَكْنا عَلَى الْمَوْتِ أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فَكَيْفَ يَلْزَمُ.
قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَما أَهْلَكْنا إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ الْمَوْتُ أَوْ لَا يَدْخُلَ، فَإِنْ دَخَلَ فَالِاسْتِدْلَالُ ظَاهِرٌ لَازِمٌ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَنَقُولُ: إِنَّ مَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ فِي عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ وَلَا يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ قَائِمٌ فِي الْمَوْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الحكم هاهنا كذلك، والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ الى ٩]
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ ذَكَرَ بَعْدَهُ شُبَهَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ.
فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْجُنُونِ، وَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَظْهَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْغَشْيِ فَظَنُّوا أَنَّهَا جُنُونٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [الْقَلَمِ: ٥١، ٥٢] وَأَيْضًا قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَافِ: ١٨٤]. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَهُ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالرَّجُلُ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا مُسْتَبْعَدًا مِنْ غَيْرِهِ فَرُبَّمَا قَالَ لَهُ هَذَا جُنُونٌ وَأَنْتَ مَجْنُونٌ لِبُعْدِ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ طَرِيقَةِ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ في هذه الآية يحتمل الوجهين.
أما قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا قَالَ فِرْعَوْنَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] وَكَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ:
إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هُودٍ: ٨٧] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٢١] لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي زَعْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ.
ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَقْرِيرِ شُبَهِهِمْ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: الْمُرَادُ لَوْ كُنْتَ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ لَأَتَيْتَنَا بِالْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ عِنْدَنَا بِصِدْقِكَ فِيمَا تَدَّعِيهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ الْحَكِيمَ إِذَا حَاوَلَ تَحْصِيلَ أَمْرٍ، وَلَهُ طَرِيقٌ يُفْضِي إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ قَطْعًا، وَطَرِيقٌ آخَرُ قَدْ يُفْضِي وَقَدْ لَا يُفْضِي، وَيَكُونُ فِي مَحَلِّ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهَاتِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَكِيمُ أَرَادَ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّهُ يُحَاوِلُ تَحْصِيلَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ لَا بِالطَّرِيقِ الثَّانِي، وَإِنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَكَ،
121
وَيُقَرِّرُونَ قَوْلَكَ طَرِيقٌ يُفْضِي إِلَى حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ قَطْعًا، وَالطَّرِيقُ الَّذِي تُقَرِّرُ بِهِ صِحَّةَ نُبُوَّتِكَ طَرِيقٌ فِي مَحَلِّ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهَاتِ، فَلَوْ كُنْتَ صَادِقًا فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ لَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْزَالُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُصَرِّحُونَ بِتَصْدِيقِكَ وَحَيْثُ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّكَ لَسْتَ مِنَ النُّبُوَّةِ فِي شَيْءٍ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الْأَنْعَامِ: ٨] وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَالْقَوْمُ طَالَبُوهُ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَقَالُوا لَهُ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ عَلَيْكَ يَنْزِلُونَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ الْعَذَابِ/ الْمَوْعُودِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٣] ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ هُوَ الوجه الْأَوَّلَ، كَانَ تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَعِنْدَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ لَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَيَصِيرُ إِنْزَالُهُمْ عَبَثًا بَاطِلًا، وَلَا يَكُونُ حَقًّا، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
المراد بالحق هاهنا الْمَوْتُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَنْزِلُونَ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَإِلَّا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ نُزُولِهِمْ إِنْظَارٌ وَلَا إِمْهَالٌ، وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَنْزَلْنَا الْمَلَائِكَةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ اسْتِعْجَالَهُمْ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ، فَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنْزِلُ إِلَّا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَحُكْمُنَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَأَنْ نُمْهِلَهُمْ لِمَا عَلِمْنَا مِنْ إِيمَانِ بَعْضِهِمْ، وَمِنْ إِيمَانِ أَوْلَادِ الْبَاقِينَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَوْلَا وَلَوْمَا لُغَتَانِ: مَعْنَاهُمَا: هَلَّا وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، فَالْخَبَرُ مِثْلُ قَوْلِكَ لَوْلَا أَنْتَ لَفَعَلْتُ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سَبَأٍ: ٣١] وَالِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَامِ: ٨] وَكَهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْمَا الْمِيمُ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ اللَّامِ فِي لَوْلَا، وَمِثْلُهُ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ وَاسْتَوْمَى عَلَيْهِ، وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ: خَالَلْتُهُ وَخَالَمْتُهُ إِذَا صَادَقْتَهُ، وَهُوَ خِلِّي وَخِلْمِي أَيْ صَدِيقِي.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مَا نُنَزِّلُ بِالنُّونِ وَبِكَسْرِ الزَّايِ وَالتَّشْدِيدِ، وَالْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْبِ لِوُقُوعِ الْإِنْزَالِ عَلَيْهَا. وَالْمُنْزِّلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: مَا تُنَزَّلُ عَنْ فِعْلِ مَا لَمْ يسمى فَاعِلُهُ، وَالْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ. وَالْبَاقُونَ: مَا تُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِسْنَادِ فِعْلِ النُّزُولِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ يَعْنِي: لَوْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ لَمْ يُنْظَرُوا أَيْ يُمْهَلُوا فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَزُولُ عِنْدَ نُزُولِ الملائكة. قال صاحب «النظم» : لفظ اذن مركبة مِنْ كَلِمَتَيْنِ: مِنْ إِذْ وَهُوَ اسْمٌ بِمَنْزِلَةِ حِينَ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَتَيْتُكَ إِذْ جِئْتَنِي أَيْ حِينَ جِئْتَنِي. ثُمَّ ضُمَّ إِلَيْهَا أَنْ، فَصَارَ إِذْ أَنْ. ثُمَّ اسْتَثْقَلُوا الْهَمْزَةَ، فَحَذَفُوهَا فَصَارَ إِذَنْ، وَمَجِيءُ لَفْظَةِ إِذَنْ دَلِيلٌ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ بَعْدَهَا وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ إِذْ كَانَ مَا طَلَبُوا وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ.
ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
122
المسألة الأولى: أن القوم إنما قالوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحِجْرِ: ٦] لِأَجْلِ أَنَّهُمْ سَمِعُوا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّلَ الذِّكْرَ عَلَيَّ»
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَقَّقَ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
فَأما قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ وَإِنْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ إِلَّا أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُلُوكِ عِنْدَ إِظْهَارِ التَّعْظِيمِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا أَوْ قَالَ قَوْلًا قَالَ: إِنَّا فَعَلْنَا كَذَا وقلنا كذا فكذا هاهنا.
المسألة الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ لَحافِظُونَ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ يَعْنِي: وَإِنَّا نَحْفَظُ ذَلِكَ الذِّكْرَ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: ٤٢] وَقَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢].
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اشْتَغَلَتِ الصَّحَابَةُ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ وَمَا حَفِظَهُ اللَّهُ فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمْعَهُمْ لِلْقُرْآنِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ حَفِظَهُ قَيَّضَهُمْ لِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ التَّسْمِيَةِ آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالْحِفْظُ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنْ يَبْقَى مَصُونًا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لَمَا كَانَ الْقُرْآنُ مَصُونًا عَنِ التَّغْيِيرِ، وَلَمَا كَانَ مَحْفُوظًا عَنِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُظَنَّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ زَادُوا لَجَازَ أَيْضًا أَنْ يُظَنَّ بِهِمُ النُّقْصَانُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ خُرُوجَ الْقُرْآنِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: لَهُ رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى وَإِنَّا لِمُحَمَّدٍ لَحَافِظُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، وَقَوَّى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْإِنْزَالَ وَالْمُنْزَلُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُنْزَلِ عَلَيْهِ فَحَسُنَتِ الْكِنَايَةُ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَعْلُومًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] فَإِنَّ هَذِهِ الْكِنَايَةَ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ وَإِنَّمَا حَسُنَتِ الْكِنَايَةُ لِلسَّبَبِ المعلوم فكذا هاهنا، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ وَأَحْسَنُهُمَا مُشَابَهَةً لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا الْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ قَالَ بَعْضُهُمْ:
حَفِظَهُ بِأَنْ جَعَلَهُ مُعْجِزًا مُبَايِنًا لِكَلَامِ الْبَشَرِ فَعَجَزَ الْخَلْقُ عَنِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَوْ زَادُوا فِيهِ أَوْ نَقَصُوا عَنْهُ لَتَغَيَّرَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فَيَظْهَرُ لِكُلِّ الْعُقَلَاءِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَصَارَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا كَإِحَاطَةِ السُّورِ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ يُحَصِّنُهَا وَيَحْفَظُهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى صَانَهُ/ وَحَفِظَهُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَعْجَزَ الْخَلْقَ عَنْ إِبْطَالِهِ وَإِفْسَادِهِ بِأَنْ قَيَّضَ جَمَاعَةً يَحْفَظُونَهُ وَيَدْرُسُونَهُ وَيُشْهِرُونَهُ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْحِفْظِ هُوَ أَنَّ أَحَدًا لَوْ حَاوَلَ تَغْيِيرَهُ بِحَرْفٍ أَوْ نُقْطَةٍ لَقَالَ لَهُ أَهْلُ الدُّنْيَا:
هَذَا كَذِبٌ وَتَغْيِيرٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِنَّ الشَّيْخَ الْمَهِيبَ لَوِ اتَّفَقَ لَهُ لَحْنٌ أَوْ هَفْوَةٌ فِي حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَقَالَ لَهُ كُلُّ الصِّبْيَانِ: أَخْطَأْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ وَصَوَابُهُ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِشَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ مِثْلُ هَذَا الْحِفْظِ، فَإِنَّهُ لَا كِتَابَ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهُ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ
123
وَالتَّغْيِيرُ، إِمَّا فِي الْكَثِيرِ مِنْهُ أَوْ فِي الْقَلِيلِ، وَبَقَاءُ هَذَا الْكِتَابِ مَصُونًا عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ التَّحْرِيفِ مَعَ أَنَّ دَوَاعِيَ الْمُلْحِدَةِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى إِبْطَالِهِ وَإِفْسَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَأَيْضًا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَقَائِهِ مَحْفُوظًا عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، وَانْقَضَى الْآنَ قَرِيبًا مِنْ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ فَكَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُعْجِزًا قَاهِرًا.
المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ بَعْضِ الْإِمَامِيَّةِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا بَقِيَ الْقُرْآنُ مَحْفُوظًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، فَالْإِمَامِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَخَلَهُ التَّغْيِيرُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ جُمْلَةِ الزَّوَائِدِ الَّتِي أُلْحِقَتْ بِالْقُرْآنِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ هَذَا الْمَطْلُوبِ بِهَذِهِ الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
اعْلَمْ أَنَّ القوم لما أساؤوا فِي الْأَدَبِ وَخَاطَبُوهُ بِالسَّفَاهَةِ وَقَالُوا: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ/ أَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ مَعَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا كَانَتْ. وَلَكَ أُسْوَةٌ فِي الصَّبْرِ عَلَى سَفَاهَتِهِمْ وَجَهَالَتِهِمْ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي نَظْمِ الآية [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذِكْرَ الرُّسُلِ لِدَلَالَةِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أَيْ فِي أُمَمِ الْأَوَّلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الشِّيَعُ الْأَتْبَاعُ وَاحِدُهُمْ شِيعَةٌ وَشِيعَةُ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ، وَالشِّيعَةُ الْأُمَّةُ سُمُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ شَايَعَ بَعْضًا وَشَاكَلَهُ، وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْحَرْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الْأَنْعَامِ: ٦٥] قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَوْلُهُ: فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ: حَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: ٩٥] وَقَوْلِهِ: بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: ٤٤] وَقَوْلِهِ:
وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَةِ: ٥] أما قوله: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَيْ عَادَةُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ مَعَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ كَمَا فَعَلُوا بِكَ ذَكَرَهُ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَحْمِلُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ الْخَبِيثَةِ أُمُورٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ الْتِزَامَ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ مَا أَلِفُوهُ مِنْ أَدْيَانِهِمُ الْخَبِيثَةِ وَمَذَاهِبِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَذَلِكَ شَاقٌّ شَدِيدٌ عَلَى الطِّبَاعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الرَّسُولَ مَتْبُوعٌ مَخْدُومٌ وَالْأَقْوَامَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَخِدْمَتُهُ وَذَلِكَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَكُونُ فَقِيرًا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ وَلَا مَالَ وَلَا جَاهَ فَالْمُتَنَعِّمُونَ وَالرُّؤَسَاءُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ خِدْمَةُ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَالْخَامِسُ: خِذْلَانُ اللَّهِ لَهُمْ وَإِلْقَاءُ دَوَاعِي الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَمَا يُشْبِهُهَا تَقَعُ الْجُهَّالُ وَالضُّلَّالُ مَعَ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ.
124
أما قوله تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: السَّلْكُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ كَإِدْخَالِ الْخَيْطِ فِي الْمَخِيطِ وَالرُّمْحِ فِي الْمَطْعُونِ، وَقِيلَ:
فِي قَوْلِهِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٢] أَيْ أَدْخَلَكُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ: سَلَكْتُهُ وَأَسْلَكْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْبَاطِلَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ، فَقَالُوا: قَوْلُهُ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أَيْ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْبَاطِلَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَمْ يَجْرِ لِلضَّلَالِ وَالْكُفْرِ ذِكْرٌ فِيمَا قَبْلَ هَذَا اللَّفْظِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وقوله: يَسْتَهْزِؤُنَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، / فثبت صحة قولنا الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدًا أَيْضًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ تَعَاقَبَا وَتَلَاصَقَا، فَوَجَبَ عَوْدُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِكُفْرِهِ، وَالَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ هُوَ الْمُسْلِمُ الْعَالِمُ بِبُطْلَانِ الْكُفْرِ فَلَا يُصَدِّقُ بِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسَلُكُ الْكُفْرَ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَيَخْلُقُهُ فِيهِ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَلَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذُمَّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ يُعَاقِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الوجه فَنَقُولُ: التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَقَالَ بَعْدَهُ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أَيْ هَكَذَا نَسْلُكُ الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّلْكِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ وَيَخْلُقُ فِي قُلُوبِهِمْ حِفْظَ هَذَا الْقُرْآنِ وَيَخْلُقُ فِيهَا الْعِلْمَ بِمَعَانِيهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِنَادًا وَجَهْلًا، فَكَانَ هَذَا مُوجِبًا لِلُحُوقِ الذَّمِّ الشَّدِيدِ بِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ مُتَعَاقِبَانِ فَيَجِبُ عُودُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ مَعْنَاهُ: مِثْلَ مَا عَمِلْنَا كَذَا وَكَذَا نَعْمَلُ هَذَا السَّلْكَ فَيَكُونُ هَذَا تَشْبِيهًا لِهَذَا السَّلْكِ بِعَمَلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجْرِ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ اللَّهِ ذِكْرٌ فِي سَابِقَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَمُشَبَّهًا بِهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الذِّكْرِ وَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ الْقَوْمِ.
وَالْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا عَلَى الذِّكْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ مَذْكُورٌ بِحَرْفِ النُّونِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِظْهَارُ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْظِيمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ كَامِلٌ بِحَيْثُ صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ لَهُ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا. فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ، صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ غَالِبًا قَاهِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِنِهَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ يَكُونُ مُسْتَقْبَحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالْأَمْرُ هاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَلَكَ إِسْمَاعَ الْقُرْآنِ
125
وَتَحْفِيظَهُ وَتَعْلِيمَهُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ لِأَجْلِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ/ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَصَارَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْهَدْرِ الضَّائِعِ، وَصَارَ الْكَافِرُ وَالشَّيْطَانُ كَالْغَالِبِ الدَّافِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ النُّونِ الْمُشْعِرِ بالعظمة والجلالة في قوله: نَسْلُكُهُ غَيْرَ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَقَامِ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَاسِدٌ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، أَيْ وَمَعَ هَذَا السَّعْيِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَمَّا لِمَ يَذْكُرِ الْوَاوَ فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ كَالتَّفْسِيرِ، وَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّا نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: ٩] بعيد، وقوله: يَسْتَهْزِؤُنَ قَرِيبٌ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ هُوَ الْوَاجِبُ. أما قوله: لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: نَسْلُكُهُ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ لَكَانَ فِي قَوْلِهِ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اعْتِبَارِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي الضَّمِيرِ الْأَوَّلِ وَحَصَلَ الْمَانِعُ مِنَ اعْتِبَارِهِ فِي الضَّمِيرِ الثَّانِي فَلَا جَرَمَ قُلْنَا: الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَائِدٌ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ الْمُتَعَاقِبَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ لَيْسَ بِقَلِيلٍ فِي الْقُرْآنِ، أَلَيْسَ أَنَّ الْجُبَّائِيَّ وَالْكَعْبِيَّ وَالْقَاضِيَ قَالُوا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٨٩، ١٩٠] فَقَالُوا هَذِهِ الضَّمَائِرُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ عَائِدَةٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عَائِدَةٌ إِلَى غَيْرِهِمَا، فَهَذَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَاقُبِ الضَّمَائِرِ عَوْدُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ على الدليل فكذا هاهنا والله أعلم.
الوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ تَفْسِيرٌ لِلْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ:
نَسْلُكُهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ نَسْلُكُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ وَالْمَعْنَى نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ.
وَالوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا بَيَّنَّا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاهِرَةِ أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالصِّدْقَ، وَالْعِلْمَ وَالْحَقَّ، وَأَنَّ أَحَدًا/ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْحَقَّ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكُفْرُ وَالْبَاطِلُ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ: فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِنَّمَا رَضِيَ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْجَهْلِ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ سَابِقٍ عَلَيْهِ فَيَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ
126
التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِلَّا وَجَبَ انْتِهَاءُ كُلِّ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ سَابِقٍ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ لَا بِتَحْصِيلِهِ بَلْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى: نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَأَيْضًا قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِذَتِهِ أَطْبَقُوا عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَكَانَ مَرْدُودًا، وَرَوَى الْقَاضِي عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، ثم قال الْقَاضِي: إِنَّ الْقَسْوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْكَافِرِ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُعَانِدَ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَالُ لِلْقَاضِي: إِنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ وَنَبْوَةً عَظِيمَةً عَنْهُ حَتَّى أَنَّهُ كُلَّمَا رَآهُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، وَرُبَّمَا ارْتَعَدَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ لِقَوْلِهِ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي قَلْبِهِ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهَا حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ؟
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْكُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ فَنَقُولُ هَذَا مُغَالَطَةٌ مَحْضَةٌ، لِأَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَالنَبْوَةِ الْعَظِيمَةِ فِي النَّفْسِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ وَالرِّضَا فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ يُمْكِنُهُ الْعَوْدُ إِلَى الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَهَذَا حَقٌّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ عَنِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ لَافْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ إِلَى دَوَاعِي سَابِقَةٍ عَلَيْهَا وَلَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ وَالصَّوَارِفَ فِي الْقُلُوبِ وَذَلِكَ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: وَقَدْ/ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ بِأَنْ يَسْلُكَ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِظَاهِرِ اللفظ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَنْعَامِ: ٧] وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا نُزُولَ مَلَائِكَةٍ يُصَرِّحُونَ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَذَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُظَنُّ أَنَّا نَرَاهُمْ فَنَحْنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا نَرَاهُمْ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَنْزَلَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الْجَمَاعَةِ العظيمة أن يصيروا شاكرين فِي وُجُودِ مَا يُشَاهِدُونَهُ بِالْعَيْنِ السَّلِيمَةِ فِي النَّهَارِ الْوَاضِحِ، وَلَوْ جَازَ حُصُولُ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ كَانَتِ السَّفْسَطَةُ لَازِمَةً، وَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ اعْتِمَادٌ عَلَى الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.
127
أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالشَّكِّ فِيمَا يُبْصِرُونَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ وَقَالَ: أَفَيَصِحُّ مِنَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ أَنْ يُظْهِرُوا الشَّكَّ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ مُوَاطَأَةٍ عَلَى دَفْعِ حُجَّةٍ أَوْ غَلَبَةِ خَصْمٍ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ عَنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مَا كَانَ إِلَّا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَوْمِ، وَكَانُوا قَلِيلِي الْعَدَدِ، وَإِقْدَامُ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ جَائِزٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يُقَالُ: ظَلَّ فُلَانٌ نَهَارَهُ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ بِالنَّهَارِ وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ ظَلَّ يَظَلُّ إِلَّا لِكُلِّ عَمَلٍ عُمِلَ بِالنَّهَارِ، كَمَا لَا يَقُولُونَ بَاتَ يَبِيتُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَالْمَصْدَرُ الظُّلُولُ، وَقَوْلُهُ: فِيهِ يَعْرُجُونَ يُقَالُ: عَرَجَ يَعْرُجُ عُرُوجًا، وَمِنْهُ الْمَعَارِجُ، وَهِيَ الْمَصَاعِدُ الَّتِي يُصْعَدُ فِيهَا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ مِنْ صِفَةِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَوْ ظَلَّ الْمُشْرِكُونَ يَصْعَدُونَ فِي تِلْكَ الْمَعَارِجِ وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِلَى عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ لَشَكُّوا فِي تِلْكَ الرُّؤْيَةِ وَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ كَمَا جَحَدُوا سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَمَا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هذه الْعُرُوجَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِحَيْثُ يَرَوْا أَبْوَابًا مِنَ السَّمَاءِ مَفْتُوحَةً وَتَصْعَدُ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ وَتَنْزِلُ لَصَرَفُوا ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ، وَلَقَالُوا: إِنَّ السَّحَرَةَ سَحَرُونَا وَجَعَلُونَا بِحَيْثُ نُشَاهِدُ هَذِهِ الْأَبَاطِيلَ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَقَوْلُهُ: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ سُكِّرَتْ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةَ الْكَافِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ سُكِرَتْ غُشِيَتْ وَسُدِّدَتْ بِالسِّحْرِ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالُوا: وَأَصْلُهُ مِنَ السَكْرِ وَهُوَ سَدُّ الشِّقِّ لِئَلَّا يَنْفَجِرَ الْمَاءُ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَبْصَارَ مُنِعَتْ مِنَ النَّظَرِ كَمَا يَمْنَعُ السَكْرُ الْمَاءَ مِنَ الْجَرْيِ، وَالتَّشْدِيدُ يُوجِبُ زِيَادَةً وَتَكْثِيرًا وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ يَعْنِي أَنَّ الْأَبْصَارَ حَارَتْ وَوَقَعَ بِهَا مِنْ فَسَادِ النَّظَرِ مِثْلُ مَا يَقَعُ بِالرَّجُلِ السَّكْرَانِ مِنْ تَغَيُّرِ الْعَقْلِ فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى التَّخْفِيفِ فَسُكِّرَتْ بِالتَّشْدِيدِ يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ هَذَا الْأَمْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أَيْ غُشِيَتْ أَبْصَارُنَا فَوَجَبَ سُكُونُهَا وَبُطْلَانُهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَصْلُهُ مِنَ السُّكُونِ يُقَالُ:
سَكَرَتِ الرِّيحُ سُكْرًا إِذَا سَكَنَتْ وَسَكَرَ الْحَرُّ يَسْكُرُ وَلَيْلَةٌ سَاكِرَةٌ لَا رِيحَ فِيهَا وَقَالَ أَوْسٌ:
جَذَلْتُ عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَةٍ فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَةٍ
وَيُقَالُ: سُكِّرَتْ عَيْنُهُ سُكْرًا إِذَا تَحَيَّرَتْ وَسَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَعَلَى هَذَا مَعْنَى سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، أَيْ سَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: سُكِّرَتْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ نُورُهَا وَلَا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقَائِقِهَا، وَكَانَ مَعْنَى السَّكْرِ قَطْعَ الشَّيْءِ عَنْ سَنَنِهِ الْجَارِي، فَمِنْ ذَلِكَ تَسْكِيرُ الْمَاءِ وَهُوَ رَدُّهُ عَنْ سُنَنِهِ فِي الْجَرْيَةِ، وَالسُّكْرُ فِي الشَّرَابِ هُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَضَاءِ فِي حَالَ الصَّحْوِ فَلَا يَنْفُذُ رَأْيُهُ عَلَى
128
حَدِّ نَفَاذِهِ فِي الصَّحْوِ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ فِي تَفْسِيرِ سُكِّرَتْ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَقَارِبَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: مَنْ جَوَّزَ قُدْرَةَ السَّحَرَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا بِأَعْيُنِ النَّاسِ حَتَّى يُرُوهُمُ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا جَوَّزُوا ذَلِكَ فَلَعَلَّ/ هَذَا الَّذِي يَرَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا لَيْسَ لَهَا حَقَائِقُ، بَلْ هِيَ تَكُونُ مِنْ بَابِ الْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ مِنْ ذَلِكَ السَّاحِرِ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا التجويز بطل الكل. والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، وَكَانَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّوْحِيدِ أَتْبَعَهُ تَعَالَى بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ. وَلَمَّا كَانَتْ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ مِنْهَا سَمَاوِيَّةٌ، وَمِنْهَا أَرْضِيَّةٌ، بَدَأَ مِنْهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ قَالَ اللَّيْثُ: الْبُرْجُ وَاحِدٌ مِنْ بُرُوجِ الْفَلَكِ، وَالْبُرُوجُ جَمْعٌ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: ٦١] وَقَالَ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: ١] وَوَجْهُ دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، هُوَ أَنَّ طَبَائِعَ هَذِهِ الْبُرُوجِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْفَلَكُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْأَبْعَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَكِّبٍ يُرَكِّبُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ وَالْأَبْعَاضَ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَالْحِكْمَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ السَّمَاءِ مُرَكَّبَةً مِنَ الْبُرُوجِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأما قوله: وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: ٥] فلا نعيد هاهنا إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ قَوْلُهُ:
وَزَيَّنَّاها أَيْ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ لِلنَّاظِرِينَ أَيْ لِلْمُعْتَبِرِينَ بِهَا وَالْمُسْتَدِلِّينَ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ صَانِعِهَا وَقَوْلُهُ: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى هَدْمِ السَّمَاءِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى حِفْظِ السَّمَاءِ مِنْهُ.
قُلْنَا: لَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْهَا، فَقَدْ حَفِظَ السَّمَاءَ مِنْ مُقَارَبَةِ الشَّيْطَانِ فَحَفِظَ اللَّهُ السَّمَاءَ مِنْهُمْ كَمَا قَدْ/ يَحْفَظُ مَنَازِلَنَا عَنْ مُتَجَسِّسٍ يُخْشَى مِنْهُ الْفَسَادُ ثُمَّ نَقُولُ: مَعْنَى الرَّجْمِ فِي اللُّغَةِ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ. ثُمَّ قِيلَ للقتل رُجِمَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّجْمُ أَيْضًا السَّبُّ وَالشَّتْمُ لِأَنَّهُ رُمِيَ بِالْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَمِنْهُ قوله: لَأَرْجُمَنَّكَ أَيْ لَأَسُبَّنَّكَ، وَالرَّجْمُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُرْمَى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: ٥] أَيْ مَرَامِيَ لَهُمْ، وَالرَّجْمُ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الْكَهْفِ: ٢٢] لِأَنَّهُ يَرْمِيهِ بِذَلِكَ الظَّنِّ وَالرَّجْمُ أَيْضًا اللَّعْنُ وَالطَّرْدُ، وَقَوْلُهُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، قَدْ فَسَّرُوهُ بِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ، لا تحجب عن السموات، فَكَانُوا يَدْخُلُونَهَا وَيَسْمَعُونَ أَخْبَارَ الْغُيُوبِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ،
فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنِعُوا مِنْ ثلاثة سموات، فَلَمَّا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منعوا من السموات كُلِّهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ رُمِيَ بِشِهَابٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لا يمكن حمل لفظة (إلا) هاهنا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لَا يُخْرِجُ السَّمَاءَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ الْقُرْبَ مِنْهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَكِنَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ (مَنِ) نَصْبٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. قَالَ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مِمَّنْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ يُرِيدُ الْخَطْفَةَ الْيَسِيرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَارِدَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَعْلُو فَيُرْمَى بِالشِّهَابِ فَيَحْرِقُهُ وَلَا يَقْتُلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحِيلُهُ فَيَصِيرُ غُولًا يُضِلُّ النَّاسَ فِي الْبَرَارِي. وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قصة بلعم بن باعورا فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَافِ: ١٧٥] مَعْنَاهُ لَحِقَهُ، والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكواكب شِهَابًا، وَالسِّنَانُ شِهَابًا لِأَجْلِ أَنَّهُمَا لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْبَرِيقِ يُشْبِهَانِ النَّارَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَبْحَاثًا دَقِيقَةً ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الملك وفي سورة الجن، ونذكر منها هاهنا إِشْكَالًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا جَوَّزْتُمْ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَصْعَدَ الشَّيْطَانُ إلى السموات وَيَخْتَلِطَ بِالْمَلَائِكَةِ وَيَسْمَعَ أَخْبَارَ الْغُيُوبِ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهَا تَنْزِلُ وَتُلْقِي تِلْكَ الْغُيُوبَ عَلَى الْكَهَنَةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا لِأَنَّ كُلَّ غَيْبٍ يُخْبِرُ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، لَا يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا الْعَجْزُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَالْقَطْعُ بِهَذَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمُعْجِزِ، وَكَوْنُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزًا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ إِبْطَالِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ مُحَالٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّا نُثْبِتُ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ رَسُولًا بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْجَزَ الشَّيَاطِينَ عَنْ تَلَقُّفِ الْغَيْبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْإِخْبَارُ عن الغيوب معجز، وبهذا الطريق يندفع الدور. والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
النوع الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ، وَالْجِسْمُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُمْتَدًّا فِي الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالثُّخْنُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَمَدُّدُ جِسْمِ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ مُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَمَدُّدُ جِسْمِ الْأَرْضِ مُخْتَصًّا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَنَّ الِازْدِيَادَ عَلَيْهِ مَعْقُولٌ، وَالِانْتِقَاصَ عَنْهُ أَيْضًا مَعْقُولٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ التَّمَدُّدِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُقَدَّرِ مَعَ جَوَازِ حُصُولِ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ اخْتِصَاصًا بِأَمْرٍ جَائِزٍ وَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
130
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها عَلَى أَنَّهَا بَسِيطَةٌ؟
قُلْنَا: نَعَمْ لِأَنَّ الْأَرْضَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا كُرَةً، فَهِيَ كُرَةٌ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، وَالْكُرَةُ الْعَظِيمَةُ يَكُونُ كُلُّ قِطْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنْهَا، إِذَا نُظِرَ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا تُرَى كَالسَّطْحِ الْمُسْتَوِي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ زَالَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النَّبَأِ: ٧] سَمَّاهَا أَوْتَادًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية، فكذا هاهنا.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَهِيَ الْجِبَالُ الثَّوَابِتُ، وَاحِدُهَا رَاسِي، وَالْجَمْعُ رَاسِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ رَوَاسِي، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقى / فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْلِ: ١٥] وَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ:
الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَسَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ مَالَتْ بِأَهْلِهَا كَالسَّفِينَةِ فَأَرْسَاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْجِبَالِ الثِّقَالِ لِكَيْلَا تَمِيلَ بِأَهْلِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْجِبَالِ فَمَالَتْ بِأَهْلِهَا فَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ مَعًا.
قُلْنَا: كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لِتَكُونَ دَلَالَةً لِلنَّاسِ عَلَى طُرُقِ الْأَرْضِ وَنَوَاحِيهَا لِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ فَلَا تَمِيلُ النَّاسُ عَنِ الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَلَا يَقَعُونَ فِي الضَّلَالِ وَهَذَا الوجه ظَاهِرُ الِاحْتِمَالِ.
النوع الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْبَتْنا فِيها يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، إِلَّا أَنَّ رُجُوعَهُ إِلَى الْأَرْضِ أَوْلَى لِأَنَّ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الْأَرَاضِي، فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ الْجَبَلِيَّةُ فَقَلِيلَةُ النَّفْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رُجُوعُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إِلَى الْجِبَالِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَعَادِنَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الْجِبَالِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمَوْزُونَةُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ هِيَ الْمَعَادِنُ لَا النَّبَاتُ.
البحث الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْمَوْزُونِ وَفِيهِ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُتَقَدِّرٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الوجه أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ فَيُنْبِتُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ لِأَنَّ ذَلِكَ الرِّزْقَ الَّذِي يَظْهَرُ بِالنَّبَاتِ يَكُونُ مَعِيشَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِحَسَبِ الْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَفِعَ بِالتِّجَارَةِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: الْوَزْنُ إِنَّمَا يُرَادُ لِمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ فَكَانَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْوَزْنِ لِإِرَادَةِ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالُوا: وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرَّعْدِ: ٨] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما
131
نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ
[الْحِجْرِ: ٢١].
وَالوجه الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ عَالَمُ الْأَسْبَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْلُقُ الْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ بِوَاسِطَةِ تَرْكِيبِ طَبَائِعِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ مِنَ الْأَرْضِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ/ وَمِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَذَلِكَ، وَمِنْ تَأْثِيرِ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ، وَلَوْ قَدَّرْنَا حُصُولَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ، أَوِ النُّقْصَانِ عَنْهُ لَمْ تَتَوَلَّدِ الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدَّرَهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى وَزَنَهَا بِمِيزَانِ الْحِكْمَةِ حَتَّى حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ.
وَالوجه الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ مَوْزُونُ الْحَرَكَاتِ أَيْ حركات مُتَنَاسِبَةٌ حَسَنَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْحِكْمَةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ إِذَا كَانَ مُتَنَاسِبًا حَسَنًا بَعِيدًا عَنِ اللَّغْوِ وَالسُّخْفِ فَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَوْزُونٌ بميزان الحكمة والعقل، وبالجملة فَقَدْ جَعَلُوا لَفْظَ الْمَوْزُونِ كِنَايَةً عَنِ الْحُسْنِ وَالتَّنَاسُبِ، فَقَوْلُهُ:
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أَيْ مُتَنَاسِبٍ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ بِالْحُسْنِ وَاللَّطَافَةِ وَمُطَابَقَةِ الْمَصْلَحَةِ.
وَالوجه الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ نَوْعَانِ: الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ: أَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ بِأَسْرِهَا مَوْزُونَةٌ وَهِيَ الْأَجْسَادُ السَّبْعَةُ وَالْأَحْجَارُ وَالْأَمْلَاحُ وَالزَّاجَّاتُ وَغَيْرُهَا. وَأَمَّا النَّبَاتُ فَيَرْجِعُ عَاقِبَتُهَا إِلَى الْوَزْنِ، لِأَنَّ الْحُبُوبَ تُوزَنُ، وَكَذَلِكَ الْفَوَاكِهُ فِي الْأَكْثَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي الْمَعَايِشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ لَكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مُعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَعايِشَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ:
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «مَنْ» مُخْتَصَّةٌ بِالْعُقَلَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الْعُقَلَاءَ وَهُمُ الْعِيَالُ وَالْمَمَالِيكُ وَالْخَدَمُ وَالْعَبِيدُ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْزُقُونَ الْعِيَالَ وَالْخَدَمَ وَالْعَبِيدَ، وَذَلِكَ خَطَأٌ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ يَرْزُقُ الْخَادِمَ وَالْمَخْدُومَ، وَالْمَمْلُوكَ وَالْمَالِكَ فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَطْعِمَةَ وَالْأَشْرِبَةَ، وَأَعْطَى الْقُوَّةَ الْغَاذِيَةَ وَالْهَاضِمَةَ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ رِزْقٌ.
وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ مَعَ أَنَّ صِيغَةَ مَنْ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَعْقِلُ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ صِيغَةَ مَنْ قَدْ وَرَدَتْ فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النُّورِ: ٤٥]. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِجَمِيعِ الدَّوَابِّ رِزْقًا عَلَى اللَّهِ حَيْثُ قَالَ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي
132
الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها
[هُودٍ: ٦] فَكَأَنَّهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ تَطْلُبُ أَرْزَاقَهَا مِنْ خَالِقِهَا فَصَارَتْ شَبِيهَةً بِمَنْ يَعْقِلُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَمْ يَبْعُدْ ذِكْرُهَا بِصِيغَةِ مَنْ يعقل، ألا ترى أنه قال: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النحل: ١٨] فَذَكَرَهَا بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ، وَقَالَ فِي الْأَصْنَامِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشُّعَرَاءِ: ٧٧] وَقَالَ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] فكذا هاهنا لَا يَبْعُدُ إِطْلَاقُ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ عَلَى الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ لِكَوْنِهَا شَبِيهَةً بِالْعُقَلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَسَمِعْتُ فِي بَطْنِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُ قَلَّتِ الْمِيَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ فِي عَامٍ مِنَ الْأَعْوَامِ فَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْوَحْشِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ عِنْدَ اشْتِدَادِ عَطَشِهِ قَالَ: فَرَأَيْتُ الْغُيُومَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَمْطَرَتْ بِحَيْثُ امْتَلَأَتِ الْأَوْدِيَةُ مِنْهَا.
وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنَّا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عَلَى الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَعَلَى الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا صِيغَةَ مَنْ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ، لِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، لَا يُقَالُ أَخَذْتُ مِنْكَ وَزَيْدٍ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧].
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا المعنى جائز على قراءة من قرأ: تسائلون به والأرحام [النساء: ١] بِالْخَفْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ المسألة هُنَالِكَ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)
[في قوله تَعَالَى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْبَتَ فِي الْأَرْضِ كُلَّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلَ فِيهَا مَعَايِشَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا هُوَ كَالسَّبَبِ لِذَلِكَ فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.
وَهَذَا هُوَ النوع الرَّابِعُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَزَائِنُ جَمْعُ الْخِزَانَةِ، وَهُوَ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي يُخْزَنُ فِيهِ الشَّيْءُ أَيْ يُحْفَظُ وَالْخِزَانَةُ أَيْضًا عَمَلُ الْخَازِنِ، وَيُقَالُ: خَزَنَ الشَّيْءَ يَخْزِنُهُ إِذَا أَحْرَزَهُ فِي خِزَانَةٍ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ هُوَ الْمَطَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلْأَرْزَاقِ وَلِمَعَايِشِ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الْمُعَايِشَ بَيَّنَ أَنَّ خَزَائِنَ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَعَايِشِ عِنْدَهُ، أَيْ فِي أَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَقَوْلِهِ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ:
يُرِيدُ قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَقَالَ الحكم: مَا مِنْ عَامٍ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يُمْطَرُ قَوْمٌ وَيُحْرَمُ قَوْمٌ آخَرُونَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْبَحْرِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَطَرَ كُلَّ عَامٍ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَصْرِفُهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ حَيْثُ شَاءَ كَمَا شَاءَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَفْظُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَحَكُّمًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَأَقُولُ أَيْضًا: تَخْصِيصُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ بِالْمَطَرِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ،
133
لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ الْقَدِيمُ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مَقْدُورَةً لَهُ تَعَالَى. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورَةٌ لَهُ، وَمَمْلُوكَةٌ يُخْرِجُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ كَيْفَ شَاءَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ مَقْدُورَاتُهُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ إِلَّا أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُهُ مِنْهَا إِلَى الْوُجُودِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا لِأَنَّ دُخُولَ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ مُحَالٌ فَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ مَقْدُورَاتِهِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ وَقَوْلُهُ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ مِنْهَا فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَمَتَى كَانَ الْخَارِجُ مِنْهَا إِلَى الْوُجُودِ مُتَنَاهِيًا كَانَ لَا مَحَالَةَ مُخْتَصًّا فِي الْحُدُوثِ بِوَقْتٍ مُقَدَّرٍ مَعَ جَوَازِ حُصُولِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ بَدَلًا عَنْهُ، وَكَانَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ حُصُولِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْيَازِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ الْحَيِّزِ، وَكَانَ مُخْتَصًّا بِصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ حُصُولُ سَائِرِ الصِّفَاتِ بَدَلًا عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَنَاهِيَةِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَالْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ، وَالصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ بَدَلًا عَنْ أَضْدَادِهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْلَا الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ الَّذِي خَصَّصَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الْجَائِزَةِ لَامْتَنَعَ اخْتِصَاصُهَا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْجَائِزَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِنْزَالِ الْإِحْدَاثُ وَالْإِنْشَاءُ وَالْإِبْدَاعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: ٦] وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الْحَدِيدِ: ٢٥] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ خَزَائِنُ، وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْخَزَائِنُ حَاصِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْخَزَائِنِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ الْإِحْدَاثُ وَالْإِبْدَاعُ وَالْإِنْشَاءُ وَالتَّكْوِينُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُصُولُ تِلْكَ الْخَزَائِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى حُدُوثِهَا وَدُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الذَّوَاتِ وَالْحَقَائِقَ وَالْمَاهِيَّاتِ كَانَتْ مُتَقَرِّرَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا حَقَائِقُ وَمَاهِيَّاتٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ بَعْضَهَا أَيْ أَخْرَجَ بَعْضَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ الْخَزَائِنِ إِنَّمَا ورد هاهنا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَتَكْوِينِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يسقط الاستدلال، والمباحث الدَّقِيقَةُ بَاقِيَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النوع الْخَامِسُ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: فِي وَصْفِ الرِّيَاحِ بِأَنَّهَا لَوَاقِحُ. أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّيَاحُ لَوَاقِحُ لِلشَّجَرِ وَلِلسَّحَابِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَقِحَتِ النَّاقَةُ وَأَلْقَحَهَا الْفَحْلُ إِذَا أَلْقَى الْمَاءَ فِيهَا فَحَمَلَتْ، فَكَذَلِكَ الرِّيَاحُ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْفَحْلِ لِلسَّحَابِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: يَبْعَثُ الله الرياح لتلقح السَّحَابِ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ وَتَمُجُّهُ فِي السَّحَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعْصِرُ السَّحَابَ وَيُدِرُّهُ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ فَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ إِلْقَاحِهَا لِلسَّحَابِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ إِلْقَاحِهَا لِلشَّجَرِ فَمَا ذَكَرُوهُ.
134
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَواقِحَ وَهِيَ مُلَقَّحَةٌ؟
وَالْجَوَابُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ (لواقح) هاهنا بِمَعْنَى مَلَاقِحَ جَمْعُ مُلَقَّحَةٍ وَأَنْشَدَ لِسُهَيْلٍ يَرْثِي أَخَاهُ:
لَبَّيْكَ يَزِيدُ يَائِسٌ ذُو ضَرَاعَةٍ وَأَشْعَثُ مِمَّا طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ
أَرَادَ الْمَطُوحَاتِ وَقَرَّرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ذَلِكَ فَقَالَ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَبْقَلَ النَّبْتُ فهل بَاقِلٌ يُرِيدُونَ هُوَ مُبَقَّلٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وُرُودِ لَاقِحٍ عِبَارَةً عَنْ مُلَقِّحٍ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يقال لها لواقح وإن ألحقت غَيْرَهَا لِأَنَّ/ مَعْنَاهَا النِّسْبَةُ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَازِنٌ، أَيْ ذُو وَزْنٍ، وَرَامِحٌ وَسَائِفٌ، أَيْ ذُو رُمْحٍ وَذُو سَيْفٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمُغْنٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ اللَّاقِحُ. بِمَعْنَى ذَاتِ اللِّقَاحِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّاقِحَ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللِّقْحَةِ، وَمَنْ أَفَادَ غَيْرَهُ اللِّقْحَةَ فَلَهُ نِسْبَةٌ إِلَى اللِّقْحَةِ فَصَحَّ هَذَا الْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الرِّيحَ فِي نَفْسِهَا لَاقِحٌ وَتَقْرِيرُهُ بِطَرِيقَيْنِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّيحَ حَاصِلَةٌ لِلسَّحَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا [الْأَعْرَافِ: ٥٧] أَيْ حَمَلَتْ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ الرِّيحُ لَاقِحَةً بِمَعْنَى أَنَّهَا حَامِلَةٌ تَحْمِلُ السَّحَابَ وَالْمَاءَ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلرِّيحِ لَقِحَتْ إِذَا أَتَتْ بِالْخَيْرِ، كَمَا قِيلَ لَهَا عَقِيمٌ إِذَا لَمْ تَأْتِ بِالْخَيْرِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ لَقِحَتِ الْحَرْبُ وَقَدْ نَتَجَتْ وَلَدًا أَنْكَدَ يُشَبِّهُونَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرِّ بِمَا تَحْمِلُهُ النَّاقَةُ فَكَذَا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الرِّيحُ هَوَاءٌ مُتَحَرِّكٌ وَحَرَكَةُ الْهَوَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَيْسَ نَفْسُ كَوْنِهِ هَوَاءً وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَّا لَدَامَتْ حَرَكَةُ الْهَوَاءِ بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِتَحْرِيكِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَالْأَحْوَالُ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفَلَاسِفَةُ فِي سَبَبِ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ عِنْدَ حُدُوثِ الرِّيحِ قَدْ حَكَيْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَأَبْطَلْنَاهَا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا سَبَبًا لِحُدُوثِ الرِّيَاحِ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مُحَرِّكُهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
وَأما قوله: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ فَفِيهِ مَبَاحِثٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ هَلْ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ يَنْزِلُ مِنْ مَاءِ السَّحَابِ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ كَيْفَ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى السَّحَابِ لَفْظَ السَّمَاءِ؟ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَيْسَ السَّبَبُ فِي حُدُوثِ الْمَطَرِ مَا يَذْكُرُهُ الْفَلَاسِفَةُ بَلِ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ لِغَرَضِ الْإِحْسَانِ إلى العباد كما قال هاهنا: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مَا كَانَ فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَهْرٍ يَجْرِي أَسْقَيْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهَا مَسْقًى، فَإِذَا كَانَتِ السُّقْيَا لِسَقْيِهِ قَالُوا سَقَاهُ، وَلَمْ يَقُولُوا أَسْقَاهُ. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل: ٦٦] فقرءوا بِاللُّغَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الْإِنْسَانِ: ٢١] وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٩] قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حتى
135
رُوِيَ وَأَسْقَيْتُهُ نَهْرًا، أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ وَقَوْلَهُ: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أَيْ جَعَلْنَاهُ/ سَقْيًا لَكُمْ وَرُبَّمَا قَالُوا فِي أَسْقَى سَقَى كَقَوْلِ لَبِيدٍ يَصِفُ سَحَابًا:
أَقُولُ وَصَوْبُهُ مِنِّي بَعِيدٌ يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُلَلِ الْجِبَالِ
سَقَى قَوْمِي بَنِي نَجْدٍ وَأَسْقَى نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
فَقَوْلُهُ: سَقَى قَوْمِي لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ مَا يَرْوِي عِطَاشَهُمْ ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يُخَصِّبُونَ بِهَا، وَبَعِيدٌ أَنْ يَسْأَلَ لِقَوْمِهِ مَا يروى العطاش وليغرهم مَا يُخَصِّبُونَ بِهِ. وَأَمَّا سُقْيَا السُّقْيَةِ فَلَا يُقَالُ فِيهَا أَسْقَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُّنُهُ تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهُ
فَمَعْنَى أَسْقِيهِ أَدْعُو لَهُ بِالسِّقَاءِ، وَأَقُولُ سَقَاهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ يَعْنِي بِهِ ذَلِكَ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ يعني لستم له بحافظين.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُصُولِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ.
أما قوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِحْيَاءِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَصْفُ النَّبَاتِ بِالْإِحْيَاءِ مَجَازٌ فَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِإِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ وَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ كَانَ حُصُولُ الْحَيَاةِ لِلْحَيَوَانِ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا قُدْرَةَ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَلَا عَلَى الْإِمَاتَةِ إِلَّا لَنَا، وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مُلْكُ كُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْبَاقِي الْحَقُّ الْمَالِكُ لِكُلِّ الْمَمْلُوكَاتِ وَحْدَهُ فَكَانَ هَذَا شَبِيهًا بِالْإِرْثِ فَكَانَ وَارِثًا مِنْ هَذَا الوجه.
وَأما قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: الْمُسْتَقْدِمِينَ يُرِيدُ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَأْخِرِينَ يُرِيدُ/ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَرَادَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الصَّفَّ الْآخِرَ،
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،
وَالْمَعْنَى: أَنَّا نَجْزِيهِمْ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي فِي وَصْفِ الْقِتَالِ. الرَّابِعُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْجَوْزَاءِ كَانَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَوْمٌ يَتَقَدَّمُونَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَوْهَا وَآخَرُونَ يَتَخَلَّفُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ لِيَرَوْهَا وَإِذَا رَكَعُوا جَافَوْا أَيْدِيهِمْ لِيَنْظُرُوا مِنْ تَحْتِ آبَاطِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
الْخَامِسُ: قِيلَ الْمُسْتَقْدِمُونَ هُمُ الْأَمْوَاتُ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ هُمُ الْأَحْيَاءُ. وَقِيلَ الْمُسْتَقْدِمُونَ هُمُ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمُسْتَقْدِمُونَ مَنْ خُلِقَ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ عِلْمُهُ تَعَالَى بِتَقَدُّمِهِمْ وَتَأَخُّرِهِمْ فِي الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ وَبِتَقَدُّمِهِمْ وَتَأَخُّرِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَخُصَّ الْآيَةَ بِحَالَةٍ دُونِ حَالَةٍ.
وَأما قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ وَالْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ أَمْرٌ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ في أول سورة يونس عليه السلام.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّابِعُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَدَلَّ بِتَخْلِيقِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَرْدَفَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِتَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِوُجُودِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ وُجُوبُ انْتِهَاءِ الْحَوَادِثِ إِلَى حَادِثٍ أَوَّلٍ هُوَ أَوَّلُ الْحَوَادِثِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ النَّاسِ إِلَى إِنْسَانٍ هُوَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الأول غير مخلوق مع الْأَبَوَيْنِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لَا مَحَالَةَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ، وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَنُقِلَ فِي «كُتُبِ الشِّيعَةِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: قَدِ انْقَضَى قَبْلَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَبُونَا أَلْفُ أَلْفِ آدَمَ أَوْ أَكْثَرُ
وَأَقُولُ: هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ لِأَمْرٍ كَيْفَ كَانَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى إِنْسَانٍ أَوَّلٍ هُوَ أَوَّلُ النَّاسِ وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ هُوَ أَبُونَا آدَمُ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِسْمَ مُحْدَثٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَجْسَامِ يَكُونُ مَخْلُوقًا عَنْ عَدَمٍ مَحْضٍ، وَأَيْضًا دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] عَلَى أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَدَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: ٧١] وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَخْلُوقٌ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ أَوَّلًا مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ طِينٍ ثُمَّ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ثُمَّ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ مِنَ الْأَجْسَامِ كَانَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا خَلَقَهُ عَلَى هَذَا الوجه إِمَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمَصْلَحَتِهِمْ وَمَصْلَحَةِ الْجِنِّ، لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ الشَّيْءِ مِنْ شَكْلِهِ وَجِنْسِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِي الصَّلْصَالِ قَوْلَانِ: قِيلَ الصَّلْصَالُ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يُصَلْصِلُ وَهُوَ غَيْرُ مَطْبُوخٍ، وَإِذَا طُبِخَ فَهُوَ فَخَّارٌ. قَالُوا: إِذَا تَوَهَّمْتَ فِي صَوْتِهِ مَدًّا فَهُوَ صَلِيلٌ، وَإِذَا تَوَهَّمْتَ فِيهِ تَرْجِيعًا فَهُوَ صَلْصَلَةٌ. قَالَ
137
الْمُفَسِّرُونَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طِينٍ فَصَوَّرَهُ وَتَرَكَهُ فِي الشَّمْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَصَارَ صَلْصَالًا كَالْخَزَفِ وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا يُرَادُ بِهِ، وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا مِنَ الصُّوَرِ يُشْبِهُهُ إِلَى أَنْ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ. وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ فَجَفَّ فَكَانَتِ الرِّيحُ إِذَا مَرَّتْ بِهِ سُمِعَ لَهُ صَلْصَلَةٌ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى صَلْصَالًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الصَّلْصَالُ هُوَ الْمُنْتِنُ مِنْ قَوْلِهِمْ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا نَتَّنَ وَتَغَيَّرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَكَوْنُهُ حَمَأً مَسْنُونًا يَدُلُّ عَلَى النَّتَنِ وَالتَّغَيُّرِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصلصال إنما تولد من حمإ الْمَسْنُونِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ صَلْصَالًا مُغَايِرًا لِكَوْنِهِ حَمَأً مَسْنُونًا، وَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ صَلْصَالًا عِبَارَةً عَنِ النَّتَنِ وَالتَّغَيُّرِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ/ صَلْصَالًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ حَمَأً مَسْنُونًا تَفَاوُتٌ، وَأَمَّا الْحَمَأُ فَقَالَ اللَّيْثُ الْحَمْأَةُ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ، وَالْجَمْعُ الْحَمَأُ وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ الْمُنْتِنُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَكْثَرُونَ حَمْأَةٌ بِوَزْنِ كَمْأَةٍ وَقَوْلُهُ: مَسْنُونٍ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ سمعت أبا عمرو يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: مَسْنُونٍ أَيْ مُتَغَيِّرٍ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ يُقَالُ سَنَّ الْمَاءُ، فَهُوَ مَسْنُونٌ أَيْ تَغَيَّرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَتَسَنَّهْ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٩] أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. الثَّانِي: الْمَسْنُونُ الْمَحْكُوكُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَنْتُ الْحَجَرَ إِذَا حَكَكْتَهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا يُقَالُ لَهُ السُّنَنُ وَسُمِّي الْمَسَنُّ مَسَنًّا لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُسَنُّ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا اللَّفْظُ مأخوذ من أنه مَوْضُوعٍ عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَغَيَّرَ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: المسنون المصبوب، والسن والصب يُقَالُ سَنَّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ سَنًّا. الْخَامِسُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَسْنُونُ الْمُصَوَّرُ عَلَى صُورَةٍ وَمِثَالٍ، مِنْ سُنَّةِ الوجه وَهِيَ صُورَتُهُ، السَّادِسُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْنُونُ الطِّينُ الرَّطْبُ، وَهَذَا يَعُودُ إِلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ رَطْبًا يَسِيلُ وَيَنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ، فَيَكُونُ مَسْنُونًا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْبُوبٌ.
أما قوله تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجَانَّ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: الْجَانُّ هُوَ أَبُ الْجِنِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَسُمِّيَ جَانًّا لِتَوَارِيهِ عَنِ الْأَعْيُنِ، كَمَا سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِهَذَا السَّبَبِ، وَالْجَنِينُ مُتَوَارٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَمَعْنَى الْجَانِّ فِي اللُّغَةِ السَّاتِرُ مِنْ قَوْلِكَ: جَنَّ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرَهُ، فَالْجَانُّ المذكور هاهنا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سُمِّيَ جَانًّا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ نَفْسَهُ عَنْ أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ، أَوْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ كَمَا يُقَالُ فِي لَابِنٍ وَتَامِرٍ وَمَاءٍ دَافِقٍ وَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِنِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ جِنْسٌ غَيْرُ الشَّيَاطِينِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قِسْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى بِالشَّيْطَانِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نارِ السَّمُومِ مَعْنَى السَّمُومِ فِي اللُّغَةِ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ تَكُونُ بِالنَّهَارِ وَقَدْ تَكُونُ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا فَالرِّيحُ الْحَارَّةُ فِيهَا نَارٌ وَلَهَا لَفْحٌ وَأَوَارٌ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهَا لَفْحُ جَهَنَّمَ.
قِيلَ: سُمِّيَتْ سَمُومًا لِأَنَّهَا بِلُطْفِهَا تَدْخُلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ، وَهِيَ الْخُرُوقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِي جِلْدِ الْإِنْسَانِ يَبْرُزُ مِنْهَا عَرَقُهُ وَبُخَارُ بَاطِنِهِ. قَالَ ابْنُ مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزأ مِنَ السَّمُومِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ بِهَا الْجَانَّ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
138
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ خَلْقُ الْجَانِّ مِنَ النَّارِ؟
قُلْنَا: هَذَا عَلَى مَذْهَبِنَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِإِمْكَانِ حُصُولِ الْحَيَاةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ فِي الْجِسْمِ الْحَارِّ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْحَيَاةِ فِيهَا قَالَ: لِأَنَّ الشَّمْسَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حُصُولُ الْحَيَاةِ فِيهِ فَنَنْقُضُهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ بَلِ الْمُعْتَمَدُ فِي نفي الحياة عن الكواكب الإجماع.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ وَاسْتَدَلَّ بِذِكْرِهِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَاقِعَتَهُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَأَطَاعُوهُ إِلَّا إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ أَبَى وَتَمَرَّدَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: مَا تَفْسِيرُ كَوْنِهِ بَشَرًا. فَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ جِسْمًا كَثِيفًا يُبَاشِرُ وَيُلَاقِي وَالْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ لَا يُبَاشِرُونَ لِلُطْفِ أَجْسَامِهِمْ عَنْ أَجْسَامِ الْبَشَرِ، والبشرة ظاهرة الْجِلْدِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ وَأَمَّا كَوْنُهُ صَلْصَالًا مَنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأما قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ فَفِيهِ/ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِذَا سَوَّيْتُ شَكْلَهُ بِالصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْخِلْقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَالثَّانِي: فَإِذَا سَوَّيْتُ أَجْزَاءَ بَدَنِهِ بِاعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ وَتَنَاسُبِ الْأَمْشَاجِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَانِ: ٢].
وَأما قوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْخَ إِجْرَاءُ الرِّيحِ فِي تَجَاوِيفِ جِسْمٍ آخَرَ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الرُّوحَ هِيَ الرِّيحُ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ وَصْفُهَا بِالنَّفْخِ إِلَّا أَنَّ البحث الْكَامِلَ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَإِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رُوحَ آدَمَ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا. وَقَوْلُهُ: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فِيهِ مَبَاحِثُ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كَانَ لآدم في الحقيقة أو كان آدم كَالْقِبْلَةِ لِذَلِكَ السُّجُودِ، وَهَذَا البحث قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ، مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّ أَكَابِرَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: ٢٠٦]
139
فَقَوْلُهُ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُمْ سَاجِدِينَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ يُفِيدُ الْعُمُومَ، إِلَّا أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا نَفَخَ الرُّوحَ فِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَبَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ مَذْكُورٌ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّرَاخِي وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تَوْكِيدٌ بَعْدَ تَوْكِيدٍ، وَسُئِلَ الْمُبَرِّدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَوْ قَالَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَجَدَ بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا قَالَ: كُلُّهُمْ زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَظَهَرَ أَنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ سَجَدُوا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَقِيَ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ سَجَدُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ سَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَلَمَّا قَالَ:
أَجْمَعُونَ ظَهَرَ أَنَّ الْكُلَّ سَجَدُوا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمَّا حَكَى الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الْمُبَرِّدِ قَالَ: وَقَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَجْوَدُ، لِأَنَّ أَجْمَعِينَ مَعْرِفَةٌ فَلَا يَكُونُ حَالًا وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ سُبِقَتْ هَذِهِ المسألة بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَوْلُهُ: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ اسْتِئْنَافٌ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: هَلَّا سَجَدَ فَقِيلَ: أَبَى ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرَ عَنْهُ.
أما قوله: قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
قالَ يا إِبْلِيسُ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ يَا إِبْلِيسُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَهُ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ/ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْصَلَ هَذَا الْخِطَابَ إِلَى إِبْلِيسَ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ رُسُلِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ فِي الْجَوَابِ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ فَقَوْلُهُ: خَلَقْتَهُ خِطَابُ الْحُضُورِ لَا خِطَابُ الْغَيْبَةِ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَ إِبْلِيسَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَأَنَّ إِبْلِيسَ تَكَلَّمَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَيْفَ يُعْقَلُ هَذَا مَعَ أَنَّ مُكَالَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ وَأَشْرَفِ الْمَرَاتِبِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُهُ لِرَأْسِ الْكَفَرَةِ وَرَئِيسِهِمْ، وَلَعَلَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّ مُكَالَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَكُونُ مَنْصِبًا عَالِيًا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ وَالْإِعْظَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ فَلَا، وَقَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِأَسْجُدَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَمَعْنَاهُ: لَا يَصِحُّ مِنِّي أَنْ أَسْجُدَ لِبَشَرٍ.
البحث الثَّانِي: مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ جِسْمًا كَثِيفًا وَهُوَ كَانَ رُوحَانِيًّا لَطِيفًا، فَالتَّفْرِقَةُ حَاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ مِنْ هَذَا الوجه. كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْبَشَرُ جُسْمَانِيٌّ كَثِيفٌ لَهُ بَشَرَةٌ، وَأَنَا رُوحَانِيٌّ لَطِيفٌ، وَالْجُسْمَانِيُّ الْكَثِيفُ أَدْوَنُ حَالًا مِنَ الرُّوحَانِيِّ اللَّطِيفِ، وَالْأَدْوَنُ كَيْفَ يَكُونُ مَسْجُودًا لِلْأَعْلَى، وَأَيْضًا أَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ صَلْصَالٍ تَوَلَّدَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَهَذَا الْأَصْلُ فِي غَايَةِ الدَّنَاءَةِ وَأَصْلُ إِبْلِيسَ هُوَ النَّارُ وَهِيَ أَشْرَفُ الْعَنَاصِرِ، فَكَانَ أَصْلُ إِبْلِيسَ أَشْرَفَ مِنْ أَصْلِ آدَمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِبْلِيسُ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ، وَالْأَشْرَفُ يُقْبَحُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالسُّجُودِ لِلْأَدْوَنِ، فَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الْبَشَرِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَهُوَ فَرْقٌ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ وَالْكَلَامُ الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ الْحَاصِلِ بِحَسَبِ الْعُنْصُرِ وَالْأَصْلِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ شُبْهَةِ إِبْلِيسَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فَهَذَا لَيْسَ جَوَابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ، وَلَكِنَّهُ جَوَابٌ عَنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَصٌّ، وَالَّذِي قَالَهُ إِبْلِيسُ قِيَاسٌ، وَمَنْ عَارَضَ النص
140
بِالْقِيَاسِ كَانَ رَجِيمًا مَلْعُونًا. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى ذَكَرْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَوْلُهُ: فَاخْرُجْ مِنْها قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ جَنَّةِ عدن، وقيل من السموات، وَقِيلَ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَمَامُ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ تَفْسِيرِ الرَّجِيمِ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرِيدُ يَوْمَ الْجَزَاءِ حَيْثُ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: ٤].
فَإِنْ قِيلَ: كَلِمَةُ (إِلَى) تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اللَّعْنَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ يَزُولُ اللَّعْنُ.
أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْبِيدُ، وَذِكْرُ الْقِيَامَةِ أَبْعَدُ غَايَةٍ يَذْكُرُهَا النَّاسُ/ فِي كَلَامِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هُودٍ: ١٠٧] فِي التَّأْبِيدِ. وَالثَّانِي: أَنَّكَ مَذْمُومٌ مَدْعُوٌّ عَلَيْكَ بِاللَّعْنَةِ في السموات وَالْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَذَّبَ فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عُذِّبَ عَذَابًا يَنْسَى اللَّعْنَ مَعَهُ فَيَصِيرُ اللَّعْنُ حِينَئِذٍ كَالزَّائِلِ بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَأَنْظِرْنِي مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا جَعَلْتَنِي رَجِيمًا مَلْعُونًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَأَنْظِرْنِي فَطَلَبَ الْإِبْقَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَنْظَرَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمُوتَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَمُوتُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَمُوتَ الْبَتَّةَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُ عَنْ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَقَالَ:
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأَوْلَى حِينَ يَمُوتُ كُلُّ الْخَلَائِقِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْوَقْتُ بِالْوَقْتِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ يَمُوتَ كُلُّ الْخَلَائِقِ فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: ٣٤]. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْلِيسُ وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ تَعَالَى بِيَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ؟ لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا عَيَّنَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ.
141
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا أَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَطْلُوبِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَمُوتَ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَبَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يَمُوتُ أَيْضًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ الْمَوْتُ بِالْكُلِّيَّةِ.
قُلْنَا: يُحْمَلُ قَوْلُهُ: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إِلَى مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْهُ. وَالْوَقْتُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ كُلُّ الْمُكَلَّفِينَ قَرِيبٌ مِنْ يَوْمِ الْبَعْثِ، وَعَلَى هَذَا الوجه فَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى الوجه الْأَوَّلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِيَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يَوْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ مَتَى يَمُوتُ، لِأَنَّ فِيهِ إِغْرَاءً بِالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِذَا كَانَ وَقْتَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ مَعْلُومًا لِلْمُكَلَّفِ. فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْلَمَهُ الْوَقْتَ الَّذِي تَقُومُ الْقِيَامَةُ فِيهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ الْإِغْرَاءُ بِالْمَعَاصِي.
وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْوَقْتَ الَّذِي فِيهِ تَقُومُ الْقِيَامَةُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا أَنَّهُ عَلِمَ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ مِنْ وَقْتِ خِلْقَةِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَكَأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ.
أما قوله تَعَالَى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: الْبَاءُ فِي بِما أَغْوَيْتَنِي لِلْقَسَمِ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَأُزَيِّنَنَّ. وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٢] إِلَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَقْسَمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَفِي قَوْلِهِ: بِما أَغْوَيْتَنِي أَقْسَمَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: الْقَسَمُ بِصِفَاتِ الذَّاتِ صَحِيحٌ، أَمَّا بِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنْ قَوْمٍ آخَرِينَ أنهم قالوا: الباء هاهنا بِمَعْنَى السَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ كَوْنِي غَاوِيًا لَأُزَيِّنَنَّ كَقَوْلِ الْقَائِلِ، أَقْسَمَ فُلَانٌ بِمَعْصِيَتِهِ لَيَدْخُلَنَّ النَّارَ، وَبِطَاعَتِهِ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ.
البحث الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ خَلْقَ الْكُفْرِ فِي الْكَافِرِ وَيَصُدُّهُ عَنِ الدِّينِ وَيُغْوِيهِ عَنِ الْحَقِّ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَمْهَلَ وَطَلَبَ الْبَقَاءَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ هَذَا الْإِمْهَالَ وَالْإِبْقَاءَ لِإِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَإِضْلَالِهِمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُ وَأَجَابَهُ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَلَوْ كَانَ تَعَالَى يُرَاعِي مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الدِّينِ لَمَا أَمْهَلَهُ هَذَا الزَّمَانَ الطَّوِيلَ، وَلَمَا مَكَّنَهُ مِنَ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَالْوَسْوَسَةِ. الثَّانِي: أَنَّ أَكَابِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مُجِدُّونَ وَمُجْتَهِدُونَ فِي إِرْشَادِ الْخَلْقِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ وَرَهْطَهُ وَشِيعَتَهُ مُجِدُّونَ/ وَمُجْتَهِدُونَ فِي الضَّلَالِ وَالْإِغْوَاءِ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْإِرْشَادُ وَالْهِدَايَةُ لَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ إِبْقَاءُ الْمُرْشِدِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ وَإِهْلَاكُ الْمُضِلِّينَ وَالْمُغْوِينَ، وَحَيْثُ فَعَلَ بِالضِّدِّ مِنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمُ الْخِذْلَانَ وَالْكُفْرَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَأَنَّهُ مَلْعُونٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ كَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُ بِالْكُفْرِ وَالْقَبِيحِ، لِأَنَّهُ أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترئ حِينَئِذٍ عَلَى أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى هَذَا الْعُمْرَ الطَّوِيلَ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا الْعُمْرِ الطَّوِيلِ إِلَّا زِيَادَةَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَبِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ يَزْدَادُ اسْتِحْقَاقُهُ لِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ كَانَ هَذَا الْإِمْهَالُ سَبَبًا لمزيد عذابه،
142
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِهِ أَنْ يَزْدَادَ عَذَابُهُ وَعِقَابُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ اللَّهَ أَغْوَاهُ فَقَالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ لَا يُقَالُ: هَذَا كَلَامُ إِبْلِيسَ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَيْضًا فَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ إِبْلِيسَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فَأَضَافَ الْإِغْوَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ.
أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فالمراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله في تلك الآية: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُزَيِّنَ لَهُمُ الْأَبَاطِيلَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زَالَ التَّنَاقُضُ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيَاطِينِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَصِ: ٦٣].
السُّؤَالُ السَّادِسُ: أَنَّهُ أقل: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ عَرَفَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ، أَوْ مَا عَرَفَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ امْتَنَعَ كَوْنُهُ غَاوِيًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ إِذَا عَرَفَ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ جَهْلٌ وَبَاطِلٌ، وَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِأَنَّهُ مَا عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ أَغْوَاهُ فَكَيْفَ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي فَهَذَا مَجْمُوعُ السُّؤَالَاتِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: فَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ طَرِيقُ الْجُبَّائِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْهَلَ إِبْلِيسَ تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ النَّاسِ بِسَبَبِ وَسْوَسَتِهِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُوجَدَ إِبْلِيسُ وَلَا وَسْوَسَتُهُ/ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَافِرَ، وَالْعَاصِيَ كَانَ يَأْتِي بِذَلِكَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا جَرَمَ أَمْهَلَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ طَرِيقُ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ أَقْوَامًا يَقَعُونَ بِسَبَبِ وَسْوَسَتِهِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، إِلَّا أَنَّ وَسْوَسَتَهُ مَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِذَلِكَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، بَلِ الْكَافِرُ وَالْعَاصِي بِسَبَبِ اخْتِيَارِهِ اخْتَارَ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَتِلْكَ الْمَعْصِيَةَ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: الِاحْتِرَازُ عَنِ الْقَبَائِحِ حَالَ عَدَمِ الْوَسْوَسَةِ أَسْهَلُ مِنْهُ حَالَ وُجُودِهَا، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ وَسْوَسَتُهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْحَكِيمَ مِنْ فِعْلِهِ، كَمَا أَنَّ إِنْزَالَ الْمَشَاقِّ وَإِنْزَالَ الْمُتَشَابِهَاتِ صَارَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الشُّبُهَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فلم يمتنع فعله فكذا هاهنا، وَهَذَانَ الطَّرِيقَانِ هُمَا بِعَيْنِهِمَا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ إِعْلَامَهُ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْجُرْأَةِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ عِلْمُ إِبْلِيسَ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ يَحْمِلُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعَاصِي أَمَّا إِذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ الْبَتَّةَ، فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ صَرَّحَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْوَاهُ وَأَضَلَّهُ عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ بَلْ فِيهِ وُجُوهٌ أُخْرَى: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِمَا خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ لَأُخَيِّبَنَّهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَى معصيتك.
143
وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ كَمَا أَضْلَلْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ أُضِلُّهُمْ أَنَا أَيْضًا عَنْهُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِغْوَاءِ الْأَوَّلِ الْخَيْبَةَ، وَبِالثَّانِي الْإِضْلَالَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ هُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى غَيِّهِ، يَعْنِي أَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ الْغَيُّ عَقِيبَهُ بِاخْتِيَارِ إِبْلِيسَ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ صَارَ مُوجِبًا لِذَاتِهِ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْغَيِّ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ وَكُلُّهُ ضَعِيفٌ، أما قوله إِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ فَنَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْبُرْهَانُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [الْبَقَرَةِ: ٣٦] فَأَضَافَ تِلْكَ الزَّلَّةَ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَقَالَ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: ١١٧] فَأَضَافَ الْإِخْرَاجَ إِلَيْهِ، وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْقَصَصِ: ١٥] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِعَمَلِ الشَّيْطَانِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَثَرًا، وَأَمَّا الْبُرْهَانُ فَلِأَنَّ بِدَايَةَ الْعُقُولِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ حَالُ مَنِ ابْتُلِيَ بِمُجَالَسَةِ شَخْصٍ يُرَغِّبُهُ أَبَدًا فِي الْقَبَائِحِ. وَيُنَفِّرُهُ عَنِ الْخَيْرَاتِ، مِثْلُ شَخْصٍ كَانَ حَالُهُ بِالضِّدِّ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا التَّفَاوُتِ ضَرُورِيٌّ. وَأما قوله إِنَّ وُجُودَهُ يَصِيرُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِي الطَّاعَةِ/ فَنَقُولُ: تَأْثِيرُ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ، وَفِي الْإِلْقَاءِ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ التَّقْدِيرُ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ، وَكُلُّ من يراعي المصالح، فإنه رِعَايَةَ هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ رِعَايَةِ التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ أَوْلَى مِنَ السَّعْيِ فِي طَلَبِ النَّفْعِ الزَّائِدِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَى حُصُولِهِ أَصْلًا، وَلَمَّا انْدَفَعَ هَذَانِ الْجَوَابَانِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ قَوِيَتْ سَائِرُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، وَأما قوله: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الْخَيْبَةُ عَنِ الرَّحْمَةِ أَوِ الْإِضْلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَنَقُولُ: كُلُّ هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَيَّبَ نَفْسَهُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الَّذِي أَضَلَّ نَفْسَهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ بِاخْتِيَارِهِ فَقَدْ خَيَّبَ نَفْسَهُ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَأَضَلَّ نَفْسَهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَاتِ لَازِمَةٌ وَأَنَّ أَجْوِبَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأما قَوْلُهُ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَى الْمُخْلَصِينَ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ كَيْدَهُ لَا يَعْمَلُ فِيهِمْ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ، وَذَكَرْتُ فِي مَجْلِسِ التَّذْكِيرِ أَنَّ الذي حمل إبليس على ذكر الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ لَا يَصِيرَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ فَلَمَّا احْتَرَزَ إِبْلِيسُ عَنِ الْكَذِبِ عَلِمْنَا أَنَّ الْكَذِبَ فِي غَايَةِ الْخَسَاسَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: الْمُخْلِصِينَ بِكَسْرِ اللَّامِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ عَنْ كُلِّ شَائِبٍ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ، وَمَنْ فَتَحَ اللَّامَ فَمَعْنَاهُ: الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَالْعِصْمَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَالْإِيمَانَ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْإِخْلَاصُ جَعْلُ الشَّيْءِ خَالِصًا عَنْ شَائِبَةِ الْغَيْرِ فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِهِ لِلَّهِ فَقَطْ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَطْ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّالِثِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ رَاجِحًا أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُعَادِلًا، وَالتَّقْدِيرُ الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لَا لِغَرَضٍ أَصْلًا وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِيَةِ مُحَالٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ طَلَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَمَا جَعَلَ
144
هَذِهِ الدَّاعِيَةَ مَشُوبَةً بِدَاعِيَةٍ أُخْرَى بَلْ بَقِيَتْ خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الْغَيْرِ، فَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِخْلَاصًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى الْجِهَتَيْنِ إِلَّا أَنَّ جَانِبَ اللَّهِ يَكُونُ رَاجِحًا، فَهَذَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، لِأَنَّ الْمَثَلَ يُقَابِلُهُ الْمَثَلُ. فَيَبْقَى الْقَدْرُ الزَّائِدُ خَالِصًا عَنِ الشَّوْبِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُخْلِصِينَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ:
إِخْلَاصٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يُرْجَى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْإِخْلَاصِ وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ قَطْعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فَلَفْظُ الْمُخْلَصِ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ، فَقَوْلُهُ هَذَا عَائِدٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِخْلَاصَ طَرِيقُ عَلَيَّ وَإِلَيَّ، أَيْ أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى كَرَامَتِي وَثَوَابِي، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ هَذَا صِرَاطٌ إِلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، وَقَالَ آخَرُونَ:
هَذَا صِرَاطُ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيَّ وَعَلَى رِضْوَانِي وَكَرَامَتِي وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: طَرِيقُكَ عَلَيَّ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِخْلَاصَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ فَقَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أَيْ هَذَا الطَّرِيقُ فِي الْعُبُودِيَّةِ طَرِيقٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ.
الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا ذَكَرَ إِبْلِيسُ أَنَّهُ يَغْوِي بَنِي آدَمَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ تَفْوِيضَ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى إِرَادَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ أَيْ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ إِلَى إِرَادَتِي وَمَشِيئَتِي طَرِيقٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ تَقْرِيرُهُ وَتَأْكِيدُهُ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ:
صِرَاطٌ عَلِيٌّ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: صِراطٌ أَيْ هُوَ عَلِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ طَرِيقَ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانِ بِقَضَاءِ اللَّهِ طَرِيقٌ رَفِيعٌ مستقيم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
[في قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلى قوله لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ] اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أَوْهَمَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانُوا مُخْلِصِينَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُخْلِصِينَ، بَلْ مَنِ اتَّبَعَ مِنْهُمْ/ إِبْلِيسَ بِاخْتِيَارِهِ صَارَ مُتَّبِعًا لَهُ، وَلَكِنَّ حُصُولَ تِلْكَ الْمُتَابَعَةِ أَيْضًا لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّ إِبْلِيسَ يَقْهَرُهُ عَلَى تِلْكَ الْمُتَابَعَةِ أَوْ يُجْبِرُهُ عَلَيْهَا وَالْحَاصِلُ فِي هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ إِبْلِيسَ أَوْهَمَ أَنَّ لَهُ عَلَى بَعْضِ عِبَادِ اللَّهِ سُلْطَانًا، فَبَيَّنَ تَعَالَى كَذِبَهُ فِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ سُلْطَانٌ وَلَا قُدْرَةٌ أَصْلًا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النَّحْلِ: ٩٩، ١٠٠] قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْجِنَّ يُمْكِنُهُمْ صَرْعُ النَّاسِ وَإِزَالَةُ عُقُولِهِمْ كَمَا يَقُولُهُ الْعَامَّةُ، وَرُبَّمَا نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى السَّحَرَةِ قَالَ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَفِي الْآيَةِ
قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٤٠] فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِغْوَاءِ الْمُخْلِصِينَ صَدَّقَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ فَلِهَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْعِبَادُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ إِبْلِيسُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ اسْتِثْنَاءً، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فَإِنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُنْقَادِينَ لَكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً، بَلْ تَكُونُ لَفْظَةُ (إلا) بمعنى لكن، وقوله: إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَأَشْيَاعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْغَاوِينَ.
ثم قال تَعَالَى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا سَبْعُ طَبَقَاتٍ: بَعْضُهَا فَوْقَ الْبَعْضِ وَتُسَمَّى تِلْكَ الطَّبَقَاتُ بِالدَّرَكَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: ١٤٥].
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قَرَارَ جَهَنَّمَ مَقْسُومٌ سَبْعَةَ أَقْسَامٍ: وَلِكُلِّ قِسْمٍ بَابٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَوَّلُهَا: جَهَنَّمُ. ثُمَّ لَظَى. ثُمَّ الْحُطَمَةُ. ثُمَّ السَّعِيرُ. ثُمَّ سَقَرُ. ثُمَّ الْجَحِيمُ. ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الطَّبَقَةُ الْأُولَى: فِيهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُخْرَجُونَ. وَالثَّانِيَةُ: لِلْيَهُودِ. وَالثَّالِثَةُ: لِلنَّصَارَى. وَالرَّابِعَةُ: لِلصَّابِئِينَ.
وَالْخَامِسَةُ: لِلْمَجُوسِ. وَالسَّادِسَةُ: لِلْمُشْرِكِينَ. وَالسَّابِعَةُ: لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَوْلُهُ: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَالْبَاقُونَ (جَزْ) بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: (جَزٌّ) بِالتَّشْدِيدِ، كَأَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الزَّايِ، كَقَوْلِكَ: خَبَّ/ فِي خَبْءٍ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْجُزْءُ بَعْضُ الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ الْأَجْزَاءُ، وَجَزَّأْتُهُ جَعَلْتُهُ أَجْزَاءً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يجزي أَتْبَاعَ إِبْلِيسَ أَجْزَاءً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ أَقْسَامًا وَفِرَقًا، وَيُدْخِلُ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ جَهَنَّمَ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكُفْرِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ، فَلَا جَرَمَ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ مُخْتَلِفَةً بِالْغِلَظِ والخفة، والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ أَتْبَعَهُ بِصِفَةِ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ:
146
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْقَائِلُونَ بِالْوَعِيدِ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا جَمِيعَ الْمَعَاصِي. قَالُوا: لِأَنَّهُ اسْمُ مَدْحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفْرَ بِهِ. وَأَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ الصَّحِيحُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ الْآتِي بِالتَّقْوَى مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا أَنَّ الضَّارِبَ هُوَ الْآتِي بِالضَّرْبِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْقَاتِلَ هُوَ الْآتِي بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوَصْفِ كَوْنُهُ ضَارِبًا وَقَاتِلًا كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِدْقِ الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مُتَّقِيًا كَوْنُهُ آتِيًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّقْوَى، وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الْكَلَامَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّقْوَى يَكُونُ آتِيًا بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْآتِي بِالتَّقْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْآتِيَ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّقْوَى يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُتَّقِيًا، وَلِهَذَا التَّحْقِيقِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ/ لِكُلِّ مَنِ اتَّقَى عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ شَرْطٌ فِي حُصُولِ هَذَا الحكم، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِ إبليس: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٤٠] وَعَقِيبَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] فَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ اعْتَبَرْنَا الْإِيمَانَ فِي هَذَا الحكم فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِيهِ قَيْدٌ آخَرُ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ لَمَّا كَانَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ فَكُلَّمَا كَانَ التَّخْصِيصُ أَقَلَّ كَانَ أَوْفَقَ لِمُقْتَضَى الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا سَوَاءً كَانُوا مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا تَقْرِيرٌ بَيِّنٌ، وَكَلَامٌ ظَاهِرٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أَمَّا الْجَنَّاتُ فَأَرْبَعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: ٤٦] فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةً وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لَا يَنْفَكُّ قَلْبُهُ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ خافَ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ حُصُولُ هَذَا الْخَوْفِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْعُيُونُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [مُحَمَّدٍ: ١٥] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ يَنَابِيعَ مُغَايِرَةً لِتِلْكَ الْأَنْهَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ يَخْتَصُّ بِعُيُونٍ، أَوْ تَجْرِي تِلْكَ الْعُيُونُ مِنْ بَعْضٍ إِلَى بَعْضٍ قِيلَ: لَا يَمْتَنِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الوجهيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ أَحَدٍ بِعَيْنٍ وَيَنْتَفِعَ بِهِ كُلُّ مَنْ فِي خِدْمَتِهِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ وَعَلَى حَسَبِ شَهَوَاتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَجْرِي مِنْ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُمْ مُطَهَّرُونَ عَنِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَائِلَ لِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَائِلُ بَعْضَ مَلَائِكَتِهِ، وَفِيهِ سُؤَالٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَإِذَا كَانُوا فِيهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لهم: ادْخُلُوها.
147
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ قِيلَ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِيهَا: ادْخُلُوها بِسَلامٍ. الثَّانِي:
لَعَلَّ الْمُرَادَ لَمَّا مَلَكُوا جَنَّاتٍ كَثِيرَةً فَكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْ جَنَّةٍ إِلَى أُخْرَى قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوهَا وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ الْمُرَادُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ الْآفَاتِ فِي الْحَالِ وَمَعَ الْقَطْعِ بِبَقَاءِ هَذِهِ السَّلَامَةِ، وَالْأَمْنِ مِنْ زَوَالِهَا.
ثم قال تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وَالْغِلُّ الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ/ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَغَلَّ فِي جَوْفِهِ وَتَغَلْغَلَ، أَيْ إِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا غِلٌّ عَلَى آخَرَ نَزَعَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ،
وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنْهُمْ،
وَحُكِيَ عَنِ الْحَرْثِ بْنِ الْأَعْوَرِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ دَخَلَ زَكَرِيَّا بْنُ طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَبُوكَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فَقَالَ الْحَرْثُ: كَلَّا بَلِ اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ لَا أُمَّ لَكَ يَا أَعْوَرُ،
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحْبَسُونَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَدْ نَقَّى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ، وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ،
وَقَوْلُهُ: إِخْواناً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ بَلِ الْمُرَادُ الْأُخُوَّةُ فِي الْمَوَدَّةِ وَالْمُخَالَصَةِ كَمَا قَالَ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] وَقَوْلُهُ: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ السَّرِيرُ مَعْرُوفٌ وَالْجَمْعُ أَسِرَّةٌ وَسُرُرٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: سُرُرٌ وَسُرَرٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَذَا كُلُّ فَعِيلٍ مِنَ الْمُضَاعَفِ فَإِنَّ جَمْعَهُ فُعُلٌ وَفُعَلٌ نَحْوَ: سُرُرٌ وَسُرَرٌ، وَجُدُدٌ وَجُدَدٌ قَالَ الْمُفَضَّلُ: بَعْضُ تَمِيمٍ وَكَلْبٍ يَفْتَحُونَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ ضَمَّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ فِي حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: السَّرِيرُ مَجْلِسٌ رَفِيعٌ مُهَيَّأٌ لِلسُّرُورِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَجْلِسُ سُرُورٍ. قَالَ اللَّيْثُ: وَسَرِيرُ الْعَيْشِ مُسْتَقَرُّهُ الَّذِي اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ فِي حَالِ سُرُورِهِ وَفَرَحِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَالسَّرِيرُ مِثْلُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى الْجَابِيَةِ، وَقَوْلُهُ: مُتَقابِلِينَ التَّقَابُلُ التَّوَاجُهُ، وَهُوَ نَقِيضُ التَّدَابُرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوَاجَهَةَ أَشْرَفُ الْأَحْوَالِ وَقَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ النَّصَبُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ أَيْ لَا يَنَالُهُمْ فِيهَا تَعَبٌ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ خُلُودًا بِلَا زَوَالٍ وَبَقَاءً بِلَا فَنَاءٍ، وَكَمَالًا بِلَا نُقْصَانٍ، وَفَوْزًا بِلَا حِرْمَانٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلثَّوَابِ أَرْبَعَ شَرَائِطَ: وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعَ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ خَالِصَةً عَنِ الشَّوَائِبِ دَائِمَةً.
أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ كَوْنُهَا مَنْفَعَةً فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُهَا مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ هَذَا الْكَلَامَ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْإِجْلَالِ.
وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَضَارَّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رُوحَانِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جُسْمَانِيَّةً، أَمَّا الْمَضَارُّ الرُّوحَانِيَّةُ فَهِيَ الْحِقْدُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغِلُّ، وَالْغَضَبُ، وَأَمَّا الْمَضَارُّ الْجُسْمَانِيَّةُ فَكَالْإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ فَقَوْلُهُ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ/ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْمَضَارِّ الرُّوحَانِيَّةِ وَقَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْمَضَارِّ الْجُسْمَانِيَّةِ.
148
وَأَمَّا الْقَيْدُ الرَّابِعُ: وَهُوَ كَوْنُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ دَائِمَةً آمِنَةً مِنَ الزَّوَالِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فَهَذَا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ بِنَاءً عَلَى الْقُيُودِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَاهِيَّةِ الثَّوَابِ وَلِحُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَالٌ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْقُدْسِيَّةَ النُّطْقِيَّةَ نَقِيَّةٌ مُطَهَّرَةٌ عَنْ عَلَائِقِ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ، مُبَرَّأَةٌ عَنْ حَوَادِثِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ، وَقَوْلُهُ: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ النُّفُوسَ لَمَّا صَارَتْ صَافِيَةً عَنْ كُدُورَاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَنَوَازِعِ الْخَيَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا أَنْوَارُ عَالَمِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ فَأَشْرَقَتْ بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَلَأْلَأَتْ بِتِلْكَ الْأَضْوَاءِ الصَّمَدِيَّةِ، فَكُلُّ نُورٍ فَاضَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا انْعَكَسَ مِنْهُ عَلَى الْآخَرِ مِثْلَ الْمَزَايَا الْمُتَقَابِلَةِ الْمُتَحَاذِيَةِ، فَلِكَوْنِهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى: أثبتت الهمزة الساكنة في (نبىء) صورة، وما أثبتت في قوله: دِفْءٌ. وجُزْءٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا سَاكِنٌ فَهِيَ تُحْذَفُ كَثِيرًا وتلقى حركتها على الساكن قبلها، ف (نبىء) فِي الْخَطِّ عَلَى تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَلَيْسَ قَبْلَ همزة (نبىء) سَاكِنٌ فَأَجْرَوْهَا عَلَى قِيَاسِ الْأَصْلِ:
المسألة الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ قِسْمَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُتَّقِيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْوَالَ الْمُتَّقِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ذَكَرَ أَحْوَالَ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: نَبِّئْ عِبادِي.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَهَهُنَا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عِبَادًا لَهُ، ثُمَّ أَثْبَتَ عَقِيبَ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ الحكم بِكَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْعُبُودِيَّةِ ظَهَرَ فِي حَقِّهِ كَوْنُ اللَّهِ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلْعِقَابِ الْأَلِيمِ. وَفِي الْآيَةِ لطائف: إحداها: أَنَّهُ أَضَافَ الْعِبَادَ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: عِبادِي وَهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ مُحَمَّدًا/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١]. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ بَالَغَ فِي التَّأْكِيدِ بِأَلْفَاظٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَنِّي.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَنَا. وَثَالِثُهَا: إِدْخَالُ حَرْفِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى قَوْلِهِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ لَمْ يَقُلْ أَنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ وَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ بَلْ قَالَ: وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَ إِلَيْهِمْ هَذَا الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ أَشْهَدَ رَسُولَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْتِزَامِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لما قال:
نَبِّئْ عِبادِي كان معناه نبىء كُلَّ مَنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِعُبُودِيَّتِي، وَهَذَا كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ، فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى مَا تَوَرَّعَ مِنْ حَرَامٍ، وَلَوْ عَلِمَ قَدْرَ عِقَابِهِ لَبَخَعَ نَفْسَهُ»
أَيْ قَتَلَهَا
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَضْحَكُونَ فَقَالَ: «أَتَضْحَكُونَ وَالنَّارُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ» فَنَزَلَ قَوْلُهُ: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَاللَّهُ أعلم.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٥٦]

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ وَصِفَةِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِيَكُونَ سَمَاعُهَا مُرَغِّبًا فِي الطَّاعَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَوْزِ بِدَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُحَذِّرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ لِاسْتِحْقَاقِ دَرَكَاتِ الْأَشْقِيَاءِ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالضَّمِيرُ، فِي قَوْلِهِ: وَنَبِّئْهُمْ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: عِبادِي وَالتَّقْدِيرُ: ونبىء عِبَادِي عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، يُقَالُ: أَنْبَأْتُ الْقَوْمَ إِنْبَاءً وَنَبَّأْتُهُمْ تَنْبِئَةً إِذَا/ أَخْبَرْتَهُمْ وَذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ أَنَّ ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ بَعْدَ الْكِبَرِ. وَبِإِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْعَذَابِ وَأَخْبَرُوهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُعَذِّبُ الْكُفَّارَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُقَوِّي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ عَذَابَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الضَّيْفُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ ضَافَ يَضِيفُ إِذَا أَتَى إِنْسَانًا لِطَلَبِ الْقِرَى، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ، وَلِذَلِكَ وَحَّدَ فِي اللَّفْظِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَمَّاهُمْ ضَيْفًا مَعَ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْأَكْلِ؟
قُلْنَا: لَمَّا ظَنَّ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِطَلَبِ الضِّيَافَةِ جَازَ تَسْمِيَتُهُمْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مَنْ يَدْخُلُ دَارَ الْإِنْسَانِ وَيَلْتَجِئُ إِلَيْهِ يُسَمَّى ضَيْفًا وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أَيْ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ سَلَامًا أَوْ سَلَّمْتُ سَلَامًا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أَيْ خَائِفُونَ، وَكَانَ خَوْفُهُ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَبِغَيْرِ وَقْتٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: لَا تَوْجَلْ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَوْجَلَهُ يُوجِلُهُ إِذَا أَخَافَهُ. وَقُرِئَ لَا تَأْجَلْ وَلَا تُوَاجَلْ من واجله بمعنى أو جله، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَقَوْلُهُ: قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فِيهِ أَبْحَاثُ:
البحث الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَالْبَاقُونَ: نُبَشِّرُكَ بِالتَّشْدِيدِ.
البحث الثَّانِي: قَوْلُهُ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَجَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ بِمَثَابَةِ الْآمِنِ الْمُبَشَّرِ فَلَا تَوْجَلْ.
البحث الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ بَشَّرُوهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَصِيرُ عَلِيمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَلِيمِ، فَقِيلَ: بَشَّرُوهُ بِنُبُوَّتِهِ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: بَشَّرُوهُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِالدِّينِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ
150
تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون، فمعنى: عَلى هاهنا للحال أي حالة الكبر، وقوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ فيه مسألتان:
المسألة الأولى: لفظ ما هاهنا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِأَيِّ أُعْجُوبَةٍ تُبَشِّرُونِي؟
فَإِنْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَيْفَ اسْتَبْعَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْهُ فِي زَمَانِ الْكِبَرِ وَإِنْكَارُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كُفْرٌ. الثاني: كيف قال: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ بَيَّنُوا مَا بَشَّرُوهُ بِهِ، وَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْإِسْتِفَهَامِ. قَالَ الْقَاضِي: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ/ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ الْوَلَدَ مَعَ أَنَّهُ يُبْقِيهِ عَلَى صِفَةِ الشَّيْخُوخَةِ أَوْ يَقْلِبُهُ شَابًّا، ثُمَّ يُعْطِيهِ الْوَلَدَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوَلَدُ حَالَ الشَّيْخُوخَةِ التَّامَّةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَالِ الشَّبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ قَالُوا: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ.
قُلْنَا: إِنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِالْوَلَدِ مَعَ إبقائه على صفة الشيخوخة وقولهم: فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ. لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي جَوَابِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وَفِيهِ جَوَابٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي شَيْءٍ وَفَاتَهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُرَادِ فِيهِ، فَإِذَا بُشِّرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُصُولِهِ عَظُمَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْفَرَحُ الْقَوِيُّ كَالْمُدْهِشِ لَهُ وَالْمُزِيلِ لِقُوَّةِ فَهْمِهِ وَذَكَائِهِ فَلَعَلَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُضْطَرِبَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَرَحِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّهُ يَسْتَطِيبُ تِلْكَ الْبِشَارَةَ فَرُبَّمَا يُعِيدُ السُّؤَالَ لِيَسْمَعَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ مَرَّةً أُخْرَى وَمَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ طَلَبًا لِلِالْتِذَاذِ بِسَمَاعِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ، وَطَلَبًا لِزِيَادَةِ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْوُثُوقِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] وَقِيلَ أَيْضًا: اسْتَفْهَمَ أَبِأَمْرِ اللَّهِ تُبَشِّرُونِ أَمْ مِنْ عِنْدِ أنفسكم واجتهادكم؟
المسألة الثانية: قرأ نافع: تبشرون بِكَسْرِ النُّونِ خَفِيفَةً فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا. وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً، أَمَّا الْكَسْرُ وَالتَّشْدِيدُ فَتَقْدِيرُهُ تُبَشِّرُونَنِي أُدْغِمَتْ نُونُ الْجَمْعِ فِي نُونِ الْإِضَافَةِ، وَأَمَّا الْكَسْرُ وَالتَّخْفِيفُ فَعَلَى حَذْفِ نُونِ الْجَمْعِ اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ وَطَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَذَفَ نَافِعٌ الْيَاءَ مَعَ النُّونِ. قَالَ: وَإِسْقَاطُ الْحَرْفَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَرْفًا وَاحِدًا وَهِيَ النُّونُ الَّتِي هِيَ عَلَامَةٌ لِلرَّفْعِ. وَعَلَى أَنَّ حَذْفَ الْحَرْفَيْنِ جَائِزٌ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ: وَلا تَكُ وَفِي مَوْضِعٍ:
وَلا تَكُنْ فَأَمَّا فَتْحُ النُّونِ فَعَلَى غَيْرِ الْإِضَافَةِ وَالنُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ أَبَدًا، وَقَوْلُهُ: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ إسحاق عليه السلام. ويخرج من صلب إسحاق مِثْلَ مَا أَخْرَجَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فَإِنَّهُ تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحاق أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ نَهْيٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقُنُوطِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا أَنَّ نَهْيَ الْإِنْسَانِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ١] ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بأمور:
151
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِاحْتِيَاجِ ذَلِكَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ. وَثَالِثُهَا:
أَنْ يَجْهَلَ كَوْنَهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْبُخْلِ وَالْحَاجَةِ وَالْجَهْلِ فَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِلضَّلَالِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ:
وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: (يَقْنِطُ) بِكَسْرِ النُّونِ وَلَا تَقْنِطُوا كَذَلِكَ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَهُمَا لُغَتَانِ: قَنَطَ يَقْنِطُ، نَحْوَ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَقَنِطَ يَقْنَطُ نَحْوَ عَلِمَ يَعْلَمُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ: قَنَطَ يَقْنُطُ بِضَمِّ النُّونِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَنَطَ يَقْنِطُ بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَعْلَى اللُّغَاتِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشُّورَى: ٢٨] وَحِكَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَنَطَ بِفَتْحِ النُّونِ أَكْثَرُ، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ مِنْ فَعَلَ يَجِيءُ على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق وَلَا يَجِيءُ مُضَارِعُ فَعَلَ عَلَى يَفْعُلُ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَما خَطْبُكُمْ سُؤَالٌ عَمَّا لِأَجْلِهِ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْخَطْبُ وَالشَّأْنُ وَالْأَمْرُ سَوَاءٌ: إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْخَطْبِ أَدَلُّ عَلَى عِظَمِ الْحَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ الذَّكَرِ الْعَلِيمِ فَكَيْفَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ.
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ مَا الْأَمْرُ الَّذِي تَوَجَّهْتُمْ لَهُ سِوَى الْبُشْرَى. الثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَالُ الْمَقْصُودِ إِيصَالَ الْبِشَارَةِ لَكَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَافِيًا، فَلَمَّا رَأَى جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلِمَ أَنَّ لَهُمْ غَرَضًا آخَرَ سِوَى إِيصَالِ الْبِشَارَةِ فَلَا جَرَمَ قَالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. الثَّالِثُ:
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. فِي مَعْرِضِ إِزَالَةِ الْخَوْفِ وَالْوَجَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا خَافَ قَالُوا لَهُ: لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر: ٥٣]. / وَلَوْ كَانَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَجِيءِ هُوَ ذِكْرَ تِلْكَ الْبِشَارَةِ لَكَانُوا فِي أَوَّلِ مَا دَخَلُوا عَلَيْهِ ذَكَرُوا تِلْكَ الْبِشَارَةَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ مَا كَانَ مَجِيئُهُمْ لِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ بَلْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ فَلَا جَرَمَ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْغَرَضِ فَقَالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ.
ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عن الملائكة أنهم قَالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَإِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ لِعِلْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا أُرْسِلُوا إِلَى الْمُجْرِمِينَ كَانَ ذَلِكَ لِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ:
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْإِرْسَالِ إِهْلَاكُ الْقَوْمِ.
152
أما قوله تَعَالَى: إِلَّا آلَ لُوطٍ فَالْمُرَادُ مِنْ آلِ لُوطٍ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِلَّا آلَ لُوطٍ هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ؟
قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِثْنَاءً مِنْ (قَوْمٍ) كَانَ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِكَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ وَآلُ لُوطٍ مَا كَانُوا مُجْرِمِينَ، فَاخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الضَّمِيرِ فِي (مُجْرِمِينَ) كَانَ مُتَّصِلًا كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى قَوْمٍ قَدْ أَجْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ وَحْدَهُمْ كَمَا قَالَ:
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: ٣٦] ثم قال صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الوجهيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ آلَ لُوطٍ يَخْرُجُونَ فِي الْمُنْقَطِعِ مِنْ حُكْمِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَلَائِكَةَ أُرْسِلُوا إِلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً وَمَا أُرْسِلُوا إِلَى آلِ لُوطٍ أَصْلًا، وَأَمَّا فِي الْمُتَّصِلِ فَالْمَلَائِكَةُ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِيُهْلِكُوا هَؤُلَاءِ وَيُنَجُّوا هَؤُلَاءِ، وَأما قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُنْجُوهُمْ خَفِيفَةً، وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً وَهُمَا لُغَتَانِ.
أما قوله تَعَالَى: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ:
لَمُنَجُّوهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اتَّحَدَ الحكم فِيهِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: أَهْلَكْنَاهُمْ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: الْمُطَلِّقُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثِنْتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَمَا إِذَا قَالَ: الْمُقِرُّ لِفُلَانٍ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إِلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمًا، فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحُكْمَانِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا آلَ لُوطٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أُرْسِلْنا أَوْ بِقَوْلِهِ مُجْرِمِينَ وَقَوْلُهُ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: لَمُنَجُّوهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنَ اسْتِثْنَاءٍ.
وَأما قوله: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيرِ فِي اللُّغَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارِ غَيْرِهِ. يُقَالُ: قَدِّرْ هَذَا الشَّيْءَ بِهَذَا أَيِ اجْعَلْهُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَقْوَاتَ أَيْ جَعَلَهَا عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ، ثُمَّ يُفَسَّرُ التَّقْدِيرُ بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ كَذَا، وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ أَيْ جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَكْفِي/ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقِيلَ فِي مَعْنَى:
قَدَّرْنا كَتَبْنَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: دَبَّرْنَا. وَقِيلَ: قَضَيْنَا، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو بكر عن عاصم قَدَّرْنا بتخفيف الدال هاهنا وَفِي النَّمْلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فِيهِمَا بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ يُقَالُ: قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقَدَرْتُهُ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٠] خفيفا، وقراءة الكسائي: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ثم قال: وَالْمُشَدَّدَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فُصِّلَتْ: ١٠] وَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: ٢].
المسألة الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ أَسْنَدَ الْمَلَائِكَةُ فِعْلَ التَّقْدِيرِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِمَ لَمْ يَقُولُوا: قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى؟
وَالْجَوَابُ: إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ خَاصَّةُ الْمَلِكِ دَبَّرْنَا كَذَا وَأَمَرْنَا بِكَذَا وَالْمُدَبِّرُ وَالْآمِرُ هُوَ الْمَلِكُ لَا هُمْ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارَ مَا لَهُمْ من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هاهنا والله أعلم.
153
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ، إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ التَّقْدِيرُ قَضَيْنَا أَنَّهَا تَتَخَلَّفُ وَتَبْقَى مَعَ مَنْ يَبْقَى حَتَّى تَهْلِكَ كَمَا يَهْلِكُونَ. وَلَا تَكُونُ مِمَّنْ يَبْقَى مَعَ لُوطٍ فَتَصِلُ إلى النجاة والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِالْوَلَدِ وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لِعَذَابِ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ذَهَبُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى لُوطٍ وَإِلَى آلِهِ، وَأَنَّ لُوطًا وَقَوْمَهُ مَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وَفِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُنْكَرُونَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا عَرَفَهُمْ، فَلَمَّا هَجَمُوا عَلَيْهِ اسْتَنْكَرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَخَافَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ شَرٍّ يُوَصِّلُونَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا مُرْدًا حِسَانَ الْوُجُوهِ، فَخَافَ أَنْ يَهْجُمَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ طَلَبِهِمْ فَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّكِرَةَ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ فَقَوْلُهُ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أَيْ لَا أَعْرِفُكُمْ، وَلَا أَعْرِفُ أَنَّكُمْ مِنْ أَيِّ الْأَقْوَامِ، وَلِأَيِّ غَرَضٍ دَخَلْتُمْ عَلَيَّ، فَعِنْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ، بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ، أَيْ بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَشُكُّونَ فِي نُزُولِهِ، ثُمَّ أَكَّدُوا/ مَا ذَكَرُوهُ بِقَوْلِهِمْ: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ قَالَ الْكَلْبِيُّ: بِالْعَذَابِ، وَقِيلَ بِالْيَقِينِ وَالْأَمْرِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ عَذَابُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ ثُمَّ أَكَّدُوا هَذَا التأكيد بقولهم، وَإِنَّا لَصادِقُونَ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦)
قُرِئَ فَأَسْرِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا مِنْ أَسْرَى وَسَرَى. وَرَوَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَنْ صَاحِبِ الْإِقْلِيدِ فَسِرْ مِنَ السَّيْرِ وَالْقِطْعُ آخِرُ اللَّيْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
افْتَحِي الْبَابَ وَانْظُرِي فِي النُّجُومِ كَمْ عَلَيْنَا مِنْ قِطْعِ لَيْلٍ بَهِيمِ
وَقَوْلُهُ: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ مَعْنَاهُ: اتَّبِعْ آثَارَ بَنَاتِكَ وَأَهْلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ الْفَائِدَةُ فِيهِ أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا: لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْكُمْ أَحَدٌ فينا له الْعَذَابُ. وَثَانِيهَا: لِئَلَّا يَرَى عَظِيمَ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ. وَثَالِثُهَا:
مَعْنَاهُ الْإِسْرَاعُ وَتَرْكُ الِاهْتِمَامِ لِمَا خَلَّفَ وَرَاءَهُ كَمَا تَقُولُ: امْضِ لِشَأْنِكَ وَلَا تُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ. وَرَابِعُهَا: لَوْ بَقِيَ مِنْهُ مَتَاعٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَا يَرْجِعَنَّ بِسَبَبِهِ أَلْبَتَّةَ. وَقَوْلُهُ: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّامَ. قَالَ الْمُفَضَّلُ: حَيْثُ يَقُولُ لَكُمْ جِبْرِيلُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْضُوا إِلَى قَرْيَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَهْلُهَا مَا عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ. وَقَوْلُهُ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ عَدَّى قَضَيْنَا بِإِلَى، لِأَنَّهُ ضِمْنَ مَعْنَى أَوْحَيْنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهِ مَقْضِيًّا مَبْتُوتًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الْإِسْرَاءِ: ٤] وَقَوْلُهُ، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ [يُونُسَ: ٧١] ثُمَّ إِنَّهُ فَسَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَضَاءَ الْمَبْتُوتَ بِقَوْلِهِ: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وَفِي إِبْهَامِهِ أَوَّلًا، وَتَفْسِيرِهِ ثَانِيًا تَفْخِيمٌ لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ إِنَّ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ أَخْبِرْنَا
عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَقَالَ: إِنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقُلْنَا: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ وَدَابِرُهُمْ آخِرُهُمْ، يَعْنِي يُسْتَأْصَلُونَ عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ وَقَوْلُهُ: مُصْبِحِينَ أي حال ظهور الصبح.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٧ الى ٧٧]
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
[في قوله تعالى وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ إلى قوله إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ] اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَوْمُ لُوطٍ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءُوهُ إِلَّا أَنَّ الْقِصَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ جَاءُوا دَارَ لُوطٍ. قِيلَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا كَانُوا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ اشْتُهِرَ خَبَرُهُمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقِيلَ: امْرَأَةُ لُوطٍ أَخْبَرَتْهُمْ بِذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْمُ قَالُوا: نَزَلَ بِلُوطٍ ثلاثة من المراد مَا رَأَيْنَا قَطُّ أَصْبَحَ وَجْهًا وَلَا أَحْسَنَ شَكْلًا مِنْهُمْ فَذَهَبُوا إِلَى دَارِ لُوطٍ طَلَبًا منهم لأولئك المراد وَالِاسْتِبْشَارُ إِظْهَارُ السُّرُورِ فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ لَمَّا قَصَدُوا أَضْيَافَهُ كَلَامَيْنِ:
الْكَلَامُ الْأَوَّلُ: قَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ يُقَالُ فَضَحَهُ يَفْضَحُهُ فَضْحًا وَفَضِيحَةً إِذَا أَظْهَرَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْعَارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الضَّيْفَ يَجِبُ إِكْرَامُهُ فَإِذَا قَصَدْتُمُوهُمْ بِالسُّوءِ كَانَ ذَلِكَ إِهَانَةً بِي، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فَأَجَابُوهُ بِقَوْلِهِمْ: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ وَالْمَعْنَى: أَلَسْنَا قَدْ نَهَيْنَاكَ أَنْ تُكَلِّمَنَا فِي أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِذَا قَصَدْنَاهُ بِالْفَاحِشَةِ.
وَالْكَلَامُ الثَّانِي: مِمَّا قَالَهُ لُوطٌ قَوْلُهُ: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قِيلَ: الْمُرَادُ بَنَاتُهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ نِسَاءُ قَوْمِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ الْأُمَّةِ يَكُونُ كَالْأَبِ لَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلى / بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: ٦] وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ قَدْ مَرَّ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أما قوله: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْعَمْرُ وَالْعُمْرُ وَاحِدٌ وَسُمِّيَ الرَّجُلُ عُمَرًا تَفَاؤُلًا أَنْ يَبْقَى وَمِنْهُ قَوْلُ ابن أحمر:
ذَهَبَ الشَّبَابُ وَأَخْلَقَ الْعُمْرُ
وَعَمَّرَ الرَّجُلُ يُعَمِّرُ عَمْرًا وَعُمْرًا، فَإِذَا أَقْسَمُوا بِهِ قَالُوا: لَعَمْرُكَ وَعَمْرُكَ فَتَحُوا الْعَيْنَ لَا غَيْرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
لِأَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُكْثِرُونَ الْقَسَمَ بِلَعَمْرِي وَلَعَمْرُكَ فَالْتَزَمُوا الْأَخَفَّ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ فِي غَوَايَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، أَيْ يَتَحَيَّرُونَ فَكَيْفَ يَقْبَلُونَ قَوْلَكَ، وَيَلْتَفِتُونَ إِلَى نَصِيحَتِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ وَمَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّحْوِيُّونَ: ارْتَفَعَ قَوْلُهُ: لَعَمْرُكَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: لَعَمْرُكَ قَسَمِي وَحُذِفَ الْخَبَرُ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَبَابُ الْقَسَمِ يُحْذَفُ مِنْهُ الْفِعْلُ نَحْوَ: بِاللَّهِ لِأَفْعَلَنَّ، وَالْمَعْنَى: أَحْلِفُ بِاللَّهِ فَيُحْذَفُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِأَنَّكَ حَالِفٌ.
ثم قال تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أَيْ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ قِيلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ مُهْلِكَةٌ وَقَوْلُهُ: مُشْرِقِينَ يُقَالُ شَرَّقَ الشَّارِقُ يُشَرِّقُ شُرُوقًا لِكُلِّ مَا طَلَعَ من جانب الشرق، ومنه قولهم ما ذكر شَارِقٌ أَيْ طَلَعَ طَالِعٌ فَقَوْلُهُ: مُشْرِقِينَ أَيْ دَاخِلِينَ فِي الشُّرُوقِ يُقَالُ أَشْرَقَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الشُّرُوقِ، وَهُوَ بُزُوغُ الشَّمْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَذَّبَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ: أَحَدُهَا: الصَّيْحَةُ الْهَائِلَةُ الْمُنْكَرَةُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ هُودٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ يُقَالُ تَوَسَّمْتُ فِي فُلَانٍ خَيْرًا أَيْ رَأَيْتُ فِيهِ أَثَرًا مِنْهُ وَتَفَرَّسْتُهُ فِيهِ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَوَسِّمِينَ قِيلَ: الْمُتَفَرِّسِينَ، وَقِيلَ: النَّاظِرِينَ، وَقِيلَ:
الْمُتَفَكِّرِينَ، وَقِيلَ: الْمُعْتَبِرِينَ، وَقِيلَ: الْمُتَبَصِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: حَقِيقَةُ الْمُتَوَسِّمِينَ فِي اللُّغَةِ الْمُتَثَبِّتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا سِمَةَ الشَّيْءِ وَصِفَتَهُ وَعَلَامَتَهُ، وَالْمُتَوَسِّمُ النَّاظِرُ فِي السِّمَةِ الدَّالَّةِ تَقُولُ: تَوَسَّمْتُ/ فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْتُ وَسْمَ ذَلِكَ وَسَمْتَهُ فِيهِ.
ثم قال: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّها عَائِدٌ إِلَى مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذكرها في قوله، وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ: لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أَيْ هَذِهِ الْقُرَى وَمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنْ آثَارِ قَهْرِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثَابِتٍ لَمْ يَنْدَرِسْ وَلَمْ يُخْفَ، وَالَّذِينَ يَمُرُّونَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ يُشَاهِدُونَهَا.
ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى انْتَقَمَ لِأَنْبِيَائِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ، أَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى حَوَادِثِ الْعَالَمِ وَوَقَائِعِهِ، وَعَلَى حُصُولِ القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَأَوَّلُهَا: قِصَّةُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا:
قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ. وَثَالِثُهَا: هَذِهِ الْقِصَّةُ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ فَكَذَّبُوا شُعَيْبًا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَالْأَيْكَةُ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ. يُقَالُ: أَيْكَةٌ وَأَيْكٌ كَشَجَرَةٍ وَشَجَرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيْكُ هُوَ شَجَرُ الْمُقْلِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْأَيْكَةُ الْغَيْضَةُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَوْضِعٍ كَانَ ذَا شَجَرٍ. قَالَ الواحدي: ومعنى إن واللام للتوكيد وإن هاهنا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَوْلُهُ: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اشْتَدَّ الْحَرُّ فِيهِمْ أَيَّامًا، ثُمَّ اضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْمَكَانُ نَارًا فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُما فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَيْكَةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ لِلْأَيْكَةِ وَمَدْيَنَ لِأَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمَا فَلَمَّا ذَكَرَ الْأَيْكَةَ دَلَّ بِذِكْرِهَا عَلَى مَدْيَنَ فَجَاءَ بِضَمِيرِهِمَا وَقَوْلُهُ: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أَيْ بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ وَالْإِمَامُ اسْمُ مَا يُؤْتَمُّ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّمَا جُعِلَ الطَّرِيقُ إِمَامًا لِأَنَّهُ يُؤَمُّ وَيُتَّبَعُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَأْتَمُّ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُهُ وَقَوْلُهُ: مُبِينٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُبِينٌ فِي نَفْسِهِ وَيُحْتَمَلُ/ أَنَّهُ مُبِينٌ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ يَهْدِي إِلَى الْمَقْصِدِ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ، وَهِيَ قِصَّةُ صَالِحٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْحِجْرُ اسْمُ وَادٍ كَانَ يَسْكُنُهُ ثَمُودُ وَقَوْلُهُ:
الْمُرْسَلِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَالِحٌ وَحْدَهُ، وَلَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا بَرَاهِمَةً مُنْكِرِينَ لِكُلِّ الرُّسُلِ وَقَوْلُهُ: وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يُرِيدُ النَّاقَةَ، وَكَانَ فِي النَّاقَةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَخُرُوجِهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَعِظَمِ خَلْقِهَا وَظُهُورِ نِتَاجِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَكَثْرَةِ لَبَنِهَا وَأَضَافَ الْإِيتَاءَ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتِ النَّاقَةُ آيَةً لِصَالِحٍ لِأَنَّهَا آيَاتُ رَسُولِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ وَاجِبٌ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ مَذْمُومٌ وَقَوْلُهُ: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ قَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ النَّحْتِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَوْلُهُ: آمِنِينَ يُرِيدُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: آمِنِينَ أَنْ يَقَعَ سَقْفُهُمْ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ مَا دَفَعَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَالْبَلَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ نَحْتِ تِلْكَ الْجِبَالِ وَمِنْ جَمْعِ تِلْكَ الأموال. والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْكُفَّارَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْإِهْلَاكُ وَالتَّعْذِيبُ كَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنِّي إِنَّمَا خَلَقْتُ الْخَلْقَ لِيَكُونُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ فَإِذَا تَرَكُوهَا/ وَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ إِهْلَاكُهُمْ وَتَطْهِيرُ وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَهَذَا النَّظْمُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ:
دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا حَقًّا وَبِكَوْنِ الْحَقِّ لَا يَكُونُ الْبَاطِلَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فُعِلَ بَاطِلًا وَأُرِيدَ بِفِعْلِهِ كَوْنَ الْبَاطِلِ لَا يَكُونُ حَقًّا وَلَا يَكُونُ مَخْلُوقًا بِالْحَقِّ، وَفِيهِ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا خلقه الله تعالى بين السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَاطِلٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّهَا تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا بَيْنَهُمَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ فِي النَّظْمِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ تَصْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِهِ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ أَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ سَهُلَ تَحَمُّلُ تِلْكَ السَّفَاهَاتِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَنْتَقِمُ لَكَ فيها من عدائك وَيُجَازِيكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حَسَنَاتِكَ وَسَيِّئَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَا خلق السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِهْمَالُ أَمْرِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَهُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ رَغَّبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّفْحِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَقَالَ:
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَاحْتَمِلْ مَا تَلْقَى مِنْهُمْ إِعْرَاضًا جَمِيلًا بِحِلْمٍ وَإِغْضَاءٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْخُلُقَ الْحَسَنَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مَنْسُوخًا.
ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مَعَ اخْتِلَافِ طَبَائِعِهِمْ وَتَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا خَلَقَهُمْ مَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ، وَمَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ التَّفَاوُتِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة، والله أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَهُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَصْفَحَ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَذَكَّرَ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الصَّفْحُ وَالتَّجَاوُزُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: آتَيْناكَ سَبْعاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الْآيَاتِ وَأَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ السُّوَرِ وَأَنْ يَكُونَ سَبْعًا مِنَ الْفَوَائِدِ. وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ. وَأَمَّا الْمَثَانِي: فَهُوَ صِيغَةُ جَمْعٍ. وَاحِدُهُ مُثَنَّاةٌ، وَالْمُثَنَّاةُ كُلُّ شَيْءٍ يُثَنَّى، أَيْ يُجْعَلُ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَطَفْتَهُ أَوْ ضَمَمْتَ إِلَيْهِ آخَرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: لِرُكْبَتَيِ الدَّابَّةِ وَمِرْفَقَيْهَا مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا تُثْنَى بِالْفَخِذِ وَالْعَضُدِ، وَمَثَانِي الْوَادِي مَعَاطِفُهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي مَفْهُومُهُ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُثَنَّى وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا
158
الْقَدْرَ مُجْمَلٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ،
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَقَالَ: هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ،
وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، وَأَمَّا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمَثَانِي فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِمَعْنَى أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا يُثَنَّى بَعْدَهَا مَا يُقْرَأُ مَعَهَا. الثَّالِثُ:
سُمِّيَتْ آيَاتُ الْفَاتِحَةِ مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا قُسِّمَتْ قِسْمَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»
وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ. الرَّابِعُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا قِسْمَانِ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ، وَأَيْضًا النِّصْفُ الْأَوَّلُ مِنْهَا حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ الثَّنَاءُ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ الدُّعَاءُ. الْخَامِسُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ بِالْمَثَانِي، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ فِي أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ. السَّادِسُ: سُمِّيَتْ بِالْمَثَانِي، لِأَنَّ كَلِمَاتِهَا مُثَنَّاةٌ مِثْلُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ... إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٣، ٥- ٧] وَفِي قِرَاءَةِ عُمَرَ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ). السَّابِعُ:
قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ بِالْمَثَانِي لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ وَمُلْكُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي عَلَى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَهَهُنَا أَحْكَامٌ:
الحكم الْأَوَّلُ:
نَقَلَ الْقَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ رَأَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَقُولُ: لَعَلَّ حُجَّتَهُ فِيهِ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاتِحَةُ. ثُمَّ/ إِنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّبْعُ الْمَثَانِي غَيْرَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَذْكُرَ الْكُلَّ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ ذِكْرَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَأَقْسَامِهِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الْأَقْسَامِ. أَمَّا إِذَا ذُكِرَ شَيْءٌ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ كَانَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مُغَايِرًا لِلْمَذْكُورِ ثانيا، وهاهنا ذَكَرَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فَوَجَبَ حُصُولُ الْمُغَايَرَةِ.
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِمَجْمُوعِهِ، فَلِمَ لَا يَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي حُسْنِ الْعَطْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحكم الثَّانِي:
أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي هُوَ الْفَاتِحَةُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِفْرَادَهَا بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَهَا مَرَّتَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ طُولَ عُمْرِهِ، وَمَا أَقَامَ سُورَةً أُخْرَى مَقَامَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي صِلَاتِهِ وَأَنْ لَا يُقِيمَ سَائِرَ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَقَامَهَا وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ هَذَا الْإِبْدَالِ فَإِنَّ فِيهِ خَطَرًا عَظِيمًا وَاللَّهُ أعلم.
159
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أَنَّهَا السَّبْعُ الطِّوَالُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَمُجَاهِدٍ وَهِيَ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَالْأَنْفَالُ، وَالتَّوْبَةُ مَعًا. قَالُوا: وَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّوَرُ مَثَانِيَ، لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْحُدُودَ وَالْأَمْثَالَ وَالْعِبَرَ ثُنِّيَتْ فِيهَا وَأَنْكَرَ الرَّبِيعُ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ وَأَكْثَرُ هَذِهِ السُّوَرِ السَّبْعَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي مَكَّةَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهَا.
وَأَجَابَ قَوْمٌ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. ثُمَّ أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مِنْهَا نُجُومًا، فَلَمَّا أَنْزَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَحَكَمَ بِإِنْزَالِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا آتَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ بَعْدُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصْدُقُ/ إِذَا وَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَهُوَ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصْدُقُ فِيهِ. وَأما قوله بِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِنْزَالِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى مَا نَزَلَ عَلَيْهِ فَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ إِقَامَةَ مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مَقَامَ النَّازِلِ عَلَيْهِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ السَّبْعِ الْمَثَانِي أَنَّهَا هِيَ السُّوَرُ الَّتِي هِيَ دُونَ الطِّوَالِ وَالْمِئِينَ وَفَوْقَ الْمُفَصَّلِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ قَوْمٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا
رَوَى ثَوْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَأَعْطَانِي الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وَفَضَّلَنِي رَبِّي بِالْمُفَصَّلِ»
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَوْلُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّوَرِ مَثَانِي كَالْقَوْلِ فِي تَسْمِيَةِ الطِّوَالِ مَثَانِي. وَأَقُولُ إِنْ صَحَّ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَمَّى بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ الَّتِي سَمُّوهَا بِالْمَثَانِي لَيْسَتْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ السَّبْعِ الْمَثَانِي عَلَى تِلْكَ السُّوَرِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هُوَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَوْلِ طَاوُسٍ قَالُوا: وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزُّمَرِ: ٢٣] فَوَصَفَ كُلَّ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ مَثَانِيَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي أَنَّهُ مَا الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ، وَمَا الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي؟ أَمَّا السَّبْعُ فَذَكَرَ فِيهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ سَبْعَةُ أَسْبَاعٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ. التَّوْحِيدُ، وَالنُّبُوَّةُ، وَالْمَعَادُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْقَدَرُ، وَأَحْوَالُ الْعَالَمِ، وَالْقَصَصُ، وَالتَّكَالِيفُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ، وَالنِّدَاءِ، وَالْقَسَمِ، وَالْأَمْثَالِ. وَأَمَّا وَصْفُ كُلِّ الْقُرْآنِ بِالْمَثَانِي، فَلِأَنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّكَالِيفِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي الْقُرْآنَ، لَكَانَ قَوْلُهُ: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وذلك غير جائز.
وأجيب عنه بأنه إنما حَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ الْعَطْفِ فِيهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثَ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِأَجْلِ وُرُودِهِ فِي هَذَا الْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ خِلَافُهُ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْفَاتِحَةَ، لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بالمثاني كل
160
الْقُرْآنِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَ آيَاتٍ هِيَ الْفَاتِحَةُ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَثَانِي الَّذِي هُوَ/ الْقُرْآنُ وَهَذَا الْقَوْلُ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَالتَّفَاوُتُ لَيْسَ إِلَّا بِقَلِيلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: لَفْظَةُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قَالَ الزَّجَّاجُ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ الَّتِي يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَآتَيْنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِلَةً، وَالْمَعْنَى: آتَيْنَاكَ سَبْعًا هِيَ الْمَثَانِي كَمَا قَالَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: ٣٠] الْمَعْنَى: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ، لَا أَنَّ بَعْضَهَا رِجْسٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَ رَسُولَهُ عِظَمَ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَهُوَ أَنَّهُ آتَاهُ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، نَهَاهُ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا فَحَظَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَيْهَا رَغْبَةً فِيهَا وَفِي مَدِّ الْعَيْنِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ إِنَّكَ أُوتِيتَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فَلَا تَشْغَلْ سِرَّكَ وَخَاطِرَكَ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الدُّنْيَا وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ»
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا أَفْضَلَ مِمَّا أُوتِيَ فَقَدْ صَغَّرَ عَظِيمًا وَعَظَّمَ صَغِيرًا، وَقِيلَ: وَافَتْ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ سَبْعُ قَوَافِلَ لِيَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، فِيهَا أَنْوَاعُ الْبَزِّ وَالطِّيبِ وَالْجَوَاهِرِ وَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ لَنَا لَتَقَوَّيْنَا بِهَا وَلَأَنْفَقْنَاهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لهم: لَقَدْ أَعْطَيْتُكُمْ سَبْعَ آيَاتٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْقَوَافِلِ السَّبْعِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أَيْ لَا تَتَمَنَّ مَا فَضَّلْنَا بِهِ أَحَدًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَقَرَّرَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ مَادًّا عَيْنَيْهِ إِلَى الشَّيْءِ إِذَا أَدَامَ النَّظَرَ ونحوه، وَإِدَامَةُ النَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ وَتَمَنِّيهِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا يُسْتَحْسَنُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى نَعَمِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَقَدْ عَبَسَتْ فِي أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا فَتَقَنَّعَ فِي ثَوْبِهِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
وَقَوْلُهُ عَبَسَتْ فِي أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا
هُوَ أَنْ تَجِفَّ أَبْوَالُهَا وَأَبْعَارُهَا عَلَى أَفْخَاذِهَا إِذَا تُرِكَتْ مِنَ الْعَمَلِ أَيَّامَ الرَّبِيعِ فَتَكْثُرُ شُحُومُهَا وَلُحُومُهَا وَهِيَ أَحْسَنُ مَا تَكُونُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أَيْ لَا تَحْسُدَنَّ أَحَدًا عَلَى مَا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْحَسَدَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ، لِأَنَّهُ إِرَادَةٌ لِزَوَالِ نِعَمِ الْغَيْرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِقْبَاحِ لِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، وَذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ تَخْصِيصُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ؟
أما قوله تَعَالَى: أَزْواجاً مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْ أَصْنَافًا مِنَ الْكُفَّارِ، وَالزَّوْجُ فِي اللُّغَةِ الصِّنْفُ/ ثم قال:
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَيَقْوَى بِمَكَانِهِمُ الْإِسْلَامُ وَيَنْتَعِشُ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ نَهْيٌ لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ نَهْيٌ لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ وَأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ فِي قَلْبِهِ قَدْرٌ وَوَزْنٌ.
ثم قال: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخَفْضُ: مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الرَّفْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقِيَامَةِ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الْوَاقِعَةِ: ٣] أَيْ أَنَّهَا تَخْفِضُ أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَتَرْفَعُ أَهْلَ الطَّاعَاتِ، فَالْخَفْضُ مَعْنَاهُ
161
الْوَضْعُ، وَجَنَاحُ الْإِنْسَانِ يَدُهُ. قَالَ اللَّيْثُ: يَدَا الْإِنْسَانِ جَنَاحَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الْقَصَصِ: ٣٢] وَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنِ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ أَمَرَهُ بِالتَّوَاضُعِ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: ٥٤] وَقَالَ فِي صِفَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩].
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْقَوْمِ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ كَوْنِهِ نَذِيرًا، كَوْنُهُ مُبَلِّغًا لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَاجِبًا تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ عِقَابٌ وَكُلَّ مَا كَانَ حَرَامًا تَرَتَّبَ عَلَى فِعْلِهِ عِقَابٌ فَكَانَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ هَذَا الْعِقَابِ دَاخِلًا تَحْتَ لَفْظِ النَّذِيرِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ أَيْضًا كَوْنُهُ شَارِحًا لِمَرَاتِبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، وَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ آتِيًا فِي كُلِّ ذَلِكَ بِالْبَيَانَاتِ الشَّافِيَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْوَافِيَةِ، ثم قال بَعْدَهُ: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَفِيهِ بَحْثَانِ.
البحث الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ مَنْ هُمْ؟ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا طُرُقَ مَكَّةَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْرُبُ عَدَدُهُمْ مِنْ أَرْبَعِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاقْتَسَمُوا عَقَبَاتِ مَكَّةَ وَطُرُقَهَا يَقُولُونَ لِمَنْ يَسْلُكُهَا لَا تَغْتَرُّوا بِالْخَارِجِ مِنَّا، وَالْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَكَانُوا يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ/ أَوْ شَاعِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ خِزْيًا فَمَاتُوا شَرَّ مِيتَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنْذَرْتُكُمْ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِالْمُقْتَسِمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِمَ سَمَّاهُمْ مُقْتَسِمِينَ؟ فَقِيلَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ آمَنُوا بِمَا وَافَقَ التَّوْرَاةَ وَكَفَرُوا بِالْبَاقِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لِأَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ اسْتِهْزَاءً بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ كَذَا لِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ كَذَا لِي. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حِبَّانَ: اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ شِعْرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَذِبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْمُقْتَسِمِينَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ قَوْمُ صَالِحٍ تَقَاسَمُوا لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، فَرَمَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُمْ، فَعَلَى هذا الاقتسام مِنَ الْقَسْمِ لَا مِنَ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن قتيبة.
البحث الثاني: أَنَّ قَوْلَهُ: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ شَيْءٍ بِذَلِكَ فَمَا ذَلِكَ الشَّيْءُ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الوجه الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ
الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلْتَوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ توسط بين المشبه والمشبه به قوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [الحجر: ٨٨] إِلَى آخِرِهِ؟
قُلْنَا: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ، اعْتَرَضَ بِمَا هُوَ مَدَارٌ لِمَعْنَى التَّسْلِيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى دُنْيَاهُمْ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ هَذَا الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الوجه لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْتِزَامُ إِضْمَارٍ أَوِ الْتِزَامُ حَذْفٍ، أَمَّا الْإِضْمَارُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ عَذَابًا كَمَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، وَعَلَى هَذَا الوجه، الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمُشَبَّهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ كَالْقَمَرِ فِي الْحُسْنِ، أَيْ رَأَيْتُ إِنْسَانًا كَالْقَمَرِ فِي الْحُسْنِ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْكَافُ زَائِدَةٌ مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، وَزِيَادَةُ الْكَافِ لَهُ نَظِيرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ أَيْ أُنْذِرُ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فِيهِ بَحْثَانِ:
البحث الْأَوَّلُ: فِي هَذَا اللَّفْظِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُقْتَسِمِينَ. وَالثَّانِي: أنه مبتدأ، وخبره هو قوله:
لَنَسْئَلَنَّهُمْ [الحجر: ٩٢] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ.
البحث الثَّانِي: ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي وَاحِدِ عِضِينَ قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاحِدَهَا عِضَةٌ مِثْلَ عِزَةٍ وَبِرَةٍ وَثِبَةٍ، وَأَصْلُهَا عُضْوَةٌ مِنْ عَضَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا فَرَّقْتَهُ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ عِضَةٌ، وَهِيَ مِمَّا نَقَصَ مِنْهَا وَاوٌ هِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَالتَّعْضِيَةُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّفْرِيقُ، يُقَالُ: عَضَّيْتُ الْجَزُورَ وَالشَّاةَ تَعْضِيَةً إِذَا جَعَلْتَهَا أَعْضَاءً وَقَسَّمْتَهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إِلَّا فِيمَا احْتَمَلَ الْقِسْمَةَ» أَيْ لَا تَجْزِئَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْجَوْهَرَةِ وَالسَّيْفِ. فَقَوْلُهُ: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ يُرِيدُ جَزَّؤُهُ أَجْزَاءً، فَقَالُوا: سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَمُفْتَرًى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهَا عِضَةٌ وَأَصْلُهَا عِضَهَةٌ، فَاسْتَثْقَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ هَاءَيْنِ، فَقَالُوا: عِضَةٌ كَمَا قَالُوا شِفَةٌ، وَالْأَصْلُ شِفَهَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: شَافَهْتُ مُشَافَهَةً، وَسِنَةٌ وَأَصْلُهَا سِنْهَةٌ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِضَةِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «إِيَّاكُمْ وَالْعِضَةَ»
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعِضَةُ بِأَنْ يَعِضَهُ الْإِنْسَانُ وَيَقُولَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ فِيمَا رَوَى اللَّيْثُ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أَيْ جَعَلُوهُ مُفْتَرًى. وَجُمِعَتِ الْعِضَةُ جَمْعَ مَا يَعْقِلُ لِمَا لَحِقَهَا مِنَ الْحَذْفِ، فَجَعَلَ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ عِوَضًا مِمَّا لحقها من الحذف.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٢ الى ٩٦]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
163
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ أَنْ يَسْأَلَ هَؤُلَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنَ اقْتِسَامِ الْقُرْآنِ وَعَنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: ٨٩] أَيْ/ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وذكر الكافرين، فيعود قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَلَى الْكُلِّ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْكُفْرِ أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ، بَلِ السُّؤَالِ وَاقِعٌ عَنْهُمَا وَعَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرَّحْمَنِ: ٣٩] أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الوجه الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لا يسئلون سُؤَالَ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ أَعْمَالِهِمْ، وإنما يسئلون سُؤَالَ التَّقْرِيعِ يُقَالُ لَهُمْ لِمَ فَعَلْتُمْ كَذَا؟
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ سُؤَالُ الِاسْتِفْهَامِ لِمَا كَانَ فِي تَخْصِيصِ هَذَا النَّفْيِ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ فَائِدَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يَصْرِفَ النَّفْيَ إِلَى بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْإِثْبَاتَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قوله، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩] هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السُّؤَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَوْ حَصَلَ السُّؤَالُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَحَصَلَ التَّنَاقُضُ.
وَالوجه الثالث: أن نقول: قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ يفيد عموم النفي وقوله:
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَائِدٌ إِلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَهَذَا خَاصٌّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَاصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. أما قوله:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الصَّدْعِ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ وَالْفَصْلُ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ لِجَرِيرٍ:
هَذَا الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا قَضَى لَكُمُ بِالْحَقِّ يَصْدَعُ مَا فِي قَوْلِهِ حَيْفٌ
فَقَالَ يَصْدَعُ يَفْصِلُ، وَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ إِذَا تَفَرَّقُوا، ومنه قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣] قَالَ الْفَرَّاءُ: يَتَفَرَّقُونَ. وَالصَّدْعُ فِي الزُّجَاجَةِ الْإِبَانَةُ، أَقُولُ وَلَعَلَّ أَلَمَ الرَّأْسِ إِنَّمَا سُمِّيَ صُدَاعًا لِأَنَّ قِحْفَ الرَّأْسِ عِنْدَ
164
ذَلِكَ الْأَلَمِ كَأَنَّهُ يَنْشَقُّ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَسُمِّيَ الصُّبْحُ صَدِيعًا كَمَا يُسَمَّى فَلَقًا. وَقَدِ انْصَدَعَ وَانْفَلَقَ الْفَجْرُ وَانْفَطَرَ الصُّبْحُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أَيْ فَرِّقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَاصْدَعْ أَظْهِرْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُقَالُ: صَدَعَ بِالْحُجَّةِ إِذَا تَكَلَّمَ بِهَا جِهَارًا كَقَوْلِكَ صَرَّحَ بِهَا، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ أَيْضًا إِلَى الشَّقِّ وَالتَّفْرِيقِ، أما قوله: بِما تُؤْمَرُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي/ أَيْ بِمَا تُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ.
فَحَذَفَ الْجَارَّ كَقَوْلِهِ:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ «مَا» مَصْدَرِيَّةً أَيْ فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ وَشَأْنِكَ. قَالُوا: وَمَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
ثم قال تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَيْ لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى لَوْمِهِمْ إِيَّاكَ عَلَى إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْإِعْرَاضِ تَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِمْ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا.
ثم قال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ قِيلَ: كَانُوا خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَ جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أَكْفِيَكَهُمْ فَأَوْمَأَ إِلَى عَقِبِ الْوَلِيدِ فَمَرَّ بِنِبَالٍ فَتَعَلَّقَ بِثَوْبِهِ سَهْمٌ فَلَمْ يَنْعَطِفْ تَعَظُّمًا لِأَخْذِهِ فَأَصَابَ عِرْقًا فِي عَقِبِهِ فَقَطَعَهُ فَمَاتَ، وَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَدَخَلَتْ فِيهَا شَوْكَةٌ فَقَالَ: لُدِغْتُ لُدِغْتُ وَانْتَفَخَتْ رِجْلُهُ حَتَّى صَارَتْ كَالرَّحَا وَمَاتَ، وَأَشَارَ إِلَى عَيْنَيِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ، وَأَشَارَ إِلَى أَنْفِ عَدِيِّ بْنِ قَيْسٍ، فَامْتَخَطَ قَيْحًا فَمَاتَ وَأَشَارَ إِلَى الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ فَجَعَلَ يَنْطَحُ رَأْسَهُ بِالشَّجَرَةِ وَيَضْرِبُ وَجْهَهُ بِالشَّوْكِ حَتَّى مَاتَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَفِي أَسْمَائِهِمْ وَفِي كَيْفِيَّةِ طَرِيقِ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَالْقَدْرُ الْمَعْلُومُ أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورئاسة لِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى إِظْهَارِ مِثْلِ هَذِهِ السَّفَاهَةِ مَعَ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُلُوِّ قَدْرِهِ وَعِظَمِ مَنْصِبِهِ، وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْنَاهُمْ وَأَبَادَهُمْ وَأَزَالَ كَيْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ قَوْمَهُ يُسَفِّهُونَ عَلَيْهِ وَلَا سيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قَالَ لَهُ:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْمِزَاجَ الْإِنْسَانِيَّ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ لَهُ:
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فَأَمَرَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالسُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ/ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ صَارَ الْإِقْبَالُ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَاتِ سَبَبًا لِزَوَالِ ضِيقِ الْقَلْبِ وَالْحُزْنِ؟ فَقَالَ الْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ إِذَا اشْتَغَلَ الْإِنْسَانُ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْعِبَادَاتِ انْكَشَفَتْ لَهُ أَضْوَاءُ عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الِانْكِشَافُ صَارَتِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ
165
حَقِيرَةً، وَإِذَا صَارَتْ حَقِيرَةً خَفَّ عَلَى الْقَلْبِ فِقْدَانُهَا وَوِجْدَانُهَا فَلَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ فِقْدَانِهَا وَلَا يَسْتَرِيحُ بِوِجْدَانِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ الْحُزْنُ وَالْغَمُّ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَنِ اعْتَقَدَ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقَبَائِحِ سَهُلَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَدْلٌ مُنَزَّهٌ عَنْ إِنْزَالِ الْمَشَاقِّ بِهِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ وَلَا فَائِدَةٍ فَحِينَئِذٍ يَطِيبُ قَلْبُهُ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِذَا نَزَلَ بِالْعَبْدِ بَعْضُ الْمَكَارِهِ فَزِعَ إِلَى الطَّاعَاتِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَجِبُ عَلَيَّ عِبَادَتُكَ سَوَاءً أَعْطَيْتَنِي الْخَيْرَاتِ أَوْ أَلْقَيْتَنِي فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْمَوْتَ وَسُمِّيَ الْمَوْتُ بِالْيَقِينِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَيَقِّنٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِهَذَا التَّوْقِيتِ مَعَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ؟
قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ فِي زَمَانِ حَيَاتِكَ وَلَا تَخْلُ لَحْظَةٌ مِنْ لَحَظَاتِ الْحَيَاةِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَمَّ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
166
Icon