تفسير سورة الشعراء

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
اشتهرت عند السلف بسورة الشعراء لأنها تفردت من بين سور القرآن بذكر كلمة الشعراء. وكذلك جاءت تسميتها في كتب السنة. وتسمى أيضا سورة طسم.
وفي أحكام ابن العربي أنها تسمى أيضا الجامعة، ونسبه أبن كثير والسيوطي في الإتقان إلى تفسير مالك المروي عنه١. ولم يظهر وجه وصفها بهذا الوصف. ولعلها أول سورة جمعت ذكر الرسل أصحاب الشرائع المعلومة إلى الرسالة المحمدية.
وهي مكية، فقيل جميعها مكي، وهو المروي عن ابن الزبير. ورواية عن ابن عباس ونسبه ابن عطية إلى الجمهور. وروي عن ابن عباس أن قوله تعالى ﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون ﴾ إلى آخر السورة نزل بالمدينة لذكر شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وابن رواحة وكعب بن مالك وهم المعني بقوله ﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ الآية. ولعل هذه الآية هي التي أقدمت هؤلاء على القول بأن تلك الآيات مدنية. وعن الداني قال : نزلت ﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون ﴾ في شاعرين تهاجيا في الجاهلية.
وأقول : كان شعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم منهم النضر بن الحارث، والعوراء بنت حرب زوج أبي لهب ونحوهما، وهم المراد بآيات ﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون ﴾. وكان شعراء المدينة قد أسلموا قبل الهجرة وكان في مكة شعراء مسلمون من الذين هاجروا إلى الحبشة كما سيأتي.
وعن مقاتل : أن قوله تعالى ﴿ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ﴾ نزل بالمدينة. وكان الذي دعاه إلى ذلك أن مخالطة علماء بني إسرائيل كانت بعد الهجرة. ولا يخفى أن الحجة لا تتوقف على وقوع مخالطة علماء بني إسرائيل ؛ فقد ذكر القرآن مثل هذه الحجة في آيات نزلت بمكة، من ذلك قوله ﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ﴾ في سورة الرعد وهي مكية، وقوله ﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ﴾ في سورة القصص وهي مكية، وقوله ﴿ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ﴾ في سورة العنكبوت وهي مكية. وشأن علماء بني إسرائيل مشهور بمكة وكان لأهل مكة صلات مع اليهود بالمدينة ومراجعة بينهم في شأن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى ﴿ ويسألونك عن الروح ﴾ في سورة الإسراء، ولذا فالذي نوقن به أن السورة كلها مكية.
وهي السورة السابعة والأربعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الواقعة وقبل سورة النمل. وسيأتي في تفسير قوله تعالى ﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ ما يقتضي أن تلك الآية نزلت قبل نزول سورة أبي لهب وتعرضنا لإمكان الجمع بين الأقوال.
وقد جعل أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة عدد آيها مائتين وستا وعشرين، وجعله أهل الشام وأهل الكوفة مائتين وسبعا وعشرين.
الأغراض التي اشتملت عليها
أولها التنويه بالقرآن، والتعريض بعجزهم عن معارضته، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من إعراض قومه عن التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن.
وفي ضمنه تهديدهم على تعرضهم لغضب الله تعالى، وضرب المثل لهم بما حل بالأمم المكذبة رسلها والمعرضة عن آيات الله.
وأحسب أنها نزلت إثر طلب المشركين أن يأتيهم الرسول بخوارق، فافتتحت بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له ورباطة لجأشه بأن ما يلاقيه من قومه هو سنة الرسل من قبله مع أقوامهم مثل موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ؛ ولذلك ختم كل استدلال جيء به على المشركين المكذبين بتذييل واحد هو قوله ﴿ إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ﴾ تسجيلا عليهم بأن آيات الوحدانية وصدق الرسل عديدة كافية لمن يتطلب الحق ولكن أكثر المشركين لا يؤمنون وأن الله عزيز قادر على أن ينزل بهم العذاب وأنه رحيم برسله فناصرهم على أعدائهم.
قال في الكشاف : كل قصة من القصص المذكورة في هذه السورة كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار ما في غيرها فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تختم بما اختتمت به صاحبتها، ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأبعد من النسيان، ولأن هذه القصص طرقت بها إذان وقرت عن الإنصات للحق فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا أو يفتق ذهنا اه.
ثم التنويه بالقرآن، وشهادة أهل الكتاب له، والرد على مطاعنهم في القرآن وجعله عضين، وأنه منزه عن أن يكون شعرا ومن أقوال الشياطين، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته، وأن الرسول ما عليه إلا البلاغ، وما تخلل ذلك من دلائل.
١ - تفسير مالك بن أنس، ذكره عياض في المدارك وكره الداودي في طبقات المفسرين..

الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِثْلَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَلِذَلِكَ خُتِمَ كُلُّ اسْتِدْلَالٍ جِيءَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِتَذْيِيلٍ وَاحِدٍ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاء: ١٩٠، ١٩١] تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ آيَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ عَدِيدَةٌ كَافِيَةٌ لِمَنْ يَتَطَلَّبُ الْحَقَّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُؤَمِنُونَ وَأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابَ وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِرُسُلِهِ فَنَاصِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كُلُّ قِصَّةٍ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَتَنْزِيلٍ بِرَأْسِهِ.
وَفِيهَا مِنَ الِاعْتِبَارِ مَا فِي غَيْرِهَا، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُدْلِي بِحَقٍّ فِي أَنْ تُخْتَمَ بِمَا اخْتُتِمَتْ بِهِ صَاحِبَتُهَا، وَلِأَنَّ فِي التَّكْرِيرِ تَقْرِيرًا لِلْمَعَانِي فِي الْأَنْفُسِ وَكُلَّمَا زَادَ تَرْدِيدُهُ كَانَ أَمْكَنَ لَهُ فِي الْقَلْبِ وَأَرْسَخَ فِي الْفَهْمِ وَأَبْعَدَ مِنَ النِّسْيَانِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ طُرِقَتْ بِهَا آذَانٌ وَقَرَتْ عَنِ الْإِنْصَاتِ لِلْحَقِّ فَكُوثِرَتْ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَرُوجِعَتْ بِالتَّرْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ أُذُنًا أَوْ يَفْتُقُ ذِهْنًا اه.
ثُمَّ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ، وَالرَّدُّ عَلَى مَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَجَعْلِهِ عِضِينَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا وَمِنْ أَقْوَالِ الشَّيَاطِينِ، وَأَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ مَا عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ من دَلَائِل.
[١]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١)
يَأْتِي فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فِي مَعَانٍ مُتَمَاثِلَةٍ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْرِيضُ بِإِلْهَابِ نُفُوسِ الْمُنْكِرِينَ لِمُعَارَضَةِ بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَتَحَدِّيهِمْ بِذَلِكَ وَالتَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ بِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ طسم قَسَمٌ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُقْسَمَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً [الشُّعَرَاء: ٤]. فَقَالَ الْقُرَظِيُّ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِطُولِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ. وَقِيلَ الْحُرُوفُ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِي الطَّوْلِ، الْقُدُّوسِ، الْمَلِكِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهَا حُرُوفٌ لِلتَّهَجِّي وَاسْتِقْصَاءٌ فِي
التَّحَدِّي يُعْجِزُهُمْ عَنْ مُعاَرَضَةِ الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِهِ بِآيَةِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: ٢].
وَالْجُمْهُور قرأوا: طسم كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَأَدْغَمُوا النُّونَ مِنْ سِينٍ فِي الْمِيمِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِظْهَارِ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ حُرُوفًا مُفَكَّكَةً، قَالُوا وَكَذَلِكَ هِيَ مَرْسُومَةٌ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ حُرُوفًا مُفَكَّكَةً (ط س م).
وَالْقَوْلُ فِي عَدَمِ مَدِّ اسْمِ (طا) مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ مَهْمُوزُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَدْ عَرَضَ لَهُ سُكُونُ السَّكْتِ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ كَمَا تحذف للْوَقْف، كَمَا تقدم فِي عَدَمِ مَدِّ (را) فِي (الر) فِي سُورَة يُونُس [١].
[٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢]
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)
الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَاضِرِ فِي الْأَذْهَانِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَبْلُ، وَبَيَّنَهُ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِأَنَّهَا آيَاتُ الْكِتَابِ.
وَمَعْنَى الْإِشَارَةِ إِلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ قَصْدُ التَّحَدِّي بِأَجْزَائِهِ تَفْصِيلًا كَمَا قُصِدَ التَّحَدِّيَ بِجَمِيعِهِ إِجْمَالًا. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ وَهِيَ بِلُغَتِكُمْ وَحُرُوفِ هِجَائِهَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهَا وَدُونَكُمُوهَا. وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْخِطَابِ وَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ مُتَأَهِّلٍ لِهَذَا التَّحَدِّي مِنْ بُلَغَائِهِمْ.
والْمُبِينِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ مِنْ أَبَانَ مُرَادِفِ بَانَ، أَيْ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْوَاضِحِ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا كَانَتْ آيَاتُهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا آيَاتٍ مُبِينَةً عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ بِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِينِ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِي الْهُدَى وَالْحَقِّ وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ كَالْمُشْتَرَكِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا بَلَغَكُمْ وَتُلِيَ عَلَيْكُمْ هُوَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ، أَيِ الْبَيِّنِ صِدْقُهُ وَدَلَالَتُهُ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مكابر.

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٣]

لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)
حُوِّلَ الْخِطَابُ مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى الْمُعَانِدِينَ إِلَى تَوْجِيهِهِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يُثِيرُهُ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء:
٢] مِنْ تَسَاؤُلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ عَنِ اسْتِمْرَارِ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦]، وَقَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨].
وَ (لَعَلَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي تَرَجِّي الشَّيْءِ الْمَخُوفِ سُمِّيَتْ إِشْفَاقًا وَتَوَقُّعًا. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ التَّرَجِّيَ مِنْ قَبِيلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ مِثْلِ التَّمَنِّي.
وَالتَّرَجِّي مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَثٌّ عَلَى تَرْكِ الْأَسَفِ مِنْ ضَلَالِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ تَمْثِيلِ شَأْنِ الْمُتَكَلِّمِ الْحَاثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ بِحَالِ مَنْ يَسْتَقْرِبُ حُصُولَ هَلَاكِ الْمُخَاطَبِ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ.
وَالْبَاخِعُ: الْقَاتِلُ. وَحَقِيقَةُ الْبَخْعِ إِعْمَاقُ الذَّبْحِ. يُقَالُ: بَخَعَ الشَّاةَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِذَا بَلَغَ بِالسِّكِّينِ الْبِخَاعَ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ الْفَقَارَ، كَذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي «الْفَائِقِ». وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦]. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمَوْتِ السَّرِيعِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ باخِعٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَفِي باخِعٌ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ هُوَ الْفَاعِلُ.
وأَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ بَعْدَ (أَنْ) وَالْخَافِضُ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، أَيْ لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ (أَنْ) تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَمَّكَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ فِيمَا مَضَى يُوشِكُ أَنْ يُوقِعَكَ فِي الْهَلَاكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِتَكَرُّرِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ، كَقَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ لَمَّا قَالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٤] فَقَالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ [يُوسُف: ٨٥] فَوِزَانُ هَذَا الْمَعْنَى وِزَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، فَإِنَّ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَلَّا يَكُونُوا فِي مَوْضِعِ
الْفَاعِلِ لِ باخِعٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ (لَعَلَّ). وَإِسْنَادُ باخِعٌ إِلَى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ جُعِلَ سَبَبًا لِلْبَخْعِ.
وَجِيءَ بِمُضَارِعِ الْكَوْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَأْسَفُ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَلَوِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ انْتِفَاؤُهُ فِيمَا مَضَى أَوْلَى بِأَنْ لَا يُؤْسَفَ لَهُ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُؤْمِنِينَ إِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ مُؤْمِنِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِمُؤْمِنِينَ الْمَعْنَى اللَّقَبِيُّ، أَيْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي عِدَادِ الْفَرِيقِ الْمَعْرُوفِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أُمَّةُ الْإِسْلَامِ. وَضَمِيرُ أَلَّا يَكُونُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وهم الْمُشْركُونَ الَّذين دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعُدِلَ عَنْ: أَنْ لَا يُؤْمِنُوا، إِلَى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ فِي فِعْلِ الْكَوْنِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَفَادَتْهُ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ، فَتَأَكَّدَ اسْتِمْرَارُ عَدَمِ إِيمَانِهِمُ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ الْإِقْلَاعِ عَنِ الْحُزْنِ لَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بِحَرْفِ نَفْيِ الْمَاضِي وَهُوَ (لَمْ) لِأَنَّ سُورَةَ الْكَهْفِ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ قَدْ تَقَرَّرَ حِينَئِذٍ وَبَلَغَ حَدَّ الْمَأْيُوسِ مِنْهُ.
وَضَمِيرُ يَكُونُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ التَّحَدِّي الْحَاصِلِ بِقَوْلِهِ: طسم تِلْكَ
آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ
[الشُّعَرَاء: ١، ٢] لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ هُمُ الْكَافِرُونَ المكذبون.
[٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٤]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] لِأَنَّ التَّسْلِيَةَ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ تُثِيرُ فِي النَّفْسِ سُؤَالًا عَنْ إِمْهَالِهِمْ دُونَ عُقُوبَةٍ لِيُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ مُوسَى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٨٨]، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.
94
وَمَفْعُولُ نَشَأْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْغَالِبَةِ فِي حذف مفعول فعل الْمَشِيئَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ نَشَأْ تَنْزِيلَ آيَةٍ مُلْجِئَةٍ نُنْزِلْهَا.
وَجِيءَ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُشْعِرَ بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ لَا يَشَاءَهُ.
وَمَعْنَى انْتِفَاءِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ عَنْ نَظَرٍ وَاخْتِيَارٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْدَى لِانْتِشَارِ سُمْعَةِ الْإِسْلَامِ فِي مَبْدَأِ ظُهُورِهِ. فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْعَلَامَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَهْدِيدِهِمْ بِالْإِهْلَاكِ تَهْدِيدًا مَحْسُوسًا بِأَنْ تَظْهَرَ لَهُمْ بِوَارِقُ تُنْذِرُ بِاقْتِرَابِ عَذَابٍ. وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الْأَنْعَام: ٣٥]، وَلَيْسَ الْمُرَادُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِآيَاتِ الْقُرْآنِ.
وَجَعْلُ تَنْزِيلِ الْآيَةِ مِنَ السَّمَاءِ حِينَئِذٍ أَوْضَحُ وَأَشَدُّ تَخْوِيفًا لِقِلَّةِ الْعَهْدِ بِأَمْثَالِهَا وَلِتَوَقُّعِ كُلِّ مَنْ تَحْتَ السَّمَاءِ أَنْ تُصِيبَهُ. فَإِن قلت: لماذَا لَمْ يُرِهِمْ آيَةً كَمَا أُرِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نَتْقَ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ؟ قُلْتُ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُؤْمِنِينَ بِمُوسَى وَمَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ إِظْهَارُ الْآيَاتِ لَهُمْ لِإِلْجَائِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِزِيَادَةِ تَثْبِيتِهِمْ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الْبَقَرَة: ٢٦٠].
وَفُرِّعَ عَلَى تَنْزِيلِ الْآيَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لَهَا وَهُوَ جُمْلَةُ فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ.
وَعُطِفَ فَظَلَّتْ وَهُوَ مَاضٍ عَلَى الْمُضَارِعِ قَوْلُهُ: نُنَزِّلْ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَوَابُ شَرْطٍ، فَلِلْمَعْطُوفِ حُكْمُ جَوَابِ الشَّرْطِ فَاسْتَوَى فِيهِ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ وَصِيغَةُ الْمَاضِي لِأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ تُخَلِّصُ الْمَاضِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنْ شِئْنَا نَزَّلْنَا أَوْ إِنْ نَشَأْ نَزَّلْنَا، لَكَانَ سَوَاءً إِذِ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ اخْتِلَافِ فِعْلَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بِالْمُضَارِعِيَّةِ وَالْمَاضَوِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَاتِ يُتَّسَعُ فِيهَا مَا لَا يُتَّسَعُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِقَاعِدَةِ: أَنْ يُغْتَفَرَ فِي الثَّوَانِي مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأَوَائِلِ، كَمَا فِي الْقَاعِدَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ خُصُوصِيَّةٍ فِي كَلَامِ الْبَلِيغِ وَخَاصَّةً فِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ، وَهِيَ هُنَا أَمْرَانِ:
95
التَّفَنُّنُ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ، وَتَقْرِيبُ زَمَنِ مُضِيِّ الْمُعَقَّبِ بِالْفَاءِ مِنْ زَمَنِ حُصُولِ الْجَزَاءِ بِحَيْثُ يَكُونُ حُصُولُ خُضُوعِهِمْ لِلْآيَةِ بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ تَنْزِيلِهَا فَيَتِمُّ ذَلِكَ سَرِيعًا حَتَّى يُخَيَّلَ لَهُمْ مِنْ سُرْعَةِ حُصُولِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَضَى فَلِذَلِكَ قَالَ:
فَظَلَّتْ وَلَمْ يَقِلْ: فَتَظَلُّ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١] وَكِلَاهُمَا لِلتَّهْدِيدِ، وَنَظِيرُهُ لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَالْخُضُوعُ: التَّطَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ. وَيُسْتَعْمَلُ فِي الِانْقِيَادِ مَجَازًا لِأَنَّ الِانْقِيَادَ مِنْ أَسْبَابِ الْخُضُوعِ. وَإِسْنَادُ الْخُضُوعِ إِلَى الْأَعْنَاقِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُنْقَادِينَ الْخَائِفِينَ الْأَذِلَّةِ بِحَالِ الْخَاضِعِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَنْ تُصِيبَهُمْ قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وَيَنْحَنُونَ اتِّقَاءَ الْمُصِيبَةِ النَّازِلَةِ بِهِمْ.
وَالْأَعْنَاقُ: جَمْعُ عُنُقٍ بِضَمَّتَيْنِ وَقَدْ تُسَكَّنُ النُّونُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ. وَقِيلَ:
الْمَضْمُومُ النُّونِ مُؤَنَّثٌ، وَالسَّاكِنُ النُّونِ مُذَكَّرٌ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْأَعْنَاقُ هِيَ مَظْهَرُ الْخُضُوعِ أُسْنِدَ الْخُضُوعُ إِلَيْهَا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُسْنَدُ إِلَى أَصْحَابِهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ [طه: ١٠٨] أَيْ أَهِلُ الْأَصْوَاتِ بِأَصْوَاتِهِمْ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
(كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا) وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ
فَأُسْنِدَ الْفَرَقُ إِلَى الْعُيُونِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْأَعْيُنَ سَبَبُ الْفَرَقِ عِنْدَ رُؤْيَة الْأَشْيَاء المخيفة. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١١٦] وَإِنَّمَا سَحَرُوا النَّاسَ سِحْرًا نَاشِئًا عَنْ رُؤْيَةِ شَعْوَذَةِ السِّحْرِ بِأَعْيُنِهِمْ، مَعَ مَا يَزِيدُ بِهِ قَوْلُهُ: «ظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ» مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَمْثِيلِ حَالِهِمْ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ بِأَعْنَاقِهِمْ.
وَفِي إِجْرَاءِ ضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: خاضِعِينَ عَلَى الْأَعْنَاقِ تَجْرِيدٌ لِلْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ فِي إِسْنَادِ خاضِعِينَ إِلَى أَعْناقُهُمْ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْجَرْيِ عَلَى وَتِيرَةِ الْمَجَازِ أَنْ يُقَالَ لَهَا:
خَاضِعَةً، وَذَلِكَ خُضُوعٌ مِنْ تَوَقُّعِ لَحَاقِ الْعَذَابِ النَّازِلِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْأَعْنَاقَ هُنَا جَمْعُ عُنُقٍ بِضَمَّتَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى سَيِّدِ الْقَوْمِ وَرَئِيسِهِمْ كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ رَأْسُ الْقَوْمِ وَصَدْرُ الْقَوْمِ، أَيْ فَظَلَّتْ سَادَتُهُمْ، يَعْنِي الَّذِينَ أَغْرَوْهُمْ
96
بِالْكُفْرِ خَاضِعِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهْدِيدًا لِزُعَمَائِهِمُ الَّذِينَ زَيَّنُوا لَهُمُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ ضَعِيفٌ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالْأَخْفَشِ:
الْأَعْنَاقُ الْجَمَاعَاتُ وَاحِدُهَا عُنُقٌ بِضَمَّتَيْنِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، أَيْ فَظَلُّوا خَاضِعِينَ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ سَابِقِهِ.
وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ وَرَكِيكِهَا مَا نَسَبَهُ الثَّعْلَبِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا وَفِي بَنِي أُمَيَّةَ فَتَذِلُّ لَنَا أَعْنَاقُهُمْ بَعْدَ صُعُوبَةٍ وَيَلْحَقُهُمْ هَوَانٌ بَعْدَ عِزَّةٍ، وَهَذَا مِنْ تَحْرِيفِ كَلِمِ الْقُرْآنِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنُحَاشِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَهُ وَهُوَ الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ. وَهَذَا مِنْ مَوْضُوعَاتِ دُعَاةِ الْمُسَوِّدَةِ مِثْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَكَمْ لَهُمْ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنِ اخْتِلَاقٍ، وَالْقُرْآنُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِهَذِهِ السَّفَاسِفِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَزِّلْ بِالتَّشْدِيدِ فِي الزَّايِ وَفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِضَم النُّون الثَّانِيَة وَتَخْفِيف الزَّاي.
[٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٥]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] أَيْ هَذِهِ شِنْشَنَتُهُمْ فَلَا تَأْسَفْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَمَا يَجِيئُهُمْ مِنْهَا مِنْ بَعْدُ فَسَيُعْرِضُونَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْإِعْرَاضِ.
وَالْمُضَارِعُ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ. فَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ لِلنَّاسِ بِالْأَدِلَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ ذِكْرًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦].
وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ، أَيْ مَنْ ذِكْرٍ بَعْدَ ذِكْرٍ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِهِ فَالْمَعْنَى الْمُسْتَفَادُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْمُحَدَثِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِسْنَادِ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ. فَأَفَادَ الْأَمْرَانِ أَنَّهُ ذِكْرٌ مُتَجَدِّدٌ مُسْتَمِرٌّ وَأَنْ بَعْضَهُ يُعْقِبُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٢، ٣] قَوْلُهُ:
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ
إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.
وَذُكِرَ اسْمُ الرَّحْمَنِ هُنَا دُونَ وَصْفِ الرَّبِّ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا لِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِعْرَاضِ قَوْمِهِ فَكَانَ فِي وَصْفِ مُؤْتِي الذِّكْرِ بِالرَّحْمَنِ تَشْنِيعٌ لِحَالِ الْمُعْرِضِينَ وَتَعْرِيضٌ لِغَبَاوَتِهِمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَمَّا هُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُدْرِكُونَ صَلَاحَهُمْ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ حَسَرَاتٍ عَلَى قَوْمٍ أَضَاعُوا نَفْعَهُمْ وَأَنْتَ قَدْ أَرْشَدْتَهُمْ إِلَيْهِ وَذَكَّرْتَهُمْ، كَمَا قَالَ الْمَثَلُ: «لَا يَحْزُنْكَ دَمٌ هَرَاقَهُ أَهْلُهُ» وَقَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنْ تَغْلِبْ شَقَاوَتُكُمْ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي فِي صَلَاحِكُمْ سَعَيْتُ
وَفِي الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ كانُوا وَخَبَرِهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا أَعْرَضُوا، إِفَادَةُ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ رَاسِخٌ فِيهِمْ وَأَنَّهُ قَدِيمٌ مُسْتَمِرٌّ إِذْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣]، فَانْتِفَاءُ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ وَاقِعًا هُوَ إِعْرَاضٌ مِنْهُمْ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ الَّتِي طَرِيقُهَا الذِّكْرُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذِكْرٌ بَعْدَ الذِّكْرِ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنُوا بِسَبَبِهِ وَجَدَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمُ الْقَدِيمِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرٍ مُؤَكِّدَةٌ لِعُمُومِ نَفْيِ الْأَحْوَالِ.
ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرَّحْمنِ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، فَجُمْلَةُ: كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ. وَتَقَدَّمَ الْمَجْرُورُ لرعاية الفاصلة.
[٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٦]
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
فَاءُ فَقَدْ كَذَّبُوا فَصِيحَةٌ، أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِعْرَاضُ تَكْذِيبٍ بعد الْإِخْبَار عَنْهُم بِأَنَّ سَنَّتَهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الذِّكْرِ الْآتِي بَعْضُهُ عَقِبَ بَعْضٍ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ كَانَ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَأْتِيهِمْ فَلِتَعْقِيبِ الْإِخْبَارِ بِالْوَعِيدِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِالتَّكْذِيبِ.
وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنِ الْحَدَثِ الْعَظِيمِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
98
وَالْأَنْبَاءُ: ظُهُورُ صِدْقِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِتْيَانِ هُنَا الْبُلُوغَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: ٢١] لِأَنَّ بُلُوغَ الْأَنْبَاءِ قَدْ وَقَعَ فَلَا يُحْكَى بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ:
فَسَيَأْتِيهِمْ.
وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً فَيَجُوزُ أَن يكون مَا صدقهَا الْقُرْآنَ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً [الْبَقَرَة: ٢٣١]. وَجِيءَ فِي صلته بِفعل يَسْتَهْزِؤُنَ دُونَ (يُكَذِّبُونَ) لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كذّبوا بِهِ واستهزأوا بِهِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي بِهِ لتعدية فعل يَسْتَهْزِؤُنَ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدًا إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ، وَأَنْبَاؤُهُ أَخْبَارُهُ بِالْوَعِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَا صدق مَا جِنْسَ مَا عُرِفُوا بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ وَهُوَ التَّوَعُّدُ، كَانُوا يَقُولُونَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ؟ وَنَحْوُ ذَلِك.
وَإِضَافَة أَنْبؤُا إِلَى مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عَلَى هَذَا إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ الَّذِي هُوَ أَنْبَاءُ مَا سَيَحُلُّ بِهِمْ.
وَجَمْعُ الْأَنْبَاءِ عَلَى هَذَا بِاعْتِبَار أَنهم استهزأوا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْبَعْثُ، وَمِنْهَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهَا نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨]، وَمِنْهَا فَتْحُ مَكَّةَ، وَمِنْهَا عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ. وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: زَقُّمُونَا، اسْتِهْزَاءٌ.
وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ أَنْبَاءُ كَوْنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، أَيْ حُصُولِهِ، وَضَمِيرِ بِهِ عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُرَادُ بِأَنْبَاءِ اسْتِهْزَائِهِمْ أَنْبَاءُ جَزَائِهِ وَعَاقِبَتِهِ وَهُوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ.
وَالْقَوْلُ فِي إِقْحَامِ فِعْلِ كانُوا هُنَا كَالْقَوْلِ فِي إِقْحَامِهِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشُّعَرَاء: ٥] وَلَكِنْ أُوثِرَ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارع وَهُوَ يَسْتَهْزِؤُنَ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ يَتَجَدَّدُ عِنْدَ تَجَدُّدِ وَعِيدِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَمُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ.
99
وَمَعْنَى (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]، أَيْ تَحَقَّقَ، أَيْ سَوْفَ تَتَحَقَّقُ أَخْبَارُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي سَوْفَ تَبْلُغُهُمْ أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْقُرْآنِ، أَيْ أَخْبَارُ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَأُوثِرَ إِفْرَادُ فِعْلِ «يَأْتِيهِمْ» مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِغَيْرِ مُذَكِّرٍ حَقِيقِيٍّ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ
لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَخَفُّ فِي الْكَلَامِ لِكَثْرَة دورانه.
[٧- ٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٧ إِلَى ٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشُّعَرَاء: ٥] فَالْهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مِنْهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ لَفْظًا لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا تُغْنِي فِيهِمُ الْآيَاتُ لِأَنَّ الْمُكَابَرَةَ تَصْرِفُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ، وَالْآيَاتُ عَلَى صِحَّةِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ قَائِمَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ قَدْ عَمُوا عَنْهَا فَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَضِلُّوا عَنْ آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَوْنُ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُتَطَلِّعِينَ إِلَى الْحَقِّ بَاحِثِينَ عَنْهُ لَكَانَ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا مَقْنَعٌ لَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: ١٨٥]، وَقَالَ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: ١٠١] أَيْ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُعِدُّوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِيمَانِ.
فَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ دَالَّةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ الْحَكِيمَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، وَدَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ بَعْدَ الْجَفَافِ مَثِيلٌ لِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ رُفَاتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣]. وَهَذَا دَلِيلٌ تَقْرِيبِيٌّ
100
لِلْإِمْكَانِ فَكَانَ فِي آيَةِ الْإِنْبَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِبْطَالِ أَصْلَيْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ وَهَمَا: أَصْلُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، وَأَصْلُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِنْبَاتِ عَلَى الصَّانِعِ الْوَاحِدِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ نَزَلَتْ رُؤْيَتُهُمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ: إِنْكَارُ عَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ.
وَجُمْلَةُ: كَمْ أَنْبَتْنا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَرَوْا فَهِيَ مَصَبُّ الْإِنْكَارِ. وَقَوْلُهُ:
إِلَى الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يَرَوْا، أَيْ أَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الْأَرْضِ وَهِيَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ.
وكَمْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْكَثْرَةِ، وَهِيَ هُنَا خَبَرِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِ أَنْبَتْنا. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْبَتْنَا فِيهَا كَثِيرًا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ.
ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَمَوْرِدُ التَّكْثِيرِ الَّذِي أَفَادَتْهُ كَمْ هُوَ كَثْرَةُ الْإِنْبَاتِ فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ، وَمَوْرِدُ الشُّمُولِ الْمُفَادِ مِنْ كُلِّ هُوَ أَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَأَصْنَافُهُ وَفِي الْأَمْرَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ. وَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ أَبْعَاضِ كُلِّ زَوْجٍ عَنْ ذِكْرِ مُمَيَّزِ كَمْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ التَّبْعِيضِ.
وَالزَّوْجُ: النَّوْعُ، وَشَاعَ إِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى النَّوْعِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ عَلَى أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ تَقَدَّمَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣]، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي طه [٥٣].
وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ مِنْ نَوْعِهِ قَالَ تَعَالَى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي الْأَنْفَالِ [٤]، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٢]. وَهَذَا مِنْ إِدْمَاجِ الِامْتِنَانِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى بَدِيعِ الصُّنْعِ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ فِي إِنْبَاتِ الْكَرِيمِ وَغَيْرِهِ. فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِإِنْبَاتِ الْكَرِيمِ مِنْ ذَلِكَ وَفَاءٌ بِغَرَضِ الِامْتِنَانِ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الِاسْتِدْلَالِ. وَأَيْضًا فَنَظَرُ النَّاسِ فِي الْأَنْوَاعِ الْكَرِيمَةِ أَنْفَذُ وَأشهر لِأَنَّهُ يبتدىء بِطَلَبِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا وَالْإِعْجَابِ بِهَا فَإِذَا تَطَلَّبَهَا وَقَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَيَكُونُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَبِيلِ التَّذْكِيرِ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا هُمْ مُمَارِسُونَ لَهُ وَرَاغِبُونَ فِيهِ.
101
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ ذلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنْبَاتُ اللَّهِ الْأَزْوَاجَ فِيهَا، وَمَا فِي تِلْكَ الْأَزْوَاجِ مِنْ مَنَافِعَ وَبَهْجَةٍ.
وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ دَلَالَةَ ذَلِكَ الْإِنْبَاتِ وَصِفَاتِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ بَاعِثُ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَإِفْرَادُ (آيَةً) لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ لِأَنَّ فِي الْمَذْكُورِ عِدَّةَ أَشْيَاءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ فَيَكُونُ عَلَى التَّوْزِيعِ.
وَجُمْلَةُ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ، وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي قَوْله: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣]، وَهُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: ٢٤].
وَأُسْنِدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وكانَ هُنَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ وَالْمُحَقِّقِينَ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلٌ لِهَذَا الْخَبَرِ: بِوَصْفِ اللَّهِ بِالْعِزَّةِ، أَيْ تَمَامِ الْقُدْرَةِ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعِقَابَ، وَبِوَصْفِ الرَّحْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي إِمْهَالِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، وَرَحِيمٌ بِكَ. قَالَ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ [الْكَهْف: ٥٨]. وَفِي وَصْفِ الرَّحْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ رُسُلَهُ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَمَّا كَانَ عَقْلِيًّا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُكَرَّرْ بِغَيْرِهِ مِنْ نَوْعِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا كُرِّرَتِ الدَّلَائِلُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْعِبْرَةِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى [الشُّعَرَاء: ١٠] إِلَى آخِرِ قِصَّةِ أَصْحَاب ليكة.
[١٠، ١١]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١)
شُرُوعٌ فِي عَدِّ آيَاتٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ عَوَاقِبِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِهِمْ
102
لِيُحَذِّرَ الْمُخَاطِبُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِبَعْضِ مَا نَادَى بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْمَثُلَاتِ قُصِدَ ذِكْرُ كَثِيرٍ اشْتُهِرَ مِنْهَا وَلَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى حَادِثَةٍ وَاحِدَة لِأَن الدّلَالَة غَيْرَ الْعَقْلِيَّةِ يَتَطَّرَقُهَا احْتِمَالُ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَ قَوْمًا مِنْ أُولَئِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّدْفَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِذَا تَبَيَّنَ تَكَرُّرُ أَمْثَالِهَا ضَعُفَ احْتِمَالُ الِاتِّفَاقِيَّةِ، لِأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ إِلَّا بِانْضِمَامِ مُقَوِّمَاتٍ لَهُ مِنْ تَوَاتَرٍ وَتَكَرُّرٍ.
وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى ثُمَّ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى خِلَافِ تَرْتِيبِ حِكَايَةِ الْقَصَصِ الْغَالِبِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَعْلِهَا عَلَى تَرْتِيبِ سَبْقِهَا فِي الزَّمَانِ، لَعَلَّهُ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِلْحَاحِهِمْ عَلَى إِظْهَارِ آيَاتٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي الْكَائِنَاتِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ فَضُرِبَ لَهُمُ الْمَثَلُ بِمُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي آيَاتِ مُوسَى إِذْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يُونُس: ٢] وَعُطِفَ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى عَطْفَ جُمْلَةٍ على جملَة: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ [الشُّعَرَاء: ٧] بِتَمَامِهَا.
وَيَكُونُ إِذْ اسْمَ زَمَانٍ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشُّعَرَاء: ٦٩]. وَفِي هَذَا الْمُقَدَّرِ تَذْكِيرٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا يُسَلِّيهِ عَمَّا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ.
وَنِدَاءُ اللَّهِ مُوسَى الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِكَلَامٍ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ.
جملَة: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ: نَادَى، وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاء: ٦٣- ٦٨]. وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى إِلَخْ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِأَسْبَابِ الْمَوْعِظَةِ بِذِكْرِ دَعْوَةِ مُوسَى إِلَى مَا أُمِرَ بِإِبْلَاغِهِ وَإِعْرَاضِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى الْخَاتِمَةِ.
وَاسْتِحْضَارُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِوَصْفِهِمْ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْإِرْسَالِ. وَفِي هَذَا الْإِجْمَالِ تَوْجِيهُ نَفْسِ مُوسَى لِتَرَقُّبِ تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِمَا يُبَيِّنُهُ، وَإِثَارَةٌ لِغَضَبِ
103
مُوسَى عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْضَمَّ دَاعِي غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى دَاعِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ الْبَاعِثِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَوْقَعُ لِكَلَامِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمُ اشْتُهِرُوا بِالظُّلْمِ.
ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ وَصْفِهِمُ الذَّاتِيِّ بِطَرِيقَةِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ:
قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَكْرِيرِ كَلِمَةِ قَوْمَ مَوْقِعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ فَلَمْ يَقُلْ: ائْتِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدَيٍّ لَا أَبَا لَكُمْ لَا يلفينّكم فِي سوأة عُمَرُ
وَالظُّلْمُ يَعُمُّ أَنْوَاعَهُ، فَمِنْهَا ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَمِنْهَا ظُلْمُهُمُ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ إِذِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاضْطَهَدُوهُمْ، وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ مِرَارًا فِي ضِدِّ الْعَدْلِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي الْبَقَرَةِ [١١٤]، وَبِمَعْنَى الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ فِي الْأَنْعَامِ [٨٢].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ عَدَلَ هُنَا عَنْ ذِكْرِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ نِدَاءُ مُوسَى مِمَّا هُوَ فِي سُورَةِ طه [١٢- ٢٣] بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا هُوَ شَرْحُ دَعْوَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَإِعْرَاضُهُمْ لِلِاتِّعَاظِ بِعَاقِبَتِهِمْ. وَأَمَّا مَقَامُ مَا فِي سُورَةِ طه فَلِبَيَانِ كَرَامَةِ مُوسَى عِنْدَ رَبِّهِ وَرِسَالَتِهِ مَعًا فَكَانَ مَقَامَ إِطْنَابٍ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ ذَهَابُهُ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا إِيجَازٌ يبيّنه قَوْله: أْتِيا
فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: ١٦] إِلَى آخِرِهِ.
وَجُمْلَةُ: أَلا يَتَّقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَيْهِمْ لِدَعْوَتِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالظَّالِمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُثِيرًا لِسُؤَالٍ فِي نَفْسِ مُوسَى عَنْ مَدَى ظُلْمِهِمْ فَجِيءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَغُّلِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَدَوَامِهِمْ عَلَيْهِ تَقْوِيَةً لِلْبَاعِثِ لِمُوسَى عَلَى بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي الدَّعْوَةِ وَتَهْيِئَةً لِتَلَقِّيهِ تكذيبهم بِدُونِ مفاجأة، فَيَكُونُ أَلا مِنْ قَوْلِهِ: أَلا يَتَّقُونَ مُرَكَّبًا مِنْ حَرْفَيْنِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَ (لَا) النَّافِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ تَقْوَاهُمْ، وَتَعْجِيبِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ فِيهِمْ وَقَدْ عَلِمَ مَظَالِمَهُمْ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ وَقَتْلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ....
104
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلَا كَلِمَةً وَاحِدَةً هِيَ أَدَاةُ الْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ:
أَلا يَتَّقُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ ائْتِ. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ: أَلَا تَتَّقُونَ. فَحَكَى مَقَالَتَهُ بِمَعْنَاهَا لَا بِلَفْظِهَا. وَذَلِكَ وَاسْعٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: ١١٧] فَإِنَّ جُمْلَةَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مُفَسِّرَةٌ لِجُمْلَةِ أَمَرْتَنِي. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّ مُوسَى وَرَبَّهُمْ، فَحَكَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ بِالْمَعْنَى. وَهَذَا الْعَرْضُ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [١٨] فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى.
وَالِاتِّقَاءُ: الْخَوْفُ وَالْحَذَرُ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ يَتَّقُونَ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَلَا يَتَّقُونَ عَوَاقِبَ ظُلْمِهِمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٦].
وَيَعْلَمُ مُوسَى مِنْ إِجْرَاءِ وَصْفِ الظُّلْمِ وَعَدَمِ التَّقْوَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي مَعْرِضِ أَمْرِهِ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَعْوَتَهُمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ وَإِلَى التَّقْوَى.
وَذِكْرُ مُوسَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [٥١]. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ فِرْعَوْنَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي الْأَعْرَاف [١٠٣].
[١٢- ١٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
افْتِتَاحُ مُرَاجَعَتِهِ بِنِدَاءِ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَيْهِ تَحْنِينٌ وَاسْتِسْلَامٌ. وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ
يُكَذِّبُوهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَتَلَقَّاهَا الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالتَّكْذِيبِ، وَجَعَلَ نَفْسَهُ خَائِفًا مِنَ التَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ لَمَّا خُلِعَتْ عَلَيْهِ الرِّسَالَةُ عَنِ اللَّهِ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ الْحِرْصُ عَلَى نَجَاحِ رِسَالَتِهِ فَكَانَ تَكْذِيبُهُ فِيهَا مَخُوفًا مِنْهُ.
ويَضِيقُ صَدْرِي قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى أَخافُ
105
أَوْ تَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ فَتَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً، أَيْ وَالْحَالُ يَضِيقُ سَاعَتَئِذٍ صَدْرِي مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ.
وَالضِّيقُ: ضِدُّ السِّعَةِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْغَضَبِ وَالْكَمَدِ لِأَنَّ مَنْ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ انْفِعَالٌ وَيَنْشَأُ عَنْهُ انْضِغَاطُ الْأَعْصَابِ فِي الصَّدْرِ وَالْقَلْبِ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِدْرَاكِ الْخَاصِّ عَلَى جَمْعِ الْأَعْصَابِ الْكَائِنِ بِالدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ الْمُدْرِكُ فَيُحِسُّ بِشِبْهِ امْتِلَاءٍ فِي الصَّدْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: ١٢٥] وَقَوْلِهِ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٢]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْسَفُ وَيَكْمَدُ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَيَجِيشُ فِي نَفْسِهِ رَوْمُ إِقْنَاعِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ إِذَا خَطَرَتْ فِي الْعَقْلِ نَشَأَ مِنْهَا إِعْدَادُ الْبَرَاهِينِ، وَفِي ذَلِكَ الْإِعْدَادِ تَكَلُّفٌ وَتَعَبٌ لِلْفِكْرِ فَإِذَا أَبَانَهَا أَحَسَّ بِارْتِيَاحٍ وَبِشِبْهِ السِّعَةِ فِي الصَّدْرِ فَسَمَّى ذَلِكَ شَرْحًا لِلصَّدْرِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ مُوسَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: ٢٥].
وَالِانْطِلَاقُ حَقِيقَتُهُ مُطَاوِعُ أَطْلَقَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الذَّهَابِ.
وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِفَصَاحَةِ اللِّسَانِ وَبَيَانِهِ فِي الْكَلَامِ، أَيْ يَنْحَبِسُ لِسَانِي فَلَا يُبَيِّنُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُحَاجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَعَطْفُهُ عَلَى يَضِيقُ صَدْرِي ينبىء بِأَنَّهُ أَرَادَ بِضِيقِ الصَّدْرِ تَكَاثُرَ خَوَاطِرِ الِاسْتِدْلَالِ، فِي نَفْسِهِ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوهُ لِيُقْنِعَهُمْ بِصِدْقِهِ حَتَّى يَحُسَّ كَأَنَّ صَدْرَهُ قَدِ امْتَلَأَ، وَالشَّأْنُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِمِقْدَارِ مَا يُفْصِحُ عَنْهُ صَاحِبُهُ مِنْ إِبْلَاغِهِ إِلَى السَّامِعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ فِي لِسَانِهِ حَبْسَةٌ وَعِيٌّ بَقِيَتِ الْخَوَاطِرُ مُتَلَجْلِجَةً فِي صَدْرِهِ. وَالْمَعْنَى:
وَيَضِيقُ صَدْرِي حِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَضِيقُ... وَلا يَنْطَلِقُ مَرْفُوعَيْنِ عطفا على فَأَخافُ وَلِذَلِكَ حَقَّقَهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ أَيْقَنَ بِحُصُولِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جِبِلِّيٌّ عِنْدَ تَلَقِّي التَّكْذِيبِ، وَلِأَنَّ أَمَانَةَ الرِّسَالَةِ وَالْحِرْصَ عَلَى تَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ يُحْدِثُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ انْحِبَاسُ لِسَانِهِ يَقِينًا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ التَّيَقُّنِ كَانَ فِعْلَا يَضِيقُ... وَلا يَنْطَلِقُ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مُحَقَّقٌ عِنْدَهُ وَهُوَ حُصُولُ الْخَوْفِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَكُونَا مَعْطُوفَيْنِ عَلَى يُكَذِّبُونِ الْمَخُوفِ مِنْهُ الْمُتَوَقَّعِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُحَقَّقَ الْحُصُولِ يَجْعَلُهُ أَحْرَى مِنَ الْمُتَوَقَّعِ.
106
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَيَضِيقُ... وَلَا يَنْطَلِقُ بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ عَطْفًا عَلَى يُكَذِّبُونِ، أَيْ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ وَلَا يَنْطَلِقَ لِسَانُهُ. قِيلَ كَانَتْ بِمُوسَى حُبْسَةٌ فِي لِسَانِهِ إِذَا تَكَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنَصُّلَ مِنَ الِاضْطِلَاعِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ الْعَظِيمِ وَلَكِنَّ الْقَصْدَ تَمْهِيدُ مَا فَرَّعَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ تَشْرِيكِ أَخِيهِ هَارُونَ مَعَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالْخَطَابَةِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي [الْقَصَص: ٣٤]. فَقَوْلُهُ هُنَا فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ مَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ هُنَا إِيجَازًا. وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ عِوَضًا عَنِّي.
وَإِنَّمَا سَأَلَ اللَّهَ الْإِرْسَالَ إِلَى هَارُونَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَنْ يُكَلِّمَ هَارُونَ كَمَا كَلَّمَهُ هُوَ لِأَنَّ هَارُونَ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَكَانِ الْمُنَاجَاةِ. وَالْمَعْنَى: فَأَرْسِلْ مَلَكًا بِالْوَحْيِ إِلَى هَارُونَ أَنْ يَكُونَ مَعِي.
وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ تَعْرِيضٌ بِسُؤَالِ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَأَنْ يَكْفِيَهُ شَرَّ عَدُوِّهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَصْرَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»
. وَالذَّنْبُ: الْجُرْمُ وَمُخَالَفَةُ الْوَاجِبِ فِي قَوَانِينِهِمْ. وَأُطْلِقَ الذَّنْبُ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فَإِنَّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ هُوَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ الْقَتِيلِ الَّذِي وَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، وَتَوَعَّدَهُ الْقِبْطُ إِنْ ظَفِرُوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ خَائِفًا، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَوَجُّهِهِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ. وَسَمَّاهُ ذَنْبًا بِحَسَبِ مَا فِي شَرْعِ الْقِبْطِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرْعٌ إِلَهِيٌّ فِي أَحْكَامِ قَتْلِ النَّفْسِ.
وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ ذَنْبًا لِأَنَّ قَتْلَ أَحَدٍ فِي غَيْرِ قِصَاصٍ وَلَا دِفَاعٍ عَنْ نَفْسِ الْمُدَافِعِ يُعْتَبَرُ جُرْمًا فِي قَوَانِينِ جَمَاعَاتِ الْبَشَرِ مِنْ عَهْدِ قَتْلِ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ، وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [١٥، ١٦] قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ جَعَلَهُ ذَنْبًا لَهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ لَيْسَ هَلَعًا وَفَرَقًا مِنَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَصْبَحَ فِي مَقَامِ الرِّسَالَةِ مَا كَانَ بِالَّذِي يُبَالِي أَنْ يَمُوتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ خَشِيَ الْعَائِقَ مِنْ
107
إِتْمَامِ مَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ لَهُ ثَوَابٌ جَزِيلٌ وَدَرَجَةٌ عُلْيَا.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ يَقْتُلُونِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٠].
وَذِكْرُ هَارُونَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٤٨].
[١٥- ١٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٧]
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧)
كَلَّا حَرْفُ إِبْطَالٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٩]. وَالْإِبْطَالُ لِقَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: ١٤]، أَيْ لَا يَقْتُلُونَكَ. وَفِي هَذَا الْإِبْطَالِ اسْتِجَابَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ التَّعْرِيضُ بِالدُّعَاءِ حِينَ قَالَ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: ١٤].
وَقَوْلُهُ: فَاذْهَبا بِآياتِنا تَفْرِيعٌ عَلَى مُفَادِ كَلِمَةِ كَلَّا. وَالْأَمْرُ لِمُوسَى أَنْ يَذْهَبَ هُوَ وَهَارُونُ يَقْتَضِي أَنَّ مُوسَى مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِ هَارُونَ ذَلِكَ فَكَانَ مُوسَى رَسُولًا إِلَى هَارُونَ بِالنُّبُوءَةِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى أَبْلَغَ أَخَاهُ هَارُون ذَلِك عِنْد مَا تَلَقَّاهُ فِي حُورِيبَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ أَنْ يَتَلَقَّاهُ، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مُصَاحِبَيْنِ لِآيَاتِنَا، وَهُوَ وَعْدٌ بِالتَّأْيِيدِ بِمُعْجِزَاتٍ تَظْهَرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَمِنَ الْآيَاتِ: الْعَصَا الَّتِي انْقَلَبَتْ حَيَّةً عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، وَكَذَلِكَ بَيَاضُ يَدِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ طه [١٧] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى الْآيَاتِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ أَمْرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ يُثِيرُ فِي النَّفْسِ أَنْ يَتَعَامَى فِرْعَوْنُ عَنِ الْآيَاتِ وَلَا يَرْعَوِيَ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا عَنْ إِلْحَاقِ أَذًى بِهِمَا فَأُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ مَعَهُمَا وَمُسْتَمِعٌ لِكَلَامِهِمَا وَمَا يُجِيبُ فِرْعَوْنُ بِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِهْمَالِ تَأْيِيدِهِمَا وَكَفِّ فِرْعَوْنَ عَنْ أَذَاهُمَا. فَضَمِيرُ مَعَكُمْ عَائِدٌِِِِ
108
إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ عِلْمٍ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا [المجادلة:
٧].
ومُسْتَمِعُونَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ (سَامِعُونَ) لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِمَاعِ أَنَّهُ تَكَلُّفُ السَّمَاعِ وَالتَّكَلُّفُ كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِنَاءِ، فَأُرِيدَ هَنَا عِلْمٌ خَاصٌّ بِمَا يجْرِي بَينهَا وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تُوَافِقُهُ الْعِنَايَةُ وَاللُّطْفُ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: بِآياتِنا وَقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ تَأْكِيدٌ لِلطَّمْأَنَةِ وَرِبَاطَةٌ لِجَأْشِهِمَا.
وَالرَّسُولُ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، أَيْ مُرْسَلٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مُطَابَقَةُ مَوْصُوفِهِ، بِخِلَافِ فَعُولٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَحَقُّهُ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ سَمَاعًا، وَفَعُولٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ قَلِيلٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمِنْهُ: بَقَرَةٌ ذَلُولٌ، وَقَوْلُهُمْ: صَبُوحٌ، لِمَا يُشْرَبُ فِي الصَّبَاحِ، وَغَبُوقٌ، لِمَا يُشْرَبُ فِي الْعَشِيِّ، وَالنَّشُوقُ، لِمَا يُنَشَّقُ مِنْ دَوَاءٍ وَنَحْوِهِ. وَلَكِنْ رَسُولٌ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْمَصْدَرِ فَلَا يُطَابِقُ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِي تَأْنِيثٍ وَمَا عَدَا الْإِفْرَادَ، وَوَرَدَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْوَجْهَيْنِ تَارَةً مُلَازِمًا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَرَدَ مُطَابِقًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فِي سُورَةِ طه [٤٧]، فَذَهَبَ الْجَوْهَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ كَوْنِهِ اسْمًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَبَيْنَ كَوْنِهِ اسْمَ مَصْدَرٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَصْدَرًا إِذْ لَا يُعْرَفُ فَعُولٌ مَصْدَرًا لِغَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الْأَشْعَرِ الْجُعْفِيِّ:
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ
(الْفُتَاحَةُ: الْحُكْمُ). وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ قَالَ: الرَّسُولُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ وَبِمَعْنَى الرِّسَالَةِ فَجُعَلَ ثَمَّ (أَيْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فِي سُورَةِ طَه [٤٧] ) بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ، وَجُعَلَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبِ الْهُذَلِيُّ:
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرِ
فَهَلْ مِنْ رِيبَةٍ فِي أَنَّ ضَمِيرَ الرَّسُولِ فِي الْبَيْتِ مُرَادٌ بِهِ الْمُرْسَلُونَ. وَتَصْرِيحُ النُّحَاةِ بِأَنَّ فَعُولًا الَّذِي بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى حَالَةِ الْمُتَّصِفِ بِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: نَاقَةٌ رَكُوبَةٌ وَرُكُوبٌ، يَقْتَضِي أَنَّ التَّثْنِيَةَ وَالْجَمْعَ فِيهِِِِِِِ
109
مِثْلُ التَّأْنِيثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي سُورَةِ طه وَأَحَلْنَا تَحْقِيقَهُ عَلَى مَا هُنَا.
وَمُبَادَأَةُ خِطَابِهِمَا فِرْعَوْنَ بِأَنْ وَصَفَا اللَّهَ بِصِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُجَابَهَةٌ لِفِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ وَلَيْسَ بِرَبٍّ، وَإِثْبَاتُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ. وَالنَّفْيُ يَقْتَضِي وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمِينَ شَامِلٌ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ فَيَشْمَلُ مَعْبُودَاتِ الْقِبْطِ كَالشَّمْسِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ يَوْمَئِذٍ.
وَجُمْلَةُ: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ تَفْسِيرِيَّةٌ لما تضمنه سُولُ
مِنَ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ هَذَا قَوْلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَ. وأَرْسِلْ مَعَنا أَطْلِقْ وَلَا تَحْبِسْهُمْ، فَالْإِرْسَالُ هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى التَّوْجِيهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مُوسَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بِلَادِ الْفَرَاعِنَةِ لِقَصْدِ تَحْرِيرِهِمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْمِصْرِيِّينَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ٢٢]، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ أَسْبَابِ سُكْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَرْضِ مِصْرَ وَمَوَاطِنِهِمْ بِهَا وعملهم لفرعون.
[١٨، ١٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
طُوِيَ مِنَ الْكَلَامِ ذَهَابُ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَاسْتِئْذَانُهُمَا عَلَيْهِ وَإِبْلَاغُهُمَا مَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ إِيجَازًا لِلْكَلَامِ. وَوَجَّهَ فِرْعَوْنُ خِطَابَهُ إِلَى مُوسَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ تَفْصِيلِ كَلَامِ مُوسَى وَهَارُونَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الرَّسُولُ بِالْأَصَالَةِ وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ عَوْنًا لَهُ عَلَى التَّبْلِيغِ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْكَلَامِ مَعَ هَارُونَ. وَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنِ الِاعْتِنَاءِ بِإِبْطَالِ دَعْوَةِ مُوسَى فَعَدَلَ إِلَى تَذْكِيرِهِ بِنِعْمَةِ الْفَرَاعِنَةِ أَسْلَافِهِ عَلَى مُوسَى وَتَخْوِيفِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ حُسْبَانَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَلِعُ الدَّعْوَةَ مِنْ جَذْمِهَا وَيَكُفُّ مُوسَى عَنْهَا، وَقَصْدُهُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ إِفْحَامُ مُوسَى كَيْ يَتَلَعْثَمَ مِنْ خَشْيَةِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أَوْجَدَ لَهُ سَبَبًا يَتَذَرَّعُ بِهِ إِلَى قَتْلِهِ وَيَكُونُ مَعْذُورًا فِيهِ حَيْثُ كَفَرَ نِعْمَةَ الْوِلَايَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، وَاقْتَرَفَ جُرْمَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَنْفُسِ.
110
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَجُعِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ التَّرْبِيَةِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِقْرَارُ بِوُقُوعِ التَّرْبِيَةِ مُجَارَاةً لِحَالِ مُوسَى فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ إِذْ رَأَى فِي هَذَا الْكَلَامِ جُرْأَةً عَلَيْهِ لَا تُنَاسِبُ حَالَ مَنْ هُوَ مَمْنُونٌ لِأُسْرَتِهِ بِالتَّرْبِيَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ وَالْبِرَّ، فَكَأَنَّهُ يُرْخِي لَهُ الْعِنَان بِتَلْقِينِ أَنْ يَجْحَدَ أَنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ حَتَّى إِذَا أَقَرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ كَانَ الْإِقْرَارُ سَالِمًا مِنَ التَّعَلُّلِ بِخَوْفٍ أَوْ ضَغْطٍ، فَهَذَا وَجْهُ تَسْلِيطِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ عَلَى النَّفْيِ فِي حِينِ أَنَّ الْمُقَرَّرَ بِهِ ثَابِتٌ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي طَالَ عَهْدُكَ بِرُؤْيَتِهِ: أَلَسْتَ فُلَانًا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ يُهَدِّدُ الْخَوَارِجَ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ».
وَالتَّقْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ الْمُقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالْبِرِّ وَالطَّاعَةِ لَا بِالْجَفَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الِاسْتِفْهَام إِنْكَارِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ لِسَانَ حَالِ مُوسَى فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ حَالُ مَنْ يَجْحَدُ أَنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ وَمَنْ يُظَنُّ نِسْيَانُهُمْ لِفَعْلَتِهِ فَأَنْكَرَ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكِلَّا الْوَجْهَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ تَنْزِيلِ مُوسَى مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْحَدُ ذَلِكَ.
وَالتَّرْبِيَةُ: كَفَالَةُ الصَّبِي وتدبير شؤونه. وَمَعْنَى فِينا فِي عَائِلَتِنَا، أَيْ عَائِلَةِ مَلِكِ مِصْرَ. وَالْوَلِيدُ: الطِّفْلُ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ وَمَا يُقَارِبُهَا فَإِذَا نَمَى لَمْ يُسَمَّ وَلِيدًا وَسُمِّي طِفْلًا، وَيَعْنِي بِذَلِكَ الْتِقَاطَهُ مِنْ نَهْرِ النِّيلِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى رُبِّيَ عِنْدَ (رَعَمْسِيسَ الثَّانِي) مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عَائِلَاتِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ حَسَبَ تَرْتِيبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ.
وَخَرَجَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ وَعُمُرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى
آتَيْنَاهُ حُكْمًا إِلَى قَوْلِهِ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ [الْقَصَص: ١٤، ١٥] الْآيَةَ وَبُعِثَ وَعُمُرُهُ ثَمَانُونَ سَنَةً حَسْبَمَا فِي التَّوْرَاةِ (١). وَكَانَ فِرْعَوْنُ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ مُوسَى هُوَ (مِنْفِتَاحُ الثَّانِي ابْن رَعْمَسِيسَ الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي خَلَفَهُ فِي الْمُلْكِ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوَاسِطَ الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُوسَى مُرَبَّى وَالِدِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا، وَلَعَلَّهُ رُبِّيَ مَعَ فِرْعَوْنَ هَذَا كالأخ.
والسنين الَّتِي لَبِثَهَا مُوسَى فِيهِمْ هِيَ نَحْوُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
_________
(١) انْظُر الإصحاح السَّابِع من سفر الْخُرُوج.
111
وَالْفَعْلَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَرَادَ بِهَا الْحَاصِلَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا اقْتَضَتْهُ إِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، وَأَرَادَ بِالْفَعْلَةِ قَتْلَهُ الْقِبْطِيَّ، قِيلَ هُوَ خَبَّازُ فِرْعَوْنَ. وَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْمَوْصُولِ لِعِلْمِ مُوسَى بِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ لِلْفَعْلَةِ يُكَنَّى بِهِ عَنْ تَذْكِيرِهِ بِمَا يُوجِبُ تَوْبِيخَهُ.
وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ فَعْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَى ذِكْرِهَا مُبْهَمَةً مُضَافَةً إِلَى ضَمِيرِهِ ثُمَّ وَصْفِهَا بِمَا لَا يَزِيدُ عَلَى مَعْنَى الْمَوْصُوفِ تَهْوِيلٌ مُرَادٌ بِهِ التَّفْظِيعُ وَأَنَّهَا مُشْتَهِرَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعَ تَحْقِيقِ إِلْصَاقِ تَبِعَتِهَا بِهِ حَتَّى لَا يَجِدَ تَنَصُّلًا مِنْهَا.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَعَلْتَ. وَالْمُرَادُ بِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ حَيْثُ اعْتَدَى عَلَى أَحَدِ خَاصَّتِهِ وَمَوَالِي آلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ انْتِصَارًا لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَعُدُّونَهُمْ عَبِيدَ فِرْعَوْنَ وَعَبِيدَ قَوْمِهِ، فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ انْتِصَارَ مُوسَى لِرَجُلٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ كُفْرَانًا لِنِعْمَةِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ يَرَى وَاجِبَ مُوسَى أَنْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَلَا ينتصر لإسرائيلي، وَفِي هَذَا إِعْمَالُ أَحْكَامِ التَّبَنِّي وَإِهْمَالُ أَحْكَامِ النَّسَبِ وَهُوَ قَلْبُ حَقَائِقَ وَفَسَادُ وَضْعٍ. قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الْأَحْزَاب: ٤]. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرَ بِدِيَانَةِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ يَوْمَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ مُتَظَاهِرًا بِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ دِينِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي بَاطِنِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكُفْرِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ وَبَعْدَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ عَطْفًا عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الَّتِي هِيَ تَوْبِيخٌ وَلَوْمٌ، فَوَبَّخَهُ عَلَى تَقَدُّمِ رَعْيِهِ تَرْبِيَتَهُمْ إِيَّاهُ فِيمَا مَضَى، ثُمَّ وَبَّخَهُ عَلَى كَوْنِهِ كَافِرًا بِدِينِهِمْ فِي الْحَالِ، لِأَن قَوْلَهُ: مِنَ الْكافِرِينَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ إِذْ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ وَاسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَنْتَ حِينَئِذٍ مِنَ الْكَافِرِينَ بِدِينِنَا، اسْتِنَادًا مِنْهُ إِلَى مَا بَدَا مِنْ قَرَائِنَ دَلَّتْهُ عَلَى اسْتِخْفَافِ مُوسَى بِدِينِهِمْ فِيمَا مَضَى لِأَنَّ دِينَهُمْ يَقْتَضِي الْإِخْلَاصَ لِفِرْعَوْنَ وَإِهَانَةَ مَنْ يُهِينُهُمْ فِرْعَوْنُ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي عَزْمِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ كَانَ مَصْحُوبًا بِاسْتِخْفَافٍ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.
112
وَيُفِيدُ الْكَلَامُ بِحَذَافِرِهِ تَعَجُّبًا مِنِ انْتِصَابِ مُوسَى مَنْصِبَ الْمُرْشِدِ مَعَ مَا اقْتَرَفَهُ مِنَ النَّقَائِصِ فِي نَظَرِ فِرْعَوْنَ الْمُنَافِيَةِ لِدَعْوَى كَوْنِهِ رَسُولًا من الربّ.
[٢٠- ٢٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢٢]
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
كَانَتْ رِبَاطَةُ جَأْشِ مُوسَى وَتَوَكُّلُهُ عَلَى رَبِّهِ بَاعِثَةً لَهُ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْفَعْلَةِ وَذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنْهَا مِنْ خَيْرٍ لَهُ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ حَمِدَ أَثَرَهَا وَإِنْ كَانَ قَدِ اقْتَرَفَهَا غَيْرَ مُقَدِّرٍ مَا جَرَّتْهُ إِلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ فَابْتَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِفَعْلَتِهِ لِيَعْلَمَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِكَلَامِهِ مَدْخَلَ تَأْثِيرٍ فِي نَفْسِ مُوسَى. وَأَخَّرَ مُوسَى الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١٨] لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِقْصَارُ مِنْ مُوَاجَهَتِهِ بِأَنَّ رَبًّا أَعْلَى مِنْ فِرْعَوْنَ أَرْسَلَ مُوسَى إِلَيْهِ. وَابْتَدَأَ بِالْجَوَابِ عَنِ الْأَهَمِّ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ [الشُّعَرَاء: ١٩] لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ أَدْخَلُ فِي قَصْدِ الْإِفْحَامِ، وَلِيُظْهِرَ لِفِرْعَوْنَ أَنَّهُ لَا يَوْجَلُ مِنْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِذَحْلِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ ثِقَةً بِأَنَّ اللَّهَ يُنْجِيهِ مِنْ عُدْوَانِهِمْ.
وَكَلِمَةُ إِذاً هُنَا حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، فَنُونُهُ السَّاكِنَةُ لَيْسَتْ تَنْوِينًا بَلْ حَرْفًا أَصْلِيًّا لِلْكَلِمَةِ، وَقَدَّمَ فَعَلْتُها عَلَى (إِذَنْ) مُبَادَرَةً بِالْإِقْرَارِ لِيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ خَشْيَتِهِ مِنْ هَذَا الْإِقْرَارِ. وَمَعْنَى الْمُجَازَاةِ هُنَا مَا بَيَّنَهُ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ [الشُّعَرَاء: ١٩] يَتَضَمَّنُ مَعْنَى جَازَيْتَ نِعْمَتَنَا بِمَا فَعَلْتَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: نَعَمْ فَعَلْتُهَا مُجَازِيًا لَكَ، تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ، لِأَنَّ نِعْمَتَهُ كَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُجَازَى بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ. وَهَذَا أَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ:
إِذاً ظَرْفٌ مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ مُؤْثَرًا فِيهِ الْفَتْحُ عَلَى الْكَسْرِ لِخِفَّتِهِ وَكَثْرَةِ الدَّوَرَانِ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِبَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ رَضِيَّ الدِّينِ الْإِسْتِرَابَادِيَّ فِي «شَرْحِ الْكَافِيَةِ الْحَاجِبِيَّةِ» فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الظُّرُوفِ: وَالْحَقُّ أَنَّ (إِذْ) إِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مِنْهُ وَأُبَدِلَ مِنْهُ التَّنْوِينُ فِي غَيْرِ نَحْوِ يَوْمِئِذٍ، جَازَ فَتْحُهُ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أَيْ فَعَلْتُهَا إِذْ
رَبَّيْتَنِي،
113
إِذْ لَا مَعْنَى لِلْجَزَاءِ هَاهُنَا اه. فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِ فَعَلْتُها مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا لِدَلَالَةِ الْعَامِلِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَعَلْتُهَا زَمَنًا فَعَلْتُهَا، فَتَذْكِيرِي بِهَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا جَدْوَى لَهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي إِذاً فِي الْآيَةِ هُوَ مُخْتَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ (١) وَالرَّضِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَاجِبِيَّةِ» وَالدَّمَامِينِيِّ فِي «الْمَزْجِ عَلَى الْمُغْنِي»، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَزْوِينِيِّ فِي «الْكَشْفِ عَلَى الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يَخْتَارُهُ.
وَمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَعَلْتُها إِذاً أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشُّعَرَاء: ١٩] قصد بِهِ إِفْحَامُ مُوسَى وَتَهْدِيدُهُ، فَجَعَلَ مُوسَى الِاعْتِرَافَ بِالْفَعْلَةِ جَزَاءً لِذَلِكَ التَّهْدِيدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ لَا أَتَهَيَّبُ مَا أَرَدْتَ.
وَجَعَلَ مُوسَى نَفْسَهُ مِنَ الضَّالِّينَ إِنْ كَانَ مُرَادُ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَتِ الْآيَةُ مَعْنَاهُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورَ لِلضَّلَالِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ ضَلَالُ الْفَسَادِ فَيَكُونُ مُرَادُهُ: أَنَّ سَوْرَةَ الْغَضَبِ أَغْفَلَتْهُ عَنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرِيعَةٌ (فَإِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ شَرَائِعُ الْبَشَرِ وَتَوَارَثُوهُ فِي الْفِتَرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: ١٦] ) وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَعْنَى ضَلَالِ الطَّرِيقِ، أَيْ كُنْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالْحَقِّ لِعَدَمِ وُجُودِ شَرِيعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْجَهَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضُّحَى: ٧] فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَجَوَابُ مُوسَى فِيهِ اعْتِرَافٌ بِظَاهِرِ التَّقْرِيرِ وَإِبْطَالٌ لِمَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنْ جَعْلِهِ حُجَّةً لِتَكْذِيبِهِ بِرِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩] بِقَوْلِهِ: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ إِبْطَالًا لِأَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا أَهَمَّ بِالْإِبْطَالِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ فَكَانَ فِرَارِي قَدْ عَقِبَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيَّ فَأَصْلَحَ حَالِي وَعَلَّمَنِي وَهَدَانِي وَأَرْسَلَنِي. فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُوسَى مُجَرَّدَ إِطْنَابٍ بَلْ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ ابْنُ يَوْمِهِ لَا ابْنُ أَمْسِهِ، وَالْأَحْوَالُ بِأَوَاخِرِهَا فَلَا عَجَبَ فِيمَا قَصَدْتُ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ.
_________
(١) إِذْ قَالَ: «وَقَوله: إِذاً صلَة فِي الْكَلَام وَكَأَنَّهَا بِمَعْنى حِينَئِذٍ» يُرِيد أَن (إِذن) تَأْكِيد دَالَّة على الزَّمَان وَقد اسْتُفِيدَ الزَّمَان من قَوْله: فَعَلْتُها أَي يَوْمئِذٍ. [.....]
114
وَقَوْلُهُ: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أَيْ فِرَارًا مُبْتَدِئًا مِنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ سَبَبُ فِرَارِهِ، وَهُوَ بِتَقْدِيرِ
مُضَافٍ، أَيْ مِنْ خَوْفِكُمْ. وَالضَّمِيرُ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ ائْتَمَرُوا عَلَى قَتْلِ مُوسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [الْقَصَص: ٢٠]. وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ، وَأَرَادَ بِهَا النُّبُوءَةَ وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى حِينَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ. ثُمَّ قَالَ: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَيْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ لَهُ الْمُعْجِزَةَ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١٤٤] أَرْسَلَهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه:
٢٤].
ثُمَّ عَادَ إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ فَكَّرَ عَلَى امْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ فَأَبْطَلَهُ وَأَبَى أَنْ يُسَمِّيَهُ نِعْمَةً، فَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الِامْتِنَانُ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ إِذِ الِامْتِنَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنِعْمَةٍ.
ثُمَّ إِنْ جُعِلَتْ جُمْلَةُ أَنْ عَبَّدْتَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ كَانَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْمَعْنَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ مَقْصُودِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحجر: ٦٦] إِذْ قَوْلُهُ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: ذلِكَ الْأَمْرَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ عَبَّدْتَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَالتَّقْدِيرِ: لِأَنَّ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقِيلَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَمَعْنَى عَبَّدْتَ ذَلَّلْتَ، يُقَالُ: عَبَّدَ كَمَا يُقَالُ: أَعْبَدَ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. أَنْشَدَ أَيِمَّةُ اللُّغَةِ:
حَتَّامَ يُعْبِدْنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِمْ آبَاعِرُ مَا شَاءُوا وَعُبْدَانُ
وَكَلَامُ مُوسَى عَلَى التَّقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ نَقْضٌ لِامْتِنَانِ فِرْعَوْنَ بِقَلْبِ النِّعْمَةِ نِقْمَةً بِتَذْكِيرِهِ أَنَّ نِعْمَةَ تَرْبِيَتِهِ مَا كَانَتْ إِلَّا بِسَبَبِ إِذْلَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِاسْتِئْصَالِ أَطْفَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ أُمِّ مُوسَى بِطِفْلِهَا فِي الْيَمِّ حَيْثُ عَثَرَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ حَاشِيَتِهَا وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ أَطْفَالِ إِسْرَائِيلَ بِسِمَاتِ وَجْهِهِ وَلَوْنِ جِلْدِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ امْرَأَة فِرْعَوْن قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: ٩]. وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ مَعَ الْإِسَاءَةِ إِلَى قَوْمِهِ لَا يَزِيدُ إِحْسَانًا وَلَا منَّة.
115

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٤]

قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)
لَمَّا لَمْ يَرُجْ تَهْوِيلُهُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقْلِعٍ عَنْ دَعْوَتِهِ- تَنْفِيذًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ- ثَنَى عَنَانَ جِدَالِهِ إِلَى تِلْكَ الدَّعْوَةِ فَاسْتَفْهَمَ عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُونُ أَنَّهُمَا مُرْسَلَانِ مِنْهُ إِذْ قَالَا: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: ١٦] وَإِظْهَارُ اسْمِ فِرْعَوْنَ مَعَ أَنَّ طَرِيقَةَ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَةِ يُكْتَفَى فِيهَا بِضَمِيرِ الْقَائِلِينَ بِطَرِيقَةِ قَالَ قَالَ، أَوْ قَالَ فَقَالَ، فَعَدَلَ عَنْ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ إِلَى إِظْهَارِ اسْمِهِ لِإِيضَاحِ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ هَذَا وَقَوْلِهِ الْآخَرِ.
وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ الَّذِي وَقَعَ كَلَامُ مُوسَى فَاصِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ.
وَحَرْفُ مَا الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلسُّؤَالِ عَنْ حَقِيقَةِ الِاسْمِ بَعْدَهُ الَّتِي تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ يُسْأَلُ بِهَا عَنْ تَعْيِينِ الْقَبِيلَةِ،
فَفِي حَدِيثِ الْوُفُودِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: «مَا أَنْتُمْ»
، فَفِرْعَوْنُ سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبْيِينَ حَقِيقَةِ هَذَا الَّذِي وَصفه بِأَنَّهُ بِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: ١٦]، فَقَدْ كَانَتْ عَقَائِدُ الْقِبْطِ تُثْبِتُ آلِهَةً مُتَفَرِّقَةً قَدِ اقْتَسَمَتِ التَّصَرُّفَ فِي عَنَاصِرِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ، وَتِلْكَ الْعَنَاصِرُ هِيَ الْعَالَمُونَ وَلَا يَدِينُونَ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ الْمُتَصَرِّفَةِ يُنَافِي وَحْدَانِيَّةَ التَّصَرُّفِ، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى إِثْبَاتَ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُرِعَ سَمْعُهُ بِمَا لَمْ يَأْلَفْهُ مِنْ قَبْلُ لِاقْتِضَائِهِ إِثْبَاتَ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَانْتِفَاءَ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْآلِهَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الْمُجْتَبَى مِنَ الْآلِهَةِ لِيَكُونَ مَلِكَ مِصْرَ. فَهُوَ مُظْهِرُ الْآلِهَةِ الْأُخْرَى فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: ٥١]. وَبِهَذَا الِانْتِسَابِ إِلَى الْآلِهَةِ وَتَمْثِيلِهِ إِرَادَتِهِمْ فِي الْأَرْضِ كَانَ فِرْعَوْنُ يُدْعَى إِلَهًا.
وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ يَوْمَئِذٍ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا عَدَا أَنْفُسَهَا فَكَانُوا لَا يُفَكِّرُونَ فِي مُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَعَوَائِدِ الْبَشَرِ. وَلَا تَشْعُرُ كُلُّ أُمَّةٍ إِلَّا بِنَفْسِهَا وَخَصَائِصِهَا مِنْ آلِهَتِهَا وَمُلُوكِهَا فَكَانَ الْمَلِكُ لَا يُشِيعُ فِي أُمَّتِهِ غَيْرَ قُوَّتِهِ وَانْتِصَارِهِ عَلَى الثَّائِرِينَ، وَيُخَيِّلُ لِلنَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ مُنْحَصِرٌ فِي تِلْكَ الرُّقْعَةِ مِنَ الْأَرْضِ. فَلَا تَجِدُ فِي آثَارِ الْقِبْطِ
116
صُوَرًا لِلْأُمَمِ غَيْرَ صُوَرِ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ يَغْزُوهُمْ فِرْعَوْنُ وَيَأْتِي بِأَسْرَاهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ خَاضِعِينَ عَابِدِينَ حَتَّى يُخَيِّلَ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ أُولَئِكَ فَقَدْ كَانَ قَهَّارَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَيُخْفِي أَخْبَارَ انْكِسَارِهِ إِلَّا إِذَا لَحِقَهُ غَلَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أُمَّةٍ كُبْرَى بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ إِخْفَاءَهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ أُسْلُوبُ التَّارِيخِ عِنْدَهُمْ وَتَنْتَحِلُ الدَّوْلَةُ الْجَدِيدَةُ أَسَالِيبَ الدَّوْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَتَنْسَى حَوَادِثَ الْمَاضِي وَتَغْلِبُ عَلَى
مُخَيَّلَاتِهِمُ الْحَالَةُ الْحَاضِرَةُ، وَلِلدُّعَاةِ وَالْمُرَوِّجِينَ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ بَاعِثُ فِرْعَوْنَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَشُوبٌ بِتَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَنَّ الِاسْتِفْسَارَ مُقَدَّمٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ فِرْعَوْنُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقِيقَةِ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانًا لِحَقِيقَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا يَصِيرُ وَصْفُهُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ، فَأَتَى بِشَرْحِ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِمَعْنَاهُ، إِذْ قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، فبذكر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَبِعُمُومِ مَا بَيْنَهُمَا حَصَلَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِ مَا وَمَرْجِعُ هَذَا الْبَيَانِ إِلَى أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِحَقِيقَةِ الرَّبِّ بِخَصَائِصِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْعُقُولُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَنْ يُعْرَفَ بِآثَارِ خَلْقِهِ، فَهُوَ تَعْرِيفٌ رَسْمِيٌّ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ.
وَانْتَظَمَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ مَا عَنِ الْجِنْسِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَارُ السَّكَّاكِيِّ فِي قَانُونِ الطَّلَبِ مِنْ كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ»، وَطَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ تَمَامَ الْمُطَابَقَةِ.
وَأَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَرَّحَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» بِأَنَّ جَوَابَ مُوسَى بِمَا يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ رَبُّ الْعالَمِينَ تَضَمَّنَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ثَبَاتِ الْخَالِقِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا نَظَرًا يُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَلِهَذَا أَتْبَعَ بَيَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، أَي إِن كُنْتُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيقَانِ طَالِبِينَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ مُكَابِرِينَ. وَسُمِّيَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إِيقَانًا لِأَنَّ شَأْنَ الْيَقِينِ
117
بِأَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ الْإِلَهُ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي كُنْتُمْ مُوقِنِينَ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ حَاضِرِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، أَرَادَ مُوسَى تَشْرِيكَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ تَقَصِّيًا لِكَمَالِ الدَّعْوَةِ وَأَنَّ مُؤَاخَذَةَ الْقَائِلِ لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ اتِّضَاحِ مُرَادِهِ مِنْ مَقَالِهِ إِذْ لَا يُؤَاخذ بالمجملات. وَمِنْ هَذَا قَالَ سَحْنُونٌ فِيمَنْ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَسْتَلْزِمُ كُفْرًا: إِنَّهُ يُحْضَرُ وَيُوقَفُ عَلَى لَازِمِ قَوْلِهِ فَإِنْ فَهِمَهُ وَالْتَزَمَ مَا يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ
مُرْتَدًّا وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بعد ذَلِك.
[٢٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٥]
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)
أَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنْ خِطَابِ مُوسَى وَاسْتَثَارَ نُفُوسَ الْمَلَأِ مِنْ حَوْلِهِ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِهِ فَاسْتَفْهَمَهُمُ اسْتِفْهَامَ تَعَجُّبٍ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ لَمْ يَسْتَمِعُوا مَا قَالَهُ مُوسَى فَنَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْهُ تَهْيِيجًا لِنُفُوسِهِمْ كَيْ لَا تَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ حُجَّةُ مُوسَى، فَسَلَّطَ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى نَفْيِ اسْتِمَاعِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِ اسْتِمَاعِهِمْ وَسُكُوتِهِمْ يَقْتَضِي التَّعَجُّبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعَجُّبٍ آخَرَ. وَمَرْجِعُ التعَجُّبَيْنِ أَنَّ إِثْبَاتَ رَبٍّ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْكَرٌ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا فَيَرَى تَوْحِيدَ الْإِلَهِ لَا يَصِحُّ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، وَلِكَوْنِ خِطَابِ فِرْعَوْنَ لِمَنْ حَوْلُهُ يَتَضَمَّنُ جَوَابًا عَنْ كَلَامِ مُوسَى حُكِيَ كَلَامُ فِرْعَوْنَ بِالصِّيغَةِ الَّتِي اعْتِيدَتْ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةُ الْمُقَاوَلَاتِ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، كَأَنَّهُ يُجِيبُ مُوسَى عَن كَلَامه.
[٢٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٦]
قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦)
كَلَامُ مُوسَى هَذَا فِي مَعْرِضِ الْجَواب عَن تعجب فِرْعَوْنَ مِنْ سُكُوتِ مَنْ حَوْلَهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ حِكَايَتُهُ قَوْلَهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي تُحْكَى بِهَا الْمُقَاوَلَاتُ. وَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ إِعْرَاضٌ عَنْ مُخَاطَبَةِ مُوسَى إِذْ تَجَاوَزَهُ إِلَى مُخَاطَبَةِ مَنْ حَوْلَهُ، وَجَّهَ مُوسَى خِطَابَهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَإِذْ رَأَى مُوسَى أَنَّهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الِاقْتِنَاعِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ الْعَوَالِمَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ هُوَ أَوْسَعُ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ إِذْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
وَاحِدٌ، فَنَزَلَ بِهِمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْفُسِهِمْ وَبِآبَائِهِمْ إِذْ أَوْجَدَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ الْعَدَمِ ثُمَّ أَعْدَمَ آبَاءَهُمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ لِأَنَّ أَحْوَالَ أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ وَأَيْسَرُ اسْتِدْلَالًا عَلَى خَالِقِهِمْ، فَالِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ يَمْتَازُ بِالْعُمُومِ، وَالِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي يَمْتَازُ بِالْقُرْبِ مِنَ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُقَلَاء توهموا السَّمَوَات قَدِيمَةً وَاجِبَةَ الْوُجُودِ، فَأَمَّا آبَاؤُهُمْ فَكَثِيرٌ مِنَ السَّامِعِينَ شَهِدُوا انْعِدَامَ كَثِيرٍ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْقِدَمَ الدَّالِّ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَشَمِلَ عُمُومُ الْآبَاءَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ وَبِوَصْفِهِ بِالْأَوَّلِينَ بَعْضَ مَنْ يَزْعُمُونَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْآلِهَةِ مِثْلَ الْفَرَاعِنَةِ الْقُدَمَاءِ الْمُلَقَّبِينَ عِنْدَهُمْ بِأَبْنَاءِ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ مَعْدُودَةٌ فِي الْآلِهَةِ وَيُمَثِّلُهَا الصَّنَمُ «آمُونُ رَعْ».
وَالرَّبُّ: الْخَالِقُ وَالسَّيِّدُ بِمُوجب الخالقية.
[٢٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٧]
قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
احْتَدَّ فِرْعَوْنُ لَمَّا ذَكَرَ مُوسَى مَا يَشْمَلُ آبَاءَهُ الْمُقَدَّسِينَ بِذِكْرٍ يُخْرِجُهُمْ مِنْ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ زَاعِمًا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مختل الْإِدْرَاك، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِخَالِقِيَّتِهِمْ وَخَالِقِيَّةِ آبَائِهِمْ عَبَثٌ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ يَرَوْنَ تَكْوِينَ الْآدَمِيِّ بِالتَّوَلُّدِ وَهُمْ لَا يَحْسَبُونَ التَّكْوِينَ الدَّالَّ عَلَى الْخَالِقِيَّةِ إِلَّا التَّكْوِينَ بِالطَّفْرَةِ دُونَ التَّدْرِيجِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَةَ لَا تَتَفَطَّنُ إِلَى دَقَائِقِهَا الْعُقُولُ السَّاذَجَةُ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ تَكْوِينَ الْفَرْخِ مِنَ الْبَيْضَةِ أَقَلَّ مِنْ تَكْوِينِ الرَّعْدِ، وَأَنَّ تَكْوِينَ دُودَةِ الْقَزِّ أَدَلُّ عَلَى الْخَالِقِ مِنْ تَكْوِينِ الْآدَمِيَّ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ زَعَمَ أَنَّ ادِّعَاءَ دَلَالَةِ تَكْوِينِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَدَلَالَةِ فَنَاءِ الْآبَاءِ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ رَبِّ الْأَبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ ضَرْبًا مِنَ الْجُنُونِ إِذْ هُوَ تَكْوِينٌ لَمْ يَشْهَدُوا دَقَائِقَهُ، وَالْمَعْرُوفُ الْمَأْلُوفُ وِلَادَةُ الْأَجِنَّةِ وَمَوْتُ الْأَمْوَاتِ.
وَأَكَّدَ كَلَامَهُ بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ حَالَةَ مُوسَى لَا تُؤْذِنُ بِجُنُونِهِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْمَجْنُونِ مُعَرَّضًا لِلشَّكِّ فَلِذَلِكَ أَكَّدَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ يَعْنِي أَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِ مُوسَى مَا عَسَى أَنْ لَا يَعْلَمَهُ السَّامِعُونَ.
وَقَصَدَ بِإِطْلَاقِ وَصْفِ الرَّسُولِ عَلَى مُوسَى التَّهَكُّمَ بِهِ بِقَرِينَةِ رَمْيِهِ بِالْجُنُونِ الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ.
وَأَضَافَ الرَّسُولَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ رَبْئًا بِنَفْسِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالْخِطَابِ، وَأَكَّدَ التَّهَكُّمَ وَالرَّبْءَ بِوَصْفِهِ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ فَإِنَّ مَضْمُونَ الْمَوْصُولِ وَصِلَتَهُ هُوَ مَضْمُونُ رَسُولَكُمُ فَكَانَ ذِكْرُهُ كَالتَّأْكِيدِ، وَتَنْصِيصًا عَلَى الْمَقْصُودِ لِزِيَادَةِ تَهْيِيجِ السَّامِعِينَ كَيْلَا يَتَأَثَّرُوا أَوْ يَتَأَثَّرَ بَعْضُهُمْ بِصِدْقِ مُوسَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ يَتَهَيَّأُ لِإِعْدَادِ الْعُدَّةِ لِمُقَاوَمَةِ مُوسَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّ لَهُ قَوْمًا فِي مِصْرَ رُبَّمَا يستنصر بهم.
[٢٨]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٨]
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
لَمَّا رَأَى مُوسَى سُوءَ فَهْمِهِمْ وَعَدَمَ اقْتِنَاعِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِالتَّكْوِينِ الْمُعْتَادِ إِذِ الْتَبَسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ الْمُعْتَادُ بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا صَانِعَ لَهُ انْتَقَلَ مُوسَى إِلَى مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِجَحْدِهِ وَلَا الْتِبَاسِهِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ الْعَجِيبُ الْمُشَاهَدُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، كَمَا انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لَمَّا تَمَوَّهَ عَلَى النَّمْرُودِ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِيمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] فَكَانَتْ حُجَّةُ مُوسَى حُجَّةً خَلِيلِيَّةً.
وَالْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا مَكَانُ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَمَكَانُ غُرُوبِهَا فِي الْأُفُقِ، فَيَكُونُ تَحْرِيكًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِمَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ الْأُفُقِ مِنْ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِرَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ خَالِقَ ذَلِكَ النِّظَامِ الْيَوْمِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْمَصْدَرُ الْمِيمِيُّ، أَيْ رَبُّ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالرَّبِّ الْخَالِقَ، أَيْ مُكَوِّنَ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا عَلَى
هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَضَمِيرُ (بَيْنَهُمَا) لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، أَيْ مَا يَقَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَأَمَّا مَا بَيْنَ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ فَالضُّحَى وَالزَّوَالُ وَالْعَصْرُ وَالِاصْفِرَارُ، وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْغُرُوبِ وَالشُّرُوقِ فَالشَّفَقُ وَالْفَجْرُ وَالْإِسْفَارُ كُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى تَكْوِينِ ذَلِكَ النِّظَامِ الْعَجِيبِ الْمُتْقَنِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِرَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مَالِكُ الْجِهَتَيْنِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُفِيتُ مُنَاسَبَةَ الْكَلَامِ لِمَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِعَظِيمٍ وَلَا يُلَاقِي التَّذْيِيلَ الْوَاقِعَ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.
وَتَانِكَ الْجِهَتَانِ هُمَا مُنْتَهَى الْأَرْضِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: رَبُّ طَرَفَيِ الْأَرْضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ جَمِيعِ الْأَرْضِ مِلْكًا لِلَّهِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عُرْفِيٌّ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ يَوْمَئِذٍ مَلِكًا يَمْلِكُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَا كَانَ مُلْكُ فِرْعَوْنَ الْمُؤَلَّهِ عِنْدَهُمْ إِلَّا لِبِلَادِ مِصْرَ وَالسُّودَانِ.
وَالتَّذْيِيلُ بِجُمْلَةِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ تَنْبِيهٌ لِنَظَرِهِمُ الْعَقْلِيِّ لِيُعَاوِدُوا النَّظَرَ فَيُدْرِكُوا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُعْمِلُونَ عُقُولَكُمْ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ جَعْلُ ذَلِكَ مُقَابِلَ قَوْلِ فِرْعَوْن: إِنْ رَسُولَكُمْ لَمَجْنُونٌ، لِأَنَّ الْجُنُونَ يُقَابِلُهُ الْعَقْلُ فَكَانَ مُوسَى يَقُولُ لَهُمْ قَوْلًا لَيِّنًا ابْتِدَاءً، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَوَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ خَاشَنَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَعَارَضَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاء: ٢٧] فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ أَنْتُمُ
الْعُقَلَاءَ، أَيْ فَلَا تَكُونُوا أَنْتُمُ الْمَجَانِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ لِلَّذَيْنِ قَالَا لَهُ: «لِمَ تَقُولُ مَا لَا يُفْهَمُ» قَالَ: «لِمَ لَا تَفْهَمَانِ مَا يُقَال».
[٢٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٩]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)
لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِرْعَوْنُ لِحِجَاجِهِ نَجَاحًا وَرَأَى شِدَّةَ شَكِيمَةِ مُوسَى فِي الْحَقِّ عَدَلَ عَنِ الْحِجَاجِ إِلَى التَّخْوِيفِ لِيَقْطَعَ دَعْوَةَ مُوسَى مِنْ أَصْلِهَا. وَهَذَا شَأْنُ مَنْ قَهَرَتْهُ الْحُجَّةُ، وَفِيهِ كِبْرِيَاءُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنِ الْجَدَلِ إِلَى التَّهْدِيدِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً مُوطِّئَةٌ لِلْقَسْمِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ فِرْعَوْنَ أَكَّدَ وَعِيدَهُ بِمَا يُسَاوِي الْيَمِينَ الْمُجْمَلَةَ الَّتِي تُؤْذِنُ بِهَا اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَأَنْ
يَكُونَ فِرْعَوْنُ قَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ بِالْأَيْمَانِ، أَوْ أُقْسِمُ. وَفِعْلُ اتَّخَذْتَ لِلِاسْتِمْرَارِ، أَيْ أَصْرَرْتَ عَلَى أَنَّ لَكَ إِلَهًا أَرْسَلَكَ وَأَنْ تَبْقَى جَاحِدًا لِلْإِلَهِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ مَعْدُودًا إِلَهًا لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ يُمَثِّلُ الْآلِهَةَ وَهُوَ الْقَائِمُ بِإِبْلَاغِ مُرَادِهَا فِي الْأُمَّةِ، فَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُمَّةِ.
وَمَعْنَى: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ لَأَسْجُنُنَّكَ، فَسَلَكَ فِيهِ طَرِيقَةَ الْإِطْنَابِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِمَقَامِ التَّهْدِيدِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى لَأَجْعَلَنَّكَ وَاحِدًا مِمَّنْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ فِي سِجْنِي، فَالْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ مُوسَى بِهَوْلِ السَّجْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يُفِيدُ تَمَكُّنَ الْخَبَرِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]. وَقَدْ كَانَ السِّجْنُ عِنْدَهُمْ قَطْعًا لِلْمَسْجُونِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِلَا نِهَايَةٍ، فَكَانَ لَا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يُوسُف:
٤٢].
[٣٠- ٣٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣٣]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)
لَمَّا رَأَى مُوسَى مِنْ مُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَةِ النَّظَرِ مَا لَا مَطْمَعَ مَعَهُ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ مُتَعَامٍ عَنِ الْحَقِّ عَدَلَ مُوسَى إِلَى إِظْهَارِ آيَةٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ لِيَسُدَّ عَلَيْهِ مَنَافِذَ ادِّعَاءِ عَدَمِ الرِّضَى بِهَا.
وَاسْتَفْهَمَهُ اسْتِفْهَامًا مَشُوبًا بِإِنْكَارٍ وَاسْتِغْرَابٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ اجْتِزَاءِ فِرْعَوْنَ بِالشَّيْءِ
الْمُبِينِ، وَأَنَّهُ سَاجِنُهُ لَا مَحَالَةَ إِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِإِلَهِيَّةِ فِرْعَوْنَ، قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِ مِنْ قَبْلِ الْوُقُوعِ.
وَهَذَا التَّقْدِيرُ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَوْ الْوَصْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ لَفَرْضِ حَالَةٍ خَاصَّةٍ. فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ:
أَوَلَوْ جِئْتُكَ وَاوُ الْحَالِ، وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِالْهَمْزَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَلَامَ جَوَابُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشُّعَرَاء: ٢٩] والتَّقْدِيرُ: أَتَجْعَلُنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ وَالْحَالُ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، إِذِ الْقَصْدُ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا شَرْطُ لَوْ بِأَنَّهَا أَوْلَى الْحَالَاتِ بِأَنْ لَا يَثْبُتَ مَعَهَا
122
الْغَرَضُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا وَهُوَ غَرَضُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ حَقِيقِيٌّ.
وَلَيْسَتِ الْوَاوُ مُؤَخَّرَةً عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الصَّدَارَةَ بَلْ هِيَ لِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ وَصَاحِبُ الْحَالِ مُقَدَّرَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا قَوْله: لَأَجْعَلَنَّكَ [الشُّعَرَاء:
٢٩]، أَيْ أَتَجْعَلُنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ.
وَوَصْفُ «شَيْءٍ» بِ مُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُظْهِرٍ أَنِّي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ.
وَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْتِزَامِ الِاعْتِرَاف بِمَا سيجيئ بِهِ مُوسَى فَجَاءَ بِكَلَامٍ مُحْتَمَلٍ إِذْ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ فَرْضَ صِدْقِ مُوسَى فَرْضٌ ضَعِيفٌ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي شَرْطِ إِنْ مَعَ إِيهَامِ أَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ يُعْتَبَرُ صَادِقًا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ، فَبَقِيَ تَحْقِيقُ أَنَّ مَا سَيَجِيءُ بِهِ مُوسَى مُبِينٌ أَوْ غَيْرُ مُبِينٍ. وَهَذَا قَدِ اسْتَبْقَاهُ كَلَامُ فِرْعَوْنَ إِلَى مَا بَعْدِ الْوُقُوعِ وَالنُّزُولِ لِيَتَأَتَّى إِنْكَارُهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَالثُّعْبَانُ: الْحَيَّةُ الضَّخْمَةُ الطَّوِيلَةُ.
وَوَصْفُ ثُعْبانٌ بِأَنَّهُ مُبِينٌ الَّذِي هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الَّذِي بِمَعْنَى بَانَ بِمَعْنَى ظَهَرَ، فَ مُبِينٌ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ الظُّهُورِ مِنْ أَجْلِ أَنْ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، أَيْ ثُعْبَانٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ ثُعْبَانٌ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا تَخْيِيلَ.
وَبِالِاخْتِلَافِ بَيْنَ مُبِينٌ الْأَوَّلِ ومُبِينٌ الثَّانِي اخْتَلَفَتِ الْفَاصِلَتَانِ مَعْنًى فَكَانَتَا مِنْ قَبِيلِ الْجِنَاسِ وَلَمْ تَكُونَا مِمَّا يُسَمَّى مِثْلُهُ إِيطَاءً.
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالنَّزْعُ: سَلُّ شَيْءٍ مِمَّا يُحِيطُ بِهِ، وَمِنْهُ نَزْعُ اللِّبَاسِ، وَنَزْعُ الدَّلْوِ مِنَ الْبِئْرِ. وَنَزْعُ الْيَدِ:
إِخْرَاجُهَا مِنَ الْقَمِيصِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْمَنْزُوعِ مِنْهُ لِظُهُورِهِ، أَيْ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ.
123
وَدَلَّتْ (إِذَا) الْمُفَاجِئَةُ عَلَى سُرْعَةِ انْقِلَابِ لَوْنِ يَدِهِ بَيَاضًا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلنَّاظِرِينَ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامَ الَّتِي يُسَمِّيهَا ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ لَامَ التَّعْدِيَةِ، أَيِ اتِّصَالِ مُتَعَلِّقِهَا بِمَجْرُورِهَا. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَيَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٨] وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ.
وَمَعْنَى: لِلنَّاظِرِينَ أَنَّ بَيَاضَهَا مِمَّا يَقْصِدُهُ النَّاظِرُونَ لِأُعْجُوبَتِهِ، وَكَانَ لَوْنُ جِلْدِ مُوسَى السُّمْرَةَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي لِلنَّاظِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاظِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ بَيَاضَهَا كَانَ وَاضِحًا بَيِّنًا مُخَالِفًا لَوْنَ جِلْدِهِ بِصُورَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ لون البرص.
[٣٤، ٣٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٣٤ إِلَى ٣٥]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، سِوَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةً بِسِحْرِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ فِرْعَوْنَ لِلْمَلَأِ، وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٩] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَهُ لِمَنْ حَوْلَهُ فَأَعَادُوهُ بِلَفْظِهِ لِلْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِ: نَعَمْ، بَلْ أَعَادُوا كَلَامَ فِرْعَوْنَ لِيَكَونَ قَوْلُهُمْ عَلَى تَمَامِ قَوْلِهِ.
وَانْتَصَبَ حَوْلَهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالظَّرْفُ هُنَا مُسْتَقِرٌّ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنٍ مَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَلَأِ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْ إِشَارَتِهِمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: تَأْمُرُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١١٠].
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٧]
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ سِوَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَابْعَثْ بدل وَأَرْسِلْ [الْأَعْرَاف: ١١١] وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سَحَّارٍ وهنالك ساحِرٍ
[الْأَعْرَاف: ١١٢]
وَالسَّحَّارُ مُرَادِفٌ لِلسَّاحِرِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَّالٍ هُنَا لِلنَّسَبِ دَلَالَةً عَلَى الصِّنَاعَةِ مثل النجّار والقصّار وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ هُنَا وَهُنَاكَ بِوَصْفِ عَلِيمٍ، أَيْ قَوِيِّ الْعلم بِالسحرِ.
[٣٨- ٤٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٤٠]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ جَمْعَ السَّحَرَةِ وَقَعَ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ عَقِبَ بَعْثِ الْحَاشِرِينَ حِرْصًا مِنَ الْحَاشِرِينَ وَالْمَحْشُورِينَ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ فِرْعَوْنَ.
وَبُنِيَ «جُمِعَ- وَقِيلَ» لِلنَّائِبِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ جَامِعِينَ وَقَائِلِينَ، أَيْ جَمَعَ مَنْ يَجْمَعُ، وَقَالَ الْقَائِلُونَ.
وَاللَّامُ فِي لِمِيقاتِ بِمَعْنَى (عِنْدَ) كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: ٧٨]. وَالْيَوْمُ: هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ وَهُوَ يَوْمُ وَفَاءِ النِّيلِ. وَالْوَقْتُ هُوَ الضُّحَى كَمَا فِي سُورَةِ طه.
وَالْمِيقَاتُ: الْوَقْتُ، وَأَصْلُهُ اسْمُ آلَةِ التَّوْقِيتِ. سُمِّيَ بِهِ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْآلَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي لِلنَّاسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، وَهُمْ نَاسُ بَلْدَةِ فِرْعَوْنَ (مَنْفِيسَ) أَوْ (طِيبَةَ).
وهَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ اسْتِحْثَاثٌ لِلنَّاسِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الْإِسْرَاعِ بِالِاجْتِمَاعِ بِحَيْثُ نَزَلُوا مْنِزِلَةَ مَنْ يَسْأَلُ سُؤَالَ تَحْقِيقٍ عَنْ عَزْمِهِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩١]، وَقَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا أَوْ عبد ربّ أخاعون بْنِ مِخْرَاقِ (١)
_________
(١) دِينَار: اسْم رجل وَلَيْسَ المُرَاد المسكوك من الذَّهَب، وَإِلَّا لقَالَ: بِدِينَار رجل أَيْضا، وَعبد رب بِالنّصب عطف على مَحل (دِينَار) لِأَنَّهُ مفعول (باعث) أضيف إِلَيْهِ عَامله، وأخا عون منادى.
يُرِيدُ ابْعَثْ إِلَيْنَا دِينَارًا أَوْ عَبْدَ رَبٍّ سَرِيعًا لِأَجْلِ حَاجَتِنَا بِأَحَدِهِمَا. وَرَجَوُا اتِّبَاعَ السَّحَرَةِ، أَيِ اتِّبَاعَ مَا يُؤَيِّدُهُ سِحْرُ السَّحَرَةِ وَهُوَ إِبْطَالُ دِينِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، فَكَانَ قَوْلُهُمْ
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ كِنَايَةً عَنْ رَجَاءِ تَأْيِيدِهِمْ فِي إِنْكَارِ رِسَالَةِ مُوسَى فَلَا يَتَّبِعُونَهُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَصِيرَ السَّحَرَةُ أَيِمَّةً لَهُمْ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الْمُتَّبَعُ. وَقَدْ جِيءَ فِي شَرْطِ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَكٌّ فِي أَنَّ السَّحَرَةَ غَالِبُونَ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَغْرُورِينَ بِهَوَاهُمُ، الْعُمْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي تَقَلُّبَاتِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ لَا يَفْرِضُونَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ إِلَّا مَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ وَلَا يَأْخُذُونَ الْعُدَّةَ لاحْتِمَال نقيضه.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: وَجاءَ السَّحَرَةُ [الْأَعْرَاف: ١١٣] وَبِطَرْحِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِذْ قَالَ هُنَاكَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الْأَعْرَاف: ١١٣]، وَهُوَ تَفَنُّنٌ فِي حِكَايَةِ مَقَالَتِهِمْ عِنْدَ إِعَادَتِهَا لِئَلَّا تُعَادَ كَمَا هِيَ، وَبِدُونِ كَلِمَةِ إِذاً، فَحَكَى هُنَا مَا فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى جَزَاءِ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [الْأَعْرَاف: ١١٣] زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ حَرْفُ (نَعَمْ) مِنْ تَقْرِيرِ اسْتِفْهَامِهِمْ عَنِ الْأَجْرِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ كُنْتُمْ غَالِبِينَ إِذًا إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَهَذَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ هُنَا. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الْمَعَادُ مِنْهَا عَنْ فَائِدَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَسُؤَالُهُمْ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ إِدْلَالٌ بِخِبْرَتِهِمْ وَبِالْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ إِذْ عَلِمُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ شَدِيدُ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا غَالِبِينَ وَخَافُوا أَنْ يُسَخِّرَهُمْ فِرْعَوْنُ بِدُونِ أَجْرٍ فَشَرَطُوا أَجْرَهُمْ مِنْ قَبْلِ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ ليقيدوه بوعده.
[٤٣، ٤٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٤٣ إِلَى ٤٤]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
حُكِيَ كَلَامُ مُوسَى فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ بِإِعَادَةِ فِعْلِ قالَ مَفْصُولًا بِطَرِيقَةِ حِكَايَةِ
126
الْمُحَاوَرَاتِ لِأَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ بِالْمُحَاوَرَةِ إِذْ هُمْ حَضَرُوا لِأَجْلِهِ.
وَوَقَعَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١١٥] قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا، وَاخْتُصِرَ هُنَا تَخْيِيرُهُمْ مُوسَى فِي الِابْتِدَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، فَقَوْلُ مُوسَى لَهُمْ أَلْقُوا الْمَحْكِيُّ هُنَا هُوَ أَمْرٌ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِالْإِلْقَاءِ لِتَعَقُّبِهِ إِبْطَالَ سِحْرِهِمْ بِمَا سَيُلْقِيهِ مُوسَى، كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْجَدَلِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ
لِلْمُلْحِدِ: قَرِّرْ شُبْهَتَكَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْحَضَهَا لَهُ. وَهَذَا عَضُدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَوَاقِفِ» يَذْكُرُ شُبَهَ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ قَبْلَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ النَّاقِضَةِ لَهَا. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ آنِفًا. وَذُكِرَ هُنَا مَفْعُولُ أَلْقُوا وَاخْتُصِرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَفِي كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِخْفَافٌ بِمَا سَيُلْقُونَهُ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَة الْعُمُومِ، أَيْ مَا تَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فِي السِّحْرِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه.
وَقُرِنَتْ حِكَايَة قَول السَّحَرَة بِالْوَاوِ خِلَافًا لِلْحِكَايَاتِ الَّتِي سَبَقَتْهَا لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمُحَاوَرَةُ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ ابْتَدَءُوا بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي السِّحْرِ اسْتِعَانَةً وَتَيَمُّنًا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ كَالْبَاءِ فِي «بِسْمِ اللَّهِ» أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِقُدْرَةِ فِرْعَوْنَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ: أَقْسَمُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ ثِقَةً مِنْهُمْ بِاعْتِقَادِ ضَلَالِهِمْ أَنَّ إِرَادَةَ فِرْعَوْنَ لَا يَغْلِبُهَا أَحَدٌ لِأَنَّهَا إِرَادَةُ آلِهَتِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي نَحَّاهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مُقْتَضَاهُ تُفِيدَانِ فَائِدَتَيْنِ.
وَالْعِزَّةُ: الْقُدْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [٢٠٦].
وَجُمْلَةُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ عَنْ قَوْلِهِمْ: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ: كَأَنَّ السَّامِعَ وَهُوَ مُوسَى أَوْ غَيْرُهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا يُؤَثِّرُ قَوْلُهُمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ؟ فَيَقُولُونَ:
إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ إِلْقَاءَ الْخَوْفِ فِي نَفْسِ مُوسَى لِيَكُونَ مَا سَيُلْقِيهِ فِي نَوْبَتِهِ عَنْ خَوَرِ نَفْسٍ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَزِيمَةَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ نَجَاحِ السِّحْرِ وَتَأْثِيرِهِ عَلَى النَّاظِرِينَ. وَقَدْ أَفَادَتْ جُمْلَةُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ مُفَادَ الْقسم.
127

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٤٥]

فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥)
تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَة طه.
[٤٦- ٤٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٩]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قَصَدَ فِرْعَوْنُ إِرْهَابَهُمْ بِهَذَا الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَنَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَنَظِيرُ آخِرِهَا تَقَدَّمَ فِيهَا وَفِي سُورَةِ طه. وَهُنَالِكَ ذَكَرْنَا عَدَدَ السَّحَرَةِ وَكَيْفَ آمَنُوا. وَاللَّامُ فِي فَلَسَوْفَ لَام الْقسم.
[٥٠، ٥١]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥١]
قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
الضَّيْرُ: مُرَادِفُ الضُّرِّ، يُقَالُ: ضَارَهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ يَضِيرُهُ، وَمَعْنَى لَا ضَيْرَ لَا يَضُرُّنَا وَعِيدُكَ. وَمَعْنَى نَفْيِ ضُرِّهِ هُنَا: أَنَّهُ ضُرُّ لَحْظَةٍ يَحْصُلُ عَقِبَهُ النَّعِيمُ الدَّائِمُ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَعَقَّبَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي النَّفْيِ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهَا قرينَة. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَيْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ الضَّيْرِ، وَهِيَ الْقَرِينَةُ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ النَّفْيِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَالطَّمَعُ: يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَعُرِفَ بِطَلَبِ مَا فِيهِ
عُسْرٌ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ كَمَا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: ٨٢]، فَهَذَا الْإِطْلَاقُ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ الطَّمَعَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى رُسُوخِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّه ووعده.
[٥٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٥٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
هَذِهِ قَصَّةٌ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ مُوسَى فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ، فَالْوَاوُ لِعَطْفِ الْقِصَّةِ وَلَا تُفِيدُ قُرْبَ الْقِصَّةِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَقَدْ لَبِثَ مُوسَى زَمَنًا يُطَالِبُ فِرْعَوْنَ بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَخْرُجُوا مِنْ مِصْرَ، وَفِرْعَوْنُ يُمَاطِلُ فِي ذَلِكَ حَتَّى رَأَى الْآيَاتِ التِّسْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَنَظِيرُ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه. وَزَادَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، أَيْ أَعْلَمَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّ فِرْعَوْنَ سَيَتْبَعُهُمْ بِجُنْدِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ طَه. وَالْقَصْدُ مِنْ إِعْلَامِهِ بِذَلِكَ تَشْجِيعُهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَسْرِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فِعْلَ أَمْرٍ مِنْ (سَرَى) وَبِكَسْرِ نُونِ
أَنْ. لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ نُونِ (أَنْ) وَفِعْلَا سَرَى وَأَسْرَى مُتَّحِدَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الْإِسْرَاء: ١].
[٥٣- ٥٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٦]
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى [الشُّعَرَاء: ٥٢] وَأَنَّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَأَسْرَى مُوسَى وَخَرَجَ بِهِمْ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حَاشِرِينَ، أَيْ لَمَّا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَنْتَشِرُوا فِي مَدَائِنِ مِصْرَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ شُرَطًا يَحْشُرُونَ النَّاسَ لِيَلْحَقُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَاعِدَةِ الْمُلْكِ.
والْمَدائِنِ: جَمْعُ مَدِينَةٍ، أَيِ الْبَلَدُ الْعَظِيمُ. وَمَدَائِنُ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ يَوْمَئِذٍ كَثِيرَةٌ.
مِنْهَا (مَانُوفِرَى أَوْ مَنْفِيسُ) هِيَ الْيَوْمَ مَيِتْ رَهِينَةٍ بِالْجِيزَةِ وَ (تِيبَةُ أَوْ طِيبَةُ) هِيَ
129
بِالْأُقْصُرِ وَ (أَبُودُو) وَتُسَمَّى الْيَوْمَ الْعَرَابَةَ الْمَدْفُونَةَ، وَ (أَبُو) وَهِيَ (بُو) وَهِيَ إِدْنُو، وَ (أَوْنُ رَمِيسَي)، وَ (أَرْمِنْتُ) وَ (سَنَى) وَهِيَ أَسَنَاءُ وَ (سَاوَرَتْ) وَهِيَ السِّيُوطُ، وَ (خَمُونُو) وَهِيَ الْأَشْمُونِيِّينَ، وَ (بَامَازِيتُ) وَهِيَ الْبَهْنَسَا، وَ (خِسْوُو) وَهِيَ سَخَا، وَ (كَارِيَينَا) وَهِيَ سَدُّ أَبِي قَيْرَةَ، وَ (سُودُو) وَهِيَ الْفَيُّومُ، وَ (كُويتي) وَهِيَ قِفْطُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَدائِنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ فِي مَدَائِنِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْمَدَائِنُ الَّتِي لِحُكْمِ فِرْعَوْنَ أَوِ الْمَظْنُونُ وُقُوعُهَا قُرْبَ طَرِيقِهِمْ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لَا يَعْلَمُونَ أَيْنَ اتَّجَهَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ يَظُنُّ مُرُورَهُمْ بِهِ. وَكَانَ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُمْ تَوَجَّهُوا صَوْبَ الشَّامِ، أَوْ صَوْبَ الصَّحْرَاءِ الْغَرْبِيَّةِ، وَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنهم يقصدون شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ بَحْرِ «الْقُلْزُمِ» وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يُسَمَّى بَحْرَ «سُوفَ».
وَجُمْلَةُ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ حاشِرِينَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّدَاءِ، أَيْ يَقُولُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ لِأَنَّ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ شَاعَ فِي أَقْطَارِ مِصْرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ جَمْعِ السَّحَرَةِ وَبَيْنَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ لِلسَّحَرَةِ خَاصَّةً إِذْ لَا يَلْتَئِمُ ذَلِكَ مَعَ الْقِصَّةِ.
وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرٍ لِشَأْنِهِمْ أَكَّدَهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَالشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ مِنَ النَّاسِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَإِتْبَاعُهُ بِوَصْفِ قَلِيلُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ اسْتِعْمَالِهَا فِي تَحْقِيرِ الشَّأْنِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُنُودِ فِرْعَوْنَ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ خَرَجُوا سِتَّمِائَةَ أَلْفٍ، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ.
وقَلِيلُونَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى لِمَدْلُولِ هؤُلاءِ وَلَيْسَ وَصْفًا لِشِرْذِمَةٍ وَلَكِنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَاهَا، وَلِهَذَا جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ السَّلَامَةِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ.
130
وَ (قَلِيلٌ) إِذَا وُصِفَ بِهِ يَجُوزُ مُطَابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَمَا هُنَا، وَيَجُوزُ مُلَازَمَتُهُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَمَا قَالَ السموأل أَوِ الْحَارِثِيُّ:
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ... الْبَيْتَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ لَفْظُ (كَثِيرٌ) وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال: ٤٣].
وَ «غَائِظُونَ» اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ غَاظَهُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَغَاظَهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا غَيْظٍ. وَالْغَيْظُ:
أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١١٩]، وَقَوْلِهِ: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [١٥]، أَيْ وَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ مَا يُغْضِبُنَا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَنا لَامُ التَّقْوِيَةِ وَاللَّامُ فِي لَغائِظُونَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَتَقْدِيمُ لَنا عَلَى لَغائِظُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ حَثٌّ لِأَهْلِ الْمَدَائِنِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا حَذِرِينَ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَجَمِيعٌ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سِيَاسَةِ الْمَمْلَكَةِ، أَيْ إِنَّا كلّنا حذرون، فَجَمِيع وَقَعَ مُبْتَدأ وَخَبره حاذِرُونَ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَ (جَمِيعٌ) بِمَعْنَى: (كُلٍّ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِي سُورَة يُونُس [٤].
وحاذِرُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ فَهُوَ جَمْعُ حَذِرٍ وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهٍ والمحققين. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَخَلَفٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ جَمْعُ (حَاذِرٍ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَذَرَ مِنْ شِيمَتِهِ
وَعَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْ إِنَّا مِنْ عَادَتِنَا التَّيَقُّظُ لِلْحَوَادِثِ وَالْحَذَرُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهَا من سيّىء الْعَوَاقِبِ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ السِّيَاسَةِ وَهُوَ سَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ وَلَوْ كَانَ احْتِمَالُ إِفْضَائِهَا إِلَى الْفَسَادِ ضَعِيفًا، فَالذَّرَائِعُ الْمُلْغَاةُ فِي التَّشْرِيعِ فِي حُقُوقِ الْخُصُوصِ غَيْرُ مُلْغَاةٍ فِي سِيَاسَةِ الْعُمُومِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ: إِنَّ نَظَرَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِ الْقُضَاةِ، فَالْحَذَرُ أَوْسَعُ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ وَهُوَ الْخَوْفُ
131
مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ ضَارٍّ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَالتَّرَصُّدُ لِمَنْعِ وُقُوعِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ فِي بَرَاءَةٌ [٦٤]. وَالْمَحْمُودُ مِنْهُ هُوَ الْخَوْفُ مِنَ الضَّارِّ عِنْدَ احْتِمَالِ حُدُوثِهِ دُونَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ فَالْحَذَرُ مِنْهُ ضَرْبٌ مِنَ الْهَوَسِ.
وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُورُ هُوَ الِاغْتِرَارَ بِإِيمَانِ السَّحَرَةِ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقِ مُوسَى وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ وَقَعَ فَلَا يُحْذَرُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ السَّعْيُ فِي الانتقام مِنْهُم.
[٥٧- ٦٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٦٠]
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
إِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٥٣] لَزِمَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْناهُمْ لِتَفْرِيعِ الْخُرُوجِ عَلَى إِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ، أَيْ ابْتَدَأَ بِإِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ، فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ إِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ وَبَين وُصُول الأنباء مِنْ أَطْرَافِ الْمَمْلَكَةِ بِتَعْيِينِ طَرِيقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ لَا يَخْرُجُ فِرْعَوْنُ بِجُنْدِهِ عَلَى وَجْهِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ بِطَرِيقِهِمْ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٢].
وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ [الشُّعَرَاء: ٥٣] وَلَا أَخَالُكَ إِلَّا مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ لِاخْتِيَارِ ذَلِكَ، فَلْتَجْعَلِ الْفَاءَ فِي فَأَخْرَجْناهُمْ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ:
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٢]. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَسْرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْرَجْنَا فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ مِنْ بِلَادِهِمْ فِي طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعُوا بَنِي إِسْرَائِيل.
وَضمير: فَأَخْرَجْناهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ أَخْرَجْنَا
فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ. وَالْجَنَّاتُ: جَنَّاتُ النَّخِيلِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى ضِفَافِ النِّيلِ. وَالْعُيُونُ: مَنَابِعُ تُحْفَرُ عَلَى خِلْجَانِ النِّيلِ. وَالْكُنُوزُ: الْأَمْوَالُ الْمُدَّخَرَةُ.
وَالْمَقَامُ: أَصْلُهُ مَحَلُّ الْقِيَامِ أَوْ مَصْدَرُ قَامَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: مَسَاكِنُ كَرِيمَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي: قِيَامُهُمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ. وَذَلِكَ مَا
132
كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْنِ وَالثَّرْوَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ تَرَكَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْهُ لِمُطَارَدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ هَلَكُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا تَرَكُوا.
كَذلِكَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١]. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ مُعْتَرِضَةٌ أَيْضًا وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عَطْفًا لِأَجْزَاءِ الْقِصَّةِ لِمَا سَتَعْلَمُهُ. وَالْإِيرَاثُ: جَعْلُ أَحَدٍ وَارِثًا. وَأَصْلُهُ إِعْطَاءُ مَالِ الْمَيِّتِ وَيُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ مَا كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ الْمُعْطَى (بِفَتْحِ الطَّاءِ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الْأَعْرَاف: ١٣٧]، أَيْ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْضَ الشَّامِ، وَقَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْزَأَ أَعْدَاءَ مُوسَى مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ نَعِيمٍ إِذْ أَهْلَكَهُمْ وَأَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَيْرَاتٍ مِثْلَهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا كَانَ بِيَدِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَالْكُنُوزِ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَارَقُوا أَرْضَ مِصْرَ حِينَئِذٍ وَمَا رَجَعُوا إِلَيْهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [٢٨] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. وَلَا صِحَّةَ لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ قِصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا فَمَلَكُوا مِصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمْلِكُوا مِصْرَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا سَائِرَ الدَّهْرِ فَلَا مَحِيصَ مِنْ صَرْفِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَى تَأْوِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّارِيخُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ.
فَضَمِيرُ أَوْرَثْناها هُنَا عَائِدٌ لِلْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ، أَيْ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ جَنَّاتٍ وَعُيُونًا وَكُنُوزًا، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ هُنَا إِلَى لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْجِنْسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ وَأَقْوَى مِنْهُ، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ أَشْيَاءَ مَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ لِلْكَنْعَانِيِّينَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَغَلَبُوهُمْ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَالشَّامِ. وَقَدْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ [النِّسَاء: ١٧٦]، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْءَ الَّذِي هَلَكَ يَرِثُ أُخْتَهُ الَّتِي لَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ بَلِ
الْمُرَادُ: وَالْمَرْءُ يَرِثُ أُخْتًا لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ
133
يَكُونَ نَصْبُ الضَّمِيرِ لِفِعْلِ «أَوْرَثْنَا» عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ أَوْرَثْنَا أَمْثَالَهَا. وَقِيلَ ضَمِيرُ: أَوْرَثْناها عَائِدٌ إِلَى خُصُوصِ الْكُنُوزِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَعَارُوا لَيْلَةَ خُرُوجِهِمْ مِنْ جِيرَانِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ مَصُوغَهُمْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَخَرَجُوا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه.
وَيَجُوزُ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ إِلَى قَوْلِهِ:
وَأَوْرَثْناها حِكَايَةً لِكَلَامٍ مِنَ اللَّهِ مُعْتَرِضٍ بَيْنَ كَلَامِ فِرْعَوْنَ. وَضَمِيرُ فَأَخْرَجْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمَدائِنِ [الشُّعَرَاء: ٥٣]، أَيْ فَأَخْرَجْنَا أَهْلَ الْمَدَائِنِ.
وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ أَوْرَثْناها. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْرَثْنَاهَا غَيْرَهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
بَنِي إِسْرائِيلَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ [الشُّعَرَاء: ٥٤] سَلَكَ بِهِ طَرِيقَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ الْبَيَانِ لِيَقَعَ فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ أَمْكَنَ وَقْعٍ.
وَجُمْلَةُ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَأَخْرَجْناهُمْ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ فَأَتْبَعُوهُمْ. وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْناهُمْ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى بِعِبادِي [الشُّعَرَاء: ٥٢] مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي [الشُّعَرَاء: ٥٢].
وفَأَتْبَعُوهُمْ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ التَّاءِ بِمَعْنَى تَبِعَ، أَيْ فَلَحِقُوهُمْ.
ومُشْرِقِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ قَاصِدِينَ جِهَةَ الشَّرْقِ يُقَالُ: أَشْرَقَ، إِذَا دَخَلَ فِي أَرْضِ الشَّرْقِ، كَمَا يُقَالُ: أَنْجَدَ وَأَتْهَمَ وَأَعْرَقَ وَأَشْأَمَ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَوَجَّهُوا صَوْبَ الشَّرْقِ وَهُوَ صَوْبُ بَحْرِ (الْقُلْزُمِ) وَهُوَ الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ وَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ بَحْرُ سُوفٍ وَهُوَ شَرْقِيُّ مِصْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ، أَيْ أَدْرَكُوهُمْ عِنْدَ شُرُوقٍ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا لَيْلَةً أَوْ لَيَالِيَ مَشْيًا فَمَا بَصُرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ إِلَّا عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ بَعْدَ لَيَالِي السَّفَرِ
134

[٦١- ٦٦]

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٦١ الى ٦٦]
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)
أَيْ لَمَّا بَلَغَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قَرِيبًا مِنْ مَكَانِ جُمُوعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ
مِنْهُمَا الْفَرِيقَ الْآخَرَ. فَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ لِأَنَّهُ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ بِالتَّأْكِيدِ لِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْجَزَعِ. وكَلَّا رَدْعٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٩] كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ رَدَعَ بِهِ مُوسَى ظَنَّهُمْ أَنَّهُمْ يُدْرِكُهُمْ فِرْعَوْنُ، وَعَلَّلَ رَدْعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ.
وَإِسْنَادُ الْمَعِيَّةِ إِلَى الرَّبِّ فِي إِنَّ مَعِي رَبِّي عَلَى مَعْنَى مُصَاحَبَةِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَعِنَايَتِهِ بِتَقْدِيرِ أَسْبَابِ نَجَاتِهِ مِنْ عَدُوِّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى وَاثِقٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء: ١٥]، وَقَوْلِهِ: أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٢] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ وَعْدٌ بِضَمَانِ النَّجَاةِ.
وَجُمْلَةُ: سَيَهْدِينِ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ رَبِّي. وَلَا يَضُرُّ وُجُودُ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الْحَالَ مُقَدَّرَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَيُبَيِّنُ لِي سَبِيلَ سَلَامَتِنَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ. وَاقْتَصَرَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ مِنْ مَعِيَّةِ الْعِنَايَةِ فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ هِدَايَتَهُ تَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُ قَائِدُهُمْ وَالْمُرْسَلُ لِفَائِدَتِهِمْ.
وَوَجْهُ اقْتِصَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا أَنَّ طَرِيقَ نَجَاتِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِعْلٍ يَقْطَعُ دَابِرَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الْفِعْلُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى يَدِ الرَّسُولِ. وَهَذَا وَجْهُ اخْتِلَافِ الْمَعِيَّةِ بَيْنَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: ٤٠] لِأَنَّ تِلْكَ مَعِيَّةُ حِفْظِهِمَا كِلَيْهِمَا بِصَرْفِ أَعْيُنِ الْأَعْدَاءِ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ
أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ وَانْفَلَقَ الْبَحْرُ طُرُقًا مَرَّتْ مِنْهَا أَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاقْتَحَمَ فِرْعَوْنُ الْبَحْرَ فَمُدَّ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ حِينَ تَوَسَّطُوهُ فَغَرِقَ جَمِيعُهُمْ.
وَالْفِرْقُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: الْجُزْءُ الْمَفْرُوقُ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ الْفَلَقِ. وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ.
وأَزْلَفْنا قَرَّبْنَا وَأَدْنَيْنَا، مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّلَفِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْقُرْبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِعْلَهُ كَفَرِحَ. وَيُقَالُ: ازْدَلَفْ: اقْتَرَبَ، وَتَزَلَّفَ: تَقَرَّبَ، فَهَمْزَةُ أَزْلَفْنا لِلتَّعْدِيَةِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَرَّأَهُمْ حَتَّى أَرَادُوا اقْتِحَامَ طُرُقِ الْبَحْرِ كَمَا رَأَوْا فِعْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَاءٌ غَيْرُ عَمِيقٍ.
وَالْآخَرُونَ: هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ فَرِيقِ بني إِسْرَائِيل.
[٦٧، ٦٨]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٨]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا قَبْلَ قِصَّةِ مُوسَى. وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ آيَةً لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِانْقِلَابَ الْعَظِيمَ فِي أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ الْخَارِجَ عَنْ مُعْتَادِ تَقَلُّبَاتِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ إِلَهِيٌّ خَاصٌّ أَيَّدَ بِهِ رَسُولَهُ وَأُمَّتَهُ وَخَضَّدَ بِهِ شَوْكَةَ أَعْدَائِهِمْ وَمَنْ كَفَرُوا بِهِ، فَهُوَ آيَةٌ عَلَى عَوَاقِبِ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ مَعَ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْقِصَّةُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ.
وَوَجْهُ تَذْيِيلِ كُلِّ اسْتِدْلَالٍ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِجُمْلَةِ:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى آخِرِهَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ هَذِه السُّورَة.

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٧]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧)
عُقِّبَتْ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَومه بِقصَّة رِسَالَة إِبْرَاهِيمَ. وَقُدِّمَتْ هُنَا عَلَى قِصَّةِ نُوحٍ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي تَرْتِيبِ قِصَصِهِمْ فِي الْقُرْآنِ لِشِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ. وَفِي تَمَسُّكِهِمْ بِضَلَالِ آبَائِهِمْ وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ دَعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْحِطَاطِ الْأَصْنَامِ عَنْ مَرْتَبَةِ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لِيَكُونَ إِيمَانُ النَّاسِ مُسْتَنِدًا لِدَلِيلِ الْفِطْرَةِ، وَفِي أَنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا مِثْلُ مَا سُلِّطَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَهْلِ مَدْيَنَ فَأَشْبَهُوا قُرَيْشًا فِي إِمْهَالِهِمْ.
فَرِسَالَةُ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا قَائِمَتَانِ عَلَى دِعَامَةِ الْفِطْرَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْعَمَلِ، أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّشْرِيعِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الْفِطْرَةَ لِيُضَيِّعَهَا وَيُهْمِلَهَا بَلْ لِيُقِيمَهَا وَيُعْمِلَهَا. فَلَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِلْمُشْرِكِينَ لِإِبْطَالِ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْآيَاتُ كَمَا أُوتِيَ مُوسَى، فَإِنَّ آيَاتِ مُوسَى وَهِيَ أَكْثَرُ آيَاتِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ لَمْ تَقْضِ شَيْئًا فِي إِيمَانِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لَمَّا كَانَ خُلُقُهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَالْعِنَادَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ الْمُمَاثِلَةِ لِدَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّدَاءِ عَلَى إِعْمَالِ دَلِيلِ النَّظَرِ.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣].
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ فِي الْبَقَرَةِ [١٠٢].
ونَبَأَ إِبْراهِيمَ: قِصَّتُهُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، أَيِ اقْرَأْ عَلَيْهِمْ مَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ الْآنَ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ. وَإِنَّمَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَتِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَضَمِّنَ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ آيَةٌ مُعْجِزَةٌ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي هِيَ
137
كَأَصْنَامِ الْعَرَبِ آيَةٌ أَيْضًا. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ آيَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ فِي الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وإِذْ قالَ ظَرْفٌ، أَيْ حِينَ قَالَ. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلنَّبَأِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ قِصَّةٍ مَضَتْ فَنَاسَبَ أَنْ تُبَيَّنَ بِاسْمِ زَمَانٍ مُضَافٍ إِلَى مَا يُفِيدُ الْقِصَّةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٧١].
وَمَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُسْأَلُ بِهِ عَنْ تَعْيِينِ الْجِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٣]. وَالِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ افْتِتَاحَ الْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ لِيَكُونُوا هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِشَرْحِ حَقِيقَةِ عِبَادَتِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَتَلُوحُ لَهُمْ مِنْ خِلَالِ شَرْحِ ذَلِكَ لَوَائِحُ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَصَدَّى لِشَرْحِ الْبَاطِلِ يُشْعِرُ بِمَا فِيهِ مِنْ بُطْلَانٍ عِنْدَ نَظْمِ مَعَانِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُشْعِرُ بِذَلِكَ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَلِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ جَوَابَهُمْ يَنْشَأُ عَنْهُ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى فَسَادِ دِينِهِمْ وَقَدْ أَجَابُوا اسْتِفْهَامَهُ بِتَعْيِينِ نَوْعِ مَعْبُودَاتِهِمْ.
وَأَدْخَلَ أَبَاهُ فِي إِلْقَاءِ السُّؤَالِ عَلَيْهِمْ: إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ إِذْ كَانَ سَادِنَ بَيْتِ الْأَصْنَامِ كَمَا رُوِيَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَلَى انْفِرَادٍ وَسَأَلَ قَوْمَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَجَمَعَتِ الْآيَةُ حِكَايَةَ ذَلِكَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْتَدَأَ بِمُحَاجَّةِ أَبِيه فِي خاصتهما ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُحَاجَّةُ الْأُولَى فِي مَلَأِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ أَلْقَى فِيهَا دَعْوَتَهُ فِي صُورَةِ سُؤَالِ اسْتِفْسَارٍ غَيْرِ إِنْكَارٍ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ نُفُورِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات ٨٥، ٨٦] فَذَلِكَ مَقَامٌ آخَرُ لَهُ فِي قومه كَانَ بعد الدعْوَة الأولى المحكية فِي سُورَة الصافات. وَلأَجل ذَلِك كَانَ الِاسْتِفْهَام مُقْتَرِنًا بِمَا يَقْتَضِي
التَّعَجُّبَ مِنْ حَالِهِمْ بِزِيَادَةِ كَلِمَةِ (ذَا) بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء. وَكَلِمَةُ (ذَا) إِذَا وَقَعَتْ بعد (مَا) تؤول إِلَى مَعْنَى اسْمِ الْمَوْصُولِ فَصَارَ الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: مَا هَذَا الَّذِي تَعْبُدُونَهُ، فَصَارَ الْإِنْكَارُ مُسَلَّطًا إِلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ تُعْبَدُ.
138
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْهِمُ السُّؤَالَ حِينَ تَلَبُّسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا هُوَ مُنَاسِبُ الْإِتْيَانِ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَعْبُدُونَ وَمَا فَهِمَ قَوْمُهُ مِنْ كَلَامِهِ إِلَّا الِاسْتِفْسَارَ فَأَجَابُوا: بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا.
وَالتَّنْوِينُ فِي أَصْناماً لِلتَّعْظِيمِ، وَلذَا عَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعْرِفُهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا. وَاسْمُ الْأَصْنَامِ عِنْدَهُمُ اسْمٌ عَظِيمٌ فَهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِهِ عَلَى عَكْسِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَهُمْ فِي مَقَامٍ آخَرَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً [العنكبوت: ١٧] عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِمَعْبُودَاتِهِمْ وَالتَّحْمِيقِ لَهُمْ. وَأَتَوْا فِي جَوَابِهِمْ بِفِعْلِ نَعْبُدُ
مَعَ أَنَّ الشَّأْنَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ التَّصْرِيحِ إِذْ كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ سُؤَالٍ فِيهِ تَعْبُدُونَ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ جِنْسِ الْمَعْبُودَاتِ فَيَقُولُوا أَصْنَامًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الْبَقَرَة: ٢١٩]، مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ [سبأ: ٢٣] مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النَّحْل: ٣٠] فَعَدَلُوا عَنْ سُنَّةِ الْجَوَابِ إِلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي السُّؤَالِ ابْتِهَاجًا بِهَذَا الْفِعْلِ وَافْتِخَارًا بِهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: نَعْبُدُ مَا يَزِيدُ فِعْلَ الْعِبَادَةِ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِمْ: فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. وَفِي فِعْلِ «نَظَلُّ» دَلَالَةُ الِاسْتِمْرَارِ جَمِيعَ النَّهَارِ. وَأَيْضًا فَهُمْ كَانُوا صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَجَعَلُوا الْأَصْنَامَ رُمُوزًا عَلَى الْكَوَاكِبِ تَكُونُ خَلَفًا عَنْهَا فِي النَّهَارِ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ الطَّالِعَةَ.
وَضُمِّنَ عاكِفِينَ مَعْنَى (عَابِدِينَ) فَعُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِاللَّامِ دُونَ (عَلَى). وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الرَّبِّ أَنْ يُلْجَأَ إِلَيْهِ فِي الْحَاجَةِ وَأَنْ يَنْفَعَ أَوْ يَضُرَّ أَلْقَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمُ اسْتِفْهَامًا عَنْ حَالِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هَلْ تَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَهَلْ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرَّ تَنْبِيهًا عَلَى دَلِيلِ انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا.
وَكَانَتِ الْأُمَمُ الْوَثَنِيَّةُ تَعْبُدُ الْوَثَنَ لِرَجَاءِ نَفْعِهِ أَوْ لِدَفْعِ ضُرِّهِ وَلِذَلِكَ عَبَدَ بَعْضُهُمُ الشَّيَاطِينَ.
وَجُعِلَ مَفْعُولُ يَسْمَعُونَكُمْ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِينَ تَوَسُّعًا بِحَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ يسمعُونَ دعاءكم كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَدْعُونَ. وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ فَتْحَ المجادلة ليعجزوا عَن إِثْبَاتِ أَنَّهَا تَسْمَعُ وَتَنْفَعُ.
139
وَ (بَلْ) فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْقَوْمِ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَقَامِ إِثْبَاتِ صِفَاتِهِمْ إِلَى مَقَامٍ قَاطِعٍ لِلْمُجَادَلَةِ فِي نَظَرِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ وَرِثُوا عِبَادَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا طَوَوْا بِسَاطَ الْمُجَادَلَةِ فِي صِفَاتِ آلِهَتِهِمْ وَانْتَقَلُوا إِلَى دَلِيلِ التَّقْلِيدِ تَفَادِيًا مِنْ كُلْفَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصِيرِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالسَّلَفِ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يَفْعَلُونَ تَشْبِيهُ فِعْلِ الْآبَاءِ بِفِعْلِهِمْ وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَفْعَلُونَ فِعْلًا كَذَلِكَ الْفِعْلِ. وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ عَلَى يَفْعَلُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَدْلُولِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَاقْتَصَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ (الَّذِي رَجَّحْنَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَقَامٍ قَامَ فِيهِ لِلدَّعْوَةِ) عَلَى أَنْ أَظْهَرَ قِلَّةَ اكْتِرَاثِهِ بِهَذِهِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لِأَنَّهُ أَيْقَنَ بِأَنَّ سَلَامَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَضُرُّ وَإِلَّا لَضَرَّتْهُ لِأَنَّهُ عَدُوُّهَا.
وَضَمِيرُ فَإِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. وَقَوْلُهُ: وَآباؤُكُمُ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ كُنْتُمْ. وَالْعَدُوُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ. وَالْعَدُوُّ: الْمُبْغَضُ، فَعَدُوٌّ: فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَا تَلْحَقُهُ عَلَامَاتُ التَّأْنِيثِ (إِلَّا نَادِرًا كَقَوْلِ عُمَرَ لِنِسَاءٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ). قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : حَمْلًا عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ كَالْقُبُولِ وَالْوُلُوعِ.
وَالْأَصْنَامُ لَا إِدْرَاكَ لَهَا فَلَا تُوصَفُ بِالْعَدَاوَةِ. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ هُمْ كَالْعَدُوِّ لِي فِي أَنِّي أُبْغِضُهُمْ وَأَضُرُّهُمْ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦] أَيْ عَامِلُوهُ مُعَامَلَةَ الْعَدُوِّ عَدُوَّهُ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَار جمع بني قَوْلِهِ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: ٦] وَقَوْلِهِ: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦].
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَصْنَامِ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ دُونَ (فَإِنَّهَا) جَرْيٌ عَلَى غَالِبِ الْعِبَارَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ عَنِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهَا مُدْرِكَةً.
وَجُمْلَةُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمَلِ كَلَامِ الْقَوْمِ الْمُتَضَمِّنَةِ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَأَنَّهُمْ مُقْتَدُونَ فِي ذَلِكَ بِآبَائِهِمْ. فَالْفَاءُ فِي أَفَرَأَيْتُمْ لِلتَّفْرِيعِ
140
وَقَدَّمَ عَلَيْهَا هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ صَدَارَةُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ قَلْبِيٌّ.
وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ عَلَى إِرَادَةِ التَّعْجِيبِ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ شَأْنِهِ. وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِرْدَافُهُ بِكَلَامٍ يُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَجَائِبِ أَحْوَالِ مَفْعُولِ الرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا [النَّجْم: ٣٣، ٣٤] الْآيَةَ، وَمِنْهُ تَعْقِيبُ قَوْلِهِ
هُنَا أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي.
وَعُطِفَ آباؤُكُمُ عَلَى أَنْتُمْ لِزِيَادَةِ إِظْهَارِ قِلَّةِ اكْتِرَاثِهِ بِتِلْكَ الْأَصْنَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَقْدَمِينَ عَبَدُوهَا فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إِبْطَالَ شُبْهَتِهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ.
وَوَصْفُ الْآبَاءِ بِالْأَقْدَمِيَّةِ إِيغَالٌ فِي قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِتَقْلِيدِهِمْ لِأَنَّ عُرْفَ الْأُمَمِ أَنَّ الْآبَاءَ كُلَّمَا تَقَادَمَ عَهْدُهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ آكَدَ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا. وَيَجُوزُ جَعْلُ الرُّؤْيَةِ بَصَرِيَّةً لَهَا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ وَجَعْلُ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرِيًّا وَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ لِشَيْءٍ يُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ الْحَدِيثَ عَنْهُ لِيَعِيَهُ السَّامِعُ حَقَّ الْوَعْيِ، أَوْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ بِتَقْدِيرِ: إِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ فَاعْلِمُوا أَنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ مُنْقَطِعٌ. وإِلَّا بِمَعْنى (لَكِن) إِذا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرَ مَشْمُولٍ لِعِبَادَتِهِمْ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالْخَالِقِ وَلَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ آلِهَتَهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ كَمَا هُوَ حَالُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: ٦٣] فَهُوَ الصَّنَمُ الْأَعْظَمُ عِنْدَهُمْ، وَإِلَى قَوْلِهِ: قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الْأَنْعَام: ٨٠]. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْكَلْدَانِيِّينَ (قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ) لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِالْخَالِقِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَكَانَ أَعْظَمُ الْآلِهَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ كَوْكَبَ الشَّمْسِ وَالصَّنَمُ الَّذِي يُمَثِّلُ الشَّمْسَ هُوَ (بَعْلُ)، فَوَظِيفَةُ الْأَصْنَامِ عِنْدهم تَدْبِير شؤون النَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْإِيجَادُ وَالْإِعْدَامُ فَكَانُوا مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] وَأَنَّ الْإِيجَادَ مِنْ أَعْمَالِ التَّنَاسُلِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنْ سِرِّ تَكْوِينِ تِلْكَ النُّظُمِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَإِيدَاعِهَا فِيهَا. وَقَدْ يَكُونُونَ مُعْتَرِفِينَ بِرَبّ عَظِيم خَالق لِلْأَكْوَانِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي
141
نِظَامِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا كَانَ حَالُ الْإِشْرَاكِ فِي الْعَرَبِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لِأَنَّ اللَّهَ مِنْ جُمْلَةِ مَعْبُودِيهِمْ، أَيْ إِلَّا الرَّبَّ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ أَصْنَامِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي سُورَة العنكبوت.
[٧٨- ٨٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٧٨ إِلَى ٨٢]
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَوْصُولَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِ رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ٧٧] وَأَنَّ فَهُوَ يَهْدِينِ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ الْخَالِقُ فَهُوَ الْأَوْلَى بِتَدْبِيرِ مَخْلُوقَاتِهِ دُونَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا غَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأً مُسْتَأْنَفًا بِهِ وَيَكُونَ فَهُوَ يَهْدِينِ خَبَرًا عَنْ الَّذِي. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِمُشَابَهَةِ الْمَوْصُولِ لِلشَّرْطِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَفِي الْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ٧٧]، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُخْلِصُ لَهُ لِأَنَّهُ خَلَقَنِي كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: ٧٩].
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَهْدِينِ دُونَ أَنْ يَقُولَ:
فَيَهْدِينِ، لِتَخْصِيصِهِ بِأَنَّهُ مُتَوَلِّي الْهِدَايَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ تَصَرُّفَ أَصْنَامَهُمْ بِالْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَلَيْسَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْعَاطِفِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَهْدِينِ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مُتَجَدِّدَةٌ لَهُ. وَجُعِلَ فِعْلُ الْهِدَايَةِ مُفَرَّعًا بِالْفَاءِ عَلَى فِعْلِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ مُعَاقِبٌ لَهُ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُقْتَضَى الْخَلْقِ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ خَلْقِ الْعَقْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه:
٥٠]. وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى طُرُقِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ١٠] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الَّذِي خَلَقَنِي جَسَدًا وَعَقْلًا. وَمِنَ الْهِدَايَةِ الْمَذْكُورَةِ دَفْعُ وَسَاوِسِ الْبَاطِلِ عَنِ الْعَقْلِ حَتَّى يَكُونَ إِعْمَالُ النَّظَرِ مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ.
142
وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَقَوْلِهِ: فَهُوَ يَشْفِينِ كَالْقَوْلِ فِي سَابِقِهِمَا لِلرَّدِّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُقَدِّرُ لَهُمْ تَيْسِيرَ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَشْرَبُونَ وَبِهَا بُرْؤُهُمْ إِذَا مَرِضُوا، وَلَيْسَا بِضَمِيرَيْ فَصْلٍ أَيْضًا.
وَعُطِفَ إِذا مَرِضْتُ عَلَى يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَ قَالَ ذَلِكَ مَرِيضًا فَإِنَّ إِذا تُخَلِّصُ الْفِعْلَ بَعْدَهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ إِذَا طَرَأَ عَلَيَّ مَرَضٌ.
وَفِي إِسْنَادِهِ فِعْلَ الْمَرَضِ إِلَى نَفْسِهِ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ رَاعَى فِيهِ الْإِسْنَادَ إِلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ فِي مَقَامِ الْأَدَبِ، فَأَسْنَدَ إِحْدَاثَ الْمَرَضِ إِلَى ذَاتِهِ وَلِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُمِيتُ بَلْ عَمَلُ الْأَصْنَامِ قَاصِرٌ عَلَى الْإِعَانَةِ أَوِ الْإِعَاقَةِ فِي أَعْمَالِ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ. فَأَمَّا الْمَوْتُ فَهُوَ مِنْ فِعْلِ الدَّهْرِ وَالطَّبِيعَةِ إِنْ كَانُوا دَهْرِيِّينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ
الْخَلْقَ وَالْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ لَيست من شؤون الْأَصْنَامِ وَأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ فَظَاهِرٌ.
وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تُعْطَفَ الصِّلَتَانِ عَلَى الصِّلَةِ الْأُولَى لِلِاهْتِمَامِ بِصَاحِبِ تِلْكَ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهَا نَعْتٌ عَظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَحَقِيقٌ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَقِلًّا بِدَلَالَتِهِ.
وَأَطْلَقَ عَلَى رَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ لَفْظَ الطَّمَعِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُبَاعَدَةً لِنَفْسِهِ عَنْ هَاجِسِ اسْتِحْقَاقِهِ الْمَغْفِرَةَ وَإِنَّمَا طَمَعَ فِي ذَلِكَ لِوَعْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ.
وَالْخَطِيئَةُ: الذَّنب. يُقَال: خطىء إِذَا أَذْنَبَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ فِي الْبَقَرَةِ [٥٨]. وَالْمَقْصُودُ فِي لِسَانِ الشَّرَائِعِ: مُخَالَفَةُ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ. وَإِذْ قَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَئِذٍ نَبِيئًا وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا فَالْخَطِيئَةُ مِنْهُمْ هِيَ مُخَالَفَةُ مُقْتَضَى الْمَقَامِ النَّبَوِيِّ.
وَالْمَغْفِرَةُ: الْعَفْوُ عَنِ الْخَطَايَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِ يَوْمَ الدِّينِ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْعَفْوِ، فَأَمَّا صُدُورُ الْعَفْوِ مِنَ اللَّهِ لِمِثْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِي الدُّنْيَا، وَقَدْ يَغْفِرُ خَطَايَا بَعْضِ الْخَاطِئِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ الشَّفَاعَةِ.
143
وَيَوْمُ الدِّينِ: هُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ تَعْرِيضًا بِالدُّعَاءِ. وَقَدْ أَشَارَ فِي هَذِهِ النُّعُوتِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَنْ أَحَدٍ قَصْدًا لِاقْتِصَاصِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ إِنْ رَامُوا الِاهْتِدَاءَ.
وَفِي تِلْكَ النُّعُوتِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مُهَيِّئَاتٌ لِلْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ فَقَدْ جَمَعَتْ كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ دَلَالَتِهَا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ أَطْوَارِ الْخَلْقِ الْجُسْمَانِيِّ دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى جَمِيعِ أُصُولِ النِّعَمِ مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ إِلَى الْخَلْقِ الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْثُ، فَذَكَرَ خَلْقَ الْجَسَدِ وَخَلْقَ الْعَقْلِ وَإِعْطَاءَ مَا بِهِ بَقَاءُ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْغِذَاءُ وَالْمَاءُ، وَمَا يَعْتَرِي الْمَرْءَ مِنَ اخْتِلَالِ الْمِزَاجِ وَشِفَائِهِ، وَذَكَرَ الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ خَاتِمَةُ الْحَيَاةِ الْأُولَى، وَأَعْقَبَهُ بِذِكْرِ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ حَالَةٌ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا نِعْمَةً إِلَّا بِغَوْصِ فِكْرٍ وَلَكِنَّ وَرَاءَهُ حَيَاةٌ هِيَ نِعْمَةٌ لَا مَحَالَةَ لِمَنْ شَاءَ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِعْمَةٌ.
وَحُذِفَتْ يَاءَاتُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ يَهْدِينِ، ويَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ لِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ لِأَنَّهَا يُوقَفُ عَلَيْهَا، وَفَوَاصِلُ هَذِهِ السُّورَةِ أَكْثَرُهَا بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: ١٤] فِي قِصَّةِ مُوسَى الْمُتَقَدّمَة.
[٨٣- ٨٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٩]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
لَمَّا كَانَ آخِرُ مَقَالِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ مُتَضَمِّنًا دُعَاءً بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى الدُّعَاءِ بِمَا فِيهِ جَمْعُ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ بِالرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي قَامَ بِهَا فِي قَوْمِهِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَام: ٨٣] فَكَانَ حِينَئِذٍ فِي حَالِ قُرْبٍ مِنَ اللَّهِ. وَجَهَرَ بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ عَقِبَ الِانْتِهَاءِ مِنْ أَقْدَسِ وَاجِبٍ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ، فَهُوَ
144
ابْتِهَالٌ أَرْجَى لِلْقَبُولِ كَالدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ إِفْطَارِ الصَّائِمِ وَدُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَكُلُّهَا فَرَاغٌ مِنْ عِبَادَاتٍ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ بِنَاءِ أَسَاسِ الْكَعْبَةِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ إِلَى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: ١٢٧- ١٢٩] وَابْتَدَأَ بِنَفْسِهِ فِي أَعْمَالِ هَذَا الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٣]، وَكَمَا أُمِرَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: ١٢].
وَلِلْأَوَّلِيَّاتِ فِي الْفَضَائِلِ مَرْتَبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَبِضِدِّ ذَلِك أوليات المساويء
فَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»
. وَقَدْ قَابَلَ إِبْرَاهِيمُ فِي دُعَائِهِ النِّعَمَ الْخَمْسَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨- ٨٢] الرَّاجِعَةَ إِلَى مَوَاهِبَ حِسِّيَّةٍ بِسُؤَالِ خَمْسِ نِعَمٍ رَاجِعَةٍ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأَقْحَمَ بَيْنَ طَلَبَاتِهِ سُؤَالَهُ الْمَغْفِرَةَ لِأَبِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ.
فَابْتِدَاءُ دُعَائِهِ بِأَنْ يعْطى حكما. وَالْحكم: هُوَ الْحِكْمَةُ وَالنُّبُوءَةُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الْقَصَص: ١٤] أَيِ النُّبُوءَةَ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ دَعَا نَبِيئًا فَلِذَلِكَ كَانَ السُّؤَالُ طَلَبًا لِلِازْدِيَادِ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ لَا حَدَّ لَهَا بِأَنْ يُعْطَى الرِّسَالَةَ مَعَ
النُّبُوءَةِ أَوْ يُعْطَى شَرِيعَةً مَعَ الرِّسَالَةِ، أَوْ سَأَلَ الدَّوَامَ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ ارْتَقَى فَطَلَبَ إِلْحَاقَهُ بِالصَّالِحِينَ. وَلَفْظُ الصَّالِحِينَ يَعُمُّ جَمِيعَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَيَكُونُ قَدْ سَأَلَ بُلُوغَ دَرَجَاتِ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَجَعَلَ الصَّالِحِينَ آخِرًا لِأَنَّهُ يَعُمُّ، فَكَانَ تَذْيِيلًا.
ثُمَّ سَأَلَ بَقَاءَ ذِكْرٍ لَهُ حَسَنٍ فِي الْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ مِنْ بَعْدِهِ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ الدَّوَامِ وَالْخِتَامِ عَلَى الْكَمَالِ وَطَلَبَ نَشْرِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَا تَتَغَذَّى بِهِ الرُّوحُ
145
مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ يَسْتَعْدِي دُعَاءَ النَّاسِ لَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمَ جَزَاءً عَلَى مَا عَرَفُوهُ مِنْ زَكَاءِ نَفْسِهِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا يَذْكُرُونَهُ وَتَذْكُرُهُ الْأُمَمُ التَّابِعَةُ لَهُمْ وَيَخْلُدُ ذِكْرُهُ فِي الْكُتُبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَهُوَ الثَّنَاءُ الصَّالِحُ»، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩]، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُشْبَعًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٤].
وَاللِّسَانُ مُرَادٌ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْآلَةِ عَلَى مَا يَتَقَوَّمُ بِهَا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:
لِي تَقْتَضِي أَنَّ الذِّكْرَ الْحَسَنَ لِأَجْلِهِ فَهُوَ ذِكْرُهُ بِخَيْرٍ. وَإِضَافَةُ لِسانَ إِلَى صِدْقٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، فَفِيهِ مُبَالَغَةُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ لِسَانًا صَادِقًا.
وَالصِّدْقُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَحْبُوبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ لِأَنَّهُ يُرْغَبُ فِي تَحَقُّقِهِ وَوُقُوعِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَسَأَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ الْجَنَّةَ خَالِدًا فَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْوَرَثَةِ إِلَى أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مِلْكُ الشَّيْءِ الْمَوْرُوثِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمَالِكِ السَّابِقِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْجَنَّةِ مَالِكُونَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُونَ الْمُسْتَحِقِّينَ من وَقت تبوّؤ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠، ١١].
وَسَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لِأَبِيهِ قَبْلَ سُؤَالِ أَنْ لَا يُخْزِيَهَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ يَوْمَئِذٍ شَيْءٌ يَنْكَسِرُ مِنْهُ خَاطِرُهُ وَقَدِ اجْتَهَدَ فِي الْعَمَلِ الْمُبَلِّغِ لِذَلِكَ وَاسْتَعَانَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ وَمَا بَقِيَتْ لَهُ حَزَازَةُ إِلَّا حَزَازَةَ كُفْرِ أَبِيهِ فَسَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا جِيءَ بِأَبِيهِ مَعَ الضَّالِّينَ لَحِقَهُ انْكِسَارٌ وَلَوْ كَانَ قَدِ اسْتُجِيبَ لَهُ بَقِيَّةُ دَعَوَاتِهِ، فَكَانَ هَذَا آخَرَ شَيْءٍ تَخَوَّفَ مِنْهُ لَحَاقَ
مَهَانَةٍ نَفْسِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ لَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُؤْتَى بِأَبِي إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةٍ ذِيحٍ (أَيْ ضَبْعٍ ذَكَرٍ) فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ فَذَلِكَ إِجَابَةُ قَوْلِهِ:
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أَيْ قَطْعًا لِمَا فِيهِ شَائِبَةُ الْخِزْيِ.
146
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْخِزْيِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥]. وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٢].
وَضَمِيرُ يُبْعَثُونَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ سَأَلَ لَهُ مَغْفِرَةً خَاصَّةً وَهِيَ مَغْفِرَةُ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ أَعْنِي الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ، وَهُوَ سُؤَالٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْخُلَّةِ وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: ٤٧]. وَلَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ مِنْ حَالِ أَبِيهِ أَنَّهُ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ ابْنُهُ أَوْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ مَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ آيَةُ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: ١١٤]. وَيَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ حِينَئِذٍ حِرْمَانُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: ١١٤]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْغُفْرَانِ لَهُ كِنَايَةً عَنْ سَبَبِ الْغُفْرَانِ وَهُوَ هِدَايَتُهُ إِلَى الْإِيمَانِ.
ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ إِلَخْ يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يُبْعَثُونَ قَصَدَ بِهِ إِظْهَارَ أَنَّ الِالْتِجَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَلَا عَوْنَ فِيهِ بِمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي أَوَّلُهَا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ يُرِيدُ إِلَى قَوْلِهِ: فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٢] مُنْقَطِعَةٌ عَنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةً لِلْيَوْمِ الَّذِي وَقَفَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَهُ فِي دُعَائِهِ أَنْ لَا يُخْزَى فِيهِ اه.
وَهُوَ اسْتِظْهَارٌ رَشِيقٌ فَيَكُونُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ اسْتِئْنَافًا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. وَفَتْحَةُ يَوْمَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّ (يَوْمَ) ظَرْفٌ أُضِيفَ إِلَى فِعْلٍ مُعَرَّبٍ فَيَجُوزُ إِعْرَابُهُ وَيَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْفَتْحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَة: ١١٩]. وَيَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ الْإِشَارَةُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ
147
بِمِثْلِ هَذَا فِي آيَة سُورَةِ
الصَّافَّاتِ [٨٣، ٨٤] فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ (أَيْ شِيعَةِ نُوحٍ) لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وَفِيهِ أَيْضًا تَذْكِيرُ قَوْمِهِ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَنَفْيُ نَفْعِ الْمَالِ صَادِقٌ بِنَفْيِ وُجُودِ الْمَالِ يَوْمَئِذٍ مِنْ بَابِ «على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ»، أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ. وَمِنْ عِبَارَاتِ عِلْمِ الْمَنْطِقِ «السَّالِبَةُ تَصْدُقُ بِنَفْيِ الْمَوْضُوعِ».
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَالِ وَالْبَنِينَ فِي نَفْيِ النَّافِعِينَ جَرَى عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ فِي دِفَاعِ أَحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يُدَافِعَ إِمَّا بِفِدْيَةٍ وَإِمَّا بِنَجْدَةٍ (وَهِيَ النَّصْرُ)، فَالْمَالُ وَسِيلَةُ الْفِدْيَةِ، وَالْبَنُونَ أَحَقُّ مَنْ يُنْصَرُونَ أَبَاهُمْ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ النَّصْرُ عِنْدَهُمْ عَهْدًا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ. قَالَ قَيْسُ ابْن الْخَطِيمِ:
ثَأَرْتُ عَدِيًّا وَالْخَطِيمَ وَلَمْ أُضِعْ وِلَايَةَ أَشْيَاخٍ جُعِلَتْ إِزَاءَهَا
وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ انْتِفَاءَ نَفْعِ مَا عَدَا الْمَالَ وَالْبَنِينَ مِنْ وَسَائِلِ الدِّفَاعِ حَاصِلٌ بِالْأَوْلَى بِحُكْمِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْعُرْفِ. فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ وَلَا شَيْءٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَفْعُولِ يَنْفَعُ، أَيْ إِلَّا مَنْفُوعًا أَتَى اللَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَهُوَ مَفْهُومٌ لِلسَّامِعِينَ فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْثَرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ عَدُّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا أَعْضَلَ عَلَى خَلَفِهِمْ طَرِيقُ اسْتِخْلَاصِ هَذَا الْمَعْنَى الْمُجْمَلِ مِنْ تَفَاصِيلِ أَجْزَاءِ تَرْكِيبِ الْكَلَامِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» احْتِمَالَاتٍ لَا يَسْلَمُ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ، فَبِنَا أَنَّ نُفَصِّلَ وَجْهَ اسْتِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ بِوَجْهٍ يَكُونُ أَلْيَقَ بِتَرْكِيبِهَا دُونَ تَكَلُّفٍ.
فَاعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ يَنْفَعُ رَافِعٌ لِفَاعِلٍ وَمُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ بِحَقِّ تَعَدِّيهِ إِلَى الْمَفْعُولِ يَقْتَضِي مَفْعُولًا، كَمَا يَصْلُحُ لِأَنْ تُعَلَّقَ بِهِ مُتَعَلَّقَاتٌ بِحُرُوفِ تَعْدِيَةٍ، أَيْ حُرُوفِ جَرٍّ، وَإِنَّ أَوَّلَ مُتَعَلَّقَاتِهِ خُطُورًا بِالذِّهْنِ مُتَعَلَّقُ سَبَبِ الْفِعْلِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يُشِيرُ إِلَى فَاعِلِ
148
يَنْفَعُ وَمَفْعُولِهِ وَسَبَبِهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ، فَقَوْلُهُ: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ أَتَى اللَّهَ لِأَنَّ فَاعِلَ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ هُوَ الْمَنْفُوعُ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولُ فِعْلِ يَنْفَعُ وَالْمُتَعَلِّقُ بِأَحَدِ فِعْلَيْهِ وَهُوَ فِعْلُ أَتَى الَّذِي
هُوَ فَاعِلُهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الْمَعْنَى بِفِعْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ يَنْفَعُ الَّذِي مَنْ أَتَى اللَّهَ مَفْعُولُهُ. فَعُلِمَ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ نَافِعٌ أَوْ شَيْءٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ عُمُومَ نَفْيِ النَّافِعِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مالٌ- وبَنُونَ مِنْ عُمُومِ الْأَشْيَاءِ كَمَا قَرَّرْنَا. وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَنْفَعُ لِقَصْدِ الْعُمُومِ كَحَذْفِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس: ٢٥] أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا شَيْءٌ يَأْتِي بِهِ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَالْمُسْتَثْنَى وَهُوَ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مُتَعَيِّنٌ لِأَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ مَفْعُولِ يَنْفَعُ وَلَيْسَ مُسْتَثْنًى مِنْ فَاعِلِ يَنْفَعُ لِأَنَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يَوْمَئِذٍ هُوَ مَنْفُوعٌ لَا نَافِعٌ فَلَيْسَ مُسْتَثْنًى مِنْ صَرِيحِ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ قَبْلَهُ، وَلَا مِمَّا دلّ عَلَيْهِ الاسمان مِنَ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ بِمَعْنَى: «وَلَا غَيْرُهُمَا»، فَتَمَحَّضَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجًا مِنْ عُمُومِ مَفْعُولِ يَنْفَعُ. وَتَقْدِيره: إِلَّا أحدا أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، أَيْ فَهُوَ مَنْفُوعٌ، وَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ مَفْعُولِ فِعْلِ يَنْفَعُ يَضْطَرُّنَا إِلَى وُجُوبِ تَقْدِيرِ نَافِعِهِ فَاعِلَ فِعْلِ يَنْفَعُ، أَي فَإِنَّهُ نَفَعَهُ شَيْءٌ نَافِعٌ. وَيُبَيِّنُ إِجْمَالَهُ مُتَعَلَّقُ فِعْلِ يَنْفَعُ وَهُوَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ كَانَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ سَبَبَ النَّفْعِ فَهُوَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْفَاعِلِ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ بِلَفْظِ «شَيْءٌ» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَالْخُلَاصَةُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي اللَّهَ يَوْمَئِذٍ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ هُوَ مَنْفُوعٌ بِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ نَافِعٌ (أَيْ نَافِعٌ نَفْسَهُ) بِدَلَالَةِ الْمَجْرُورِ الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ أَتَى، فَإِنَّ الْقَلْبَ السَّلِيمَ قَلْبُ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمَنْفُوعِ فَصَارَ ذَلِكَ الشَّخْصُ نَافِعًا وَمَنْفُوعًا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّجْرِيدِ. وَقَرِيبٌ مِنْ وُقُوعِ الْفَاعِلِ مَفْعُولًا فِي بَابِ ظَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: خِلْتُنِي وَرَأَيْتُنِي، فَجُعِلَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ سَبَبًا يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ، وَلِهَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ مُفَرَّغٌ عَنِ الْمَفْعُولِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ نَسْجِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ إيجاز مغن أَضْعَاف من الْجمل المطوية. وَجَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ.
149
وَالْقَلْبُ: الْإِدْرَاكُ الْبَاطِنِيُّ.
وَالسَّلِيمُ: الْمَوْصُوفُ بِقُوَّةِ السَّلَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا السَّلَامَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ، أَيِ الْخُلُوصُ مِنْ عَقَائِدِ الشِّرْكِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الزُّكَاءِ النَّفْسِيِّ. وَضِدُّهُ الْمَرِيضُ مَرَضًا مَجَازِيًّا قَالَ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: ١٠]. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السَّلِيمِ هُنَا لِأَنَّ السَّلَامَةَ بَاعِثُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرِيَّة وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْقُلُوبِ هَذِهِ السَّلَامَةُ فِي الدُّنْيَا بِاعْتِبَارِ الْخَاتِمَةِ فَيَأْتُونَ بِهَا سَالِمَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدي ربّهم.
[٩٠- ٩٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٩٠ إِلَى ٩٥]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥)
الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَاوُ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا لَا يَنْفَعُ مالٌ [الشُّعَرَاء: ٨٨]، أَيْ يَوْمَ عَدَمِ نَفْعِ مَنْ عَدَا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَقَدْ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَالْخُرُوجُ إِلَى تَصْوِيرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ شَيْءٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ الدَّعْوَةَ بِإِلْقَاءِ السُّؤَالِ عَلَى قَوْمِهِ فِيمَا يَعْبُدُونَ إِيقَاظًا لِبَصَائِرِهِمْ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ. وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ اسْتِئْهَالِهَا الْإِلَهِيَّةَ بِدَلِيلِ التَّأَمُّلِ، وَهُوَ أَنَّهَا فَاقِدَةٌ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَعَاجِزَةٌ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، ثُمَّ طَالَ دَلِيلُ التَّقْلِيدِ الَّذِي نَحَا إِلَيْهِ قَوْمُهُ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ تَأْيِيدِ دِينِهِمْ بِالنَّظَرِ.
فَلَمَّا نَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمُ انْتَصَبَ لِبَيَانِ الْإِلَهِ الْحَقِّ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَهُ صِفَاتُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ، تَصَرُّفَ الْمُنْعِمِ الْمُتَوَحِّدِ بِشَتَّى التَّصَرُّفِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ تَصَرُّفُهُ بِالْإِحْيَاءِ الْمُؤَبَّدِ وَأَنَّهُ الَّذِي نَطْمَعُ فِي تَجَاوُزِهِ عَنْهُ يَوْمَ الْبَعْثِ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ لَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ يَوْمَ الْبَعْثِ، ثُمَّ صَوَّرَ لَهُمْ عَاقِبَةَ حَالَيِ التَّقْوَى وَالْغَوَايَةِ بِذِكْرِ دَارِ إِجْزَاءِ الْخَيْرِ وَدَارِ إِجْزَاءِ الشَّرِّ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْمُهُ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ وَغَيْرُ زَوْجِهِ
150
وَغَيْرُ لُوطٍ ابْنِ أَخِيهِ كَانَ الْمَقَامُ بِذِكْرِ التَّرْهِيبِ أَجْدَرَ، فَلِذَلِكَ أَطْنَبَ فِي وَصْفِ حَالِ الضَّالِّينَ يَوْمَ الْبَعْثِ وَسُوءِ مَصِيرِهِمْ حَيْثُ يَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَدَارَكُوا الْإِيمَانَ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ.
وَالْإِزْلَافُ: التَّقْرِيبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٤]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَجِدُونَ الْجَنَّةَ حَاضِرَةً فَلَا يَتَجَشَّمُونَ مَشَقَّةَ السَّوْقِ إِلَيْهَا.
وَاللَّامُ فِي لِلْمُتَّقِينَ لَامُ التَّعْدِيَةِ.
وبُرِّزَتِ مُبَالَغَةٌ فِي أُبْرِزَتْ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٣٦]. وَالْمُرَادُ ب لِلْغاوِينَ الْمَوْصُوفُونَ بِالْغِوَايَةِ، أَيْ ضَلَالُ الرَّأْيِ.
وَذِكْرُ مَا يُقَالُ لِلْغَاوِينَ لِلْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ وَإِظْهَارِ حَقَارَةِ أَصْنَامِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ هَذَا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يُخَاطَبُونَ بِهِ يَوْمَئِذٍ مُنَاسَبَةٌ لِمَقَامِ طَلَبِ الْإِقْلَاعِ عَنْ عِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ الْقَوْلِ إِلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَعَلَّقَ بِمَعْرِفَةِ الْقَوْلِ لَا بِمَعْرِفَةِ الْقَائِلِ، فَالْقَائِلُ الْمَلَائِكَةُ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُوَجِّهَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ خِطَابَهُ مُبَاشَرَةً.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ تَعْيِينِ مَكَانِ الْأَصْنَامِ إِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً، أَوْ عَنْ عَمَلِهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، تَنْزِيلًا لِعَدَمِ جَدْوَاهَا فِيمَا كَانُوا يَأْمُلُونَهُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ تَهَكُّمًا وَتَوْبِيخًا وَتَوْقِيفًا عَلَى الْخَطَأِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ كَذَلِكَ مَعَ الْإِنْكَارِ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ نُصَرَاءَ.
وَالِانْتِصَارُ طَلَبُ النَّصِيرِ.
وَكُتِبَ أَيْنَ مَا فِي الْمَصَاحِف مَوْصُولَة نون (أَيْن) بِمِيمِ (مَا) وَالْمُتَعَارَفُ فِي الرَّسْمِ الْقِيَاسِيِّ أَنَّ مِثْلَهُ يُكْتَبُ مَفْصُولًا لِأَنَّ (مَا) هُنَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَلَيْسَتِ الْمَزِيدَةَ
151
بَعْدَ (أَيْنَ) الَّتِي تَصِيرُ (أَيْنَ) بِزِيَادَتِهَا اسْمَ شَرْطٍ لِعُمُومِ الْأَمْكِنَةِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
وأَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّخْطِئَةِ، أَيْ هَلْ أَخْطَأْتُمْ فِي رَجَاءِ نَصْرِهَا إِيَّاكُمْ، أَوْ فِي الْأَقَلِّ هَلْ تَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَنْفُسِهَا وَذَلِكَ حِينَ يُلْقَى بِالْأَصْنَامِ فِي النَّارِ بِمَرْأًى مِنْ عَبَدَتِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ: فَكُبْكِبُوا فِيها، أَيْ كُبْكِبَتِ الْأَصْنَامُ فِي جَهَنَّم.
وَمعنى فَكُبْكِبُوا كُبُّوا فِيهَا كَبًّا بَعْدَ كَبٍّ فَإِنَّ كُبْكِبُوا مُضَاعَفُ كُبُّوا بِالتَّكْرِيرِ وَتَكْرِيرُ اللَّفْظِ مُفِيدٌ تَكْرِيرَ الْمَعْنَى مِثْلُ: كَفْكَفَ الدَّمْعَ، وَنَظِيرُهُ فِي الْأَسْمَاءِ: جَيْشٌ لَمْلَمٌ، أَيْ كَثِيرٌ، مُبَالَغَةٌ فِي اللَّمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ فِعْلًا مُرَادِفًا لَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى حُرُوفِهِ وَلَا تَضْعِيف فِيهِ فَكَانَ التَّضْعِيفِ فِي مُرَادِفِهِ لِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي مَعْنَى الْفِعْل.
وضمائر يَنْصُرُونَكُمْ- ويَنْتَصِرُونَ- وفَكُبْكِبُوا عَائِدَة إِلَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ: هم أَوْلِيَاؤُهُ وَأَصْنَافُ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْلِيسَ فِي سُورَة الْبَقَرَة.
[٩٦- ١٠٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٩٦ إِلَى ١٠٢]
قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠)
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢)
يجوز أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْنَبَ بِهِ الْمَوْعِظَةَ لِتَصْوِيرِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، أَوْ تَكُونُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَمَا سَيَأْتِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةُ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ انْتَهَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٩٥] أَوْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: ٨٧] عَلَى مَا اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ مَوْعِظَةً مِنَ اللَّهِ لِلسَّامِعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْلِيمًا مِنْهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا مُعْتَرِضًا بَيْنَ ذِكْرِ الْقِصَّةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا وَهُوَ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء
152
عَنْ قَوْلِهِ:
فَكُبْكِبُوا فِيها [الشُّعَرَاء: ٩٤] لِأَنَّ السَّامِعَ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَنْ فَائِدَةِ إِيقَاعِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ مَعَ أَنَّهَا لَا تفقه وَلَا تحسّ فَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، فَحِكَايَةُ مُخَاصَمَةِ عَبَدَتِهَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُمْ أَصْنَامَهُمْ هُوَ مَثَارُ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمْ إِذْ رَأَى الْأَتْبَاعُ كَذِبَ مُضَلِّلِيهِمْ مُعَايَنَةً وَلَا يَجِدُ الْمُضَلَّلُونَ تَنَصُّلًا وَلَا تَفَصِّيًا، فَإِنَّ مَذَلَّةَ الْأَصْنَامِ وَحُضُورِهَا مَعَهُمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ أَقْوَى شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا لَهُمْ وَلَا لِأَنْفُسِهَا.
وَأَمَّا جُمْلَةُ: وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَجُمْلَةُ تَاللَّهِ مَقُولُ الْقَوْلِ، وَجُمْلَةُ: إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ جَوَابُ الْقَسَمِ. وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) الثَّقِيلَةِ وَقَدْ أُهْمِلَتْ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ مُجَوِّزٌ لِلْإِهْمَالِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا. وَاقْتِرَانُ خَبَرِ (كَانَ) بِاللَّامِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنْ المخففة الْمُؤَكّدَة وَبَين (إِنِ) النَّافِيَةِ، وَالْغَالِبُ أَنْ لَا تَخْلُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ عَنْ فِعْلٍ مِنْ بَابِ (كَانَ).
وَجِيءَ فِي الْقَسَمِ بِالتَّاءِ دون الْوَاو وَالْبَاء لِأَنَّ التَّاءَ تَخْتَصُّ بِالْقَسَمِ فِي شَيْءٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٧٣]، وَقَوْلِهِ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٧]، فَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْ ضَلَالِهِمْ إِذْ نَاطُوا آمَالَهُمُ الْمَعُونَةَ وَالنَّصْرَ بِحِجَارَةٍ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا. وَلِذَلِكَ أَفَادُوا تَمَكُّنَ الضَّلَالِ مِنْهُمْ بِاجْتِلَابِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الْمُسْتَعَارِ لِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ شَدِيدُ الْمُلَابَسَةِ لِظَرْفِهِ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِوَصْفِهِمُ الضَّلَالَ بِالْمُبِينِ، أَيِ الْوَاضِحُ الْبَيِّنُ. وَفِي هَذَا تَسْفِيهٌ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ إِذْ تَمَشَّى عَلَيْهَا هَذَا الضَّلَالُ الَّذِي مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُوجَ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ.
وإِذْ نُسَوِّيكُمْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ كُنَّا أَيْ كُنَّا فِي ضَلَالٍ فِي وَقْتِ إِنَّا نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَيْسَتْ إِذْ بِمَوْضُوعَةٍ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ عَلْوَانَ التُّونُسِيُّ الشَّهِيرُ بِالْمِصْرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمُقْرِيُّ فِي «نَفْحِ الطِّيبِ» فِي تَرْجَمَةِ أَبِي جَعْفَرٍ اللَّبْلِيِّ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا غُشِيَ عَلَيْهِ حَاصِلُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَتَوَهَّمَهُ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي إِذْ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
153
أَيْ حِينَ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ.
وَالتَّسْوِيَةُ: الْمُعَادَلَةُ وَالْمُمَاثَلَةُ، أَيْ إِذْ نَجْعَلُكُمْ مِثْلَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُمْ مِثْلَهُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ حَالِ إِشْرَاكِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ٧٧]، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِثْلَهُ فِيمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ إِلَهِيَّتِهِ يَوْمَئِذٍ إِذْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أَصْلًا فِي الدُّنْيَا فَهِيَ تَسْوِيَة بالمئال وَقَدْ آبُوا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَلِمَةُ إِبْرَاهِيمَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ قَالَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء:
٧٧].
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي نُسَوِّيكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَهُوَ مِنْ تَوْجِيهِ الْمُتَنَدِّمِ الْخِطَابَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَكَانَ سَبَبًا فِي الْأَمْرِ الَّذِي جَرَّ إِلَيْهِ النَّدَامَةَ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ وَيَسْمَعُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَوْبِيخِ نَفْسِهِ. وَمِنْهُ مَا رَوَى الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَوَجَدَهُ مُمْسِكًا بِلِسَانِهِ بِأُصْبُعَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَوْرَدَتْنِي الْمَوَارِدَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُلَبِّي وَيَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ فِي الْكَلَامِ نَثْرًا وَنَظْمًا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
فَيَا دَمْعُ أَنْجِدْنِي عَلَى سَاكِنِي نَجْدٍ وَصِيغَ نُسَوِّيكُمْ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ حِينَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالدُّعَاءِ وَالنُّعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ خِطَابُ بَعْضِ الْعَامَّةِ لِبَعْضٍ. وَعَنَوْا بِالْمُجْرِمِينَ أَيِمَّةَ الْكُفْرِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا لَهُمُ الشِّرْكَ وَاخْتَلَقُوا لَهُمْ دِينًا.
وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْمُجْرِمُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي كَمَالِ الْإِجْرَامِ فَإِنَّ مِنْ
مَعَانِي اللَّامِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ.
وَرَتَّبُوا بِالْفَاءِ انْتِفَاءَ الشَّافِعِينَ عَلَى جُمْلَةِ: وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ حَيْثُ أَطْمَعُوهُمْ بِشَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] فَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنْ لَا شَفَاعَةَ لَهَا، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ وَالتَّوَجُّعِ.
154
وَالشَّافِعُ: الَّذِي يَكُونُ وَاسِطَةَ جَلْبِ نَفْعٍ لِغَيْرِهِ أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ فِي الْبَقَرَةِ [١٢٣]، وَالشَّفِيعُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَهُوَ تَتْمِيمٌ أَثَارَهُ مَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ كُلِّ مَنْ يَمُرُّونَ بِهِ أَوْ يَتَّصِلُونَ، وَمِنَ الْحِرْمَانِ الَّذِي يُعَامِلُهُمْ كُلُّ مَنْ يَسْأَلُونَهُ الرِّفْقَ بِهِمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ تَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فَإِنَّ الصَّدِيقَ هُوَ الَّذِي يُوَاسِيكَ أَوْ يُسَلِّيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ وَيَوْمَئِذٍ حَقَّتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: ٦٧] وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الصَّدِيقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ صَدِيقِكُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [٦١].
وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ، فَعِيلٌ مِنْ حَمَّ (بِفَتْحِ الْحَاءِ) إِذَا دَنَا وَقَرُبَ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الصَّدِيقِ.
وَالْمُرَادُ نَفْيُ جِنْسِ الشَّفِيعِ وَجِنْسِ الصَّدِيقِ لِوُقُوعِ الِاسْمَيْنِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ، وَفِي ذَلِكَ السِّيَاقِ يَسْتَوِي الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْجِنْسِ. وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ اسْمَيْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِذْ جِيءَ بِ شافِعِينَ جَمْعًا، وَبِ صَدِيقٍ مُفْرَدًا، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالشَّافِعِينَ الْآلِهَةَ الْبَاطِلَةَ وَكَانُوا يَعْهَدُونَهُمْ عَدِيدِينَ فَجَرَى عَلَى كَلَامِهِمْ مَا هُوَ مُرْتَسِمٌ فِي تَصَوُّرِهِمْ. وَأَمَّا الصَّدِيقُ فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ جِنْسُهُ دُونَ عَدَدِ أَفْرَادِهِ إِذْ لَمْ يَعْنُوا عَدَدًا مُعَيَّنًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ نَفْيِ الْجِنْسِ، وَعَلَى الْأَصْلِ فِي الْأَلْفَاظِ إِذْ لَمْ يَكُنْ دَاعٍ لِغَيْرِ الْإِفْرَادِ. وَالَّذِي يَبْدُو لِي أَنَّهُ أُوثِرُ جَمْعُ شافِعِينَ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِصُورَةِ مَا فِي أَذْهَانِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا إِفْرَادُ صَدِيقٍ فَلِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ وَصْفُ حَمِيمٍ فَلَوْ جِيءَ بِالْمَوْصُوفِ جَمْعًا لَاقْتَضَى جَمْعُ وَصْفِهِ، وَجَمْعُ حَمِيمٍ فِيهِ ثِقَلٌ لَا يُنَاسِبُ مُنْتَهَى الْفَصَاحَةِ وَلَا يَلِيقُ بِصُورَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ مَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ الَّذِي هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ.
ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَى هَذَا التَّحَسُّرِ وَالنَّدَامَةِ تَمَنِّي أَنْ يُعَادُوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ فِي
الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
وَ (لَوْ) هَذِهِ لِلتَّمَنِّي، وَأَصْلُهَا (لَوْ) الشَّرْطِيَّةُ لَكِنَّهَا تُنُوسِيَ مِنْهَا مَعْنَى الشَّرْطِ.
155
وَأَصْلُهَا:
لَوْ أُرْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا لَآمَنَّا، لَكِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْصِدُ تَعْلِيقَ الِامْتِنَاعِ عَلَى امْتِنَاعٍ تَمَحَّضَتْ (لَوْ) لِلتَّمَنِّي لِمَا بَيْنَ الشَّيْءِ الْمُمْتَنِعِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُتَمَنًّى مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْكَرَّةُ: مَرَّةٌ مِنَ الْكَرِّ وَهُوَ الرُّجُوع.
وانتصب فَنَكُونَ فِي جَوَاب التمنّي.
[١٠٣، ١٠٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٠٣ إِلَى ١٠٤]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ لَهَاتِهِ الْجُمْلَةِ تَعْدَادًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَسْجِيلًا لِتَصْمِيمِهِمْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، فَكَمَا لَمْ يَهْتَدِ بِهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ فَمَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِمُؤْمِنِينَ بِهَا بَعْدَ سَمَاعِهَا، وَلَكِنَّ التَّبْلِيغَ حَقٌّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِه الْآيَة.
[١٠٥- ١١٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١١٠]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠)
اسْتِئْنَافٌ لتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء:
١٠٣] أَيْ لَا تَأْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْظُمُ عَلَيْكَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وَقَدْ عَلِمَ الْعَرَبُ رِسَالَةَ نُوحٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّالَّةِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْأَحْوَالَ وَيَنْسَوْنَ أَسْبَابَهَا.
وَأُنِّثَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ لِتَأْوِيلِ قَوْمُ بِمَعْنَى الْأُمَّةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ كَمَا
156
يُقَالُ:
قَالَتْ قُرَيْشٌ (١)، وَقَالَتْ بَنُو عَامِرٍ (٢)، وَذَلِكَ قِيَاسٌ فِي كُلِّ اسْمِ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ
إِذَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ مِثْلُ نَفَرٍ وَرَهْطٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ الْآدَمِيِّينَ نَحْوُ إِبِلٍ فَمُؤَنَّثٌ لَا غَيْرُ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ صَاحب «اللِّسَان» و «الْمِصْبَاح».
وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» هَذِهِ الْعِبَارَةُ «الْقَوْمُ مُؤَنَّثَةٌ وَتَصْغِيرُهَا قُوَيْمَةُ» فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ وَسَكَتَ شُرَّاحُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَرِّجِ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ فِي «الْأَسَاسِ» فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنُ سِيدَهْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَ تَأْنِيثِ (قَوْمٍ) وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَغَّرَ عَلَى قُوَيْمَةَ فَيُجْمَعُ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ سِيدَهْ، وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ الْمُوَكَّدِ بِقَوْلِهِ: وَتَصْغِيرُهُ قُوَيْمَةُ، لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ التَّصْغِيرَ يَرُدُّ الْأَسْمَاءَ إِلَى أُصُولِهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَأْنِيثَهُ لَيْسَ بِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى الْأُمَّةِ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ اعْتِبَارٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِجْرَاءِ الصِّيَغِ مِثْلَ التَّصْغِيرِ، فَإِنَّ الصِّيَغَ مِنْ آثَارِ الْوَضْعِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُجْعَلُ لِلْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ بِالْمَجَازِ.
وَجُمِعَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا كَذَّبُوا رَسُولًا وَاحِدًا أَوَّلَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَهُمْ أَوَّلُ الْمُكَذِّبِينَ، فَإِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ بَشَرًا، وَأَنْ تَكُونَ عِبَادَةُ أَصْنَامِهِمْ ضَلَالًا فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ مُقْتَضِيًا تَكْذِيبَ كُلِّ رَسُولٍ لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٣] وَمَا بَعْدَهُ. وَقَدْ حُكِيَ تَكْذِيبُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا فِي قَوْلِهِ:
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ فِي الْأَعْرَافِ [٦٣].
وَسَيَأْتِي حِكَايَةُ تَكْذِيبِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ لَيْكَةِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ وَقَوْلِهِ: الْمُرْسَلِينَ.
_________
(١) أَشرت إِلَى قَول الشَّاعِر:
فَعَدِّ عَمَّا تَرَى إِذْ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ
إِذا قتلنَا وَلم يثأر لنا أحد قَالَت قُرَيْش أَلا تِلْكَ الْمَقَادِير
(٢) أَشرت إِلَى قَول النَّابِغَة:
157
وَ (إِذْ قالَ) ظَرْفٌ، أَيْ كَذَّبُوهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ أَلا تَتَّقُونَ فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ [الشُّعَرَاء: ١١١]. وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلا تَتَّقُونَ صَدَرَ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ مِنْ قَبْلُ وَكَرَّرَ دَعْوَتَهُمْ إِذْ رَآهُمْ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي مُجَاوَبَتِهِ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاء: ١١١].
وَخَصَّ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هَذَا الْمَوْقِفَ مِنْ مَوَاقِفِهِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِغَرَضِ السُّورَةِ فِي تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مُمَاثِلِ حَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ. وَالْأَخُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْقَرِيبِ مِنَ الْقَبِيلَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٥].
وَقَوْلُهُ: أَلا تَتَّقُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَلا مُرَكَّبًا مِنْ حَرْفَيْنِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى (لَا) النافية، فَهُوَ اسْتِفْهَام عَنِ انْتِفَاءِ تَقْوَاهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَهُوَ يَقْتَضِي
امْتِنَاعَهُمْ مِنَ الِامْتِثَالِ لِدَعْوَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلَا حَرْفًا وَاحِدًا هُوَ حَرْفُ التَّحْضِيضِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ [التَّوْبَة: ١٣] وَهُوَ يَقْتَضِي تَبَاطُؤَهُمْ عَنْ تَصْدِيقِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى: خَشْيَةُ اللَّهِ مِنْ عِقَابِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَنْ جَعَلُوا مَعَهُ شُرَكَاءَ.
وَجُمْلَةُ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ أَوْ لِلتَّحْضِيضِ، أَيْ كَيْفَ تَسْتَمِرُّونَ عَلَى الشِّرْكِ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ وَأَنَا رَسُولٌ لكم أَمِين عنْدكُمْ.
وَكَانَ نُوحٌ مَوْسُومًا بِالْأَمَانَةِ لَا يُتَّهَمُ فِي قَوْمِهِ كَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَقَّبُ الْأَمِينُ فِي قُرَيْشٍ. قَالَ النَّابِغَةُ:
كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ إِنْكَارِهِمْ أَمَانَتَهُ لِأَنَّهُ تَوَقَّعَ حُدُوثَ الْإِنْكَارِ فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِمْ بِتَجْرِبَةِ أَمَانَتِهِ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الْأَمَانَةَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا بَلَّغَهُمْ مِنْ رِسَالَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ سَأَلَهُ: هَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ (يَعْنِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَذِبًا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا فَعَلَ فِيهَا. فَقَالَ لَهُ هِرَقْلُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ مَا كَانَ لِيَتْرُكَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. فَفِي حِكَايَةِ اسْتِدْلَالِ نُوحٍ بِأَمَانَتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ فِي هَذِهِ
158
الْقِصَّةِ الْمَسُوقَةِ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ إِذْ كَذَّبُوهُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَدْعُونَهُ الْأَمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَمِينٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا. وَالتَّأْكِيدُ أَيْضًا لِتَوَقُّعِ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَة: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أَيْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَمِينٌ لَكُمْ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي لَا أَطْلُبُ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ نَفْعًا لِنَفْسِي.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الدَّعْوَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَكَرَّرَ جُمْلَةَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ فَيَكُونُ قَدِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَرْكِ التَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَ مَا تَقْتَضِيهِ جُمْلَةُ الِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بقوله: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، ثُمَّ أَعَادَ جُمْلَةَ الدَّعْوَةِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ إِذْ قَالَ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِلدَّعْوَةِ وَلِتَعْلِيلِهَا.
وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ أَطِيعُونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: ١٤] فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٧، ١٨] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آل عمرَان [٣٣].
[١١١- ١١٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١١١ إِلَى ١١٥]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)
جُمْلَةُ: قالُوا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ [الشُّعَرَاء: ١٠٥] مِنَ اسْتِشْرَافِ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُوحٍ مِنْ حِوَارٍ، وَلِذَلِكَ حُكَيَتْ مُجَادَلَتُهُمْ بِطَرِيقَةِ: قَالُوا، وَقَالَ. وَالْقَائِلُونَ: هُمْ كبراء الْقَوْم الَّذين تَصَدَّوْا لِمُحَاوَرَةِ نُوحٍ.
159
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُؤْمِنُ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُؤْمِنُ لَكَ وَقَدِ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ فَجُمْلَةُ: وَاتَّبَعَكَ حَالِيَّةٌ.
والْأَرْذَلُونَ: سَقَطُ الْقَوْمِ مَوْصُوفُونَ بِالرَّذَالَةِ وَهِيَ الْخِسَّةُ وَالْحَقَارَةُ، أَرَادُوا بِهِمْ ضُعَفَاءَ الْقَوْمِ وَفُقَرَاءَهُمْ فَتَكَبَّرُوا وَتَعَاظَمُوا أَنْ يَكُونُوا وَالضُّعَفَاءُ سَوَاءً فِي اتِّبَاعِ نُوحٍ. وَهَذَا كَمَا قَالَ عُظَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ:
أَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ اطْرُدْهُمْ عَنْكَ فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ نَتَّبِعَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٢].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاتَّبَعَكَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مُضِيٍّ مِنْ صِيغَةِ الِافْتِعَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِهِ أَوْ كَانُوا أَكْثَرَ أَتْبَاعِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَأَتْبَاعُكَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَأَلِفٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَابِعٍ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ لَا غَيْرُهُمْ فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ قَصْرٍ.
وَجَوَابُ نُوحٍ عَنْ كَلَامِ قَوْمِهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَدْقِيقٍ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. فَأَمَّا لَفْظُهُ فَاقْتِرَانُ
أَوَّلِهِ بِالْوَاوِ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى كَلَامِ قَوْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّصَالِهِ بِكَلَامِهِمْ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مُبَادَرَتِهِ بِالْجَوَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَة: ١٢٤]. وَيُسَمَّى عَطْفُ تَلْقِينٍ مُرَاعَاةً لِوُقُوعِهِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُسَمَّى عَطْفَ تَكْمِيلٍ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قَوْمَهُ فَصَّلُوا إِجْمَالَ وَصْفِهِمْ أَتْبَاعَهُ بِالْأَرْذَلِينَ بِأَنْ بَيَّنُوا أَوْصَافًا مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْحَاجَةِ الَّذِينَ لَا يَعْبَأُ النَّاسُ بِهِمْ فَأَتَى بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ عِلْمِهِ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِالْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ جَدْوَاهُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنِ الشَّيْءِ يُؤْذِنُ بِالْجَهْلِ بِهِ، وَالْجَهْلُ تُلَازِمُهُ قِلَّةُ الْعِنَايَةِ بِالْمَجْهُولِ وَضَعْفُ شَأْنِهِ، كَمَا يُقَالُ لَكَ: يُهَدِّدُكَ فُلَانٌ، فَتَقُولُ: وَمَا فُلَانُ، أَيْ لَا يَعْبَأُ بِهِ. وَفِي خَبَرِ وَهْبِ بْنِ كِيسَانَ عَنْ جَابِرِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً فَقَالَ وَهْبٌ: قُلْتُ وَمَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ.
160
وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ حَتَّى أَشْتَغِلَ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَعْمَالِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُ مَرَاتِبَهُمْ فَأَنَا لَا أَهْتَمُّ بِمَا قَبْلَ إِيمَانِهِمْ.
وَضُمِّنَ عِلْمِي مَعْنَى اشْتِغَالِي وَاهْتِمَامِي فعدّي بِالْبَاء.
وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ مَوْصُول مَا صدقه الْحَالَةُ لِأَنَّ الْحَالَةَ لَا تَخْلُو مِنْ عَمَلٍ.
فَالْمَعْنَى: وَمَا عِلْمِي بِأَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَحَدٍ: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ أَيْ مَا خَبَرُهُ وَمَا حَالُهُ؟ وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّبِيِّ الْأَنْصَارِيِّ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»
لِطَائِرٍ يُسَمَّى النُّغَرَ (بِوَزْنِ صُرَدٍ) وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْبُلْبُلِ كَانَ عِنْدَ الصَّبِيِّ يَلْعَبُ بِهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»
أَيْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ، فَهُوَ إِمْسَاكٌ عَنِ الْجَوَابِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: مَا بَالُهُ، أَيْ مَا حَالُهُ؟.
وَفِعْلُ كانُوا مَزِيدٌ بَيْنَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ وَصِلَتِهَا لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ، أَيْ تَأْكِيدِ مَدْلُولِ «مَا عِلْمِي بِمَا يَعْمَلُونَ». وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي بِمَا يَعْمَلُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا كَانُوا عَمِلُوهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا فَاعِلٌ وَلَيْسَتِ اسْمًا لِ (كَانَ) لِأَنَّ (كَانَ) الزَّائِدَةَ لَا تَنْصُبُ الْخَبَرَ.
وَشَمَلَ قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن.
و (الْحساب) حَقِيقَتُهُ: العدّ، وَاسْتعْمل فِي معنى تمحيص الْأَعْمَال وَتَحْقِيق ظواهرها وبواطنها بِحَيْثُ لَا يفوت مِنْهَا شَيْء أَو يشْتَبه.
وَالْمعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مُعَامَلَتَهُمْ بِمَا أَسْلَفُوا وَمَا يَعْمَلُونَ وَبِحَقَائِقِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا الْمَقَالُ اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ شُمُولِهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي مِنْهَا مَا يُحَاسَبُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الرَّسُولِ الْمُشَرِّعِ، فَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْإِرْشَادِ فِي عَدَمِ إِهْمَالِ فُرْصَتِهِ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَالُوهَا (أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»
، أَيْ تَحْقِيقُ مُطَابَقَةِ بَاطِنِهِمْ لِظَاهِرِهِمْ عَلَى اللَّهِ.
161
وَزَادَ نُوحٌ قَوْلَهُ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [٣١].
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْمَوْصُوفُ هُوَ حِسابُهُمْ وَالصِّفَةُ هِيَ عَلى رَبِّي، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ الْخَبَرَ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ، فَإِنَّ الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفَ الْوَاقِعَةَ أَخْبَارًا تَتَضَمَّنُ مَعْنًى يَتَّصِفُ بِهِ الْمُبْتَدَأُ وَهُوَ الْحُصُولُ وَالثُّبُوتُ الْمُقَدَّرُ فِي الْكَلَامِ بِكَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ. وَالتَّقْدِيرُ:
حِسَابُهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِمَدْلُولِ عَلى رَبِّي. وَكَذَلِكَ قَدَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ»، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ لَا يَتَجَاوَزُ الْكَوْنُ عَلَى رَبِّي إِلَى الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهِ عَلَيَّ. وَهُوَ رَدٌّ لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُ قَوْمِهِ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِإِبْعَادِ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَكُونُوا مُسَاوِينَ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي طَلَبَهُ نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: لَوْ تَشْعُرُونَ تَجْهِيلٌ لَهُمْ وَرَغْمٌ لِغُرُورِهِمْ وَإِعْجَابِهِمُ الْبَاطِلِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ تَشْعُرُونَ لَشَعَرْتُمْ بِأَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَيَّ فَلِمَا سَأَلْتُمُونِيهِ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَهَّلَهُمْ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ [٢٩] وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (١).
هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي يُطَابِقُ نَظْمَ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى زِيَادَاتٍ وَفُرُوضٍ.
وَالْمُفَسِّرُونَ نَحَوْا مَنْحَى تَأْوِيلِ الْأَرْذَلُونَ أَنَّهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالرَّذَالَةِ الدَّنِيَّةِ، أَيِ الطَّعْنُ فِي صِدْقِ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تَبَرُّؤًا مِنَ الْكَشْفِ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ لَفْظُ الْحِسَابِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي، فَحَمَلُوهُ عَلَى الْحِسَابِ الَّذِي يَقَعُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَذَلِكَ لَا يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ مُقْتَضَى طَرْدِهِمْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَنَّ وَصْفِي يَصْرِفُنِي عَنْ مُوَافَقَتِكُمْ.
_________
(١) فِي المطبوعة: (وَلَكِنَّكُمْ قوم تجهلون) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الصَّوَاب وَالله أعلم.
162
وَالْمُبِينُ: مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى بَيَّنَ وَوَضَّحَ. وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ وَهُوَ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ حِكَايَةُ مَوْقِفٍ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ شَبِيهٍ بِمَا حُكِيَ هُنَا وَبَيْنَ الْحِكَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ مَا، فَلَعَلَّهُمَا مَوْقِفَانِ أَوْ هُمَا كَلَامَانِ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ حُكِيَ أَحَدُهُمَا هُنَالِكَ وَالْآخَرُ هُنَا عَلَى عَادَةِ قَصَصِ الْقُرْآنِ، فَمَا فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مِنْ زِيَادَةٍ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِمَا فِي الْأُخْرَى.
[١١٦- ١٢٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١١٦ إِلَى ١٢٠]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠)
لَمَّا أَعْيَاهُمُ الِاسْتِدْلَالُ صَارُوا إِلَى سِلَاحِ الْمُبْطِلِينَ وَهُوَ الْمُنَاضَلَةُ بِالْأَذَى.
وَالرَّجْمُ: الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقَتْلِ بِهِ، ومِنَ الْمَرْجُومِينَ يُفِيدُ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ بِالرَّجْمِ، أَيْ مِنْ فِئَةِ الدُّعَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الرَّجْمَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦].
وَقَوْلُهُ: إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ تَمْهِيدٌ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّحَسُّرِ وَالْيَأْسِ مِنْ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ التَّكْذِيبِ.
وَالْفَتْحُ: الْحُكْمُ، وَتَأْكِيدُهُ بِ فَتْحاً لِإِرَادَةِ حُكْمٍ شَدِيدٍ، وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِالِاحْتِرَاسِ بِقَوْلِهِ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
والْمَشْحُونِ: الْمَمْلُوءُ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فِي الْإِخْبَارِ لِأَنَّ إِغْرَاقَ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنْ إِنْجَاءِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ.
وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: كَذَّبُونِ لِلْفَاصِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: ١٤].

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٢١ إِلَى ١٢٢]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
الْآيَةُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، فَفِي هَذِهِ الْقِصِّةِ آيَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قِصَّةَ نوح والطوفان.
[١٢٣- ١٢٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٢٣ إِلَى ١٢٧]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ تَعْدَادٍ لِأَخْبَارِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ وَتَكْرِيرِ الْمَوْعِظَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ جُمْلَةِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥].
وَالْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا فِي أَوَّلِ قِصَّةِ نُوحٍ سَوَاءٌ، سِوَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ هُودًا وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ نُوحٍ لِأَنَّ هُودًا وَعَظَهُمْ بِمَصِيرِ قَوْمِ نُوحٍ فِي آيَةِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٦٩].
واقتران فِعْلُ كَذَّبَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ اسْمَ عَادٍ عَلَمٌ عَلَى أمة فَهُوَ مؤوّل بِمَعْنَى الْأُمَّةِ.
وَالْقَوْلُ فِي أَلا تَتَّقُونَ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ. وَقَوْلُهُ:
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ هُوَ كَقَوْلِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يُبْعَثُ إِلَّا وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ قَبْلَ الرِّسَالَةِ. وَيَدُلُّ لِكَوْنِ هُودٍ قَدْ كَانَ كَذَلِكَ فِي قَوْمِهِ قَوْلُ قَوْمِهِ لَهُ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٤] الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ تَغَيُّرَ حَالِهِ عَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا بِهِ مِنْ قَبْلُ بِسَبَبِ سُوءِ اعْتِقَادِهِ فِي آلِهَتِهِمْ.
وَتَفْرِيعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. وَحَذْفُ يَاءِ وَأَطِيعُونِ لِلْفَاصِلَةِ كَحَذْفِهَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ آنِفًا.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ وَهُودٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٦٥].
[١٢٨- ١٣٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٢٨ إِلَى ١٣٠]
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠)
رَأَى مِنْ قَوْمِهِ تَمَحُّضًا لِلشُّغْلِ بِأُمُورِ دُنْيَاهُمْ، وإعراضا عَن الْفِكر فِي الْآخِرَةِ وَالْعَمَلِ لَهَا وَالنَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِشْرَاكًا مَعَ اللَّهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَانْصِرَافًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَعْمَرَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَزَادَهُمْ قُوَّةً عَلَى الْأُمَمِ، فَانْصَرَفَتْ هِمَّاتُهُمْ إِلَى التَّعَاظُمِ وَالتَّفَاخُرِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ.
وَكَانَتْ عَادٌ قَدْ بَلَغُوا مَبْلَغًا عَظِيمًا مِنَ الْبَأْسِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَى الْبِلَادِ مِمَّا أَثَارَ قَوْلَهُمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥] فَقَدْ كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ تَصِفُ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ فِي نَوْعِهِ بِأَنَّهُ «عَادِيٌّ» وَكَانُوا أَهْلَ رَأْيٍ سَدِيدٍ وَرَجَاحَةَ أَحْلَامٍ، قَالَ وَدَّاكُ بْنُ ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ:
قَالَت بَنو عَامر خانوا بني أَسد يَا بؤس للْجَهْل ضِرَارًا لأقوام
وَأَحْلَامُ عَادٍ لَا يَخَافُ جَلِيسُهُمْ وَلَوْ نَطَقَ الْعُوَّارُ غَرْبَ لِسَانِ
وَقَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ غَسَّانَ:
أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَادٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْمَعَقَّةِ وَالْآفَاتِ وَالْأَثَمِ
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَتَفَنَّنُوا فِي إِرْضَاءِ الْهَوَى، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمَلَذَّاتِ وَاشْتَدَّ الْغُرُورُ بِأَنْفُسِهِمْ فَأَضَاعُوا الْجَانِبَ الْأَهَمَّ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ جَانِبُ الدِّينِ وَزَكَاءُ النَّفْسِ، وَأَهْمَلُوا أَنْ يَقْصِدُوا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْمَقَاصِدَ النَّافِعَةَ وَنِيَّةَ إِرْضَاءِ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِحُبِّ الرِّئَاسَةِ وَالسُّمْعَةِ، فَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَاسْتَخَفُّوا بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَحْمَقُوا النَّاصِحِينَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا فَفَاتَحَهُمْ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى مَا فُتِنُوا بِالْإِعْجَابِ بِهِ وَبِذَمِّهِ إِذْ أَلْهَاهُمُ التَّنَافُسُ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ فَنَبَذُوا اتِّبَاعَ الشَّرَائِعِ وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ. فَمِنْ سَابِقِ أَعْمَالِ عَادٍ أَنَّهُمْ كَانُوا بَنَوْا فِي طُرُقِ أَسْفَارِهِمْ أَعْلَامًا وَمَنَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْلَا يَضِلَّ
165
السَّائِرُونَ فِي تِلْكَ الرِّمَالِ الْمُتَنَقِّلَةِ الَّتِي لَا تَبْقَى فِيهَا آثَارُ السَّائِرِينَ وَاحْتَفَرُوا وَشَيَّدُوا مَصَانِعَ لِلْمِيَاهِ وَهِيَ الصَّهَارِيجُ تَجْمَعُ مَاءَ الْمَطَرِ فِي الشِّتَاءِ لِيَشْرَبَ مِنْهَا الْمُسَافِرُونَ وَيَنْتَفِعَ بِهَا الْحَاضِرُونَ فِي زَمَنِ قِلَّةِ الْأَمْطَارِ، وَبَنَوْا حُصُونًا وَقُصُورًا عَلَى أَشْرَافٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي ذَاتِهَا لِأَنَّ فِيهَا حِفْظَ النَّاسِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الْفَيَافِي بِضَلَالِ الطُّرُقِ، وَمِنَ الْهَلَكَةِ عَطَشًا إِذَا فَقَدُوا الْمَاءَ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَمَتَى أُرِيدَ بِهَا رِضَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَفْعِ عَبِيدِهِ كَانَتْ جَدِيرَةً بِالثَّنَاءِ عَاجِلًا وَالثَّوَابِ آجِلًا.
فَأَمَّا إِذَا أُهْمِلَ إِرْضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَاتُّخِذَتْ لِلرِّيَاءِ وَالْغُرُورِ بِالْعَظَمَةِ وَكَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ انْقَلَبَتْ عَظَمَةً دُنْيَوِيَّةً مَحْضَةً لَا يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى جَانِبِ النَّفْعِ وَلَا تَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي تَأْسِيسِ أَمْثَالِهَا وَقُصَارَاهَا التَّمَدُّحُ بِمَا وَجَدُوهُ مِنْهَا. فَصَارَ وُجُودُهَا شَبِيهًا بِالْعَبَثِ لِأَنَّهَا خَلَتْ عَنْ رُوحِ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فَلَا عِبْرَةَ عِنْدَ اللَّهِ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَكُونَ مَظْهَرَ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَكَانُوا أَيْضًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى التَّزَوُّدِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ خَالِدِينَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْأَعْمَالُ إِذَا خَلَتْ عَنْ مُرَاعَاةِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى اخْتَلَفَتْ مَشَارِبُ عَامِلِيهَا طَرَائِقَ قِدَدًا عَلَى اخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَاجْتِلَابِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى سُنَّةِ الْمَوَاعِظِ فَإِنَّهَا تُبْنَى عَلَى مُرَاعَاةِ مَا فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الضُّرِّ الرَّاجِحِ عَلَى النَّفْعِ، فَلَا يَلْفِتُ الْوَاعِظُ إِلَى مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ مَرْجُوحٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْعُ مَرْغُوبًا لِلنَّاسِ، فَإِنَّ بَاعِثَ الرَّغْبَةِ الْمُنْبَثَّ فِي النَّاسِ مُغْنٍ عَنْ تَرْغِيبِهِمْ فِيهِ، وَتَصَدِّي الْوَاعِظِ لِذَلِكَ فُضُولٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْمَقْصِدِ بِتَحْذِيرِهِمْ أَوْ تَحْرِيضِهِمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، إِذا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْخَيْرِ مَفْقُودًا أَوْ ضَئِيلًا. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ مَوْعِظَةٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ [الشُّعَرَاء:
١٣٦]. وَمَقَامُ الْمَوْعِظَةِ أَوْسَعُ مِنْ مَقَامِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، فَمَوْعِظَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْأَدْوَاءِ الرُّوحِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي مَوْعِظَتِهِ أَمْرٌ بِتَغْيِيرِ مَا بَنَوْهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ وَلَا مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْمَصَانِعِ.
وَلَمَّا صَارَ أَثَرُ الْبِنَاءِ شَاغِلًا عَنِ الْمَقْصِدِ النَّافِعِ لِلْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ نُزِّلَ فِعْلُهُمْ
166
الْمُفْضِي إِلَى الْعَبَثِ مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ الْعَبَثُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْبِنَاءَ بِإِدْخَالِ هَمْزَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى فِعْلِ تَبْنُونَ، وَقُيِّدَ بِجُمْلَةِ: تَعْبَثُونَ الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَبْنُونَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمَّا بَنَوْا ذَلِكَ مَا أَرَادُوا بِفِعْلِهِمْ عَبَثًا، فَمَنَاطُ الْإِنْكَارِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ هُوَ الْبِنَاءُ الْمُقَيَّدُ بِالْعَبَثِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ انْصَرَفَ إِلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ.
وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَهُوَ جُمْلَةُ: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ هُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَار ومقيّد بجملة الْحَال المقيّد بِهَا الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَالَ الْمُتَوَسِّطَةَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَرْجِعُ إِلَى كِلْتَيْهِمَا عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ لَا سِيَّمَا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الْبِنَاءِ وَالْآيَاتِ وَالْمَصَانِعِ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ مَا هُوَ متمحّض لِلَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَالْفَسَادِ، وَفِي بَعْضِهِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي بَعْضِهِ مَا هُوَ صَلَاحٌ وَنَفْعٌ كَمَا سَيَأْتِي.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: أَتَبْنُونَ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِجُمْلَةِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء:
١٢٤] فَإِنَّ مَضْمُونَهَا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّقْوَى الَّذِي تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ.
وَالرِّيعُ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الشَّرَفُ، أَيِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، كَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّرِيقُ وَالْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
وَالْآيَة: الْعَلامَة الدّلَالَة عَلَى الطَّرِيقِ، وَتُطْلَقُ الْآيَةُ عَلَى الْمَصْنُوعِ الْمُعْجِبِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَامَةً عَلَى إِتْقَانِ صَانِعِهِ أَوْ عَظَمَةِ صَاحِبِهِ.
وَ (كُلِّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ فِي الْأَرْيَاعِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ، وَالْعَبَثُ:
الْعَمَلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ نَفْعٍ فِيهِ.
وَالْمَصَانِعُ: جَمْعُ مَصْنَعٍ وَأَصْلُهُ مَفْعَلٌ مُشْتَقٌّ مِنْ صَنَعَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَقِيلَ: هُوَ الْجَابِيَةُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: مَبْنِيَّةٌ بِالْجِيرِ يُخَزَّنُ بِهَا الْمَاءُ وَيُسَمَّى صِهْرِيجًا وَمَاجِلًا، وَقِيلَ: قُصُورٌ وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَكَانَتْ بِلَادُ عَادٍ مَا بَيْنَ عَمَّانَ وَحَضْرَمَوْتَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَمُتَغَلْغِلَةً فِي الشَّمَالِ إِلَى الرِّمَالِ وَهِيَ الْأَحْقَاقُ.
167
وَجُمْلَةُ: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَ (لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي، وَهُوَ طَلَبُ الْمُتَكَلِّمِ شَيْئًا مُسْتَقْرَبَ الْحُصُولِ، وَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، أَيْ أَرْجُو لَكُمُ الْخُلُودَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمَصَانِعِ. وَقِيلَ:
جَعَلَتْ عَادٌ بِنَايَاتٍ عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ عَلَى الطُّرُقِ يَعْبَثُونَ فِيهَا وَيَسْخَرُونَ بِالْمَارَّةِ. وَقَدْ يُفَسَّرُ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي حَالِ انْحِطَاطِهَا حَوَّلَتْ مَا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْمَصَالِحِ إِلَى مَفَاسِدَ فَعَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مَبْنِيًّا لِقَصْدِ تَيْسِيرِ السَّيْرِ وَالْأَمْنِ عَلَى السَّابِلَةِ مِنَ الضَّلَالِ فِي الْفَيَافِي الْمُهْلِكَةِ فَجَعَلُوهُ مَكَامِنَ لَهْوٍ وَسُخْرِيَةٍ، كَمَا اتُّخِذَتْ بَعْضُ أَدْيِرَةِ النَّصَارَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مَجَالِسَ خَمْرٍ، وَكَمَا أَدْرَكْنَا الصَّهَارِيجَ الَّتِي فِي قَرْطَاجَنَّةَ كَانَتْ خَزَّانًا لِمِيَاهِ زَغْوَانَ الْمُنْسَابَةِ إِلَيْهَا عَلَى الْحَنَايَا فَرَأَيْنَاهَا مَكَامِنَ لِلِّصُوصِ وَمَخَازِنَ لِلدَّوَابِّ إِلَى أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ سَنَةَ ١٣٠٣ هـ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصَانِعَ قُصُورٌ عَظِيمَةٌ اتَّخَذُوهَا فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى أَبْنِيَةٍ رَاسِخَةٍ مَكِينَةٍ كَأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَسُوقًا مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي التَّرَفِ وَالتَّعَاظُمِ. هَذَا مَا اسْتَخْلَصْنَاهُ مِنْ كَلِمَاتٍ انْتَثَرَتْ فِي أَقْوَالٍ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى حِيرَةٍ مِنْ خِلَالِ كَلَامِهِمْ فِي تَوْجِيهِ إِنْكَارِ هُودٍ عَلَى قَوْمِهِ عَمَلَيْنِ كَانَا مَعْدُودَيْنِ فِي النَّافِعِ مِنْ أَعْمَالِ الْأُمَمِ، وَأَحْسَبُ أَنْ قَدْ أَزَلْنَا تِلْكَ الْحَيْرَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أَعْقَبَ بِهِ مَوْعِظَتَهُمْ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا بِأَنَّ وَعْظَهُمْ عَلَى الشِّدَّةِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَهَذَا مِنْ عَدَمِ التَّوَازُنِ فِي الْعُقُولِ فَهُمْ يَبْنُونَ الْعَلَامَاتِ لِإِرْشَادِ السَّابِلَةِ وَيَصْطَنِعُونَ الْمَصَانِعَ لِإِغَاثَةِ الْعِطَاشِ فَكَيْفَ يُلَاقِي هَذَا التَّفْكِيرُ تَفْكِيرًا بِالْإِفْرَاطِ فِي الشِّدَّةِ عَلَى النَّاسِ فِي الْبَطْشِ بِهِمْ، أَيْ عُقُوبَتِهِمْ.
وَالْبَطْشُ: الضَّرْبُ عِنْدَ الْغَضَبِ بِسَوْطٍ أَوْ سَيْفٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [١٩٥].
وجَبَّارِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بَطَشْتُمْ وَهُوَ جَمْعُ جَبَّارٍ، وَالْجَبَّارُ: الشَّدِيدُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، فَالْمَعْنَى: إِذَا بَطَشْتُمْ كَانَ بَطْشُكُمْ فِي حَالَةِ التَّجَبُّرِ، أَيِ الْإِفْرَاطُ فِي الْأَذَى وَهُوَ ظُلْمٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [الْقَصَص: ١٩]. وَشَأْنُ الْعِقَابِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ مُنَاسِبٌ لِلذَّنْبِ
168
الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ بِلَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، فالإفراط فِي الْبَطْشِ اسْتِخْفَافٌ بِحُقُوقِ الْخَلْقِ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ....»
الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ فِعْلُ بَطَشْتُمْ الثَّانِي جَوَابًا لِ إِذا وَهُوَ مُرَادِفٌ لِفِعْلِ شَرْطِهَا، لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلِ الْجَوَابِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٢] وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِثْلُ هَذَا النَّظْمِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْفِعْلِ إِذْ يَحْصُلُ مِنْ تَكْرِيرِهِ تَأْكِيد مَدْلُوله.
[١٣١- ١٣٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٣١ إِلَى ١٣٥]
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
لَمَّا أَفَادَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً [الشُّعَرَاء: ١٢٨] مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَارَنَ بِنَاءَهُمُ الْآيَاتِ وَاتِّخَاذَهُمُ الْمَصَانِعَ وَعَلَى شِدَّتِهِمْ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الْغَضَبِ فُرِّعَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ التَّفْرِيعِ تَكْرِيرُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ.
وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَطِيعُونِ كَحَذْفِهَا فِي نَظِيرِهَا الْمُتَقَدِّمِ. وَأُعِيدَ فِعْلُ وَاتَّقُوا وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْصُولِ وَصْفًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لَأَنَّ ظَاهِرَ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَبَنَيَ الْكَلَامَ عَلَى عَطْفِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ تَأْكِيدًا لَهُ وَاهْتِمَامًا بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى مَعَ أَنَّ مَا عُرِضَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِجُمْلَةِ وَأَطِيعُونِ قَضَى بِأَنْ يُعَادَ اتِّصَالُ النَّظْمِ بِإِعَادَةِ فِعْلِ اتَّقُوا.
وَإِنَّمَا أُتِيَ بِفِعْلِ اتَّقُوا مَعْطُوفًا وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ مَفْصُولًا لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَعَلَّقَ بِفِعْلِ التَّقْوَى فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى اسْمَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى لِذَاتِهِ، ثُمَّ عَلَّقَ بِفِعْلِ التَّقْوَى فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ اسْمَ الْمَوْصُولِ بِصِلَتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى إِنْعَامِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى لِاسْتِحْقَاقِهِ الشُّكْرَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي ذِكْرِ النِّعْمَةِ بالإجمال الَّذِي يهيّىء السَّامِعِينَ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَقَالَ:
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ثُمَّ فَصَّلَ بِقَوْلِهِ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَأُعِيدَ فِعْلُ أَمَدَّكُمْ فِي جُمْلَةِ التَّفْصِيلِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْإِمْدَادِ فَهُوَ لِلتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنْ جُمْلَةِ أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ فَإِنَّ فِعْلَ أَمَدَّكُمْ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِ أَمَدَّكُمْ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا صَارَ بَدَلًا مِنْهُ بِاعْتِبَار مَا تعلق بِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ إِلَخْ الَّذِي هُوَ بَعْضٌ مِمَّا تَعْلَمُونَ. وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ التَّوْكِيدُ وَالْبَدَلُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ، فَلِأَجْلِهِ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ.
وَابْتَدَأَ فِي تِعْدَادِ النِّعَمِ بِذِكْرِ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهَا أَجَلُّ نِعْمَةٍ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، لِأَنَّ مِنْهَا أَقْوَاتَهُمْ وَلِبَاسَهُمْ وَعَلَيْهَا أَسْفَارُهُمْ وَكَانُوا أَهْلَ نُجْعَةٍ فَهِيَ سَبَبُ بَقَائِهِمْ، وَعَطَفَ عَلَيْهَا الْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِأَنَّهَا أُنْسُهُمْ وَعَوْنُهُمْ عَلَى أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَبَقَاءِ ذِكْرِهِمْ بَعْدَهُمْ وَكَثْرَةِ أُمَّتِهِمْ، وَعَطَفَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونَ لِأَنَّهَا بِهَا رَفَاهِيَةُ حَالِهِمْ وَاتِّسَاعُ رِزْقِهِمْ وَعَيْشُ أَنْعَامِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ عَدَمِ تَقْوَاهُمْ وَلِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، أَيْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابًا إِنْ لَمْ تَتَّقُوا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ.
وَالْعَذَابُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَوَصَفَ يَوْمٍ بِ عَظِيمٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ عَظِيمٌ مَا يَحْصُلُ فِيهِ من الْأَهْوَال.
[١٣٦- ١٤٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٣٦ إِلَى ١٤٠]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
أَجَابُوا بِتَأْيِيسِهِ مِنْ أَنْ يَقْبَلُوا إِرْشَادَهُ فَجَعَلُوا وَعْظَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءً، أَيْ هُمَا سَوَاءٌ فِي انْتِفَاءِ مَا قَصَدَهُ مِنْ وَعْظِهِ وَهُوَ امْتِثَالُهُمْ.
170
وَالْهَمْزَةُ لِلتَّسْوِيَةِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦].
وَالْوَعْظُ: التَّخْوِيفُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ ضُرٌّ، وَالِاسْمُ الْمَوْعِظَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤٦].
وَمَعْنَى: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أَمْ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَادِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْوَاعِظِينَ، أَيْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَصْفِ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ أَشَدُّ فِي نَفْيِ الصِّفَةِ عَنْهُ مِنْ أَنْ لَوْ قِيلَ:
أَمْ لَمْ تَعِظْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦]، وَتَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦].
وَجُمْلَةُ: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ، أَيْ كَانَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا فَلَا نَتَّبِعُ وَعْظَكَ لِأَنَّ هَذَا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لِلْفَرِيقَيْنِ حَاصِلٌ فِي مَقَامِ دَعْوَةِ هُودٍ إِيَّاهُمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَوْلُهُ: خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْخَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ.
فَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ خُلُقُ بِضَمَّتَيْنِ، فَهُوَ السَّجِيَّةُ الْمُتَمَكِّنَةُ فِي النَّفْسِ بَاعِثَةٌ عَلَى عَمَلٍ يُنَاسِبُهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَقَدْ فُسِّرَ بِالْقُوَى النَّفْسِيَّةِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ فَيَشْمَلُ طَبَائِعَ الْخَيْرِ وَطَبَائِعَ الشَّرِّ، وَلِذَلِكَ لَا يُعْرَفُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مِنَ اللَّفْظِ إِلَّا بِقَيْدٍ يُضَمُّ إِلَيْهِ فَيُقَالُ:
خُلُقٌ حَسَنٌ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ: سُوءُ خُلُقٍ، أَوْ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَم: ٤].
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»
. فَإِذَا أُطْلِقَ عَنِ التَّقْيِيدِ انْصَرَفَ إِلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ، كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ التَّاسِعَةِ» «وَخُلُقِي نِعْمَ الْعَوْنُ، وَبَيْنِي وَبَيْنَ جَارَاتِي بَوْنُ» أَيْ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ.
171
وَالْخُلُقُ فِي اصْطِلَاحِ الْحُكَمَاءِ: مَلَكَةٌ (أَيْ كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ أَيْ مُتَمَكِّنَةٌ مِنَ الْفِكْرِ) تَصْدُرُ بِهَا عَنِ النَّفْسِ أَفْعَالُ صَاحِبِهَا بِدُونِ تَأَمُّلٍ.
فَخُلُقُ الْمَرْءِ مَجْمُوعُ غَرَائِزَ (أَيْ طَبَائِعُ نَفْسِيَّةٌ) مُؤْتَلِفَةٌ مِنَ انْطِبَاعٍ فِكْرِيٍّ: إِمَّا جِبِلِّيٌّ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَإِمَّا كسبي ناشىء عَنْ تَمَرُّنِ الْفِكْرِ عَلَيْهِ وَتَقَلُّدِهِ إِيَّاهُ لِاسْتِحْسَانِهِ إِيَّاهُ عَنْ تَجْرِبَةِ نَفْعِهِ أَوْ عَنْ تَقْلِيدِ مَا يُشَاهِدُهُ مِنْ بَوَاعِثِ مَحَبَّةِ مَا شَاهَدَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى اخْتِيَارًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لِذَاتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ سِيرَةِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيَقْتَدِي بِهِ وَيُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَمُحَاوَلَتُهُ تُسَمَّى تَخَلُّقًا. قَالَ سَالِمُ بْنُ وَابِصَةَ:
عَلَيْكَ بِالْقَصِيدِ فِيمَا أَنْتَ فَاعِلُهُ إِنِ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ
فَإِذَا اسْتَقَرَّ وَتَمَكَّنَ مِنَ النَّفْسِ صَارَ سَجِيَّةً لَهُ يَجْرِي أَعْمَالُهُ عَلَى مَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِ وَتَأْمُرُهُ بِهِ نَفْسُهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَلَوْ رَامَ حَمْلَ نَفْسِهِ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِمَا تُمْلِيهِ سَجِيَّتُهُ لَاسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ وَإِرَادَتَهُ وَحَقَّرَ رَأْيَهُ. وَقَدْ يتَغَيَّر الْخلق تغييرا تَدْرِيجِيًّا بِسَبَبِ تَجْرِبَةِ انْجِرَارِ مَضَرَّةٍ مِنْ دَاعِيهِ، أَوْ بِسَبَبِ خَوْفِ عَاقِبَةٍ سَيِّئَةٍ مِنْ جَرَّائِهِ بِتَحْذِيرِ مَنْ هُوَ قُدْوَةٌ عِنْدَهُ لِاعْتِقَادِ نُصْحِهِ أَوْ لِخَوْفِ عِقَابِهِ. وَأَوَّلُ ذَلِكَ هُوَ الْمَوَاعِظُ الدِّينِيَّةُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ أَرَادُوا مَدْحًا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَصَرُّوا عَلَى عَدَمِ تَغْيِيرِهَا فَيَكُونَ أَرَادُوا أَنَّهَا خُلُقُ أَسْلَافِهِمْ وَأُسْوَتِهِمْ فَلَا يَقْبَلُوا فِيهِ عَذْلًا وَلَا مَلَامًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَمْثَالِهِمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إِبْرَاهِيم: ١٠]. فَالْإِشَارَةُ تَنْصَرِفُ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ الَّذِي نَهَاهُمْ عَنْهُ رَسُولُهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا مَا يَدْعُو إِلَيْهِ رَسُولُهُمْ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ خُلُقِ أُنَاسٍ قَبْلَهُ، أَيْ مِنْ عَقَائِدِهِمْ وَمَا رَاضَوْا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَنَّهُ عَبَرَ عَلَيْهَا وَانْتَحَلَهَا، أَيْ مَا هُوَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى كَمَا قَالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥] وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي فَالْخَلْقُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ مَصْدَرٌ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَالتَّكْوِينُ، وَالْخَلْقُ أَيْضًا مَصْدَرُ خَلَقَ، إِذَا كَذَبَ فِي خَبَرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
172
وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: ١٧]. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ بِأَحَادِيثِ الْخَلْقِ وَهِيَ الْخُرَافَاتُ الْمُفْتَعَلَةُ، وَيُقَالُ لَهُ: اخْتِلَاقٌ بِصِيغَةٍ الِافْتِعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالِاخْتِرَاعِ، قَالَ تَعَالَى:
إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: ٧] وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبَ يَخْلُقُ خَبَرًا لَمْ يَقَعْ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَن مَا تزعمه مِنَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ كَذِبٌ وَمَا تُخْبِرُنَا مِنَ الْبَعْثِ اخْتِلَاقٌ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ حَيَاتَنَا كَحَيَاةِ الْأَوَّلِينَ نَحْيَا ثُمَّ نَمُوتُ، فَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ الَّذِي حَذَّرَهُمْ جَزَاءَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعَرَاء: ١٣٥] يَقُولُونَ: كَمَا مَاتَ الْأَوَّلُونَ وَلَمْ يُبْعَثْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ فَكَذَلِكَ نَحْيَا نَحْنُ ثُمَّ نَمُوتُ وَلَا نُبْعَثُ. وَهَذَا كَقَوْل الْمُشْركين ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الجاثية: ٢٥] فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْخُلُقِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَثْنَى. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَعَانٍ وَاحِدٌ مِنْهَا مَدْحٌ، وَاثْنَانِ ذمّ، وَوَاحِد ادِّعَاء.
وَجُمْلَةُ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ عَلَى الْمَعَانِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ عَطْفٌ مُغَايِرٌ.
وَعَلَى الْمَعْنَى الرَّابِعِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تَصْرِيحًا بَعْدَ الْكِنَايَةِ. وَالْقَصْرُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ عَلَى الْمَعَانِي كُلِّهَا.
وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْمَ صَالِحٍ نَطَقُوا بِلُغَتِهِمْ جُمَلًا كَثِيرَةً تَنْحَلُّ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي فَجَمَعَهَا الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بِاحْتِمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَاخْتِلَافِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ خُلُقٍ فَلِلَّهِ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ.
وَالْفَاءُ فِي فَكَذَّبُوهُ فَصِيحَةٌ، أَيْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا ذَلِكَ أَوَعَظْتَ إِلَخْ قَدْ كَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى آخِرِهِ هُوَ مِثْلُ نَظِيرِهِ فِي قصَّة نوح.
173

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٤١ إِلَى ١٤٥]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
موقع هَذِه الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافُ تَعْدَادٍ وَتَكْرِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٣]. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهَا فِي قصَّة قوم نُوحٍ، وَثَمُودَ قَدْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا وَكَذَّبُوا هُودًا لِأَنَّ صَالِحًا وَعَظَهُمْ بِعَادٍ فِي قَوْلِهِ:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٤] وَبِتَكْذِيبِهِمْ كَذَّبُوا بِنُوحٍ أَيْضًا، لِأَنَّ هُودًا ذَكَّرَ قَوْمَهُ بِمَصِيرِ قَوْمِ نُوحٍ فِي آيَةِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩].
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَمُودَ وَصَالِحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٣]، وَكَانَ صَالِحٌ مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ لَا يُرْسَلُ رَسُولٌ إِلَّا وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْفَضَائِلِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤] وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَرَاء: ١٥٣] الْمُقْتَضِي تَغْيِيرَ حَالِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمِهِ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ [٦٢]. وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَطِيعُونِ هُوَ مِثْلُ نَظَائِرِهِ الْمُتَقَدّمَة آنِفا.
[١٤٦- ١٥٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٤٦ إِلَى ١٥٢]
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢)
كَانُوا قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَغَرَّهُمْ أَيِمَّةُ كُفْرِهِمْ فِي ذَلِكَ فَجَاءَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولًا يُذَكِّرُهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا مَكَّنَ لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتٍ، وَمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالٍ عَظِيمَةٍ، وَنُزِّلَ حَالُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ الْخُلُودَ وَدَوَامَ النِّعْمَةِ فَخَاطَبَهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّوْبِيخِيِّ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى إِنْكَارٌ عَلَى
174
ظَنِّهِمْ ذَلِكَ، وَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى فِعْلِ التَّرْكِ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ لَا يَكُونُ. فَكَانَ إِنْكَارُ حُصُولِهِ مُسْتَلْزِمًا إِنْكَارَ اعْتِقَادِهِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: ١٤٢] لِأَنَّ الْإِنْكَارَ
عَلَيْهِمْ دَوَامَ حَالِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُفَارِقُونَ هَذِهِ الْحَيَاةَ وَصَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ.
وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِاسْتِبْقَاءِ تِلْكَ النِّعَمِ بِأَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْحِكَمِ» «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا».
وهاهُنا إِشَارَةٌ إِلَى بِلَادِهِمْ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا تُشَاهِدُونَهُ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وآمِنِينَ حَال مبينَة لِبَعْضِ مَا أجمله قَوْله: فِي مَا هاهُنا. وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا لَا يُشَارُ إِلَيْهَا وَهِيَ نِعْمَةُ الْأَمْنِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَلَا يُتَذَوَّقُ طَعْمُ النِّعَمِ الْأُخْرَى إِلَّا بِهَا.
وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّقَ بِ آمِنِينَ لِيَكُونَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا لِإِجْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيِ اجْتَمَعَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَرَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ. وَالْجَنَّاتُ: الْحَوَائِطُ الَّتِي تُشَجَّرُ بِالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ.
وَالطَّلْعُ: وِعَاءٌ يَطْلُعُ مِنَ النَّخْلِ فِيهِ ثَمَرُ النَّخْلَةِ فِي أَوَّلِ أَطْوَارِهِ يَخْرُجُ كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي بَاطِنِهِ شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّلْعُ الْكِمُّ (بِكَسْرِ الْكَافِ) وَبَعْدَ خُرُوجِهِ بِأَيَّامٍ يَنْفَلِقُ ذَلِكَ الْوِعَاءُ عَنِ الشَّمَارِيخِ وَهِيَ الْأَغْصَانُ الَّتِي فِيهَا الثَّمَرُ كَحَبٍّ صَغِيرٍ، ثُمَّ يَغْلُظُ وَيَصِيرُ بُسْرًا ثُمَّ تَمْرًا.
وَالْهَضِيمُ: بِمَعْنَى الْمَهْضُومِ، وَأَصْلُ الْهَضْمِ شَدْخُ الشَّيْءِ حَتَّى يَلِينَ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلدَّقِيقِ الضَّامِرِ، كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ. وَتِلْكَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ تَمْرًا جَيِّدًا.
وَالنَّخْلُ الَّذِي يُثْمِرُ تَمْرًا جَيِّدًا يُقَالُ لَهُ: النَّخْلُ الْإِنَاثُ وَضِدَّهُ فَحَاحِيلُ، وَهِيَ جُمَعُ فُحَّالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) أَيْ ذَكَرٌ، وَطَلْعُهُ غَلِيظٌ وَتَمْرُهُ كَذَلِكَ.
وَخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الْجَنَّاتُ لِقَصْدِ بَيَانِ جَوْدَتِهِ بِأَنَّ طَلْعَهُ هَضِيمٌ.
175
وتَنْحِتُونَ عَطْفٌ عَلَى آمِنِينَ، أَيْ وَنَاحِتِينَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ فِي نَحْتِهِمْ بُيُوتًا مِنَ الْجِبَالِ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وفرهين صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَرَاهَةِ وَهِيَ الْحَذَقُ وَالْكَيَاسَةُ، أَيْ عَارِفِينَ حَذِقِينَ بِنَحْتِ الْبُيُوتِ مِنَ الْجِبَالِ بِحَيْثُ تَصِيرُ بِالنَّحْتِ كَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ فارِهِينَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مُفَرَّعٌ مِثْلُ نَظِيرِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ.
وَالْمُرَادُ بِ الْمُسْرِفِينَ أَيِمَّةُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ يُغْرُونَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَيُبْقُونَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ اسْتِغْلَالًا لِجَهْلِهِمْ وَلِيُسَخِّرُوهُمْ لِفَائِدَتِهِمْ. وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ فِي شَيْءٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِسْرَافُ الْمَذْمُومُ كُلُّهُ فِي الْمَالِ وَفِي الْكُفْرِ، وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَالْإِسْرَافُ مَنُوطٌ بِالْفَسَادِ.
وَعَطْفُ وَلا يُصْلِحُونَ عَلَى جُمْلَةِ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِوُقُوعِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩] وَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهْنَيِّ:
النَّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ يُفِيدُ أَنَّ فَسَادَهُمْ لَا يَشُوبُهُ صَلَاحٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ إِنَّمَا هُمْ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَعُدِلَ عَنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ لِئَلَّا يُحْتَمَلَ أَنَّهُ قَصْرُ مُبَالِغَةٍ لِأَنَّ نَفْيَ الْإِصْلَاحِ عَنْهُمْ يُؤَكِّدُ إِثْبَاتَ الْإِفْسَادِ لَهُمْ، فَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ فِي الذِّهْنِ، وَيَتَأَكَّدُ مَعْنَى إِفْسَادِهِمْ بِنَفْيِ ضِدّه كَقَوْل السموأل أَوِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيف الْعَهْد.
176

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٥٣ إِلَى ١٥٤]

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)
أَجَابُوا مَوْعِظَتَهُ بِالْبُهْتَانِ فَزَعَمُوهُ فَقَدَ رُشْدَهُ وَتَغَيَّرَ حَالُهُ وَاخْتَلَقُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ سِحْرٍ شَدِيدٍ. فَالْمُسَحَّرُ: اسْمُ مَفْعُولٍ سَحَّرَهُ إِذَا سَحَرَهُ سِحْرًا مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، ومِنَ الْمُسَحَّرِينَ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالتَّسْحِيرِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُسَحَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦].
وَلَمَّا تَضَمَّنُ قَوْلُهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ أَيَّدُوا تَكْذِيبَهُ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَذَلِكَ فِي زَعْمِهِمْ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ فِي زَعْمِهِمْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَخْلُوقًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ كَأَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ جنّيّا. فجملة: إِن مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فِي حُكْمِ التَّأْكِيدِ بِجُمْلَةِ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ بِاعْتِبَارِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ الْمُطَالَبَةَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ عَلَى صِدْقِهِ، أَيْ أَنْ يَأْتِيَ بِخَارِقِ عَادَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ عَنْهُ. وَفَرَضُوا صِدْقَهُ بِحَرْفِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّكِّ.
وَمَعْنَى مِنَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْفِئَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ يَعْنُونَ بِذَلِكَ الرُّسُلَ الصَّادِقِينَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَكُّنِ الصِّدْقِ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦].
[١٥٥- ١٥٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٥٥ إِلَى ١٥٩]
قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
اسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى نَاقَةٍ جَعَلَهَا لَهُمْ آيَةً. وَتَقَدَّمَ خَبَرُ هَذِهِ النَّاقَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَذَكَرَ أَنَّ صَالِحًا جَعَلَ لَهَا شِرْبًا، وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: النَّوْبَةُ فِي الْمَاءِ، لِلنَّاقَةِ يَوْمًا تَشْرَبُ فِيهِ لَا يُزَاحِمُونَهَا فِيهِ بِأَنْعَامِهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ نَظِيرُ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قِصَّةِ عَادٍ وَرَسُولِهِمْ.
وَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ لَمَّا رَأَوْا أَشْرَاطَ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ صَالِحٌ وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ النَّدَمُ لِأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَلَّ بِهِمْ سَرِيعًا، فَلِذَلِكَ عَطَفَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ عَلَى نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً الْآيَة.
[١٦٠- ١٦٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٦٠ إِلَى ١٦٤]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِهَا كَالْقَوْلِ فِي سَابِقَتِهَا، وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهَا كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا.
وَجعل لوط أَخًا لِقَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نَسَبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ نَزِيلًا فِيهِمْ، إِذْ كَانَ قَوْمُ لُوطٍ مَنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَكَانَ لُوطٌ عِبْرَانِيًّا وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا اسْتَوْطَنَ بِلَادَهُمْ وَعَاشَرَ فِيهِمْ وَحَالَفَهُمْ وَظَاهَرَهُمْ جُعِلَ أَخًا لَهُمْ كَقَوْلِ سُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ:
أَخُوكُمْ وَمَوْلَى خَيْرِكُمْ وَحَلِيفُكُمْ وَمَنْ قَدْ ثَوَى فِيكُمْ وَعَاشَرَكُمْ دَهْرًا
يَعْنِي نَفْسَهُ يُخَاطِبُ مَوَالِيَهُ بَنِي الْحَسْحَاسِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَإِخْوانُ لُوطٍ [ق: ١٣]. وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْأُخُوَّةِ عَلَى مُلَازَمَةِ الشَّيْءِ وَمُمَارَسَتِهِ كَمَا قَالَ:
أخور الْحَرْبِ لَبَّاسًا إِلَيْهَا جِلَالَهَا إِذَا عَدِمُوا زَادًا فَإِنَّكَ عَاقِرُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: ٢٧].
[١٦٥، ١٦٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٦٥ إِلَى ١٦٦]
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦)
هُوَ فِي الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِه أَتُتْرَكُونَ [الشُّعَرَاء: ١٤٦] فِي قِصَّةِ ثَمُودَ. وَالْإِتْيَانُ: كِنَايَةٌ.
وَالذُّكْرَانَ: جَمْعُ ذَكَرٍ وَهُوَ ضِدُّ الْأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْعالَمِينَ الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنَّهُ فِي
178
مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ فِي أَتَأْتُونَ. ومِنَ فَصْلِيَّةٌ، أَيْ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصْلِ بَيْنَ مُتَخَالِفَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُمَاثِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ. فَالْمَعْنَى: مَفْصُولَيْنِ مِنَ الْعَالَمِينَ لَا يُمَاثِلُكُمْ فِي ذَلِكَ صِنْفٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ثَانِيًا وَهُوَ أَوْفَقُ بِمَعْنَى: الْعالَمِينَ الَّذِي الْمُخْتَارُ فِيهِ أَنَّهُ جَمْعُ (عَالَمٍ) بِمَعْنَى النَّوْعِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَإِثْبَاتُ مَعْنَى الْفَصْلِ لِحَرْفِ مِنَ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [الْبَقَرَة: ٢٢٠]، وَقَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَال: ٣٧].
وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَهُوَ مَعْنًى رَشِيقٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٠].
وَالْمَعْنَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مُخَالِفِينَ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِيهَا ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَإِنَّهَا لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَأْتِي الذُّكُورَ.
فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْفَظِيعَ مُخَالِفٌ لِلْفِطْرَةِ لَا يَقَعُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْعَجَمِ فَهُوَ عَمَلٌ ابْتَدَعُوهُ مَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: ٢٨].
وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ: الْإِنَاثُ مِنْ نَوْعٍ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَزْوَاجِ عَلَيْهِنَّ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، فَفِي هَذَا الْمَجَازِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَرْجُو ارْعِوَاءَهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالصَّلَاحِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لِعَمَلٍ عَلَى بُطْلَانِ عَمَلٍ يُضَادُّهُ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ. فَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ الشَّيْطَانِ وَإِفْسَادِهِ لِسُنَّةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١٩].
وبَلْ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَى مَقَامِ الذَّمِّ تَغْلِيظًا لِلْإِنْكَارِ بَعْدَ لِينِهِ لِأَنَّ شَرَفَ الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي الْإِعْلَانَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَالْأَخْذِ بِأَصْرَحِ مَرَاتِبِ الْإِعْلَانِ فَإِنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ بِلِسَانِهِ غَلِيظَ الْإِنْكَارِ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ إِلَى ليّنه وَأَنه يبتدىء بِاللِّينِ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ لُوطٌ مِنْ قَوْلِهِ:
179
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ إِلَى قَوْلِهِ:
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ.
وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: بَلْ كُنْتُمْ عَادِينَ، مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ نِسْبَةِ الْعُدْوَانِ إِلَيْهِمْ. وَفِي جَعْلِ الْخَبَرِ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى عادُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالْعَادِي: هُوَ الَّذِي تَجَاوَزَ حَدَّ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، يُقَالُ: عَدَا عَلَيْهِ، أَيْ ظَلَمَهُ، وَعُدْوَانُهُمْ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْحَدِّ الْمَوْضُوعِ بِوَضْعِ الْفِطْرَةِ إِلَى مَا هُوَ مُنَافٍ لَهَا مَحْفُوفٌ بِمَفَاسِدِ التَّغْيِير للطبع.
[١٦٧- ١٧٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٦٧ إِلَى ١٧٣]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣)
قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ لِنُوحٍ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ فَهَدَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ مَدِينَتِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَلْ كَانَ مُهَاجِرًا بَيْنَهُمْ وَلَهُ صِهْرٌ فِيهِمْ.
وَصِيغَةُ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أَبْلَغُ مِنْ: لَنُخْرِجِنَّكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦]. وَكَانَ جَوَابُ لُوطٍ عَلَى وَعِيدِهِمْ جَوَابُ مُسْتَخِفٍّ بِوَعِيدِهِمْ إِذْ أَعَادَ الْإِنْكَارَ قَالَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أَيْ مِنَ الْمُبْغِضِينَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْقالِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ قَالٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]. وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْجِنَاسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ جِنَاسًا تَامًّا فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ قالَ وَبَيْنَ الْقالِينَ جِنَاسٌ مُذَيَّلٌ وَيُسَمَّى مُطَرَّفًا.
180
وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُنْجِيَهُ وَأَهْلَهُ مِمَّا يَعْمَلُ قَوْمُهُ، أَيْ مِنْ عَذَابِ مَا يَعْمَلُونَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَنَجَّيْناهُ. وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُ الْمَعْنَى: نَجِّنِي مِنْ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلَهُمْ، لِأَنَّهُ يَفُوتُ مَعَهُ التَّعْرِيضُ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ. وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي الْأَعْرَافِ وَفِي هُودٍ وَالْحَجَرِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنَجَّيْناهُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيْ كَانَتْ نَجَاتُهُ عَقِبَ دُعَائِهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ أَسْرَعِ مُدَّةٍ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْخُرُوجِ بِأَهْلِهِ إِلَى قَرْيَةِ «صُوغَرَ».
وَالْعَجُوزُ: الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ وَهِيَ زَوْجُ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ: فِي الْغابِرِينَ صِفَةُ عَجُوزاً.
وَالْغَابِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْغُبُورِ وَهُوَ الْبَقَاءُ بَعْدَ ذَهَابِ الْأَصْحَابِ أَوْ أَهْلِ الْخَيْلِ، أَيْ بَاقِيَةٌ فِي الْعَذَابِ بَعْدَ نَجَاةِ زَوْجِهَا وَأَهْلِهِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهَا لَحِقَهَا الْعَذَابُ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا فَكَانَ صِفَةً لَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قِصَّتِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ أَجْدَرُ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ مِنْ ذِكْرِ إِنْجَاءِ لُوطٍ الْمُؤمنِينَ.
وَالتَّدْمِيرُ: الْإِصَابَةُ بِالدَّمَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتُؤْصِلُوا بِالْخَسْفِ وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَطَرُ: الْمَاءُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ السَّحَابِ عَلَى الْأَرْضِ. وَالْإِمْطَارُ: إِنْزَالُ الْمَطَرِ، يُقَالُ: أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ. وَسُمِّيَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحِجَارَة مَطَرا لِأَن نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوِّ.
وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَقْذُوفَاتِ بَرَاكِينٍ فِي بِلَادِهِمْ أَثَارَتْهَا زَلَازِلُ الْخَسْفِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَ (سَاءَ) فِعْلُ ذَمٍّ بِمَعْنَى بِئْسَ. وَفِي قَوْلِهِ: الْمُنْذَرِينَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أُنْذِرُوا فَلم ينتذروا.
181

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٧٤ إِلَى ١٧٥]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
أَيْ فِي قِصَّتِهِمُ الْمَعْلُومَةِ لِلْمُشْرِكِينَ آيَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨] وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيره آنِفا.
[١٧٦- ١٨٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٧٦ إِلَى ١٨٠]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
اسْتِئْنَاف تعداد وتكرير كَمَا تَقَدَّمَ فِي جُمْلَةِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٣].
وَلَمْ يَقْرِنْ فِعْلَ كَذَّبَ هَذَا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ أَصْحابُ جَمْعُ صَاحِبٍ وَهُوَ مُذَكَّرٌ مَعْنًى وَلَفْظًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ [الشُّعَرَاء: ١٦٠] فَإِنَّ (قَوْمَ) فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَيْكَةَ بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ الْأَيْكَةِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَبِجَرِّ آخِرِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعْرِيفُ عَهْدٍ لِأَيْكَةٍ مَعْرُوفَةٍ. وَالْأَيْكَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَهِيَ الْغَيْضَةُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: رَأَيْتُهَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحِجْرِ وَق الْأَيْكَةِ وَفِي الشُّعَرَاءِ وَص لَيْكَةَ وَاجْتَمَعَتْ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ كُلُّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَلِفْ.
وَأَصْحَابُ لَيْكَةَ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ أَوْ قَبِيلَةٌ مِنْهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ غِيضَتُهُمْ مِنْ شَجَرِ الْمُقْلِ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ النَّبْقُ) وَيُقَالُ لَهُ الدَّوْمُ (بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُون الْوَاو).
وإفرادها بِتَاءِ الْوَحْدَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْبُقْعَةِ وَاسْمُ الْجَمْعِ: أَيْكٌ، وَاشْتَهَرَتْ بِالْأَيْكَةِ فَصَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ مِثْلُ الْعَقَبَةِ. ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِيَكُونَ عَلَمًا شَخْصِيًّا فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَتُنُوسِيَ مَعْنَى التَّعْرِيفِ
182
بِاللَّامِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا شُعَيْبٌ كَانَ لَيْكَةَ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: وَجَدْنَا فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ لَيْكَةَ اسْمُ الْقَرْيَةِ وَالْأَيْكَةُ الْبِلَادُ كُلُّهَا كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ.
وَهَذَا مِنَ التَّغْيِيرِ لِأَجْلِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا سَمَّوْا شُمْسًا بِضَمِّ الشِّينِ لِيَكُونَ عَلَمًا وَأَصْلُهُ الشَّمْسُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ. وَالتَّغْيِيرُ لِأَجْلِ النَّقْلِ إِلَى الْعِلْمِيَّةِ وَارِدٌ بِكَثْرَةٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مَالِكٍ
وَذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ قَبْلَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَلَمَّا صَارَ اسْمُ لَيْكَةَ عَلَمًا عَلَى الْبِلَادِ جَازَ مَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِذَلِكَ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ كَمَا تَوَهَّمَهُ النَّحَّاسُ، وَلَا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ اغْتِرَارٌ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ كَمَا تَعَسَّفَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِتَوْهِيمِ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى الرِّوَايَةِ قَبْلَ نَسْخِ الْمَصَاحِفِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا تَتَّبِعُوا الْأَوْهَامَ الْمُخْطِئَةَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ أَصْحَابَ لَيْكَةَ هُمْ مَدْيَنُ أَوْ هُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ سَاكِنُونَ فِي لَيْكَةَ جِوَارِ مَدْيَنَ أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ. وَإِلَى هَذَا مَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَى أُمَّتَيْنِ: إِلَى قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ.
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» : رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ قَوْمَ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّتَانِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا النَّبِيءَ»
، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا غَرِيبٌ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وروى ابْن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ هُمْ أَهْلُ مَدْيَنَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَهْلَ الْأَيْكَةِ قَبِيلَةٌ غَيْرُ مَدْيَنَ فَإِنَّ مَدْيَنَ هُمْ أَهْلُ نَسَبِ شُعَيْبٍ وَهُمْ ذَرِّيَّةُ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ زَوْجِهِ «قَطُورَةَ» سَكَنَ مَدْيَنُ فِي شَرْقِ بَلَدِ الْخَلِيلِ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ بَلَدًا مَأْهُولًا بِقَوْمٍ فَهُمْ إِذَنْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فَبَنَى مَدْيَنُ وَبَنُوهُ الْمَدِينَةَ وَتَرَكُوا الْبَادِيَةَ لِأَهْلِهَا وَهُمْ سُكَّانُ الْغَيْضَةِ.
183
وَالَّذِي يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَهْلِ مَدْيَنَ وَصَفَ شُعَيْبًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ، وَلَمَّا ذَكَرَهَا لِأَصْحَابِ لَيْكَةَ لَمْ يَصِفْ شُعَيْبًا بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ شُعَيْبٌ نَسِيبًا وَلَا صِهْرًا لِأَصْحَابِ لَيْكَةَ، وَهَذَا إِيمَاءٌ دَقِيقٌ إِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ. وَمِمَّا يُرَجِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٧٨، ٧٩] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ، فَجَعَلَ ضَمِيرَهُمْ مُثَنًّى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ مَجْمُوعُ قَبِيلَتَيْنِ: مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ لَيْكَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَإِنَّمَا تُرْسَلُ الرُّسُلُ مَنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَالَ تَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يُوسُف: ١٠٩] وَتَكُونُ الرِّسَالَةُ شَامِلَةً لِمَنْ حَوْلَ الْقَرْيَةِ.
وَافْتَتَحَ شُعَيْبٌ دَعَوْتَهُ بِمِثْلِ دَعَوَاتِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ.
وَشَمَلَ قَوْلُهُ: أَلا تَتَّقُونَ النَّهْيَ عَنِ الْإِشْرَاكِ فَقَدْ كَانُوا مُشْرِكِينَ كَمَا فِي آيَةِ سُورَة
هود.
[١٨١- ١٨٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٨١ إِلَى ١٨٣]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣)
اسْتِئْنَافٌ مِنْ كَلَامِهِ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ غَرَضِ الدَّعْوَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء:
١٧٧] إِلَى آخِرِهِ إِلَى الدَّعْوَةِ التَّفْصِيلِيَّةِ بِوَضْعِ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُمْ، فَقَدْ كَانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ يُطَفِّفُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَيَبْخَسُونَ أَشْيَاءَ النَّاسِ إِذَا ابْتَاعُوهَا مِنْهُمْ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
فَأَمَّا تَطْفِيفُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ فَظُلْمٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَلَمَّا كَانَ تجارهم قد تمالؤوا عَلَيْهِ اضْطُرَّ النَّاسُ إِلَى التَّبَايُعِ بِالتَّطْفِيفِ.
وأَوْفُوا أَمْرٌ بِالْإِيفَاءِ، أَيْ جعل الشَّيْء وافيا، أَي تَامًّا، أَيِ اجْعَلُوا الْكَيْلَ غَيْرَ نَاقِصٍ. وَالْمُخْسِرُ: فَاعِلُ الْخَسَارَةِ لِغَيْرِهِ، أَيِ الْمُنْقِصُ، فَمَعْنَى وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُطَفِّفِينَ. وَصَوْغُ مِنَ الْمُخْسِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ: لَا تَكُونُوا مُخْسِرِينَ. لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الصَّنِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦] فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَالْقِسْطَاسُ: بِضَمِّ الْقَافِ وَبِكَسْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدْلِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمِيزَانِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٥]، حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا كَمَا هُنَالِكَ وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ بِ الْمُسْتَقِيمِ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمِيزَانُ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ هَذَا التَّشْرِيعُ فِي قِصَّتِهِ فِي الْأَعْرَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْقِسْطاسِ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ بِكَسْرِ الْقَافِ.
وَبَخْسُ أَشْيَاءِ النَّاسِ: غَبْنُ مَنَافِعِهَا وَذَمُّهَا بِغَيْرِ مَا فِيهَا لِيَضْطَرُّوهُمْ إِلَى بَيْعِهَا بِغَبْنٍ.
وَأَمَّا الْفَسَادُ فَيَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ الضَّارَّةِ.
وَالْبَخْسُ: النَّقْصُ وَالذَّمُّ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢] وَنَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَمِنْ بَخْسِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَقُولُوا لِلَّذِي يَعْرِضُ سِلْعَةً سَلِيمَةً لِلْبَيْعِ: إِنَّ سِلْعَتَكَ رَدِيئَةٌ، لِيَصْرِفَ عَنْهَا الرَّاغِبِينَ فيشتريها برخص.
[١٨٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ١٨٤]
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
أَكَّدَ قَوْلَهُ فِي صَدْرِ خِطَابِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ [الشُّعَرَاء: ١٧٩] بِقَوْلِهِ هُنَا: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وَزَادَ فِيهِ دَلِيلَ اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ اتَّقُوا وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لَمْ يَصِحَّ عَطْفُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى نَبْذِ اتِّقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ.
والْجِبِلَّةَ: بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ: الْخِلْقَةُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ اسْمٌ كَالْمَصْدَرِ وَلِهَذَا وُصِفَ بِ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ: أَطْلَقَ الْجِبِلَّةَ عَلَى أَهْلِهَا، أَيْ وَذَوِي الْجِبِلَّةِ الْأَوَّلِينَ. وَالْمَعْنَى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْأُمَم قبلكُمْ.

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٨٥ إِلَى ١٨٨]

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨)
نَفَوْا رِسَالَتَهُ عَنِ اللَّهِ كِنَايَةً وَتَصْرِيحًا فَزَعَمُوهُ مَسْحُورًا، أَيْ مُخْتَلُّ الْإِدْرَاكِ وَالتَّصَوُّرَاتِ مِنْ جَرَّاءِ سِحْرٍ سُلِّطَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ بُطْلَانِ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ رِسَالَةً عَنِ اللَّهِ. وَفِي صِيغَةِ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦] مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَرَاء: ١٥٣] مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشُّعَرَاء: ١٦٧].
وَالْإِتْيَانُ بِوَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يَجْعَلُ كَوْنَهُ بَشَرًا إِبْطَالًا ثَانِيًا لِرِسَالَتِهِ. وَتَرْكُ الْعَطْفِ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ يَجْعَلُ كَوْنُهُ بَشَرًا حُجَّةً عَلَى أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَيْسَ وَحْيًا عَلَى اللَّهِ بَلْ هُوَ مِنْ تَأْثِيرِ كَوْنِهِ مَسْحُورًا. فَمَآلُ مَعْنَيَيِ الْآيَتَيْنِ مُتَّحِدٌ وَلَكِنَّ طَرِيقَ إِفَادَتِهِ مُخْتَلِفٌ وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ أُسْلُوبِ الْحِكَايَتَيْنِ.
وَأُطْلِقَ الظَّنُّ عَلَى الْيَقِينِ فِي وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ:
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٤٦]، وَقَرِينَتُهُ هُنَا دُخُولُ اللَّامِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ (ظَنَّ) لِأَنَّ أَصْلَهَا لَامُ قَسَمٍ.
وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمِنَ الْكاذِبِينَ اللَّامُ الْفَارِقَةُ، وَحَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَا أَصْلُهُ الْخَبَرُ فَيُقَالُ هُنَا مَثَلًا: وَإِنْ أَنْتَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، لَكِنَّ الْعَرَبَ تَوَسَّعُوا فِي الْمُخَفَّفَةِ فَكَثِيرًا مَا يُدْخِلُونَهَا عَلَى الْفِعْلِ النَّاسِخِ لِشِدَّةِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فَيَجْتَمِعُ
فِي الْجُمْلَةِ حِينَئِذٍ نَاسِخَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَكَانَ أَصْلُ التَّرْكِيبِ فِي مَثَلِهِ: وَنَظُنُّ أَنَّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَوَقَعَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ لِأَجْلِ تَصْدِيرِ حَرْفِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّ (إِنَّ) وَأَخَوَاتِهَا لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ مَا عَدَا (أَنِ) الْمَفْتُوحَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ مَا يُخَفِّفُونَ (إِنَّ) إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلٍ مِنَ النَّوَاسِخِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ، فَالَّذِي يَقُولُ: إِنْ أَظُنُّكَ لَخَائِفًا، أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَظُنُّ أَنَّكَ لَخَائِفٌ، فَقَدَّمَ (إِنَّ) وَخَفَّفَهَا وَصَيَّرَ خَبَرَهَا مَفْعُولًا لِفِعْلِ الظَّنِّ، فَصَارَ: إِنْ أَظُنُّكَ لَخَائِفًا، وَالْكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَ إِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ حَرْفَ نَفْيٍ وَيَجْعَلُونَ اللَّامَ بِمَعْنَى (إِلَّا).
وَالْأَمْرُ فِي فَأَسْقِطْ أَمْرُ تَعْجِيزٍ.
وَالْكِسْفُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ عَدَا حَفْصًا: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : هُوَ جَمْعُ كِسْفَةٍ مِثْلُ قِطْعٍ وَسِدْرٍ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً [الطّور: ٤٤].
وَقَرَأَ حَفْصٌ كِسَفاً بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ السِّينِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَسْفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٢].
وَقَوْلُهُمْ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ كَقَوْلِ ثَمُودَ: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعَرَاء: ١٥٤] إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَيَّنُوا الْآيَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَعْيِينَهَا اقْتِرَاحٌ مِنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ شُعَيْبًا أَنْذَرَهُمْ بِكِسَفٍ يَأْتِي فِيهِ عَذَابٌ. وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الظُّلَّةِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ جَوَابُ شُعَيْبٍ بِإِسْنَادِ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَمِقْدَارِهِ. وأَعْلَمُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعَالِمِ وَلَيْسَ هُوَ بتفضيل.
[١٨٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ١٨٩]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩)
الظُّلَّةِ: السَّحَابَةُ، كَانَتْ فِيهَا صَوَاعِقُ مُتَتَابِعَةٌ أَصَابَتْهُمْ فَأَهْلَكَتْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ كَانَ الْعَذَابُ مِنْ جِنْسِ مَا سَأَلُوهُ، وَمِنْ إِسْقَاطِ شَيْءٍ مِنَ السَّمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: فَكَذَّبُوهُ الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ فَتَبَيَّنَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَرَاء:
١٨٥] أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ، أَيْ تَبَيَّنَ التَّكْذِيبُ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَصَدُوهُ مِنْ تَعْجِيزِهِ إِذْ قَالُوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشُّعَرَاء: ١٨٧]. وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ التَّكْذِيبِ إِيقَاظٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ أَصْحَابِ شُعَيْبٍ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عقابهم كَذَلِك.
[١٩٠، ١٩١]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٩٠ إِلَى ١٩١]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
أَيْ فِي ذَلِكَ آيَةٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ إِذْ كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ أَصْحَابِ لَيْكَةَ فَقَدْ كَانُوا
مِنَ الْمُطَفِّفِينَ مَعَ الْإِشْرَاكِ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ إِلَى قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: ١- ٥]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي طَالِعَةِ هَذِهِ السُّورَةِ [٨] وَجْهَ تَكْرِيرِ آيَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.
[١٩٢- ١٩٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٩٢ إِلَى ١٩٥]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
عَوْدٌ إِلَى مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ الْآيَةَ الْعُظْمَى بِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: ٢] كَمَا تَقَدَّمَ لِتُخْتَتَمَ السُّورَةُ بِإِطْنَابِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ كَمَا ابْتُدِئَتْ بِإِجْمَالِ التَّنْوِيهِ بِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ آيَةٍ اخْتَارَهَا اللَّهُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَةَ أَفْضَلِ الْمُرْسَلِينَ. فَضَمِيرُ وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ بَعْدَ ذِكْرِ آيَاتِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ. فَبِوَاوِ الْعَطْفِ اتَّصَلَتِ الْجُمْلَةُ بِالْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَبِضَمِيرِ الْقُرْآنِ اتَّصَلَ غَرَضُهَا بِغَرَضِ صَدْرِ السُّورَةِ.
فَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَحْكِيَّةِ فِيهَا أَخْبَارُ الرُّسُلِ الْمُمَاثِلَةِ أَحْوَالُ أَقْوَامِهِمْ لِحَالِ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ آيَةُ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَطْفُهَا عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي مَثْلُهَا عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ [الشُّعَرَاء: ٢] بِحَيْثُ لَوْلَا مَا فُصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى مِنْ طُولِ الْكَلَامِ لَكَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا. وَوَجْهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ إِعْرَاضِ الْكَافِرِينَ عَنْ قَبُولِهِ وَطَاعَتِهِمْ فِيهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُنْكِرِينَ.
وَالتَّنْزِيلُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُنَزَّلَ نَفْسُ التَّنْزِيلِ.
وَجُمْلَةُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ بَيَان لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَيْ كَانَ تَنْزِيلُهُ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَخْفِيفِ زَايِ نَزَلَ وَرَفْعِ الرُّوحُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ نَزَلَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَنَصْبِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، أَيْ نَزَّلَهُ اللَّهُ بِهِ.
188
وَ (الرُّوحُ الْأَمِينُ) جبرئيل وَهُوَ لَقَبُهُ فِي الْقُرْآنِ، سُمِّيَ رُوحًا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَهِيَ الْمُجَرَّدَاتُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَتَقَدَّمَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي الْبَقَرَةِ [٨٧]. وَنُزُولُ جِبْرِيلَ إِذْنُ اللَّهِ تَعَالَى، فَنُزُولُهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
والْأَمِينُ صِفَةُ جِبْرِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمِنَهُ عَلَى وَحْيِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَالْقَلْبُ: يُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ قَبُولُ الْمَعْلُومَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: ٣٧] أَيْ إِدْرَاكٌ وَعَقْلٌ.
وَقَوْلُهُ: عَلى قَلْبِكَ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ نَزَلَ، وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ النُّزُولَ وُصُولٌ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ فَهُوَ مُقْتَضٍ اسْتِقْرَارَ النَّازِلِ عَلَى مَكَانٍ.
وَمَعْنَى نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَى قَلْبِ النَّبِيءِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: اتِّصَالُهُ بِقُوَّةِ إِدْرَاكِ النَّبِيءِ لِإِلْقَاءِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ فِي قُوَّتِهِ الْمُتَلَقِّيَةِ لِلْكَلَامِ الْمُوحَى بِأَلِفَاظِهِ، فَفِعْلُ (نَزَلَ) حَقِيقَةٌ.
وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعَارٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ مِمَّا سُمِّيَ بِقَلْبِ النَّبِيءِ مِثْلُ اسْتِعَارَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَقَدْ وَصَفَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك كَمَا
فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِيَ مَا يَقُولُ»
. وَهَذَانَ الْوَصْفَانِ خَاصَّانِ بِوَحْيِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. وَثَمَّةَ وَحْيٌ مِنْ قَبِيلِ إِبْلَاغِ الْمَعْنَى وَسَمَّاهُ
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ نَفْثًا. فَقَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَجَلَهَا»
. فَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ وَحْيٌ بِالْمَعْنَى (وَالرُّوعُ:
الْعَقْلُ) وَقَدْ يَكُونُ الْوَحْيُ فِي رُؤْيَا النَّوْمِ فَإِنَّ النَّبِيءَ لَا يَنَامُ
189
قَلْبُهُ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ النُّكْتَةَ فِي اخْتِصَاصِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: عَلى قَلْبِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ بِأَلِفَاظِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت: ٤٨].
وَمَعْنَى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ لِتَكُونَ مِنَ الرُّسُلِ. وَاخْتِيرَ مِنْ أَفْعَالِهِ النِّذَارَةَ لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِغَرَضِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ وَبِإِنْذَارِهِمْ.
وَفِي: مِنَ الْمُنْذِرِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَمَكُّنِ وَصْفِ الرِّسَالَةِ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ وَغَيْرِهَا. وبِلِسانٍ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَاللِّسَانُ: اللُّغَةُ، أَيْ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ مُلَابِسًا لِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُبَيِّنَةٍ أَيْ كَائِنًا الْقُرْآنَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ.
وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي يَعْنِيهَا الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا لِاحْتِمَالِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الشَّرِيفَةِ مَعَ الِاخْتِصَارِ، فَإِنَّ مَا فِي أَسَالِيبِ نَظْمِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِعْرَابِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ، وَمَا فِي سِعَةِ اللُّغَةِ مِنَ التَّرَادُفِ، وَأَسْمَاءِ الْمَعَانِي الْمُقَيَّدَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ، مَا يَلِجُ بِالْمَعَانِي إِلَى الْعُقُولِ سَهْلَةً مُتَمَكِّنَةً، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللُّغَةَ أَنْ تَكُونَ هِيَ لُغَةُ كِتَابِهِ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ كَافَّةَ النَّاس، فَأنْزل بادىء ذِي بَدْءٍ بَيْنَ الْعَرَبِ أَهْلِ ذَلِكَ اللِّسَانِ وَمَقَاوِيلِ الْبَيَانِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهُمْ حَمَلَتَهُ إِلَى الْأُمَمِ تُتَرْجِمُ مَعَانِيهِ فَصَاحَتَهُمْ وَبَيَانَهُمْ، وَيَتَلَقَّى أَسَالِيبَهُ الشَّادُونَ مِنْهُمْ وَوِلْدَانُهُمْ، حِينَ أَصْبَحُوا أُمَّةً وَاحِدَةً يَقُومُ بِاتِّحَادِ الدِّينِ واللغة كيانهم.
[١٩٦، ١٩٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٩٦ إِلَى ١٩٧]
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧)
عَطْفٌ عَلَى وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٢]، وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ كَضَمِيرِ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَهَذَا تَنْوِيهٌ آخَرُ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تُصَدِّقُهُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ
190
بِمُوَافَقَتِهَا لِمَا فِيهِ وَخَاصَّةً فِي أَخْبَارِهِ عَنِ الْأُمَمِ وَأَنْبِيَائِهَا.
وَقَوْلُهُ: لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَيْ كُتُبِ الرُّسُلِ السَّالِفِينِ، أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَائِنٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ مِثْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي نَعْلَمُهَا إِجْمَالًا. وَمَعْلُومٌ
أَنَّ ضَمِيرَ الْقُرْآنِ لَا يُرَادُ بِهِ ذَاتُ الْقُرْآنِ، أَيْ أَلِفَاظُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَيْسَتْ سُوَرُ الْقُرْآنِ وَآيَاتُهُ مَسْطُورَةً فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ بِلَفْظِهَا كُلِّهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ اسْمِهِ وَوَصْفِهِ الْخَاصِّ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ. فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الأوّل فَالضَّمِير مؤول بِالْعَوْدِ إِلَى اسْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَاف: ١٥٧]، أَيْ يَجِدُونَ اسْمَهُ وَوَصْفَهُ الَّذِي يُعَيِّنُهُ. فَالْمَعْنَى أَنَّ ذِكْرَ الْقُرْآنِ وَارِدٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، أَيْ جَاءَتْ بِشَارَاتٌ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَسُولٌ يَجِيءُ بِكِتَابٍ. فَفِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِنْ كُتُبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ عَشَرَ قَوْلُ مُوسَى: «قَالَ لِيَ الرَّبُّ: أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيئًا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ إِخْوَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمُ الْعَرَبُ كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ عَشَرَ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَمْلِ بِإِسْمَاعِيلَ «وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ» أَيْ لَا يَسْكُنُ مَعَهُمْ وَلَكِنْ قُبَالَتُهُمْ. وَلَمْ يَأْتِ نَبِيءٌ بِوَحْيٍ مِثْلِ مُوسَى بِشَرْعٍ كَشَرْعِ مُوسَى غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَلَامُ اللَّهِ الْمَجْعُولُ فِي فَمِهِ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَتْلُوهُ.
وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الإصحاح الرَّابِع وَالْعِشْرين قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرًا.... وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى (أَيْ يَدُومُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ أَيْ دِينُهُ إِذْ لَا خُلُودَ لِلْأَشْخَاصِ) فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَكْرَزُ (أَيْ يَدْعُو) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ (أَيِ الْأَرْضِ الْمَأْهُولَةِ) شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ (رِسَالَةً عَامَّةً) ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى (أَيْ نِهَايَةُ الْعَالَمِ) ».
فَالْبِشَارَةُ هِيَ الْوَحْيُ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي دَعَا جَمِيعَ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إِبْرَاهِيم: ١] وَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الْإِسْرَاء: ٨٩].
وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ الْمَسِيحِ الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ عَشَرَ: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ
191
فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا (أَيْ رَسُولًا) آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ (هَذَا هُوَ دَوَامُ الشَّرِيعَةِ) رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ (إِشَارَةً إِلَى تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ) لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ». ثُمَّ قَالَ: «وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ باسمي (أَي بِوَصْف الرِّسَالَةِ) فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ (وَهَذَا التَّعْلِيمُ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْقُرْآنُ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ».
وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي فَالضَّمِير مؤوّل بِمَعْنَى مُسَمَّاهُ كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ
نِصْفُ مُسَمَّى دِرْهَمٍ فَكَمَا يُطْلَقُ اسْمُ الشَّيْءِ عَلَى مَعْنَاهُ نَحْوَ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: ١٠] وَقَوْلَهُ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ [مَرْيَم: ٤١] أَيْ أَحْوَالُهُ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ ضَمِيرُ الِاسْمِ عَلَى مَعْنَاهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ. وَهَذَا كَقَوْلِ الْإِنْجِيلِ آنِفًا «وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قَلْتُهُ لَكُمْ»، وَلَا تَجِدُ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَسْطُورِ فِي الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْمُحَرَّفِ عَنْهُ إِلَّا وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ بَعْضِهِ كَقَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] الْآيَةَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَلِكَ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ تَنْوِيهٌ ثَالِثٌ بِالْقُرْآنِ وَحَجَّةٌ عَلَى التَّنْوِيهِ الثَّانِي بِهِ الَّذِي هُوَ شَهَادَةُ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ بِالصِّدْقِ، بِأَنَّ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِمْ، فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَنْوِيهًا آخَرَ بِالْقُرْآنِ عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضَى كَوْنِهَا حُجَّةً عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ أَنْ لَا تُعْطَفَ.
وَفِعْلُ: يَعْلَمَهُ شَامِلٌ لِلْعِلْمِ بِصِفَةِ الْقُرْآنِ، أَيْ تَحَقُّقُ صِدْقِ الصِّفَاتِ الْمَوْصُوفِ بِهَا من جَاءَ بِهِ، وَشَامِلٌ لِلْعِلْمِ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ مَا فِي كُتُبِهِمْ.
وَضَمِيرُ أَنْ يَعْلَمَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَعْلَمَ ذِكْرَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ.
192

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٩٨ إِلَى ١٩٩]

وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَقَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: ٥] فَدَمَغَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا.
وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ بُهْتَانَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ رَسُولٌ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ رَسُولٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ بِأَنْ أَوْحَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إِلَى رَسُولٍ لَا يَفْهَمُهَا وَلَا يُحْسِنُ تَأْلِيفَهَا فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي قِرَاءَتِهِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ
اللُّغَةَ أَيْضًا خَارِقُ عَادَةٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا آمَنُوا بِأَنَّهُ رَسُولٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُرِيدُونَ مِمَّا يُلْقُونَهُ مِنَ الْمَطَاعِنِ الْبَحْثَ عَنِ الْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ وَطَفِقُوا يَتَحَمَّلُونَ أَعْذَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ جُحُودًا لِلْحَقِّ وَتَسَتُّرًا مِنَ اللَّائِمِينَ.
وَجُمْلَةُ: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٣- ١٩٥] لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلى قَلْبِكَ أَفَادَ أَنَّهُ أُوتِيَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ لَا كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: تَقَوَّلَهُ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَعْجِيزِهِمْ فَضَحَ نِيَّاتَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: ٩٦، ٩٧].
والْأَعْجَمِينَ جَمْعُ أَعْجَمٍ. وَالْأَعْجَمُ: الشَّدِيدُ الْعُجْمَةِ، أَيْ لَا يُحْسِنُ كَلِمَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ هُنَا مُرَادِفُ أَعْجَمِيٍّ بِيَاءِ النَّسَبِ فَيَصِحُّ فِي جَمْعِهِ عَلَى أَعْجَمِينَ اعْتِبَارُ أَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ أَعْجَمٍ كَمَا قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَصِفُ حَمَامَةً:
وَيَصِحُّ اعْتِبَارُ حَذْفِ يَاءِ النَّسَبِ لِلتَّخْفِيفِ. وَأَصْلُهُ: الْأَعْجَمِيِّينَ كَمَا فِي الشِّعْرِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ:
وَلَمْ أَرَ مِثْلِي شَاقَهُ لَفْظُ مِثْلِهَا وَلَا عَرَبِيًّا شَاقَهُ لَفْظُ أَعْجَمَا
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِحَالَهُمْ بِمَلْقَى السُّيُولِ بَيْنَ سَافٍ وَنَائِلِ
أَيِ الْأَشْعَرِيُّونَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يُحْمَلُ قَول النَّابِغَة:
فعودا لَهُ غَسَّانُ يَرْجُونَ أَوْبَهُ وَتُرْكٌ وَرَهْطُ الأعجمين وكابل
[٢٠٠- ٢٠٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٠٠ إِلَى ٢٠٣]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)
تَقَدَّمَ نَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢]، إِلَّا أَنَّ آيَةَ الْحِجْرِ قِيلَ فِيهَا:
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قِيلَ سَلَكْناهُ، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، فَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْمُضَارِعِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ
الْمَقْصُودَ إِبْلَاغٌ مَضَى وَهُوَ الَّذِي أُبْلِغَ لِشِيَعِ الْأَوَّلِينَ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا ذِكْرٌ لِغَيْرِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ فَنَاسَبَهَا حِكَايَةُ وُقُوعِ هَذَا الْإِبْلَاغِ مُنْذُ زَمَنٍ مَضَى. وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ.
وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ اسْتِمْرَارِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي حِينِ أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فَلَا تَعْجَبْ فَكَذَلِكَ السُّلُوكُ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِلسُّلُوكِ الْمَأْخُوذِ مِنْ سَلَكْناهُ بِنَفْسِهِ لِغَرَابَتِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، أَيْ هُوَ سُلُوكٌ لَا يُشْبِهُهُ سُلُوكٌ وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ قُلُوبَهُمْ بِإِبَانَتِهِ وَعَرَفُوا دَلَائِلَ صِدْقِهِ مِنْ أَخْبَارِ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
وَمَعْنَى: سَلَكْناهُ أَدْخَلْنَاهُ، قَالَ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ
194
وَعَبَّرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إِجْرَامٌ. وَجُمْلَةُ:
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ.
وَالْغَايَةُ فِي حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ تَهْدِيدٌ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ، وَحَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَالْعَذَابُ صَادِقٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ لِمَنْ هَلَكُوا قَبْلَ حُلُولِ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَصَادِقٌ بِعَذَابِ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْعَام: ١٥٨].
وَقَوْلُهُ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً صَالِحٌ لِلْعَذَابَيْنِ: عَذَابُ الْآخِرَةِ يَأْتِي عَقِبَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ بَغْتَةً، وَعَذَابُ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ يَحْصُلُ بَغْتَةً حِينَ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَأْتِيَهُمْ عاطفة لفعل فَيَأْتِيَهُمْ عَلَى فِعْلِ يَرَوُا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ نصب فَيَأْتِيَهُمْ وَذَلِكَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مَعْنَى الْعَطْفِ مِنْ إِفَادَةِ التَّعْقِيبِ فَيُثِيرُ إِشْكَالًا بِأَنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ بَلْ هُمَا حَاصِلَانِ مُقْتَرِنَيْنِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ مَعْنَى الْآيَةِ. وَقَدْ حَاوَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْكَاتِبُونَ عَلَيْهِ تَأْوِيلَهَا بِمَا لَا تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفس.
وَالْوَجْه عِنْدِي فِي تَأْوِيلِهَا أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِيهَا لِبَيَانِ صُورَةِ الِاشْتِمَالِ، أَيْ إِنَّ رُؤْيَةَ الْعَذَابِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُصُولِهِ بَغْتَةً، أَيْ يَرَوْنَهُ دَفْعَةً دُونَ سَبْقِ أَشْرَاطٍ لَهُ.
أَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَقُولُوا فَهِيَ لِإِفَادَةِ التَّعْقِيبِ فِي الْوُجُودِ وَهُوَ صَادِقٌ بِأَسْرَعِ تَعْذِيبٍ فَتَكُونُ خَطِرَةً فِي نُفُوسِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكُوا فِي الدُّنْيَا، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَيُرَدِّدُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ وَحِينَ يُلْقَوْنَ فِيهِ.
وهَلْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي اسْتِفْهَامٍ مُرَادٍ بِهِ التَّمَنِّي مَجَازًا. وَجِيءَ بَعْدَهَا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ تَمَنَّوْا إِنْظَارًا طَوِيلًا يَتَمَكَّنُونَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَل الصَّالح.
195

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٠٤ إِلَى ٢٠٧]

أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)
نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٢] تَقْدِيرُ جَوَابٍ عَنْ تَكَرُّرِ سُؤَالِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨]، حَيْثُ جَعَلُوا تَأَخُّرَ حُصُولِ الْعَذَابِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ تُفِيدُ تَعْقِيبَ الِاسْتِفْهَامِ عَقِبَ تَكَرُّرِ قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يُونُس: ٤٨] وَنَحْوِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ غُرُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَيَسْتَعْجِلُونَ بِعَذَابِنَا فَمَا تَأْخِيرُهُ إِلَّا تَمْتِيعٌ لَهُمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ فَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ، وَيَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: ١٦]. قَالَ مُقَاتِلٌ:
قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِلَى مَتَى تَعِدُنَا بِالْعَذَابِ وَلَا تَأْتِي بِهِ، فَنَزَلَتْ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.
وَتَقْدِيمُ «بِعَذَابِنَا» لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ فِي مَقَامِ الْإِنْذَارِ، أَيْ لَيْسَ شَأْنُ مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَعْجَلَ لِفَظَاعَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ مُقْتَضِيًا أَنَّهُمْ فِي مُهْلَةٍ مِنْهُ وَمُتْعَةٍ بِالسَّلَامَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي مَنْجَاةٍ مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي جَاءَهُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابَهَهُمْ بِجُمْلَةِ:
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ لِلتَّقْرِيرِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا. وَالرُّؤْيَةُ فِي أَفَرَأَيْتَ قَلْبِيَّةٌ، أَيْ أَفَعَلِمْتَ. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ حَتَّى الْمُجْرِمِينَ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ مُعْتَرِضَةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَدَّ مَسَدَّ
مَفْعُولَيْ (رَأَيْتَ). وثُمَّ جاءَهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ الشُّرَطِ الْمُعْتَرِضَةِ، وثُمَّ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، أَيْ جَاءَهُمْ بَعْدَ سِنِينَ. وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ
الْعَذَابَ جَائِيهِمْ وَحَالٌّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَمَا كانُوا يُوعَدُونَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُوعَدُونَهُ.
وَجُمْلَةُ: مَا أَغْنى عَنْهُمْ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (رَأَيْتَ) لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ. وَمَا كانُوا يُمَتَّعُونَ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُمَتَّعُونَهُ.
وَالْمَعْنَى: أَعَلِمْتَ أَنَّ تَمْتِيعَهُمْ بِالسَّلَامَةِ وَتَأْخِيرَ الْعَذَابِ إِنْ فُرِضَ امْتِدَادُهُ سِنِينَ عَدِيدَةً غَيْرُ مُغْنٍ عَنْهُمْ شَيْئًا إِنْ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [هود: ٨]، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ بِالْخَوَاتِيمِ. فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» : رَوَى ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ أَمْسَكَ بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَرَأَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ ثُمَّ يَبْكِي وَيَقُولُ:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمٌ
فَلَا أَنْتَ فِي الْإِيقَاظِ يَقْظَانُ حَازِمٌ وَلَا أَنْتَ فِي النُّوَّامِ نَاجٍ فَسَالِمُ
تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
وَتَسْعَى إِلَى مَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ قِصَّةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رُوِيَ مَثِيلُهُ عَن الْمَنْصُور.
[٢٠٨]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٠٨]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨)
تَذْكِيرٌ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ وَالَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَدْ كَانَ لَهَا رُسُلٌ يُنْذِرُونَهَا عَذَابَ اللَّهِ لِيَقِيسُوا حَالَتَهُمْ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهُمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالٍ لَهَا مُنْذِرُونَ. وَعُرِّيَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ عَنِ الْوَاوِ اسْتِغْنَاءً عَنِ الْوَاوِ
بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَوْ ذُكِرَتِ الْوَاوُ لَجَازَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٤] إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ.
وَعَبَّرَ عَنِ الرُّسُلِ بِصِفَةِ الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ للتهديد بالإهلاك.
[٢٠٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٠٩]
ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
أَيْ هَذِهِ ذِكْرَى، فَذِكْرَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٣٥] بَلاغٌ أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٥٢] هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَفِي سُورَةِ ص [٤٩] هَذَا ذِكْرٌ. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ ذِكْرَى لَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: ذِكْرى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ فِي الشُّعَرَاءِ وَقْفٌ تَامٌّ إِلَّا قَوْلَهُ: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٨].
وَقَدْ تَرَدَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: ذِكْرى بِوُجُوهٍ جَعَلَهَا جَمِيعًا عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ: ذِكْرى تَكْمِلَةً لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَهِيَ غَيْرُ خَلِيَّةٍ عَنْ تَكَلُّفٍ. وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَّرَ.
وَجُمْلَةُ: وَما كُنَّا ظالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً على ذِكْرى أَي نذكّركم وَلَا نظلم، وَأَن تكون حَالا من الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي ذِكْرى لِأَنَّهُ كَالْمَصْدَرِ يَقْتَضِي مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَمُفَادُ وَما كُنَّا ظالِمِينَ الْإِعْذَارُ لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْإِنْذَارُ بِأَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بِهِمْ هَلَاكٌ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ ظالِمِينَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْف: ٤٩].
[٢١٠- ٢١٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢١٠ إِلَى ٢١٢]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٢] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ اسْتَدْعَاهُ تَنَاسُبُ الْمَعَانِي وَأَخْذُ بَعْضِهَا بِحُجَزِ بَعْضٍ تَفَنُّنًا فِي الْغَرَضِ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى
198
قَوْلِهِمْ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ كَاهِنٌ قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطّور: ٢٩]، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الَّذِي يَأْتِيهِ شَيْطَانٌ فَقَدْ قَالَتِ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ لَمَّا تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ لَيْلَتَيْنِ لِمَرَضٍ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ.
وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَاجَعَهُمْ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حِينَ شَاوَرَهُ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا يَصِفُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: نَقُولُ: كَلَامُهُ كَلَامُ كَاهِنٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ. وَكَلَامُ الْكُهَّانِ فِي مَزَاعِمِهِمْ مِنْ إِلْقَاءِ الْجِنِّ إِلَيْهِم وَإِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ نُفُوسِهِمْ يَنْسُبُونَهَا إِلَى شَيَاطِينِهِمُ الْمَزْعُومَةِ. نُفِيَ عَنِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، أَيِ الْكُهَّانُ لَا يَجِيشُ فِي نُفُوسِهِمْ
كَلَامٌ مِثْلُ الْقُرْآنِ فَمَا كَانَ لِشَيَاطِينِ الْكُهَّانِ أَنْ يُفِيضُوا عَلَى نُفُوسِ أَوْلِيَائِهِمْ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ.
فَالْكَهَانَةُ مِنْ كَذِبِ الْكُهَّانِ وَتَمْوِيهِهِمْ، وَأَخْبَارُ الْكُهَّانِ كُلُّهَا أَقَاصِيصُ وَسَّعَهَا النَّاقِلُونَ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي السَّمْعِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْعَرَبُ مِنْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، أَيْ تَتَحَيَّلُ عَلَى الِاتِّصَالِ بِعِلْمِ مَا يَجْرِي فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى. ذَلِكَ أَنَّ الْكُهَّانَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَأْتِيهِمْ بِأَخْبَارِ مَا يُقَدَّرُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مِمَّا سَيَظْهَرُ حُدُوثُهُ فِي الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، فَلِذَلِكَ نُفِيَ هُنَا تَنَزُّلُ الشَّيَاطِينِ بِكَلَامِ الْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِأَخْبَارِ مَا سَيَكُونُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَمَعْنَى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ مَا يَسْتَقِيمُ وَمَا يَصِحُّ، أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ تَلَقِّي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي الشَّأْنُ أَنْ يَتَلَقَّاهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ، وَمَا يَسْتَطِيعُونَ تَلَقِّيهِ لِأَنَّ النُّفُوسَ الشَّيْطَانِيَّةَ ظَلْمَانِيَّةٌ خَبِيثَةٌ بِالذَّاتِ فَلَا تَقْبَلُ الِانْتِقَاشَ بِصُوَرِ مَا يَجْرِي فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، فَإِنَّ قَبُولَ فَيَضَانِ الْحَقِّ مَشْرُوطٌ بِالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَبْدَأِ وَالْقَابِلِ.
فَضَمِيرُ يَنْبَغِي عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ بِهِ، أَيْ مَا يَنْبَغِي الْقُرْآنُ لَهُمْ، أَيْ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلُوا بِهِ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَمَفْعُولُ يَسْتَطِيعُونَ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا يَسْتَطِيعُونَهُ. وَأُعِيدَتِ الضَّمَائِرُ بِصِيغَةِ الْعُقَلَاءِ بَعْدَ أَنْ أَضْمَرَ لَهُمْ بِضَمِيرِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ اعْتِبَارًا بِمُلَابَسَةِ ذَلِكَ لِلْكُهَّانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّ صِنْفًا مِنَ الشَّيَاطِينِ يَتَهَيَّأُ لِلتَّلَقِّي بِمَا يُسَمَّى اسْتِرَاقُ السَّمْعِ وَأَنَّهُ يُصْرَفُ عَنْهُ بِالشُّهُبِ. وَاسْتُؤْنِفَ بِ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَكَانَ
199
ذَلِكَ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ.
وَالْمَعْزُولُ: الْمُبْعَدُ عَنْ أَمْرٍ فَهُوَ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِلْكَهَانَةِ مَنْ أَصْلِهَا وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْقُوَى الرُّوحِيَّةِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مُنْذُ ظُهُور الْإِسْلَام.
[٢١٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢١٣]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
لَمَّا وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: ١٩٣، ١٩٤] إِلَى هُنَا، فِي آيَاتٍ أَشَادَتْ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّقَتْ صِدْقَهُ بِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ وَشَهِدَ بِهِ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْحَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ
بِإِبْطَالِ مَا أَلْصَقُوهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ بُهْتَانِهِمْ، لَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ إِبْطَالُ دِينِ الشِّرْكِ الَّذِي تَقَلَّدَتْهُ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهَا وَنَاضَلَتْ عَلَيْهِ بِالْأَكَاذِيبِ فَنَاسَبَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ.
فَقَوْلُهُ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا النَّهْيِ وَقَعَ تَوْجِيهُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ مُنْتَهٍ عَنْ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلَّذِينِ هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْإِشْرَاكِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: ٦٥]. وَالْمَقْصُودُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْخِطَابِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَبْلُغُهُ الْخِطَابُ.
فَالْمَعْنَى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونُوا مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ غير مُشْرِكين.
[٢١٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢١٤]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاء:
١٩٣، ١٩٤]، فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقَبُولِ
200
نُصْحِهِ وَتَعْزِيزِ جَانِبِهِ وَلِئَلَّا يَسْبِقَ إِلَى أَذْهَانِهِمْ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الرَّسُولُ مِنَ الْغِلْظَةِ فِي الْإِنْذَارِ وَأَهْوَالِ الْوَعِيدِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ قَرَابَةُ هَذَا الْمُنْذِرِ وَخَاصَّتُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِدَائِهِ لَهُمْ: «لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»
، وَأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِقِلَّةِ رَعْيِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْقَرَابَةِ إِذْ آذَاهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَعَصَوْهُ مِثْلُ أَبِي لَهَبٍ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ فِي الْحَالَتَيْنِ وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يُكْتَفَى مِنْ مُؤْمِنِهِمْ بِإِيمَانِهِ حَتَّى يَضُمَّ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّذَارَةِ، وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرَابَتَهُ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ.
فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» يَجْمَعُهَا قَوْلُهُمْ: «لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَعَمَّ وَخَصَّ، يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي
هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»

وَكَانَتْ صَفِيَّةُ وَفَاطِمَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ إِنْذَارُهُمَا إِعْمَالًا لِفِعْلِ الْأَمْرِ فِي مَعَانِيهِ كُلِّهَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَجَمَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْإِنْذَارِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِنْذَارِ مِنَ الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ أَنْذَرَ صَفِيَّةَ وَفَاطِمَةَ وَكَانَتَا مُسْلِمَتَيْنِ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صَعَدَ النَّبِيءُ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي
201
تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟
قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ
[المسد: ١، ٢].
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ سُورَةَ الشُّعَرَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ مَعَ أَنَّ سُورَةَ أَبِي لَهَبٍ عُدَّتِ السَّادِسَةَ فِي عداد نزُول السُّورِ، وَسُورَةَ الشُّعَرَاءِ عُدَّتِ السَّابِعَةَ وَالْأَرْبَعِينَ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مُفْرَدًا، فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : لَمَّا نَزَلَتْ «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» وَأَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ. فَلَعَلَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا ثُمَّ أُعِيدَ نُزُولُ بَعْضِهَا فِي جملَة بِسُورَة الشُّعَرَاءِ.
وَالْعَشِيرَةُ: الْأَدْنُونَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَوَصْفُ الْأَقْرَبِينَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْعَشِيرَةِ وَاجْتِلَابٌ لِقُلُوبِهِمْ إِلَى إِجَابَةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَتَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْإِدَانَةِ مِنْهُمْ.
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أشدّ مُضَافَة عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ.
وَإِلَى هَذَا يُشِير
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُم فِي آخِرِ الدَّعْوَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ «غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»
أَيْ ذَلِكَ مُنْتَهَى مَا أَمْلِكُ لَكُمْ حِينَ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَيَحِقُّ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبُلُّوا لِي رَحِمِي مِمَّا تَمْلِكُونَ، فَإِنَّكُمْ تَمْلِكُونَ أَنْ تَسْتَجِيبُوا لِي.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَشِيرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ فِي سُورَة بَرَاءَة [٢٤].
[٢١٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢١٥]
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥)
مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ ابْتِدَارًا لِكَرَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّبَرُّؤِ مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَبَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ الَّذِي لَا يَخْلُو مِنْ وَقْعٍ أَلِيمٍ فِي النُّفُوسِ.
وَخَفْضُ الْجَنَاحِ: مَثَلٌ لِلْمُعَامَلَةِ بِاللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٨]، وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٢٤]. وَالْجَنَاحُ لِلطَّائِرِ بِمَنْزِلَةِ الْيَدَيْنِ لِلدَّوَابِّ، وَبِالْجَنَاحَيْنِ يَكُونُ الطَّيَرَانُ.
ومِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَيَانٌ لِمَنِ اتَّبَعَكَ فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُتَابَعَةُ فِي الدِّينِ وَهِيَ الْإِيمَانُ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْإِيمَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨] وَجَبْرٍ لِخَاطِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَرَابَتِهِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا نَادَى فِي دُعَائِهِ صَفِيَّةَ قَالَ: «عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ» وَلَمَّا نَادَى فَاطِمَةَ قَالَ:
«بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ» تَأْنِيسًا لَهُمَا، فَهَذَا مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَلَمْ يُقَلْ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْعَبَّاسِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ مُشْركًا.
[٢١٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢١٦]
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] أَي فَإِن عَصَوْا أَمْرَكَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ، أَيْ فَإِنْ عَصَاكَ عَشِيرَتُكَ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَثَارُ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ: «غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»
فَالتَّبَرُّؤُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِلَتِهِمْ لِأَجْلِ الرَّحِمِ وَإِعَادَةِ النُّصْحِ لَهُمْ كَمَا قَالَ:
قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِضْمَارِ ذَلِكَ فِي نَفسه.
[٢١٧- ٢٢٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢١٧ إِلَى ٢٢٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّوَكُّلِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ فَيَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَى: فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: ٢١٦] تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْعَوْذِ مِنْ شَرِّ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ وَتَنْصِيصًا عَلَى اتِّصَالِ التَّوَكُّلِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَوَكَّلْ بِالْوَاوِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، أَيْ قُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ وَتَوَكَّلْ، وَعَطْفُهُ عَلَى الْجَوَابِ يَقْتَضِي تَسَبُّبَهُ عَلَى الشَّرْطِ كَتَسَبُّبِ الْجَوَابِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْبِدَارَ بِهِ، فَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ طَرِيقُ انْتِزَاعِهِ.
203
وَالْمَعْنَى: فَإِنْ عَصَاكَ أَهْلُ عَشِيرَتِكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ. وَلَمَّا كَانَ التَّبَرُّؤُ يُؤْذِنُ بِحُدُوثِ مُجَافَاةٍ وَعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثَبَّتَ اللَّهُ جَأْشَ رَسُولِهِ بِأَنْ لَا يَعْبَأَ بِهِمْ وَأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فَهُوَ كَافِيهِ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاق: ٣]. وَعَلَّقَ التَّوَكُّلَ بِالِاسْمَيْنِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ وَمَا تَبِعَهُمَا من الْوَصْف بالموصول وَمَا ذَيَّلَ بِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُلَاحِظُ قَوْلَهُ وَيَعْلَمُ نِيَّتَهُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ يَأْتِي بِمَا أَوْمَأَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَمُسْتَتْبَعَاتُهَا بِوَصْفِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ بِعِزَّتِهِ قَادِرٌ عَلَى تَغَلُّبِهِ عَلَى عَدُوِّهِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَعْصِمُهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ لُوحِظَ هَذَانِ الِاسْمَانِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ الْمَرْءِ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ يَكْفِيهِ مُهِمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَوَصْفُهُ تَعَالَى: بِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
مَقْصُودٌ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ. وَهُوَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ تَوَجُّهَهُ إِلَى اللَّهِ وَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَراكَ
رُؤْيَةً خَاصَّةً وَهِيَ رُؤْيَةُ الْإِقْبَالِ وَالتَّقَبُّلِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨].
وَالْقِيَامُ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَالتَّقَلُّبُ فِي السَّاجِدِينَ هُوَ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْجِدِهِ. وَهَذَا يَجْمَعُ مَعْنَى الْعِنَايَةِ بِالْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلْعِنَايَةِ بِرَسُولِهِمْ، فَهَذَا مِنْ بَرَكَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَمَعَهَا هَذَا التَّرْكِيبُ الْعَجِيبُ الْإِيجَازِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْضُرُنِي فَتَلَا مُقَاتِلٌ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَمَوْقِعُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
[الشُّعَرَاء: ٢١٦]، وَلِلْأَمْرِ بِ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَصِفَةُ السَّمِيعُ مُنَاسِبَةٌ لِلْقَوْلِ، وَصِفَةُ الْعَلِيمُ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّوَكُّلِ، أَيْ إِنَّهُ يَسْمَعُ قَوْلَكَ وَيَعْلَمُ عَزْمَكَ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ للتقوية.
204

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٢١ إِلَى ٢٢٣]

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣)
لَمَّا سَفَّهَ قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ قَوْلُ كَاهِنٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء: ٢١٠] وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيَاطِينِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ مِثْلَهُ، وَأَنَّهُمْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَخْبَارِ أَوْلِيَائِهِمْ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى وَصْفِ حَالِ كُهَّانِهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي رَمَوْا بِهِ الْقُرْآنَ لَا يَنْبَغِي أَن يلتبس بِحَالِ أَوْلِيَائِهِمْ. فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنى بجملة: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء: ٢١٠]، أَي مَا تنزّلت الشَّيَاطِين بِالْقُرْآنِ على مُحَمَّد هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ.
وَأُلْقِيَ الْكَلَامُ إِلَيْهِمْ فِي صُورَة استفهامهم عَنْ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِمَنْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، اسْتِفْهَامًا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ مِمَّا يَسُوءُهُمْ لِذَلِكَ وَيحْتَاج فِيهِ إِلَى إِذْنِهِمْ بِكَشْفِهِ.
وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْخَبَرِ مِمَّا يُسْتَأْذَنُ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ.
وَاخْتِيرَ لَهُ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ الدَّالُّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ هَلْ لِأَنَّ هَلْ فِي الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى (قَدْ) وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ فِيهَا بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، فَالْمَعْنَى: أُنَبِّئُكُمْ إِنْبَاءً ثَابِتًا مُحَقَّقًا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ جَوَابُ الْمُسْتَفْهَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ فَلِذَلِكَ يَعْقُبُهُ الْإِفْضَاءُ بِمَا اسْتَفْهَمَ عَنْهُ قَبْلَ الْإِذْنِ مِنَ السَّامِعِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: ١، ٢] وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ فَرْقٌ.
وَفِعْلُ أُنَبِّئُكُمْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ.
وَهُوَ أَيْضًا اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ كِنَايَةً عَنْ أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ بِحَيْثُ إِنَّهُ مِمَّا يَسْتَفْهِمُ عَنْهُ الْمُتَحَسِّسُونَ وَيَتَطَلَّبُونَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ مِنْ لَوَازِمِ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُتَنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: مَنْ تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، فَلَمَّا قَدَّمَ الْمَجْرُورَ دَخَلَ حَرْفُ عَلى عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مَنْ لِأَن مَا صدقهَا هُوَ الْمُتَنَزَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ فِي صَدْرِ
الْكَلَامِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الِاسْتِفْهَامِ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ أَصْلُهَا، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَلْ، فَإِذَا لَزِمَ مَجِيءُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ
205
أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ تَرَجَّحَ فِيهَا جَانِبُ الِاسْمِيَّةِ فَدَخَلَ الْحَرْفُ عَلَيْهَا وَلَمْ تُقَدَّمْ هِيَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ تَقُولُ: أَعَلَى زَيْدٍ مَرَرْتَ؟
وَلَا تَقُولُ: مَنْ عَلَى مَرَرْتَ؟ وَإِنَّمَا تَقُولُ: عَلَى مَنْ مَرَرْتَ؟ وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١]، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: ١٨]، وَقَوْلُهُمْ: عَلَامَ، وَإِلَامَ، وَحَتَّامَ، وفِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النازعات: ٤٣].
وَأُجِيبَ الِاسْتِفْهَامُ هُنَا بِقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ.
وكُلِّ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى التَّكْثِيرِ، أَيْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَفَّاكِينَ وَهُمُ الْكُهَّانُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَكُلِّ صَمُوتٍ نَثْلَةٍ تُبَّعِيَّةٍ وَنَسْجُ سُلَيْمٍ كُلَّ قَمْصَاءَ ذَائِلُ
وَالْأَفَّاكُ كَثِيرُ الْإِفْكِ، أَيِ الْكَذِبُ، وَالْأَثِيمُ كَثِيرُ الْإِثْمِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْكَاهِنُ أَثِيمًا لِأَنَّهُ يَضُمُّ إِلَى كَذِبِهِ تَضْلِيلَ النَّاسِ بِتَمْوِيهِ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا صِدْقًا، وَأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْخَبَرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّتِي تَأْتِيهِ بِخَبَرِ السَّمَاءِ.
وَجُعِلَ لِلشَّيَاطِينِ تَنَزَّلُ لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِنُفُوسِ الْكُهَّانِ يَكُونُ بِتَسَلْسُلِ تَمَوُّجَاتٍ فِي الْأَجْوَاءِ الْعُلْيَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.
ويُلْقُونَ السَّمْعَ صِفَةٌ لِ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، أَيْ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُلْقُونَ أَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ كَوَاكِبَ لِتَتَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ شَيَاطِينُهُمْ بِالْخَبَرِ، وَذَلِكَ مِنْ إِفْكِهِمْ وَإِثْمِهِمْ.
وَإِلْقَاءُ السَّمْعِ: هُوَ شِدَّةُ الْإِصْغَاءِ حَتَّى كَأَنَّهُ إِلْقَاءٌ لِلسَّمْعِ مِنْ مَوْضِعِهِ، شَبَّهَ تَوْجِيهَ حَاسَّةِ السَّمْعِ إِلَى الْمَسْمُوعِ الْخَفِيِّ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْهَوَاءِ قَالَ تَعَالَى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٧]، أَيْ أَبْلَغُ فِي الْإِصْغَاءِ لِيَعِيَ مَا يُقَالُ لَهُ.
وَهَذَا كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ إِصْغَاءٌ، أَيْ إِمَالَةُ السَّمْعِ إِلَى الْمَسْمُوعِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أَيْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْأَفَّاكِينَ كَاذِبُونَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَهُمْ لَمْ يَتَلَقَّوْا مِنْهَا شَيْئًا، أَيْ وَبَعْضُهُمْ يَتَلَقَّى شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ فَيَكْذِبُ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ.
206
فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» قِيلَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ»
. فَهُمْ أَفَّاكُونَ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْكَذِبِ فَمِنْهُمْ أَفَّاكُونَ فِيمَا يَزِيدُونَهُ عَلَى خَبَرِ الْجِنِّ، وَمِنْهُمْ أَفَّاكُونَ فِي أَصْلِ تَلَقِّي شَيْءٍ مِنَ الْجِنِّ، وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْكُهَّانِ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ بِبَعْضِ أَحْوَالِ النُّبُوءَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ غَيْبٍ، وَأَسْجَاعُهُمْ قَدْ تَلْتَبِسُ بِآيَاتِ الْقُرْآن فِي بادىء النَّظَرِ.
أَطْنَبَتِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْكَهَانَةِ وَبَيَّنَتْ أَنَّ قُصَارَاهَا الْإِخْبَارُ عَنْ أَشْيَاءَ قَلِيلَةٍ قَدْ تَصْدُقُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَدْيِ النَّبِيءِ وَالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآدَابِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالصَّرَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ وَلَا تَصَدِّي مِنْهُ لِلْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ. كَمَا قَالَ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الْأَنْعَام: ٥٠] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنى.
[٢٢٤- ٢٢٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٢٤ إِلَى ٢٢٧]
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
كَانَ مِمَّا حَوَتْهُ كِنَانَةُ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ قَالُوا فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ شَاعِرٌ، فَلَمَّا نَثَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ سِهَامَ كِنَانَتِهِمْ وَكَسَرَتْهَا وَكَانَ مِنْهَا قَوْلُهُمْ: هُوَ كَاهِنٌ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، وَكَانَ بَيْنَ الْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ جَامِعٌ فِي خَيَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلشَّاعِرِ شَيْطَانًا يُمْلِي عَلَيْهِ الشِّعْرَ وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الرَّئِيَّ، فَنَاسَبَ أَنْ يُقَارَنَ بَيْنَ تَزْيِيفِ قَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ شِعْرٌ، وَقَوْلِهِمْ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ شَاعِرٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: هُوَ قَوْلُ كَاهِنٍ، كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١، ٤٢] فَعَطَفَ هُنَا قَوْلَهُ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ عَلَى جُمْلَةِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٢٢٢].
وَلَمَّا كَانَ حَالُ الشُّعَرَاءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخَالِفًا لِحَالِ الْكُهَّانِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِمَلَكَةِ الشِّعْرِ اتِّصَالٌ مَا بِالنُّفُوسِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ ادِّعَاءُ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ أَشَاعُوهُ بَيْنَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، اقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ
207
شَاعِرًا، وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ شِعْرًا.
دُونَ تَعَرُّضٍ إِلَى أَنَّهُ تَنْزِيلُ الشَّيَاطِينِ كَمَا جَاءَ فِي ذِكْرِ الْكَهَانَةِ.
وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ بِمَكَّةَ يَهْجُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعْنَوْنَ بِمَجَالِسِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِمُ الْأَعْرَابُ خَارِجَ مَكَّةَ يَسْتَمِعُونَ أَشْعَارَهُمْ وَأَهَاجِيَهُمْ، أَدْمَجَتِ
الْآيَةُ حَالَ مَنْ يَتَّبِعُ الشُّعَرَاءَ بِحَالِهِمْ تَشْوِيهًا لِلْفَرِيقَيْنِ وَتَنْفِيرًا مِنْهُمَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ: النَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ وَمُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ، وَابْنُ الزِّبَعْرَى، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابْن الْحَارِثِ، وَأُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ الَّتِي لَقَّبَهَا الْقُرْآنُ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد: ٤] وَكَانَتْ شَاعِرَةً وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ:
مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْيًا لِلشِّعْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُلُقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَمَّا لِلشُّعَرَاءِ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِهِجَائِهِ.
فَقَوْلُهُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ذَمٌّ لِأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي ذَمَّ الْمَتْبُوعِينَ بِالْأَحْرَى.
وَالْغَاوِي: الْمُتَّصِفُ بِالْغَيِّ وَالْغَوَايَةُ، وَهِيَ الضَّلَالَةُ الشَّدِيدَةُ، أَيْ يَتَّبِعُهُمْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَالْبِطَالَةِ الرَّاغِبُونَ فِي الْفِسْقِ وَالْأَذَى. فَقَوْلُهُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ خَبَرٌ، وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَتْبَاعَهُ خِيرَةُ قَوْمِهِمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَاوِينَ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْزِيهِ أَصْحَابِهِ وَعَلَى ذَمِّ الشُّعَرَاءِ وَذَمِّ أَتْبَاعِهِمْ وَتَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ هُنَا يُظْهِرُ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّقَوِّي وَالِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِلَفْتِ السَّمْعِ إِلَيْهِ وَالْمَقَامُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانُوا يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ فَقَدِ انْتَفَى أَتْبَاعُهُمْ عَنِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَجَالِسِ أَنْ يَتَّحِدَ أَصْحَابُهَا فِي النَّزْعَةِ كَمَا قِيلَ:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» لِلْحَصْرِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُهُمْ إِلَّا الْغَاوُونَ، لِأَنَّهُ أَصْرَحُ فِي نَفْيِ اتِّبَاعِ الشُّعَرَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ طَرِيقَتُهُ بِاطِّرَادٍ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ
208
الْفِعْلِيِّ أَنَّهُ يُفِيدُ تَخْصِيصَهُ بِالْخَبَرِ، أَيْ قَصْرُ مَضْمُونِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ، أَيْ فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥].
وَالرُّؤْيَةُ فِي أَلَمْ تَرَ قَلْبِيَّةٌ لِأَنَّ الْهُيَامَ وَالْوَادِي مُسْتَعَارَانِ لِمَعَانِي اضْطِرَابِ الْقَوْلِ فِي أَغْرَاضِ الشِّعْرِ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ لَا مِمَّا يُرَى.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَأُجْرِيَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا مَحِيدَ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاء: ١٨]، وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَضَمَائِرُ أَنَّهُمْ- ويَهِيمُونَ- ويَقُولُونَ- ويَفْعَلُونَ عَائِدَةٌ إِلَى الشُّعَرَاءِ.
فَجُمْلَةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ مِنْ ذَمِّ الشُّعَرَاءِ بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ.
وَمُثِّلَتْ حَالُ الشُّعَرَاءِ بِحَالِ الْهَائِمِينَ فِي أَوْدِيَةٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ يَقُولُونَ فِي فُنُونٍ مِنَ الشِّعْرِ مِنْ هِجَاءٍ وَاعْتِدَاءٍ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَمِنْ نَسِيبٍ وَتَشْبِيبٍ بِالنِّسَاءِ، وَمَدْحِ مَنْ يَمْدَحُونَهُ رَغْبَةً فِي عَطَائِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، وَذَمِّ مَنْ يَمْنَعُهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَرُبَّمَا ذَمُّوا مَنْ كَانُوا يَمْدَحُونَهُ وَمَدَحُوا مَنْ سَبَقَ لَهُمْ ذَمَّهُ.
وَالْهُيَامُ: هُوَ الْحَيْرَةُ وَالتَّرَدُّدُ فِي الْمَرْعَى. وَالْوَادِ: الْمُنْخَفِضُ بَيْنَ عُدْوَتَيْنِ. وَإِنَّمَا تَرْعَى الْإِبِلُ الْأَوْدِيَةَ إِذَا أَقْحَلَتِ الرُّبَى، وَالرُّبَى أَجْوَدُ كَلَأً، فَمُثِّلَ حَالُ الشُّعَرَاءِ بِحَالِ الْإِبِلِ الرَّاعِيَةِ فِي الْأَوْدِيَةِ مُتَحَيِّرَةً، لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ فِي حِرْصٍ عَلَى الْقَوْلِ لِاخْتِلَابِ النُّفُوسِ.
وكُلِّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَثْرَةِ. رُوِيَ أَنَّهُ انْدَسَّ بَعْضُ الْمَزَّاحِينَ فِي زُمْرَةِ الشُّعَرَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ فَعَرَفَ الْحَاجِبُ الشُّعَرَاءَ، وَأَنْكَرَ هَذَا الَّذِي انْدَسَّ فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ الشُّعَرَاءُ وَأَنْتَ مِنَ الشُّعَرَاءِ؟ قَالَ: بَلْ أَنَا مِنَ الْغَاوِينَ، فَاسْتَطْرَفَهَا.
وَشَفَّعَ مَذَمَّتَهُمْ هَذِهِ بِمَذَمَّةِ الْكَذِبِ فَقَالَ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَالْعَرَبُ يَتَمَادَحُونَ بِالصِّدْقِ وَيُعَيِّرُونَ بِالْكَذِبِ، وَالشَّاعِرُ يَقُولُ مَا لَا يَعْتَقِدُ وَمَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ حَتَّى قِيلَ: أَحْسَنُ الشَّعْرِ أَكْذَبُهُ، وَالْكَذِبُ مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ فَإِنْ
209
كَانَ الشِّعْرُ كَذِبًا لَا قَرِينَةَ عَلَى مُرَادِ صَاحِبِهِ فَهُوَ قَبِيحٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَانَ كَذِبًا مُعْتَذَرًا عَنْهُ فَكَانَ غَيْرَ مَحْمُودٍ.
وَفِي هَذَا إِبْدَاءٌ لِلْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ حَالِ الشُّعَرَاءِ وَحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يُصَانِعُ وَلَا يَأْتِي بِمَا يُضَلِّلُ الْأَفْهَامَ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ الْفَرَزْدَقَ أَنْشَدَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَوْلَهُ:
فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ... وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وَرُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ شِعْرًا:
مَنْ مُبْلِغُ الْحَسْنَاءِ أَنَّ حَلِيلَهَا... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إِلَى أَنْ قَالَ:
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ (١)
فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَيْ وَاللَّهِ إِنِّي لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ وَإِنَّمَا كَانَ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُكَ فَقَدْ دَرَأَ عَنْكَ الْحَدَّ وَلَكِنْ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ.
وَقَدْ كُنِّيَ بِاتِّبَاعِ الْغَاوِينَ إِيَّاهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ غَاوِينَ، وَأُفِيدَ بِتَفْظِيعِ تَمْثِيلِهِمْ بِالْإِبِلِ الْهَائِمَةِ تَشْوِيهُ حَالَتِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الشِّعْرِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ إِنَاطَةُ الْخَبَرِ بِالْمُشْتَقِّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ بِعَيْنِ الْغَضِّ مِنْهُ، وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَخْ... مِنْ عُمُومِ الشُّعَرَاءِ، أَيْ مِنْ حُكْمِ ذَمِّهِمْ. وَبِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَذْمُومِينَ هُمْ شُعَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَغَلَهُمُ الشِّعْرُ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
_________
(١) الْجَوْسَقِ: الْقصر، كَانَ أهل البطالة والخلاعة يأوون إِلَى الْقُصُور المتروكة.
210
وَمَعْنَى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أَيْ كَانَ إِقْبَالُهُمْ على الْقُرْآن وَالْعِبَادَة أَكْثَرَ مِنْ إِقْبَالِهِمْ عَلَى الشِّعْرِ. وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَهُمْ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الشُّعَرَاءِ وَقَالُوا الشِّعْرَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْتِصَارِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَقَدْ قَالُوا شِعْرًا كَثِيرًا فِي ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمُوا مِنَ الْأَنْصَارِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدُ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلُ لَبِيَدٍ، وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَسُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ بِمُقْتَضِي كَوْنَ بَعْضِ السُّورَةِ مَدَنِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ السُّورَةِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلشِّعْرِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَحَالَةٌ مَأْذُونَةٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذَمَّهُ لَيْسَ لِكَوْنِهِ شِعْرًا وَلَكِنْ لِمَا حَفَّ بِهِ مِنْ مَعَانٍ وَأَحْوَالٍ اقْتَضَتِ الْمَذَمَّةَ، فَانْفَتَحَ بِالْآيَةِ لِلشِّعْرِ بَابُ قَبُولٍ وَمَدْحٍ فَحَقٌّ عَلَى أَهْلِ النَّظَرِ ضَبْطُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ قَبُولِهِ أَوْ إِلَى جَانِبِ مَدْحِهِ، وَالَّتِي تَأْوِي إِلَى جَانِبِ رَفْضِهِ. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى الْحَالَةِ الْمَمْدُوحَةِ قَوْلُهُ:
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، وَإِلَى الْحَالَةِ الْمَأْذُونَةِ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
وَكَيْفَ وَقَدْ أَثْنَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ الشِّعْرِ مِمَّا فِيهِ مَحَامِدُ الْخِصَالِ واستنصت أَصْحَابه
لشعر كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ مِمَّا فِيهِ دِقَّةُ صِفَاتِ الرَّوَاحِلِ الْفَارِهَةِ، عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لِحَسَّانَ فِي مُهَاجَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «كَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ..» وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ». وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ فِي سُورَةِ يس [٦٩]. وَأَجَازَ عَلَيْهِ كَمَا أَجَازَ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ فَخَلَعَ عَلَيْهِ بُرْدَتَهُ، فَتِلْكَ حَالَةٌ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ جَاءَ مُؤْمِنًا.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ، أَوْ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ قَالَتْهَا الْعَرَبُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ»

وَكَانَ يَسْتَنْشِدُ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَقَالَ: «كَادَ أُمَيَّةُ أَنْ يسلم»، وَأمر حسّانا بِهِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: «قُلْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ». وَقَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «لَكَلَامُكَ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ».
211
رَوَى أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» بِسَنَدِهِ إِلَى خُرَيْمِ بْنِ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ فَسَمِعْتُ الْعَبَّاسَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ. فَقَالَ: قُلْ لَا يُفَضِّضُ اللَّهُ فَاكَ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يَخْصِفُ الْوَرَقُ الْأَبْيَاتِ السَّبْعَةَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُفْضِضِ اللَّهُ فَاكَ».
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ».
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الشِّعْرِ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَنْضَحُونَهُمْ بِالنَّبْلِ»
. وَلِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شِعْرٌ كَثِيرٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ النُّورِ الْقَوْلَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالَيِ الشِّعْرِ. وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ».
وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي مَعَانِي الشِّعْرِ وَحَالِ الشَّاعِرِ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يُعْنَوْنَ بِشِعْرِ الْعَرَبِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ الشِّعْرِ تَحْبِيبٌ لِفَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَلَاغَتِهَا وَهُوَ آيِلٌ إِلَى غَرَضٍ شَرْعِيٍّ مِنْ إِدْرَاكِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِالشَّتْمِ وَالْهِجَاءِ.
212
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
نَاسَبَ ذِكْرُ الظُّلْمِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى وَعِيدِ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ. وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ فَاقْتَضَتِ الْعُمُومَ فِي مُسَمَّى الظُّلْمِ الشَّامِلِ لِلْكُفْرِ وَهُوَ ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَلِلْمَعَاصِي الْقَاصِرَةِ عَلَى النَّفْسِ كَذَلِكَ، وَلِلِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ. وَقَدْ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فِي عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تحذير عَن غَمْصِ الْحُقُوقِ وَحَثٌّ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْجُهْدِ فِي النُّصْحِ لِلْأُمَّةِ وَهِيَ نَاطِقَةٌ بِأَهْيَبِ مَوْعِظَةٍ وَأَهْوَلِ وَعِيدٍ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حَرْفِ التَّنْفِيسِ الْمُؤْذِنِ بِالِاقْتِرَابِ، وَمِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ سُوءَ الْمُنْقَلَبِ يَتَرَقَّبُ الظَّالِمِينَ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ، وَمِنَ الْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ إِذْ تَرَكَ تَبْيِينَهُ بِعِقَابٍ مُعَيَّنٍ لِتَذْهَلَ نُفُوسُ الْمُوعَدِينَ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنْ هَوْلِ الْمُنْقَلَبِ وَهُوَ عَلَى الْإِجْمَالِ مُنْقَلَبُ سُوءٍ.
وَالْمُنْقَلَبُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الِانْقِلَابِ وَهُوَ الْمَصِيرُ وَالْمَآلُ، لِأَنَّ الِانْقِلَابَ هُوَ الرُّجُوعُ. وَفِعْلُ الْعِلْمِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُجُودِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ. وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الَّذِي أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاعَظُونَ بِهَا وَيَتَنَاذَرُونَ شِدَّتَهَا.
213

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٧- سُورَةُ النَّمْلِ
أَشْهَرُ أَسْمَائِهَا «سُورَةُ النَّمْلِ». وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ». وَتُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ سُلَيْمَانَ»، وَهَذَانِ الِاسْمَانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا فِي «الْإِتْقَانِ» وَغَيْرِهِ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْهُدْهُدِ». وَوَجْهُ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ لَفْظَ النَّمْلِ وَلَفْظَ الْهُدْهُدِ لَمْ يُذْكَرَا فِي سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرِهَا، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ سُلَيْمَانَ» فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ مُفَصَّلًا لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا.
وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إِلَى مَكِّيَّةِ بَعْضِ آيَاتِهَا (كَذَا وَلَعَلَّهُ سَهْوٌ صَوَابُهُ مَدَنِيَّةُ بَعْضِ آيَاتِهَا) وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا لِغَيْرِ الْخَفَاجِيِّ.
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ الشُّعَرَاءِ وَقَبْلَ الْقَصَصِ. كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَدْ عُدَّتْ آيَاتُهَا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ خَمْسًا وَتِسْعِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ أَرْبَعًا وَتِسْعِينَ.
مِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ
أَوَّلُ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ افْتِتَاحُهَا بِمَا يُشِيرُ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَةِ نَظْمِهِ وَعُلُوِّ مَعَانِيهِ، بِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْحَرْفَانِ الْمُقَطَّعَانِ فِي أَوَّلِهَا.
215
Icon